تفسير ابن عرفة النسخة الكاملة

ابن عرفة

[المقدمة]

بسم الله الرحمن الرحيم صلى الله علي سيدنا محمد وسلم قال سيدنا وبركتنا الشيخ الفقيه العالم العلامة عز الأنام الحبر الهمام الصدر المحقق فريد دهره ووحيد عصره أبو عبد الله محمد بن عرفة المالكي: علم التفسير: القول في حقيقته، وموضوعه، ودليله، وفائدته، واستمداده، وحكمه. أما حقيقته: فهو العلم بمدلول القرآن وخاصية كيفية دلالته (وأسباب النزول) والناسخ والمنسوخ. فقولنا: خاصية كيفية دلالته هي إعجازه ومعانيه (البيانية) وما فيه من علم البديع (الذي يذكره) الزمخشري (ومن نحا نحوه). قيل (لابن) عرفة: غيره من المفسرين لم يذكرها كالطبري الذي هو إمام المفسرين؟ فقال: كان مركزا في طبعه وإن لم يكتبه. وموضوعه: القرآن. ودليله: اللغة (العربية) والبيان، لأن المفسر يفسر اللفظة بمعنى ويستدل عليها بشواهد من الشعر وكذلك يستدل على إعرابها. وفائدته: استنباط الأحكام والمعاني من أصول الدّين وأصول الفقه والعربية.

وحكمه: أنه فرض كفاية وهو الآن ساقط لحصوله في الكتب وقام به جمع كثير. لكنّ الناس على أقسام: - مجتهد مفسر (كالشيخ عز الدين) (ب) ابن عبد السلام. وآخر مفسر غير مجتهد كسيبويه (ج) والفارسي (د) والزجاج والزمخشري فإنّهم لم يحصلوا أدوات الاجتهاد (وحصّلوا) أدوات التفسير. وآخر مجتهد غير مفسر حسبما ذكر الغزالي (ب) في شروط الاجتهاد: " إنه لا يلزم

المجتهد حفظ القرآن كلّه بل إن (حفظ منه خمسمائة آية) (يستدل بها)، وهي آيات الأحكام (ج). والمفسر من شروطه: حفظ القرآن كله، لأن المفسر إذا استحضر آية لا يحل له أن يفسرها لاحتمال أن يكون (هنالك) آية آخرى ناسخة لها أو مقيدة أو مخصصة أو مبيّنة فلا بد للمفسر من حفظ القرآن كله. (هذا) ولا حاجة (له) بطلبه لأن التفسير من قام به موجود في الكتب. وأقل التفسير يحتاج فيه إلى المشاركة في العلوم المشترطة في المفسر ما ينقل ليفهم. ونحن الآن ناقلون لا يلزمنا حفظ القرآن كله. ولقد كان الفقيه أبو القاسم بن القصير (أ) مدرساً بمدرسة ابن اللوز يفسر القرآن فيها، وكان لا يحفظه فأنكر عليه أبو الحسن على العبيدلي (ب). وقال له: لا يحل لك التفسير حتى تحفظ القرآن كلّه. فأخذ ذلك منه بالقبول وأقبل على درس القرآن حتى حفظه. فقيل لابن عرفة: كيف يشترط حفظ القرآن في هذا وهو ناقل للتفسير فقط، وإنما يشترط ذلك في المنقول عنه؟ فقال: ألا ترى أنا لا نجيز الفتوى (والتدريس) لمن ينظر في مسألة واحدة في الكتب حتى يشخص جميع مسائل الكتب كلها إذ قد يكون بعضها مقيداً لبعضها. فكذلك هذا فلعل مفسراً آخر يستحضر آية تقيدها، أو نحو ذلك، فتحصّل من هذا أنّ فرض الكفاية باعتبار أصل التفسير (قد ارتفع) قبل أن يقع البعض به وفرض الكفاية باعتبار نقل التفسير لم يزل باقياً. قيل لابن عرفة: بل نقول: إنه فرض عين ويجب على من يقرأ (القرآن) أن يفهم المعنى؟ فقال: كان الصحابة في الزمن الأول (يعلمون) الإعجام لألفاظ القرآن بدون معانيه، وإن كان قد قال الفقهاء: فيما إذا اجتمع الأفقه والأقرأ: إنّه يقدم

الأفقه (ج)، وحملوا قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يؤم (القوم) أقرؤهم " (أ) على أن الأقرأ في ذلك الزمان هو الأعلم (إذ) كانوا يتعلمون مع التلاوة ما يتعلق به من الأحكام، والمعاني قاله ابن بشير (ب) وغيره. ويحكى أن سيدي الفقيه الصالح أبا العباس بن عجلان (ج) رأى رجلاً يضبط المصحف (بالأحمر) فأنكر عليه، وضربه ضربة في وجهه (بخوصة) (د). ثم لقيه بعد ذلك فجعل يطلب منه (العفو) وندم على (ما فعله له)، ورأى أنّه لا يستحق به تلك العقوبة. ونقل عن العبيدلي أنه كان يمنع المؤدبين الذين لا يحسنون رسم المصحف من الإقراء. (وهكذا) كان العمل بتونس لا يقرئ إلا من يحسن الضبط (بقراءة) ورش (هـ) ولا يباع في الكتبيين إلا المصحف المصحح.

تفسير الاستعاذة

تفسير الاستعاذة أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (أ) قال ابن عرفة: الاستعاذة استجارة والاستجارة إبعاد والإبعاد نفي (والنفي) متعلق بالأخص ونفي الأخص لا يستلزم نفي الأعم فلا يلزم (من) الاستعاذة من هذا الشيطان المخصوص الاستعاذة من مطلق الشيطان. وأجاب بأن قال: النعت على قسمين: نعت تخصيص ونعت لمجرد الذم، فيقال إن هذا النعت مجرد الذم، (وكل) شيطان مرجوم. قال الإمام مالك في المدونة: لا يتعوذ في المكتوبة (قبل القراءة) ولكن يتعوذ في قيام رمضان (أ) وإذا بدأ - وقال في المجموعة (ب) في قوله تعالى: {فَإذَا قَرَأَتْ القُرْآنَ فَاسْتَعذِ بالله مِنَ الشَّيطَانِ الرَّجيمِِ) {ج) - إنّ ذلك بعد أم القرآن (إنْ) قرأ في الصلاة. قال اللّخمي (د): (الشأن فيمن) افتَتَح أن لا يتعوذ ورأى ذلك لأن الافتتاح بالتكبير ينوب عنه ويجزئ عنه. قال ابن عرفة: وإذا نسى الإستعاذة فإن أطال القراءة أتمّها ولم يعد وإن لم يكن أطال ففي رجوعه إلى الإستعاذة قولان. وكره له في العتبية (هـ) الجهر بالاستعاذة في قيام رمضان ورأى أنّ الأمر بالاستعاذة على الندب. ابن رشد (أ): ووجه ما في المدونة الاتباع، وخفف في العتبية (ب) أيضاً تعوذ القارئ إذا أخطأ في الصلاة لأن (ذلك) من الشيطان. وحكى (أبو عمرو الداني) في (بحار البيان) (ج) في كيفيته ثلاثة أوجه: (إما أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، وإما أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وإما أعوذ بالله من الشيطان الرجيم إنه هو السميع العليم)

(وحكى) في كتاب (الإقناع) (د) أن الأولى أن تقول: أعوذ بالله القوي من الشيطان (الغوي). وقال الشاطبي (أ): (إذا أردت الدهر تقرأ فاستعذ ... جهارا من الشيطان بالله مسجلا) (على ما أتى في النحل يسرا وإن تزد ... لربك تنزيها فلست مجهلا) (وقد ذكروا لفظ الرسول ولم يرد ... ولو صح هذا النقل لم يبق مجملا) (ب) فظاهره أنّ الآي مجملة (هو خطأ لأن المجلم عند الأصوليين هو اللفظ المحتمل معينين فصاعدا على التساوي، وليست الآية كذلك بل هي عندهم من قبيل المطلق الذي يصدق بصورة). قال: وعادتهم يجيبون عنه بأنه من قبيل الإجمال اللغوي لا الاصطلاحي. (ثم قال): (وفيه خلاف في الأصول فروعه ... فلا تعد منها باسقا ومظللا) (ج) ومراده بالأصول إما (الكتب المطوله) وإما أصول الفقه. وقوله الرَّجِيم: هو بمعنى مرجوم فإن أريد المرجوم بالشهب فالنعت للتخصيص والبيان، وإن أريد به أنه مرجوم باللّعنة، والمقت وعدم الرحمة فالنعت للتأكيد، لأن كل شيطان كذلك. قلت: وتقدم لابن عرفة (في الختمة الثانية في عام سبعة وخمسين وسبع مائة)، قال أبو البقاء (أ): الشيطان فيعال من شطن يشطن إذا بعد، ويقال فيه: شاطن وشيطان وسمي بذلك كل متمرد لبعد (غوره) (في الشر) وقيل: هو (فعلان) من شاط يشيط إذا هلك (ب). قال ابن عرفة: ورد هذا لمخالفة (قاعدة) الاشتقاق، لأن الشيطان فيه النون وشاط لا نون فيه - والرّجيم بمعنى مرجوم (وقيل) بمعنى فاعل أي يرجم غيره.

تفسير البسملة

تفسير البسملة {بِسْمِ اللهِ الرحمن الرَّحِيمِ}: قال ابن رشد في البيان (في رسم تدريسه): لم يختلف قول مالك: إنّها لا تقرأ في الفريضة لا في أوّل الحمد، ولا في (أول) السورة التي بعدها لأنها ليست آية منها. (وليست) من القرآن إلا في سورة النمل: وإنما ثبت في المصحف الاستفتاح بها. قال: ويتحصل في قراءتها في أول الحمد في الفريضة أربعة (وجوه): قراءتها للشافعي - وكراهتها لمالك - واستحبابها لمحمد ابن مسلمة - والرابع قراءتها سرّا استحبابا -. وأما النافلة فلمالك فيها في الحمد قولان، وله فيما عدا الحمد ثلاثة، فله في هذه الرواية القراءة، وله في رواية أشهب عنه عدمها إلا أن يقرأ القرآن في صلاته عرضا، وفي المدونة أنّه يخيّر - انتهى. قال القاضي عماد الدين: ذهب مالك وأبو حنيفة إلى أنها ليست آية من الفاتحة ولا من أول كل سورة وذهب الشافعي وجماعة إلى أنها آية من الفاتحة وعنه في كونها آية من (أول) كل سورة قولان: ((فمن أصحابه من حمل القولين على أنها من القرآن في أول كل سورة، ومنهم من حملها على أنها هل هي آية برأسها في أول كل سورة أو هي مع كل آية من أول كل سورة آية؟ ونقل السهيلي)) في الروض الأنف (عن) داود وأبي حنيفة أنها آية مقترنة مع السورة. ابن عرفة: قيل البسملة آية من كل سورة. فقال الغزالي في المستصفى: معناه أنها آية مع كل سورة وليست جزءا من كل سورة. وقال غيره: معناه أنها آية أي جزء من كل سورة. وورد في الحديث عن عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها: (ما كنا نعلم تمام السورة إلا بالبسملة) فظاهره (أنها) تكرر إنزالها مع كل سورة مثل {فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} وظاهر غيره من الأحاديث أنه لم يتكَرر فإذا قلنا: إنها مع أول كل سورة فكيف (تصح) قراءة ورش بإسقاطها. قال: لكن يجاب بما (قال) ابن الحاجب بتعارض الشبهات: أي أن كل واحد من الخصمين يرى أن ما أتى به خصمه شبهة أعني دليلا باطلا وهما قويان فتعارضت الشبهات. قال ابن عرفة: ولا بد من زيادة ضميمة أخرى وهي الإجماع على أنها قرآن من حيث الجملة، فلذلك صح التعارض.

قال بعضهم: والنافي هنا دليله أقوى، وظاهر كلام ابن عطية في آخر سورة الحمد (أنّ عدد آي السور قياسي لا سماعي) لأنّه قال: أجمع الناس على أنّ (عدد) آي الحمد سبع. (ربّ) العَالمين آية - الرّحْمَان الرحِيمِ آية - (مَالِكِ يَوْمِ) الدّينِ آية - نَسْتَعينُ آية - أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ آية - وَلاَ الضّالّينَ آية. ونص الغزالي (في المستصفى) على أنه مسموع وكذلك قال الزمخشري في أول سورة البقرة في تفسير قوله: الم. قال الزمخشري: وذكر الزجاج أنه يفخم (لاَمَهُ) وعلى ذلك العرب كلهم وإطباقهم عليه دليل على أنهم ورثوه كابرا عن كابر. قال ابن عرفة: إنما يفخم في الرفع، والنصب أما الخفض فلا. قال ابن عرفة: وكان الفقيه أبو عبد الله محمد بن سعيد (بن عثمان) بن أيوب (الهزميري) يحكي عن علماء الشافعية بالمشرق أنهم يقسمون البسملة ثلاثة أقسام: قسم هي فيه آية في أول الفاتحة، وقسم هي فيه بعض آية، وذلك في (سورة) النمل، وقسم بعضها فيه آية، وهو: {الرحمن الرَّحِيمِ}. {بِسْمِ اللهِ}: إما متعلق بفعل أو اسم وقدّره الزمخشري (في) «بسم الله أقرأ وأتلو» وقدره ابن عطية: بِسم الله أبتدئ. قال (ابن عرفة): وكان الشيوخ يستصوبون تقدير الزمخشري، فإنه يجعل (قراءته) من أولها إلى آخرها مصاحبة لاسم الله تعالى. وقد قال الشيخ عز الدين في قواعده: في قول الإنسان عند الأكل {بِسْمِ اللهِ} معناه: آكل باسم الله، وليس معناه: أبدأ باسم الله، ولهذا كانوا ينتقدون على الشاطبي في قوله: في (النّظم) أولا «وهلا قال» نظمت باسم الله (في الذكر أولا «). (حتى تكون التسمية مصاحبة له في جميع نظمه) فإن قلت: لِمَ قدر الفعل متأخرا؟ فالجواب: (إنّه إنما) قدره كذلك ليفيد الاختصاص لأنهم كانوا يقولون: واللاّت والعزى ويبدؤون بآلهتهم، قُدّم اسم الله هنا (للتوجيه والحصر) كما في إياك نعبد. وابن أبي الربيع وغيره كانوا يقولون: إنّما قدم بِسْمِ الله (هنا) للاهتمام به.

قوله تعالى: {الرحمن الرَّحِيمِ}: إن قلت: لِمَ قدم الوصف بالرّحمان مع أنه أبلغ على الوصف بالرحيم فيلزم أن يكون تأكيدا للأقوى بالأضعف. (فأجيب) (بوجهين): - الأول: الرّحمان لما كان خاصا بالله تعالى جرى مجرى (الأسماء) الأعلام التي تلي العوامل فقدم على الرحيم. - (الثاني): إن الرّحمان دال على جلائل النعم والرّحيم على دقائقها. قاله الزمخشري. قال ابن عرفة: وكان (يسبق) لنا تقريره بأنّهما يختلفان (باعتبار) المتعلق، فالرحمة قسمان لأنّ الرحمة بالإنقاذ من الموت أشد من الرّحمة بإزالة شوكة، فقد يرحم الإنسان عَدُوّهُ بالإنقاذ من الموت ولا تطيب نفسه أن يرحمه بإزالة شوكة تؤلمه في (بدنه) (فتقديم) الرّحمة الأُولى لا يستلزم هذه بوجه. قلت: وقرر ابن عرفة لنا في الختمة الثانية السؤال المتقدم: بأن ثبوت الأخص يستلزم ثبوت الأعم ونفي الأعم يستلزم نفي الأخص (فيبدأ) في الثبوت بالأعم، ثم بالأخص وفي النفي على العكس ورَحمان أخص من رحيم. وقرر لنا جوابه بأن الرحمان دال على كثير النّعم بالمطابقة وعلى دقائقها بالالتزام ودلالة المطابقة أقوى من دلالة الالتزام فذكر الرحيم بعده ليدل على دقائق النعم بالمطابقة. وإليه أشار الزمخشري بقوله: والرحيم أتى به (كالتّتمة) ليتناول ما دق منها. ولما (رأى)، وذكر أن الرّحْمَانَ أبلغ لكونه أكثر حروفا قال: وهو من الصفات الغالبة كالدّبران (والعرب) لم (تستعمله) في غير الله أما قول بني حنيفة في (مسيلمة) الكذاب: رحمان اليَمامة. وقول شاعرهم: وأنت غيث الورى لا زلت رحمانا (فباب) من تعنتهم في كفرهم قال ابن عرفة: هو لا يحتاج إليه، وكان (يظهر) لنا الجواب عنه بأن رَحْمانا في قولهم: رحمان اليمامة (استعمل مضافا) ورحمانا في البيت منكرا. وأما الرحمان المعرّف بالألف واللام فخاص بالله لم يستعمل في غيره (فانتفى) السؤال.

وكذا نص إمام الحرمين في الإرشاد خلافا (للفاسي) في شرح الشاطبية، فإنه نص على أن المختصّ بالله مجموع الرّحْمَانِ الرّحِيم ونحوه في أسئلة ابن السيد البطليوسي. قلت: ونقل لي بعضهم عن القاضي أبي عبد الله بن عبد السلام أنه أجاب عن السؤال المتقدم بوجوه. أحدها: الجواب المتقدم: أتى بالرحيم على سبيل التتمة، وقد حصل الغرض بذكر الرّحْمَانِ وفائدته تحقق دخول ما يتوهم خروجه. - الثاني: مراعاة الفواصل، عند من يرى أنها من الفاتحة. - الثالث: أن الرّحمان يستلزم الرّحيم لكنه ذكر ليدل عليه مطابقة. قال: وأجاب ابن أبي الربيع في شرح الإيضاح بأن الرّحمان كثر استعماله حتى عُومل معاملة العلم بخلاف الرّحيم فإنه لم يخرج عن كونه صفة. قال: أو تقول إنها ليست للمبالغة. وقول الزمخشري: إن العرب لا تزيد حرفا إلا لمعنى ممنوع، (وسند) المنع قولهم في حذر وبطر وأشد إنها أبلغ من حاذر وباطر وأشد. قلت: وأجاب بعض النحاة المعاصرين بأن حذر ناب مناب محذور، ومحذور أكثر حروفا من حاذر بخلاف حاذر، فإنه لم ينب مناب شيء (حسبما) نص عليه ابن عصفور في (مقربه) في باب الأمثلة. قلت: وأجاب ابن عرفة: بأنّ ذلك فيما عدل فيه عن الأصل والقياس إلى غيره كحذر وحاذر فإن القياس في اسم الفاعل منه أن يكون على وزن فاعل (فإنما) عدل عن ذلك لمعنى وغرض زائد، وهو إرادة المبالغة، وأما الذي لم يعدل فيه عن الأصل كرحمان ورحيم فنقول الأكثر حروفا (أبلغ) ولهذا (قرر) القاضي العماد (رحمان) أبلغ. قال: ورحمان ورحيم كلاهما معدولان وحذر معه كذلك بخلاف حاذر فما عدل إلا للمبالغة.

واستشكل الغزالي (في الإحياء) قولهم: أَرْحَمُ الرّاحمِينَ مع أن الكفار في جهنم لم تصلهم رحمة بوجه، وهنالك قال: ما في الإمكان (أبدع) مما كان. وانتقدها الناس عليه. وأجاب ابن عرفة: عن الإشكال بأن ذلك باعتبار مراعاة جميع الصفات لله تعالى لأن من صفاته - شديد العقاب - وذلك صادق بعذاب أهل النَار ونعيم أهل الجنة. فرحمته (هي) أشد الرحمة، وعقابه هو أشد العقاب. وعادتهم يخطئون الغزالي في هذه المسألة، ويقولون: كل عذاب فالعقل يجوز أن يكون أشد منه في الوجود، وكل نعيم فالعقل يجوز أن يكون هناك أحسن منه. قال الزمخشري: فإن قلت ما معنى وصفه (بالرحمة ومعناها العطف والحنو ومنه) الرّحم لانعطافها على ما فيها. قلت: هو مجاز على إنعامه على عباده. قال ابن عرفة: قالوا كل مجاز لا بد له من حقيقة الاّ هذا فإن الرحمة هي العطف (والحنو)، وذلك (ما هو) حقيقته إلا في الأجسام وتقرر أن غير الله لا يطلق عليه اسم الرحمان فهو مجاز لا حقيقة له. وتكلم ابن عطية هنا في الاسم هل هو عين المسمى أو غيره؟ قال الفخر ابن الخطيب في نهاية العقول: المشهور عن أصحابنا أنّ الاسم هو المسمى، وعن المعتزلة أنه التسمية، وعن الغزالي أنه مغاير لهما، والناس طوّلوا في هذا وهو عندي (فضول) لأن البحث عن ذلك مسبوق بتصور ماهية الاسم وماهية المسمى، فالاسم هو الاسم الدال بالوضع لمعنى من غير زمان والمسمى هو وضع ذلك اللفظ بإزائه، فقد يكون اللفظ غير المسمى لعلمنا أن لفظ الجواز مغاير لحقيقة (المجاز)، وقد يكون نفسه لأن لفظ الاسم اسم (للفظ) الدال على المعنى المجرد (عن) الزمان، ومن جملة تلك الألفاظ (لفظ) الاسم، فيكون الاسم اسما لنفسه من حيث هو اسم. وقال غيره: إنّ السؤال (سفسطة). وقال الآمدي (في أبكار الأفكار)، وهو أحسن من تكلم عليه لأن المسألة لها تعلق باللغة (وتعلق بأصول الدين) أما اللغة فمن حيث إطلاق لفظ (الاسم) هل المراد به الذات فيكون الاسم (هو)

المسمى أو اللفظ الدال عليه ك {سَبِّحِ اسم رَبِّكَ الأعلى} أما تعلقها بأصول الدين فهو (هل) المعقول (من الذات) (منها) وحدها أو منها مع اسمها (أم لا)؟ فإن كان (المعقول) منهما واحدا كان الاسم هو المسمى كالعالم والقادر وقال ابن عرفة: والصواب أن المعقول من الذات من حيث اتصالها بالصفة غير المعقول منها مجردة عن تلك الصفة، (فإنا) إذا فهمنا من لفظ العالم الذات من حيث اتصافها بالعلم استحال اتصافها بالجهل، بخلاف قولنا: «إن المعقول هو الذات القابلة (للاتصاف) بالعلم وبضده ولا شك أن المعقولين متغايران». وانظر كلام الآمدي، فهو طويل نقلته بكامله في آخر سورة الحشر وانظر مختصر ابن عرفة في فصل (الحقيقة) وما قيدته أنا في أواخر مسلم على حديث (إن لله) تسعا وتسعينا اسما مائة إلا واحد من أحصاها دخل الجنة. قلت: وقال ابن عرفة مرة أخرى: منهم من قال: تارة يراد بالاسم المسمى مثل: زيد عاقل، وتارة يراد به التسمية: كزيد (وزنه فعل)، ومنهم من قال: يراد به المسمى: كزيد قادر، إذا أردت الذات. وتارة يراد به الصفة، فقادر موضوع لأن يولد به القدرة، وهو صفة من صفات الذات، والله أعلم بالصواب.

تفسير سورة الفاتحة

تفسِيَر سُورَة الفاتحِة (أ) اختلفوا فيها فقال ابن عباس رضي الله عنهما وجماعة: إنّها مكّية واحتج (له) ابن عطية بقوله تعالى في الحجر: ولقَدَ أتَيَنَاكَ سَبْعا من المَثاني والقُرآن العظيم ". وهي مكية بإجماع وفي حديث أبي بن كعب " إنها السبع المثاني ". ورده ابن عرفة بقوله تعالى: " والقرآن العظيم " ولم يكن نزل (حينئذ) جميعه فلا بد أن يكون أوقع الماضي موضع المستقبل. قال ابن عطية: ولا خلاف أن الصلاة (فرض) (كان) بمكة، ولم يحفظ (أنه كانت قط) صلاة في الإسلام بغير الحَمْدُ للهِ رَبّ العَالمينَ. ورده ابن عرفة: بأن أبا حنيفة لم يشترط قراءة الفاتحة بل خيّر المصلي بأن يقرأ بما شاء فلعل (ذلك) لأنها لم تكن في أول الإسلام واجبة ولعل حديث: " لا صلاة لمن يقرأ بفاتحة الكتاب متأخر ". قال (الإمام): وذهب عطاء والزهري وجماعة إلى أنها مدينة، وقيل أنها نزنلت بمكة والمدينة، وأبطله القاضي العماد بأنه يجب عليه تحصيل الحاصل وهو محال.

2

أجاب ابن عرفة بأن التأكيد شائع في كلام العرب وليس فيه تحصيل الحاصل. فإن قلت: يلزم عليه (أنْ تَكُون) الفاتحة في القرآن مرتين لتزولها مرتين وكان (تكرر) كما (تكرر) {فَبِأَيّ آلاَءِ رَبِّكُمَا تُكَذّبَان}. فإن قلنا: إنما ذلك إذا نزلت على أنها غير الأولى. فقد ذكر الأصوليون أن الغيرين يصدقان على المثلين أما إذا نزلت على أنها الأولى بعينها فلا يلزم ذلك فيها. زاد القاضي العماد في إبطال النزول بمكة والمدينة أنه يلزم منه أن يكون كلما نزل بمكة نزل المدينة مرة أخرى، لأن جبريل عليه السلام كان (يعرّضه) القرآن في كل سنة مرة، وفي الأخيرة مرتين فيكون ذلك إنزالا آخر وهذا لا يقوله أحد. وقال: ولعلهم يعنون بنزولها مرتين، أن جبريل نزل حين حَوَلت القبلة فأخبره عليه الصلاة والسلام أن الفاتحة ركن في الصلاة كما كانت بمكة، وأقرأه فيها قراءة لم (يكن أقرأه بها) في مكة فظنّوا ذلك إنزالاً وهو ضعيف. قوله تعالى: {الحَمْدُ للهِ} قوله تعالى: {الحمد لِلَّهِ .. } قال الزمخشري: الحَمْدُ والمدح أخوان. فقيل: معناه أنهما مترادفان، وقيل: متقاربان، وقيل: متغايران، فالحمد يطلق على الله تعالى والمدح لا يطلق عليه. وأما الشكر/ فحكى أبو حيان فيه ثلاثة أقوال قال الطبري: هو الحمد، وقيل: غيره، وقيل: الحمد أعمّ منه، فالحمد يطلق على الصفات الجميلة والشكر على الأفعال الجزيلة. وظاهر كلام الزمخشري قول رابع أن بينهما عموم وخصوص وجه دون وجه فالحمد يكون باللّسان على الصفات الجميلة والأفعال الجزيلة والشكر يكون بالقول والفعل والقلب على الأفعال (خاصة)، واحتجوا له بقول الشاعر: أفادتكم النعماء مني ثلاثة ... يدي، ولساني، والضمير المحجبا قال ابن عرفة: وعادتهم يتعقبونه بانه لم يسمه شكرا وإنما سماه نعماء وعلى تقدير أن لو سمّاه (شكرا) فلا دليل فيه. لأن العربي إنّما يحتج بقوله فيما يرجع إلى نظم الكلام وأحكامه

اللفظية الإعرابية. أما ما يحكم عليه بأنه كذا فلا يحتج به كما ذكر في الإرشاد الرد عليهم في استدلالهم على كلام النفس (بقول) الأخطل: إن الكلام لفي الفؤاد وإنما ... جُعل اللّسان على الفؤاد دليلا وذكر هذه الأقوال (الأربعة) ابن هارون في شرح ابن الحاجب الأصلي. والألف واللاّم في «الحمد» إما للجنس أو (للعهد) أو للماهية. وقرر القاضي العماد الجنس بأنّ الحمد يختلف فيه القديم (والحادث) لأنّ الله تعالى في الأزل حمد نفسه بنفسه، فيتناول حمدنا له وحمده هو لنفسه وقرر العهد بأنّ النعم لما كان (اللّسان) يستحضرها فكأنه يعهدها إلى الله تعالى. واختار القاضي العماد أنها للماهية وضعف كونه للجنس، وقرر بأن الله تعالى تعبدنا بحمده، أي نحمده بما حمد به نفسه فالحمد القديم (مماثل) (للحادث) بمعنى اللفظ المؤدي باللّسان هو المعنى القديم الذي وصف الله به نفسه، كما أن القرآن قديم أزلى، ونحن نعبر عنه (بألفاظنا الحادثة) فالحمد إذا حقيقة واحدة. قال: (وهذا البحث من نظري) فإن كان صوابا فمن الله وإن كان خطأ فمني ومن الشيطان. قال ابن عرفة: وحاصله هل المعتبرُ في الحمد صفة الفاعل أو صفة متعلق الحمد، فإن اعتبرته الحمد من حيث الفاعل فهو حادث وإن (اعتبرته) من حيث صفة المحمود جاء منها الذي قاله العماد. ولما ذكر (بعضهم) كونها للجنس قال: إنها دالة على أفرادها مطابقة. قال ابن عرفة: هذا جار (الخلاف) في دلالة (العام) على بعض أفراده هل (هو) مطابقة تضمن أو التزام؟ قال ابن عطية: وقرأ سفيان بن عينية (ورؤبة) بن العجاج: «الحمد» لله بفتح الدال علما على إضمار فعل.

قال ابن عرفة: وقالوا وقراءة الضم أدل على الثبوت (كقولهم له) علم (علم الفقهاء) بالنصب والرفع. قال الزمخشري: ومنه قوله تعالى: {فَقَالُواْ سَلاَماً قَالَ سَلاَمٌ} (بالرفع في) الثّاني ليدلّ على أنّ إبراهيم حياهم بتحية أحسن من تحيتهم لأن الرفع دال على الثبوت. وكذا قال السكاكى في علم البيان. قال ابن عرفة: وعادتهم يوردون عليه تشكيكا من ناحية أن سلام الملائكة على إضمار (فعل) مؤكد بالمصدر، والدّال على إثبات الحقيقة وإزالة الشك عن الحديث الأعم من أن يكون وقوعه منهم ثابتا، أو لا؟ والاسم المرفوع دال على ثبوت وقوع السلام منهم أعم من أن يكون حقيقة أو مجازا، فتعادلا، فليس أحدهما بأبلغ من الآخر. قال: وكان يمشي لنا الجواب عنه بأن سلام إبراهيم إنما هو بعد سلام الملائكة ردا عليهم، والبعدية تقتضي الحدوث (والتجدّد)، فلو عبر فيه بالفعل لتوهّم (فيه) الحدوث، وأنه إنّما سلم ردا عليهم فعبّر بالاسم (تنبيها) على أن (سلامِيَ) عليكم كان ثابت ولو لم تبدؤوني بالسّلام. وسلام الملائكة لما كان ابتدائيا لا يتوهّم فيه البعدية ولا أنه جواب وَرَدّ عبّروا فيه بالفعل (إذْ) لا ضرورة تدعو إلى التعبير بالاسم. قلت: وأورد بعض نحاة الزمان على هذا إشكالين. - الأول: كيف يصح حذف الفعل مع أن المصدر مؤكد له والفعل المؤكد يحذف لأن مقام الاختصار مناف لمقام التأكيد (فيمنع) أن (يكون) المصدر هنا مؤكدا؟ - الثاني: (إنما يمنع) أن هذا أبلغ لأن هذا المصدر نائب مناب الفعل لا مؤكدا له وكأنه لم يحذف من الكلام شيء سلمنا أنه مؤكد لكن نقول: هو مؤكد لوجود الفعل وثبوته في نفس الأمر على سبيل الثبوت واللزوم، أو على سبيل التجدد والحدوث نظرٌ آخر، وانظر ما قيدته في سورة الذاريات.

3

قوله تعالى: { .. رَبِّ العالمين} قال الزمخشري: لفظ الرّب لا يطلق هكذا إلا على الله تعالى فهو في غيره مقيد بالإضافة تقول: ربّ الدّابة وربّ الدّار. قال ابن عرفة: فإن قلت: قد قال الأصوليون كل ما صدق مقيدا صدق مطلقا؟ فالجواب: أن ذلك باعتبار المفعولية وهذا باعتبار الإطلاق اللفظي. وفي حديث مسلم عن عبد الله بن عمر عن أبية في أشراط الساعة «أن تلد الأمَة ربتها». قال ابن عطية: ويروى أنها تعدل ثلثي القرآن. والعدل إما في المعاني باشتمالها على التوحيد وغيره، وَ {قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ} على التوحيد فقط، وإما أن يكون (فضلا) من الله لا يعلل. قوله تعالى: {الرحمن الرحيم}. قال ابن عرفة: قدم أولا الوصف برَبّ العَالمِينَ تنبيها على أصل النشأة، وأنه هو الخالق المبدئ، ثم ثنى بحال الإنسان في الدّنيا من النعم والإحسان، فلولا رحمة الله تعالى لما كان ذلك. قوله تعالى: {مالك يَوْمِ الدين}. تنبيها على (حال) الآخرة وفرّقوا بين الملك والمالك بأن المالك إنّما يتصرف في مال غيره بالمصلحة، والمالك يتصرف في ماله بالمصلحة وغيرها.

5

قال ابن عطية: وحكى أبو علي في حجة: من قرأ: {مالك يَوْمِ الدين} أن أول من قرأ {مالك يَوْمِ الدين} مروان بن الحكم وأنه يقال: مالِكُ الدّنانير والطير والبهائم/ ولا يقال: ملكها. وقال ابن عرفة: عادتهم يردون الأول بأنّها شهادة على (نفي) فلا تقبل وكأنه قال: لم يقرأ بها أحد قبل (مروان) وكذلك قالوا في قول ابن خالويه في كتاب (تفسير) ليس في كلام العرب كذا. قلت: وأجابوا بأن الشهادة على النفي من العالم (مقبولة). قال الزمخشري: وصحّ الوصف بملك يوم الدين لأنه بمعنى (الفكرة) (فتعرف) بالإضافة. قال (القرطبي): وليس المراد الملك الحاصل بالفعل، بل الملك التقديري لأن يوم القيامة (لم) يوجد. قال ابن عرفة: المراد الملك على ما قال الزمخشري: (القدرة) باعتبار الصلاحية لا باعتبار التنجيز. قال الزمخشري: أو لأن المراد به زمان (مستمر)، مثل: زيد مالك العبيد فإضافته محضة. قال (ويجوز) أن يكون المعنى (ملك الأمور يوم الدين) مثل: {ونادى أَصْحَابُ الجنة} {ونادى أَصْحَابُ الأعراف} - فيكون هذا للماضي وعلى الأول مجرد قيام الصفة بالموصوف من غير تعرض لزمان مخصوص. قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}. إن قلت: لِمَ قدمت العبادة على الاستعانة مع أن الاستعانة سبب فيها؟ أجاب الزمخشري: بأن العبادة وسيلة والاستعانة مقصد فقدمت الوسيلة قبل (الحاجة). قال ابن عرفة: بل الصواب العكس (فالعبادة) هي المقصد. قال: وكان يمشي لنا الجواب عن ذلك بأن هذا أقرب لكمال الافتقار وخلوص النية فإنّ المكلف إذا (أَقَرّ أوّلا بأن لاَ قُدْرة) له على الفعل إلا بالله، ثم فعل العبادة فإنّه قد تحول نيته بعد ذلك

6

(وتزهو نفسه) ويتوهّم أن الفعل الواقع منه بقدرته استقلالا، فإذا أقر بعد الفعل بأن الاستعانة له عليه إلا بالله كان (نفيا) للتهمة وأقرب لمقام التذلّل والخضوع. قلت: وقال بعض الناس العبادة مقصد باعتبار الحكم الشرعي والاستعانة مقصد باعتبار نية المكلف في طلبه لأنه (أخبر) أنه إنما يعبد الله لا غيره، ثم أخبر أنه لا يستعين على تلك العبادة إلا بالله. قلت: وأجاب القاضي العماد (عن) السؤال بثلاثة أوجه: - الأول: طلب المعونة من الله لا يكون إلا بعد معرفته ومعرفته هو التوحيد (وهي) العبادة. - الثاني: يحتمل أن ترجع (العبادة) لتوحيد الله والاستعانة طلب معونته على حوائج الدنيا والاخرة وأول السورة في توحيد الله تعالى وآخرها للعبد كما في حديثه: ... «قسمت الصّلاة بيني وبين عبدي نصفين». قدم العبادة ليكون ما هو لله بإزاء ما هو لله، وما هو للعبد بإزاء ما هو للعبد. - الثالث: طلب المعونة عبادة خاصة وإياك نعبد عامة، والعام مقدم على الخاص قوله تعالى: {اهدنا الصراط المستقيم}. قال ابن عرفة: الطّلب من الأدنى للأعلى سؤال عند المنطقيين ودعاء عند النحويين. ومنهم من قال: إن كان لله تعالى فهو دعاء، (وإن كان) لغيره (فهو) أمر. والهداية (لها معنيان خاص وعام) (فالأعم) الإرشاد سواء كان للخير أو للشر، والأخص الإرشاد إلى طريق الخير والمراد هنا الأخص. والصراط قيل: هنا الطريق وقيل: الطريق الموصلة للآمر

7

الملائم وهو طريق الخير كأنه مأخوذ من السّرط وهو (الإبلاغ). والإنسان ما يتبلغ إلا ما هو ملائم له، وَصَفَهُ على هذا بالمستقيم لأن طريق الخير قسمان قريبة، وبعيدة: فالمستقيم نصّ (اقليدس) على أنه أقرب خطين بين نقطتين فالخط المستقيم أقرب من المعوج فلذلك وصفه على هذا بالمستقيم. قال ابن عرفة: ولمّا قال «إياك نعبد» أوهم أن للإنسان في العبادة (ضربا) من المشاركة والاختيار، فعقبه بطلب الهداية تنبيها على كمال الافتقار، وأن كل العبادة والطاعة من الله تعالى وليس للعبد عليها قدرة، فهو دليل لأهل السنة. قوله تعالى: {أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ ... }. دليل على أن الهداية إلى الطّاعة محض نعمة وتفضل من الله تعالى (لا باستحقاقه) بوجه، والمراد بالهداية خلق القدرة على الطاعة وعند المعتزلة (تيسير) أسباب الفعل والتمكن منه (ومنح الألطاف) لأنهم يقولون: إن العبد يستقل بأفعاله ويخلقها. قال الزمخشري: فإن قلت ما أفاد الوصف بغير المغضوب مع أنه معلوم من الأول؟ فأجاب: بأن الإنعام يشمل الكافر والمسلم فبين أن المراد به المسلم. وردّه ابن عرفة بما تقدم لنا من أن المراد الإنعام الأخص. قال: وإنّما الجواب أنه وصف به تنبيها وتحريضا للانسان على استحضار مقام الخوف والرّجاء خشية أن يستغرق في استحضار مقام الإنعام فيذهل عن المقام الآخر وأشار إليه ابن الخطيب هنا. قال ابن عرفة: وغضب الله تعالى إما راجع لإرادته من العبد المعصية والكفر أو راجع لخلقه الكفر والمعصية في قلبه، هَذَا عِنْدنَا. وعند المعتزلة راجع لإرادته الانتقام منه لأنهم يقولون أن الله تعالى لم يخلق الشر ولا أراده ووافقونا في (الدّاعى) أنه مخلوق لله تعالى. فإن قلت لم قال: {الذين أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} بلفظ الفعل، و {غَيْرِ المغضوب عَلَيْهِمْ} بلفظ الاسم وهلاّ قال صِرَاطَ المنعم عليهم كَما قال {غَيْرِ المغضوب}؟ قلت: (فالجواب أنه) قصد التنبيه على التأدب مع الله تعالى بنسبة الإنعام إليه وعدم (نسبة) الشر إليه بل أتى به بلفظ المفعول الذي لم يتم فاعله فلم ينسب الغضب إليه على معنى الفاعلية وإن كان هو الفاعل المختار لكل شيء لكن جرت العادة في مقام التأدب أن ينسب للفاعل الخير دون الشر. وأجاب القاضي العماد بوجوه:

- الأول: من (ألطاف) الله (أنه) إذا ذكر نعمة أسندها (إليه) فقال: {وَإِنَّآ إِذَآ أَذَقْنَا الإنسان مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ} ولذلك قال إبراهيم عليه السلام: {وإذا مرضت فهو يشفين} - الثاني: إنما قال: {غَيْرِ المغضوب عَلَيْهِمْ} (ليدخل غضبه) وغضب الملائكة والأنبياء والمؤمنين فهو أعمّ/ فائدة. - الثالث: إنما لم يقل صراط المنعم عليهم لأن إبراز (ضمير) فاعل النعمة ذِكْر وشكر له باللّسان وبالقلب، فيكون (دعاء) مقرونا بالشكر والذكر. - الرابع: فيه فائدة بيانية، وهو أنه من (التفنن) في الكلام لأنه (لو أجري) على أسلوب واحد لم يكن فيه تلك (اللّذاذة) وإذا اختلف أسلوبه ألقى السامع إليه سمعه (وهو تنبيه) وطلب احضار ذهنه من قريب ومن بعيد. (قلت): وإشارة إلى قوله تعالى: {مَّآ أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ الله وَمَآ أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ} فالنعمة تفضل ورحمة، والانتقام عدل وقصاص. قلت: ونقل بعضهم أن القاضي (محمد) بن عبد السلام الهواري سئل ما السر في أن قيل: {اهدنا الصراط} بنُون العظمة والداعي واحد وهو محل تضرع وخضوع، وهلا قال: اهدِنِي؟ فأجاب بأنّ المصلّي إن كان واحدا فهو طالب لنفسه ولجميع المسلمين. قال: أو تقول إنّ المصلي لما حصّل (مناجاة) الله وهي من أعظم الأشياء عظم لذلك وهو الجواب في «نَعْبُدُ - ونَسْتَعِينُ» والله أعلم بالصواب.

سورة البقرة

سورة البقرة قوله تعالى: {الم} قال ابن عطية: اختلف في الحروف التي في أوائل السور فقال الشعبي وسفيان الثوري وجماعة: إنّها من المتشابه الذى انفرد الله بعلمه. قال ابن عرفة: قال الفخر في المحصول: اختلفوا هل يرد في القرآن ما لا يفهم أو لا على قولين؟ قال (السراج): في اختصاره إنما ذلك في الألفاظ الحادثة (وأما) الكلام القديم الأزلي فمجمع عليه. قال ابن عرفة: وهذا لا يحتاج إليه إلاّ لو قال: اختلفوا هل يصح أن يرد في القرآن اللفظ المهمل الذي لا معنى له؟ وقوله: ما لا يفهم دليل على أنه عنده معنى ودلالة لم تفهم. قال ابن عطية: (والجمهور) على أن لها معاني اختلفوا فيها على اثني عشر قولا. قال ابن عرفة: اعلم أن قول الصحابي إذا كان مخالفا للقياس هو عندهم من قبيل المسند لأن التجاسر (على) التفسير بمثل هذا لا يكون إلا عن توقيف من نصّ أو إجماع. وقال قوم: هو بحساب (أبجد) (دليل) على مدة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. وذكر السهيلي في الروض الأنف حديثا استخرج منه المدة ومن أوائل السور وأسقط المتكرر من الحروف. وقال قوم هي أمارة على أن الله تعالى وعد أهل الكتاب أنه سينزل على محمد كتابا في أول كل سورة منه حروف مقطعة. قال ابن عرفة: يقال له: ما معنى تلك الحروف؟ (فلم يزل) الإشكال فيها، (وهذه الم مبنية على الوقف). فإن قلت: إنما تكون موقوفة قبل الترتيب مثل: واحد - اثنان - ثلاثة - إذا أردت مجرد العَدَدِ (وهذه) جزء كلام (وقع) الإسناد (فيزول) الوقف (ويعرف). قال: (في) الجواب (إنها) محكية مثل سائر الأسماء المحكية. قوله تعالى: {ذَلِكَ الكتاب لاَ رَيْبَ فِيهِ (2)} أورد الزمخشري هنا سؤالا قال: الإشارة بذلك للبعيد وهو هنا قريب. وأجاب بأن المراد القرب المعنوي.

3

قال ابن عرفة: السؤال غير وارد لأنه أجاب في غير هذا الموضع في قوله تعالى {فذلكن الذي لُمْتُنَّنِي فِيهِ} وفي قوله تعالى: {عَوَانٌ بَيْنَ ذلك} لأن الإشارة بلفظ (البعيد) للقريب على سبيل التَّعظيم وهو معنى (يذكره) البيانيون. قال: وعبر عنه باسم الإشارة دون ضمير الغيبة تنبيها على أنه كالمحسوس المشار إليه فهو دليل على عظمته في النفوس. وقوله تعالى: لاَ رَيْبَ فِيهِ: إما خبر في هذا معنى النهي وإما خبر على بابه والمراد إما نفي وقوع ذلك حقيقة. فيكون عاما مخصوصا بمن ارتاب فيه، أو المراد لا ينبغي فيه ريب أي ليس بأهل لأن يرتاب فيه (أحد). قال: ومن الناس من يقف على (لاَ رَيْبَ) وكان بعضهم يتعقبه بأن فيه شبه تهيئة العامل للعمل وقطعه عنه، ومنهم من وقف على {لاَ رَيْبَ فِيهِ} (وعادتهم بأنهم يصوّبونه بأنه يبتدئ) بقوله تعالى: هُدىً لِلْمُتَّقِينَ، (فجعله) خبر مبتدإ مضمر، أي هو هدى فيكون القرآن كله (هُدى) أي هو نفس الهدى، فهو أبلغ ممن جعل الهدى فيه. فإن قلت: أخر المجرور هنا وقدمه في قوله: {لاَ فِيهَا غَوْلٌ} {وعلى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ} (فالجواب) أن المراد نفي الرّيب بالإطلاق. فيتناول جميع الكتب من التوراة والإنجيل والزبور والفرقان، فليس نفي الريب خاصا بالقرآن فقط بل هو (عام) بخلاف ما لو قيل لا (فيه ريب)، (لأوهم) خصوص النفي به وبخلاف: {وعلى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ} فإنّ الغشاوة خاصة بأبصارهم دون أبصار المؤمنين. قوله تعالى: {الذين يُؤْمِنُونَ بالغيب ... } (قال ابن عرفة): الغيب ما (لم) يَنصبّ عليه دليل (فَمِنَ) الناس من أجاز النظر في علم النجوم وعلم الهيئة والكسوفات. وقال أبو العز المقترح في عقيدته: أجمعوا على أن النظر في علم الهيئة محرم. قال ابن عرفة: إنما ذلك إذا نظر (فيه) للحكم، أما إذا (نظره) ليعلم الكواكب (والنجوم) فجائز، لكن الاشتغال بالعبادة وتعلّم ما ينفعه أولى. قوله تعالى: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ}.

4

قال القرطبي: الآية حجة على المعتزلة ويلزمهم الكفر في قولهم: إنّ لفظ الرزق لا يطلق إلا على الحلال لأن من تغذى من صغره إلى كبره بالحرام يلزمهم أن لا يدخل في عموم قوله تعالى: {وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأرض إِلاَّ عَلَى الله رِزْقُهَا} قال ابن عرفة: يكون عاما مخصوصا (ان) سمّاه رزقا مجازا أو من باب التغليب باعتبار الأكثر فإنّ الأكثر حلال. وقال غيره: هذا الخلاف لفظي لا يبنى عليه كفر أو إيمان. قوله تعالى: {والذين يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ ... } قال الزمخشري: إن قلت إنْ عَنَى بما أنزل إليك كلّ القرآن فليس بماض وإن أراد بما سبق (إنزاله) منه فهو إيمان ببعض المنزل والإيمان بالجميع واجب. (ورده) ابن عرفة: بأنه إنما يجب مع العلم بإنزال ما وسينزل منه. أما مع عدم العلم/ فلاَ يجب الإيمان إلا بما أنزل منه فقط. وأمّا ما لمْ يعلم في الحال بأنه سينزل (فلسنا) بمكلفين بالإيمان به. وأجاب الزمخشري: أن المراد بالإيمان بالجميع، وعبر بالماضي تغليا لما أنزل على ما سينزل. قال ابن عرفة: ويلزم على كلام الزمخشري استعمال اللّفظة الواحدة في حقيقتها ومجازها. وفيه خلاف عند الأصوليين. قال ابن عرفة: أو يجاب بأن المراد إنزاله من اللّوح المحفوظ إلى سماء الدنيا وقد كان (حينئذ) ماضيا. قال ابن عرفة: وعادة الشيوخ يوردون هنا سؤالا لم أره لأحد وهو هلا قيل: والذينَ يُؤْمِنونَ بما أنزل من قبلك وما أنزل إليك (فهو) الأَرْتَبُ ليكونَ الأَسْبَقَ في الوجود (متقدما) في اللّفظ؟ قال: وعادتهم يجيبون عنه بأن الإيمان بما أنزل على النّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ سبب في الإيمان بما أنزل من قبله، لأن المكلف إن آمن به يسمع القرآن المعجز والسنة المعجزة ويرى سائر المعجزات، فيطلع (من ذلك) على أخبار الكتب السّابقة وصحتها، فيؤمن بها إيمانا حقيقيا أقوى من إيمانه بها مستندا لأخبار اليهود وأخبار

6

النصارى عنها: قيل (له): أو يجاب (عنه): بأنه قدم لكونه أشرف وأحد أسباب تقدم الشرف. قال: وهلا أخر ويكون (مترقيا)؟ قوله تعالى: {وبالآخرة ... } المنعوت إما النشأة الآخرة أو الدار الآخرة أو الملة (الآخرة)، والموصوف لا يحذف إلا إذا كانت الصفة خاصة، وعموما (هذا) في نوع الموصوف فلا يمنع الخصوص. قوله تعالى: {هُمْ يُوقِنُونَ} إن قلنا: إن العلوم متفاوتة، فنقول: اليقين أعلاها. وإن قلنا: إنها لا تتفاوت في (أنفسها)، فنقول: اليقين منها هو العلم الذي لا يقبل التشكيك (وغيره هو العلم القابل للتشكيك) وهو قسمان: بديهي، ونظري. فالتشكيك في الأمور الضرورية البديهية غير قادح بوجه، والتشكيك في النظريات ممكن (شائع). وبهذا يفهم اختلاف العلماء الذين هم مجتهدون فيصوب أحدهم قولا ويخطئه الآخر، (وقد) (أَلِفَ) الناس التشكيك على كتاب إقليدس في الهندسة. قوله تعالى: {إِنَّ الذين كَفَرُواْ سَوَآءٌ ... } قال ابن عرفة: لما كان المخاطب في مادة (أن ينكر) مساواة (حالة) إنذارهم لحالة عدم الإنذار بل (نقول): إنّها مظنة الانزجار والفلاح (والنجاح) احتيج إلى تأكيد المساواة بأن قال ابن عطية: قيل: (للزارع) كافر لأنه يغطي الحب ويقال: إذا غطى قلبه بالدين عن (الإيمان) أو غطى الحق بأقواله وأفعاله. قال ابن عرفة: أما الأول فظاهر لأنّ الدّين يجامع القلب فيصح تغطيته إياه، واعتقاد الحق لا يجامع اعتقاد الباطل، بل هو نقيضه وستره (له) لا يكون إلا مع اجتماعه معه: والفرض أنه لا يجامعه وأما باعتبار الأفعال فظاهر. قيل لابن عرفة: يصحّ اجتماعهما باعتبار اختلاف المتعلق؟ فقال: تحول المسألة وما (كلامه) إلا فيما إذا كان متعلق الكفر هو متعلق الإيمان، (فحينئذ) (تتعلق) التغطية. قيل له: تكون التغطية مجازا، عبر به عن (معاندة) أحد الاعتقادين للآخر؟

فقال: إنما هو مخبر عن أصل العقيدة أي هذه اللفظة ممّاذَا هي مشتقة؟ فما حقه أن يأتي إلاّ الحقيقة اللّغوية، وأما المجاز فليس بأصلي. واختلف الأصوليون في الألف واللام الداخلة على الموصول فقيل: إنها للجنس ويكون عاما مخصوصا كأكثر عمومات القرآن. وقيل: إنها مطلقة فتكون للحقيقة أعني الماهية، فلا يحتاج إلى تخصيص، ويحتمل أن تكون للعهد. ابن عطية: وقال الرّبيع بن أنس: (إنّ) الآية نزلت في قادة الأحزاب وهم أهمّ أهل القليب ببدر، وفي بعض النسخ وأهل القليب ببدر. قال ابن عرفة: وهو الصحيح فإن غزوة الأحزاب متأخرة عن بدر، وأهل القليب ببدر قتلوا فلم يبق منهم أحد للأحزاب. قال ابن عرفة: إلاّ أن يريد بالأحزاب الجماعة ولا يريد به الغزوة. قال الإمام ابن الخطيب: والآية دليل على جواز تأخير البيان (عن) وقت الحاجة، فإنها لم (تبين) متعلقها. ورده ابن عرفة بأنها ليس المراد بها التكليف (فيحتاج) إلى بيان وإنما هي تخويف وإنذار، والعموم أدعى (لحصول) التخويف من الخصوص. قوله تعالى: {ءَأَنذَرْتَهُمْ ... } أنكر الزمخشري هنا قراءة ورش وجعلها لحنا وكفره الطيبي. وظاهر كلام الطيبي هذا أن (السّبع) (قراءات) أخبار آحاد وليس بمتواتر. قال ابن عرفة: وحاصل (كلام) (الناس) فيها أنها على وجهين: فأما ما يرجع إلى آحاد الكلم كملك ومالك ويخدعون ويخادعون فهو متواتر اتفاقا من غير خلاف منصوص، إلا أن ظاهر كلام الدّاودي على ما نقل عنه (الأنباري) أنها غير متواترة. وأما ما يرجع إلى كيفية النطق بها من إعراب وإمالة وكيفية وقف ففيه ثلاثة أقوال: الأول نقل (الأنباري) شارح البرهان عن أبي المعالي أنها متواترة وأنكره عليه وهو اختيار الشيخ أبي عبد الله محمد بن سلامة من أشياخنا. (الثاني) أنّها متواترة عند القراء فقط (نقله المازري في شرح البرهان

7

واختاره شيخنا ابن عرفة. الثالث: أنها غير متواترة) قاله ابن العربي في العواصم والقواصم (والأنباري) وابن رشد في كتاب الصلاة الأول وفي كتاب (الجامع) الرابع من البيان والتحصيل. قال ابن عرفة: وهو اختيار الشيخ أبي إسحاق إبراهيم (الجزرى) وشيخنا القاضي أبي عبد الله محمد بن عبد السلام وصاحبنا الفقيه أبي العباس أحمد بن إدريس (البجائي). ءَأنذَرْتَهُمْ: استفهام في معنى الخبر أو معنى المصدر أي إنذارك وعدم إنذارك سواء. قال: (وسَوَاءٌ) مبتدأ وءَأَنذرْتَهُمْ إما فاعل وإما خبره (ويصح) أن يكون مبتدأ لأنه يكون الخبر أفاده المبتدأ، فلا فائدة (فيه). ورده ابن عرفة: بأنه يفيد التسوية إذْ لَعلّ المراد إنذارك وعدم إنذارك مختلفان. قال ابن عرفة: والصواب أنه على/ حذف مضاف أي سواء عليهم جواب {ءَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ}. ويكون استفهاما حقيقة لأن الاستفهام في قوله مجاز (والمصدر) يحتاج إلى (أداة) (تصيّر) الفعل مقدرا بالمصدر وهو (بمنزلة) قول. قيل: يشتمل على إنذار وجوابه (إمّا معه) أو قبله ولذلك هنا جواب (الأمرين) عندهم سواء. قوله تعالى: {لاَ يُؤْمِنُونَ}. هو احتراز لأنه قد يكون الاختيار (باستواء) الحالتين عندهم يقتضي مبادرتهم إلى الإيمان وعدم (توقّفهم) على الإنذار فاحترز من ذلك (ببيان) أنهم على العكس. قيل لابن عرفة: إن (ابن فورك) أبطل بهذه الآية قاعدة التحسين والتقبيح؟ قال: لأن الله تعالى أخبر أن الإنذار لا ينفع فيهم، وقد أمر بإنذارهم، ومراعاةُ الأصلح (تقتضي) عدم تكليفهم وعدم إنذارهم. (فقال): (تقدم) ذلك في جواز تكليف ما لا يطاق وهذا متفق عليه فإنّ هؤلاء المخبر عنهم بذلك غير معيّنين فليست هذه كقضية أبي لهب وإنّما الخلاف يخبر عن معينين (بعدم) الإيمان وتكليفهم بالإيمان كقضية أبي لهب فليس في هذه الآية دليل بوجه. قوله تعالى: {خَتَمَ الله على قُلُوبِهِمْ ... } قرر ابن عرفة وجه المناسبة بين هذه الآية وبين ما قبلها (بأنها) سبب فيه، كأنه قيل: لِمَ لا ينفع الإنذار فيهم؟ فقيل: بسبب الختم على قلوبهم. قال ابن عرفة: هكذا قرره بعضهم. ويرد عليه (أنه كان يكون الأوْلى تقدير هذه الآية على ما قبلها، لأنها سبب فيه وكان يمشي لنا فيه) إن كان تقرير المناسبة بأنّ امتناع تأثير الفعل في المفعول إما (لخلل) في الفاعل أو المَانِعِ في القابل فقد يضرب بالسيف

شجاع قوي ويكون على المضروب مصفّح من حديد فلا يؤثر فيه شيئا، فأخبر هنا أن (تعذر) تأثير الإنذار فيهم لا بتوهم أنه (لإخلال) (واقع في الرسول) في تبليغه بوجه بل لمانع فيهم هو (الطبع) على قلوبهم. وفسر ابن عطية الختم بثلاثة أوجه: الاول: أنه (حسي) حقيقة، فإن القلب على هيئة الكف ينقبض مع زيادة الضلال كما ينقبض الكف إصبعا إصبعا. الثاني: أنّه مجاز (عبارة عن خلق الضّلال في قلوبهم) (وأنّ ما خلق الله في قلوبهم من الكفر والضلال والإعراض عن الإيمان سمّاه ختما). الثالث: إنّه مجاز في الإسناد كما (يقال)، أهلك المال فلانا وإنّما أهلكه (سوء تصرفه فيه). قال ابن عرفة: وسكت ابن عطية عن هذا الثالث وهو إنما يناسب مذهب المعتزلة ولما جاءت الآية مصادمة لمذهبهم تأولها الزمخشري وأطال وقال: إنه مجاز واستعارة. وقال ابن عرفة: فجعله تمثيلا. قال: والفرق بين التشبيه والتمثيل والاستعارة أن إطلاق الصفة على الموصوف إن كان بأداة التشبيه فهو تشبيه مثل: زيد كالأَسَدِ، وإلا فإن كان بواسطة ما يدل على التمثيل فهو تمثيل نحو: زيد الأسد، وإن لم يكن بواسطة فهو استعارة مثل: رأيت أسدا (يكرّ) ويفرّ في الحرب. وظاهر كلام الطيبي أنّه لا فرق بين التشبيه والتمثيل. قال: والآية حجة لمن يقول: إن العقل في القلب، ولو كان في الدماغ لقال: ختم الله على أدمغتهم. فإن قلت: لم قدم القلب والأصل تأخيره؟ قلت: لوجهين: إما (لأنّ) السمع والبصر طريقان إليه فما يلزم من الختم (عليهما) الختم عليه، إذ لعلّه يعلم (المعقولات) بقلبه. ويلزم من الختم على القلب عدم الانتفاع بمدركات السمع؛ وإما لأن المدركات قسمان: وجدانيات ومحسوسات. فما يلزم من نفي المحسوسات نفي الوجدانيات (بخلاف) العكس. (قال): وأجاب (الطيبي) بأن (الأمور) المدركات على ثلاثة أقسام: معقولات، ومسموعات، ومبصرات قال: فإن المعقولات أغمض وإدراكها (أصعب) والمحسوسات أبين وإدراكها

أهون، فقدم الختم على القلب ليكون تأسيسا، إذ لا يلزم من عدم إدراكهم الدليل الصعب الغميض عدم إدراكهم الدليل البين الظاهر. ((وقال بعض الناس: (نص) أفلاطون وأرسطو وغيرهما على أن المعقولات فرع المحسوسات))، ونفي الفرع لا يستلزم نفي الأصل بخلاف العكس. قوله تعالى: {وعلى سَمْعِهِمْ ... } إفراد السمع إما لأمن اللبس أو لأنه مصدر (مبهم) (يحتمل القليل والكثير). أو لإضافته إلى (المجموع فأغنى عن جمعه أو لأن الكلام على حذف مضاف قدره الزمخشري: (وعلى) حواس سمعهم، وابن عطية: على (مواضع) سمعهم. (وضعف ابن عرفة الأول بأنه أمن اللبس أيضا في القلوب فهلا قيل: {خَتَمَ الله على قُلُوبِهِمْ} وضعف الثاني بأن الختم إذا كان (حقيقة) كأول تأويلات ابن عطية: فيه أنه حسّي فلا يصح تعلقه (بالسمع) لأن (المصدر) معنى من المعاني إلا أن يتجوز في الختم، (أو) يتجوز في السمع فيراد به محله. قال الزمخشري: (والبصر) نور العين، وهو ما يبصر به الرائي ويدرك به المرئيات، كما أنّ البصيرة نور القلب وهو ما (به) يستبصر ويتأمل. قيل لابن عرفة: إنّ ابن (راشد) قال: (إنّ) هذا لا يجري على قواعده وإنما يتم على مذهب أهل السنة؟ (فقال): بل هو (يحتمل) (الأمرين)، لأن ذلك النور هل هو بأشعة تنفصل من الرائي للمرئي، أو يحتمل المذهبين؟ قال: وإعادة حرف الجر دليل على أن لكل واحد منهما (ختما) (يخصه) فهو يمنزله (الكلّية) لاَ الكل. قوله تعالى: {وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} قال ابن عرفة: (العَظِيمُ) للتّهكم. قال الزمخشري: والعظيم نقيض الحقير، والكبير نقيض الصغير، والعظيم فوق الكبير، كما أن الحقير دون الصغير. قال ابن عرفة: هذا ينتج له العكس (لأن) نفي (الأبلغ) يحصل (بثبوت) (أدون نقائضه)، ونفي (احقر) العذاب يصدق (بثبوت) العذاب العظيم وإن كان في نفسه صغيرا، أما العذاب الصغير يصدق عليه أنه عذاب عظيم لأن نفي (الأبلغ) في الحقارة عنه منتف،

8

فإذا كان ضد الحقير عظيما لزم أن يكون الكبير أعظم من العظيم قطعا، لأنه إذا انتفى عن العذاب اسم الحقارة ثبت له نقيضه وهو (العظم) وإن كان في نفسه صغيرا. ((وإذا انتفى عنه ما فوق الحقارة وهو (الصغر) ثبت له ما فوق ذلك وهو (الكبر) (وكان) أعظم من العظيم. / ويؤيد ذلك (اختيارهم) في تكبير الصلاة عند الإحرام لفظ: الله أكبر (ولم يختاروا) الله العظيم فدل على أن الكبير أعظم من العظيم)). قلت: هذا عند مالك خلافا لأبي حنيفة فإنه أجاز دخول الصّلاة بالله العظيم أو السّميع أو الكبير ونحو ذلك والزمخشري حنفي المذهب. قوله تعالى: {وَمِنَ الناس مَن يَقُولُءَامَنَّا بالله ... } قال ابن عرفة: ذكر أولا (المؤمنين) (أهل) التقوى والصفات الحسنة، ثم (الكافرين) أهل الضلال والصفات القبيحة ثم المتصفين بأقبح من ذلك وهو (النّفاق) الموجب للحلول في الدرك الأسفل من النار. أو يقال: ذكر أولا من اتصف بالإيمان البسيط ((ثم من (اتصف) بالكفر البسيط))، ثم من اتصف بالدّين المركب من أمرين وهو الإيمان ظاهرا والكفر باطنا، والمركب متأخر عن البسيط في (المرتبة). والألف وللام في «الناس» للعموم (في) أنواع بني آدم و «من» للتبعيض في أشخاص تلك الأنواع. وهذا القول إمّا من اليهود أو من المنافقين فإن كان من اليهود فهو قول (حقيقي) موافق للاعتقاد ومعناه: من يقول آمنّا بوجود الله واليوم (الآخر) (وما هم بمؤمنين) لأنّهم (قد) ادّعوا (الشّريك) فقالوا: {عُزَيْرٌ ابن الله} {قالوا إِنَّ الله ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ} (وإن) كان من المنافقين فمعناه: وَمنَ النّاس من يقول آمنّا (بوحدانية) الله، ويجري هذا على الخلاف في (الكلام) (النفسي)، هل يمكن فيه تعمّد الكذب، ويكون الاعتقاد فيه مخالفا للعلم، أو لا يمكن ذلك؟ و (هي) مسألة تكلّم عليها الأصوليون لما قسّموا العلم إلى تصوّر وإلى تصديق. فإن (قلنا) بجواز الكذب في الكلام النفسي، فيكون هذا قولا حقيقيا بألسنتهم وقلوبهم، وإن منعنا وقوع الكذب فيه، فيكون قولا باللسان فقط قال ابن (عرفة): (ليس فيها دليل عليهم) وانظر كيف لم يصرحوا بالإيمان (بالرسول) مطابقة بل عبّروا بلفظ يدلّ عليه باللّزوم لا بالمطابقة (لأنّ مقصودهم) كفّ الأذى (عنهم) لا الإيمان حقيقة. قال ابن عطية. وفي الآية ردّ على الكراميّة في قولهم: إنّ الإيمان قول باللسان وإن لم يعتقد بالقلب.

9

قال ابن عرفة: ليس فيها دليل عليهم لأنهم لم يقولوا: إنّ الإيمان قول باللّسان (يخالفه) ((الاعتقاد بالقلب، (وإنما قالوا: إنّه قول باللّسان) عري عن الاعتقاد بالقلب لا لأنّ الاعتقاد بالقلب يخالفه القول باللّسان))، بمعنى أنه يقوله بلسانه، ولا (يعتقد) بقلبه شيئا لا هو ولا نقيضه (هكذا) حكى (عنهم) الشهرستاني في (النحل) والملل وليست الآية كذلك. (قيل له): نصّ الطبري هنا على أنّ مذهبهم كما قال ابن عطية وألزمهم نسبة الكذب إلى الله عزّ وجلّ. قال الزمخشري: فإن قلت: لم قال عنهم (ءَامنّا) بلفظ الفعل وفي الردّ عليهم {وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ} بلفظ الاسم؟ (وأجاب): ((إنّ مقصودهم الإخبار)) بالاتصاف بالإيمان، فردّ عليهم بأنّهم ليسوا من نوع المؤمنين، ولا من جنسهم بوجه. قال ابن عرفة: وهذا الجواب ضعيف، وممّا يؤكّدُ السؤال أنّ الفعل أعمّ والاسم أخصّ، ونفي الأعمّ أخصّ من نفي الأخصّ. (فهلا) كان الأمر بالعكس، فهو الأولى؟ قال: (والجواب) أنّ المنافقين لمّا (كان) مقصدهم التورية لم يعبّروا بلفظ صريح في الإيمان بل عبّروا بما يدل على (الاتصاف) بمطلق الإيمان لا (بأخصّه)، و (أتوا) بالفعل الماضي ليدلّ على وقوعه وانقطاعه وعدم الدّوام عليه. ولما كان المقصود الرد عليهم وأنّهم لم يتّصفوا بالإيمان (النافع بل بإيمان لا ينفع، لم ينف عنهم مطلق) الإيمان لأنهم قد آمنوا ظاهرا فنفى عنهم الإيمان الشرعي (لأنّ الإيمان الشرعي) الموجب لعصمة دمائهم وأموالهم قد اتّصفوا (به) ظاهرا، فأخبر الله تعالى أنّ ذلك الإيمان النّافع لهم في الدنيا بالعصمة من القتل والسّبى لا ينفعهم في الآخرة فلذلك نفاه (عنهم) بلفظ الاسم. قوله تعالى: {يُخَادِعُونَ الله والذينءَامَنُواْ ... } قال الزمخشري: (في) هذه الجملة إمّا تفسير لما قبلها أو استئناف. قال الإمام ابن عرفة: الفرق بينهما أنه على الأوّل يكونون وَصفوا بأمرين: بعدم الإيمان (وبالخداع). وعلى الثاني وصفوا بعدم الإيمان فكأنّ قائلا يقول: لم حكم عليهم بعدم الإيمان فقيل: لأنّهم يخادعون الله. قال أبو حيّان ما نصّه: ((يخادعون (مستأنفة)، أو بدل من (يقول) آمنّا ولا موضع لها، أو حال من فاعل يقول (فموضعها) نصب)). قال: وأجاز أبو البقاء كونها حالا من الضمير في المؤمنين. قال: واعترض بأنه يلزم منه نفى الإيمان المقيَّد بالخداع، وهو فاسد لأن المقيَّد بقيد إذا نفى فله طريقان: إما نفي المقيِّد فقط وإثبات المقيَّد وهو

الأكثر، فيلزم إثبات الإيمان، ونفي الخداع وهو فاسد. وإما نفيهما معا (فيلزم) نفي الإيمان (والخداع) وهو فاسد. قال: ومنع أن تكون الجملة حالا من الضمير في آمنّا لأن آمنّا محكي (بنقول) فيلزم أن يكونوا أخبروا عن أنفسهم بأنهم يخادعون وهو باطل، وأيضا فلو كان من قولهم لكان يخادع بالنون (انتهى). وأجاب ابن عرفة بأنك تقول: قال زيد: إنّ عمرا منطلق وهو كاذب، فالجملة الأخيرة في موضع الحال مع أنها ليست من قول زيد، (فلا) يلزم من ذلك أن يكون {يُخَادِعُونَ الله} مقولا لهم بوجه. قلت: وردّ بعضهم هذا بأنّ المعنى يقول: «ءَامنّا» مخادعين الله (فبالضّرورة) انّها من قولهم. قال: وإنّما يتمّ هذا الجواب (إن) لو كان «يُخَادِعُونَ» حالا من الضّمير الفاعل في «يَقُولُ». قال: وقوله يلزم إثبات الإيمان ونفي الخداع ليس كذلك، لأنّه إنما أخذه من المفهوم. ونحن نقول: لا مفهوم (له لأنّه مفهوم) خرج مخرج الغالب، إذِ الغالب عليهم الخداع، فلا يوجدون غير مخادعين، كما ورد: في سائمة الغنم الزّكاة أو يقال: إنّ المفهوم (منتفى) بالنص (على تفسير) في غير هذه الآية أو معلوم من السّياق. وأورد الزمخشري سؤالا قال: كيف يصحّ وقوع الخديعة بالله مع أنه عالم بكلّ شيء؟ وكيف صحّ وقوعها (فيه) مع أنه يستحيل عليه القبيح؟ وأجاب (بأجوبة أحدها) بأنه (لمَّا) نعّمهم في الدّنيا وعصم دماءهم وأموالهم ثمّ عذّبهم في الآخرة (كان) ذلك شبه الخديعة. قال: وكذلك المؤمنون (معهم). قال ابن عرفة: لا (نتصوّر) الخديعة من المؤمنين لأنهم عصموهم في الدنيا خاصة، والآخرة لا حكم/ لهم (فيها). قيل (له): قد يتصوّر باعتبار أنّهم عالمون بهم ومع هذا (تركوا) قتالهم. قال ابن عرفة: وعادتهم يوردون هنا سؤالا وهو أنه عبر عن (نفيهم) عن المؤمنين في قوله: {وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ} بالوصف المقتضي (أعلى) درجات الفلاح، (فدل على اختصار الفلاح فيه)، ولو أريد: وما هم بمؤمنين الإيمان الكامل، للزم عليه حصول بعض الفلاح لهم والغرض (أنهم) لم يحصل لهم من شيء (فإذا ثبت) أن الفلاح منحصر في مسمى المؤمنين لا في مسمى

10

من آمن، فهلا قيل: يخادعون الله والمؤمنين، لأنّ المنافقين يصدق عليهم أنهم ممن آمن؟ قال: (والجواب أن المراد الإخبار عنهم بكونهم يخادعون الله تعالى) وكل من اتصف بمطلق الإيمان حتى أنهم (يخادعون) بعضهم فيظن بعضهم في بعض أنه غير منافق فيخادعه والكل منافقون. قوله: {وَمَا يَشْعُرُونَ}. نفى عنهم الشعور، وهو مبادئ الإدراك. (فبنفي) (مبادئ) الإدراك ينتفي كل الإدراك من باب أحرى. قوله تعالى: {فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ ... } قال ابن عرفة: هذا احتراز لأنه لما أخبر (عنهم) أنهم يخادعون الله، والمخادع على نوعين فالغالب عليه أن يكون صاحب فكر ونظر ودهاء يدبر الأمور التي يخدع بها عدوه، ومنهم من يخادع على غير أصل وذلك موجب (الاستهزاء) به وعلامة على سخافة عقله فأخبر الله تعالى أن المنافقين من القسم الثاني. وقال الطبري: إن في اعتقاد قلوبهم مرضا. قال ابن عرفة: بل المرض في القلوب أنفسها كما قلناه. قوله تعالى: {فَزَادَهُمُ الله مَرَضاً ... } الفاء للسبب (وفيه) العقوبة على الذنب بذنب أشدّ منه. فإن قلت: هذا مرض واحد والزّيادة عليه إن كانت مثله لزم اجتماع المثلين في المحلّ الواحد وهو باطل كما يمتنع اجتماع الضدّين والنَّقيضين: فأجيب بوجوه: الاول: قال ابن عرفة: إنّما يمتنع ذلك في الواحد بالشّخص وهذا واحد بالنّوع أو بالجنس، فاشتركا في جنس المرض و (تغايرا) في الفصل (واجتماع الغيرين جائز). الثاني: قال ابن عرفة أيضا: الضّمير في زادهم عائد على ذواتهم لا على قلوبهم، إذ لو كان عائدا على القلوب لقال (فزادها) الله مرضا. وهو أولى. فإن نزل المرض بجميع ذواتهم فمحلّ الثاني (أوسع) من محلّ المثل الأوّل فصحّت الزّيادة، ولا يلزم منه اجتماع المثلين إلاّ أن يقال: إنّه على حذف مضاف تقديره فزاد الله قلوبهم (مرضا). الثالث: قال بعض الطّلبة: ذكر الإسفراييني وغيره في صحّة اجتماع المثلين (أنه) يخلق جوهرا آخر يكون فيه المثل الآخر زيادة في نعيم المنعّم وعذاب المعذّب.

11

قال ابن عرفة: إنّما ذلك في المثلين حقيقة، وهذان مختلفان في الفصل بينهم غير أنّ كما تقدم (لا مثلان). قوله تعالى: {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} إما بمعنى مؤلم كقولك «تحية بينهم ضرب وجيع»، أو بمعنى مؤلَّم، فيكون الألم حالا (بالعذاب) مجازا أو تنبيها على شدّته «مثل. جَدّ جِدّه» - «وشِعْر شَاعر». قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأرض ... } هذا القول واقع (فيما مضى) ودائم في المستقبل، ودوامه محقق ولذلك دخلت عليه إذا لأنه من باب تغيير (المنكر) فهو واجب. وحذف الفاعل قصدا للعموم والشيوع (في القائل) ولأن القائل عظيما أو حقيرا لا يقبلون منه. وفائدة ذكر المجرور وهو في الأرض (التنبيه) على أن إفسادهم عام في الاعتقاد الديني وفي الأمر الدنيوي، والفساد (يعمّ) في جلب المؤلم ودفع (الملائم) شرعا. قال ابن عطيّة: و «إذا» ظَرف زمان، وحكى المبرد أنها للمفاجأة نحو: خرجت فإذا زيد، ظرف مكان لتضمّنها (الجهة)، وظرف الزمان لا يكون إخبارا عن (الجثة). قال ابن عرفة: (وتقدم لنا) إبطال كونها ظرف مكان لأنه يلزم عليه مفاجأة من بالمشرق لمن بالمغرب) ولا يلزم ذلك في الزمان. ابن عطية: وقال سلمان (الفارسي) لم (يجئ) هؤلاء بعد. ابن عطية: ومعناه لم ينقرضوا بل يجيئون في كل زمان. قال ابن عرفة: والقول: إما لفظي وهو الأظهر، (وبعيد) أن يكون نفسيا ولا يمتنع لاحتمال (أن يخلق الله جل جلاله) في خواطرهم النهي عن ذلك وعدم امتثال ذلك النهي. وأورد الزمخشري سؤالا قال: كيف يصح أن يقام مقام الفاعل جملة (الجملة) لا تكون فاعلة؟ وردّه ابن عرفة بأنّهم نَصّوا في باب الحكاية على عمل القول في الجملة المحكية مثل: قال زيد إن عمرا منطلق. واحتجوا بقوله: مَتَى تَقُول القلص الرّواسما ... يدنين أمّ قاسم وقاسما

12

فإذا صح تعدي (القول إلى) الجملة على المفعولية صح إقامة ذلك المفعول مقام الفاعل. قوله تعالى: {ألا إِنَّهُمْ هُمُ المفسدون ... } قال ابن عرفة: أَلاَ تنبيه والتنبيه لا يؤتى إلا في الأمر الغريب وكونهم لا يشعرون من الأمر الغريب. قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْءَامِنُواْ كَمَآءَامَنَ الناس ... } قال الفخر (الخطيب): بدأ بالنهى عن الفساد لأنه راجع لدفع المؤلم ثم عقبه بالأمر بالإيمان لرجوعه إلى جلب المصالح، لأن دفع المفاسد آكد من جلب المصالح. قال ابن عرفة: والآية عندي حجة لمن يقول: إنّ النظر واجب (بالعقل) (إذ لو كان واجبا) بالشرع لما كلفوا بالإيمان بل كانوا يكلفون بالنظر. فإن قلت: ليس هذا بأول تكليفهم فلعلهم كلّفوا به بخطاب آخر قبل هذا؟ (قلنا): الآية خرجت مخرج ذمّهم والذّم (الأغلب) فيه أنه إنما يقع على المخالفة في الأصل لا في الفرع. قال ابن عرفة: ولكن يمكن أن يجاب عنه بوجهين: الأول: أن الآية خرجت مخرج التقسيم بين الشيء وضدّه. (والإيمان) نقيض الكفر، وليس بينهما اشتراك، والنظر لا (يناقض) الكفر لأنه يكون صحيحا ويكون فاسدا، (فقد) ينظر المكلف فيهتدي، وقد ينظر فيضل. فالنظر اشتراك بين الكفر والإيمان فلأجله لم يقل: وَإِذَا قِيلَ (لَهُمْ) انظروا كما نظر الناس، (لأنّه) لا يدل صريحا على تكليفهم بالنظر الصحيح. الثاني: إن النفوس مجبولة على النظر في غرائب الأمور فلو كلفوا بالنظر لأشبه ذلك (تحصيل الحاصل). قيل لابن عرفة: أو يجاب بأن تكليفهم بالإيمان وذمهم على عدمه يستلزم تكليفهم بالنظر.

قال: (والكاف) منهم من جعلها (نعتا) (لمصدر) (محذوف) أي إيمانا (شبيها) (بإيمان) الناس والمشبه بالشيء والمشبه بالشيء لا يقوى قوته، ففيه حجة لمن يقول: إن الإيمان يزيد وينقص (فكلفوهم) بتحصيل أقل ما يكفي منه، فلم يقبلوا ذلك. قال أبو حيان: ومنهم من أعربه حالا من الإيمان أي آمنوا الإيمان كما آمن الناس لأن الإيمان المقدر يعرف بالألف واللام. قال ابن عرفة: ولا يحتاج إلى (هذا) (لأن) سيبويه قال في قوله تعالى: {فَمَهِّلِ الكافرين أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً} إن رُوَيدا حال من المصدر المقدر وهو إمهال وصحّ إتيانها منه وإنْ كان نكرة (لأنه) لما ينطق به أشبه المضمر في المعرفة، (فكذلك يكون هذا). قوله تعالى: {أَنُؤْمِنُ كَمَآءَامَنَ السفهآء ألا إِنَّهُمْ هُمُ السفهآء ... } أجابوا بعدم الامثتال مع ذكر الموجب لذلك، فأما أن يريدوا بالسفهاء المؤمنين فيكون (جرأة) منهم ومباهتة: أي أنتم سفهاء ضعفاء فلا نتبعكم، أو لم يقصدوا أعيان المؤمنين بل قالوا هذا على سبيل المبالغة والجدل فيقول لهم المؤمنون على: هذا نعم، نقول بموجبه: (ونحن) لم نأمركم بإيمان السّفهاء فلسنا بسفهاء، وعلى الأول (لا) يحسن أن يقول لهم ذلك المؤمنون لأنهم (مباهتون) ويقولون: أنتم هم السفهاء. قال الزمخشري: وإنما أطلقوا عليهم ذلك باعتبار الغالب لأن أتباع النبي صلّى الله عليه وسلم في أول الإسلام كان أكثرهم فقراء. قيل لابن عرفة: إنما كان هذا في المدينة. (قال): كان أكثر المهاجرين معه فقراء. قال الزمخشري: وختمت الآية بقوله: {ولكن لاَّ يَعْلَمُونَ}، وتلك {لاَّ يَشْعُرُونَ} إما لأن الفساد في الأرض (أمر) محسوس فناسب الشعور الذي هو (أوائل) الإدراك والإيمان معنوي يناسب العلم، (وإما لتقدم السفه وهو جهل، فناسب ذكر العلم طباقا). قال ابن عرفة وانظر هل فيها دليل على أن التقليد كاف لقوله: {آمِنُواْ كَمَآءَامَنَ الناس}. (الظاهر أنه ليس فيها دليل لأن المراد: انظروا لتؤمنوا كما آمن الناس) لأن الأمر بالإيمان أمر بما هو من لوازمه، ومقدماته، ومفعول «يعلمون» إما عاقبة أمرهم أو

14

المراد لا يعلمون صحة ما أمروا (به) أو لا يعلمون علما نافعا، وحذف المفعول (قصدا) لهذا العموم. قال ابن عرفة: وفي هذه آيتان، آية من الله تعالى بعلمه ذلك (مع أنهم) أخفوه: وآية أخرى بإعلامه به محمدا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. وقال جل ذكره: {وَإِذَا لَقُواْ الذينءَامَنُواْ قالواءَامَنَّا ... } (إنما) اعبر بإذا اعتبارا بالأمر العادى لأنهم (مجاورون) لهم (وقريبون منهم) فهم في مظنة أن يكون لقاؤهم لهم محقق الوقوع. فإن قلت لم قال: {وَإِذَا لَقُواْ الذينءَامَنُواْ قالواءَامَنَّا}. ولم يقل إذا لقيهم الذين آمنوا، وأي فرق بين قولك: لقيني زيد ولقيت زيدا، مع أنه أمر نسبي، فإن من لقيته لقيك؟ قال ابن عرفة: فرق بعضهم بينهما بأن المتلاقيين إن كانت لأحدهما مندوحة عن اللقاء، ويجد ملجأ أو مقرا فهو مفعول، والآخر الذي لم يجد ملجأ ولا مقرا بل اضطر إلى لقاء صاحبه يستحسن أن يكون فاعلا للقاء، والمنافقون كانوا يكرهون لقاء المؤمنين، وإذا لقوهم في طريق يحيدون عنهم، فلذلك كانوا في الآية فاعلين لأنهم مضطرون إلى اللّقاء. قال جل ذكره: {وَإِذَا خَلَوْاْ إلى شَيَاطِينِهِمْ قالوا إِنَّا مَعَكُمْ ... } قال الزمخشري: لم عبّر في الأول بالفعل وفي الثاني بالاسم؟ وأجاب بأنهم عبروا بالفعل (لأنّ) مقصودهم الإخبار بتحصيل مطلق الإيمان، ولم يلتزموا تحصيل أعلاه، وأخبروا أشياطينهم بحقيقة أمرهم على جهة الثبوت. قال ابن عرفة: وتقدّم الجواب عنهم بأنّهم (إنّما) عبّروا بالفعل لكونهم نزّلوا أنفسهم منزلة البريء الذي يقبل قوله ولا يتّهم، فلو أكّدوا كلامهم لكانوا مقرّين بأنَّ المؤمنين يتهمونهم بالكفر وينكرون عليهم زعمهم أنهم مؤمنون، فأرادوا أن لا يوقعوا لأنفسهم ريبة، بل يخبرون بذلك على البراءة الأصلية خبر من يكتفي منهم بأدنى (العبارة) ويقبل كلامه، ولا ينكر عليه. وقولهم لشياطينهم: «إِنَّا مَعَكُمْ» أكدوا ذلك لأمرين: إما لكون (ذلك محبوبا لهم)، فبالغوا فيه كما (يبالغ) الإنسان (في مدح ما) هو محبوب (له)، وإما تقرير لمعذرتهم لأنّهم أظهروا الإسلام (فخشوا أن) يتوهّم فيهم أصحابهم أنّهم مسلمون، فبالغوا في تمهيد العذر (لنيّتهم).

15

قال ابن عطية: قال الشّافعي وأصحابه: إنما منع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من قتل المنافقين (لما) كانوا يظهرونه من الإسلام بألسنتهم مع العلم بنفاقهم لأن الإسلام يجبّ ما كان قبله فمن قال: إن عقوبة الزنادقة أشد من عقوبة الكفار فقد خالف الكتاب والسنة. قال الشافعي: إنّما كفّ رسول الله عليه وسلّم عن قتل المنافقين مع العلم بهم، لأنّ الله نَهَاهم عن قتلهم إذا أظهروا الإيمان فكذلك هو الزنديق. قال ابن عرفة: الفرق بينهما أنّ النّبي صلى الله عليه وسلّم كان يعلم أن المنافقين يموتون على نفاقهم وكفرهم والزنديق لا يقدر أحد منا أن يعلم وفاته على الزندقة. قوله تعالى: {الله يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ ... } قال ابن عرفة: هذا تشريف واعتناء بمقام النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حيث (تولى) الله عقوبتهم (بنفسه) ولم يقل: ملائكة الله يستهزئون بهم. قال (ابن عرفة) (وأوردوا) هنا سؤالا في إسناد الاستهزاء إلى الله (فقدّره) المعتزلة (بأنّه) قبيح، وصدور القبح من الله تعالى محال، (وقدّره) أهل السنة/ بأنّ الاستهزاء ملزوم بالجهل لقوله تعالى: {قالوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً قَالَ أَعُوذُ بالله أَنْ أَكُونَ مِنَ الجاهلين} والجهل على الله تعالى محال فالاستهزاء في حقه محال. وأجاب ابن عطية بثلاثة أوجه: إما أنه مجاز (المقابلة) كقولك: قَالُوا: اقترح شيئا نجد لك طبخه قلت: اطبخوا لي جبة وقميصا. وقول لبيد: أَلا لا يَجهلن أحد علينا ... فنجهل فوق جهل الجاهلينا وإما بأنه يفعل بهم من الإملاء بالنعم كفعل المستهزئ، أو يفعل بهم في الآخرة ما هو في (تأويل) البشر كفعل المستهزئ، حسبما روي أن النار تجمد كما تجمد الأهالة وهي الشحم (فيمشون) عليها يظنونها منجاة فتخسف بهم. قال الزمخشري: هلا قيل: الله مستهزئ بهم كما قالوا هم: إنما نحن مستهزؤون؟ وأجاب بأن الفعل يفيد حدوث الاستهزاء وتجدده وقتا بعد وقت. (فرده) ابن عرفة بأن دوامه عليهم أشد وأشنع. قال: ويجاب عليه بأن التجدّد يقتضي تنويعه واختلافه عليهم شيئا بعد شيء فلا يستهزئ بهم بنوع واحد. وأجاب الطيبي بأن دوام العذاب فيه توطين لهم، فقد تألفه نفوسهم وتدرّب عليه بخلاف تجدّده فإنه إذا ارتفع عنهم يرجون انقطاعه (وإذا) عاد إليهم كان أشد عليهم.

16

قيل لابن عرفة: نقل بعض الشيوخ عن الأستاذ ابن نزار أنه كان ينهى عن الوقف على {إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءُونَ} لأن قوله {الله يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ} مقابل لما قبله فالصواب إيصاله (به)؟ فقال ابن عرفة: كان غيره يختار في مثل هذا الوقف في الفصل بين كلام الله وكلامهم كما ينهى عن الوقف على «إنَّا مَعَكُمْ». قوله تعالى: {أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى ... } الإشارة بلفظ البعيد إلى القريب (للبعد) من جهة المعنى. وفسر ابن عطية الشراء بأوجه متقاربة، إنها عبارات مختلفة فالأولان في كلامه راجعان لنفس المعنى، والأخيران (لكيفية) (صدق) اللّفظ على ذلك المعنى. قال ابن عرفة: وأدخل الذين للحصر. قال أبو حيان: ودخول الفاء في خبر الموصول لا يجوز إلا إذا كان الموصول عاما. (ويشترط) أن يكون فيه معنى التعليل للخبر وعادتهم يردون عليه بقوله تعالى: {الذي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ} لأنه ليس بعام ولا (هو) علة في الخبر، إذ ليس (الخلق) علة في الهداية وإلا لزم عليه مذهب المعتزلة. قال: وهنا سؤال وهو لِمَ أثبت الضلالة دون الهدى والمناسب العكس أو كان يقال اشتروا (الضلال) بالهدى (فهو) أبلغ في الذّمّ لاقتضائه أنهم اشتروا الضلال الكثير بخلاف الضلالة الواحدة فإنها لا تفيد ذلك الذم؟ قال: والجواب بوجهين: أحدهما: أنهم إذا ذمّوا على أخذ الواحدة من الضلال (فأحرى) أن يذموا على كثيره. الثاني: أن هذا أشنع من حيث إنهم بدّلوا الهدى الكثير الشريف فأخذوا عوضه الشيء القليل من مقداره الحقير في ذاته. فإن قلت: الهدى الذين اشتروا الضلالة به لم يكن لهم بوجه؟ قلنا: إمّا أنه يعد حاصلا لأجل تمكنهم منه أو هو حاصل بالفعل لحديث: «كل مولود يولد على الفطرة» أو المراد المنافقون وقد حصل لهم الهدى (بالنطق) اللّساني فخالفوا بالفكر الاعتقادي (وبكفرهم) بلسانهم عند خلوّهم مع شياطينهم. قوله تعالى: {فَمَا رَبِحَت تِّجَارَتُهُمْ ... }

17

فإن قلت: هلا قيل: فخسرت تجارتهم، فهو أصرح لأن عدم الربح لا يستلزم الخسران؟. قال ابن عرفة: عادتهم يجيبون بأنّهم إذا ذمّوا على عدم الربح فأحرى أن يذموا على الخسران. قوله تعالى: {وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ} (قال ابن عطية: قيل: معناه في شرائهم هذا، وقيل معناه على الإطلاق، وقيل: في سابق علم الله). قال ابن عرفة: وتقدم لنا أن الصواب غير هذا كلّه وهو أن الخسارة في التجارة تارة تكون لأجل حوالة الأسواق برخص أو لأجل الجهل بمحاولة البيع والشراء أو لأجل الفساد وتبذير المال بإنفاقه في غير مصلحة أو فيما لا يحل، فلما أخبر عن هؤلاء بالخسارة في (تجارتهم) (بقي) أن يتوهم أنهم من القسم الأول الذين لهم عذر في الخسارة لأن ذلك أمر جبري (ليس من قبلهم ولا لهم فيه اختيار بوجه فاحترز عن ذلك بقوله: {وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ} حتى يتيقن أنهم من قسم من كانت خسارته في التجارة من قبل نفسه وسبب فساده وقبح تصرفه وهذا أصوب من قول الزمخشري: إذ المراد بذلك إضاعتهم رأس المال ونظره ابن عطية بمنع مالك الاشتراء على أن (يتخير) المبتاع فيما تختلف (آحاده) ويمتنع التفاضل فيه. ابن عرفة: الخيار والاختيار في آخر كتاب الخيار منع فيها أن يشتري الرجل عدد شجرة شجرة مثمرة يختاره اتّفق الجنس أو اختلف، وتدخله المفاضلة في الجنس الواحد وبيع الطعام قبل قبضه إن كان على الكيل، لأن من خير بين شيئين يعد متنقلا فيدع هذه وقد ملك اختيارها أو يأخذ هذه وبينهما فضل في الكيل، وكذلك منعه في الجنس الواحد المختلف الثمن من غير الطعام للفرد فإن اتفقت حاده أو استوت قيمته جاز الاختيار وان اختلف منع. قوله تعالى: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الذي استوقد نَاراً ... } قال ابن عرفة: كيف شبه (الجمع) بالواحد. فأجيب بأنّه كلية روعي فيها آحادها، أو المراد بالموصول الجمع أو هو واحد بالنوع لا بالشخص، والتشبيه يستدعي مشبها ومشبها به ووجه التشبيه نتيجتة، كما أن القياس التمثيلي يقتضي فرعا وأصلا وعلة جامعة ونتيجة وهي الحكم، فالمشبه المنافقون والمشبه به مستوقد النار. ووجه التشبيه حكى فيه ابن عطية حمسة أقوال (ونتيجته) هو الخسران والندم.

18

قوله تعالى: {ذَهَبَ الله بِنُورِهِمْ ... } قال السهيلي في الروض: إن قلت: لم عداه هنا بالباء. وقال في سورة الأحزاب: {إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرجس أَهْلَ البيت} فعداه بنفسه؟ فأجاب بأن الباء تقتضي الصاحب، فإذا قلت: ذهبت بزيد، فأنت أذهبته وذهبت معه والنور محبوب شرعا فناسب اسناد الذهاب إليه باعتبار الفهم والتصور وإن كان في حق الله تعالى محالا لكنه على معنى يليق به، كما وصف نفسه بالمجيء في قوله: {وَجَآءَ رَبُّكَ والملك صَفّاً صَفّاً} والرّجس مذموم شرعا وطبعا فناسب إبعاده عنه (وعدم) إسناده إليه. قال ابن عرفة: وفي (التعدية) بالباء التي للمصاحبة نوع زيادة وإشعاره (بدوام) الذهاب، وملازمته بسبب ملازمة فاعل الذهاب له، فلا يزال ذاهبا عنهم فهو أشد في عقوبتهم حتى لا يتصور رجوعه (إليهم) بوجه. وتكلم الطيبى (هنا) (في الضياء) والنور. قال الزمخشري: النور ضوء النهار وضوء كل شيء، وهو نقيض الظلمة، والضياء إفراط الإنارة، فالنور عنده زيادة في الضياء. قال تعالى: {هُوَ الذي جَعَلَ الشمس ضِيَآءً والقمر نُوراً ... } وقدره صاحب المثل السائر بأنّ الضياء هنا (مثبت) والنور منفي. والقاعدة استعمال الأخص في الثبوت والأعم في النفي فإذا ثبت أعلى الضياء فأحرى أدناه، وإذا انتفى أقل النور (ومبادِئُهُ) فأحرى أكثره أعلاه. وتعقب عليه صاحب الفلك الدائر بأن يعقوب ابن السكيت نص في (إصلاح) المنطق على أن الضياء هو النور لا فرق بينهما. وقال بعضهم: قول: من قال: إن القمر مستمد من نور الشمس مخالف لمذهب أهل السنة، ولا يتم إلا على مذهب الطبائعية. ورد بعضهم على الفخر الخطيب في سورة النور عند قول الله تعالى: {الله نُورُ السماوات والأرض} قال فيها: إن النور هو الضوء الفياض من الشمس. (قال): ما يتمّ إلا على القول بالطّبع والطبيعة. وأجاب ابن عرفة بأنه أخطأ في العبارة فقط، ومراده أنه نور يخلقه الله في القمر عند مقابلة الشمس، ومذهب أكثر أهل السنة أن الظلمة أمر وجودي، وذهب الحكماء والفلاسفة إلى أنها أمر عدمي. قوله تعالى: {وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ ... } قول الله تعالى: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ ... } الآية

قال ابن عطية: الأصم هو من لا يسمع. والأبكم من لا ينطق ولا يفهم، والأخرس من (يفهم) ولا ينطق. وقيل: الأبكم والأخرس واحد. قال ابن عرفة: تقدم في الأصول أنه إذا (تعارض الترادف) والتباين (فالتباين) أولى وانظر (ما معنى) كونهما سواء هل يرد الأبكم إلى الأخرس او بالعكس (وعادتهم) يقررونه بأن معنى كونهما سواء أن الأبكم والأخرس هو الذي لا ينطق سواء فهم أو لم يفهم، ولو فسرناه برد الأخرس إلى الأبكم للزم عليه الإهمال والتعطيل، لأنّه يكون الأصم من لا يسمع والأخرس والأبكم من لا ينطق ولا يفهم، (ويبقى) من يفهم ولا ينطق واسطة بينهما مهملا. قيل (له): إنا نجد الأخرس هكذا؟ (فقال): قد يكون في الشيوخ الصم من تعطل فهمه. قال: والترتيب في الآية (قدوره) بوجهين: إما أنه على حساب الوجود الخارجي لأن المكلف يسمع قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: أني رسول من عند الله فينطق ويقول له: ما دليل صدقك (فيريه) انشقاق القمر (أو غَيره) من الآيات. وإما لأن الأمور منها (ما يصدرُ) عن الشخص وهو منفعل، ومنها ما (يصدر) عنه وهو فاعل، فحاسة السمع من (قبيل) قسم المنفعل لا من قسم الفاعل، لأن الإنسان يسمع الشيء من غيره، وليس له فعل، وحاسة النطق من (قسم) الفاعل لأنه لا يتكلم إلا باختياره إن أراد (تكلم) وإلا سكت، وحاسة البصر جامعة (للامرين) فالنظرة الفجائية من قسم المنفعل لا من قسم الفاعل لا تسبب (للإنسان) فيها، وما عداها من قسم الفاعل. فبدأ أولا (بقسم المنفعل) لأن الكلام في شيء مخلوق حادث والأصل في الحادث الانفعال لا الفعل، وهما خبر مبتدأ محذوف، وحسن حذف المبتدأ لكون الخبر لا يصح إلا له وتعدد الجنس فيه خلاف فمنعه بعضهم، وأجازه آخرون بشرط كون الجميع في معنى خبر واحد، ومنهمْ من كان يجعله خلافا ومنهم من يجمع بين القولين بأنّ الذي منع من التعدد إنما منع حيث يكون الخبران متناقضين كقولك: زيد قائم قاعد، أو متحرك ساكن. والذي أجازه بشرط الجمعية معنى واحد، هكذا مراده، لأن النقيضين لا يجتمعان في معنى واحد بوجه. قال الله تعالى: {فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ}

19

قال أبو البقاء: جملة مستأنفة، وقيل: في موضع نصب على الحال فتعقبه أبو حيان بأن ما بعد الفاء لا يكون حالا. قال: لأنّ الفاء للترتيب، والحال مقارنة لا ترتيب فيها. قال ابن عرفة: الحكم بكون الفاء تمنع عمل ما قبلها فيما بعدها صحيح إلا أن هذا التعليل باطل لأنا نقول: تكون الحال مقدرة لا محصلة قال: وقوله: فهم لا يرجعون. قيل: إنه خبر وقيل دعاء. قال ابن عرفة: لا يتمّ كونه دعاء إلا أنّهم صمّ حقيقة، فإن أريد به المجاز فلا يصح الدعاء عليهم به. قيل لابن عرفة: ولا يصح كونه حقيقة لأن مقتضاه لم يقع. فقال: الدّعاء ليس من الله (فيلزم حصول متعلقه) بل هو (أمر) للنّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ والملائكة. فالدّعاء عليهم بهذا اللفظ لا يلزم وقوعه فإنه تحصل للدّاعي مطلوبه، وقد لا يستجاب له، ويثاب على الدّعاء. قال ابن عطية: وقال غيره، معناه: لا يرجعون، ما داموا على الحال التي (وصفهم بها). قال ابن عرفة: هذا تحصيل الحاصل. قيل له: قد قال أهل المنطق: كل كاتب محرك يده ما دام كاتبا، ولم يجعلوه تحصيل الحاصل. فقال: (هؤلاء) ينظرون إلى المعنى، والنحوي كلامه في صحة تركيب (الألفاظ) (والاصطلاحان) متباينان. قال الله تعالى: {أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السمآء ... } قالوا: أو هنا (تحتمل معانيها) الخمسة. قال ابن عرفة: وجعلها للتفصيل أصوب من جعلها للشك فإن الشكّ من حيث ذاته يحتمل ثلاثة معان وإن كان ذلك احتمالا ضعيفا. تقول: زيد قائم أو قاعد تشك: هل هو قائم أم لا؟ ثم تشك هل هو قاعد أم لا؟ ويحتمل أن يكون غير ذلك ولا ينحصر الأمر إلا في دخولها بين نقيضين مثل زيد متحرك أو ساكن، ويبعد كونها للتخيير أو الإباحة لأنهما أكثر ما يكونان في الطلب، وهذا خبر، ويبعد الجمع بينهما هنا باعتبار الزمان لأن الناظر أولا ينظر/ إلى مستوقد النار فيشبههم به ثم ينظر إلى المطر النازل في الظلمات فيشبههم به، وهو على حذف مضاف .. فإن جعلنا الذي اسْتَوْقَدَ النَّار جمعا (في التقدير) قلنا: أو كأهل صيّب، وإن جعلناه واحدا بالنوع قدرنا المضاف أو كذي صيّب.

20

وأورد الزمخشري سؤالا قال: ما الفائدة في قوله: (من) السماء؟ وكأنه إخبار بالمعلوم (كقولك): الماء فوقنا والأرض تحتنا ولذلك منع سيبويه الابتداء بالنكرة كقولك: رجل قائم، إذ لا فائدة فيه. وأجاب بجواب لا ينهض. قال شيخنا الإمام ابن عرفة: وعادتهم يجيبون بأن فائدة التنبيه على كثرة ما فيه من الهول لأن حصول الألم والتأثير بشيء ينزل من موضع مرتفع بعيد الارتفاع أشد من حصوله مما ينزل من موضع دونه فى الارتفاع، فأخبر الله تعالى أن هذا المطر ينزل من السماء البعيدة، فيكون تأثيره وتأثير رعده، وبرقه وصواعقه أشد. قال الله تعالى: {فِيهِ ظُلُمَاتٌ ... } (يحتمل أن يكون من باب القلب لأن المطر ينزل في الظلمات لأن الظلمات فيه) يحتمل أن يكون الظلمات في المطر حقيقة والأول أظهر و (كذا) تقدم لنا في قوله تعالى: {إِذِ الأغلال في أَعْنَاقِهِمْ والسلاسل} وفي قوله: {إِنَّا جَعَلْنَا في أَعْنَاقِهِمْ أَغْلاَلاً فَهِىَ إِلَى الأذقان فَهُم مُّقْمَحُونَ} وتقدم لنا أنه من باب القلب (فإن أعناقهم) هي التي في الأغلال لا العكس، وتقدم الجواب عنه بأنه (حقيقة) على أنّ الأغلال ضيقة جدا (فتحصر) أعناقهم وتدخل فيها حتى تصير الأغلال مضروبة في أعناقهم. قوله تعالى: {فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ ... } هذا الترتيب باعتبار الأعم الأغلب في الوجود لوجود الظلام في كل دورة لأن كل يوم معه ليلة، وذكر الرعد بعده لأنه أكثر وجود من البرق لأن البرق لا بد معه من الرعد، والرعد قد يكون معه برق وقد لا يكون، أو لأن الرعد في (الظّلمة) أشد على النفوس من الرّعد في (الظّلمة) أشد على النفوس من الرّعد في الضوء، (والآية خرجت) مخرج التخويف فابتدأ (فيها) بما هو أشد (في) التخويف. قوله تعالى: {يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ ... } ولم يقل: أنامل أصابعهم والمجعول إنما هي الأنامل إشارة إلى شدة جعلها وقوة الشدّ لها، حتى كأنّهم يجعلون الإصبع كلّها. وقال ابن عرفة: وجمع الأصابع إشارة إلى شدة تحيرهم وخوفهم وأنّهم لم يتأمّلوا ويهتدوا حتى يجعلوا إصبعا واحدة ((وهي السبابة فهم تارة يجعلون هذا وتارة هذا حتى (يجعلوا) الجميع)). قوله تعالى: {مِّنَ الصواعق حَذَرَ الموت ... } أي حذرا من أن يقرع ذلك الصوت أسماعهم فيموتون. قال ابن عرفة: واختلفوا في وجه التشبيه (فهو عندي كما قرره) بعضهم راجع لتشبيه محسوس أي: أن المنافقين في خوفهم وفي حيرتهم مشبهون بمن يدركه هذا الصيب والرعد والبرق. قوله تعالى: {والله مُحِيطٌ بالكافرين} (هذه) تسلية للنّبي صلى الله عليه وسلّم. والمراد بالكافرين إمّا المنافقين أي لا تهتم بأمرهم فالله يكفيكهم فإنه محيط بهم إحاطة هلاك في الدنيا (وعذاب) في الآخرة، أو المراد عموم الكافرين هؤلاء منهم، وهذا كالاحتراس لأنه لما أخبر عنهم أنّهم في غاية الخوف والحذر من المؤمنين شبّههم بمن (يسدّ أذنيه خشية) الموت، والخائف في (مظنة) (السلامة لأنه يكون على حذر من عدوه وتحرز منه ويرتكب أسباب النجاة فأخبر الله تعالى أنّهم ليسوا من هذا القبيل بل لا نجاة لهم مما هم خائفون منه فالله محيط بهم إحاطة إهلاك وانتقام. قوله تعالى: {يَكَادُ البرق يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ ... } قال ابن عرفة: هذا من (تمام) قوله: {فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ} فصل بينهما بجملة اعتراض وهي قوله {والله مُحِيطٌ بالكافرين} أتت (مشددة) لما قبلها. قال: واختلفوا في كاد فقيل: (نفيها) إيجاب، وإيجابها نفي. قال ابن الحاجب: إذا دخل النفي عليها فهي كالأفعال (على الاصح وقيل: إنها تقتضي الثبوت مع الماضي والمستقبل، وقيل: مع الماضي للاثبات ومع الاستقبال كالأفعال) وانظر أبا حيان. قال ابن عرفة: الظّاهر عندي أن (الخلاف) لفظي يرجع إلى (الوفاق) فمن رده النفي إلى المقاربة جعلها كسائر الأفعال ومن رده إلى نفس الفعل الذي تعلقت به المقاربة قال نفيها إثبات وإثباتها نفي. فإن قلت: هلا قال: كلما أنار لهم مشواْ فيه؟ (والجواب: أنه لشدة) الظّلمة (لا يزيلها) إلاّ شدة الضوء (وقليل) النور لا يزيلها، أو لشدّة (الضوء) عقب شدة الظلمة إذ هو (أشد في التخويف). (فإن قلت): هلا قيل: وإذا ذهب ضوؤه عنهم قاموا فإن ذهاب الضوء يكون بحصول مطلق (الظلمة) حسبما تقدم أن الضوء هو إفراط الإنارة.

والجواب بأنّ الحالتين لا واسطة بينهما: فإما ظلام شديد وإما ضوء شديد وهذا أبلغ في التخويف، وهو معاقبة ظلام شديد (بضوء شديد) سريع الذهاب يعقبه أيضا ظلام شديد. فإن قلت: ما أفاد قوله فيه مع أن المعنى يهدي إليه؟ قلنا: أفاد أنهم لا يمشون إلا في موضع الضوء خاصة، ولا يستطيعون المشي في غيره. فإن قلت: ما أفاد قوله «عَلَيْهمْ»؟ قلنا: التنبيه على أنّ تلك الظّلمات عقوبة فهي ظلمة عليهم ولأجلهم فليست على غيرهم بوجه. قوله تعالى: {وَلَوْ شَآءَ الله لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ ... } فإن قلت: هلا علقت المشيئة بما (تحذروا) منه، وهو الموت لأنهم لم يتحذروا من الصمم والعمى؟ والجواب: أن الموت أمر غالب عام متكرر في العادة ليس لأحد مقدرة عن التحرز منه (وأما ذهاب السمع والبصر فهو نادر ليس بعام يمكن المخالفة فيه وادّعاء الحذر منه) (بالتحرز) والتحصن بأسباب النجاة فلذلك أسندت (المشيئات) إليه. قلت: (أو) لأنهم لم يتحرّزوا من الموت ألاّ بسدّ سمعهم فلذلك أسند الذهاب إليه. قال الطيبي: والآية حجّة لمن يقول: إن القدرة (تتعلق) بالعدم الإضافي لأن المعنى: لو شاء الله أن يعدم سمعهم لعدمه. وردّه ابن عرفة: بأن القدرة إنما تعلقت بإيجاد نقيض السمع والبصر في المحل، فانعدم السمع والبصر إذ ذاك لوجود نقيضهما لا لكون القدرة تعلقت بإعدامهما. قال الطيبي: في مناسبة هذه الآية إنّه لما تقدم أن الرعد سبب/ لإذهاب سمعهم والبرق سبب لإذهاب سمعهم والبرق سبب لإذهاب بصرهم نبّه بهذا على أنّه ليس بسبب عقلي فيلزم ولا ينفك بل هو سبب عادي بخلق الله تعالى ولم يقع ولو شاء أن يقع لوقع. قوله تعالى: {إِنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} قال ابن التلمساني: لا خلاف لأن المعدوم باعتبار التقرر في الأزل لا يصدق عليه شيء واختلفوا في الإطلاق اللّفظي (فذهب المعتزلة إلى أنه يطلق عليه شيء) ومنعه أهل السنة. قلت: وقال الآمدي في أبكار الأفكار: هما مسألتان: - أحدهما: هل يطلق على المعدوم شيء أم لا ولا (ينبني عليها) كفر ولا إيمان؟

والثانية: هل المعدوم تقرر في الأزل أم لا؟ فذهب المعتزلة إلى أنّ له تقررا في الأزل ويلزمهم الكفر وقدم العالم. قال الزمخشري: (في) أن الشيء يطلق على الممكن والمستحيل. وظاهر الآية حجة المعتزلة لأنه لو كان المراد أن الله على كل (شيء) موجودٍ قديرٌ للزم تحصيل الحاصل. فإن قلت: يصح تعليق القدرة بالموجود عند من (يقول): إن (العَرض) لا يبقى زمانين؟ (قلت): إن كانت القدرة متعلقة (بالعرض الموجود) فيلزم تحصيل الحاصل، وإن تعلقت بإيجاد العرض الذي يخلقه (هو) حين التعلق معدوم فيلزم تعلقها بالمعدوم. قلت: وأجيب بثلاثة أوجه: الجواب الأول: أجاب القرافي في شرح الأربعين لابن الخطيب بأن المشتق كاسم الفاعل لا خلاف في صحة (صدقه) حقيقة في الحال (مجاز) في الاستقبال. (واختلفوا) في صدقه عن الماضي. قال: هذا إذا كان (محكوما) به، وأما إذا كان متعلق الحكم فلا خلاف في صحة صدقه على الأزمنة الثلاثة حقيقة (نحو القائم في الدار) (قال): وكذلك لفظة شيء إن كان محكوما به كقولنا: المعدوم شيء، ففيه التفصيل المتقدم، وإن كان متعلق الحكم كهذه الآية فلا خلاف أنه يصدق على المستقبل حقيقة. الجواب الثاني: قال ابن عرفة: القدرة تتعلق بالممكن لعدم المقدر الموجود كما يفهم (من) معنى قوله تعالى {الزانية والزاني فاجلدوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِاْئَةَ جَلْدَةٍ} المراد من حصل منه الزنا (بالفعل)، ومن سيحصل منه الزنا يصدق عليه في الحال أنّه زان (باعتبار) على تقدير (وجوده)، وهذا كما (يقول) المنطقيون: القضية الخارجية والقضية الحقيقية ويجعلون (القضية) الخارجية عامة في الأزمنة الثلاثة مثل كل أسود مجمع للبصر وكل أبيض (مفرق) للبصر. والمراد (به) كل موصوف بالسّواد مطلقا في الماضي والحال والاستقبال. فإن قلت: (هلا) يلزمكم تخصيصه بالممكن الذي علم الله تعالى أنه يوجد ولا (يصدق) (على الممكن الذي علم الله) أنه لا يوجد؟ قلنا: نعم وصح إطلاق الحدوث عليه لأن الآية خطاب للعوام ولو كان خطابا للخواص لتناولت الممكن بالإطلاق الذي علم لله أنه (لم يوجد) فالمراد: الله قادر على كل شيء موجود لأن الخطاب للعوام. ونظيره الوجهان (المذكوران) في الاستدلال على

21

وجود الصانع. قالوا: ثم دليل الإمكان يخاطب به الخواص، ودليل الحدوث بخاطب به الجميع. وأشار الطيبي إلى هذا وزاد جوابا آخر، وهو ثالث، وهو الجواب الثالث: أن لفظة شيء تصدق على الموجود عند (وجود) أول جزء منه فيصح تعلق القدرة به (إذ ذَاك). قالوا: وهذا العموم مخصوص بالمستحيل. وقال ابن فورك: لا يحتاج إلى تخصيصه لأنك إذا قلت (للآخر) كل مما في هذا البيت فلا (تأكل) إلا مما هو مطعوم، وما ليس بمطعوم لا تأكله. وكذلك هو الذي وقع به التخصيص اللّفظُ يأباه فلا يحتاج إلى إخراجه منه. قال ابن عرفة: «إنّا إن اعتبرنا لفظ شيء من حيث الإفراد وجب التخصيص (وإن) اعتبرناه من حيث التركيب لم يحتج إلى تخصيصه. قال ابن الخطيب:» لو كان (لفظ) شيء عاما في الموجود والمعدوم لما صدق على الموجود شيء لأن الآية دلّت على أن تعلق القدرة في العدم فلا يصدق عليه بعد الوجود شيء «. وأبطله ابن عرفة بأنه ما صار موجودا حتى ثبت له ذلك الاسم (في) العدم وتعلقت به القدرة وصدق عليه لفظ شيء». قوله تعالى: {ياأيها الناس اعبدوا رَبَّكُمُ ... } قال ابن عرفة: هذا التفات من الغيبة إلى الخطاب لأنه تقدم الكلام بين المسلمين والمنافقين بلفظ الغيبة ثم أقبل على الجميع بالنداء وهو خطاب لمشركي مكة. قال القاضي العماد: «(في) هذا اضطراب وتناقض لأن جعله التفاتا يقتضي خطاب جميع الناس مسلمهم وكافرهم». وأجاب ابن عرفة: بأنه خطاب لجميع الناس الذين منهم مشركو مكة. قال: وإذا قلنا إن السورة مدنية كيف يخاطب مشركو مكة؟ إلا أن يقال: إنه خطاب للجميع ويتناول مشركي مكة وإن كانوا غالبين من باب تغليب المخاطب على الغائب.

قال: وحرف النداء اما اسم فعل لأنادي وأنادي إما خبر أو إنشاء والصحيح أنه إنشاء في معنى الخبر يدل عليه قول الفقهاء: إن من قال لرجل: «يا زان» إنّه يحدّ. (قال): ويَا نداء للبعيد ويستعمل في القريب مجازا. وقيل إنه (وضع) أيضا للقريب فيكون مشتركا فيتعارض الاشتراك والمجاز فالمجاز (أولى). وعلى ما قال ابن الخطيب في القدر المشترك: يكون للقدر المشترك بينهما وهو أول من تكلّم به أعني ابن الخطيب. وقال بعضهم: لم تعرف العرب القدر المشترك بوجه. ورده بعضهم بتفريق الجزولي بين علم الجنس وعلم الشخص. قال: وحرف النداء جرى مجرى أداة التعريف فلذلك لم تدخل على ما فيه الألف واللام إلا بواسطة أي. قال (ابن عرفة): وعادتهم يردّون بقولك: يا/ رَجُل فلو كان (للتعريف) (لما صحّ) دخوله على النكرة. وأجاب بأن النكرة غير مقبل عليها، والتعريف في المنادى إنما هو (بما فيه من) معنى الإقبال. والنّاسُ (إن) أريد به أهل مكة فيدخل غيرهم من باب خطاب التسوية، (لأنّهم) يتناولهم التكليف كما قال اللّخمي في أول كتاب النكاح. قال مجاهد: {ياأيها الناس} حيث وقع (فهو) مكي و {ياأيها الذينءَامَنُواْ} مدني. (قال الطّيبي) أكثر اقتران النّاس بلفظ الرّبّ. قال ابن عرفة: لأنه تكليف للجميع من المؤمنين والكافرين، فحسن فيه وصف التربية (بالإحسان) والإنعام على سبيل التهييج للامتثال. ولما كان الآخر خطابا لمن حصل له الإيمان بالفعل لم يحتج إلى ذلك التأكيد. وَاعْبُدُو: حمله ابن عطية على التوحيد. وحمله الزمخشري على الطاعات. قال الطّبري: وفيها حجة لأهل السنة القائلين بوقوع تكليف مالا يطاق (لأنّ) من جملة الناس المنافقون المخبر عنهم بأن الله ختم على قلوبهم (وسمعهم). (وردّه ابن عرفة بأن هذا ليس من محل النزاع). فقد استثنى ابن التلمساني في شرح المعالم (الفقهية) في المسألة الرابعة عشر من باب الأوامر استثناء المحال عقلا كالكون في محلين في وقت واحد، والمحال عادة. كالطيران في الهواء فقال: هذا لا يصحّ

22

التكليف به (إلاّ مع التمكن ومع القدرة عليه. كما يحكى عن الركراكي وغيره من الصالحين وهذا) (ليس) من ذلك القبيل بل يصح التكليف به وإن كان غير واقع في علم الله تعالى. وحمل الزمخشري (الترجي) على الوجوب وهو المناسب لمذهب المعتزلة لأنهم يقولون: إن الطائع يجب على الله أن يثيبه وكما قالوا في قوله: {وَمَا خَلَقْتُ الجن والإنس إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} قال ابن عرفة: وإذا فسّرنا العبادة بالتوحيد كما قال ابن عطية بيكون في الآية دليل على أن النظر واجب بالعقل، ولو وجب بالشرع لأمروا أولا بالنظر ثم بالتوحيد. فإن فسرنا العبادة بفعل التكاليف الشرعية من الصلاة والزكاة وغير ذلك كما قال الزمخشري فيكون فيها دليل على أن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة إلا أن يقال: إنهم كلفوا بالايمان وبفروعه ضربة واحدة. قوله تعالى: {الذي جَعَلَ لَكُمُ الأرض فِرَاشاً ... } أخبرهم أنّ الله تعالى خلقهم، وعقّبه ببيان ما هو من ضروريات الأجسام المخلوقة وهو الخبر. وعبّر عنه بالفراش تنبيها على أنه نعمة لهم كالفراش الذي ينام عليه الإنسان، ويتلذذ به، ويطمئن إليه. قال الزمخشري: والموصول إما منصوب صفة للنعت كالذي خلقكم أو على المدح والتعظيم أو رفع على الابتداء وفيه ما في النصب من المدح. قال ابن عرفة: لا يكون فيه ما في النصب إلا إذا كان خبرا (لمبتدإ) مضمر لأن معناه الممدوح الذي جعل لكم وأما إذا كان مبتدأ فلا يفيد ذلك التعظيم الذي في النصب بل دونه لأنه إذا جعله خبرا يقدر المبتدأ معرفا بالألف واللام فيفيد الحصر والتعظيم، وإن جعله مبتدأ (يقدر) خبره نكرة. فإن قلت: هلا قيل: الذي جعل لكم ولمن قبلكم (كما قيل {الذي خَلَقَكُمْ والذين مِن قَبْلِكُمْ)} فالجَواب من أوجه. قال ابن عرفة: إمّا أن يجاب بأنه من (الحذف) من (الثاني) لدلالة (الأول) عليه، أو (بأن) حصول العلم بخلق الله لهم لا يستلزم العلم بخلق الله لمن قبلهم لزوما عقليا، بخلاف الاخبار بجعل الأرض فراشا لهم بعد أن ذكر أن الله (خلقهم) وخلق من قبلهم

فإنه لا يستلزم عقلا (جعلها فراشا لمن قبلهم كما جعلت فراشا لهم) أو يجاب (بأنه من تغليب المخاطب على الغائب). أو بأن الآية خرجت مخرج الامتنان (بما هو مأوى المخاطبين) فامتنّ عليهم بخلقهم، ثمّ بخلق آبائهم الذين هم سبب فيهم، ثم جعل الأرض لهم فراشا (لأنها) سبب في دوام وجودهم ونعمة لهم، ولم، يحتج إلى ذكر كونها فراشا لمن قبلهم لأن الامتنان (إنما) هو لها، وإنّما المخاطبون (الأحياء، ومن) قبلهم قد ماتوا وانتفى عنهم التكليف. قال ابن عرفة: والأرض (كرويّة) والكرة الحقيقية لا يمكن أن (يوجد) فيها خط مستقيم بوجه حسبما برهن عليه إقليدس. قال ابن الخطيب في الأربعين: لما استدل على بطلان الجوهر الفرد قال: إن الكرة الحقيقية إذا ما مسّت جزءا من الأرض فإن قلنا: إنّ ذلك الجزء لا ينقسم فهو الجوهر الفرد وإن قلنا: إنه ينقسم لزم أن يكون في الكرة خط مستقيم وهو باطل. قال ابن عرفة: فالصواب أن الكرة محددة (بكور) أخر (وضع عليها) (كما تأخذ) رطلا من شمع فتصنع من نصفه كرة وتأخذ (باقيه) تضعه على أجنابها (تسويها به) وكذا تعرض الأرض قال: (قبة أزين) في وسط الأرض. وذكروا أنه لا يعيش هناك أحد لكثرة ما فيها من الحرارة. قلت: وقال الشيخ عبد الخالق: والحكماء لما قاسوا الأرض اختلف عليهم وسطها الحقيقي لكن الاختلاف في مواضع قريب بعضها من بعض فبنوا عليه القبة على مواضع مسافتها ثلاثة أميال حتى تحققوا أنها احتوت على وسط الأرض الحقيقي قال: ورأيت رجلا رجلا أعجميا أخبر أنه رآها وسمع فيها الأفلاك ودوي حركتها. وأخبروا عن الحكيم (فيتاغوش) أنه أتى عليه وقت تروحن فيه وصعد إلى قريب السماء فسمع حس الأفلاك (قال): ويسمع أحسن من ذلك الحس فنزل (واستنبط صنعة الديباج) مما رأى في السماء والله أعلم. وقبة (أزين) بينها وبين جبل سرنديب درجتان لأن عرضه درجتان في الإقليم الأول وهو عامر والدرج يقابله في الأميال مائة ميل على ما عليه الأكثرون وصحّحوه. وقيل: مائة وثمانية وقيل: ستة وستون. ومن يكن في القبة يظهر له القطبان محاذيين للأفق.

23

قيل لابن عرفة: إن الفخر في المباحث المشرقية ذكر أن الأرض على الماء (وجهتها الموالية) للماء كروية وأعلاها مسطح ولولا ذلك لما استقرت على الماء والله أعلم. قوله تعالى: {فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثمرات رِزْقاً لَّكُمْ ... } المراد بالرزق المباح فهو عند المعتزلة من مادة اللّفظ على أصلهم وعندنا من (ناحية) أن الآية خرجت مخرج الامتنان والامتنان إنما يكون بالحلال (لا بالحرام). قوله تعالى: {فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلَّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} أي وأنتم تعلمون الله. قيل لابن عرفة: فيه دليل على أن كفرهم عناد؟ قال: لا. بل هم عارفون بالله لأنهم قالوا في الأصنام {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى الله} وهم جاهلون بما يبطل عبادتهم الأصنام للتقرب أو (نقول) (المعنى) وأنتم تعلمون الآيات والدلائل التي تدلكم على عبادته، (لكنّهم) لم يهتدوا (للعثور على الوجه) الذي منه يدل (الدليل إن كان ارتباط الدليل بالمدلول عقلا أو يقول: علموا الدليل، وعثروا على الوجه الذي منه يدل)، ولم يحصل لهم العلم بالمدلول بناء على ارتباط الدليل بالمدلول عادي. قوله تعالى: {وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ ... } قال ابن عرفة: لمّا تقدم الكلام معهم في الإيمان بتوحيد الله والإيمان بالرسالة عقب ذلك بما جرت به العادة (في المخاطبة) بالجدل، وهو (أنكم) وقع منكم شك في البرهان الذي أتاكم به الرسول دليلا على صحة رسالته فعارضوه، وهذا أحد أنواع الجدل وهو إما القدح في دليل الخصم، أو معارضته بدليل آخر. (قيل): لابن عرفة: هم ادعوا أن القدح في الدليل فهلا عجزوا بذلك؟ فقال: (قد) نجد الخصم يدعي دعاوي (جملة) ويقدح في دعاوي خصمه، ولا يقبل منها شيّا إلا ما يمكن أن يكون فيه شبهة. قال: والأظهر أن الريب هو عدم الجزم بالشيء، فتناول الظن والشك والوهم، لأن الإيمان لا يحصل إلا بالجزم اليقيني، وما عداه كله ليس بإيمان. قال: وعبّر ب «إن» دون إِذَا لأن المراد (التنبيه) عن حالهم، وانها مذمومة شرعا فعبر عنها لما يقتضي عدم الوقوع وإن كانت واقعة. وأورد الزمخشري أن نزّل يقتضي التنجيم، وأنزل يقتضي الإنزال دفعة واحدة. وأجاب (عن ذلك) بأن المراد أنه نزل شيئا بعد شيء.

قال ابن عرفة: ونقضوا هذا بقوله تعالى: {وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ القرءان جُمْلَةً وَاحِدَةً} وتقدم الجواب عنه. قال التلمساني: من أن اللّفظ (قد) يدل على المعنى بظاهره ولا (يظهر) (بخلافه) في بعض الصور. فإن قلت: ما الحكمة في تنزيله منجما؟ (قلنا): علله بعضهم بما في الآية وهي: {كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ} قال ابن عرفة: يرد عليه أنه من الجائز أن يثبت الله تعالى به فؤادك صلّى الله عليه وسلم مع نزوله جملة واحدة. قال: ويمكن تعليله بأن ذلك الأظهر فيه كمال الدلالة على صدقه لأن العادة أن رسول الملك إذا كذب عليه إنما يكذب مرّة واحدة وبعيد أن (يكرر) الكذب خشية التفطن منه والعلم به فلو أنزل عليه في مرة واحدة لقويت التهمة في حقه فلما تكرر إنزاله مرارا كان ذلك ادعى لجواب تصديقه. قوله تعالى: {على عَبْدِنَا ... } ولم يقل على رسولنا تنبيها على ما يقوله أهل السّنة من أنّ الرّسول من جنس البشر وعلى طبعهم (وأنّ وصف الرسالة أمر اختص) الله به من شاء من عباده وليست في ذواتهم زيادة (موجبة) بوجه. وقال القرطبي: إنما قال ذلك لأن العبودية تقتضي التذلل والخضوع ولا شك أن التذلل للبارئ جل وعلا هو أشرف الأشياء. قال ابن عرفة: نمنع ذلك بل (وصف الرسالة أفضل منه) فهلا قيل: مما نزلنا على رسولنا؟ وقال بعضهم: إنما ذلك تنبيها على أنّهم إذا ذموا على مخالفته مع استحضار كونه عبدا فأحرى أن يذموا على ذلك مع استحضار كونه رسولا من عند الله. و (قرئ) {مِّمَّا نَزَّلْنَا على عَبْدِنَا}. فإن قلت: إنما هم في ريب مما نَزَلَ على عبدنا هذا فقط، قلنا: الشك في المنزل على هذا شك في المنزل على من قبله لأن الكل رسل من عند الله يصدق بعضهم بعضا فالشكّ في أحدهم شكّ في الجميع. قوله تعالى: {فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ ... } قال ابن عرفة: (قال ابن عطية): قال الأكثرون: مثل نظمه ووصفه وفصاحة معانيه ولا يعجزهم إلا (التأليف) الذي خص الله به القرآن، وبه وقع الإعجاز عند الحذاق.

24

وقال بعضهم: من مثله في غيوبه وصدقه وقدمه (في التحدي وقع عند هؤلاء بالقديم). قال ابن عرفة: إن قلت: هذا (الخلاف) مخالف لما (نصّ) عليه الفخر وإمام الحرمين في الإرشاد من أن المعجزة من شرطها أن تكون حادثة لأنها (إن) كانت قديمة استحال أن يأتي بها الرسول، (أو تكون) دليلا على صدقه لأن الرسول حادث. (قلت): القديم هنا ليس هو كل المتحدى به هو جزء من أجزاء المعجزة التي تحدّى بها الرسول، فالرسول تحدى بكلام لا مثل له في صدقه وإخباره بالغيوب وأن مدلوله (هو القديم). قال المقترح وابن بزيزة في شرح الإرشاد: اختلفوا هل يجوز أن تعلم صحة الرسالة بغير المعجزة (أم لا)؟ فأجاز القاضي أبو بكر الباقلاني وابن فورك في تأليفه في الأصول ومنعه إمام الحرمين هذا في الجواز. وأما الوقوع فلم يقع في الوجود إلا مع المعجزة (اتفاقا) وكان بعضهم يقول: هذا إنما لا ينبغي الخوض فيه لأنه كلام لغير فائدة لا ينبغي عليه كفر ولا إيمان. (وكان الشيخ الصالح الزاهد أبو محمد عبد الهادي نقل عنه بعضهم أنه قال: يجوز في العقل أن يخلق الله خلقا أكرم عليه من نبيه محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فسمع بذلك) الشيخ الصالح أبو الحسن علي بن المنتصر الصوفي فأنكره الإنكار التام وألزمه إلزاما شنيعا. واجتمع بابن عبد السلام القاضي فخفف أمره حتى وقعت بين الشيخين وحشة عظيمة/ بسبب قوله يجوز أن يخلق الله عقلا أكرم من نبيّه محمد صلى الله عليه وسلّم. (قوله تعالى: {وادعوا شُهَدَآءَكُم مِّن دُونِ الله إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} يحتمل أن يريد بالشهادة أي الاستصراخ للاجتماع والتعاون على الإتيان بمثله ويحتمل أن يريد فأتوا بمثله واستحضروا شهداءكم لا شاهدا واحدا يشهدون لكم أنه من عند الله. وعبّر «بإِنْ» تنبيها على أن صدقهم في ذلك محال). قوله تعالى: {فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ ... } قال ابن عرفة: لما أمرهم بالعبادة على لسان نبيه المقارنة للبرهان الدال على صدقه (وهو القرآن) وعجزهم بأنّهم إن لم (يفعلوا) ذلك (فليأتوا) بسورة من مثله قال هنا: فإن عجزتم ولم تقدروا على معارضته فاعلموا أن الرسول صادق فيجب عليكم الإيمان به

(ثم قال): {فاتقوا النار} (فأقام) مقام السبب الذي هو منه في ثالث رتبة أي: فإن لم تفعلوا تبين لكم أن ذلك معجزة وإذا تبين أنه معجزة دل ذلك على صدقه فمهما أخبر به، (فيكون سببا في الإيمان به) وفي تصديقه والإيمان به سبب في اتّقاء النار. قال الزّمخشري: فإن قلت: امتناع معارضتهم القرآن واجب هلا قيل: فإذا لم تفعلوا؟ وأجاب بوجهين: الأول أنه ساق ذلك على حسب نيتهم وقصدهم وأنهم كانوا يزعمون أنهم يقدرون على معارضته. الثاني: انّه تهكّم بهم كقول الفارس النحرير لمن دونه: «إن غلبتك في كذا». قال ابن عرفة: وأنكر الشيخ أبو علي عمر بن خليل السّكوني هذا الإطلاق (لئلا) يلزم عليه أن يسمي الله تعالى متهكما، وأسماؤه تعالى توقيفية. وكان بعضهم يرد عليه بإجماع المسلمين على ورود المجاز في القرآن مع امتناع أن يقال فيه سبحانه وتعالى متجوز. فقال ابن عرفة: والصحيح أن التهكّم يطلق على معنيين: تقول تارة هذه القصيدة التي هي (للمعري: هو فيها) متهكم وتارة تقول فهمنا منها التهكم، ولا يلزم منه أن يكون (المعري) هو فيها متهكم بل التهكم باعتبار ما فهمنا نحن وعلى الأول يكون هو متهكما، فإطلاق التهكم على البارء جلّ وعلا بالمعنى الأول باطلا قطعا، وبالثاني (حق). قال ابن عرفة: ويظهر (لي) عن السؤال جواب ثالث، وهو أن هذا على سبيل التعظيم بالمخاطبات، وهو أن يظهر أحد الخصمين لآخر أنه مغلوب، أو شاك في الغلبة أو متوقع لها ولا (يريه) انه محقق أنه الغالب له لئلا (يتحرز منه) أو يرجع عن مخاصمته بدليل قوله تعالى «وَلَن تَفْعَلُواْ». قال القرطبي: معناه فإنْ لَّمْ تَفْعَلُواْ في الماضي وَلَن تَفْعَلُواْ في المستقبل. قال ابن عرفة: فإن قلت: لم تخلص الفعل للماضي (وإن) تخلصه للاستقبال وهما متباينان؟ فالجواب: أنّ «لم» خلصت الفعل («ولن») دخلت على الجملة فخلصتها. قال بعض الناس: فإذا قلت: إن لم يقم زيد قام عمرو فلم يقم مستقبل باعتبار ما مضى. والمعنى أن يقدر في المستقبل أنه لم يقم (زيد) فيما مضى فقد قام عمرو.

25

ونظيره ما أجابوا به في قوله تعالى {إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ} لأن الشرط يخلص الفعل للاستقبال والمعنى يدل على أنه ماض. قالوا: المراد أن (يقول) في المستقبل إني إن قلته فيما مضى فقد عملته فكذلك هنا. فإن قلت: لم عدلوا في قولك: إن قام زيد قام عمرو إلى لفظ الماضى والأصل أن يعبروا بالمستقبل لفظا ومعنى؟ قلت: إما لتحقيق قيامه في المستقبل حتى كأنه واقع أو التفاؤل بذلك أو للتنبيه على أن قيامه محبوب مراد وقوعه. فإن قلت: (كان يلزمهم) أن يعبروا بإذا (موضع إن)؟ قلت: إذا لا تدخل إلا على المحقق وقوعه وإن تدخل على الممكن وقوعه، وعلى المحال مثل {قُلْ إِن كَانَ للرحمن وَلَدٌ فَأَنَاْ أَوَّلُ العابدين} فإن أعم من أن تكون في هذا وفي هذا. قوله تعالى: {فاتقوا النار التي وَقُودُهَا الناس والحجارة ... } قال ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: هي حجارة الكبريت. ((قال) بن عرفة: معناه مقارنة الناس لها أي هي نار شديدة دائمة (حالة) حلول أجسامهم الرطبة فيها كما لو كان فيها) فإنها لا تزال أبدا تشتعل كاشتعال النّار في الوقود. وقال الزمخشري: عرف النار هنا ونكرها في سورة التحريم لأن تلك الاية نزلت أولا بمكة وهذه نزلت بالمدينة بعد ما عرفوا (النار) وتقررت عندهم. قيل لابن عرفة: هذا مردود بما تقدم للزمخشري عن ابراهيم بن علقمة ولابن عطية عن مجاهد أن كل شيء نزل فيه يا أيها الناس فهو مكي ويا أيها الذين آمنوا فهو مدني وصوب ابن عطية (قوله) في يا أيَهَا الَّذِينَ آمَنُوا بخلاف قوله في أيها الناس فقال ابن عرفة: قال ابن عطية: ان سورة التحريم مدنية بإجماع لكن يقول الزّمخشري إن تلك الآية منها فقط نزلت بمكة، فيكون دليلا على تقدم نزولها على هذه وهو المراد. قوله تعالى: {وَبَشِّرِ الذينءَامَنُواْ ... } قال الزمخشري: معطوف إما على {فاتقوا النار} أو على الجملة (كلها). واعترض أبو حيّان الأول بأن «فاتقوا» جواب الشرط وموضعه جزم وبشر لا

يصح أن يكون جوابا لأنَّه أمر بالبشارة مطلقا مطلقا إلا على تقدير أن لم تفعلوا. ورده المختصر بوجهين: الأول نص الفارسي وجماعة في مثل زيد ضربته وعمرو كلمته أنه معطوف على الجملة الصغرى مع أن عمرو كلمته يمتنع أن يون خبرا (عن) زيد لعدم الرابط فكذا لا يصح أن يعطف على الجواب ما ليس جوابا. قال ابن عرفة: ونظيره رب شاة وسلخها مع أن ربّ لا تدخل إلا على النكرة. وأجاب المختصر عن قوله لأنه أمر بالبشارة مطلقا (بأن) الواقع عدم الفعل جزما (ولهذا قال): «وَلَن تَفْعَلُواْ» فليس ثم تقدير: إن فعلتم فلا (تبشير واقع بل) الأمر بالبشارة واقع مطلقا. وارتضى ابن عرفة الأول، وضعف الثاني بالفرق بين جواب الشرط وغيره، فإن المشاركة في العطف جواب الشرط المعنى يقتضيها [و] بخلاف العطف (على غيره) فإنه قد يكون مراعاة/ لمقتضى اللفظ وأما الشرط فالمعنى فيه يؤكد الارتباط. قلت: ورد غيره الأول بأن (الصغرى عاطفة) على الكبرى لعدم الرّابط إلا أن يقول: وعمرو أكرمته في داره. قال: وقول سيبويه: إنه (معطوف) على الصغرى ليس على ظاهره إن لم يتعرض لإصلاح اللّفظ ولو سئل عنه لقال لا بد من الربط. وقال الفارسي: إنه محمول على الصغرى في النصب ومعطوف على الكبرى ولا يلزم من الحمل على الصغرى أن يكون معطوفا عليها إنّما روعي في المشاركة اللّفظية فقط. (ابن عرفة): نص عليه ابن الصفار وابن عصفور في شرح الإيضاح وشرح الجمل الكبير. قال: وأما رب شاة وسلخها فضمير النكرة عندهم نكرة كما تقول (ربه رجلا). قلت: واحتج ابن عصفور (للفارسي) بأن العرب لاحظوا المناسبة في كثير من كلامهم واختاروا التصب في «ضربت القوم حتى زيدا ضربته» مع أنه غير معطوف لأن حتى لا تعطف الجمل وكذلك اختاروا في زيد ضربته إذا كان جوابا لمن قال: أيهم ضربت، بالرفع أن يرتفع، وبالنّصب أن ينتصب، فقد لاحظوا المناسبة في عدم العطف وهذا كله (نصّ) على أنه ليس معطوفا على الصغرى (بوجه بل محمولا عليها في النصب للمشاركة بين (الجملة) وبين ما يليها خاصة).

قال ابن عطية: الأغلب استعمال البشارة في الخير وقد تستعمل في الشر مقيدة به فمتى أطلقت فهي في الخبر. قال الزمخشري: البشارة الإخبار بما يظهر سرور المخبر به أو عنه. قال: و (أما) {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} فمن العكس في الكلام الذي يقصد به الاستهزاء الزائد في غيظ المسْتَهْزَإ به وتألمه. قال ابن عرفة: جعله الزمخشري من قسم المنفرد، وابن عطية من قسم المشترك. نص الأصوليون في التعارض أن الإفراد (أولى). قال الزمخشري: ومن ثم قال العلماء فيمن قال لعبيدِه: «أيكم بشرني بقدوم فلان فهو حر»، فبشروه فرادى فعتق أولهم، ولو قال: أيكم أخبرني (بقدوم فلان فهو حر) م، فأخبروه فرادى عتقوا كلهم. قال ابن عرفة: عوائدهم يقولون: لا فرق بينهما فإن الإخبار الثاني بعد الأول لم يفد شيئا فهو تحصيل الحاصل فليس بإخبار في الحقيقة. قال: لكن يجاب عنه بأن في الإيمان والنذور من المدونة ما نصه: «ومن حلف لرجل إن علِم كذا ليعلّمنّه أو ليخبرنّه» فعلماه جميعا لم يبرّ حتى يعلمه أو يخبره (مع أن) إخباره لم يفد شيئا. قال: فإن كتب إليه وأرسل إليه رسولا برّ ولو أسر إليه رجلٍ (سرا) وأحلفه لتكتمنّه ثم أسره المسرّ (لآخر) فذكره الاخر للحالف فقال الحالف: ما ظننت أنه أسره لغيري حَنَث مع أن الحالف لم يخبره بشيء بل أفهمه بما هو تحصيل الحاصل .. «وفي كتاب العتق الثاني من المدونة». ومن قال لأمته: أول ولد تلدينه حر. فولدت ولدين في بطن واحد عتق أولهما خروجا، فإن خرج الأول ميتا لم يعتق الثاني عند مالك. وقال ابن شهاب: يعتق الثاني إذ لا يقع على الميت عتق. قال الزمخشري: فإن قلت: أي فرق بين لام الجنس الداخلة على المفرد والداخلة على المجموع؟ وأجاب بما حاصله أنّها إذا دخلت على المجموع تفيد العموم في أنواع ملك المجموع لا في أفراده وإذا دخلت على المفرد أفادت العموم في الأشخاص وفي الجمع وهو نوع من جوابه في قوله تعالى {رَبِّ إِنَّي وَهَنَ العظم مِنِّي} ولم يقل العظام. وذلك أن الصالحات أصله صالحات فيحتمل أن يكون مخرجي الزكاة فقط لأنهم عملوا الصالحات وبعد دخول الألف واللام صار يتناول مخرجي الزكاة والمصلي والصائم إلى غير ذلك. قال: (وعملوا) الصّالحات يتناول

الفعل والقول والإعتقاد لأن العلماء فهموا قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «إنما الأعمال بالنيات» على العموم لأن الفخر في المحصول قال: أجمع الناس على أنه مخصوص بالنية والنظر، فلولا أن العمل يصدق على النية لما احتاجوا إلى استثنائها من الحديث فيكون في الآية عطف العام على الخاص. قوله تعالى: {جَنَّاتٍ ... } قوله تعالى: {كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا ... } قال ابن عرفة: قدّم ذكر الجنّات وأنهارها على الأكل لوجهين إما لأن منفعة (التنعيم) بالنظر إليها سابقة على منفعة الأكل منها وإما لأن الأنهار مصلحة لثمرها وسبب في تكونه قال: وعموم «كلما» إن أريد به الإطلاق في ثمار الجنة فتكون القبيلة صادقة على ما سوى أول مأكول منها لأنه ليس قبله شيء. (قال): وقولهم في «كُلَّما» إنها في موضع الحال إن أريد به أنهم بحيث (لو رزقوا منها شيئا قالوا ذلك فتكون حالا محصلة، وإن أريد أنهم رزقوا بالفعل فتكون حالا مقدرة لأنهم لم يحصل لهم جميعه في الحال) قال الزمخشري: كلما، وإما، صفة أو استئناف أو خبر مبتدإ. قال ابن عرفة: كونها خبر مبتدأ لا يخرج عن الإعرابين الأولين لأنه حينئذ يصلح أن تكون الجملة صفة أو استئنافا. قال ابن عطية: في الآية رد على من يقول: إن الرزق من شرطه التملك، ذكره بعض الأصوليون، قال ابن عطية: وليس عنده ببيّن. قل ابن عرفة: انظر هل معناه أنّ القول غير بيّن أو أنّ الرد عليه بالآية غير بيّن وليس المراد المسألة التي اختلف فيها أهل السنة والمعتزلة فقالت المعتزلة: الرزق لا يطلق إلا على الحلال وقالت أهل السنة: الرزق يطلق على الحلال وعلى الحرام. قال ابن عرفة: لأن الخلاف هنا أخص من ذلك الخلاف لأنه تحرز (منه رُدَّ بقوله) من شرطه (التملك) فمن رزق شيئا ينتفع به (ولا يملكه كالضيف عند الإنسان إذا قدم له طعاما فإنه يأكل منه ولا يحل/ له أن يتصدق منه بشيء، ولا يعطي منه لقمة لأنه لا يملك) غير الانتفاع به فقط. قال مالك: الانتفاع تارة يكون مؤبّدا كالحبس، وتارة يكون موققا كالعارية ونحوها. قوله تعالى: {مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقاً ... }

قال الزمخشري: «مِن» الثّانية لابتداء الغاية، أو البيان، كقولك: رأيت منك أسدا تريد أنت أسد. وتعقبه أبو حيان بأن «مِنْ» البيانية لم يثبتها المحققون ولو صحت لامتنعت هنا إذ ليس قبلها ما تكون بيانا له لاَ معْرفة، مثل قوله تعالى: {فاجتنبوا الرجس مِنَ الأوثان} ولا نكرة مثل: من تَضْرِب من رجل. (وقدروها) مع المعرفة بالذي هُو، ومع النكرة بضمير عائد عليها أي هو رجل. فإن قال: تكون بيانا للنكرة بعدها (أى كلما رزقوا منها من ثمرة) (خلاف) الأصل بالتقديم والتأخير، وأما رأيت منك أسدا ف «من» لابتداء الغاية أو للغاية ابتدائها وانتهائها. وأجاب ابن عرفة: بأنه (لا يريد) وأنها لبيان الجنس بل للتبيين وسماه بعضهم التجريد. ونقل بعض الطلبة أن ابن مالك جعل في قوله تعالى: {يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ} للبيان. قلت: وقال بعضهم: لم يذكر أحد أنها للتبيين، وما معناها إلا (بيان) الجنس. وذكر البيانيون أنها تكون للتجريد وهو للتبعيض مثل: لي من زيد صديق حميم، كأنك جردت عن صفاته رجلا صديقا وكذا قوله عَزَّ وَجَلَّ: {لَهُم مِّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ} وقوله {لَهُمْ فِيهَا دَارُ الخلد} وأنشد عليه ابن عطية في سورة آل عمران في قوله {وَتُخْرِجُ الحي مِنَ الميت} قوله الشاعر: أفاءت بنو مروان ظلما دماءنا ... وفي الله إن لم ينصفوا حكم عدل وكأنه جرد من صفات الله تعالى حاكما عدلا. قال الزمخشري: ومعناه هذا مثل الذى رزقناه إذ لا يصح أن يكون (ذات الحاضر عندهم) الذات الذي رزقوه ذات في الدنيا. قال ابن عرفة: ومعناه أن هذا الذي أكلناه هو الذي رزقناه أولا، وهو الذي شاهدناه حين الأكل، على ما ورد أنّ الإنسان إذا أكل شيئا يرجع كما كان أولا). قال ابن عرفة: وعلى القول بإجازة إعادة المعدوم بعينه يصح ذلك وهو مذهبنا. قوله تعالى: {وَلَهُمْ فِيهَآ أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ ... } أي مخلصة من الشين والدنس المعنوي والحسي المتصل والمنفصل فليس (لهن) ذنوب ولا نتن رائحة ولا حيض ولا بصاق ولا مخاط بوجه.

26

قال الزمخشري: فإن قلت: هلا جاءت الصفة مجموعة لموصوفها؟ قلت: (هما لغتان) يقال: النساء فعلن، والنساء فاعلات. قال ابن عرفة: يرد عليه أن النساء اسم جمع لفظه مفرد، بخلاف هذا فإنه جمع صريح. وإنما يجاب بما قال المبرد في المقتضب: من أن جمع السلامة لا ينعت إلا بالجمع وجمع التكسير ينعت بالمفرد والجمع. الزمخشري: إنما قال «مطهرة» ولم يقل طاهرة، إشارة إلى أن تطهيرهن من قبل الله تعالى ليس لهن فيه تكسب ولا اختيار بوجه. قال ابن عرفة: وهذا كله تقدم إما على التوزيع أو لكل واحد منهم أزواج وهو الظاهر. قال: والبيانيون منهم من يختار في مثل هذه (المجرورات) والضمائر، (الفصل) ومنهم من يختار (الوصل) وعليه أنشد: وتسعدني في غمرة بعد غمرة ... صبوح لها منها عليها شواهد وكان يقول على الأول: ولهم أزواج مطهرة (فيها) قال: وأورد الزمخشري سؤالا في قوله تعالى في الأنعام: {وَأَجَلٌ مُّسَمًّى عِندَهُ} قال: النكرة إذا وصفت في الأصل تقدم خبرها المجرور عليها. قلنا: وهذه الآية جاءت على الأصل الذي قال (فلا سؤال فيها). قوله تعالى: {إِنَّ الله لاَ يَسْتَحْى أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا ... } قال ابن عرفة: الحياء هو (استقباح) فعل الشيء بحالة ما دون نقص فيه، والاستحياء (استقباح) فعله لنقص فيه. قال الزمخشري: فإن قلت: كيف وصف به القديم ولا يجوز عليه التغير والخوف؟ وفي حديث سلمان قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «إنّ الله كريم حي يستحي إذا رفع العبد يديه أن يردهما صفرا حتى يضع فيهما خيرا» أجاب أنه على سبيل التمثيل مثل تركه كتغييب العبد من العطاء بترك من يمتنع من رد المحتاج حياء منه. والمعنى هنا لا يترك ضرب المثل بالبعوض ترك من يستحى أن يتمثل بها. قال ابن عرفة: فجعله من باب العدم و (الهلكة)، مثل زيد لا (يبصر) لا من السلب والإيجاب مِثل الحائط لا يبصر. وقال صاحب المثل السائر في قوله

صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «إذا لم تستح فاصنع ما شئت» إنه يفهم على وجهين: إما إذا لم تفعل فعلا تستحي منه فاصنع ما شئت على سبيل التخبير والإباحة، وإما إذا لم تتصف بالحياء لأجل جرمك وتعديك الحدود الشرعية ولم تبال ما أتت فاعل فاصنع ما شئت على سبيل التهديد والوعيد والإنذار. قال: وفسر «يَضْرِبَ» (في الآية) بوجهين: إما بمعنى يذكر مثلا، وإمّا بمعنى يصوغ كضرب الصائغ الدراهم بمعنى صاغها. قال: وحكمة ضرب المثل بهذا أن لفظ القرآن صحيح فصيح فضرب الله المثل فيه ابتلاء لعباده، فالمحق يأخذ بالقبول، والمبطل يعانده فيه. وهذا جرى على (السّنن) المألوف عند (العرب) الفصحاء في صحيح الأمثال فحق المنصف منهم (أن يقبل المثل) (وعلى) هذا فردهم لذلك فيه ومعاندتهم فيه محض مباهتة، وهي طريقة المغلوب إذا لم يجد ملجأ. قوله تعالى: {فَمَا فَوْقَهَا ... } قيل: أي، ما دونها، وقيل: ما هو أعظم منها. وانتقد ابن الصائغ على ابن عصفور حدّه (التنازع) (أن يتقدم اسم ويتأخر عنه عاملان) فصاعدا، وقال: إنّه غير جامع، لا يتناول الأسئلة تكون فيها ثلاثة عوامل، لأن (الفاء) تقتضي الجمع. ومنهم من جعلها بمعنى «أَوْ» فعلى ما ق ابن الصائغ لا يفسّر إلا بمعنى الاول، وهو أن المراد ما دون (البعوضة) فيتم المثل وعلى أنّ (الفاء) بمعنى (أو) (ويصحّ) تفسير الفوقية بالأمرين. قوله تعالى: {فَأَمَّا الذينءَامَنُواْ ... } وقال الزمخشري: «أما» حرف فيه معنى (الشرط) ولذلك/ يجاب بالفاء وفائدته أنه يزيد الكلام تأكيدا. قال: وفي (قولك): أما زيد فذاهب. معناه عند سيبويه مهما يكن من شيء فزيد ذاهب وتفسيره يفيد أمرين: التأكيد والشرطية. (قال ابن عرفة: أراد أنه يفيد ملزومية الشرط للجزاء أي زيد ملازم للذهاب، فكأنه لم يزل ذاهبا) وفائدة دخول الفاء على «أمّا» أنّه لما تقدم (الإخبار) بأن الله تعالى لا يستحي أن يضرب مثلا وكان الإخبار بذلك لا يقتضي وقوع ضرب المثل بل جوازه في حقّه، وأنّه لا يمتنع منه عقّبه ببيان أن ذلك واقع منه لقوله تعالى {فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الحق}. وعبر عن المؤمنين بالفعل تنبيها على أن من أتّصف بمطلق

الإيمان يعلم ذلك فأحرى من حصل له الإيمان القوي الكامل ويستفاد من عمومه في المؤمنين أن الاعتقاد الحاصل للمقلد عِلْمٌ (لاَ ظنّ) وهو الصحيح عندهم. قوله تعالى: {فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الحق ... } قال ابن عرفة: الحق في القرآن كثيرا كقوله تعالى: {مَا خَلَقْنَا السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَآ إِلاَّ بالحق} فمن يفهمه على ظاهره يعتزل لأن مذهب المعتزلة مراعاة الأصلح على قاعدة التحسين والتقبيح، فالصواب أن يقال في تفسير «الحق» هو الأمر الثابت في نفس الأمر الذي دل الدليل الشرعي على ثبوته، أو يقال: (إنما هو) الثابت بدليل شرعي، أو مدلول الكلام القديم الأزلي. قال ابن العربي في شرح الأسماء الحسنى: الحق في اللغة هو الموجودُ ويعم الاعتقاد والقول والعمل ثم قال: والمختار أن الحق ما له فائدة مقصودة، والباطل (ضده) سواء كان (موجودا) أو معدوما قال تعالى: {مَا خَلَقْنَا السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَآ إِلاَّ بالحق} أي لفائدة مقصودة وهي الثواب والعقاب لقوله تعالى: {رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً} وقوله تعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً} وانظر ما قيدته في الزمر والأحقاف والتغابن وعم. قال أبو حيان: والفاء الداخلة على جواب «أما» فحقها التقديم فيقال: أما زيد فذاهب، لأنه هو الجواب لكنها لو قدمت للزم عليه وجود المعطوف دون المعطوف عليه. وكذا قال الفارسي وأبو البقاء وابن هشام: «أَمَّا» فيها معنى الشرط، والفاء كذلك فكرهوا اجتماع (حرفي) شرط، كما كرهوا اجتماع حرفي تأكيد. قال ابن عرفة: إِنَّمَا امتنع عندي لما فيه من إيهام الإتيان بالجزاء دون الشرط. قوله تعالى: {مِن رَّبِّهِمْ ... } لم يقل من الله تنبيها على أنه رحمة منه ونعمة لهم، (لكونه) نصب لهم عليه الأدلة والطرق إلى العلم به. قوله تعالى: {وَأَمَّا الذين كَفَرُواْ فَيَقُولُونَ مَاذَآ أَرَادَ الله بهذا مَثَلاً ... } الآية (فيها) حذف التقابل أي فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الحَقّ مِنْ رَبِّهِمْ ويقولون ذلك بألسنتهم، وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا (مَثَلا. ويعتقدون ذلك بقلوبهم ولذلك لم يقل في الكافرين: بماذا أراد ربنا بهذا مثلا) ويمكن أن تكون هذه الجملة في موضع الحال من الأولى، وهو أصوب مو كونها استئنافا، لأن (المؤمنين) إذا (اعتقدوا)

أنه الحق حالة وجود المخالف والمعاند (لهم) فيه فأحرى أن يعتقدوا صحته مع عدم المخالف. قال ابن عرفة: وسلكوا في هذه العبارة طريق الجدل (عند الجدليين) لأنهم لو قالوا ذلك (أمرنا بالرد) عليهم، فالضرب في رجوعهم بالمباهتة والتبكيت. (وأتوا) في الجواب بلفظ ظاهره الاستفهام ومعناه الإنكار كما يأتي المجادل المغلوب بلفظ (يموه به ويحيد به) عن الجواب. وقوله: {مَاذَآ أَرَادَ الله بهذا مَثَلاً} قال الزمخشري: فيه وجهان: إما أن (ذا) اسم موصول بمعنى الذي مرفوع على الابتداء أو خبره مع صلته، وإما أن (ماذا) كلمة واحدة كلها وهي في موضع نصب بأن إذا. قال ابن عرفة: وكان ابن الحباب يحكى عن (بعضهم) أنه كان يقول في قوله تعالى {وَإِذَا قِيلَ لَهُم مَّاذَآ أَنزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ أَسَاطِيرُ الأولين} (بالرفع: {وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتقوا مَاذَآ أَنزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ خَيْراً} قال: النصب في جهة المؤمنين أرجح، والرفع للكافرين أرجح كما هو في الآية. ووجهه أنه حيده منهم عن الجواب لأن الكافرين لو نصبوا أساطير الأولين لكان المعنى أنزل) أساطير الأولين فيكونوا مقرين بالإنزال (وإذا) رفعوه فيكون المعنى هو أساطير الأولين، وحادوا عن الجواب على مقتضى السؤال والمؤمنون أجابوا على مقتضى السؤال فقالوا: أنزل خيرا فأقروا بالإنزال، وأنه خير في نفسه، فحصلوا المطلوب وزيادة. وكذلك (يجيء الرفع في هذه الآية أرجح في جهة الكافرين)، ويحتمل أن يكون «ماذا أراد الله» في موضع الحال، ويحتمل أن يوقف على «ماذا». قال ابن عرفة: وَ «مَثَلا» إما تمييز أو حال، وإما منصوب على المخالفة كما قال ابن منصور في شرح مقربه لما (عدّ) المنصوبات. قال ابن عطية: ومعنى كلامهم هذا الإنكار بلفظ الاستفهام. وقال الزمخشري في قولهم «مَاذَا» استرذال واستحقار. وقال ابن عرفة: (عادة) ابن المنير ينتقد عليه ذلك لأنه إساءة أدب لا بنبغي أن يفسر القرآن به ولا (يحكي) عن (الكافرين) في الكلام القبيح إلا ما هو نص كلامهم مثل {وَقَالَتِ اليهود يَدُ الله مَغْلُولَةٌ} قوله تعالى: {يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً ... }

قال ابن عرفة: هذا لف ونشر لأنه لما تقدم ذكر المثل وذكر (بعده) الفريقين عقبه ببيان أنَّه يضل به قوما، ويهدي به آخرين. واللَّف والنشر قسمان: موافق كقوله تعالى: {فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ فَأَمَّا الذين شَقُواْ فَفِي النار} ومخالف كقوله تعالى {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الذين اسودت وُجُوهُهُمْ} قال: وحكمة ذلك في (الجمع) الاهتمام بمقام التخويف والإنذار، فلذلك بدأ بأهل الشقاوة في الآيتين. وقال ابن عرفة: وكان بعضهم يقول: هذه الآية إذا (بنينا) على (القول) الصحيح فإن ارتباط الدليل بالمدلول عادي وهو مذهب الشيخ أبي الحسن الأشعري، وقد نصوا على أن الحق لا يستلزم الباطل بوجه، وإنما يستلزم حقا مثله. وجاءت هذه الآية بعد ذكر ضرب المثل الذي جعله الله دليلا للمكلفين على صحة الرسالة، ثم عقبه ببيان أنه دليل (حق ثم قال: {يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً}، فجعل الدليل الحق مستلزما للضلال فإذا بنينا على أن ارتباط الدليل بالمدلول عادي يكون/ الحق بهذه الآية قد يستلزم الضلال كما قالوا إنه) يستلزم الحق. وغاية ما فيه أن يقال: الغالب (عليه) استلزم الحق وقد يستلزم الباطل. ((قال ابن عرفة واقتضت الآية أنّ المثل الذي هدى الله به المؤمنين أضل به بقية الكافرين، وهو سبب في الشيء ونقيضه، وهذا هو عين مذهب أهل (السنة)، لأن جميع الأشياء كائنة بإرادة الله وقدرته. وأراد الزمخشري سؤالاً (أ) قال: إن قلت: لم قال: " يضل به كثيراً " وهم قليلون قال تعالى: {وقليلٌ مِنْ عِبّادِيَ الشَّكُورُ} وقال: {الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَليِلٌ مَّا هُمْ}؟ قال ابن عرفة: السؤال غير وارد لأن الشكور أخص من الشاكر، والشاكر مهدي فلا يلزم من كون الشاكر قليلاً أن يكون المهدي قليلاً. قال: والآية الأخرى تقتضي نسبة العلة لمن آمن وعمل الصّالحات وهو أخص ممن اتصف بمطلق الإيمان ومطلق الاهتداء فلو قدر السؤال بقوله تعالى: {ومَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِين}. لكان صحيحاً متوجها. قيل لابن عرفة: إنما السؤال غير وارد على مذهبنا، وأما عند الزمخشري وسائر المعتزلة فهو وارد لأن المؤمن عندهم هو الذي عمل.

قال: بل هو غير وارد عندهم لأن من آمن الإيمان الحقيقي الكامل (واخترمته المنية) إثر ذلك ولم يمض عليه زمن عمل (فيه) الصّالحات هو مؤمن باتفاق منا ومنهم. زاد الزمخشري في تمثيل القليل قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " النّاس كإبل مائة لا تكاد تجد فيها راحلة. قال كذلك (قوله) وجدت الناس أخبر تقله أي أخبر أحدهم ببعضه. قال ابن عرفة: وهو تسليم للسؤال. فأجابه عنه الزمخشري: بأنهم كثيرون في أنفسهم. لا سيما فيما قالوا في جمع الكثرة: إنه يتناول مع العشرة فما دون ذلك والقلة (هي) فما في الترجيح في العدالة إنه ترجح التي هي أعدل لشرفها. وإسناد فعل الإضلال إلى الله تعالى حقيقه. وجعله الزمخشري مجازاً على قاعدة التحسين والتقبيح عندهم ثم استدل لذلك بحكاية عن مالك بن دينار أنّه دخل على محبوس مقيد بين يديه (دجاج) (وأخبصه) فقال له: هذه وضعت القيود على رجلك. ابن عرفة: وهذا من أنواع الدليل (المسمى) في علم المنطق بالخطأ، لأنه جعل (استحالة) نسبة الأضلال إلى الله تعالى كاستحالة نسبة وضع القيد في رجل المحبوس إلى الدجاج (وللأخبصة) قال: فكما أطلقه هناك مجازاً فكذلك هنا (استحقاقاً) لمذهبه (وجرياً) على عادته الفاسدة. قوله تعالى: {ومَا يُضِلّ بِهِ إلاّ الفَاسِقينَ}. تقدم للزمخشري في قوله تعالى: {هُدى للمُتَّقِينَ} سؤال، قال: المتقي مهتد فكونها هدى له (تحصيل) الحاصل، وأجاب بأن المراد الصائرين (للتقوى) وهو هُدى بإعتبار الزيادة في الهداية. وكذا السؤال هنا وجوابه قول تعالى: {فَأَمَّا الَّذينَ ءامَنُوا فَزَادَتْهُمْ إيِمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَأَمَّا الَّذيِنَ ءامَنُوا مَّرَضٌ فَزَادتَتْهُمْ رِجْسًا}. قوله تعالى: {الذين يَنقُضُونَ عَهْدَ الله مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ ... } حكى ابن عطية في هذه الجملة خلافا هل هي استئأنفا أو من تمام ما قبلها؟

قال ابن عرفة: إن راعينا مقام التخويف وترتّب الذّم على كل وصف من هذه الأوصاف جعلناه كلاما آخر مستأنفا، وإن راعينا مناسبة اللَّفظ فترد لما قبلها. واختلفوا في العهد ما هو؟ ابن عرفة: والظاهر أن نقض العهد راجع إلى الإقرار بوحدانية الله تعالى. وقطع ما أمر الله به أن يوصل راجع إلى الإقرار بالرسالة. وأشار إليه ابن عطية فهم مكلفون بشهادة أن لا إلاه إلا الله وأن (يصلوها) بشهادة أن محمدا رسول الله فخالفوا في الأمرين فعهد الله هو الدليل الدال على وحدانيته ونقضه هو المخالفة فيه. ابن عطية: وقال بعض المتأوّلين إنّ العهد هو ما أخذه الله تعالى على (بني آدم حين أخرجهم من ظهر آدم كالذرّ {وَأَشْهَدَهُمْ على أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ؟ قَالُواْ بلى} وضعفه الفخر بأنهم حينّذ ليسوا مكلفين فلا يعاقبون على نقض ذلك العهد). وأجاب ابن عرفة بأن قال: لا مانع من أنهم كلفوا (حينئذ) بالإيمان فآمنوا والتزموا العهد ونسوه، ثم ذكروا بذلك في الدنيا بهذه الآية وأنظارها، فمنهم من تذكر وآمن، ومنهم من بقي فيعاقب لأجل ذلك (ونظيره) عندنا أن القاضي إذا حكم بحكم ونسيه فذكره فيه شاهد واحد فإنه ينفذه بشهادته ويرجع إليه وكذلك هذا. قوله تعالى: {مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ ... } أي من بعد توثقه وإبرامه. ابن عطية قيل: إنّها لأهل الكتاب، وقيل: لجميع الكفار، وقيل: لمن آمن (ثم) كفر. ابن عرفة: الظاهر تناولها لكل من صلح صدق هذا اللفظ عليه، قيل: لتدل على مبادرتهم بالنقص في أول (أزمنته البعيدة). أبو البقاء: «من» لابتداء الغاية في الزمان عند من أجازه وزائدة عند من منعه وهو ضعيف (لا متناع) زيادتها في الواجب. قال الصفاقسي: هذا ليس بشيء لأن القبلية والبعدية من صفات الزمان، فكأن «من» (تدخل) على الزمان فلا يحتاج إلى زيادتها قال ابن عرفة: لا يليق به على علمه فإن ابن عصفور وغيره قد تأولوها في مثل هذا على حذف مضاف تقديره مصدرا، وأعربوا «قبل» و «بعد» إذا انتصبا ظرفي زمان صريحين وقالوا: ظرف الزمان هو اسم الزمان أو عدده أو ما قام مقامه نحو: أتيتك طلوع الشمس أو ما أضيف إليه إذا كان هو أو بعضه.

28

قوله تعالى: {وَيَقْطَعُونَ مَآ أَمَرَ الله بِهِ أَن يُوصَلَ ... } قال ابن عرفة: فيه عندي حجة لمن يقول إن لفظ أمر إنما يطلق على الواجب فقط، وأما المندوب فغير مأمور به إن زعم أنه لإجماعنا على المراد به هنا (الوجوب) لترينه الذمّ (فمن) يقول: إن المندوب مأمور به إن زعم أنّه حقيقة لزمه الاشتراك. وإن جعله مجازا لزمه المجاز، وهما معا على خلاف الأصل. ابن عرفة: والصحيح عندي في الأمر اشتراط الاستعلاء فقط (لاَ) العلو خلافا للمعتزلة وبعض أهل السنة. قوله تعالى: {وَيُفْسِدُونَ فِي الأرض ... } إن أراد بالفساد الأمر الأعم من القول والفعل والاعتقاد فيكون ذلك من عطف العام على الخاص (وإن أريد به) الفعل فقط فتكون من عطف الشيء على ما هو مغاير له. قوله تعالى: {أولئك هُمُ الخاسرون} عبر بالخسران لأنهم بالعهد والميثاق حصل لهم الفوز والنجاة، فلما نقضوه (شبّهوا) بمن اشترى سلعة للتجارة وكان بحيث إن بادر بيعها لربح فيها ربحا كثيرا فتركها حتى كسد سوقها وباعها بالبخس والخسران. قيل لابن عرفة: هذه الآية تدل على أنّ مرتكب الكبيرة غير مخلد في النار لاقتضائها حصر الخسران في هؤلاء لأن البناء على المضمر يفيد الحصر؟ فقال: يقول الزمخشري: إنه لمطلق الربط لا للحصر كما قال في {وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النار} قوله تعالى: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بالله ... } قال (ابن عطية): هذه الآية دليل على أنّ المراد بما قبلها المخالفة في توحيد الله تعالى والإيمان به إمّا على سبيل الخصوصية أو مع غيره وهو الأصل (وغيره تابع له). الزمخشري: «كَيْفَ» سؤال عن حال ومعناها معنى الهمزة (لكن السؤال بالهمزة) عن الذات، والسؤال بكيف عن صفة الذات فيستلزم السؤال عنها. قال ابن عرفة: فإن قلت: لم وبّخوا بكيف، وهلا وبّخوا بالهمزة؟ وأجاب: بأنه إذا أنكر عليهم الكفر في حال من الأحوال فيلزم إنكار نفس الكفر من باب أحرى، لأن كل موجود لا ينفك عن صفة فنفي الصفة يستلزم نفيه بطريق البرهان.

ق ابن عرفة: هذا استدلال بنفي الملزوم على نفي اللازم وهو باطل عندهم ويقال له: الصفة تابعة لموصوفها، ولا يلزم من نفي التابع نفي المتبوع بل العكس (الذي يلزم) قيل لابن عرفة: هذا تابع لازم لا ينفك عنه (المتبوع) فنفيه يستلزم نفيه؟ فقال: قصارى أمره أنه دلّ على نفي المتبوع باللزوم لأن دلالته عليه بواسطة نفي الصفة والهمزة تدل على نفيه بالمطابقة. قيل لابن عرفة: الكفر في ذاته لا ينفك عن (حال) من الأحوال فعموم النفي في حالاته يستلزم (انتفاءه هو معها بخلاف نفيه هو في ذاته؟ فقال: نفيه في ذاته يستلزم انتفاء حالاته، وأيضا فالهمزة تدل على إنكار نفي الكفر بالمطابقة، وكيف بواسطة دلالتها على (إنكار) نفي صفته ودلالة المطابقة أقوى من دلالة الالتزام. (قال): وكان (يظهر) لنا في الجواب عنه تقدير بأن النّفي بالهمزة مطلق في الشيء والنّفي بكيف عام في جميع حالات الشيء. ودلالة العام أقوى من دلالة المطلق لأن الهمزة تدل على إنكار كفرهم في حالة ما، وكيف تدل على إنكار جميع أحوال كفرهم. وتقريبه بالمثال أنّ الميتة والخمر عندنا محرمان، لكن الميتة مباحة للمضطر بخلاف الخمر على المشهور. ونص في كتاب الصلاة الأول (من العتبية) في أول رسم تأخير صلاة العشاء، فتقول للانسان: أتأكل الميتة وهي محرمة؟ ولا تقول له: كيف تأكل الميتة وهي محرمة، ولا تقول له: أتشرب الخمر وهو محرم؟ هذا المختار عندهم. قلت: وبدليل من غص بلقمة ولم يجد ما (يدفعها) به إلا الخمر (وخاف الموت). قال ابن رشد: الظاهر من قول أصبغ أنّ ذلك (لا) يجوز له وأجازه غيره غيره. قال ابن عرفة: ومثله الزمخشري بقولك (أتطير) بغير جناح؟ وكيف تطير بغير جناح؟ قال ابن عرفة: هذا المثال لا يطابق الآية، إنّما (يطابقها) أن يقول: أتطير وأنت مكسور الجناح من غير ضرورة تدعوك لذلك لأن الطيران بلا جناح مستحيل بالبديهة، (وكفر هؤلاء) ليس بمحال. (قلت): والحاصل أن الزمخشري والشّيخ ابن عرفة اتّفقا على أنّ «كَيْفَ» سؤال عن جميع الأحوال (واختلفا) في الهمزة فهي عند الزمخشري سؤال عن حقيقة الشيء، وعند ابن عرفة

مطلقة في السؤال عن ذاته وعن أحواله تصدق بصورة من صور ذلك. وقال بعض الشّيوخ: ومن ظنّي أن كلام سيبويه موافق لما قال ابن عرفة. قوله تعالى: {وَكُنتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ... } قال ابن عرفة: إن قلت ما الفرق بين هذا وبين ما تقدم في قوله تعالى: {ياأيها الناس اعبدوا رَبَّكُمُ الذي خَلَقَكُمْ والذين مِن قَبْلِكُمْ} وهل هو تكرار أم لا؟ قلنا: ليس بتكرار وتلك إرشاد للنظر في دليل الوحدانية والإيمان، وبعد (تقرر) (الإيمان) ذلك جاءت هذه توبيخا لمن نظر في الدليل ولم يعمل بمقتضاه. ابن عرفة: وفي قوله: {وَكُنتُمْ أَمْوَاتاً} دليل على أن الموت أمر عدمي، فإنه أخبر أنهم كانوا متّصفين بالموت حالة كونهم عدما صرفا، والوجود لا يجامع العدم على المشهور، وإنما يجامع وجودا مثله. قال ابن عرفة: وأتى في الدليل بأمرين: أحدهما (مروي) مشاهد، وهو وجودهم بعد عدمهم، وموتهم بعد ذلك ثم عطف عليه أمرا آخر نظريا لا يعلم إلا من جهة الرسل وهو حياتهم بعد ذلك، ورجوعهم إلى الله، والعطف يقتضي التسوية فهو إشارة إلى أن ذلك الأمر النظري اعتقدوه حقا كأنه ضروري (فليكن) (عندهم) مساويا للضرورة. ونظيره العطف في قوله تعالى {وَيَقُولُونَ ياويلتنا مَالِ هذا الكتاب لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا} (قالوا: أفاد عطف الكبيرة التسوية في الإحصاء بينها وبين الصغيرة فالمراد أنه لا يدع شيئاً إلا أحصاه). قال الزمخشري: فإن قلت: لم عطف «فَأَحْيَاكُمْ» بالفاء {ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} بثم؟ فأجاب بأن الإحياء الأول غير متراخ عن الموت، ولذلك كان الإحياء الثاني متراخ عن الموت ورده ابن عرفة: بأنّه إن أراد أول أزمنة الموت فالإحياء الأول متراخ عنه فهلا عطف بثم؟ (وإن) أراد آخر أزمنة الموت فالإحياء الثاني (عقيبه) من غير تراخ بوجه. قيل له: الإحياء الأول ليس بينه وبين الموت الذي قبله فاصل بوجه، وبينه وبين الموت الذي بعده فواصل، وهي التكاليف التي أمرنا الشرع بها. فلما كانت معتبرة شرعا جعل زمن الحياة (ممتدّا) متراخيا، فعطف عليه الموت بثم. قال ابن عرفة: هذا (يعكر) عليكم في قوله تعالى: {ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} لأنه ليس بينه وبين الموت الذي قبله أيضا فاصل. قال: وإن كان (يظهر) لنا الجواب عن ذلك السؤال بأن الموت الأول لسنا نشاهده، ولا (نحن) نعلمه إلا من جهة الخبر والعلم به إن تطاول زمانه يأتينا دفعة واحدة يجعل (كأنه شيء واحد والحياة الدنيا مشاهدة لنا ضرورية وزمانها لا نعلمه دفعة واحدة)

29

وإنما نعلمه شيئا بعد شيء إذ لا يدري أحدنا مقدار عمره ما هو؟ فالإماتة متراخية عنه فاعتبر (فيه) التراخي، والحياة الثانية أيضا إنما نعلمها من جهة الشرع وهو إنما أخبر بها بعد حصول الموت الأول وتقرره في جميع الناس حتى لا يبقى أحدهم منهم إلا مات فحياة أولهم موت متأخر عن موت آخرهم فاعتبروا فيها التراخي لهذا المعنى. قلت: وقرر بعض الشيوخ كلام الزمخشري بأن الموت الأول لا (بداية) له بوجه فهو عدم مستمر غير مسبوق بشيء فروعي فيه آخره وأنه شيء واحد فعطفت عليه (الحياة) (بالفاء) إشارة إلى سرعة التكوين والحياة الأولى (زمنها) متطاول والخطاب (بالآية) إنما هو (للاحياء) فهو مدة حياتهم، وقد بقيت منها بقية ولها مبدأ ومنتهى، فاعتبر فيها التراخي، والموت الثاني عدم مسبوق بوجود قبله ومرتفع بوجود بعده فهو (محصول له) مبدأ ومنتهى فُروعي أيضا فيه التراخي فلذلك عطفت عليه الحياة الثانية بثم والله أعلم. وأورد الزمخشري سؤالا على مذهبه (في اشتراط البنية) فقال: كيف قيل: لهم أموات في حال كونهم جمادا، وإنّما يقال: ميّت فيما تصح فيه الحياة من (البناء). وهذا على مذهبه اشتراط البنية وهي (البلة) والرطوبة المزاجية (ولا يرد السؤال على مذهبنا بوجه). قوله تعالى: {هُوَ الذي خَلَقَ لَكُم ... } أتت هذه غير (مفصولة) وحقها أن تكون مفصولة بحرف العطف لمغايرتها لما قبلها. لكن يجاب: بأنّها أتت تفسيرا ودليلا على الجزء الأخير من الجملة (المتقدمة) وهي قوله {ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} أي الدليل على (إعادتهم ورجوعهم) إليه أنه خلق جميع ما في الأرض ومن (قدر) على خلق الجميع اولا لا يستحيل عليه إعادتهم ثانيا. قيل لابن عرفة: أو يقال: الأول دليل على الخلق، وهذه دليل على العلم والأصوليون ما استدلوا على ثبوت العلم إلا بالخلق والقدرة؟ قال ابن عرفة: (والضمائر) منهم من قال: إنها كلية، وقيل: إنها (جزئية) والصحيح أنها بالإطلاق الأعم كلية (وأما بالاستعمال) الأخص فضمير المتكلم والمخاطب جزئيان وضمير (الغائب) إن عاد على كلي فهو كلي مثل الإنسان هو حيوان ناطق. وإن عاد على جزئي فهو جزئي مثل: زيد هو قائم. وقوله تعالى: «لَكُمْ»

قال الزمخشري: اللاّم للتعليل، وهو اعتزال. وقدره بعض المأخرين على مذهب أهل السنة بأنه مجاز والمراد بأن ذلك بحيث لو (صدر) من غيره لكان لأجل مصلحتكم (وانتفاعكم) وراعى في هذا الأمر المناسب الملائم للانسان. قال ابن عرفة: وهذا هو تعليل أفعال الله، وفيه خلاف، وأما أحكامه فمعللة. قال ابن عطية: واحتج بها من يقول: إن الأشياء على الإباحة و (قيه) ثلاث أقوال: ثالثها الوقف. وقال الطيبي: لا حجة في ذلك إذْ لعله خطاب المجموع بالمجموع وردّه ابن عرفة بوجهين: - الأول: أنه إحداث قول لم يقل به أحد، وهو أن بعض الأشياء على الحظر أي المنع، وبعضها على الإباحة. - الثاني: ان (المضمرات) كلّية لا كلّ (فالخطاب) بالمجموع لكل واحدة لا للمجموع. قال ابن عطية: ويرد على القائلين بلاباحة بكل حظر في القرآن وعلى القائلين بالحظر بكل إباحة في القرآن. قال ابن عرفة: هذا (يلزمهم) ولهم أن يقولوا: إن الأشياء على الحظر ما لم يرد النّص على الإباحة. ويقول: الآخرون على الإباحة ما لم (يقع) النص على الحظر. قال ابن عرفة: والقول بالوقف هو مذهب المعتزلة وهو المختار عند أهل السنة لكن ديلنا نحن يعارض الدّلائل السّمعية. ودليل المعتزلة (شبهة) تعارض الدلائل العقلية. (قال ابن عرفة): وهذا إن كان مجرد الإنعام والامتنان بالأمر الدنيوي فالمخاطبون (ب «لَكُمْ») غير داخلين في عموم ما في الأرض، وإن أريد به الاعتبار (الدّيني) فهم داخلون قال تعالى: {وفي أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ} قوله تعالى: {مَّا فِي الأرض جَمِيعاً ... } قيل لابن عرفة: هذا معارض لقوله تعالى: {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بالذي خَلَقَ الأرض فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَاداً ذَلِكَ رَبُّ العالمين وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَآ أَقْوَاتَهَا في أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَآءً لِّلسَّآئِلِينَ} قال ابن عرفة: خلق بعضها مجتمعا وبعضها (متفرقا) ووقع التنكير في هذه الآية (فما) خلق منها مجتمعا فهو أبلغ وأدل على كمال القدرة، لأن من قدر على أحداث أشياء مجتمعة في حالة واحدة (هو قادر على احداثها متفرقة شيئا بعد شيء من

باب أحرى. قلت: ووجه السؤال المتقدم أن ظاهر هذه الآية أن الأرض وما فيها خلقت مجتمعة في حالة واحدة، (وظاهر هذا) أنها خلقت مفرقة وجميعا هنا، فيقتضي الاجتماع في حالة واحدة، فوقع النصّ على ما خلق منها (مجتمعا)، (فقد قال أبو حيان: «جميعا» حال من الموصول، وهو ما أتى مجتمعا) وترادف كلا في العموم ولا تفيد الاجتماع في الزمان بخلاف جميعا. وعدها ابن مالك في ألفاظ التأكيد قال: ونبّه سيبويه على أنها بمنزلة كُلّ معنى واستعمالا واستشهد له أبو حيان بقول: امرأة ترقص ولدها. فداك حي خولان جميعهم وهمذان وكذلك آل قحطان والأكرمون عدنان (قال المختصر): فعلى رأيه تعرب جميعا هنا توكيدا للمفعول ونظيره قوله تعالى: {فَسَجَدَ الملائكة كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ} قال ابن عصفور: وفيها أن التأكيد بكل يقتضي الإحاطة، والتأكيد بأجمع يقتضي الاجتماع في حالة واحدة. قال ابن عرفة: وتقدم لنا الرد عليه أنه لو اقتضى الجمعية في الزمان للزم انتصابه على الحال. وكذا قال الزمخشري في قوله تعالى في سورة يس {وَإِن كُلٌّ لَّمَّا جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ} (الزمخشري) إن قلت: هذه الآية تقتضي تقدم خلق الأرض على خلق السماء، وقوله في سورة النازعات: {والأرض بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَآ} يقتضي تأخر (خلق) الأرض على (خلق) السّماء،) (والآيتان متعارضتان)؟ فالجواب: بأن (خلق الأرض متقدم على خلق السماء) ودحوها وتسويتها متأخر عن خلق السماء. ورده القاضي العماد بأن هذه الآية تقتضي تقدم (خلق) جميع ما في الأرض على خلق السماء، وخلق ما في الأرض متأخر عن (دَحوِها) وتسويتها بلا شك، فيكون دحوُها متقدما على خلق السماوات فما زال السؤال واردا. وكذلك قوله في فصلت: {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بالذي خَلَقَ الأرض فِي يَوْمَيْنِ} ثم قال: {ثُمَّ استوى إِلَى السمآء وَهِيَ دُخَانٌ} ولا جواب عنه إلا أن يكون ثم للمهلة المعنوية، وهي بعد ما بين المنزلتين. قيل لابن عرفة: أو يجاب بعكس ما قال الزمخشري، وهو أنه خُلِقت السماوات والأرض ملتصقة، ثم خلقت الأرض ودحيت، ثم فصلت السماوات وصيرت سبعا والله أعلم؟

30

فقال: هذا يمكن لكن (الأثر) الذي أورده هنا أنّ الأرض خلقت كالفهر وعلاها الدخان فخلقت منه السماوات يرده ما ذكره الشيخ الزمخشري ونقله عن الحسن وللفخر في الأربعين في ذلك كلام طويل وليس فيه خبر صحيح. قوله تعالى: {وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ ... } قال ابن عرفة: ({وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ} هذه لنا فيها وجه مناسبة لما قبلها) هو أنه لما قدم الامتنان عليهم بخلقهم وجعل الأرض لهم فراشا عقبه ببيان السبب فيهم وفي خلق أهلهم وهو آدم (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ). وقرر الطيبي وجه المناسبة بأمرين إما أنه ترّق فمن عليهم بأمرين خلقهم ثم خلق أباهم آدم عليه السلام. ورده ابن عرفة بأنّه داخل في عموم قوله {هُوَ الذي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأرض جَمِيعاً} قال: فما المناسبة إلا ما (قلناه). قال أبو حيان: والظرفية لازمة لإِذْ، إن يضاف إليها زمان نحو يَوْمَئِذٍ، {بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا} قال ابن عرفة: بل هو ظرف مطلقا إذ لا يمتنع إضافة الزمان وتكون من إضافة الأعم إلى الأخص أو الأخص إلى الأعم أو يكون بينهما عموم وخصوص من وجه دون وجه كقولك: جئتك في أول ساعة من يوم الجمعة فأول أخص من ساعة. وذكر أبو حيّان في إعراب «إِذْ» ثمانية أقوال، رابعها أنه ظرف في موضع خبر المبتدأ (تقديره) ابتدأ خلقكم إِذْ قَالَ رَبُّكَ. (ورده) ابن عرفة بأن زمن الابتداء ليس هو زمن هذه المقالة بل بعدها قال: فيكون الصواب أنّ تقديره (سبب) ابتداء خلقكم. قال: والأصح أن العامل فيها {قَالُواْ أَتَجْعَلُ}. قال ابن عرفة: يرد عليه أن قولهم ذلك إنما كان جوابا عن قوله تعالى {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرض خَلِيفَةً} فليس مقارنا له بل هو بعده بلا شك إلا أن يقال: إن ما قارب الشيء (له) حكمه وهذا مع قطع النظر عن الكلام القديم الأزلي لأنه يستحيل عليه الزمان ويستحيل نسبة (التقدم) والتأخر إليه. ق ابن عطية: قال ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: كانت الجن قبل بني آدم (في الأرض) فأفسدوا، وسفكوا الدّماء، فبعث الله إليهم قبيلا من الملائكة، فقتلت بعضهم وهربت باقيهم، وحصروهم إلى البحار، ورؤوس الجبال، وجعل آدم وذريته خليفة.

ابن عرفة: هذا يدل على أن الجنّ أجسام كبني آدم لأجل القتل والمبالغة فيه. قيل لابن عرفة: كيف يفهم هذا مع قوله تعالى {هُوَ الذي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأرض جَمِيعاً} إنّ اللاّم في «لَكُم» تقتضي اختصاصه بنا؟ فقال: لعل اللاّم هنا ليست للاختصاص ولو سلمنا أنها للاختصاص يكون ما في الأرض لهم، (ويلزم منه) كونه قاصرا عليهم فهو خلق لهم ولا ينافي أن يكون (خلقا) لغيوهم. قال ابن عرفة: وظاهره أنه (قيل) لهم ذلك مباشرة (ونص المحدثون) على أن الراوي إذا قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: إنه من قبيل المسند لكنه عندهم يحتمل السّماع مباشرة أو بواسطة (لكن الصحابي) إنما يروى عن صحابي فلذلك عدوّه من المسند، وفي هذه زيادة اللام (في) للمقول له كقولك: قال لي فلان: كذا. فهو أصرح في الدلالة على المباشرة من (الأول). قوله تعالى: {خَلِيفَةً ... } قال الحسن: سماه خليفة لأن كل قرن وجيل يخلفه الجيل الذي قبله والأول مخلوف وما بعده خالف. وقال ابن مسعود رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: معناه خليفة في الحكم بين عبادي بالحق (وبأوامري) يعنى آدم ومن قام مقامه من ذريته. قال ابن عرفة: إنما يتناول هذا الأنبياء فقط لأنهم هم الَّذين (يتلقون) الذكر مع الملائكة وغيرهم لا يرى الملائكة بوجه. قوله تعالى: {قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا ... } فسره ابن عطية بوجوه. قال ابن عرفة: أظهرها أن الملائكة طلبوا أن يكون الخليفة منهم، فأثنوا على أنفسهم وذموا غيرهم. قوله تعالى: {وَيَسْفِكُ الدمآء ... } هذا (العطف) كما هو في قوله تعالى {فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ} فجعله بعض الأصوليين من عطف الخاص على العام/، وجعله بعض المتأخرين من عطف (المقيد على المطلق)، وهو المعبر عنه بعطف الأخص على الأعم. قال: لأن «فاكهة» نكرة في سياق الثبوت فلا تعم، وكذلك الفعل هنا موجب فهو مطلق. قيل لابن عرفة: أخذ بعضهم من هذه الآية أنه يجوز للانسان أن يتحدث بما هو يفعل من أفعال الخير والطاعة، كما قال يوسف عليه السلام {اجعلني على خَزَآئِنِ الأرض إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} فقال ابن عرفة: ليس في هذه الآية دليل لأن الله تعالى عالم بكل شيء، فما أخبروه إلا بما هو عالم به، أو تقول إنما معنى الآية أتجعل فيها من يفسد فيها

31

ونحن إذ ذاك (نسبح) بحمدك ونقدس لك، ولا يمنعنا إفساده من ذلك لأن الملائكة معصومون فيكون استفهاما (عن) بقاء تسبيحهم (معه). واختلفوا في كيفية عصمة الملائكة فقيل: إنهم لا يستطيعون فعل الشر بوجه، وهو قول من فضّلهم على جميع بني آدم. وقيل: إنهم متمكنون من فعل الشر، وعصموا منه وهو الصحيح. قيل لابن عرفة: الجواب {إني أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} غير مطابق (للسؤال) لهذا التفسير. قال: (سألوا عن جزأين): وهما هل يكون الخليفة مفسدا؟ وهل يكونون إذ ذاك هم يسبحون؟ فأجيبوا عن الجزء الأول فقط. قوله تعالى: {وَعَلَّمَءَادَمَ الأسمآء كُلَّهَا ... } قال ابن عرفة: فيه دليل على أفضلية العلم، وأنه أشرف الأشياء، لأن الله تعالى جعل السبب في استحقاقه للخلافة كونه عالما مع وجود أن الملائكة شُرفوا بالقوة العملية وهي التسبيح والتقديس، ولكن القوة العملية لا تنفع إلاّ (بالعلم) وآدم أعلم منهم. وقال الله تعالى: {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} ((فهو يتناول المخلوقات كلها إذ لا ينبغي الكمال إلا لله فهو المختص بالعلوم، وليس فوقه شيء. وجعل بعضهم عمومها مخصوصا (خوف) التسلسل)). والصواب أنها باقية على عمومها، والقوقية أمر اعتباري. فإذا نسبت بعض الطلبة إلى بعض تجد أحدهم أعلم بالفقه، وآخر أعلم منه بالنحو، وآخر بأصول الدين، فيصدق أن فوق كل ذي علم عليم (بالإطلاق). ولقد اختلف الأصوليون في (واضع) اللّغة على (تسعة) مذاهب: الأول: مذهب الشيخ أبي الحسن الأشعري وابن فورك وأتباعهما أن الواضع هو الله تعالى وضعها، (ووقف عباده عليها) بأن علّمها بالوحي إلى بعض الأنبياء، أو خلق الأصوات والحروف في جسم وأسمع ذلك الجسم واحدا أو جماعة، أو خلق الأصوات والحروف في جسم وأسمع ذلك الجسم واحدا أو جماعة، أو خلق علما ضروريا لبعض الناس، (بأن واضعا) وضع تلك الألفاظ بإزاء تلك المعاني ثم الذي حصل له العلم بها علّم غيره كحال الوالدات مع (أولادهن) الثاني: أن الوضع اصطلاحي من الناس وهو مذهب أبي هاشم المعتزلي ومن وافقه. الثالث: قول الأستاذ أبي اسحاق الإسفراييني يعني أن البداية من الله (والتتمة) من الناس، وهو مذهب قوم، ونقل أيضا عنه قول آخر: إن القدر المحتاج إليه من الله وغيره محتمل نقله عنه

الشيخ ابن الحاجب في مختصريه الكبير والصغير وشمس الدين الدمشقي والقول الذي قبله نقله عنه ابن الخطيب في المحصول وتاج الدين في (الحاصل) والقرافي. الرابع: أن البداية (من الله) (والتتمة) من الله وهو مذهب قوم. الخامس: مذهب عباد ابن سلمان الصّميري المعتزلي أن (الألفاظ) تدلّ على المعاني بذواتها دلالة طبيعية من غير وضع. قال ابن يونس في العتق الأول في فصل ما يلزم من ألفاظ العتق وما لا يلزم ما نصه: واختلفوا فيمن أراد أن يقول ادخلي الدار فقال: أنت حرة أو أنت طالق فقيل: يلزمه ولا يعذر بالغلط وقيل: لا يلزمه. قال ابن عرفة: القول باللّزوم لا يتم إلا على مذهب عباد (الصميري) الذي يجعل بين اللفظ ومدلوله مناسبة طبيعية. قال القرافي: عزاه (الآمدي) لأرباب علم التكسير وهم أهل علم الرياض في الهندسة والمساحة من فنون الحساب وهذا تفريع على مذهب من يعتقد أن الحروف مشتملة على (الحرارة) والبرودة والرطوبة واليبوسة والخواص الغريبة وأنها صالحة لمداواة الأمراض وأحداثها. السادس: للقاضي أبي بكر الباقلاني والإمام فخر الدين في المحصول الوقف في الجميع إلا في فساد مذهب عباد. قال القرافي في شرح المحصول: قال المازري فائدة الخلاف في هذه المسألة يقع في جواز قلب اللّغة أما ما يتعلق بالأحكام الشرعية فقلبه محرم اتفاقا وما لا تعلق له بالشرع. فإن قلنا: إن اللّغة توقيفية امتنع تغيرها، وإن قلنا: اصطلاحية جاز تغيرها. وعلى القول بتجويز الأمرين وهو الوقف اختلفوا. فقال بعضهم: يجوز التغير ومنعه عبد الجليل الصابوني لاحتمال (التوقيف) (فإن الله) أوجب على السّامعين أن لا ينطقوا إلا بالموضوع الرّباني. وقال الغزالي في البسيط في كتاب النكاح: إذا أظهروا (الصدق) (البين) وعبروا بها عن ألف (الجمع) فيخرج جواز ذلك على كون اللّغة توقيفية أو اصطلاحية، انتهى: وقال ابن عبد النور في شرح الحاصل: منهم من قال: فائدة الخلاف لو سب أحد واضع اللغة وقال: هذه لغة سوء أو أن واضعها كذا، فإن قلنا أنها توقيفية (قتل) وإلا أدّب. وقال القاضي عبد الحميد بن أبي الدنيا: في شرح عقيدته ليس لهذا الاختلاف إلا فائدة واحدة وهي أنه إذا قال قائل: قتل فلان فلانا. فإن قلنا: إنه توقيف فيكون ذلك مجازا، وإن قلنا: اصطلاحا (فمن) لم يثبت (إلا فعل) الله يقول: أخطأ

المصطلحون لأن القتل والإحياء وكل فعل إنما هو بخلق الله وهو القاتل. وأبطل ابن الحاجب وغيره مذهب عباد بأنه لو كان بين الاسم والمسمى ارتباط طبيعي لما صح وضع اللفظ لشيء ونقيضه على سبيل البدل، وقد وجدنا القرء موضوعا للطهر والحيض وهما نقيضان (أو ضدّان) على طرفي النقيض وليس بين الشيء وضدّه أو نقيضه مناسبة طبيعية وقال ابن الحاجب: احتج الأشعرية بدليلين أحدهما قوله تعالى {وَعَلَّمَءَادَمَ الأسمآء كُلَّهَا} فأسند تعليمها ((إليه وكذلك الأفعال والحروف إذ لا قائل بالفرق ولو أنها كانت اصطلاحية لما أسند (تعليمها) إليه)) واعترض عليه بوجوه: الأول: أن ذلك (إعلام) لا تعليم أعني أنه فعل يصلح لأن ينشأ عنه العلم ولذلك يقال: علَّمته فتعلم (أو) لم يتعلّم. الثاني: أن المراد إيجاد العلم لكن المراد (تعلم) شيء ثبت باصطلاح قوم خلقهم الله قبل آدم فعلمه تلك الاصطلاحات السابقة كما يعلم أحدنا الطّلبة النحو والفقه (والطب). الثالث: لم (لا) يجوز أن يكون مراده الإعلام بحقائق الأشياء ومنافعها، مثل أن يعلّمه أن (حقيقة) الخيل (تصلح) لكذا، أو أنها (تصلح للركوب) (وللكرّ والفرّ) والجمل للحمولة ويعين ذلك قوله {ثُمَّ عَرَضَهُمْ} ولو (أريد) الأسماء لقلل عرضها واجاب الشّيخ ابن الحاجب عن الجميع بأن ذلك خلاف (الظاهر، لأن) الأصل (بالتعليم) إيجاد العلم (لا الإلهام) والأصل عدم اصطلاح سابق والمراد بالأسماء الألفاظ لا الحقائق لقوله جل ذكره: {أَنبِئُونِي بِأَسْمَآءِ هؤلاء} فأضاف الأسماء إلى هؤلاء، فلو كان المراد الحقائق للزم إضافة الشيء إلى نفسه والضمير في «عَرَضَهُمْ» للمسميات. قال ابن عطية: قال ابن عباس وقتادة ومجاهد: أي علّمه اسم كل شيء من جميع المخلوقات. قال ابن عرفة: في هذه العبارة نظر. والصواب ان كان يبدل (المخلوقات بالمعلومات) ليدخل تحتها (المعدوم) الممكن والمستحيل فإنه قد علمه اسمه وليس مخلوقا لله. قال ابن عرفة: وهذا بناء على أن المراد بالاسم التسمية لا المسمى.

32

قيل لابن عرفة: كيف فضل آدم عليهم مع أنّ الله علّمه ولم يعلمهم، وما كان تقوم الحجة عليهم إلا لو علّموا فلم يتعلّموا وعلّم آدم فتعلم؟ فقال في جوابه: هذا تفضيل من قبل ذات المعلم والتفضيل هنا وقع بالاختصاص من الله تعالى فقط قوله تعالى: {إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ}. اقتضت الآية أن الثابت في نفس الأمور صدق ذلك وهو عدم صدقهم مع أنهم معصومون من الكذب وغيره. وأجيب بأن الكذب عندنا هو الخبر غير المطابق لما في نفس الأمر سواء كان عمدا أو سهوا. قال ابن عرفة: لا يحتاج إلى هذا (وكانوا يجيبون عن) السؤال بأن الأصل الذي (يعرض) فيه التصديق والتكذيب منتف عنهم فإنهم لا يجيبون بشيء، (فلم يعتقدوا) خبرا (حتى) يقال فيهم: إنّ اعتقادهم مخالف لما في نفس الأمر فيكون الإخبار عنه كذبا، أو موافقا فيكون الإخبار عنه صدقا (بوجه). قوله تعالى: {قَالُواْ سُبْحَانَكَ ... } (أتى) (بالتنزيه) المقتضي لنفي ما (قد) يتوهم من (آن) الله تعالى طلب منهم الجواب عما علم أنّهم جاهلون به والواحد (منا) إذا سأل صاحبه عن مسألة يعلم منه أنّه (يجهلها) فإنه يتوهم فيه أنّه إنّما سأله اختبارا وتعجيزا له واستحقارا به. فقالوا: ننزهك (عن) أن ينسبك أحد لمثل هذا ويتوهم فيك شيئا منه. وأيضا يكون التسبيح نفيا للشبهة العارضة في تكليف ما لا يطاق لأن مذهبنا جوازه، وأن الله تعالى يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد. ومنعه المعتزلة لهذه الشبهة وهي حجة تكليف الله الخلق بما يعلم أنهم لا يقدرون عليه. قيل لابن عرفة: لعل مراد الملائكة تتزيهه عن عدم العلم الثابت لهم؟ فقال: ما قلت لكم أنسب. قوله تعالى: {إِنَّكَ أَنتَ العليم الحكيم} قال ابن عرفة: الوصف بالحكيم إشارة إلى الوجه الذي اختص به (آدم) بالعلم دونهم فمعناه: أنت تضع الأشياء في محلها أو يكون المراد (الامتنان) بالعلم ودليل العلم وهو الحكمة لأن الأصوليين عدوها من أسباب العلم.

33

قوله تعالى: {قَالَ يَآءَادَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَآئِهِمْ ... } قال ابن عرفة: إذا قدّم النداء على الأمر فيكون المراد تنبيه المخاطب واستحضار ذهنه لما يلقى إليه، وإن قدم الأمر على النداء كان ذلك دليلا على تأكيد طلبه وأنه هو (الاسم) (المقصود) كما ورد في الحديث الصحيح في غزوة بدر لما برز من صف المشركين عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة والوليد بن عتبة وطلبوا أن يكون المباشر (لهم) بالقتال مثلهم من بني عمّهم فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «قم يا حمزة، قم يا علي، قم يا عبيدة بن الحارث» وكذلك في حديث الأنصار حيث قام منهم خطيب فقال النّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «قل (يا أباحية)». قوله تعالى: {فَلَمَّآ أَنبَأَهُم بِأَسْمَآئِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ ... } (فإن قلت: هلاّ قيل: فأنبأهم بأسمائهم. فقال: {أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ} الآية؟ قلت: الجواب ما قال بعضهم: من أن حكمته الإشعار بترتيب المجازات على الفعل (فيؤخذ) منه جواز (الثناء) على الإنسان بما فيه من المحاسن لكن في غيبته لئلا يقع (في نفسه) كبر وعجب وإن كان (الإنسان) هنا سالما من ذلك. قال الطيبي: ويؤخذ من الآية أن علم اللغَة والحِكْمة أفضل من علم العبادة فضلا عن علم الشريعة/ لأن آدم عليه السلام فضل على الملائكة لاختصاصه بعلم الأسماء وهذا راجع إلى حفظ اللغة وهم لم يحتجوا إلا بكمال التسبيح والتقديس. فقال ابن عرفة: إنّما يؤخذ منه أن علم اللّغة له فضل وشرف لا أنه أفضل من العبادة. قال ابن عطية: قال بعض العلماء في قوله تعالى: {فَلَمَّآ أَنبَأَهُم بِأَسْمَآئِهِمْ} نبوءة (لآدم) عليه السلام إذ أمره الله أن ينبيء الملائكة بما ليس عندهم من علم الله عَزَّ وَجَلَّ. وكذا قال ابن الخطيب: إنّه احتجّ بها من قال: إنّ آدم عليه السلام رسول، ورد هذا (بوجوه): الأول: قال الفخر الرازي: الأنبياء معصومون وهو قد أهبط بعد ذلك من الجنة لأكله من الشجرة فلا يصح كونه رسولا. الثاني: قال ابن عرفة: الرسول مأمور بتبليغ التكاليف لأمته، والملائكة ليسوا مكلفين بإجماع، وأيضا فالتبليغ إنما هو مع الغيبة والله تعالى خاطب الملائكة خطاب مشافهة فلا فائدة في الإرسال إليهم. قوله تعالى: {قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إني أَعْلَمُ غَيْبَ السماوات والأرض وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ}.

34

قال ابن عرفة: كان الشيخ ابن عبد السلام رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى يقول في هذه الآية الكريمة: إنه لم يتقدم في الآية (التي قبلها) أنه قال لهم هذا لأن المتقدم إنما هو {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدمآء} إلى قوله {تعلمونَ} قال الشيخ ابن عبد السلام: ينبغي عندي أن يوقف عند قوله {أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ} أي (أَلَمْ) أَقُل لَّكُمْ إِنّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ. ثم يبتدئ: {إني أَعْلَمُ غَيْبَ السماوات والأرض}؟ قلت: والظاهر عندي أن الوقف عند قوله: {غَيْبَ السماوات والأرض} لأنّ {غَيْبَ السماوات والأرض}، لا يعلمونه هم فكأنه قال: إِنّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ويبتدئ {وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ} لأن هذا لا يتسلط عليه القول إذ لم يقله لهم أصلا. قوله تعالى: {مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ} قال ابن عرفة: عادتهم يوردون هنا سؤالا مذكورا في جنس الائتلاف وهو: لِمَ جَاءَ هذا هكذا (مع) صلاحية الأربعة أوجه إمّا حَذْف كان من الفعلين، أو ذكرهما فيهما معا أو ذكرها مع الأول دون الثاني، أو العكس. فلم اختص اختص بها الثاني دون الأول؟ قال: وتقدم لنا الجواب عنه بأنه قصد بالعطف التسوية بين علم الله تعالى الظاهر والخفي كما في قوله تعالى {مَالِ هذا الكتاب لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا} وعلم الأمر الظاهري في الحال أقرب من علم ما كان ماضيا في الباطن وجهل الأمر الماضي الخفيّ أشدّ من جهل الأمر الحالي الخفي (فقرن) علمه الظّاهر الّّذي في أعلى درجات (الجلاء) والوضوح بعلمه الأمر الخفي الباطن الذي في أنهى درجات الخفاء إشارة إلى استواء علمه فيهما، وأنه ليس بينهما عندي في ذلك تفاوت بوجه فلذلك قرنت كان ب «تَكْتُمُونَ» دون «تُبْدُونَ». قيل لابن عرفة: ولو (قصد) التّسوية لبدأ «بِمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ» لأن معرفة الخفي يستلزم (معرفة) الجلي، فلا تكون للعطف فائدة إلا التسوية وأما الآن فالعطف تأسيس وفائدة ظاهرة. قال ابن عرفة: جاء هذا على الأصل فلا سؤال فيه. قوله تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسجدوا لأَدَمَ}

قال: (اختلفوا) هل المراد السجود حقيقة أو الإيماء إليه أو الخضوع؟ وسبب الخلاف أن الخضوع بكون بأمور، ففسره بأقصاها وهو السجود لاستلزامه الخضوع فعبّر عن الخضوع بلوازمه وهذا (يشبه) ما قالوه (في تعارض) الحقيقة المرجوحة والمجاز، لأن القاعدة الثابتة المقررة في أن السجود حقيقة إنما هو بوضع الجبهة في الأرض فإطلاقه (هنا) على الخضوع مجاز راجح استصحابا لتلك القاعدة، وكون المراد به حقيقة هو نسبة المشبه، لكن (إِنْ) نظرنا إلى (أنّ) هذه الأمور جعلية شرعية فنقول: إنّ الله تبارك وتعالى أمر بالسّجود لآدم (فنأخذ) الأمر على حقيقته والمعتزلة على (قاعدة) التحسين والتقبيح يقولون: إن السجود ليس حقيقة بل هو بمعنى الخضوع. ومنهم من جعله تكرمة وجعل آدم كالقبلة فكما أن الصلاة للقبلة تكرمة لها فكذلك هذا، واحتج بعضهم بهذا أن الأنبياء أفضل من الملائكة. قال ابن عرفة: إنما يؤخذ منه تشريف آدم وتكرمته، لا أنه أفضل وإنما يلزم ذلك لو كان السجود له لذاته. ونقل ابن عطية: أن الأكثرين على الملائكة أفضل من بني آدم وعكس الفخر الخطيب. قوله تعالى: {فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ ... } حكى الآمدي في شرح الجزولية قولا: بأن الاستثناء من الإثبات ليس بنفي. قال الرازي في المعالم: اتفق الناس على أن الاستثناء من الإثبات نفي واختلفوا في العكس. قلت: وحصل بعضهم فيه ثلاثة أقوال: قيل: الاستثناء من النفي إثبات ومن الإثبات، نفي وقيل: ليس بإثبات وليس بنفي، وقيل: من الإثبات نفي ومن النفي ليس بإثبات. قال القرافي في شرح المحصول: ذهب بعض الأدباء إلى أن الاستثناء من الإثبات اثبات واحتج بقوله تعالى {فَسَجَدَ الملائكة كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلاَّ إِبْلِيسَ} أي فلو كان نفيا لما احتيج إلى قوله «أَبَى». وكان الشيخ ابن عبد السلام يرده بأنها أفادت أن امتناعه من السجود لم يكن لعجز (بعذر) ولا لأنه أكره عليه بل استكبارا وعنادا لعنه الله. وقال الآمدي: قيل أنه إثبات في الوجهين، وقيل: نفي في/ الوجهين، وقيل: من الإثبات نفي، ومن النفي ليس بإثبات. وقال الطيبي: إن الترتيب هنا معنوي وفي

قوله: {إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الجن فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} باعتبار اللفظ والأمر الحسّي الوجودي. قال ابن عطية: قال جمهور المتأولين: كان من الكافرين في علم الله تعالى. قال ابن عرفة: إن أرادوا أنّه إذ ذاك كفر بهذا الفعل وكان قبل ذلك مؤمنا (بالحسّ) (وكان) كافرا في علم الله تعالى وقيل: إنه كان كافرا بالحس، وشؤم كفره أوجب متناعه من السجود. واختلف هل كفره عناد (أم لا)؟ فمنهم من قال: يستحيل صدور المعصية من العالم حالة كونه عالما لأن العلم يقتضي ترجيح (طرق السلامة) (على طريق الهلاك) فأبطل الكفر عنادا وهي قاعدة الفخر وغيره. ومنهم من قال: إنّ كفره كان عنادا. قيل لابن عرفة: ويمكن تقرير هذا بما قالوا: من أنّ ارتباط الدليل بالمدلول هل هو عقلي أو عادي فقد يعلم الدليل ولا ينتج له العلم بالمدلول؟ فقال: نعم ولكن ما ذكروا (هنا) إلا الأول. قال ابن عطية: روى ابن القاسم عن الإمام مالك رَضِيَ اللَّهُ عَنْه إن أول معصية كاتت الحسد والكبر والشح، حسد إبليس آدم وتكبر عليه (وشح آدم في أكله من شجرة قد نهى على قربها). قلت: وهذا بعينه من كتاب الجامع الأول من العتبية. وقال فيه ابن رشد: الحسد من (الذنوب) العظام وهو أن (يكره) أن يرى النعمة على غيره، ويتمنى انتقالها عنه إليه، والغبطة أن يتمنى مثلها فقط مع بقائها عند صاحبها فالغبطة مباحة والحسد محظور قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «لا حسد إلا في اثنين رجل أتاه الله القرآن فهو يقوم به آناء الليل وأطراف النهار، ورجل آتاه الله مالا فهو ينفق منه آناء اللّيل وأطراف النهار» انتهي. والاستثناء في الآية منقطع. ومنهم من يرى الحسد على وجهين: - محظور إن كان فيه (بغي). وهو أن يريد الإضرار (بالمحسود) بزوال النعمة عنه. - وجائز إن لم يكن معه بغي كالحسد في الخير فإنه مرغب فيه إذ لا بغي فيه والحسد في المال إن لم يكن معه بغي جاز: والشح قسمان: فالشح بالواجبات حرام، وبالمندوبات مكروه. قال: وقوله في آدم «فَشَحّ» أي فَشح أن يأكل من ثمار الجنة التي أباح الله له الأكل منها فلم يأكل منها (ابقاء عليها) وشحّا بها.

35

قوله تعالى: {وَقُلْنَا يَآءَادَمُ اسكن أَنتَ وَزَوْجُكَ ... }. قال ابن عرفة: (الجمع) من قوله تعالى، وزيادة «قلنا» في بعض الآيات تنبيها على تشريف القول وتعظيمه والاهتمام به. فرد عليه بقوله تعالى: {وَقُلْنَا لَهُمُ ادخلوا الباب سُجَّداً} {قُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ} والتعظيم للقول لا للمفعول له، ففيه تهويل وتفخيم لذلك الأمر. والسكنى لا تفيد التأبيد. قال في المدونة في أواخر كتاب الهبات: ومن قال لرجل: داري هذه لك صدقة سكنى فإنما له السكنى فقط دون رقبتها، وأما إن قال هذه الدار لك ولعقبك سكناها فإنها ترجع إليه ملكا بعد اتقراضهم. فإن مات فأولى الناس به يوم مات وإلى ورثتهم لأنهم هم ورثته. قال ابن عطية: اختلف (مَتَى) خلقت حواء من ضلع آدم؟ ثم قال: عن ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما أنه سألوه لم سميت حواء؟ قال: لأنها خلقت من حي. ق ابن عرفة: قال بعضهم: المناسب لهذا أن (كان) يكون اسمها حيا؟ وأجيب بأنه اشتقاق أكبر، ومنهم من قال: سميت حواء لأن امرأة الرجل تحوي عليه وتستحمله، فيدخل طوعها ويسمع منها في أغالب أمره. قوله تعالى: {وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً ... }. قال ابن عرفة: رأيت تأليفا للشيخ عزّ الدين بن عبد السلام في إعجاز القرآن وغيره قال: إنه على حذف مضاف تقديره: وكُلاَ من ثمارها رغدا. قال ابن عرفة: هذا إن اعربنا «رغدا» نعتا للمصدر فتكون «من» للتبعيض والثمر ليس هو بعض الجنة إنما الجنة هي الأشجار والأرض بدليل أن من باع جنة فيها ثمر قد أبرّ فإنه للبائع ولا يتناوله البيع إلا بالشرط فليس الأكل من الجنة. قيل لابن عرفة: هذه حقيقة شرعية؟ فقال الأصل موافقة الشيء للغة حتى يدل الدليل على خلاف ذلك. قال وإن أعربنا «رغدا: (نعنا) للمفعول مقدرا أي {وَكُلاَ مِنْهَا} (مأكولا) رغدا وتكون» من «للغاية أعني لابتدائها وانتهائها فلا يحتاج إلى تقدير المضاف وقال في الأعراف {وَيَآءَادَمُ اسكن أَنتَ وَزَوْجُكَ الجنة فَكُلاَ مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا} فعطف بالفاء وهنا بالواو. قال ابن عرفة: يجاب بأن تكون هذه نزلت قبل تلك الاية فعبر هنا باللَّفظ الأعم وهو الواو المحتلة لأن يكون الأكل عقب السكنى وبعدها بتراخ ثمّ

36

خوطب هناك باللفظ الأخص الدال على إباحة الأكل بعقب السكنى ليكون الكلام تأسيسا مقيدا. وأجاب الفخر في درة التنزيل: بأن الأكل من الموضع لا يكون إلا بعد دخوله له إما قبل سكناه أو بعده والأعراف وردت بعد قوله: {اخرج مِنْهَا مَذْءُوماً مَّدْحُوراً} (خطابا للشيطان) ثم قال: {وَيَآءَادَمُ اسكن أَنتَ وَزَوْجُكَ الجنة} معناه: ادخلْها أنت دخول سكنى وهي الإقامة مع طول مكث فناسب العطف بالفاء لأن (الدّخول) متقدم في الرتبة على الأكل وآية البقرة لم يتقدم فيها ما يدل على الدخول، فالمراد اسكن حقيقة. وتأخر الأكل على السكنى ليس بلازم. قوله تعالى: {حَيْثُ شِئْتُمَا ... } قال ابن عرفة: / قالوا: إنه على التوزيع أي يأكل واحد منكما من حيث شاء، لأن الأكل متوقف على اجتماعهما معا على المشيئة لأن المضمرات عندنا كلية (وصيغة) الأمر هنا للامتنان، وعبر عنه ابن عطية بالإذن. قال الشيخ الفخر: إمّا للندب أو الإباحة والظاهر ما قلناه. قوله تعالى: {وَلاَ تَقْرَبَا هذه الشجرة ... } قال ابن عطية: قال بعض الحذاق: إن الله لما أراد النّهي عن أكل الشجرة نهى عنه بلفظ يقتضي الأكل والقرب منه. قال ابن عطية: وهذا مثال لسد الذرائع. قال ابن عرفة: فرق بين سد الذرائع وبين النّهي عن الشيء لأجل غيره وهو النهي عما هو سبب في غيره، فسد الذرائع هو الامتناع مما لم ينه عنه خشية الوقوع في ما نهى عنه، ومنها (بياعات) الآجال المختلف فيها التي هي ذريعة للوقوع في المحرم ولولا أنّها مختلف فيها ما كان ذريعة فالذريعة (هنا) هو أن يقارب قرب الأكل من الشجرة لأنه نهى عن قرب القرب. قال ابن الخطيب: والنّهي على الكراهة. قال ابن عرفة: بل على التحريم لقوله {وعصىءَادَمُ رَبَّهُ فغوى} والظلم الخروج عن الحد إما بكفر أو ارتكاب أمور أدناها الصّغائر. قوله تعالى: {فَأَزَلَّهُمَا الشيطان عَنْهَا ... } أي فسكنا، وأكلا حيث شَاءَا، فأَزَلَّهُمَا، فسَّرُوهُ بأمرين إما (أوقعهما) في الزلَّة والإثم فالضمير في «عنها» للجنة، أو للشجرة فهو معنوي، وإما حسي من الزوال فالضمير في «عنها» للجنّة. وقرأ حمزة، فَأَزَلَّهُمَا وهو نص في الزوال الحسي فتكون (مرجّحة) (لإرادته) في القراءة الأولى.

قال ابن عطية: لما دخل إبليس لآدم سأله عن حاله فقال (له): ما أحسن هذا لو أن خلدا (كان) فوجد به السبيل إلى إغوائه. قال ابن عرفة: هذا إلهام (للنطق) بما وقع في الوجود حيث قال ابليس {هَلْ أَدُلُّكَ على شَجَرَةِ الخلد} كما قال يعقوب عليه السلام لبنيه {وَأَخَافُ أَن يَأْكُلَهُ الذئب وَأَنتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ} فقالوا له: {إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِندَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذئب} (وكما قال الشاعر: احفظ لسانك أن تقول فتبتلى) إنّ البلاء موكل بالمنطق وأكله من الشجرة إما لظنه أنّ النهي للكراهة أو المنهي عنها شجرة واحدة بالشخص وهذه من نوعها فقط. زاد ابن عطية: إن حواء سقته الخمر فأكل في حال السكر. قيل لابن عرفة: خمر الجنة لا يسكر فقال: إن تلك الجنة (التي) من دخلها (يؤمّن) من الخروج (منها) ولعلّ هذه إذ ذاك (كان) خمرها مسكرا. قلت: أو كان الخمر من غيرها وأدخل (فسقي منها) قال: ومذهب مالك أنّ جميع ما يصدر عن السّكران من طلاق وقذف وقتل وزنا وسرقة كلّه يلزمه ويؤاخذ به وهي (أول) مسألة في العتبية من النكاح الأول. قيل له: إنما هذا اللزوم بعد تحريم الخمر وقد كانت حينئذ حلالا فيعذر شاربها؟ فقال: حفظ العقول من الكليات الخمس التي اتفقت جميع الملل عليها فالسّكر حرام وإنما يجوز فيها ما لا يسكر. قوله تعالى: {وَقُلْنَا اهبطوا ... }. الأنسب أن يكون الخطاب بواسطة وهو الأغلب فيمن يواقع الأمر المرجوح. قوله تعالى: {بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ... } ابن عطية: هو في موضع الحال فألزمه أبو حيان أن تكون العداوة مأمورا بها لأن الحال داخله في الأمر. وأجاب ابن عرفة: بأن ذلك حيث يكون الحال غير (واقعة) حين الخطاب بالأمر (إلا) إذا كانت واقعة فالأمر بها تحصيل الحاصل كقولك: وزيد (ضاحك). أكرم زيدا ضَاحِكا. والعداوة حينئذ بين آدم وإبليس موجودة. أو تقول: إنها مأمور بها ولا يلزم عليه شيء لكن هذا إن كان إبليس داخلا في الأمر. قال ابن عطية: المخاطب بالهبوط آدم وحواء وإبليس والحية؟

37

وقال الحسن: آدم وحواء والوسوسة. قال: (ابن عرفة: أي عدو الوسوسة). وقال غيره: والحية. لأن إبليس قد كان إهبط. قال: وإذا قلنا: (إنّ) الأمر لآدم وحواء وإبليس، فيكون في الآية دليل على جواز إطلاق (لفظ البعض) على أكثر من النصف. قوله تعالى: {فتلقىءَادَمُ ... }. معطوف على قلنا: والفاء للتعقيب أي (يعقب) إن قلنا له ذلك تلقّى فهي إشارة إلى سرعة إلهام الله تعالى له المبادرة بالتوبة. قال ابن عطية: تلقاها إما بإقباله عليها أو إلهامه إليها. قال ابن عرفة: والإلهام إما حضور ذلك (بباله) من (غير) تكلّف نظر أو علمه بها بعد تكلّف النّظر. قال: والتفعل يقتضي إمّا (تكلف) الفعل بمشقة وإما للتَّناهِي إلى أعلى درجاته وهو هنا يحتمل الأمرين وتقدم المجرور للتشريف. وقرأ ابن كثير: «آدَمَ» بالنّصب «وكَلِمَاتٌ» بالرفع. قال ابن عرفة: قراءة الجماعة بالرّفع ظاهرة لأنه هو فاعل التلقي (فكلفه) التلقي والقصد إليه و (إمعان) النظر (فيه ظاهر)، وأمّا قراءءة ابن كثير فتقتضي أن آدم عليه السلام أتاه التلقي هجما من غير نظر، فيمكن (فهمه) على أنه أتته أَوَائِل درجات النظر بالبديهة لأن المعقولات فرع المحسوسات، فأول درجات النظر مدرك معلوم بالبديهة لا يفتقر إلى تقدم شيء قبله (لئلا) يلزم عليه التسلسل، وتنكير «كلمات» للتشريف والتعظيم كما قال الزمخشري في قوله تعالى: {والفجر وَلَيَالٍ عَشْرٍ} وقال: نكّرت لأنّها معيّنات معلومات فرد عليه/ بمنافاة التنكير للتعيين. وأجيب بأنها لشرفها وعظمها صارت معلومات في الذهن فلم تحتج إلى تعريف وكذلك هنا. قوله تعالى: {إِنَّهُ هُوَ التواب الرحيم} تنبيه على أن توبته (لا تخص آدم) بل توبته ورحمته عامة. قوله تعالى: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدىً ... } قال الزمخشري: إن قلت لم جِيءَ بكلمة الشك وإتيان الهدى كائن لا محالة لوجوبه، قلت: فائدته الإعلام (بأن الإيمان) بالله (وتوحيده) لا يشترط فيه بعثة الرسل؟ قال ابن عرفة: هذا السؤال إنما يرد على مذهبه لأنه يقول: إنّ إرسال الرّسل واجب عقلا. وجوابه ضعيف، بل هو مؤكد للسؤال (وبيانه) أن يقول: إتيان الهُدى محقق الوقوع إمَّا من جهة العقل المقتضي لوجوب بعثة الرسل، (أو) من جهة (الوجود) الخارجي لأن التوحيد موجود (فإتيان) الهدى محقق. قال: فحقه (كان) أن يجيب بما (عادته) أن (يجيب) به. وهو أنّ هذا على عادة الملوك (في

39

خطاباتهم أن يعبروا عن الأمر المحقق الوقوع باللفظ المحتمل) لأن خطاباتهم كلّها محققة. وأجاب الطيبي: أن الشك راجع (إلى اتّباع الهدى) لا إلى نفس الهدى والإتباع غير محقق. قال ابن عرفة: وهذا كله لا يحتاج إليه على مذهبنا لأن إرسال الرسل إنما يجب (عندنا) بالشرع لا بالعقل، ولم يكن حينئذ شرع بوجه فكان الأمر محتملا. قال الطيبي: أكد أول الفعل ب «إما» وأخره بالنون الشديدة. قال ابن عرفة: قد قالوا في قول ابن دريد في مقصورته: أما ترى رأسي (حكى) لونه ... طرّة صبح تحت أذيال الدجى («إما» زائدة للتأكيد) ونابت مناب تكرير الفعل فكأنه قال: إنْ تَرَ تَرَ. وكذلك هنا تأكيد أوله مناف تكريره وتأكيد آخره راجع إلى تحقيق وقوعه وتثبيته. قوله تعالى: {فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} قالوا: سبب الخوف مستقبل وسبب الحزن ماض فإن قلت: على هذا كان يقال: فلا (حزن) عليهم ولا يخافون فهو أرتب ليعبر عن المستقبل (بصيغة) المستقبل. (قال): فالجواب عن ذلك أنه إشارة إلى (تكرر) الحزن منهم المرة بعد المرة، وتذكر الإنسان أمرا (مضى) أقرب من تذكره أمرا مستقبلا وتأسفه على الماضي المحقق الوقوع أشد من حزنه على المستقبل، لأنّه (يتكرّر تذكره الماضي) شيئا بعد شيء، (بل) فمهما تذكره يحزن عليه فعبر عنه بالفعل المقتضي للتجدد وليس كذلك المستقبل بوجه. قوله تعالى: {والذين كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَآ ... }. قال ابن عطية: أفاد قوله «كذّبوا» أن المراد (بالكفر) (الشرك) فيخرج (كفر) النّعم والمعاصي. قال ابن عرفة: وفي الآية عندي حذف التقابل والمعنى: فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَأوُلئِكَ أَصْحَابُ الجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ، وَلاَ خَوْفَ عَلَيهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ (أي لا حزن عليهم) وَالَّذينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُوْلئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ وعليهم الخوف وهم يحزنون. قوله تعالى: {وَءَامِنُواْ بِمَآ أَنزَلْتُ مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَكُمْ ... }. قال ابن عرفة: الظّاهر أن المراد به تصديق (الرّسل والإيمان بهم) والمراد بقوله «وَأَوْفُواْ بِعَهْدِي» الإيمان بالله وتوحيده. والعهد يوم {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ} قيل لابن عرفة: الإيمان (بالرسل) يستلزم التوحيد؟ فقال: الصحيح أن التوحيد واجب بالعقل لا بالسمع. فقال الطيبي: هذا من عطف الخاص على العام (أو من عطف الأخص على الأعم) لأن الوفاء بالعهد مطلق. قوله تعالى: {وَلاَ تكونوا ... }. دليل لمن يقول: إن الأمر بالشيء ليس نهيا عن ضده، لأنه داخل في ضمن قوله {وَءَامِنُواْ}. قال ابن عطية: وهذا (من) مفهوم الخطاب الذي المذكور فيه والمسكوت عنه حكمها واحد. قال ابن عرفة: (بمعنى) أنه يدل بمفهوم الموافقة، وهو مفهوم أحرى على (النهي) على كفرهم (على الإطلاق). قال ابن عرفة: ليس هذا مفهوم الموافقة (وإنّما هو فهم مثل الحكم) المنطوق به في المسكوت عنه، ذكره

44

ابن التلمساني في المسألة السابعة من باب الأوامر (ونسبه) إلى ظن وقطع. قال الزمخشري: ومعنى الآية: ولا تكونوا مثل أول كافر به. قال ابن عرفة: إنما قال ذلك لأن كفرهم به قد وقع في الوجود إما قبل كفر غيرهم أو بعده، فالنهي عنه من تكليف ما لا يطاق وهو (عنده) غير جائز فلذلك قدر المضاف. قوله تعالى: {وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً ... }. عظم الآيات بالجمع والإضافة إليه إضافة تشريف وحقر الثمن بالإفراد، والوصف بالقلة، فهو حقير في قدره (وفي صفته). قوله تعالى: {أَتَأْمُرُونَ الناس بالبر ... } الاستفهام معناه التقرير والتوبيخ. قال ابن عرفة: فرق بعضهم بينهما بأن التقرير لمن أنعمت عليه ولم يحسن إليك. والتوبيخ لمن أحسنت إليه وأساء إليك. وجمع الأنفس جمع قلة تحقيرا لها، لأن الآية خرجت مخرج الذّمّ، والواو في «تنسون» يجب (أو يترجح) أن يكون واو الحال (إذ) لو لم تكن من تمام (الأول) للزم عليه تسلط الإنكار على كل واحدة من الجملتين على انفرادها، والأمر بالمعروف مطلوب شرعا لا يوبخ أحد (على) فعله فما الإنكار إلا على من يأمر بالبر حالة عدم اتصافه به. فإن قلت / المضارع لا يقع حالا إلا بغير واو إلاّ فيما شذّ من قولهم: (قمت وأصك عينه)؟ قلنا: هو على اضمار المبتدأ أي وأنتُمْ تَنسَوْنَ أنفُسَكُمْ. (قيل) لابن عرفة: لعل الإنكار تسلط على الجمع بين الأمرين أي أتجمعون بين الأمر بالبر ونسيان أنفسكم؟ (فقال): ظاهر اللفظ بالاتصاف أن دلالته على ذلك المعنى إنما هو من ناحية كون تلك الجملة حالا فقط. قلت: وأيضا فما يدل على إنكار الجمع بينهما إلا لو كان «تنسون» منصوبا كما قالوا في: لاَ تَأْكُلِ السَّمَكَ وَتَشْرَبِ اللَّبَنَ. قوله تعالى: {وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الكتاب أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} أي العقل الذي يصدكم عن ارتكاب ما منع الشرع منه وهو العقل النافع وليس المراد العقل التكليفي لأنه ثابت، وهذا هو الذي اختص منه منتفٍ عنهم لأن المعنى: أتجهلون فلا تعقلون؟ انتهى. قوله تعالى: {وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الخاشعين}. الإعلام بذلك حين التكليف ليكون المكلّف على تأهّب وبصبرة فلا يظهر له حين العمل الا ما دخل عليه، والخشوع هو استحضار التقصير في العمل وفق المجازاة عليه. قلت: بل الخشوع رقة في القلب سببها الخوف، وانظر في أسئلة الشيخ ابن رشد في أول مسألة من كتاب الصلاة.

46

قوله تعالى: {الذين يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُواْ رَبِّهِمْ ... }. قالوا: معناه يعلمون. قال ابن عرفة: (الذي يظهر) لي أن الظنّ على بابه مصروف لزمن (الملاقاة) أي هم يستحضرون الموت ويظنونه في كل زمن واقعا بهم. قال القشيري أبو طالب: إنّ أبا بكر وعمر جلسا ذات يوم مع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فقال أبو بكر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: إني إذا أصبحت ما أدري هل أمسي أم لا؟ وقال سيّدنا عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: إذا أمسيت لا أدري هل أصبح أم لا؟ فقال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: وإذا صعدت النفس لا أدري هل أرده أم لا؟ (لأنهم يعتقدون المعاد علما لا ظنّا. فقال: يكون مثل: علفتها تبنا وماء باردا، وتعلمون أنّهم إليه راجعون). قال ابن عرفة: فإن قلت: جاء في الآية التصديق قبل التّصور لأنه حكم على الخاشعين بأن الصلاة ليست عليهم كبيرة قبل أن يبين حقيقتهم وما أراد بهم. فالجواب أَنّا (إذا) جعلنا {الذين يَظُنُّونَ} نعتا للخاشعين فلا سؤال، لأنه من تمامه وكأنه شيء واحد، وإن جعلناه مقطوعا للرفع أو للنصب فالسؤال وارد. قلت: وتقدم لنا غير مرة أن التصور باعتبار حقيقة الماهية والإحاطة بها لا يشترط تقدمه على التصديق. قوله تعالى: {يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اذكروا نِعْمَتِي التي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ ... }. الذكر باللسان والقلب. واختلفوا في الذكر باللسان فقط هل هو معتبر (أم) لا؟ ووجه مناسبتها لما قبلها أن الله تعالى كلفهم بالصلاة (وأعلمهم) بمشقتها وكان ذلك سببا في قنوطهم (وإياسهم)، وقلة (طمعهم) في الوفاء بها والخروج من عهدتها، وعقب ذلك ببيان أن الله تعالى منّ عليهم نعما في الماضي فليتذكروها لتذهب عنهم الأمور العادية، ويكونوا على بصيرة من الطمع والرجاء في فضل الله تعالى وإنعامه عليهم في المستقبل بالإعانة على تحصيل تلك العبادة من غير مشقة (وجهد). قال: وإنما نسبهم إلى يعقوب إن كان لهم أجداد غيره أنبياء لأنه أقرب جدّ إليهم. لأن يعقوب ابن إسحاق بن إبراهيم عليه السلام وعليهم. قال الله تعالى: {وَلَقَدْ جَآءَتْ رُسُلُنَآ إِبْرَاهِيمَ بالبشرى} ثم قال {وامرأته قَآئِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِن وَرَآءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ} فإن قلت: ما الفائدة في قوله: {التي أَنْعَمْتُ (عَلَيْكُمْ}) ولو أسقطت لقيل: اذكروا نعمتي (عليكم) لما اختل المعنى؟ فالجواب: أنه أفاد اختصاص تلك النعمة بهم، وأنهم مقصودون بها، أي اذكروا نعمتي التي جعلتها خاصة لكم، لأنه أنعم عليهم نعما كثيرة، وذكرهم بما اختصهم به منها دون ما (شاركهم)

48

الغير (فيه)، وأيضا فالإنعام على الشخص يطلق على ما ناله مباشرة وبواسطة كالإنعام على قريبه وصديقه (فذكّروا) بما أنالهم من النعمة مباشرة. قوله تعالى: {وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى العالمين}. قال ابن عطية: أي على (عالمي) زمانهم. قال الزمخشري: أي على الجمّ الغفير. قال ابن عرفة: جعله ابن عطية عاما في الأشخاص، خاصا في الأزمان (وجعله) الزمخشري بالعكس، والتخصيص في الزمان أولى لأن العام في الأشخاص مطلق في الأزمنة والأحوال، وفرق المنطقيون بين الكلية الدائمة والكلية المطلقة. (قرره) ابن عرفة مرة أخرى فقال: الألف (واللام) عند ابن عطية للعهد، وعند الزمخشري للجنس، ونظيره كقولك: كل إنسان أبيض، إن أردت (اعتبار) الأمر الذهني فهو كاذب، وإن (كان) باعتبار الوجود الخارجي فهو صادق إذا كان أهل زمانك كلهم بيضا. زاد الفخر الرازي: أنه عام في الأشخاص والأزمان / مطلق في أنواع التفضيل. فلعلّهم فضّلوا عليهم (لفرع) واحد إما بالتنصيص على أن منهم الأنبياء والملوك قال تعالى {وَإِذْ قَالَ موسى لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ اذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنبِيَآءَ وَجَعَلَكُم مُّلُوكاً} فقال ابن عرفة: «هذه دلالة ظاهرة (وليست نصا) ولا ينبغي أن يصرح بكونهم أفضل من أمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ولا في خصلة واحدة. قال ابن عرفة: والنعمة تحتمل أن يراد بها أمر حسي والتفضيل معنوي فيكون الكلام تأسيسا، أو أن يكون عاما في جميع النصح فيكون وأنّي فضلتكم من عطف الخاص على العام أو مطلقة تصدق على واحدة غير معينة فيكون من عطف الأخص على الأعم وهو المقيد على المطلق. قوله تعالى: {واتقوا يَوْماً ... }. أي اتّقوا عذاب يوم. قال ابن عرفة: لا بد من تقدير (هذا) المضاف لأن اليوم إن أعربته مفعولا لزمك تكليف ما لا يطاق لأن يوم القيامة لا بد لهم منه، فلا يصح تكليفهم بأن يجعلوا بينهم وبينه وقاية، وإن أعربته ظرفا لم يصح أمرهم بالتقوى فيه لأنّه ليس محلا. قوله تعالى: {لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ ... }. أي جزاء (تستقل به فيبطل استدلال المعتزلة بها على نفي الشفاعة العظمى أو الجزاء راجع إلى) النصرة لأن الإنسان لا (يفزع) إلى الشفاعة إلا إذا لم يقدر على النصرة لا بيده ولا بجنده، فإن علم أنه عاجز تشفع، فإن لم يقبل منه افتدى بالمال. قال ابن عطية: وهذه إنما هي في الكافرين للإجماع ولتواتر الحديث بالشفاعة. قال ابن عرفة: قال ابن الصلاح: لم يصح من (أحاديث) الشفاعة غير حديثين. قال ابن عرفة: فعلى هذا يكون التواتر فيها معنويا لا لفظيا

49

لتواتر شجاعة عليّ وجُود حَاتم. وقال هنا: {وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ} (وفي الآية الأخرى) {وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ} فأخّر (الفداء) بالمال هنا عن الشفاعة وقدمه (هناك). قلت: ولقد أجاب الفخر الخطيب (عن ذلك) بأنّ ذلك على حسب حال الناس فواحد يرغب في المال (ويشح به) فيأتي بالشفيع، وآخر يرغب في (الجاه والحرمة) فيهون عليه (بذل) المال صيانة لحرمته. وأجاب الفقيه أبو جعفر أحمد بن ابراهيم (ابن الزبير) العاصمي الثقفي بأن هذه الآية تقدمها {أَتَأْمُرُونَ الناس بالبر} مظنة الامتثال والقبول فيكون مظنة لترجي الأمرين بالبر، (وأن يشفع) فيهم يوم القيامة من امتثل أمرهم ألا ترى قوله تعالى في المنافقين {يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ} فقد نسبوا المؤمنين بالكون معهم فأحرى أن يتعلق هؤلاء بالحظ على الخير والدلالة عليه فكان الآكد هنا نفي الشفاعة، فبدأ (به) ولم يتقدم في الآية الأخرى ما يستدعي هذا فبدأ بالفدية التي عهد في الدنيا أنها أمكن في التّخلص. قال ابن عرفة: واحتجّ بها المعتزلة على إنكار الشفاعة وحملها أهل السنّة على أنها في الكفار خاصة (بهم) لما تقدم. قال الإمام الرازي: بل هي حجة على المعتزلة. قال ابن عرفة: لا يُنْفَى إلا ما هو قابل للنفي والكفار ليسوا بقابلين للشفاعة بوجه بخلاف العصاة. وأجاب ابن عرفة: بأنهم قابلون لها باعتبار الدّعوى لقولهم: {هؤلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ الله} فقد ادعوا أن لهم شفعاء. قوله تعالى: {وَإِذْ نَجَّيْنَاكُم مِّنْءَالِ فِرْعَوْنَ ... }. قال ابن عرفة: معطوف على «اذْكُرُوا» (عطف الجملة) أو على «نِعْمَتِيَ» (فالعامل) فيه «اذْكُرُوا» (المتقدم) على الفعل في المفعول به، أو عطف على «عَلَيْكُمْ» (فالعامل) فيه «أنعمت» (عمل) الفعل في الظرف. قلت: وهذا (باطل) لأن «أنعمت» في صلة الموصول فكذلك معمولها وما عطف عليه وقد (فصل) بينهما بأجنبي وهو {واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا} قوله تعالى: {يَسُومُونَكُمْ سوء العذاب ... }. قال الطيبي: السّوم مفرد في اللّفظ مركّب في المعنى لأنه طلب (البغي) على الغير فمعناه مركب من الطلب (والإضرار) بالغير. قال ابن عرفة: لا يسمى هذا مركبا إنما المركب عندهم (ما كان) كلفظ مركب ولفظ مجمل ولفظ النسبة. (فإنها) لا تعقل إلا بالشيئين المناسبين. قال ابن عطية: وإنما نسب الفعل إلى (آل فرعون وهم) إنما فعلوه بأمره (لمباشرتهم ذلك). قال الطبري: إن من أمره ظالم بقتل أحد فقتل إنه المأخوذ به (لا) الآمر. قال ابن عرفة: هذا هو المشهور عندنا وذكره الشيخ ابن رشد في البيان والتحصيل وأظنه في كتاب السلطان واللّخمي في (الغصب) وذكره ابن يونس فر فروع آخر الغصب عن ابن أبي زيد (من أخبر لصوصا أو غاصبا بظهر رجل، ومن

قدّم رجلا إلى ظالم إنّه يغرمه مالا يجب عليه، انظرها)، وفي الحج الثالث إذا دل محرم على صيد محرما أو حلالا فقتله المدلول عليه فلا شيء على الدال وإن أمر بقتله فعليه جزاء واحد وإن كان المأمور عبدا وإلاّ فلا. هذا هو المشهور. ونقل ابن يونس عن أشهب في كتاب ابن المواز: أنه إن دل محرما على صيد فقتله فعلى كل واحد منهما جزاء وإن دل حلالا فلا شيء على الدال. وقال التونسي: الصواب بأن الجزاء لئلا يبقى الصيد بلا جزاء لأنه إذا وجب (الجزاء) حيث يكون المدلول محرما فأحرى إذا كان حلالا وهو عكس/ المشهور. وذكر ابن بشير الأول والثالث وزاد إن دل حلالا وجبت عليه (الدية) إذ لا يمكن إسقاطها. وإن دل حراما لم تجب لاستقلال المدلول بها فجاءت أربعة أقوال. وإن أمسك الصيد لرجل فقتله قال في المدونة: إن كان القاتل حلالا أدّاه الماسك وإن كان حراما (أدّاه) القاتل. وقال سحنون: لا شيء على الماسك. ابن يونس: وقال التونسي: وانظر هل يلزم على مذهب أشهب إذا دل أحد على مال رجل فأخذه، أو على قتله فقتله؟ فإنه يقتص منه ويغرم المال لأنه لم يتوصل إليه إلا بدلالته. قوله تعالى: {يُذَبِّحُونَ أَبْنَآءَكُمْ ... } كانوا أضروهم بقتل الذكور لانقطاع النسل وإحياء النساء للإذلال والمعرة وقد كانوا هم (يكرهون) استحياءهم خوف المعرة والإذلال. وقال في سورة إبراهيم: {وَيُذَبِّحُونَ} بالواو وهنا بغير واو. قال ابن عرفة: الجواب (إما) بأن العطف بالواو (تفسير) كما قال الشيخ ابن رشد في المقدمات في قوله تعالى: {وَمِنْهُمُ الذين يُؤْذُونَ النبي وَيِقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ} وإما بأن يكون «وَيُذَبِّحُونَ» معطوفا على فعل مقدر يكون ذلك الفعل تفسير الأول، وإلا فالقصة واحدة. فإما أن يكون الثاني هو الأول فيهما، أو مغايرا (له فيهما) لأن العطف يقتضي (المغايرة، وعدم العطف) يقتضي الموافقة فكيف الجمع بينهما؟ قلت: وتقدم لنا الجواب في الختمة الثانية في سورة إبراهيم حيث قال ابن عرفة: (وعادتهم) يجيبون بأن (المنّة في) آية البقرة (وقعت من الله تعالى) «نَجَّيْنَاكُمْ» فأسند الفعل إلى نفسه (والملك) (لكل) الأشياء (عنده) حقير فلذلك أتى بالجملة «يذبحون» مفسرة للأول غير معطوفة فكأنها شيء واحد إذ لا يستعظم الأشياء إلا العاجز فالألف دينار لا قدر لها عند الغني وهي عند

الفقير (مال جليل). وأما سورة إبراهيم فالامتنان فيها من موسى عليه السلام لأن أول الآية ({وَإِذْ قَالَ موسى لِقَوْمِهِ اذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ} فهي حكاية صدرت من موسى لقومه)، فناسب المبالغة بالعطف (فيها) المقتضي (للتعدد) والمغايرة لتكثر أسباب الامتنان. قلت: وأجاب صاحب درة التنزيل بأن آية إبراهيم وقعت في خبر عطف على خبر آخر قبله وهو {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا موسى بِآيَاتِنَآ أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ} {وَإِذْ قَالَ موسى لِقَوْمِهِ} فيبقى معنى العطف في «َيُذَبِّحُونَ» لأنه هو وما عطف عليه داخل في جملة معطوفة فالمقام مقام فصل وأما آية البقرة أخبر فيها بخبر واحد وهو إخباره عن (نفسه) بإنجائه بني إسرائيل فلذلك لم يعطف وأخبر في إبراهيم بخبرين معطوفين فلذلك عطف. قلت: وأيضا فالجمل المتقدمة في البقرة طلبية وهي {يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اذكروا} «واتَّقُواْ»، وجملة «يُذَبِّحونَ» خبرية فليست مشاكلة لها بخلاف في سورة إبراهيم فإنها كلها خبرية وقد نص ابن أبي الربيع على أن المشهور أنه لا يعطف الخبرية على الطلبية ولا العكس. وأجاب القاضي أبو جعفر أحمد بن إبراهيم بن الزبير بأن هذه الآية مشتملة على استيفاء القصص، وسورة إبراهيم على إيجاز القصص، والأمران سائغان عند العرب قال شاعرهم: يرمون (بالخطب) الطوال وتارة (رمي) الملاحظ خيفة الرقباء فذكر في البقرة سوء العذاب مجملا، (ثم) البينة (بذبح) الذكور وإحياء النّساء لأن القصد الإطناب بدليل زياده {وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ البحر} وأشار في السورة الأخرى بقوله: {يَسُومُونَكُمْ (سوء العذاب}) إلى جملة ما (امتحنوا) به من فرعون وقومه من استخدامهم وإذلالهم بالأعمال الشاقة وذبح الذكور واستحياء النساء ثم جرد منها (أعظمها) امتحانا، فعطفه لأنه مغاير لما قبله فقال: «وَيُذَبِّحُونَ» إشعارا (بشدة) الأمر فيه، وهو مما أجمل فيه، كما ورد في قوله تعالى: {مَن كَانَ عَدُوّاً لِّلَّهِ وملائكته وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ} خصصهما بالذكر إعلاما بمكانهما. قال ابن عرفة: فإن قلت: لم قال هنا: «نَجَّيْنَا» وفي الأعراف ({أَنجَيْنَا)} فالجواب: بأن القصد هنا كثرة تعداد وجوه الإنعام (فيه) (فبدأ) ب {ياأيها الناس (اعبدوا) رَبَّكُمُ} إلى آخرها وكلها إنعام، ثم قال: {يَا بَنِي إسْرَائِيلَ} فلما كان موضع تعداد النعم ناسب التضعيف في «نَجَّيْنَاكُمْ» وأيضا فهو مناسب للتضعيف في «يُذَبِّحُونَ» الأعراف إنما فيها

50

«يُقَتِّلُونَ» فرُوعِيَ مناسبة اللّفظ فيما بعد، والمعنى فيما قبل، انتهى. قال ابن عرفة: وإنما قال: «نِساؤُكُمْ» ولم يقل: ببناتكم كما قال: «أَبْنَآءَكُمْ» تسمية للشيء بما يؤول إليه، وإشارة إلى قصدهم المعرة، واستحقار (بناتكم). قوله تعالى: {وَفِي ذَلِكُم بلاء مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ} البلاء: إما قدر مشترك بين الخير والشر أو لفظ مشترك، ويجيء فيه تعميم المشترك (فيبتلى الإنسان) بالخير ليشكر، و (الشر) ليصبر. قال الله تعالى {هذا مِن فَضْلِ رَبِّي ليبلونياءَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ} قال ابن عطية: (معناه) الامتحان والاختبار. قال ابن عرفة: في هذه العبارة قلق، وينبغي أن يفهم (بما) قال الزمخشري في غير هذا الموضع: إنه يفعل بهم فعل المختبر لأن الاختبار من لوازمه الجهل، وهو مستحيل عن الله عَزَّ وَجَلَّ. قوله تعالى: {فَأَنجَيْنَاكُمْ ... } قال البسيلي: في تفسير قوله تعالى: «فأنجيناكم» قدم الإنجاء وإن كان دفع المؤلم آكد مراعاة للترتيب الوجودي لأن الإنجاء متقدم على إغراق آل فرعون. قوله تعالى/: {وَإِذْ وَاعَدْنَا موسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ... } قال ابن عرفة: يمتنع أن يكون أربعين ليلة (ظرفا) لأن ظرف الزمان المحدود (العمل) فيه كله، ويمتنع أن يكون (مفعولا)، لأنها ليست هي (الموعودة) إنما الموعود موسى عليه السلام. قال الزمخشري: وعده الله الوحي، ووعده موسى (المجيء للميقات)، (فكأنه) مواعدة من الجانبين، وأبطله الطيبي بأن فيه تقدير مضافين معطوفين. وهو باطل. قال ابن عرفة: إنما يريد واعدنا موسى مناجاة أربعين (ليلة)، وملاقاة أربعين ليلة، والمناجاة تستلزم مجيء موسى إلى الميقات، لأنها بعد الأربعين لأن الله تعالى جعل له عبادة هذه الأربعين ليلة (و) وِصَال صيامها كلها ليلا ونهارا سببا في مناجاته إياه بعدها بما طلب من التوراة والصحف والألواح. قوله تعالى: {ثُمَّ اتخذتم العجل مِن بَعْدِهِ ... } منع أبو حيان عود الضمير إلى الوعد للتناقض، لأن «ثُمَّ» للتراخي و «مِن» في «مِن بَعْدِهِ» (تقتضي) ابتداء الغاية فهي لأول أزمنة البعدية. وأجاب ابن عرفة: بأن الأولية مقولة بالتشكيك، ألا تراهم يؤرخون بأوائل الشهر في العشرة (الأول) كلّها. (قيل له): ابتداء الغاية ما (يصدق) إلا على أول جزء. قوله تعالى: {وَأَنتُمْ ظَالِمُونَ} أي لا شبهة لكم في اتخاذه، بل ذلك محض ظلم منكم وتعنت.

52

قوله تعالى: {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}. قال ابن عطية: الترجي مصروف للمخاطب أي (عَفَوْنَا) (عنكم) لتكونوا بحيث (يترجى) المخاطب (بها) شكركم عليه. وفسره الزمخشري على مذهبه بالإرادة. قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ موسى لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُم ... } الظلم هنا المراد به الكفر لتقيّده (باتخاذ) العجل. قال الله تعالى: {إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} وقال جلّ ذكره: {الذينءَامَنُواْ وَلَمْ يلبسوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ} هو مطلق فلذلك أشكل على الصحابة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم، وَقَالوا: أيُّنَا لم يلبس إيمانه بظلم؟ قال ابن عرفة: وقدم المجرور هنا على المفعول، والأصل تأخيره عنه، ولا (يقدم) إلا لنكتة (تتوخى) والحكمة في ذلك أن النداء إقبال على المنادى، وتخصيص له فلو قيل: (وإذ) قال موسى: يا قوم إنكم ظلمتم أنفسكم لقومه. لما كان لقومه فائدة بخلاف قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ موسى لِفَتَاهُ لا أَبْرَحُ} فإن تقديم المجرور هناك (بمعنى) آخر وهو الاعتناء بالمقول له وتشريفه، والاهتمام به وتخصيصه بتلك المقالة دون غيره، وبين (بقوله): {ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُم} أن الله تعالى منزه عن أن يناله شيء من ظلمهم، وإنما ضرر ذلك راجع (إليهم). قال ابن عرفة: وهذا (يشبه المحدود)، فإنه لا تنفع فيه الشفاعة، ولا (تسقطه) التوبة كما قال الإمام مالك رَضِيَ اللَّهُ عَنْه في المحارب: إذا قتل (أحدا) فعفا عنه وليه، أنّ الحد لا يرتفع لأن الحق لله تعالى، فلذلك قال: {فاقتلوا أَنفُسَكُمْ} وهذا بيان للتوبة، (و) الفاء (للتسبيب أو للتعقيب). قوله تعالى: {ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ ... } الإشارة إلى التوبة بشرطها، وهو القتل، و (خير) هذا إما (فعل)، لأن (ضده) وهو عدم التوبة لا خير فيه، أو أفعل مِن، لأنّ ضده المشارك له في مطلق الخيرية هو التوبة مع علم قتل الأنفس. قوله تعالى: {فَتَابَ عَلَيْكُمْ ... } إما علم أنكم تتوبون، وإما على المعنى ألهمكم (للتوبة) أو يسرّها لكم. قوله تعالى: {إِنَّهُ هُوَ التواب الرحيم} قال ابن عرفة: الوصف بالرحيم دليل لنا على المعتزلة في إبطال قاعدة التحسين والتقبيح، وأن الله تعالى لا

55

يجب عليه شيء لاقتضائها أن توبته على (العصاة) محض رحمة منه وتفضل (لأن) الدليل اقتضى وجوب ذلك عليه، قال الإمام فخر الدين الرازي. قال ابن عرفة: يقال: إنه إنما لم يقل: فقتلوا لأن توبتهم (ملزومة) لقتلهم (أنفسهم)، فلا يبق للقتل بعد ذلك محل، لأنهم قد ماتوا حين التوبة. قوله تعالى: {وَإِذْ قُلْتُمْ ياموسى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ ... } أي لن ندوم على الإيمان لك فليس هو ردة، لأنّه من قول السبعين، وقد كانوا آمنوا به، وفيه دليل على أن رؤية الله سبحانه وتعالى ممكنة جائزة عقلا لطلبهم ذلك. فإن قلت: لم يقم الدليل على صحة طلبهم، فلعلهم آخطؤوا في الطلب؟ قلنا: نص العميدي في الجدل وغيره إذا وقع الشك في شيء إنما يحمل على الأمر الغالب فيه، والغالب في هؤلاء أنهم ما يطلبون إلا الأمر الممكن عقلا، فأخبر الشارع أنه غير واقع. قال ابن عرفة: واستشكل القرطبي تكليفهم بعد إحيائهم من الصعق (لسقوط) التكليف بالصعق وإذا سقط لا يرجع. قال ابن عرفة: (وعندي) لا إشكال (فيه) وهو كمن أحرم بالحج وعنده طائر في قفص، فإنه مكلف (بإرساله، فإذا أزال إحرامه عادت الإباحة، كما كانت أول مرة. وكذلك النائم حالة نومه غير مكلف) فإذا استيقيظ عاد التكليف. قوله تعالى: {وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ} قال (ابن عرفة): (حال) من الضمير المفعول في «أَخَذَتْكُم» فهي إشارة إلى أن (الصّاعقة) نالتهم/ على غفلة فصادفتهم ثابتين في النظر والأبصار والعقول، ولو علموا بها قبل ذلك لأذهب الوهم عنهم أبصَارَهُم وبصائرهم فلم تصادف عندهم إثباتا بوجه، والمراد بذلك أو أجزاء (الصاعقة). قوله تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا ادخلوا هذه القرية ... } قال ابن عرفة: هذا إما خطاب لهم مباشرة أو بواسطة. والأول: (يمتنع) لأنّ الله تعالى لم يباشرهم بالخطاب إلا على لسان نبيه إلا أن يكون الخطاب لجماعة أنبياء وهو بعيد. والثاني: أيضا ممتنع لأنهم غائبون عن الخطاب، وفعل الآمر الغائب إنما يكون باللام فكيف (يقول): «ادْخُلُوا». وأجيب باختيار أنه مباشرة، وأن قول الرّسول لهم منزل منزلة خطاب الله لهم قال الله تعالى: {مَّن يُطِعِ الرسول فَقَدْ أَطَاعَ الله} وكما يقول الملك: بنيت داري، وكاتبت فلانا (بكذا) وهو لم يفعله بنفسه، إنما فعله أعوانه وخدمه.

قال ابن عرفة: والقرية إن أريد بها بيت المقدس فصيغة أفعل للطلب، وإن أريد بها (أريحا) فهي للاباحة. قيل لابن عرفة: هذا أمر ورد عقب الحظر فهو للإباحة (مطلقا)؟ فقال: لم يرد عقب الحظر القولي، وإنما (ورد) عقب (الحظر) الجبري (المعلن) بالبقاء في أرض وعدم التمكن في الخروج عنها أربعين سنة ولم يقع هنالك نهي بالقول حتى يكون هذا أمر بعده. قيل له: قد قال تعالى: {قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً} فقال: هذا إخبار عن واقع، لأنهم كلفوا بالبقاء فيها وعدم الخروج بل منعوا من ذلك فمقامهم ليس باختيارهم لأجل التكليف به، بل جبرا واضطرارا لأجل عدم قدرتهم على الخروج. قال ابن عرفة: وعموم «حيث شئتم» مخصوص بالمساجد، (فإنه) يمتنع الأكل فيها. قوله تعالى: {وادخلوا الباب سُجَّداً ... } أعيد لفظ «ادْخُلُوا» (لأجل وصفهم) سجدا فليس بتكرار، والمراد بالسجود الركوع لتعذر الدخول حالة السجود أو يكون حالا مقدرة، فيكون الدخول سابقا على السجود. واحتج ابن التلمساني على أن الواو لا تفيد ترتيبا بكون المقدم هنا مؤخرا في سورة الأعراف، فلو كانت الواو للترتيب للزم عليه: إما التنافي بين الآيتين، أو المجاز في أحدهما، وأجاب بأنه قصد تكليفهم ((بأن يقولوا: حطة (حال كونهم) قبل السجود وبعده، وأجاب أبو جعفر (الزّبير) بأنه قصد تكليفهم)) بالجمع بين السجود والقول في حالة واحدة لأن كلا الأمرين حصل له وصف (الاهتمام) بالتقديم. قوله تعالى: {نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ ... } قال الفخر الرّازي: يحتج بها على المعتزلة في قولهم: إن قبول التوبة واجب عقلا لأجل ما اشتملت عليه من أوصاف الامتنان بتعداد (النعم)، فغفران الخطايا نعمة وتفضل (لا انّه) واجب لأجل التوبة. ورده ابن عرفة: بأنهم يقولون: إن الامتنان بهذه النعمة سبب لطريق التوبة والخطايا مرتفعة بالتوبة. قوله تعالى: {وَسَنَزِيدُ المحسنين} قال ابن عرفة: لما تضمّن الكلام السابق حصول المغفرة لهؤلاء وعدم المؤاخذة بالذنب فقط من غير زيادة على ذلك أفاد هذا أن المحسنين لهم مع ذلك ثواب جزيل وعبر عنهم بالاسم تهييجا على الاتصاف بذلك وإشارة إلى (أنّ) الزيادة إنما هي لمن بالغ في الإحسان وحصل منه الحظ (الوافر) (لينَالَها) من حصل مطلقة وأدناه. فإن قلت: لم قال هنا: {وَإِذْ قُلْنَا ادخلوا هذه القرية فَكُلُواْ}، وفي الأعراف {وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسكنوا هذه

59

القرية وَكُلُواْ} قلت: نقل (لي) عن القاضي أبي عبد الله محمد بن عبد السلام أنه قَال: إن كانت القصة واحدة، وتلك مكررة بهذه، فعبر فيها ب «قيل لهم» عن «قُلْنَا» التي في هذه، وأخبر بما بعد الدخول وهو السكنى (لالتزامها) إيّاه وان (كانا) قصتين فتلك بعد هذه. وأجاب أبو جعفر (الزبير) بأنهم أمروا أولا بالوسيلة وهو الدخول، ثم أمروا (بالمقصد) وهو السكنى. قال الشيخ أبو جعفر: وعطف هنا بالفاء لأن الأكل من الموضع (لا يكون) إلا بعد الدخول عليه وعطف في الأعراف (بالواو) لأنّ السكنى قد تقارن الأكل، وقد يتأخر عنه، وقد يتقدم (عليه) قال ابن عبد السلام: أو هما قصتان أو يقال: لما فيهم التعقيب من الأول لم يحتج إلى إعادته في الثانية وقال هنا: {حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً}. وأسقط في الأعراف (رغدا) لأن السكنى يفهم منها الملازمة والدوام وعطفها على الأمر بالأكل من حيث شاء، وأشعر بدوام الأكل من غير مانع (فتحصل) فيه معنى الرغد (فأغنى) عن ذكره هناك وقال هنا {نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ}، وفي الأعراف على قراءة الجماعة غير أبي عمرو وابن عامر، (نَغْفِرْ لَكُمْ) خَطَايَاكُمْ، مجموعة جمع سلامة ولأن آية البقرة (بنيت) على كثرة تعداد النعم فناسبت جمع الكثرة وآية الأعراف لم يبالغ فيها بكثرة تعداد النعم فناسبت جمع القلة وهو جمع السلامة. وقلت: ونقل/ لي عن القاضي ابن عبد السلام أجاب بأن آية البقرة صدرت ب «إِذْ قُلْنَا» المكنى به عن الله تعالى فناسب جمع الكثرة (ولما ذكر) هنا {وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ} بحذف الفاعل فناسب جمع القلة، وقال هناك «وَسَنَزِيدُ» بالواو وفي الأعراف بغير واو لأن البقرة بولغ فيها بتعداد ما لم يبالغ في الأعراف، أي ولنجزي المُحْسِنِينَ على مَا تَقَدّم من تعداد النعم بالعفو وزيادة الإحسان. قوله تعالى: {فَبَدَّلَ الذين ظَلَمُواْ قَوْلاً غَيْرَ الذي قِيلَ لَهُمْ ... } قال ابن عرفة: يكون القول بذاته مصروفا (لنقيض) الشّيء، فينصرف إلى ذلك الشيء باعتبار حال المخاطب، وعَبّر ب «الَّذِينَ ظَلَمُواْ» ولم يقل: فَبَدَّلَ الظالمون، لأن تعليق الذم على الوصف الأعم يستلزم الذم على الأخص من باب أحرى، (وكذلك ذمّهم على) تبديل القول يستلزم (ذمهم) على تبديل الكلام (من باب أحرى) لأنه إذا (بدل) أحد قرار المركب انتفى عنه التركيب. فإن قلت: هؤلاء إنما بدلوا غير القول الذي قيل لهم، ومن بدل غير (ما) قيل له يذم، وإنّما يذم من

60

بدل لا ما قيل له (بغيره)؟ فالجواب بوجوه: إما بأن في الآية حذفا، أي فبدل الذين ظلموا فقالوا قولا غير الذي قيل لهم، ويكون ذلك تفسيرا للتبديل كيف هو، وإما بأن (يشوب) «بدل» معنى أتى أي فأتى الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم، وإما بأن يكون «بدل» (تعدى) إلى الثاني على إسقاط حرف الجر أي فبدل الذين ظلموا قولا بغير الذي قيل لهم. وذكر أبو حيان أن البدل قد يتعدى إلى المبدل وهو المعطي بنفسه وإلى (المبدل به) وهو المأخوذ بواسطة حرف الجر وأنشد عليه: وبدلت والدهر ذو تبدل (هيفا) دبورا بالصبا والشمأل والتقدير هنا فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم بالقول الذي قيل لهم. قال ابن عرفة: وهو كقوله عَزَّ وَجَلَّ: {وَبَدَّلْنَاهُم بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ} ق ابن عرفة: وأخذ منه منع نقل الحديث بالمعنى، (ورد بأنهم) إنما ذموا على تبديل اللّفظ والمعنى. و (أجيب) بأن الذم إنما علل (بتبديلهم القول، والقول إنما يطلق على اللفظ فقط) وأيضا فلعل هذه اللّفظة متعبد بها فلذلك ذموا على تبديلها. (ورده) ابن عرفة (بأنه يلزمكم) التعليل بأمرين. قال القاضي أبو جعفر بن الزبير: وقال هنا {فَبَدَّلَ الذين ظَلَمُواْ} فعمم ثم خصص ذلك العموم بالأعراف بزيادة منهم لأن المخاطبين ليسوا سواء في الامتثال قال الله عَزَّ وَجَلَّ: {مِّنْهُمُ المؤمنون وَأَكْثَرُهُمُ الفاسقون} ولذلك أعاد الظاهر فقال: {فَأَنزَلْنَا عَلَى الذين ظَلَمُواْ} (التختص) العقوبة بالظالمين، ولو قال: عليهم لاحتمل العموم وهو غير مقصود. قال: فإن قلت لم قال هنا: {بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ} وفي الأعراف {بِمَا كَانُواْ يَظْلِمُونَ} وأجاب بأنه في البقرة وصفهم أولا بالوصف الأعم الصادق على أدنى المعاصي وأعلاها وهو الظلم ثم بالأخص وهو الفسق فقال: {وَمَا ظَلَمُونَا ولكن كانوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} ثم قال هنا: {رِجْزاً مِّنَ السمآء بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ} وفي الأعراف وصفهم بالظلم في قوله: {بِمَا كَانُواْ يَظْلِمُونَ} ثم بالفسق فقال: {وَسْئَلْهُمْ عَنِ القرية التي كَانَتْ حَاضِرَةَ البحر} إلى قوله {بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ} قوله تعالى: {وَإِذِ استسقى موسى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضرب بِّعَصَاكَ الحجر ... }

61

أخذ منه الإمام المازري جواز استسقاء المخصب للمجدب لأن موسى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ لم ينله من الاحتياج وقد استسقى لهم. ورده ابن عرفة بأنه نبي مرسل إليهم وهو معهم فليس مثل هذا. قوله تعالى: {فانفجرت ... } أجاز الزمخشري أن تكون الفاء جواب شرط مقدر أي فإن ضربت فقد (انفجرت). ورده أبو حيان بأن الشرط لا يحذف، وإن سلم (فيلزمه) فساد المعنى والتركيب لأن الشرط وجوابه مستقبلان «وانفجرت» ماض لفظا ومعنى (إذ لا تدخل الفاء على الماضي إلا إذا كان دعاء أو ماضيا لفظا ومعنى) ولأنه المفهوم من الآية. (وأجاب المختصر) بأنّ «اضرب» أمر مُضَمَّنٌ معنى الشرط فليس فيه حذف، ومنع فساد المعنى والتركيب بأنه كقوله تعالى: {وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ} قال فجوابه محذوف أي فإن كذبوك فاصبر لأنه كذبت رسل من قبلك. وان ضربت فسّر أو لم ينكر ونحوه، فإنه قد انفجرت، أي أردنا وحكمنا أنها انفجرت. قال ابن عرفة: وقد يقال إن يكذبوك (فعل) ماضٍ وعبر عنه بالمستقبل لأجل (التصديق) فهو حكاية مستقبل مضى، أي كان مستقبلا فصار ماضيا، ولا سيما أنهم حين نزول الآية كان التكذيب قد وقع منهم لأنها ليست من أول ما نزل وكذلك قوله تعالى: {إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ القوم قَرْحٌ مِّثْلُهُ} قالوا: أنزلت في غزوة بدر، وقد كان ذلك واقعا قبلها. ويمكن أن يكون معنى (تلك) الآية وأن يدوموا على تكذيبك ولا يزال الشرط مستقبلا، وقول الصفاقسي: أنَّ «اضرب» مضمن معنى الشرط. قال الزمخشري: جعل الفاء جواب الشرط (مقدر) لأنها جواب شرط مفهوم من الأمر فلم يتوارد على محل واحد. قوله تعالى: {وَإِذْ قُلْتُمْ ياموسى لَن نَّصْبِرَ على طَعَامٍ وَاحِدٍ ... } الإقبال بالخطاب تأكيد لما تضمنه الكلام من المدح والإكرام أو الذم والتوبيخ. (قوله). {لَن نَّصْبِرَ على طَعَامٍ وَاحِدٍ} (أنظر ما فيه) من الجفاء والغلظة والجهل لقولهم: «لَن نَّصْبِرَ» ولقولهم «رَبَّكَ» ولم يقولوا «رَبَّنَا» وجعلوه واحدا إما من جهة أنه كله (خبز) (أو) إدام للخبز، وليس فيه خبز بوجه، وإما من (أجل) تكرر كل يوم بعينه من غير أن يتبدل.

قوله تعالى: {مِن بَقْلِهَا وَقِثَّآئِهَا ... }. قيل/ لابن عرفة: هل هذا ترق بدأوا بالبقل ثم بالفوم وهو القمح؟ فقال: (بعيد) لقوله «وبصلها» فهو في هذا تدلٍّ. قوله تعالى: {أَتَسْتَبْدِلُونَ الذي هُوَ أدنى بالذي هُوَ خَيْرٌ ... }. قال ابن عرفة: كان الشيخ أبو عبد الله بن سلام يقول: إن هؤلاء لم يطلبوا ذلك بدلا من طعامهم بل زيادة عليه لقولهم: {لَن نَّصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ} ولم يقولوا: لن نحب هذا الطعام فكيف أنكر عليهم استبداله؟ قال: وتقدم الجواب عنه بأنهم إذا أكلوا من الطّعام الذي طلبوه فإنه ينقص أكلهم من الطّعام الأول بقدر ما أكلوا من هذا فقد حصلت لهم (المبادلة) في ذلك المقدار فمن كان يأكل رطلا من المنّ والسلوى قبل ذلك يصير الآن يأكل (منه) نصف رطل أو أقل. نعم إنهم (يجتمعون) في ملك واحد. وحَوْز واحد ولا يجتمع ذلك في (بطن) واحد إلاّ على الصفة التي ذكرنا. قيل لابن عرفة: قد (لا) يأكل الإنسان من (الخبز) والإدام، والخبز أكثر (مما) يأكل من كل (واحد) منها على انفراده؟ فقال: وكذلك (أيضا) يأكل من العسل إذا (عقد) وصنع (خبيصا أو نحوه) كثيرا. قيل لابن عرفة: أو يجاب بأنهم طلبوا النقلة من ذلك الموضع (إلى موضع ينبت فيه البقل والقثاء والفوم وما قام الدليل على أن ذلك الموضع) المنتقل إليه ينزل عليهم فيه المن والسلوى وكأنهم طلبوا الاستبدال. فقال (ابن عرفة): هذا صحيح لو كان (هذا) من كلامهم لأن {اهبطوا مِصْراً} من كلام موسى عليه السلام عن الله تعالى، فالذم إنما هو على طلبهم الاستبدال وطلب (الاستبدال) ليس من كلامهم. ((بل (من) دلالة الحال والأمر العادي)) فهو لازم قولهم، لأن تلك الأرض لم تجر العادة بإنباتها تلك الأشياء (فطلبهم تلك الأشياء) يستلزم طلبهم النقلة منها إلى أرض تُنبِتُها ولا ينزل فيه المن والسلوى. والذم إنما هو على سؤالهم. قيل لابن عرفة: هذا كله على تسليم السؤال، ولنا أن نمنعه ونقول: إن سؤالهم ليس بنصّ في أنهم طلبوا الزيادة بل (هو) ظاهر في ذلك فقط؟ والجواب (أنهم لهم) نص في طلبهم الاستبدال وإنما عبّروا عنه بلفظة محتملة احتمالا مرجوحا، وربما ينافيه. ومعنى كلامهم: لن نصبر على هذا الطعام لأنه طعام واحد بل نرجع إلى أطعمتنا المعتادة المتعودة. فقال ابن عرفة: هذا هو الحق والله أعلم. قوله تعالى: {الذي هُوَ أدنى ... }. سماه «أَدْنَى» لكونه يأتيهم بعد تكليف ومشقة، والمنّ والسلوى ينزل عليهم بلا كلفة، (أو) أنه حلال محض أو بأنه ألذّ وأطيب، أو أنه الذي أمرهم الله به ففي أكله الشكر عليه نعمة وأجر. قلت لشيخنا ابن عرفة: مساق الآية يقتضي أنه فيه دناءة قليلة مع أنه خير كله؟ فقال: لا يريد الذي هو أدنى من طعامكم (هذا، بل يريد الذي هو أدنى) بالإطلاق فليس في المن والسلوى دناءة. قال القرطبي: يؤخذ من الآية تفضيل المستلذات الدنيوية، وأنها مباحة راجحة ليس فيها

مرجوحية بوجه لأجل وصفها بالخير. (فرده) ابن عرفة بأنه يلزم من ذلك رجحانها، فلعل وصفها بالخير لأجل أنها تنال بلا مشقة ولا تكلف. قوله تعالى: {وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذلة والمسكنة ... }. (قال ابن عرفة): المسكنة إن كانت من أقسام الفقر فهي مغايرة (للذلة)، وإن لم تكن من أقسامه فيكون المسكين هو الذي يسأل، والذلة مسكنة من غير سؤال، وضرب الذلة عليهم يطلق يصدق بصورة إما في عصر من الأعصار وهو زمن بعثة نبينا سيدنا محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إلى الآن (وكذا) تعمّ الذلة اليهود في كل بلد، أو يكون في بعض البلاد، أو في زمن عيسى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ وما بعده إلى الآن وسجل عليهم بوصف الغضب، وكونه من الله تعالى فهو أشد عليهم. قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ الله وَيَقْتُلُونَ النبيين ... }. قال ابن عرفة: ذمّهم على قبح ما صدر منهم في (قوتهم) العلمية والعملية، و (جمع) الأنبياء مبالغة في كثرة قتلهم، وكذلك جمع الضمير في «يقتلون»، أو يكون حقيقة. وقد قال الإمام مالك رَضِيَ اللَّهُ عَنْه في جامع العتيبية: بلغني أنه مات في مسجد (الخيف) كذا كذا كذا نبي ماتوا كلهم بالقمل والجوع. (قال ابن رشد): لزهدهم في الدنيا أو لآن الله تعالى يبتلي عباده المؤمنين بالإذاية ليصبروا (فيه) فيعظم أجرهم عند الله. قال ابن عطية: من همز النبيء فهو عنده من (الإنباء) إذا أخبر. قال (ابن عرفة): معناه كونه يخبر الناس بأنه يوحى إليه على الجملة. والرسول يبلغهم الأحكام والشرائع ويدعوهم إلى الإيمان. قوله تعالى: {بِغَيْرِ الحق ... }. ما الفائدة فيه مع أن قتل الأنبياء لا يكون إلا كذلك؟ وأجاب الزمخشري بأنه الحق باعتبار الدّعوى، كما إذا تخاصم رجلان فكل واحد منهما يزعم أنه على الحق ولدعواه مرجح، (وهم يقتلون) ولا يستندون في (قتلهم) إلى شبهة بوجه، وهم بحيث لو سئلوا عن موجب ذلك لم يستحضروا له سببا. وفي سورة آل عمران {بِغَيْرِ حَقٍّ} فهو مطلق وهذا (معرف) بالعهد أي بغير الحق المعهود في الدعاوى لا الحق الثابت في نفس الأمر لأن قتل النّبيئين لا يكون إلاّ بغير ذلك الحق. قوله تعالى: {ذلك بِمَا عَصَواْ ... }.

62

و/ إن كانت الإشارة إلى المشار إليه أولا فهو من التعليل بعلتين فأكثر (فيجيء) فيه تعداد (العلل، والعلل) الشرعية يصحّ تعدّدها مطلقا، وكذلك العقلية (تتعدد) لكن بالنوع لا بالشخص، وإن كانت الإشارة إلى العلة الأولى فيكون من تعليل المعصية بمعصية أخرى. فإن قلت: إذا كانتا علتين فهلا عطف بالواو ولم (يكرر) سم الإشارة بكأن يقال: وبما عصوا؟ فالجواب: أنه إشارة إلى أن كل واحدة منهما علة مستقلة يحسن التعليل بها. فإن قلت: لم أُكّدت الأولى دون الثانية بأن؟ قلنا: (الغرابة) القتل، وعدم تكرره بخلاف المعصية والاعتداء فإنّه يكثر تكرره، ويتجدّد شيئا فشيئا، ونفي (أكثريته) لا يدعيه أحد. قال الطيبي: على أن القتل والاعتداء علتان (تكون) الأولى للمصاحبة بمعنى مع، والثانية للسبب. وفيه (تقديم) وتأخير، أي ذلك بكفرهم (وعصيانهم) مع قتلهم النبيئين بغير الحق. قال ابن عرفة: الصواب إنما للسبب مطلقا ولا يحتاج إلى تقديم ولا (إلى) تأخير. قوله تعالى: {مَنْءَامَنَ بالله واليوم الأخر ... } بدل من {الذينءَامَنُواْ} و (مَا) عطف عليه فجيء فيه استعمال اللفظ (الواحد) في حقيقته ومجازه، لأن المؤمنين (حصّلوا) الإيمان، فقوله: {مَنْءَامَنَ} مجاز في حقهم، عبّر به المداومة على الإيمان (وإيمان اليهود والنصارى والصّابئين إن شاء فهو حقيقة. ويمكن أن يراد بالجميع المداومة على الإيمان)، لأن النصارى إذا داموا على الإيمان بملة نبيهم يؤمنون (بمحمد) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لأن (من) ملة نبيهم عليه السلام الإيمان بملة سيدنا محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وإن لم يؤمنوا به فلم يؤمنوا بملّتهم (قط) انتهى. قوله تعالى: {وَعَمِلَ صَالِحاً ... }. قال (ابن عرفة): أي فيمن لم (تخترمه) المنية. قوله تعالى: {فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ ... }. هذا ثواب (تفضلى) سماه أجرا إشعارا بتأكده حتى كأنه واجب كأجرة الأجير على عمله. قوله تعالى: {وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ}. عبر عن الخوف بالاسم، وعن الحزن بالفعل، لأن الخوف يتعلق بالمستقبل، والحزن بالماضي، وتذكر الإنسان للأمر المستقبل وتألمه منه وخوفه أشد من تألمه من الماضي

63

يعرض له التناسي إذا بعد أمره، والمستقبل يشتدّ (الخوف) منه متى قرب أمره، ويتزايد أمره ويتأكد ثبوته في النفس، ففي كل واحد منهما على ما هو عليه. فإن قلت: هلا كان بالفعل لأنّه (يتجدد زيادة)؟ قلنا: التجديد تأكيد لثبوت الخوف (في النفس)، وليس هو (أمرا) مغايرا للأول. قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ ... } قال ابن عرفة: الواو إما عاطفة، والعامل فيه «اذْكُرُوا» المتقدم أو استئناف (والعامل فيه «اذكروا») مقدر. (والَّذي قرره المفسرون) عند قول الله عَزَّ وَجَلَّ ّ: {خُذُواْ مَآءَاتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ}. الآية. وقدر الفخر ابن الخطيب وجه مناسبتها لما قبلها (بأنها) نعمة. قال ابن عرفة: الصواب أنها وعظ، لأن قبلها {(إنَّ) الذينءَامَنُواْ والذين هَادُواْ} إلى آخره، وهو وعظ ونعمة (لجميع الملل). ولما كانت بنو إسرائيل أقرب الناس إلى الإيمان والاتباع لوجهين: إما لأن ملّتهم أقدم من (ملة) النّصارى، وإما لأنهم كانوا أكثر أهل المدينة، فإيمانهم سبب في إيمان غيرهم وتعنتهم (وفرارهم) سبب في امتناع غيرهم أكّد ذلك بإعادة الوعظ لهم بخصوصيتهم في هذه الآية، ولذلك (كررت) قصّتهم في القرآن (في) غير ما سورة أكثر (مما) تكرر غيرها من القصص. وقوله تعالى: {مِيثَاقَكُمْ} إما أن يريد ميثاق آبائكم، (أو) المراد المخاطبون (الموحدون) (حين) ما أنالوه، والمراد الجميع لأن أخذ الميثاق كان على آبائهم، وعلى من يأتي (بعدهم) من ذريتهم إلى قيام الساعة. وضعف الثاني بقوله: {وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطور ... }. وأجاب ابن عرفة: بأنّ المراد رفعنا فوق آبائكم وفوقكم. قال أبو حيان: حال من الطور. وضعف كونه حالا من الضمير في «رفعنا» لما يلزم عليه من إيهام كون الرافع في مكان. فإن (قلت): الفوقية تستلزم الرفع؟ قلنا: قد يكون إنسان فوق آخر بمقدار قامة فيقال (رفعته) عليه إذا علوت (به) عليه مقدار قامتين. قوله تعالى: {وَرَفَعْنَا ... }. قال ابن عرفة: إما حال، أي أخذنا ميثاقكم في هذه الحالة أو المراد أخذنا عليكم الميثاق فلم تقبلوا، فرفعنا فوقكم الطور. كما قال المفسرون في سبب نزول الآية. قال ابن عطية: خلق الله وقت سجودهم الإيمان في قلوبهم، لأنهم آمنوا كرها وقلوبهم غير مطمئنة. قال ابن عرفة: المذهب لاعتبار الإيمان الجبري، ولذا يجبر الكفار على الإيمان (ويقاتلون عليه)

64

بالسيف، وإنّما (تعتبر) النية (والإرادة) في الثواب والقبول المرتب عليه، وكما قالوا في الزكاة: إنها تؤخذ من أربابها جبرا. قال ابن عطية: الإيمان المتفق عليه الذي لا شبهة فيه ولا ريبة وليس قصده الإيمان المخرج من (عهدة) التكليف. ((قوله تعالى: {واذكروا مَا فِيهِ ... }. ابن عطية: أي (تدبروه) ولا تنسوه، وامتثلوا أوامره (ووعيده))). قال ابن عرفة: أو اذكروه لغيركم وعلموه له. قيل لابن عرفة: لا يناسب أن (يعلل) هذا بالتّقوى، فإنه قد يكون المعلم غير متَّقٍ (لله)؟ فقال: قد يكون (تذكيره) لغيره سببا في (انزجاره هو)، وتذكيره في نفسه. قوله تعالى: {ثُمَّ تَوَلَّيْتُم ... } ((قال ابن عرفة: «ثُمَّ» إما لبعدها ما بين منزلة (الإيمان والكفر) أو للمهلة حقيقة)). قيل لابن عرفة: الحقيقة متعذرة/ فإن «من» لابتداء الغاية، وليس بين أول أزمنة البعدية وآخر أزمنة (أخْذِ الميثاق) تراخ بوجه؟ قال ابن عرفة: الأولية مقولة بالتشكيك في أزمنة البعدية. قيل لابن عرفة: هذا يرجح أن المراد أخذنا ميثاق آبائكم لأن المخاطبين لما (أسلموا) لم يرتد منهم أحد؟ فقال ابن عرفة: يفهم هذا كما يفْهم في قوله تعالى: {والذين كفروا أَوْلِيَآؤُهُمُ الطاغوت يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النور إِلَى الظلمات} لأنه لم يحصل لهم النور فقط، لكن لما كانت أدلته والآثار التي هي سبب فيه سهلة مُتيسرة (قريبة) لفهمهم لا مشقة عليهم (فيها) فصاروا كأنهم حصل لهم الإيمان بالفعل لحصول (أثره) أي شرائطه وأسبابه، (فعدم) إيمانهم كأنه ردّة وخروج من النور إلى الظلمات. قوله تعالى: {فَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ... }. قال ابن عرفة: هذا ليس بتكرار، بل فضل الله راجع إلى قبول التّوبة، (ورحمته) راجعة إلى نفس التوبة، أو أنّ فضل الله راجع إلى الثواب والإنعام، ورحمته أعم من ذلك (تتناول) رفع المؤلم فقط، أو دفعه مع (جلب) الملائم، فهو من عطف الأعم على الأخص. قوله تعالى: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الذين اعتدوا مِنكُمْ فِي السبت ... }

فرق الفخر في المحصول بين العلم والمعرفة، أن العلم من قسم التصديق والمعرفة من التصور. (فردّ) عليه بقوله: عرفت زيدا أبا من هو؟ وأجيب بأن متعلق العلم تصديق ومتعلق المعرفة تصور. وانظر ما قيدت في سورة الرّحْمَان، انتهى. قوله {فِي السبت}. (قال ابن عطية): والسبت أي في يوم السّبت أو (في) حكم السّبت. قال ابن عرفة: الاعتداء إنما يتعلق بحكم اليوم لا بنفس اليوم فلا بد من (تقرير) لفظ الحكم. ابن عطية: السّبت إمّا من السّبوت وهو الراحة والدعة، وإما بمعنى القطع. قال ابن عرفة: هما راجعان للقطع لأنّ الراحة إما تحصل بقطع الشواغل والمشوشات، أو هما متغايران تغاير العلة والمعلول فالقطع سبب في الراحة. قال ابن عرفة: (واعلم أن) هذا انذار لهؤلاء الحاضرين أي (أولئك) عوقبوا بالمسخ مع أنهم مؤمنون بموسى، ومعصيتهم إنما هي بالتعدي في السبت (وفيها سوى الكفر) فهؤلاء الكافرون بالرسول الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل فمعصيتهم أشد. قوله تعالى: {خَاسِئِينَ}. (قيل): حال من فاعل «كُونُواْ» ومنع أبو حيان والطيبي أن يكون حالا من {قِرَدَةً} إذ لو كان حالا منها لقيل: خاسئة. ورده ابن عرفة بجواز: من كانت أمك، ومن كان (أمك)؟ فقد أجازوا تذكير اسم كان مراعاة للفظ (مع أن خبره مؤنث) فلذلك يصح إتيان الحال جمع سلامة بالياء والنون من خاسئة وإن كان جمع ما لا يعقل لكونه خبرا عن مذكر عاقل. قال ابن عطية: وثبت أن الممسوخ لا ينسل ولا يأكل ولا يشرب ولا يعيش أكثر من ثلاثة أيام. قال ابن عرفة: وقول الإمام مالك رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: إن القرد لا يؤكل لأنه مسخ يريد أنه شبيه (بالممسوخ) وعلى صفته. وخرّج مسلم في كتاب (الزهد) والرقائق في صحيحه عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «(فقدت) أمة من بني إسرائيل لا (يدرى) ما فعلت (وإني لأراها) إلا الفأرَ إذا وضع لها ألبان الإبل لا تشربه فإذا وضع لها ألبان الشاء شربته» قلت: وخرجه الإمام البخاري في كتابه. (ابن عطية): ظاهره أن الممسوخ ينسل، فإذا كان أراد هذا فهو ظن منه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ

66

لا مدخل له في التبليغ ثم أوحي إليه بعده أنه لا ينسل. قلت: (وكذا تأوله ابن رشد في كتاب الجامع الثالث من البيان. ونظير هذا نزوله عليه السلام على مياه بدر، وأمره لهم بترك تذكير النّخل فلم يثمر ذلك العام إلا يسيرا فقال لهم عليه الصّلاة والسلام: «إذا أخبرتكم برأي من أمور دنياكم فإنما أنا بشر وأنتم أعلم بدنياكم». (قلت): وخرّج مسلم في كتاب الصيد والذبائح عن جابر ابن عبد الله قال: أتى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بضب فأبى أن يأكل منه وقال: «لا أدري لعله من القرون التي مسخت». وخرج أيضا عن أبي نضرة عن أبي سعيد قال: «قال: رجل يا رسول الله إنّا بأرض مضبة فما تأمرنا؟ قال: ذكر لنا أن أمة من بني إسرائيل مسخت» (فلم يأمر ولم ينه). وفي رواية «غضب: الله على (سبط) من بني إسرائيل فمسخهم دواب يدبون في الأرض: فلا أدري لعل هذا منها، (فلست) آكلها ولا أنهى عنها». قال ابن عرفة: فإن قلت: يعارض حديث مسلم، أي هذا الحديث لأنه أفاد بأن (الممسوخ) لا يعيش أكثر من ثلاثة (أيام)؟ فيجاب بأن مراده في الضب أنه مثل المسخ. قيل لابن عرفة: (مثل المسخ) كونه شبيها لا يوجب تحريمه؟ فقال: حرمه لأنه مسخت أمة على صفته (فلولا أنه مستقبح مستكره عند الله لما مسخت تلك الأمة على صفته). فقيل له: أو يكون هذا الكلام منه قبل أن يوحى إليه لحديث: أن (الممسوخ) لا يعيش أكثر من ثلاثة أيام والضبّ (حيوان) يشبه الحرضون إلا أن لونه أسود وسيره غير مسرع يكون في الصحاري. قلت: وخرج مسلم في آخر كتاب القدر عن عبد الله بن مسعود رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قال رجل: يا رسول الله القردة والخنازير هي مما مسخ؟ فقال/ النّبي صلى الله عليه وسلّم: «إن الله عَزَّ وَجَلَّ (لم) يهلك قوما ويعذب قوما فيجعل لهم نسلا، وإن القردة والخنازير كانوا قبل ذلك». (ذكره في باب ضرب الآجال وقسم الأرزاق، انتهى). وهذا إنذار للموجودين (حين) نزول الآية. أي القوم المتقدمون منكم عوقبوا مع أنهم مؤمنون بعيسى عليه السلام، ومعصيتهم إنما كانت في الفروع، وأنتم كافرون فمعصيتكم أشد وعقوبتكم أشد. وجعل ابن التلمساني شارح المعالم صيغة أفعل هنا للتكوين كما قال ابن عطية. قوله تعالى: {فَجَعَلْنَاهَا ... } ابن عطية: المراد إما جعلنا العقوبة أو المسخة أو الأمة الممسوخة أو القردة أو القرية، وقيل: أو الحيتان وفيه بُعْدٌ. قوله تعالى: {لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا ... }. ابن عطية: عن السدي قيل: لما قبلها من ذنوب القوم وما بعدها من يذنب بعد ذلك (مثل تلك الذنوب). وقيل: لما بين يديها أي لما قبلها من الأمم، وما خلفها أي لما بعدها من الأمم، لأن (مسختهم) ذكرت في كتب من تقدمهم من الأمم، وعلموا بها فاعتبروا وانزجروا. قوله تعالى: {إِنَّ الله يَأْمُرُكُمْ أَن تَذْبَحُواْ بَقَرَةً ... } قال ابن عرفة: هذا الأمر (على الوجوب) على تقدير عدم العفو من أولياء القتيل لأن ما يتوصّل (إلى الواجب) إلاّ به فهو واجب. قوله تعالى: {قالوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً ... } هذا على سبيل الغفلة والذهول من غير تأمل، (وإن) قالوه بعد تأمل فهو كفر، لأن نسبة الاستهزاء إلى النبيء كفر. وقوله تعالى: {الله يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} من مجاز المقابلة كَ {وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ اللَّهُ} لا أنه حقيقة، وقُرِىء «يَتَّخِذُنَا» بياء الغيبة، فإن كان فاعله عائدا على الله تعالى فهو أشد في الكفر والتعنت، وإن كان عائدا على موسى عليه السلام فهو أخف من (اقترانه) (بتاء) الخطاب لأنهم حينئذ (يكون) قالوا ذلك بعضهم لبعض في (حالة) غيبة موسى عنهم، ولم يباشروه بهذه المقالة. قوله تعالى: {قَالَ أَعُوذُ بالله أَنْ أَكُونَ مِنَ الجاهلين}.

68

من باب نفي الشيء بنفي لازمه، لأن الاستهزاء ملزوم للجهل فينتفي الأمران: الاستهزاء والجهل، وجميع ما هو من لوازم الجهل، ولو نفي الاستهزاء وحده لما نفي الجهل ولا ما (عد) من لوازمه. قيل لابن عرفة: قد يكون الاستهزاء مع العلم؟ فقال: من غير (النبيء أما من النبيء المعصوم) فَلاَ، والاستعاذة بالله فيها إقرار بالتوحيد ونسبة كل الأمور إليه عَزَّ وَجَلَّ ّ. قلت: ونظير الآية قوله تعالى: {قَالَ رَبِّ السجن أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يدعونني إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الجاهلين} قوله تعالى: {قَالُواْ ادع لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنَ لَّنَا مَا هِيَ ... } قال الطيبي: إنما يسأل ب «ما» عن جنس الشيء أو نوعه فكأنهم اعتقدوا أنها خارجة عن جنس البقرة إذ لم يعهد في البقرة إحياء الموتى. قال ابن عرفة: هو مثل قول المنطقيين: الجنس هو المقول على كثيرين ((مختلفين بالحقيقة، في جواب ما هو؟ و (النّوع) المقول على كثيرين متفقين في الحقيقة)) في جواب ما هو؟ وكقول ابن مالك في أول المصباح: إن السؤال بما هو؟ يكون عن حقيقة الشيء. وأورد الفخر هنا سؤالا قال: إن السؤال ب «ما» (إنما) هو عن الحقيقة فكيف سألوا عن الصفة؟ قال ابن عرفة: وجوابه ظاهر على مذهبه (لأنه) قال في تأليفه في المنطق كالآيات البينات والمحصول (وغيرهما): (إن) الأمر اللازم العرضي حكمه كحكم الذاتي مثلا الألوان (فصحّ) السؤال (هنا) بما هي؟ لأن الصفة هناك كالذاتي وأما عندنا فنقول السؤال عن الذات بصفتها، أو السؤال عن حقيقة تلك الصفة (فهو) سؤال عن الحقيقة. قوله تعالى: {فافعلوا مَا تُؤْمَرُونَ}. قال ابن عرفة: اختلف الأصوليون في لفظ الأمر هل هو أبلغ من صيغة افعل أو لا؟ فقيل: أنّ أمرتك بالقيام أبلغ من قم، لأن صيغة افعل، قد تكون للإباحة (كما في قوله جل ذكره {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فاصطادوا} وللوجوب بخلاف الأمر، فإن لفظ أمرتك لا يكون للإباحة). وقيل: إن قم أبلغ، واستدلوا بهذه الآية. فلولا أنه أبلغ لما احتيج إلى قوله {فافعلوا مَا تُؤْمَرُونَ} وإلا (كان يلزم) عليه تأكيد الأقوى (بالأضعف)؟ والجواب بأن القرينة هنا أفادت أن صيغة افعل للوجوب، فهو من تأكيد الأقوى بالقوي. واحتجّ بها بعض الأصوليين على (صحة) تأخير البيان عن وقت الحاجة. وقال الآخرون: بل هو تأخير إلى وقت الحاجة. ((أو يجاب) بقول ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه

69

(إنهم) إنما أمروا بذبح بقرة (على الإطلاق)، فلو بادروا وذبحوا من غير سؤال لحصل لهم الغرض، ولكن شددوا فشدد (الله) عليهم. قوله تعالى: {فَاقِعٌ لَّوْنُهَا ... } لم يقل فاقعة مع أنّه من صفة البقرة (جعلوه) مبالغة مثل: جدّ جدّه، وجعله الطيبي مجازا، ورده ابن عرفة بأنه آكد، والتأكيد ينافي المجاز ألا ترى أن أهل السنة)) استدلّوا على وقوع الكلام من الله لموسى بقوله تعالى: {وَكَلَّمَ الله موسى تَكْلِيماً} لأنه (مؤكد) بالمصدر والتأكيد (ينفي) المجاز. ذكره الإمام المازري في شرح التلقين في كتاب الطهارة في قوله: {وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} قوله تعالى: {وَإِنَّآ إِن شَآءَ الله لَمُهْتَدُونَ}. احتج بها الفخر على أن جميع الأشياء من الخير والشر مخلوقة لله تعالى ومرادة له. ورده ابن عرفة/ بإجماعنا على أن الداعي خلق الله تعالى فيقول الخصم: نحمل الآية عليه. قوله تعالى: {قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ ذَلُولٌ تُثِيرُ الأرض ... } فسره الزمخشري بوجهين: إما نفي الإشارة فهو على إضمار «لاَ» أي لا تثير الأرض ولا تسقي الحرث، وإما على إثبات الإشارة ونفي السقي أي هي تحرث ولا تسقي. ورد هذا بأنها إذا انتفى عنها أنّها ذلول ثبت كونها صعبة غير مذللةٍ فلا تطاق لا إلى الحرث ولا إلى سقي. وأُجيب عنه بأن ذلولا من أبنية المبالغة فما انتفى عنها إلا الأخص ((من) الذلة فهو نفي (للاخص)، ولم ينتف عنها مطلق الذلة (فهي متوسطة) فلولا كانت صعبة جدا ما حرثت ولا سقت، ولو كانت ذليلة)) فهي منقادة لا صعبة ولا مذللة. وقال الطيبي: يحتمل أن يكون من نفي الشيء بنفي لازمه مثل قول امرىء القيس: على لاَحِبٍ لا يهتدى بمناره ... ابن عطية: إنما ذلك حيث يذكر لازم الشيء فقط فيكون نفيه نفيا للملزوم وهنا (ذكر) (الملزوم) ولازمه منفيين فليس من ذلك القبيل إلا لو قيل: لا تثير الأرض ولا تسقي الحرث ولم يقل: لا ذلول. ورد هذا بأن مراد الطيبي (أنّ) نفي (الذلّة) عنها ونفي السقي يستلزمان نفي (إثارتها) الأرض، لأن الإثارة في (الآية) مثبتة غير منفية، وهو مثل قول الله تعالى: {وَلاَ يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ}

72

قال الزمخشري: إنه مثل قوله. على لاَحِب لا يهتدى بمناره ((أي ليس هناك خبير فينبئك، وكذا (كمثل) قولهم هذا يوم (لا) ينادي وليد أي ليس فيه وليد فينادي)) ومثل قول صاحب البردة: فذلك حيِنَ بُلوغٍ من نُبُوَّتهِ ... فليس يُنْكَر حالُ محتلِمِ أي ليست له حال محتلم فتنكر. فإن قلت: الذّلة والإثارة متلازمان؟ قلنا: الذلة في الآية منفية، والإثارة مثبتة، و (لا) يتم ما قال الطيبي إلا إذا (أعرب) «تثير الأرض» صفة ل «ذلول» فمعناه لا ذلول مثيرة (الأرض) أي ليست مثيرة الأرض فيكون ذلولا كمعنى البيت المتقدم أي ليس له منار يهتدي (به)، وإن أعربناه صفة للبقرة أو استئنافا أو حالا (فما يجيء) فيه ذلك التفسير، وإذا كان صفة ل «ذلول» فيكون النفي مسلطاً على الموصوف وصفته، (وقصده) ثبوت أحدهما فتكون إما ذلول غير مثيرة ولا مسقية وإما ذلول فقط كقولك: لا رجل صالح في الدار. وضده احتمال كونه: فيها رجل غير صالح، (أو أنها ليس) فيها أحد. قال ابن عرفة: وأخذوا من الآية أن الأمور الجزئية المشخّصة يمكن تعريفها بالخاصة، لأن التعريف بالخواص إنما يكفي عندهم في الأمور الكلية، أما الجزئية فإنها تعرف بتعيينها والإشارة إليها، إذ في الممكن أن يكون في الوجود غيرها مختصا بتلك الصفات. قال: وعادتهم يجيبون بأن الزمان والمكان هنا معينان، فلذلك اكتفى بالتعريف بالخواص ولو كان الزمان (مُبْهَما) لقلنا: في الجائز أن يوجد من هو على تلك الصفة في زمن من الأزمان، أو في غير ذلك المكان إما في ذلك الزمان وإما في ذلك المكان (فيتعين) أن الموصوف شيء واحد لا يحتمل غيره. واحتجوا بهذه الآية على أبي حنيفة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه لأنه (يمنع) السلم في الحيوان على الصفة، وقال: لا (تخصصه) الصفة، فنقل عنه القرطبي هنا وابن يونس المنع في الحيوان بالإطلاق، ونقل عنه غيرهما أنه خصص ذلك (ببني) آدم. قال ابن عرفة: وله أن يجيب بأن الغرور في البيع معتبر، وهذا ليس ببيع (فلا) يلزم من جواز الاكتفاء (بالصفة) هنا الاكتفاء بها هنالك. انتهى. قوله تعالى: {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً ... } قال ابن عرفة: لِمَ نسب (القتل) إلى الجميع والقاتل إنّما هو واحد؟ قال: وأجيب بأنه راعى في ذلك من رضي (بفعله). قال ابن عرفة: إنّما يتمّ لو كان ظاهرا بحيث علم به البعض ورضي (بالقتل) أما هذا (فهو واحد منهم)، وقد قتل واحد منهم غيلة فلم يعلم به أحد (حتى) يقال: إنّه رضي بقتله.

قال ابن عرفة: وإنما الجواب أنه جمعهم باعتبار الدعوى لأن المتهم (بالقتل) ينفيه عن نفسه ويدعيه (على) غيره وذلك الغير ينفيه أيضا عن نفسه ويدعيه (عليه). قال الزمخشري: (خوطبوا مخاطبة) الجماعة لوجود القتل فيهم. قال: فإن قلت: لم يذكر القصة (على ترتيبها)؟ فهلا قدم ذكر القتيل والضرب ببعض البقرة على الأمر بذبحها؟ ثم قال: هلاّ قدم الأمر بالقتل ثم الذبح ثم الضرب؟ قال ابن عرفة: ظاهر كلامه هذا (متناقض) لأنه قال: الأولى بتقديم الضرب ثم رجع إلى أنّ الأولى تقديم الذّبح ولكن جوابه أنّ الأمر بالذبح (متقدم) على الذبح. انتهى. قوله تعالى: {والله مُخْرِجٌ مَّا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ}. لم يقل: ما كنتم تجحدون، لأن الجاحد للشيء المنكر له قد يكون على الحق فيكون موافقا لظاهره بخلاف الكاتم (فإن) باطنه مخالف لظاهره فهو على الباطل بلا شك. قال الفخر الرازي: يؤخذ من عمومه أنّ الله تعالى يظهر جميع الأشياء من الخير والشر. قال ابن عرفة: يلزم عليه (الخلف) في الحبر لأن الله تعالى يستر على العبيد كثيرا من المعاصي. قال الرازي: هو عام مخصوص لأن المراد ما كنتم تكتمون / من أمر القتل، واحتج بها الفقهاء في قول القتيل: (دمي) عند فلان، إنّه (لَوْثٌ) يوجب القسامة. قال ابن رشد في المقدمات في كتاب القسامة: قول الميّت: دمي عن فلان، لم يختلف قول الإمام مالك: إنه لوث في العمد يوجب القسامة والقَوَد عدلا أو مسخوطا. (وخالفه) الجمهور، وحجة الإمام مالك رَضِيَ اللَّهُ عَنْه هذه الآية، وأبطله ابن عبد البرّ بأن هذه الآية (معجزة لنبي وآية له فلا يصح الاستدلال بها). وأجاب ابن رشد: بأن الآية إنما كانت في الإحياء، وأما في قوله بعد أن حيى: فلان قتلني، فليس فيه آية. وقد كان الله قادرا على أن يحيي غيره من الأموات فيقول: إن فلانا قتل فلانا. (قلت): ورده ابن عرفة بأن موسى عليه السلام أخبرهم أن الميت يحيا ويخبرهم بمن قتله فكان الأمر كذلك فكلا الأمرين آية. وقد قال الأصوليون (إذا) قال النبي: دليل صدقي أن هذا الميّت يحيا (فصار حيا). ((وقال: هذا الرجل كاذب. فقال القاضي أبو بكر الباقلاني: (إنّ) ذلك دليل على كذبه. وقال الإمام)) لا يكون دليلا على كذبه. قالوا: وأمّا إن قال: دليل صدقي أن هذا الميت يحيا ويقول لكم: إني صادق، (فيحيا) فيقول: إنه صادق، فلا خوف بينهم أنه دليل على صدقة. فكذلك هذا (هو) معجزة (بلا) شك، فهو خاص بهذه القضية لا يصحّ القياس عليه. وجعل الفقهاء وجود القتيل في محلة قوم لوثا يوجب القسامة.

73

وكانوا يحكون أن مسجد الشماسين بتونس كان دار لبعض الموحدين وبجواره قوم لهم ولد صغير يجلس على باب الدار بكسوة رفيعة ففقدوه، فبحثوا عليه فوجدوه ميتا بمطمور تلك الدار، فرأوا ذلك لوثا فعوقب الموحد وهدمت داره وبنيت مسجدا. قوله تعالى: {فَقُلْنَا اضربوه بِبَعْضِهَا ... } قال ابن عرفة: لم (يتعنّتوا) في هذا ولو مكن الله إبليس منهم لقالوا (لموسى): عيّن لنا ذلك البعض ما هو؟ وانظر قضية عمر ابن عبد العزيز مع الأمير. وأورد (ابن عرفة هنا سؤالا قائلا: لمّا أمروا بذبح بقرة مطلقة انتصبوا للسؤال: على أى بقرة هي، والأمر دائر بين أن يكون هذا منهم تعنتا أو استرشادا فإذا تقرر هذا فلأي شيء لم يسألوا هنا ما هو البعض الذي يضربون به ميتهم فيحيِيَ؟ وأجيب: بأن تفاوت أفراد الجنس والصنف ثابت بخلاف أجزاء الكلّ من حيث هو كل. وأجيب أيضا بأنهم قادرون على أن يضربوا بكل بعض من أبعاض تلك البقرة حتى يوافقوا البعض المراد بخلاف الآخر فإنهم غير قادرين على ذبح جميع البقر كلها. قلت: وهذا قريب من الأول. قوله تعالى: {كَذَلِكَ يُحْيِ الله الموتى ... }. أفرد الخطاب والمخاطبون جماعة: إما لقلة من يتأثر بهذه الآية (منهم)، ثم جمعهم في قوله «وَيُرِيكُمْ» اعتبارا (بظاهر) الأمر، وإما لأن المخاطب واحد بالنوع. واستقرأ الفخر الرازي من الآية فوائد كثيرة: منها أن الزيادة في خطاب نسخ له. ومنها أن النسخ قبل الفعل (جائز وإن لم يجز) قبل وقت الفعل وإمكانه لأدائه إلى (البدء). وردّ ابن عرفة الأول بأنها زيادة على النص. والصحيح أنها ليست (بنصّ) خلافا لأبي حنيفة. وقال الطيبي: إنه من باب (تقييد) المطلق، أو تخصيص العام، لأن البقرة مطلقة. قوله تعالى: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم ... } جعل الزمخشري العطف ب «ثم» لبعد ما بين منزلة الإيمان والكفر. قال ابن عرفة: ولا (يبعد) أن تكون على بابها. (فرد عليه بأن جعل) بعد ذلك لابتداء الغاية (فتناقض) مهلة «ثم»؟ فأجاب بأن دلالة «ثمّ» على المهلة نص لا يحتمل غيره، فهو أقوى من دلالة «من» على ابتداء الغاية. وقال ابو حيان: السياق يقتضي أنها لبعد ما بين المنزلتين. ورده ابن عرفة بأن الأصوليين رجّحوا الدلالة باللّفظ على الدلالة المفهومة من السياق. قيل لابن عرفة: يلزم (على ما قلت) أن يكونوا مرّ عليهم (زمَن) هم فيه مؤمنون؟ فقال: نعم وهو المناسب وهو الزمن الذي كان فيه الرّسول موسى بين أظهرهم، وظاهر الآية أن العقل في القلب. قوله تعالى: {فَهِيَ كالحجارة أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً ... }. منع أبو حيان أن تكون الكاف بمعنى «مثل» محتجا بأنه ليس مذهب سيبويه. وأجاب ابن عرفة بأن ذلك إنما هو إذا جعلها حرفا. ونحن نقول: إنها اسم. وأورد الشيخ الطيبي: ان القلوب شبهت بالحجارة مع أن المشبه بالحجارة إنما هو قسوتها (شبيهة) بقسوة الحجارة. وأجاب: بأن التشبيه في

الحقيقة راجع للقسوة، أي (صلبت) وخلت من (الإنابة) والإذعان (لآيات الله تعالى). قاله (ابن عطية). قال ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: المراد قلوب (ورثة) القتيل لَمّا (أخبرَ) بمن قتله ومات قالوا: كذب. قال ابن عرفة: فالمراد أنّها دامت على القسوة، أو زادت قسوتها لأنهم لم يزالوا قبل ذلك منكرين للقتل، قال: ويضعف هذا بأنه لما قتل قاتل القتيل انقطعت تلك القسوة فلم يبق من هو متصف بها. وجعل السّكاكي هذا من (ترشيح) المجاز. قوله تعالى: {وَإِنَّ مِنَ الحجارة لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأنهار ... }. قال الطيبي: إنّها تذليل لما قبلها لأنها في معناها. قال ابن عرفة: الصواب أنها تعليل أو بيان للوجه الّذي كانت به أشدّ من الحجارة ودليل عليه. وهذا تدلي أو ترقي الذّمّ وهو أولى من العكس لأن الحجارة التي تتفجر منها (الأنهار) أفضل وأعلى من الحجارة التي تنشق فيخرج منها الماء. ويلزم من كونها أشد قسوة من التي تنشق فيخرج منها الماء أن تكون أشد قسوة من المتفجرة عن الأنهار فلذلك أتى به بعده. ولو قيل: إن من الحجارة لما (ينشق) فيخرج (منها) الماء، وإن منها لما يتفجر منه الأنهار لكان تأكيدا. انتهى. قوله تعالى: {وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ الله ... }. قال ابن عرفة: يؤخذ من الآية أنّ الأفضلية ثبتت للجنس بثبوتها لبعض أفراده لأنّ الحجارة الموصوفة بذلك هي بعض من كل، وقد ثبت التفضيل للجميع بقوله: فهي كالحجارة، ولم يقل فهي كالحجارة الموصوفة بكذا، والحجارة عام إما بالألف واللام (أو) بالسياق فقد فضل عليهم جميع الحجارة. قيل لابن عرفة: هذا تقسيم مستوفى فليس (من الحجارة) شيء إلا داخل فيه؟ فقال: الحجارة التي تتفجر منها الأنهار، والتي تنشق عن الماء لا قساوة فيها بوجه، وهم إنّما ذُمّوا بمشاركتهم للأحجار في القساوة مع الزيادة عليها فقد فضلت عليهم الحجارة القاسية لكونها من جنس ما هو غير قاس. قيل له: فكل ما نراه من الأحجار ساقطا من فوق، هلا تقول: إنه (هبط) من خشية الله؟ فقال: ((الآية إنما دلت على (أن) بعض الحجارة يهبط)) من خشية الله لا كلها، وكل ما نراه هابطا يجوز أن يكون هبوطه من خشية الله. قال الفخر: وهذا مثل قوله تعالى: {لَوْ أَنزَلْنَا هذا القرءان على جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُّتَصَدِّعاً مِّنْ خَشْيَةِ الله}

75

قال ابن عرفة: ليست مثلها لأن تلك شرطية، والشرط قد يتركب من المحال بخلاف هذه. قال: وقوله: {مِنْ خَشْيَةِ الله} هو قيد في الجميع، لأن تفجر الأنهار أيضا من خشية الله. قوله تعالى: {أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ ... } استفهام على (سبيل) الاستغراب فيتناول النّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ والمؤمنين، (أو على الإنكار فيتناول المؤمنين فقط). قوله تعالى: {يَسْمَعُونَ كَلاَمَ الله ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ ... }. (ابن عطية: قال ابن إسحاق: وهم السبعون الّذين سمعوا كلام الله مع موسى، ثم بدلوه. ابن عطية): وهذا ضعيف وخطأ لأن فيها (إذهابا) لفضيلة موسى في اختصاصه (بالتّكليم). قال ابن عرفة: بل هو مقرر للفضيلة لأنهم (إنما) سمعوا كلام الله بحضرته من أجله وعلى سبيل التّبعية له. وقيل: المراد سماعهم تلاوة التوراة والصحف من موسى، وكونهم بدلوا فيها وغيّروا، فالسماع الأول حقيقة وهذا شبه مجاز في المسموع لا في نفس السّماع، لأن مسموعهم ليس هو كلام الله تعالى، إنما هو كلام موسى عليه السلام، ومدلوله كلام الله، ونظيره سماعك كلام زيد من ناقل (نقله عنه). قال الزمخشري: والمراد (بالتحريف) ما يتلونه من التوراة، ثم يحرفونه كما حرفوا صفة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وآية الرجم. قيل لابن عرفة: لم يبدلوا آية الرجم إنما وضع مدرّسهم يده عليها فقط؟ فقال: المراد بالتحريف الكتم أو عدم العمل بمقتضاها. قيل لابن عرفة: إن الشيخ أبا علي ناصر الدين البجائي المشذالي كان يحتج بهذه الآية على إثبات العمل بالقياس، وقرره بأنه سجل على هؤلاء بالكفر قياسا على أحبارهم ومن سلف (منهم) الذين شاهدوا الآيات البينات وسمعوا كلام الله إمّا مشافهة أو بواسطة؟ فقال ابن عرفة: إنما فيها استحالة ثبوت المعنى وهو الإيمان لوجود المانع (منه) وهو أحبارهم (يحدثونهم) بتحريف من سلف (منهم) وكفرهم. واللام في قوله عَزَّ وَجَلَّ {يُؤْمِنُواْ لَكُمْ} الأصوب (أن تكون بمعنى «مع» ويبعد كونها) للتعليل أي يؤمنوا لأجلكم لأن مفهومه حصول الإيمان منهم بسبب آخر غير المؤمنين. قوله تعالى: {وَإِذَا لَقُواْ الذينءَامَنُواْ ... }

77

عبر ب «إذا» مع أنهم يكرهون لقاء المؤمنين لوجهين: إما لعلم الله تعالى أنهم لا بد لهم من لقائهم، وإما لأنّ النبي عليه السلام مأمور بتبليغ الوحي لهم ولغيرهم فلا بدّ (لهم) من لقائه، وإنما قال {وَإِذَا لَقُواْ} ولم يقل وإذا أتوا، إشارة إلى أن لقاءهم للمؤمنين إنما يكون فجأة غير مقصود (ومن خبثهم أنّهم) {قالواءَامَنَّا} من غير تأكيد نزّلوا أنفسهم منزلة البريء (الغير متّهم)، ولم يذكروا بمن آمنوا حتى يبقى الكلام مطلقا يفهمه المخاطب على شيء، ويقصد به المتكلم شيئا آخر. قوله تعالى: {قالوا أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ الله عَلَيْكُمْ لِيُحَآجُّوكُم بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ ... }. قال ابن عرفة: هذا من رؤسائهم المنكرين عليهم قصور الإنكار والمناسب لحالهم المبالغة في الإنكار (عليهم) لأنهم ما أنكروا عليهم إلا التحدث الموجب للحاجة فمفهومه أنهم أباحوا (لهم) مطلق الحديث مع المؤمنين لكن يبقى النظر/ هل اللام في «لِيُحَآجُّوكُم» تعليل للحديث أو للإنكار؟ (وهل) اللام سابقة على الهمزة، (ثم) دخلت الهمزة على الحديث لأجل (المصاحبة) فأنكرته بعلته أو الهمزة سابقة فدخل التعليل بعدها فكان علة الإنكار؟ (وهل) قبل حديثهم لأجل (المحاججة) هو المنكر أو المراد أن الحديث في (الإطلاق) وأنكر (خوف) المحاجة به؟ وجعل أبو حيان اللام في «لِيُحَآجُّوكُمْ» للصيرورة بناء عنده على أنه تعليل للتحدث وإذا جعلناها للإنكار (تبقى) اللام (على بابها) من التعليل الحقيقي ويكون الإنكار بليغا لا قصور فيه بوجه. قلت: ورده بعضهم بأنه على هذا يكون المعنى لا تحدثوهم بما فتح الله عليكم لئلا يحاجوكم به عند ربكم، فيكون الرؤساء أقروا (أن) للمؤمنين عليهم حجة بذلك يوم القيامة، وهم إنما غرضهم (التمويه) على العوام، وتنفيرهم من الإيمان فكيف يقرون لهم بصحة هذا الدين؟ وأعرب الطيبي «عِندَ رَبِّكُمْ» بدلا (مما) {فَتَحَ الله عَلَيْكُمْ} لأنه هو. ورده ابن عرفة: إنما يكون (هُوَ إن لَوْ) قيل: ليحاجوكم. قوله تعالى: {أَفَلاَ تَعْقِلُونَ}. إما من كلام الله أو من (قول) المنكرين، وعلى هذا حمله ابن عطية على العقل التكليفي فقال: العقل علوم ضرورية. قال ابن عرفة: والصواب أنه العقل النّافع أي أَفَلاَ تَعْقِلُونَ من أجل هذا. قوله تعالى: {أَنَّ الله يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ}

78

عطْف «يُعْلِنُونَ» على «يُسِرُّونَ» تأكيدٌ ليدل اللفظ عليه بالمطابقة واللّزوم، وأفاد العطف التسوية بين علمه السر (والجهر) كما قال الأصوليون في عطف صيغة افعل المحتملة للوجوب والندب على ما هو نص في أحدهما، وكما قال (ابن بشير) في سبب الخلاف في النوم: هل هو حدث أو سبب في الحدث؟ قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ الكتاب إِلاَّ أَمَانِيَّ ... } قال ابن عطية: الأميون عامة اليهود وأتباعهم لا بطمع في إميانهم. قال ابن عرفة: يؤخذ منه ذم التقليد لكن في الباطل، ولا نزاع فيه. ابن عطية: وقيل: قوم ذهب كتابهم. وقيل: نصارى العرب. وعن عليّ هم المجوس. واستبعده ابن عرفة لأنهم لا كتاب لهم، (وقد) جعلهم منهم. ووجهه ابن عطية: بأن الضمير في «مِنْهُم» على هذا يرجع للكفار أجمعين (لا أنه) خاص بأهل الكتاب. قال أبو حيان: والاستثناء منفصل. قال الطيبي: يعلمون (بمعنى) يعرفون. ولا يصح أن تكون «أَمَانِيَّ» مفعولا ثانيا لها لأن عَلِمَ المتعدية إلى اثنين داخله على المبتدأ والخبر والكتاب ليس هو الأماني بل غيرها. ورده ابن عرفة بأن ذلك إنما هو في الإثبات، وأما في النفي فيجوز أن تقول: لا أعلم زيدا حمارا. قيل له: هذا الثاني مثبت ولا يجوز أن تقول: لا أعلم زيد إلا حمارا؟ فقال: الأَمَانِي (هنا) في معنى النفي إذ ليس المراد إلا النفي المطلق. قال ابن عرفة: والأَمَانِيّ، إمّا بمعنى التلاوة أي لا يعلمون معنى الكتاب بل يحفظون ألفاظه فقط، وأنشدوا عليه قولا في عثمان: (تمنّى) كتاب الله أول ليله ... وآخره لاقى حمام المقاد وإِمَّا معنى (التمني) أي أنهم يتمنون أن يكونوا يحفظونه ويعلمونه. قلت: وتقدم لنا في الختمة الأخرى أنه من تأكيد الذّم بما يشبه المدح كقوله: هو الكلب إلاّ أنّ فيه ملالة ... وسوء مراعاة وما ذاك في الكلب وعكسه كقوله: ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم ... بهن فلول من قراع الكتائب قوله تعالى: {وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ}. ابن عطية: الظن على بابه ونقل عن الشيخ أبي علي ناصر الدين أنه معنى يَشُكونَ. وردّه ابن عرفة: بأن فروع الشريعة عندنا يكفي فيها الظنّ والأمور الاعتقادية لا بد فيها من العلم وهذا أمر اعتقادي فالظن (فيه) غير

79

(كاف) فلذلك سجل (عليهم بوصف الظنّ) دون الاتصاف بالعلم فلا يحتاج إلى جعله بمعنى الشك. قوله تعالى: {فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الكتاب بِأَيْدِيهِمْ ... } الفاء للاستئناف أو للسبب. ابن عطية: قال الخليل: الويل شدة الشر. وقال الأصمعي: الويل (القبائح) وهو مصدر (لا فعل له) ينصب على الدعاء. واستبعده ابن عرفة أن يراد به القبائح قال: إنما يفهم منه العقوبة المترتبة على القبائح قال: وويل وويح (وويس وريب) (متقاربة) وقد فرق بينها قوم. قلت: قال: القاضي عياض في الإكمال في كتاب الإيمان في حديث خرّجه مسلم من رواية واقد بن محمد أنه سمع أباه يحدث عن عبد الله بن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما، عن النّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال في حجة الوداع: «ويحكم، أو قال: وَيْلَكم لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض». قال القاضي عياض: ويح، وويل للتّعجب والتوجّع كما قال سيبويه ويل (لمن) (وقع) في مهلكه، وويح يترحم بمعناها، وحكى عنه ويح لمن أشرف على (المهلكة). قال غيره: ولا يراد بها الدعاء بإيقاع الهلاك ولكن الترحم. وروي عن عمر بن الخطاب رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: ويح ترحم. قال الهروي: ويح لمن وقع في مهلكة لا يستحقها/ (فيرثى) له ويترحم عليه، وويل للذي يستحقها ولا يترحم عليه. وقال الأصمعي: ويح ترحم، وابن عباس: الويل المشقة. قال ابن عرفة: هو الحزن (وقيل الهلاك). قلت: وقال القاضي في حديث (ويحك يَا أَنجشة) (رويدك بالقوارير). قال سيبويه: هي لمن وقع في مهلكة (لا يستحقها) فيرثى له ويترحم عليه، وويل بضده، وويس تصغير أي (دونها ذكره في كتاب الفضائل). قوله تعالى: {ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِندِ الله ... }. («ثم») لبعد ما بين منزلة الكتب والقول. قيل لابن عرفة: (الكتاب) لا شيء فيه، إنما العقوبة على نسبته إلى الله. فقال: لا بل على الأمرين كمن يكتب (عقودا) يضرب فيها على الخطوط والشهادات (ويخليها) عنده، فإنه قد ارتكب محظورا فإن أظهرها ونسبها إلى تلك الشهود وطلب

بها فهو قد فعل محظورا (آخر). قيل لابن عرفة: نص ابن التلمساني في آخر باب النسخ على أنهم أجمعوا على تكفير من كَّذب الله، واختلفوا في تكفير من كذَب على الله. فقال ابن عرفة: هذا مشكل فمن يفتي بالخطأ كاذبا على الله يلزم أن يكون كافرا وليس كذلك. قوله تعالى: {لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً ... }. قال ابن عرفة: إما أن يراد (يبيعونه) بشئ تافه، أو بلا شيء كقول سيبويه: مررت بأرض فلمّا تنبت (البقلا) أي لا تنبت شيئا ونحوه. قال الزمخشري في قوله تعالى: {وَقَالُواْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَل لَّعَنَهُمُ الله بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً مَّا يُؤْمِنُونَ} وَفِي قَوْلِهِ في النساء: {فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً} وأنشد: (قليل التشكي للمهمّ يصيبه ... كثير الهوى شتى النوى والمسالك) وأنكره أبو حيان وذكره أيضا الزمخشري في سورة النّمل في قول الله عَزَّ وَجَلَّ: {وَيَجْعَلُكُمْ حُلَفَآءَ الأرض أءلاه مَّعَ الله قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ} قال: المعنى نفي التذكير. والقلة تستعمل في معنى النفي. قال ابن عرفة: معنى كتبهم: إما أنهم يكتبون زيادات يدلّون فيها (صفات) النّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وغير ذلك ممّا يقصدون تبديله لغرض ما ويعطون ذلك لعوام ويقولون لهم: إنّه منقول من التوراة، وإما أنهم يخبرونهم بذلك بالقول: إنه (من) التوراة دون (كتب)، وأما (تبديلهم) ذلك في نفس التوراة فلا، (وقد قال ابن فورك: إنّ صفاته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ الآن موجودة في التوراة). وقال المازرى في الأحوذى له عن (الجوزقى) إن اسمه فيها بالعبرانية «وار كليط» وما زالت تقع في (الكتبيين للبيع). والفرق بينهما أن القرآن أخبرنا اللهُ تعالى فيه أنّه تكفل بحفظه والتوراة أمر أهلها بحفظها ونحن لا نثق بهم في قولهم: إنّهم حفظوها، فلعلهم عصوا ذلك، لأمر ولم يمتثلوه .. وبرهان هذا واضح بالبحث عن القرآن في الأقطار كلها المحصل

80

للعلم والتواتر. قيل لابن عرفة: قال بعضهم: الدليل على أنّ التوراة لم تزل في نفسها على ما كانت عليه غير مبدلة أنها في الأقطار كلها متساوية الجرم على نوع واحد ولو بدلوها لاختلفت في الأقطار؟ قالوا: وهي لا تقع إلا في خمسة أسفار (وصفات) النبي صلى الله عليه وسلّم في الخامس منها. قال ابن عطية: قال ابن إسحاق: كانت صفته في التو اة أسمر اللون ربعة، فردوه آدم طويلا. قال ابن عرفة: نصوا على أنّه لا يُقَالُ فيه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: أسمر لأنه نقص. قيل له: ذكروا في صفاته عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ أنه أبيض بياضا مشوبا بحمرة. وهذا أحد ما تصدق عليه السمرة. فقال: لفظ (أسمر) موهم لإطلاقه على القريب من الأسود. قوله تعالى: {فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا يَكْسِبُونَ}. أي من كل خطيئة يكسبونها بالإطلاق كتبا أو غيره، فهو من عطف العام على الخاص. قوله تعالى: {قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِندَ الله عَهْداً فَلَن يُخْلِفَ الله عَهْدَهُ ... } قال الزمخشري: الفاء جواب شرط مقدر أي أن اتخذتم عند الله عهدا. قال ابن عرفة: لا يحتاج إلى هذا لأنَّ (الثاني) ملزوم للأول، فاتخاذ (العهد) ملزوم للوفاء به فيصح عطفه عليه، ودخل (العهد) الإنكار على الفعل وما عطف عليه فهو كالنفي سواء ينفي الفعل وما عطف عليه. وكذا قال الطيبي: إن كلام الزمخشري هنا مبني على أن {فَلَن يُخْلِفَ الله} كلام مستأنف ولو كان عنده معطوفا على {أَتَّخَذْتُمْ} لما احتاج إلى تقدير شيء. قال ابن عرفة: وكان (يظهر) لنا أنه يخرج لنا من الآية أن النّافي للدعوة مطالب بالدليل على ذلك (لأنه) أنكر عليهم قولهم {لَن تَمَسَّنَا النار} قال: (وكان) ابن عبد السلام يجيب عنه بأنهم ادعوا أمرا مشتملا على نفي وإثبات فطولبوا بالدليل على طرف الإثبات. ورد بأن من ادعى ما يوافقه الخصم عليه لا يحتاج إلى دليل، ونحن نوافقهم على مس النار لهم أيّاما ونخالفهم في طرف النفي. وأجيب عنه بأن الإنكار في طرف النفي لكنه نفي ما قد حصل وتقرر ثبوته لأنهم وافقوا على مسّ النار إياهم أربعين يوما. ومن ادعى على رجل حقا فأقرّ به، وقال: دفعته، يطالب بالدليل على براءته منه. قال ابن عرفة: الكلام معهم في مدة النفي لا في مدة الإقرار. وأجيب أيضا بأنّ هذا النّفي يستلزم ثبوتا، لأنه ليس هناك إلا جنة أو نار، فإذا نفوا عنهم

81

النار فقد/ ادعوا أنهم في الجنّة، فقال: إنما علمنا الجنة أو النار بالشرع، وكلامنا الآن في الدليل العقلي، لأن الدليل العقلي اقتضى أنّ النافي لا يطالب بالدليل. فقيل له: بل ذلك أيضا معلوم من الشرع لحديث «البينة على من ادّعى واليمين على من أنكر». قوله تعالى: {بلى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً ... } قال ابن عرفة: وجه مناسبتها لما قبلها أنه لما تضمن الكلام السابق (ادّعاء) الكفار أنّهم لا يعذبون بالنار إلا زمانا (مخصوصا) يسيرا، رد عليهم ذلك بوجهين: - الأول: مطالبتهم بالدّليل على ذلك حسبما تضمنه {قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِندَ الله عَهْداً} - الثاني: أنّهم لما عجزوا عن الإتيان بالدليل (احتمل) أن يكون دعواهم في نفس الأمر صحيحة، فأتى بهذا الدليل على بطلانها. فقال: {بلى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً}. ظاهر الآية حجة لأهل السنة في إثبات الكسب لأنهم اصطلحوا على إطلاق هذا اللفظ مرادا به القدرة على الفعل مع العلم بما فيه من مصلحة أو مفسدة، والأصل عدم النقل، فإن قلت: المراد به معناه اللّغوي؟ قلنا: الأصل موافقة اللغة للاصطلاح، وعدم النقل فلعله كذلك في اللغة. فإن قلت بقول (المعتزلة): المراد به عندي استقلال العبد بقدرته وأنه يخلق أفعاله، والأصل عدم النقل، فلعله كذلك في اللغة؟ قلنا: قد أبطلنا مذهبهم في الأصول بموافقتهم على الدّاعي. و «مَن» إما موصولة أو شرطية، والظاهر الأول لعطف الموصول عليها ولأنّ الشرط (قد) يتركب من المحال. تقول: (لو اجتمع) النقيضان لكان زيد متحركا ساكنا، وهذا صادق مع أنه محال، وكسب السيئة قيل: المراد به ما سوى الكفر من المعاصي. {وَأَحَاطَتْ بِهِ خطيائته} المراد به الكفر. وقيل: بالعكس. قيل لابن عرفة: أو المراد بالجميع الكفر؟ فقال: يكون العطف تكرارا. (قيل له): بل المعنى كسب السيئة وأحاطت به تلك السيئة؟ (قال): والخلود إن كان كسب السيئة مرادا به المعاصي سوى الكفر، والخطيئة المراد بها الكفر، فيكون من استعمال اللّفظ الواحد في حقيقته ومجازه لأن خلود الكفار حقيقة وإن كان شيئا واحدا، (فيجوز) فيه أنّ الكفار مخاطبون بفروع الشريعة. ويفرع على القول الأول بأن معنى الخطاب بذلك راجع إلى تضعيف العذاب على المخالفة في الدار الآخرة، فيكون هذا خلودا خاصا. والآية حجة لأهل السّنّة (بدليل) أداة الحصر. (فالمعنى): هم الخالدون لا غيرهم. قيل لابن عرفة: يخرج من حافظ منهم على الفروع فيلزم أن يكون غير (مخلد)؟ فقال: السياق يبين أنّ هذا خلود خاص. قال الطيبي: يحتمل أن يراد بالسّيئة كل ما فعل عن قصد، وبالخطيئة ما

83

فعل غير مقصود كمن شرب الخمر فلما سكر ضرب رجلا (أو قتله). الزمخشري: قال الحسن: كل آية نهى الله عنها، وأخبرك أن من عمل بها أدخله النار فهي الخطيئة المحيطة. قال ابن عرفة: صوابه كل نهي. قال ابن عرفة: وزيادة لفظ الخلود دليل على أن الصحبة (تطلق) على مطلق الاجتماع وإن لم يكن معه دوام. قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بني إِسْرَائِيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ الله ... } قال ابن عرفة: هذا دليل على أن الاستثناء من النفي إثبات. قيل لابن عرفة: نقول إنه محتمل للإثبات والنفي، والدليل العقلي عين هنا أحد المحتملات، وهو الإثبات، فقد تقرر عند الجدليين والأصوليين أنه إذا تعارض حمل الكلام على فائدة (احتمل أن تكون) فهمت من مجرد اللّفظ، (أو) من خارج، فالأولى (ترجيح) فهمها من اللّفظ. وتقرر عند الجدليين أنّ جواز الإرادة موجب (للإرادة) بجواز إرادة أن الاستثناء من النفي إثبات موجب لإرادة ذلك. قال: ولا يصح أن يكون {لاَ تَعْبُدُونَ} بدلا من {مِيثَاقَ} فإنه متعلق الميثاق لا نفس الميثاق. قلت: يكون بدل اشتمال، أو بدل شيء من شيء على تقدير مضاف أي ميثاق لا تعبدون إلاّ الله. قوله تعالى: {وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً ... }. قال ابن عرفة: المراد هو الحسن شرعا، فيدخل فيه تغيير المنكر، فإنّه من القول الحسن، وليس المراد به القول الملائم للناس، ومجرد تحسين الخلق معهم، فإنه يخرج عنه تغيّر المنكر مع أن الأمر يتناوله هو وغيره، ويحتمل أن التكليف به لهم في شريعتهم أو في شريعتنا بعد (إيمانهم، أو بعد التوفيه بذلك)، وتقيده بالإعراض إشارة إلى دوامهم على ذلك، والإصرار عليه فإن (المتولي) على قسمين: فواحد يطمع في رجوعه، وآخر لا يطمع فيه بوجه فهذا هو المعرض. قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لاَ تَسْفِكُونَ دِمَآءِكُمْ ... }

85

تضمن الكلام السابق أمرا اعتقاديا وأمرا فرعيا، (وهذا تضمّن أمرا فرعيا فقط) وسفك الدماء أشد من الإخراج من الديار، فالنّهي عنه لا يستلزم النهي عن الإخراج من الديار، فكان ذلك ترقيا في الذمّ. وقراءة «يسفكون» بالتخفيف أعم من (قراءة) التشديد لأنه نهي عن مطلق السفك. ووجه قراءة التشديد أنّ النّهي أتى على وفق حالهم/ في سفك الدّماء، وكانوا قد تَنَاهَوْا وبلغوا الغاية. قوله تعالى: {ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ}. قال ابن عرفة: إما أنّ المراد أقررتم بذلك إقرارا يتضمن أنّكم حصل لكم بذلك العلم اليقيني، فهو يبلغ إلى درجة الشهادة، لأنّ الإنسان يُقِرّ بها: يظن ولا يشهد إلا بما يعلم. قلت: وأشار الزمخشري إليه حيث جعله كقولك: فلان مُقر على نفسه بكذا، شاهد عليه. قال ابن عرفة: وإمّا أن يراد أقر كل واحد منكم على نفسه وشهد على غيره. الزمخشري: وقيل: وأنتم تشهدون اليوم يا معشر اليهود على إقرار أسلافكم بهذا الميثاق. زاد ابن عطية: أقررتم (خلفا بعد سلف) أنّ هذا الميثاق أخذ عليكم، والتزمتموه، فيتجه في هذه اللفظة أن تكون من الإقرار الذي هو ضد الجحد، ويتعدى بالباء، وأن تكون من الإقرار الذي هو إبقاء الأمر على حاله أي أقررتم هذا الميثاق ملتزما. «وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ» أي تحضرون أخذ الميثاق والإقرار. قوله تعالى: {بالإثم والعدوان} يحتمل أن يكون الإثم هو مواقعة الذنب خطأ من غير قصد، والعدوان مواقعة (الذنب عن قصد). قوله تعالى: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الكتاب ... } أنكر عليهم تناقضهم كما هو في قول الله عَزَّ وَجَلَّ {أَتَأْمُرُونَ الناس بالبر وَتَنْسَوْنَ أَنفُسَكُمْ} ليس المنكر كل واحد (من الأمرين) على حدته، لأن الإيمان (بالبعض) وأمر الناس بالبر غير منكر، إنما المنكر (الكفر) بالبعض (وعدم) الاتصاف بالبر، والمنكر (الجمع بين) الأمرين. وعبر بالفعل المضارع للتصوير والدوام. قيل لابن عرفة: في الآية حجة لمن يقول بوجوب فِدَاء الأسارى لقوله تعالى: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الكتاب} بعد أن قالوا: {وَإِن يَأتُوكُمْ أسارى تُفَادُوهُمْ} فدل على أن (فداء) الأسارى (من جملة) ما في كتابهم. فإذا قلنا: إن شرع من قبلنا شرع لنا، نقول: إن الفداء في شرعنا واجب؟ (فقال: نعم).

86

قوله تعالى: {فَمَا جَزَآءُ مَن يَفْعَلُ ذلك مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ ... } ولم يقل: من فعل. قال ابن عرفة: في التعبير بالمضارع ترج وإطماع لهم في العفو، (لأن) من فعل ذلك في الماضي وتاب لا يجازى بالخزي، إنما يجازى به من لم يتب. قوله تعالى: {يُرَدُّونَ إلى أَشَدِّ العذاب ... } إن قلت: (الرد) يقتضي تقدم الحلول في المردود إليه؟ قلنا: هؤلاء كانوا فيما هو من جنس ذلك العذاب لأن العذاب نالهم في الدنيا. قال الله تعالى: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ الله بِأَيْدِيكُمْ} فإن قلت: كيف هو أشد وعذاب المنافقين أشد وعذاب الدهرية أشد لنفيهم الصانع؟ قلنا: الأشديّة مقولة بالتشكيك، أو المراد أشد العذاب الّذي علم الله حلوله بهم في الدنيا والآخرة، فلا ينافي أن يحل بغيرهم ما هو أشد منه. فعذاب الدهرية أشد، وعذاب المجوس أشد، وكان بعضهم يقول: إن الدهرية لم يدّعوا نفي وجود الصّانع إنّما قالوا: {وَمَا يُهْلِكُنَآ إلاّ الدهر} فادّعوا أن لهم خالقا أوجدهم فقط، أو (يقال): قوله تعالى: {إِنَّ المنافقين فِي الدرك الأسفل مِنَ النار} لم يعين أنه أسفل الطبقات نصا فالمراد أنه أسفل من غيره بالإطلاق فيصدق بكونه أسفل من طبقة (ما منها). قلت: الآية خرجت مخرج الذم للمنافقين و «الدَّرْكِ» معرّف بالألف واللام العهدية، والمعهود (هنا) في الأسفل إنما هو ما بلغ الغاية في الانخفاض لا سيما إن قلنا: (الأصح) الأخذ بأواخر الأشياء. قيل لابن عرفة: ظاهر الآية أنّ من كفر بالجميع عذابه أخف من عذاب من آمن ببعض الكتاب وكفر ببعضه مع أن كفر الأول أشد؟ فأجاب: بأن الإيمان بالبعض دليل على حصول (العلم) وكفر العالم أشد من كفر الجاهل. قلنا: أو يجاب بأن (عذاب) الجميع (متساو) فيصدق على كل فريق أن عذابه أشد، وهم مستوون في الأشدية، أو المراد أشد العذاب المعهود في الدنيا، لأن عذاب الدنيا على أنواع: (منها) الضَّرب والسجن، وأشدها عذابا النّار أي يردون إلى عذاب النار. قوله تعالى: {اشتروا الحياة ... } قوله تعالى: {فَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ العذاب وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ} قال ابن عرفة: هذا ليس بتكرار: - فالأول اقتضى أن ذلك العذاب لا يرجى من فاعله شفقة على المفعول ولا تخفيفا عنه. - والثاني اقتضى أنه لا يقدر أحد على (استخلاص) المفعول من ذلك العذاب ونصرته بوجه.

87

قوله تعالى: {وَلَقَدْءَاتَيْنَا موسى الكتاب ... } إن قلت: الخطاب لليهود وهم معترفون بنبوة موسى عليه السلام فما فائدة القَسم على ذلك؟ قلنا: فائدته التنبيه على مساواة غيره من الرسل الآتين بعده (له) في النبوة، وأن نبوتهم حق كما (هي) نبوة موسى عندهم حق. قال ابن عرفة: وهذه معجزة للنَّبي صلى الله عليه وسلّم، لأنّ القاعدة أن من ادّعى أمرا محالا لم يسمع منه، وإن ادعى أمرا ممكنا (سمع منه وطلب) بالدّليل على صحّته. والدليل قسمان: جدلي برهاني للخواص، ودليل للعوام، فبين لهم أولا أنه ادّعى أمرا ممكنا، (واستدلّ عليه لهم بدليل برهاني) خاص بالخواص، ثم استدلّ لهم الآن بالدليل الّذي يفهمه العوام، وهو أنّه إنّما (ادّعى) أمرا تكرر أمثاله قبله فلم يأتكم بأمر غريب فهو ممكن عقلا، (واقع) أمثاله بالمشاهدة، فحقكم أن تنظروا في معجزته فتؤمنوا به. فإن قلت: ما أفاد «مِن بَعْدِهِ» مع أنّ (القبلية) تفيد معنى البعدية؟ قلت: لإفائدة أول أزمنة البعدية إشارة إلى أنّ موسى عليه السلام من حين أرسله لم تزل شريعته باقية معمولا بها حتى أرسل رسولا آخرا فكان مقرر لها كيوشع بن نون أو ناسخا كعيسى. وعين موسى وعيسى دون غيرهما إما لأن المخاطبين بهذه الآية اليهود والنصارى، أو لأن المتبعين لشريعة موسى وعيسى باقون قيام الساعة، ولم يبق أحد (ممن) تشرع بشريعة غيرهما من الأنبياء. فإن قلت: لِم خصّص عيسى بذكر (الآيات) البينات؟ قلنا لوجهين: إما لأنه بَشّر بنبينا سيدنا محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حيث قال: {وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسمه أَحْمَدُ} واستظهر على صحة قوله بمعجزات واضحات، وإمّا لأنّ الخطاب لليهود وهم كافرون بعيسى، (فمعناه) أرسلنا من بعده موسى رسلا، منهم عيسى ورسالته، (قام) الدليل على صحتها، وأنها نسخت شريعة نبيكم موسى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ فكذلك هذه الرسالة. قوله تعالى: {أَفَكُلَّمَا جَآءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تهوى أَنفُسُكُمُ ... } قال ابن عرفة: هذا نهي عليهم، ومبالغة في ذمّهم، لأن ما لا تهواه (النفس) أعمّ مما تكرهه (النّفس)، والمعنى أنهم مهما أتاهم رسول من عند الله تعالى بأمر (لا يحبونه) سواء كانوا يكرهونه أو لا، فإنّهم (يستكبرون) ويكفرون به ونظيره قوله تعالى في سورة العقود: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ الله فأولئك هُمُ الظالمون} ولم يقل: ومن حكم بغير ما أنزل الله، فيتناول من ترك الحكم ولم يحكم بشيء، لأن الفصل بين

88

المسلمين بالحق واجب. وأورد الزمخشري سؤالا قال: لم قال «فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ» بالماضي «وفَرِيقاً تَقْتُلُونَ» بالمضارع؟ وأجاب بان التكذيب في أفراد متعلقاته كله ماض، والقتل في (بعض) آحاد متعلقاته مستقبل، لأنهم كانوا يحبون أن يقتلوا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وقد أهدت له يهودية في (خيبر) شاة مصلية وسمت فيها الذراع، لأنه كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يحبه، وأخبره الذراع بالسم بعد أن لاكه في فيه، ثم ألقاه منه، ثم قال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ في مرضه الذي (انتقل فيه إلى الفردوس الأعلى): ما زالت من الأكلة التي أكلت بخيبر (فهذا أوان انقطاع) أبهري. ولهذا يقال: إن النبي صلى الله عليه ولم مات شهيدا. قوله تعالى: {وَقَالُواْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ ... } الظّاهر أنه بلسان المقال لا بلسان الحال، واختلفو في تفسيرها؟ فقال الزمخشري: أي خلقت قلوبهم غير قابلة (للإيمان) بوجه. ونقل ابن عطية عن ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: أن المعنى قلوبنا ذات غلاف يمنعها من (قبول) الإيمان. والأول أشد، أو معناه أنّها ممتنعة من القبول لذاتها وهذا يقتضي أنّ المانع لها غير ما قال الزمخشري. وقيل: غُلْف مخفف غَلَفَ جمع غِلاَفٍ أي قلوبنا غِلاَف لغيرها، والغلاف الوعاءُ، أي هو وعاء للعلم، وهو نقيض الأول لأنه يقتضي أنها مستغنية بعلمها عن علم الرّسول الذي (جاء) به. وعلى الأول يكونون: إما قصدوا الاستهزاء به، وإما الاستعذار (له) بأنّهم جاهلون (لا يفهمون ذلك ولا يطيقون، فعلى أنّهم قصدوا الإخبار) بأنّهم (غنِيّون بعلمهم عن علمه) يكون الإضراب يدلّ على ذلك الكلام حقيقة، وكذلك إن أرادوا أنها خلقت غير قابلة للإيمان فالإضراب عن لازم ذلك وهو الاستعذار أي لا عذر لهم في ذلك بوجه لأن كونها ذات مانع هو الثابت في نفس الأمر فلا يصح (إبطاله). قوله تعالى: {فَلَمَّا جَآءَهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ ... } قال الزمخشري: أي ما عرفوا من الحق كفروا به بغيا وحسدا وحرصا على الرئاسة. قال ابن عطية: المراد بقوله «مَّا عَرَفُواْ» الرّسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؟ قال ابن عرفة: واستشكلوه لأنّ «ما» لا تقع إلا على (ما لا يعقل) (أو على أنواع من يعقل). وأجيب بأنها واقعة على صفة من يعقل لا على ذاته، أي ما عرفوا من نبوته وصفاته وصحّة رسالته كفروا به، وكان بعضهم يأخذ من الآية جواز الاكتفاء في الشهادة والأحكام بالصفة دون تعريف. وأجيب: بأنه احتفت به قرائن تقوم مقام التّعيين، وهي المعجزات التي جاءهم بها. ورُدَّ بأن المعجزات خارجة عن هذا وكافية وحدها، وليست مذكورة في الآية إنما المذكور فيها معرفتهم له

90

من حيث الصفة التي في كتابهم فقط من غير ضميمة إلى ذلك. وفي كتاب اللقطة: وإذا وصل كتاب القاضي إلى قاض آخر، وثبت عنه بشاهدين، فإن كان الفعل موافقا لما في كتاب القاضي من صفته، وخاتم القاضي في عنقه لم يكلف الذي جاء به أن يقيم بينة أنّ هذا (الحكم) هو الذي حكم به عليه. قوله تعالى: {فَلَعْنَةُ الله عَلَى الكافرين} قال ابن عرفة: وانظر هل هذا إنشاء أو إخبار لقول متقدم؟ ثم قال: لا يبعد أن يكون إنشاء، وتكون اللّعنة مقولة بالتشكيك والتفاوت، / لأن هؤلاء كفروا وهم جاهلون، إذا بنينا على أن ذلك (استعذار)، وهؤلاء كفروا بعد علمهم ومجيء الكتاب لهم فاللّعنة في حقهم أشد. قوله تعالى: {بِئْسَمَا اشتروا بِهِ أَنفُسَهُمْ أَن يَكْفُرُواْ ... } قال ابن عرفة: نص النحويون على أنّ (اسم) الممدوح في «نعم» أو المذموم في «بئس» لا يكون إلا أخص من فاعلها أو مساويا، ولا يكون أعمّ منه، والشراء والكفر بينهما عموم وخصوص من وجه، فالشّراء يطلق على المعارضة من غير الكفر وعلى المعارضة في الكفر، والكفر أيضا أعم من وجه، لأن من كفر بعد أن آمن اشترى الكفر (بالإيمان)، ومن كان كافرا بالإصالة لم يشتر شيئا بشيء. قوله تعالى: {فَبَآءُو بِغَضَبٍ على غَضَبٍ ... } أي رجعوا، ومنه قولهم: بُؤْ بِشسع نعل كليب، أي ارجع بشسعِ نعل كليب وهي من كلام المهلهل أخي كليب قالها في حرب (داحس) للحارث. قال ابن عرفة: وتنكير الغضب بدل على أن الثّاني غير الأول كما قالوا في قوله تعالى: {فَإِنَّ مَعَ العسر يُسْراً إِنَّ مَعَ العسر يُسْراً} لن يغلب عسر (يسرين) ووجّهوه بأن العسر معرف فكان شيئا واحدا، واليسر منكر فكان يسرين. قال ابن عرفة: وإنما قال: «عَلى غَضَبٍ»، ولم يقل بعد غضب إشعارا (بشدته)، فإنه مجتمع متراكم بعضه على بعض.

91

قيل لابن عرفة: والغضب إن كن صفة فعل فالتعدد فيه متصور صحيح وإن كان صفة معنى امتنع فيه التعدد، لأنه في (هذه الحالة يصير) راجعا إلى الإرادة، وهي شيء واحد، فكيف يفهم أنهما غضبان؟ ثم أجاب بأنّهما متغايران باعتبار المتعلق، فمتعلّق الإرادة متعددة، وهو (أنواع) العذاب، فالمعنى على الأول: فباؤوا بعذاب على عذاب. وعلى الثاني: فباؤوا بإرادة عذاب على عذاب. وأوقع الظاهر موقع المضمر في قوله {وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ} ولم يقل: ولهم عذاب مهين، مبالغة في إسناد العذاب على كل من اتصف بالكفر بالإطلاق. قوله تعالى: {وَيَكْفُرونَ بِمَا وَرَآءَهُ ... } إما معطوف على «قَالُواْ نُؤْمِنُ» فيكون جوابا لِ «إذا»، أي إِذَا قيل لهم: آمنوا بما أنزل الله يكفرون بما وراء كتابهم، وإما حال مع أن المضارع لا يأتي حالا بالواو إلا قليلا، لكنه هنا على إضمار المبتدإ أي وهم يكفرون بما وراءه. أخبر الله عن تناقضهم بأن إيمانهم بكتابهم يستلزم إيمانهم بما سواه من الكتب التي من جملتها القرآن، وكفرهم بالقرآن يستلزم كفرهم بكتابهم المنزل عليهم، لأنّ الكتب كلّها يصدق بعضها بعضا. قوله تعالى: {وَهُوَ الحق مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَهُمْ ... } أبو حيان «مُصَدِّقاً» حال مؤكدة. قال ابن عرفة: بل هي مبنية، لأن الحقّ قد يكون مصدقا لما معهم، وقد لا يكون مصدقا ولا مكذبا، لأن النّبي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ أتى بشرائع بعضها في كتابهم، وبعضها ليس موجودا في كتابهم (بوجه)، فكتابنا حق (ومصدق لما في كتابهم) (بالنسبة إلى ما تكرر في الكتابين)، وليس بمصدق أو مكذب بالنسبة إلى ما زاد به على كتابهم، وأما أنه مكذب فَلاَ لأن كلا الكتابين حق، فليس من لوازم كون القرآن حقا يصدق ما معهم إنّما من لوازمه أنْ لا يكذبه لأن الحق لا يكذب الحق. قوله تعالى: {وَلَقَدْ جَآءَكُم موسى بالبينات ... } إن قلت: لِم أقسم على مجِيئه لهم بالبينات، وهم موافقون عليه. وإنما يتوهم مخالفتهم في اتخاذهم العجل فقط؟ فهلاَ قيل: ولقد اتخذتم العجل من بعد ما جَاءكم موسى بالبينات؟ فالجواب: أنه ظهرت عليه مخائل الإنكار لمجيئه لهم بالبيّنات بسبب اتخاذهم العجل، فلذلك عطفه عليه (بيانا لسببه) الموجب للقسم.

93

قال ابن عطية: البينات: التوراة، والعصا، وفرق البحر، وغير ذلك من آيات موسى عليه الصّلاة والسلام. قال ابن عرفة: إن أراد بالبينات الظاهرة فظاهر، وإن أراد المعجزات فليست التوراة منها، لأنها غير معجزة وإنما الإعجاز بالقرآن فقط. فإن قلتم: إنّها معجزة باعتبار اشتمالها على الإخبار بالمغيبات. قلنا: الإعجاز فيها حينئذ (ليس هو من حيث المجيء بها بل من حيث الإخبار بالمغيبات فقط). قال ابن عرفة: وذمهم أولا بكفرهم فيما يرجع إلى النّبوة بقوله: {فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنبِيَآءَ الله مِن قَبْلُ} ثم ذمهم بكفرهم فيما يرجع إلى الألوهية باتخاذهم العجل إلاها فهو ترق في الذم. قال: ومفعول «اتّخَذْتُمُ» محذوف أي العجل إلاها، وحذفه مناسب، لأنه مستكره مذموم، فحذفه إذا دل السياق عليه أحسن من ذكره. قوله تعالى: {خُذُواْ مَآءَاتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ ... } على حذف القول أي القائلين: {خُذُواْ مَآءَاتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ} قيل لابن عرفة: هل فيه دليل على أن الأشياء كلها محض تفضل من الله تعالى وليست باستحقاق لأن هؤلاء يستحقون ذلك؟ فقال: نعم. قوله تعالى: {قَالُواْ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا ... } قال الطيبي: / هذا من القول بالموجب، ومنه قول الله تعالى: {يُؤْذُونَ النبي وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ} قال ابن عرفة: لا بل هو مغالطة منهم لأن السماع في قوله: «واسمعوا» ليس المراد به حقيقة بل هو من مجاز إطلاق السبب على مسببه، لأن السماع سبب في الطاعة، فكأنهم أمروا بالطاعة (فغالطوا) في ذلك، وحملوا الأمر بالسماع على حقيقته من أن المراد به الاستماع فقط فقالوا: «سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا» قوله تعالى: {وَأُشْرِبُواْ فِي قُلُوبِهِمُ العجل بِكُفْرِهِمْ ... } الباء إما للمصاحبة أي مع كفرهم، أو للسببية فيكون العقوبة على الذنب بالذنب كما ورد أن المعاصي تزيد الكفر. قيل لابن عرفة: إنما كفروا بعبادتهم العجل، ولم يتقدم لهم قبل ذلك كفر بوجه؟ فقال: لا بل كفروا أولا كفرا عاما بالاعتقاد، ثم عبدوا العجل (بالفعل).

94

قوله تعالى: {قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُم بِهِ إِيمَانُكُمْ ... } عبر بالفعل المضارع، وقال بعده {وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ} فعبر بالماضي فما السر في ذلك؟ أجاب ابن عرفة: بأن الشراء لا يتكرر لأنه إذا دفع للبائع الثمن لم يعد إليه بوجه، فلا يقال: إنه يبيع سلعته مرة أخرى أو يشتري العوض مرة أخرى. فإلإيمان الذي باعوه لا يرجع إليهم بوجه بخلاف أمر الإيمان لهم فإنه يتجدد (بحسب) متعلقه شيئا فشيئا. قال ابن عرفة: وقبح فعلهم إما من (جهة) كذبهم في مقالتهم إذ {قَالُواْ نُؤْمِنُ بِمَآ أُنزِلَ عَلَيْنَا} وليسوا بمؤمنين، وإما من جهة إيمانهم مع اتصافهم بالقبيح. والإيمان لا ينشأ عنه إلا الحسن. قيل لابن عرفة: المراد بقوله: «إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ» الإيمان الحقيقي الشرعي، والإيمان الحقيقي لا (يأمر) إلا بالخير فكيف قال لهم: {بِئْسَمَا يَأْمُرُكُم بِهِ إِيمَانُكُمْ}؟ فقال: المراد إن (كنتم تدّعون) الإيمان حاصلا لكم، فبئس ما يأتيكم به إيمانكم المدّعى. قيل له: لما يأمرهم الإيمان بذلك، وإنما هو إيمان ناقص زاحمه غيره من وساوس النفس، فالمزاحم هو الأمر لا الإيمان؟ فقال: بل الأمر الإيمان المدعى أنه إيمان. قوله تعالى: {قُلْ إِن كَانَتْ لَكُمُ الدار الآخرة عِندَ الله خَالِصَةً مِّن دُونِ الناس ... } هذا (إما) أمر خاص بالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لأن يقوله لهم، أو أمر لكل واحد من المسلمين أن يقوله لهم، لكنه لسيدنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بالذات ولعموم المؤمنين (بالتّبع)، وهذا قياس (شرطي استثنائي) (وفي) قوله {وَلَوْ عَلِمَ الله فِيهِمْ خَيْراً لأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ} قياس شرطي اقتراني، وفي القرآن أيضا القياس الحملي. قال الزّمخشري: سبب نزول الآية أن قوما من اليهود والنصارى قالوا: {لَن يَدْخُلَ الجنة إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نصارى} وقرره ابن عطية بأن اليهود قالوا: {نَحْنُ أبناؤا الله وَأَحِبَّاؤُهُ} فقال لهم الله عَزَّ وَجَلَّ؛ {فَتَمَنَّوُاْ الموت إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} فهو أحسن لكم. قال: إن الله منعهم من التمنّي وهذا على القول بالصرفة. قال ابن عرفة: ولا يبعد إيراد الأمرين في كلام ابن عطية، ويكون على الأول خطابا لمن ليس كفره عنادا، فلا يتمنى الموت لعلمه بكذبه في مقالته، والصرفة لمن ليس كفره عنادا يريد أن يتمنى الموت فيصرفه الله عن ذلك التمني تعجيزا له. فإن قلت: هلا ترك ذكر خالصة فهو أخص وأبلغ (لتناوله) تعجيز من زعم منهم أن الدار الآخرة له

95

ولغيره؟ فالجواب: أنه جاء على حسب الدعوى: لأنهم قالوا: {لَن يَدْخُلَ الجنة إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نصارى} قوله تعالى: {وَلَن يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً ... } وفي سورة الجمعة {وَلاَ يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً} - قال ابن عرفة؛ إن كانا بمعنى واحد فلا سؤال. وإن كانت «لَن» أبلغ في النفي كما يقول الزمخشري: فلعل تلك الآية نزلت قبل هذه، فلم تقتض المبالغة فجاءت هذه تأسيسا. قلت: قوله: «أبدا» دال على المبالغة، فقال: قد قالوا في قول الله تعالى: {خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً} إنه عبارة على طول الإقامة فقط، وأجاب أبو جعفر بن الزبير بأن آية البقرة لما كانت جوابا لأمر أخروي مستقبل وليس في الحال إلاّ زعم مجرد ناسبه النفي ب «لن» الموضوعة لنفي المستقبل لأن لَنْ يَفْعَلَ جواب سَيَفْعَل، وآية الجمعة جواب لزعمهم أنهم أولياء الله من دون الناس، وهو حكم دنيوي ووصف حالي، فناسبه النفي ب «لا» التي ينفى بها المستقبل والحال، ولم ينف ب «ما» الخاصة بالحال، لأنهم أرادوا أنهم أولياء الله مستمرون على ذلك إلى آخر حياتهم، فكذبوا بما ينفي ذلك. قوله تعالى: {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ الناس على حَيَاةٍ ... } قال الزمخشري: نكرة لأنها حياة مخصوصة وهي الحياة المتطاولة. قال ابن عرفة: فأريد بها (هنا) التعظيم والتهويل أو يقال: إنّه (نكرة) للتقليل أي يحرصون على الحياة القليلة فأحرى الكثيرة، فيكون من التنبيه بالأدنى على الأعلى، هذا أظهر وأدلّ على اختصاصهم بالحرص على الحياة وأبلغ، لكن ما بعده يدل على ما قاله الزمخشري. قوله تعالى: {يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ ... } قال بعض الطلبة: (لم يرد) (الحول معبرا عنه بالسنة إلا إذا كان فيه (الجدب والغلاء) قال تعالى: {وَلَقَدْ أَخَذْنَآءَالَ فِرْعَوْنَ بالسنين} فهلا قيل: يودّ أحدهم لو يعمر ألف عام؟ فَأجاب ابن عرفة بأنهم (يختارون) الحياة على الموت كيف ما كانت، وهو تنبيه على الأعلى بالأدنى، لأنّهم إذا تَمنّوا حياة ألف سنة مجدبة وفضلوها على الموت، فأحرى أن يفضلوا ألف عام. قوله تعالى: {قُلْ مَن كَانَ عَدُوّاً لِّجِبْرِيلَ ... } قال الزمخشرى! روي أنه كان (لعمر) أرض بأعلى المدينة وكان (ممرّه) على {مدارس) اليهود، فسألهم عن جبريل، فقالوا: ذلك عدوّ لنا يطلع محمدا على أسرارنا.

وقال ابن عطية: سبب نزول الآية أنّهم سألوا النّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عن أربعة أشياء (منها: أنهم) سألوه عمّن يجيئه من الملائكة بالوحي؟ فقال: جبريل. فقالوا: ذلك عدوّ لنا لأنه ملك الحروب والشدائد. قال ابن عرفة: هدا جهل ومحض ومكابرة، ولقائل أن يقول: أن السبب غير مطابق للآية، لأنهم أخبروا أن جبريل عدو لهم، والآية اقتضت أنهم أعداء لجبريل، (ولا يلزم) من عداوة أحد الشخصين للاخر أن يكون الآخر عدوا له. وأجيب بأن هذا خرج مخرج الوعيد لهم، لأن جبريل ذو قوة وسطوة، فإذا خالفوه ودافعوه مع علمهم بقوته فقد عادوه. قال ابن عرفة؛ الظاهر أن «مَنْ» موصولة لأن الشرطية لا تقتضي وجود شرطها ولا إمكان وجوده، والعداوة ثابتة موجودة كما تقدم فهى موصولة. قال الزمخشري: فإن قلت: كيف يصح قوله: {فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ على قَلْبِكَ} جزاء للشرط؟ وأجاب بوجهين: أحدهما أنهم لو أنصفوا لشكروا جبريل على إنزاله كتابا ينفعهم ويصحح كتابهم. الثاني إن عاداه أحد فالسبب في عداوته أنه نزَّل عليك القرآن مصدقا لكتابهم. قال ابن عرفة: إنما احتاج إلى هذا (السؤال) لأنه فهم أن الارتباط بين الشرط والجزاء لا يكون إلا لزوميا، وهو عند الأصوليين يكون لزوميا. ويكون اتفاقيا، لكنّه في محل الاستدلال لا يصح أن يكون الا لزوميا. وفي الخبر يصح فيه الأمران. (نعم لا بد من المناسبة وصحة ترّتبه على الشرط) كقولك: إن تكرم زيدا فقد أكرمه غيرك. فإنه لا ارتباط بينهما إلا في الزمان أو في الذّكر خاصة فهو اتّفاقي. قلت: ولما ذكر ابن عرفة في الختمة الأخرى هذين الجوابين قال: أو يقال: إن في هذا ردا على من زعم أن جبريل غلط في الرسالة، وهي مسألة العتبية في كتاب المرتدين والمحاربين في رسم (يدير) ماله من سماع ابن القاسم. قال: فيمن قال: إن جبريل أخطأ بالوحي وإنما كان النّبي علي بن أبي طالب كرم الله وجهه يستتاب فإن تاب وإلا قتل. ابن رشد: هذا كفر صريح فإن أعلنه استُتِيب، وأن أسرّه بلا استتابة كالزنديق. قوله تعالى: {فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ على قَلْبِكَ بِإِذْنِ الله مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ ... } قيل لابن عرفة: يؤخذ منه تسمية بعض القرآن قرآنا لأنه لم يكن حينئذ أنزل جميعه بل بعضه؟ فقال: يجاب إما بإيقاع الماضي موقع المستقبل أو بأن الضمير في «نَزَّلَهُ»

99

عائد على المتلوّ من القرآن لا (على) نفس القرآن. (أقول: أو إن الضمير يعود على ما أخبر به جبريل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من أسرارهم الّذي كان سببا في عداوتهم، له كما تقدم في سبب النزول من قولهم لعمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه، وهو قريب من الجواب الثاني)، وتقدم في الختمة الأخرى. قال بعض الطلبة (لابن عرفة): اعتزل الزمخشري فقال: إذا كانت عداوة الأنبياء كفرا فما بالك بعداوة الملائكة وهم أشرف {فجعله أشرف من بني آدم ولا ينبني عليه كفر ولا إيمان؟ قال ابن عرفة: فقوله على هذا {مَن كَانَ عَدُوّاً لِلَّهِ} تدل، وهو من باب التذييل لما قبله، ومعناه أن يكون اللّفظ بزيادة قوله تعالى: {وَمَا يَكْفُرُ بِهَآ إِلاَّ الفاسقون} فيه دليل على أن الاستثناء من النفي إثبات. قيل لابن عرفة: من (عاداك) فقد عاديته فما أفاد قوله: {فَإِنَّ الله عَدُوٌّ لِّلْكَافِرِينَ} فقال (العداوة) ليست متعاكسة النسبة بدليل قول الله عَزَّ وَجَلَّ ّ} {ياأيها الذين ءامنوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلاَدِكُمْ عَدُوّاً لَّكُمْ فاحذروهم} مع أن الآباء ليسوا أعداء لأولادهم. قيل له: هي متعاكسة؟ فقال: «من» خارج بالدليل العقلي لا من جهة اللفظ والمادة. قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَءَايَاتٍ بَيِّنَاتٍ ... } قيل لابن عرفة: إن أريد المعجزات فظاهر، وإن أريد آيات القرآن فيؤخذ منه امتناع تخصيص السنة بالقرآن، والقرآن بالسّنة لأنّه كله بيّن؟ فقال: نقول إن القرآن بين من حيث دلالته على صدقه من جهة لفظه المعجز وفصاحته، وإن كان معناه (مجملا) لا يفهم فلا يمتنع فيه بيان (القرآن) بالسّنة. قوله تعالى: {أَوَكُلَّمَا عَاهَدُواْ عَهْداً نَّبَذَهُ فَرِيقٌ مِّنْهُم ... } قال ابن عرفة: ذمّ الإنسان على عدم العمل بما كان التزم العَمَلَ به أشد من ذمه على إنكار ما يعلم صحّته. وقال بعضهم: النّبذ طرح خاص، وهو عدم الاعتناء بالشيء لحقارته وذمامته وانظر تنبيهات القاضي عياض من العتق الثاني. قال ابن عرفة: وهذه تسلية له صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لأنه لما تقدم ذكر إنزال الايات البينات وكفرهم بها عقبه ببيان أن ذلك شأنهم وعادتهم فلا يلحقك/ بسببه (ضجر) ولا حزن بوجه. فإن قلت: هل يؤخذ منه أن العهد لا يقبل النقض لأجل ذمهم على نقضه؟ فالجواب من وجهين: إما بما تقرر في كتاب الإيمان والنذور من أنه في الحكم الشرعي على قسمين: عهد يقبل النّقض، وعهد لا يقبله، وهذا من الذي لا يقبله، وإما بأن الذي

101

وقع فيه الكلام (إنما هو) العهد المطلق الذي هو غير متكرر، وأما هذا فهو عهد مؤكد متكرر فلا يقبل النقض بوجه فلذلك ذمّوا على نقضه. فإن قلت: هلا قيل: أَوَ كُلَّمَا عَاهَد فريق منهم عهدا نقضه، لئلا يلزم عليه ذم الجميع بعصيان البعض؟ فالجواب: أنّ الجميع ذمّوا بسبب رضاهم بفعل البعض وإمّا بأن الذم للفريق الناقض للعهد فقط، وأتت الاية على هذا الأسلوب لأن نقض العهد من فريق عاهدوهم وغيرهم، فثبت غيرهم ونقضوا م فاتّسع في الذّم لهم في نقضهم عهدا اختصوا به. قوله تعالى: {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} قال ابن عطية: الضمير في «أكْثَرهُمْ» إما عائد على بني إسرائيل أو على الفريق النابذين. وضعفه ابن عرفة لأنه يلزم عليه أن يكون بعض الذين نبذوا العهد مؤمنا؟ وأجيب باحتمال كون المنبذ راجعا لعدم الإيمان بالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فبعضهم (آمن بكتابه) ولم يؤمن بالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقد نبذ العهد (مع أنه مؤمن بكتابه). قال ابن عرفة: و «أَكْثَرُهُمْ» إما أن يراد به الفريق، أو (هو) أعم منه. ولما كان الفريق يصدق على القليل والكثير بين بالأكثر. (قيل) لابن عرفة: (عدم) إيمانهم هو نفس نقضهم للعهد فلا يصح أن يكون الأكثر غير مؤمنين والأقل ناقضين للعهد؟ وأجاب بأنّه يصحّ لأن هؤلاء اليهود منهم من هو متبع لكتابه ومنهم من هو مخالف له. قال ابن الخطيب: وقيل: المراد بنبذ العهد عدم إيمانهم بالقرآن. قال: وهذا مردود بأن مادة النبذ تقتضي تمسكهم به قبل ذلك مع أنهم لم يكونوا قط متمسكين بالقرآن. وأجاب ابن عرفة بأنهم كانوا قابلين للتّمسّك (به) وكانوا قبل البعثة متمسكين (به) لأن كتابهم أخبر به على وفقه بدليل أن من مات منهم قبل ذلك مات مسلما حنيفيا. قوله تعالى: {وَلَمَّآ جَآءَهُمْ رَسُولٌ مِّنْ عِندِ الله مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ ... } قال الفخر: يحتمل أن يكون التصديق بموافقته لما في التوراة. فرده ابن عرفة بأن التصديق هو نسبة المخبر إلى الصدق فهو من عوارض الخبر، والتصديق بالصفة مجاز لا حقيقة، وإنما ينسب للصفة الصدق والتصديق. قوله تعالى: {كِتَابَ الله وَرَآءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ}

102

قال ابن عرفة: كان الفقيه أبو العباس أحمد بن علوان يقول: مقتضى هذا أنهم طرحوه بين أيديهم، لأن الظهر بالنسبة إلى الوجه خلف، والوجه بالنسبة إلى الظهر خلف، فالظهر خلف الوجه، والوجه خلف الظهر، وإذا طرحوه وراء ظهورهم لزم أنهم طرحو أمامهم فلا ذم عليهم. قال ابن عرفة: وأجيب بأن المراد المبالغة في إبعاده عنهم فهم جعلوه وراء الوراء كما جاء في الحديث الصحيح: «مِنْ وَرَاءِ وَرَائِهِمْ» جعلوا للوراء وراء ونبذوه خلف ذلك الوراء وهو أبلغ في كمال النبذ. قلت: والحديث خرجه مسلم في أواخر كتاب الإيمان من أحاديث الشفاعة من رواية ربعي بن خراش عن حذيفة قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «يجمع الله الناس فيقوم المؤمنون حين تزلف لهم الجنة فيأتون آدم فيقولون: يا أبانا استفتح لنا الجنة فيقول: وهل أخرجكم منها إلا خطيئة أبيكم آدم؟ لست بصاحب ذلك اذهبوا إلى ابني إبراهيم خليل الله، فيقول إبراهيم: لست بصاحب ذلك، إنما كنت خليلا من وراء وراء، اعمدوا إلى موسى عليه السلام الذي كلمه الله تكليما» الحديث بكماله انفرد به مسلم. قوله تعالى: {واتبعوا مَا تَتْلُواْ الشياطين ... } أي عملوا بمقتضاه، وليس هو من الاتباع الحقيقي، لأن متلو الشياطين لا يتبع إنما يتبع التالي وهو الشيطان لا متلوه. قوله تعالى: {على مُلْكِ سُلَيْمَانَ ... } قيل؛ أى على عهد سليمان، ويحتمل أن يراد اتّباعهم ما سمعوا أنّ الشيطان كان يتلوه في عهد سليمان، وأنهم يتبعون في عهد سليمان ما يتلوه الشيطان إذّاك؟ قال ابن عرفة: وتعلّم السّحر واعتقاده حقا كفر. وأما تعلمه من غير اعتقاد حقيقة ففي التكفير به قولان، وظاهر المتكلّمين أنّ التكفير إنّما هو بأحد ثلاثة أمور: إما بقول كلمة الكفر، أو بالسّجود لصنم، أو بالفعل كلبس الزّنار ونحوه. وجعل الفخر (هنا) من السحر (الشعوذة).

وكان شيخنا ابن عبد السلام يستضعف ذلك وينكره ويقول: إنما ذلك من خفة اليد، وليس بحسر، بخلاف ما يحكى عن غالب العجائبي من أنه كان يزرع الفقوس (ويجنيه) في ساعة واحدة فإنه سحر. قال ابن عطية: روي أنهما (ملكان) اختصمت إليهما إمرأة، وحكى القصة، وضعفه ابن عطية من جهة السند. قال ابن عرفة: بل هو ضعيف من جهة الاستدلال، فإنه قد قام الدّليل على عصمة الملائكة. ولا يقال: إنهما كانا معصومين، ثم انتفت العصمة عنهما حينئذ، فإنّ ذلك إنما هو فيمن يتّصف بالحفظ لا بالعصمة، فيصح أن يحفظ تارة دون تارة، أما العصمة فلا تزول عمن ثبتت له أبدا (وقد) كان الشيوخ/ يخطئون ابن عطية في هذا الموضوع لأجل (ذكره) هذه الحكاية. ونقل بعضهم عن القرافي أن (مالكا) أنكر ذلك في حق هاروت وماروت. قال ابن عرفة؛ وكان تَعلم السحر في (زمن) هاروت وماروت (جائزا)، وكانوا مأمورين بتعليم النّاس على جهة الابتلاء من الله تعالى لخلقه، فالطائع لا يتعلمه، والعاصي (يبادر) إليه ويتعلمه كما خلق الله السّم القاتل والحديد وغير ذلك مع أنه لا يجوز تناوله. فقوله على هذا: (فلا) يكفر، إما أن يراد به العمل أي تعلمه ولا تعمل به فتكفر، أو يرادُ به نفس العلم أي نحن يجوز لنا تعليمه وغيرنا لا يجوز له أن يتعلمه منا فلا نتعلمه فنكفر، فهم مباح لهم تعليمه للغير، وذلك الغير لا يباح له أن يتعلمه منهم، وكان التعليم حينئذ جائزا ثم نسخ فصار حراما. وقال الزمخشري: أي فلا نتعلمه (معتقدا) أنه حق فنكفر. ومنهم من قال: إن تعلمه جائز أو مطلوب ليفرق بينه وبين المعجزة والكرامة، ولكن ذلك في تعلمه على الجملة لا تعلمه مفصلا، وكلام الزمخشري هنا أنسب من كلام ابن عطية إلا في كلمة واحدة. (وبقوله) تعالى: «فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا» استشهد ابن التلمساني في كتاب القياس على أن الفاء تكون للاستئناف. قوله تعالى: {وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ اشتراه ... }

103

ابن عطية: الضمير عائد على بني إسرائيل. قال ابن عرفة: إمّا عموما أو على علمائهم. وقيل: على الشيطان، وقيل: على الملكين. وضعفه ابن عرفة، لأنه جمع فلا يصح الا على القول بأن أقل الجمع اثنان. فإن قلت: هلا قيل فحفظه في الآخرة جهنم، فهذا أدل على (الخسران) في الآخرة، لأن فاعل المباح يصدق عليه أنه ليس له في الآخرة نصيب إذ لا ثواب فيه؟ قلنا: السياق يهدي إلى (أن) المراد له العذاب، وأن هذا القسم (منتف عنهم). قوله تعالى: {وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ} قال ابن عرفة: جواب «لو» مقدر، أي لو كانوا يعلمون لما شَرَوْا، ولا يصح أنْ يكون جوابها: «لَبِئْسَ مَا شَرَوْاْ» لأنه مذموم سواء شروه أو لم يشتروه، وسواء علموا أو لَم يَعلموا. ابن عطية: من أَعَاد الضمير في «وَلَقَدْ عَلِمُواْ» على بني إسرائيل وينتقض ذلك عليه بقوله: «لوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ». فظاهره (أنّهم) لم يعلموا (ويمكن) أن يجاب عنه بأنه مجاز لأنّهم عملوا عمل من لا يعلم، فكأنهم لم يعملوا. قال ابن عرفة: قال بعضهم: أو يجاب بأنّ قولك: كأن زيدا يعلم كذا، أخص من قولك: علم زيد كذا لاقتضاء (الأول) تكرّر العلم له ودوامه حتى تطبع به، فأثبت في أول الآية لهم مطلق العلم الصادق بأدنى شيء وقال في آخرها: «لوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ» علما ثابتا حقيقيا لما باعوا أنفسهم بذلك. وشروا بمعنى بَاعُوا. قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْءَامَنُواْ واتقوا لَمَثُوبَةٌ مِّنْ عِندِ الله خَيْرٌ ... } التّنكير هنا للتعليل بمعنى: أنّ الثواب من عند الله وإن قل في ذاته فهو خير من ذلك كلّه. قال ابن عرفة؛ وجواب «لَوْ» إما نفس «قوله لَمَثُوبَةٌ مِّنْ عِندِ الله» وإما نفس الثواب المفهوم منها، وإما مقدر. قوله تعالى: {لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا ... } اختلف الأصوليون في صيغة افعل هل هو من قسم المركب أو من قسم المفرد؟ حكاه الأنباري في شرح المحصول. وقال صاحب الجمل: واللّفظ المركب إن دلّ بالقصد الأول على طلب الفعل كان مع الاستعلاء أمرا ومع الخضوع سؤالا ومع التساوي التماسا وإلا كان تنبيها إن لم يحتمل الصدق والكذب، وإن احتملهما كان خبرا وقضية (جعلها) من قسم المركب، فهل الآية حجة لأحد المذهبين أم لا؟ من ناحية أن القول إنما (يحكى) به الجمل لا المفردات؟ قال: لا دليل فيها لأن «رَاعِنَا» (قد) اتّصل به ضمير المفعول فهو مركب (هنا) بلا شك. وقرئ «رَاعِناً» بالتنوين على أنه نعت لمصدر محذوف أي قولا راعِنا. فعلى هذا المراد بذلك نفس القول وعلى (القراءة) الأخرى المقول له. قوله تعالى: {مَّا يَوَدُّ الذين كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الكتاب ... }

106

مع أن الثابت في نفس الأمر أنهم ودّوا عدم نزول الخير، لكن ذلك مستفاد من السياق فلا يحتاج إلى التنصيص عليه. قوله تعالى: {مَا نَنسَخْ مِنْءَايَةٍ أَوْ نُنسِهَا ... } تكلم ابن عطية هنا كلاما حسنا من جملته أن قال: المنسوخ عند أيمتنا هو الحكم الثابت نفسه لا ما ذهبت إليه المعتزلة من أنه مثل الحكم الثابت فيما يستقبل، وقادهم إلى ذلك مذهبهم من أن الأوامر مرادة، ثم قال: والتخصيص من العموم يوهم أنه نسخ وليس به لأن المخصص لا يتناوله العموم فقط. قال ابن عرفة: قالوا: وليس معناه أنه لم يكن (مرادا لئلا يلزم عليه كون الأمر غير الإرادة، وإنما معناه أنه لم يكن) متعلق الحكم، ومنهم من قال: رفع الحكم إن كان قبل العمل به فهو تخصيص وإن كان بعد العمل به فهو نسخ. قال ابن عطية: وقد ينسخ الأثقل بالأخف كنسخ قتال الواحد للعشرة. قال ابن عرفة: والثقل والخفة باعتبار المصالح، فقد يكون متعلق هذه المصلحة أرجح من متعلق المصلحة الأخرى أو مساويا لها. ولا شك أن وقوف الواحد للعشرة (ثوابه) يكون أعظم من ثواب ما هو أخف منه لكنه نادر، وليس بأكثري الوقوع فنسخ بما هو أخف منه وأقل ثوابا لكونه أكثري الوقوع، فيتعدد ثوابه ويكثر بتعدد وقوعه، والأخف بالأثقل كنسخ صوم عاشوراء/ بصيام رمضان. قال: وأجمعوا على جواز نسخ القرآن بخبر الواحد. قال أبو المعالي؛ إنه واقع في مسجد قباء لأنهم كانوا يصلون فيه العصر إلى بيت المقدس، فمر بهم بعض الصحابة، فأخبرهم أن القبلة حولت إلى مكة، فتحولوا في الصلاة. ومنع ذلك قوم، وقالوا: إنما نسخ بالقرآن. قال: ولا يصح نسخ النص بالقياس. وقال ابن عرفة: لأن النص المقيس عليه إما أن يكون موافقا لذلك (النص) المنسوخ أو مخالفا فإن كان (موافقا) فلا نسخ، وإن كان (مخالفا) فهو النّاسخ (لا) القياس. ولا ينسخ النص بالإجماع لأنه إنما يكون في حياة النّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ والإجماع إنما هو بعد وفاته. فيل لابن عرفة: قد حكى الأصوليون عن أبي مسلم أنه أنكر وقوع النسخ من أصله؟ فقال ابن عرفة: إنما ذلك في الفروع والأحكام الظنية، وأما باعتبار الملة فلا خلاف بين المسلمين في وقوعه وأنّه تنسخ ملة بملة. وإنما الكلام فيه باعتبار الشخص الواحد هل يصح نسخ الحكم في ملته (بحكم آخر أم لا) قولان.

قوله تعالى؛ {نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَآ أَوْ مِثْلِهَا ... }. الخير باعتبار المصالح الشرعية، فقد يكون متعلق الحكم يستلزم مصلحة أرجح (من مصلحة أو مثلها ومعنى {نُنسِها} أي نؤخرها فتعجيل نسخها أو تأخير نزولها إنما هو لتعجيل الإتيان بما مصلحته أرجح). وفيه تأخير البيان إلى وقت الحاجة. واحتج الفخر الرازي في المحصول بهذه الآية على جواز النسخ ووقوعه. ورد عليه السراج في التحصيل بأنها قضية شرطية لا تدل على وقوع ولا على إمكان الوقوع كقوله تعالى: {قُلْ إِن كَانَ للرحمن وَلَدٌ فَأَنَاْ أَوَّلُ العابدين} وأجاب عنه ابن الخطيب شمس الدين الجزري بأن الاية خرجت مخرج المدح، والمدح لا يكون إلا بما (هو) واقع بالفعل لأن الله تعالى قال: {نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَآ أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}. فقد أثنى على نفسه جل وعلا بذلك. قال ابن عرفة: والتحقيق في هذا (أن) المدح دال على جواز النسخ وإمكانه لا وقوعه كما تقول: فلان قادر على أن يعطي ألف درهم وإن لم يعطها بالفعل، فالمدح بذلك دال على أن إعطاءه غير محال بل هو ممكن سواء وقع بالفعل أم لم يقع. قوله تعالى: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} قال ابن عطية: الهمزة (للتقرير). قال ابن عرفة: التقرير في حق المرضي عنه ليس (كالتقرير) في حق غيره. قال: فإن كان خطابا للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فالمعادل محذوف تقديره: أم علمت ذلك، وضعفه ابن عرفة وأبو حيان بأن المعادلة إنما يحتاج إليها إذا كان الاستفهام عن أمرين يكون المتكلم شاكا في أحدهما فيطلب تعيينه. وأما إذا كان الإستفهام للتقرير فليس على هو حقيقته فلا يحتاج إلى المعادلة بوجه. قال ابن عطية: وهو مخصوص بالقديم والمحال. قال ابن عرفة: أما القديم فظاهر لأن القدرة لا تتعلق به، وأما المحال (فلا) يتناوله اللّفظ (بوجه)، لأنه ليس بشيء ولا سيما المحال عقلا. ونقل بعض الطلبة عن شرح الأسماء الحسنى لابن (الدهاق) قولا بجواز تعلق القدرة بالمحال العقلي. ورده ابن عرفة بقول الإرشاد: العقل علوم ضرورية لجواز الجائزات واستحالة المستحيلات قال: فيلزم سقوط هذا القسم ولا قائل به. قال ابن عرفة: وتقدم لنا (في الختمة الأخرى) في الآية سؤال، وهو أن النسخ تبديل آية بآية أو حكم شرعي بحكم شرعي، والحكم الشرعي هو خطاب الله تعالى المتعلق بأفعال المكلفين، وخطابه كلامه القديم الأزلي، فهو راجع إلى الكلام القديم، والقدرة لا تتعلق بالقديم بوجه، وإنما تتعلق بالحادث فكيف حسن بعده أن يقال: {أَلَمْ تَعْلَمْ

107

أَنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}؟ وأجيب بأنه نسخ ما ثبت وتقرر في الأذهان على سبيل اعتقاد الدّوام، وقد تقرر في الأذهان دوام الحكم الشرعي الذي هو مضمون الكلام القديم، فالنّسخ عبارة عن ارتفاعه. وردّه ابن عرفة بأنّ ذلك الذي أنكر النسخ لم ينكره من حيث كونه تبديل اعتقاد باعتقاد، وإنّما أنكره لكونه يلزم عليه (البداء) لأن الحكم الأول كان مرادا لله فيصير غير مراد له وهو باطل. (قال ابن عرفة: وإنّما عادتهم يجيبون عن السّؤال) بأنه لما كان المتبادر للذهن أنّ الشيء لا يرتفع إلا بثبوت نقيضه، فإذا نسخ الحكم الشرعي المتضمن المصلحة إنما ينسخه حكم آخر يتضمن مفسدة فأخبر أن الله تعالى قادر على أن يصير الحكم الشرعي المتضمن للمصلحة، متضمنا لمفسدة باعتبار الأزمان فيكون الحكم في زمن متضمنا للمصلحة ثم يعود في زمن آخر متضمنا للمفسدة، (فحينئذ) ينسخه الله تعالى بحكم شرعي يتضمن مصلحة إما مثل الأولى أو أرجح منها. قال ابن عرفة: وجاء الترتيب في الآية على أحسن وجه، فبين أولا جواز تعلق القدرة بكل شيء، ثم بين وقوع ذلك الجائز بقوله تعالى: {لَهُ مُلْكُ السماوات والأرض} ثم بين (بعده) أن ذلك خاص لا يشاركه فيه غيره بوجه. وقال ابن عرفة: والملك/ عبارة عن أهلية التصرف العام في جميع الأمور من المتملك، فمالك العبد ليس مالكا له حقيقة لأنه ليس له قتله ولا أن يضربه الضرب المبرح، فحقيقة الملك إنما هو لله تعالى. قوله تعالى: {وَمَا لَكُم مِّن دُونِ الله مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ}. مثل قوله تعالى: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ} والجواب (كالجواب) انه على تقدير أن يوجد ولي أو ناصر فلا يوجد إلا من هو في أنهى درجات الولاية والنصرة، فنفي ذلك (المعنى) المتوهم المقدر الوجود سواء. قوله تعالى: {أَمْ تُرِيدُونَ أَن تَسْئَلُواْ رَسُولَكُمْ ... } إن كان الخطاب للمؤمنين فالمراد أن تسألوا الرسول الذي (أقررتم برسالته، وإن كان الخطاب للكفار فالمراد الرسول) الذي ثبتت رسالته إليكم في نفس الأمر. قوله تعالى: {وَمَن يَتَبَدَّلِ الكفر بالإيمان فَقَدْ ضَلَّ سَوَآءَ السبيل}. قالوا: {سَوَآءَ السبيل} وسطه. ورد عليه ابن عرفة: أنه يلزمهم المفهوم وهو أنه يكون اهتدى لبعض سبيل الحق وهو جانباه والجواب: أن السبيل اسم جنس يعم طريق

109

الحق والباطل و {سَوَآءَ} هنا هو طريق الحق منهما، قال الله تعالى: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السبيل إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً} قوله تعالى: {وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الكتاب ... }. قيل لابن عرفة: ذكر بعضهم في الفاعل أنه يشترط فيه ما يشترط في المبتدإ إذا كان نكرة من أنه لا بد له من مسوغ، وذكره في قول الله جلّ ذكره: {فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ} قال ابن عرفة: لم أسمع هذا من أحد إلا في المبادى كنت أسمعه في قول الجزولي أسند إليه فعل، أو ما جرى مجراه. قال ابن عرفة: ومن دعا على مسلم أن يميته الله كافرا (ما يلزمه؟) فقال النووي: إن اعتقد مرجوحية الإيمان فهو كافر، وإلا فهو عاص وإثمه أشد من إثم من دعا على الكافر أن يميته الله كافرا. والخلاف عندنا في شرطية النطق بالشهادتين هل لا بد منها مع القدرة عليها (أو) يكفي الاعتقاد؟ وأما إن صرح بكلمة الكفر فهو كافر بإجماع، وانظر سورة الحجرات. قوله تعالى: {مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الحق ... }. إمّا أن كفرهم عناد أو ليس بعناد، بناء على أن ارتباط الدليل بالمدلول عادي أو عقلي فيكون الله تعالى (أنبأهم) ذلك في ثاني حال بعد أن علموه وتحققوه. قوله تعالى: {فاعفوا واصفحوا ... }. قال ابن عرفة: العفو رفع الحرج عمن ثبت وتقرر كمن عفا عن قاتل وليّه بعد ثبوته القتل عليه (والصفح رفع الحرج عن الشخص قبل (ثبوت) موجبه كمن عفا عن قاتل وليه قبل ثبوت القتل عليه، قال: ويكون هذا ترقيا أي فاعفوا عنهم حتى تؤمروا بقتالهم. قوله تعالى: {وَأَقِيمُواْ الصلاوة وَءَاتُواْ الزكاة ... } إن قلت: هلا قيل: وأقيموا الصّلاة والزكاة فيكون أمرا بإقامتهما معا على أبلغ الوجوه؟ فالجواب: أنّه لما كانت الصّلاة متكررة مشقة على النّفوس أكّدها بالأمر، وهو الإتيان بها مستوفاة الشرائط، ولما كانت الزكاة لا تكرر فهي أخف، اكتفى فيها بالأمر دون تأكيد. قوله تعالى: {وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ الله ... }

113

إن قلنا: إن المباح مأمور به فخير. أفعل من، لأن المراد بذلك كل ما فيه خير يفضل عن غيره فله فيه الأجر وإن قلنا: إن المباح غير مأمور به، فافعل فعل، لا فعل من. قيل لابن عرفة: وكذلك المباح إذا كان مأمورا به فهو خير؟ فقال: وكذلك الحرام فيه خير باعتبار الدنيا، وإنّما المراد بالخير الأخروي وهو الثواب؛ وأما المباح فلا ثواب فيه؟ قوله تعالى: {وَقَالَتِ اليهود لَيْسَتِ النصارى على شَيْءٍ ... } قال ابن عرفة: حكاية هذه المقالة إما على سبيل الإبطال لها أو على سبيل التقرير لها والموافقة عليها (والأول باطل لئلا يلزم أن يكون كل فريق منهم على شيء، والثاني باطل لئلا يلزم عليه أنّها) لو حكيت على سبيل أنها حق لم يصح ترتب الذم عليهم مع أن مساق الاية يقتضي ذمهم على ذلك. قال: وأجيب عنه: بأن اليهودية والنصرانية لهما اعتباران فهما من حيث أصلهما الذي نشآ عنه وهو موسى وعيسى حق ومن (حيث) دعوى المنتمين إليهما (والمتدينين بهما) باطل، فقول اليهود: «ليست النَصارَى عَلى شَيء» إبطال لأصل ملّة النصرانية وليس هو ابطال لدعوى المنتمين إليها، فحكيت هذه المقالة على معنى الإبطال لها أو ذمّ قائلها أي قولهم ذلك وإبطالهم له باطل، بل هم على شيء باعتبار أصل الملة لا باعتبار الدعوى وهذا حق وهو على حذف الصفة أي ليسوا على شيء ديني. قال الزمخشري: هذه مبالغة عظيمة لأن المحال والمعدوم يقع عليهما اسم الشيء. قال ابن عرفة: الزّمخشري ضعيف في أصول الدّين، وقد تقدم الإجماع على أن المحال (ليس بشيء) باعتبار المعنى، واختلفوا في الإطلاق اللّفظي والتسمية هل يطلق عليه لفظ شيء أم لا؟ فمنعه أهل السنة وأجازه المعتزلة وهما مسألتان: فهذه لا ينبني عليها إيمان ولا كفر، والأخرى توهّم أن للمعدوم تقررا في الأزل ويلزمهم بها الكفر. قيل لابن عرفة /: لم قال: {وَهُمْ يَتْلُونَ الكتاب} ولم يقل: وهم يعلمون الكتاب؟ فقال: التلاوة هنا تستلزم العلم. قال ابن عرفة: فإن قلت: لم قال {وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الجنة إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نصارى} فجمع المقالتين (معا) هناك وفرقهما هنا ولم يقل: وقالوا ليست النصارى واليهود على شيء؟ (قال): عادتهم يجيبون بأن المقالتين هناك محصورتان لا ثالث لهما فيعلم بالضرورة أن النصارى قالوا: لن يدخل الجنة إلا من كان نصرانيا، واليهود قالوا: لن يدخل الجنة إلا اليهود، وأما هنا فلو قيل: وقالوا: ليست اليهود والنصارى على شيء لأوهم أن المسلمين هم الذين قالوا ذلك (والكتاب) جنس (يشمل) التوراة والإنجيل. قوله تعالى: {كَذَلِكَ قَالَ الذين لاَ يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ}.

114

تسلية للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بذلك وغيرهم. قوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ الله أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسمه ... } وقال في آية أخرى: {مِمَّن كَتَمَ شَهَادَةً عِندَهُ مِنَ الله} وقال في سورة الزمر {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَبَ علَى الله وَكَذَّبَ بالصدق إِذْ جَآءَهُ} فالجمع بين الآيتين يقتضي تساويهما في الظلم، لكن قام الدليل على أن مفتري الكذب على الله أشد ظلما ممن منع مساجد الله من ذكر الله فيها. قيل لابن عرفة: يؤخذ من الآية أنه لا يجوز لهَؤُلاء الأيمة أن يغلقوا باب المسجد ولا أن يبنوا مسجدا لنقوض مسجد آخر؟ فقال رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: أما غلق باب المسجد في غير أوقات الصلاة فهو حفظ له وصيانة إلا أن يكون الإمام مفرطا في الصلاة فيتركه مغلوقا لا يصلى فيه إلى آخر الوقت، وأما بناء مسجد بمسجد فلا يجوز وإن صار قاعة جاز جلوس الجنب والحائض فيه لأنه لم يبق له حرمة المسجد. قال (في المدونة) في كتاب الأقضية: والقضاء في المسجد من الأمر القديم، ولأنه يرضى فيه (بالدون) من المجلس، وتصل إليه المرأة والضعيف. قال ابن عرفة: وتقدم لنا أن رحابه هنا غير رحابه في الصلاة، فرحابه في الصلاة أوسع من هذا فلا يركع الفجر إلا في الصحن البراني الذي لا يحوزه (الغلق)، ويحكم هنا في رحابه التي هي صحنه الدخلاني. قوله تعالى: {أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسمه وسعى فِي خَرَابِهَآ ... } قال ابن عطية: تضمنت الاية أن يكون قوله {أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسمه} مفعولا لأجله. قال ابن عرفة: مفهومه أن منعها لغير هذه الحيثية لا يتناوله هذا (الإثم) بل إثمه أقل من ذلك. قوله تعالى: {وَلِلَّهِ المشرق والمغرب فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ الله ... } قال في سورة المعارج: {فَلآ أُقْسِمُ بِرَبِّ المشارق والمغارب} قال ابن عرفة: إما على أن الأرض كروية فتعدد المشرق والمغرب ظاهر لأن كل موضع مغرب لقوم مشرق لآخرين، وإن قلنا: إنها بسيطة فهو مغرب واحد ومشرق واحد لكنها تتعدد بالفصول فمشرق الصيف غير مشرق الشتاء. (قال ابن عرفة: وفيه إبطال للقول بالجسم والجهة، لأنه لو كان الإلاه جسما للزم عليه حلول الجسم الواحد في الزمن الواحد في مجال متعدد وهو محال). قيل لابن عرفة:

116

يقول صاحب هذا القول: إنه كالفلك فإنه دائر بالعالم كله بدليل قوله: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ الله} والتولي إنما يكون فيما يحوزه الفلك بل في بعضه فقط. وإنما أبطلوا الجسمية بدليل آخر فكما أنّا أيْنَما (نولّ نَرَ) الفلك بعضه (فكذلك هو) لكن لا نراه والفلك جسم؟ فقال لفظ «ثَمّ» يقتضي وجوده في المكان الذي يقع فيه التولي حقيقة، وإذا كان كالفلك فليس هو في ذلك المكان. قوله تعالى: {إِنَّ الله وَاسِعٌ عَلِيمٌ} قال ابن عرفة: هذا إما ترغيب وترهيب أي هو واسع الرحمة عليهم بأعمال العباد فيجازيهم عليها، وإما ترغيب وتأكيد للترغيب أي هو واسع الرحمة مع علمه بأعمال العباد، وهذا أبلغ في رحمته لأن الإنسان قد يرحم عدوه إذا كان جاهلا بِعَداوَتِهِ وعصيانه ولا يرحمه إذا علم بذلك. قوله تعالى: {وَقَالُواْ اتخذ الله وَلَداً} ذمهم بالوصف الأعم لأنّ اتخاذ الولد يصدق على الابن حقيقة وعلى ابن التبني. قوله تعالى: {بَل لَّهُ مَا فِي السماوات والأرض ... } إن رجع الإضراب إلى قوله «سُبْحَانَهُ» فهو إضراب انتقال، وإن رجع إلى قوله: {اتخذ الله وَلَداً} (إضراب) إبطال. قال ابن عطية: قرأ الجمهور «وَقَالُواْ» بالواو، وأسقطها ابن عامر، إما لأن هذه الجملة في معنى ما قبلها أو مستأنفة. قال ابن عرفة: هذا بعيد لأنه أمر واحد ومقالة واحدة، إلاّ أن يكون التعدد باعتبار اختلاف الحالات والأشخاص. واحتجوا بالآية على أن أعمال العباد مخلوقة لله عَزَّ وَجَلَّ. واحتج بها اللّخمي على أن من ملك ولده عتق عليه، لأن (الآية) اقتضت منافاة الملك (للولدية) أى لو/ كان لله ولد لما صدق أنه مالك لجميع ما في السماوات والأرض و (اللازم) باطل فالملزوم مثله. وأجيب بالفرق بين المقامين فهذا ملك حقيقي وذلك ملك جعلي، فما يلزم من منافاة الملك الحقيقي للولدية منافاة الملك الجعلي لها. قوله تعالى: {كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ} قال ابن عطية: أي كل شيء له ملك. قال الزمخشري: أي كل ما هو في السماوات والأرض. ابن عطية: والقنوت إما الخضوع فيصدق على الحيوان والجمادات، وإما الطاعة، فالكافر يسجد ظله وهو (كاره).

117

قيل لابن عرفة: كيف يُوصَف الظل بالسّجود وهو هو موجود أم لا؟ فقال: الظل ظلمة خاصة باعتبار الكم والكيف فيجري على الخلاف في الظلمة: هل هو أمر وجودي أو عدمي؟ والصحيح أنها وجودية، ونص بعضهم على أن الظل عرض قام بجسم الهواء. قوله تعالى: {بَدِيعُ السماوات ... } قال الزمخشري: هذا إما من إضافة الصفة المشبهة باسم الفاعل. قال ابن عرفة: ف «بدِيعُ» صفة «السماوات». قال: أو من إضافة اسم الفاعل. قال ابن عرفة: «بَدِيعُ» صفة الله تعالى أي مبتدع السماوات. وقال أبو حيان: الجمهور بالرفع على أنه خبر مبتدإ، وقرئ بالنصب على المدح، وبالجر على البدل من الضمير في قوله «له»، وهي صفة مشبهة باسم الفاعل (والمجرور) مشبه بالمفعول، وأصله: بديع سماواته، ثم شبه الوصف فأضمر فيه ضمير عائد على الله ونصب سماواته على التشبيه. وقيل: بديع سماواته ثم أضيف فانجرَّ مِنْ نصب. وقال الزمخشري: هو من إضافة الصّفة المشبهة إلى فاعلها واعترض بأن الصفة لا تكون مشبهة إلا إذا نصبت أو أضيفت عن نصب، أما إذا رفعت فليست مشبهة لأن عمل الرفع في الفاعل تستوي فيه الصفات المتعدية وغيرها، وأيضا بإضافة الصفة إلى (فاعلها) لا يجوز لأنه من إضافة الشيء إلى نفسه، وقد يتناول كلامه على أن معناه من إضافة الصفة المشبهة إلى ما كان فاعلا لها قبل أن تشبه. انتهى. قلنا قوله: واعترض بكذا، نقل ابن عصفور في شرح الجمل عن الأستاذ أبي الحسن علي بن جابر الرماح أن الإضافة: في مررت برجل حسن وجهه، يمكن أن يكون من رفع، وأنه حكى ذلك عن أشياخه وحمل عليه كلام سيبويه واعترضه ابن عصفور فانظره. قوله تعالى: {وَإِذَا قضى أَمْراً ... } أي أراد فيرجع للارادة القديمة (التنجيزية). (وقال الزمخشري: إنه عبارة عن سرعة التكوين. فجرى على مذهبه. وقال ابن عطية. أي قدر في الأزل وأمضى فيه). قوله تعالى: {وَقَالَ الذين لاَ يَعْلَمُونَ ... } قال ابن عرفة: إن أريد بهم مشركو العرب فواضح، وإن أريد أهل الكتاب فواضح، لأن جهل المشركين بسيط، وجهل أهل الكتاب مركب. واستشكل الفخر قول من فسره بأهل الكتاب قال: لأنّهم يعلمون. قال ابن عرفة: ويجاب بما قلناه: من أنهم جاهلون جهلا مركبا وكان بعضهم يقول: إنما نفى عنهم العلم لوضعهم الشيء في غير محله، لأنّهم طُلب منهم الإقرار بصحة

الرسالة فَطَلَبُوا هم أن يكلمهم الله مشافهة وهذا مناف للرسالة لأن هؤلاء إذا حصلت لهم المباشرة بالكلام فلا حاجة إلى الرسالة. قيل لابن عرفة: إنهم طلبوا أن يكلّمهم الله (بتصديق رسوله). فقال: وفي هذا وقع الكلام معه، فإذا (بُوشروا) به فلا حاجة إلى الرسالة. وقال: وتنكير «ءَايَة» لتعم (في) المعجزات كلها، وتفيد التقليل فهو محض مكابرة ومباهتة منهم (حتى) (كأنه) لم يأتهم بشيء من الآيات. قوله تعالى: {مِّثْلَ قَوْلِهِمْ ... } قيل لابن عرفة: ما فائدة زيادة «مِّثْلَ قَوْلِهِمْ» مع أنه مستغنى عنه لأن التشبيه الأول (يكفي) في حصول المثلية؟ فأجاب بوجهين: - إما أنه تأكيد في مقام التسلية للنَّبي صلى الله عليه وسلّم بتكذيب من قبله وتعنتهم. - وإما أن قوله «كَذلِكَ» تشبيه لا يقتضي المساواة من جميع الوجوه بل (المقابلة)، لأن المشبه بالشيء لا يقوى قوّته فزاد «مِّثْلَ قَوْلِهِمْ» ليفيد كمال المماثلة والمساواة، ولم يقل: مثل كلامهم، لأن القول أعم من الكلام، ولازم الأعم لازم الأخص، فأفاد حصول المساواة في قولهم المفرد والمركب. قوله تعالى: {قَدْ بَيَّنَّا الأيات ... } رد عليهم في قوله: {أَوْ تَأْتِينَآءَايَةٌ} ولم يرد عليهم قولهم: {لَوْلاَ يُكَلِّمُنَا الله} لظهور بطلانه بالبَديهة. قوله تعالى: {لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} ابن عطية: اليقين عند الفقهاء أخص من العلم لأن العلم عندهم معرفة المعلوم على ما هو به، واليقين معتقد يقع للموقن في حقّه، والشيء على خلاف معتقده كتيقن (المقلدة) ثبوت الصانع. ثم قال: وحقيقة الأمر أنّ اليقين هو الأخص، وهو ما علم على الوجه الذي لا يمكن أن يكون إلا عليه. قال ابن عرفة: كان ابن عبد/ السلام يقول: هذا كلام خلف، لأنه ذكر أنّ اليقين أخص ثم فسر بما يقتضي أنه أعم من العلم. والصواب أن يقال: اليقين أخص من العلم لأن العلم أخص من الاعتقاد، فالاعتقاد أعمها ثم العلم، ثم اليقين، واليقين هو اعتقاد الشيء بدليل قاطع لا تعرض له الشكوك، والعلم اعتقاد الشيء بدليل يقبل الشكوك والمعارضة، وهي مسألة المدنة قال: إنّما اللغو أن يحلف بالله

119

على أمر تيقّنه ثم تبين له خلاف ذلك فلا شيء عليه. وانظر ما قيدت في سورة الذاريات. قوله تعالى: {إِنَّآ أَرْسَلْنَاكَ بالحق ... } الظاهر أن المعجزات هي المراد. وقدم البشارة على النذارة لأنّ القاعدة في محاولة الأمور الصعبة أن يبدأ فيها بالتلطّف والتيسير ليكون أدعى للقبول، كما إذا كان لك جمل معك وأردت أن تدخله موضعا فإنك تسايسه بربيع تطعمه له أو تفتل شعره أو نحو ذلك، كما قال {فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً} قوله تعالى: {وَلاَ تُسْئَلُ عَنْ أَصْحَابِ الجحيم} الظاهر أنها تسلية للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. قوله تعالى: {وَلَن ترضى عَنكَ اليهود ... } كان بعضهم يقول: غالب استعمال الملة فيما عدا الدّين المحمدي، ولذلك كانوا ينتقدون على أثير الدين الأبهري في كتابه في أصول الدين حيث قالوا: قال الملّيّون: يعني به الإسلاميين قال: وهذا على حذف وَلَن تَرْضَى عَنكَ اليَهُودُ حَتّى تتبعَ مِلتهُم ولا النصارى حتى تتبع ملتهم، وفيه المبالغة في لفظ «لَن» و «حَتَّى» وفي تكرير «لاَ». قوله تعالى: {قُلْ إِنَّ هُدَى الله ... } يحسن أن يكون أمرا لكل واحد من الناس أن يقول ذلك. قيل لابن عرفة: النصارى يوافقوننا على ذلك ويقولون: إن دينهم هُو هُدى الله؟ فقال: إن هُدَى الله على ثلاثة أقسام: هدى باعتبار ما في نفس الأمر، وهدى باعتبار الدليل العقلي، وهدى باعتبار الدعوى؛ فالمراد أن هدى الله الذي دل الدليل العقلي عليه هو الهدى، وهو الهادي إلى الإيمان بمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. قوله تعالى: {وَلَئِنِ اتبعت أَهْوَآءَهُم ... } خطاب على سبيل التهييج والإلهاب، وعطف النصير على الولي تأسيس، لأن الولي إما أخص من النصير أو بينهما عموم وخصوص من وجه دون وجه. وعلى كل تقدير فالعطف تأسيس وانظر ابن عطية وانظر ما قيدت في سورة العنبكوت وفي سورة الفتح. قوله تعالى: {الذينءَاتَيْنَاهُمُ الكتاب يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ ... }

122

ابن عطية: عن قتادة: هم المؤمنون بمحمد، والكتاب القرآن. وعن ابن زيد: هم المؤمنون بموسى عليه السلام، والكتاب التوراة، وقيل: الأربعون الواردون مع جعفر بن أبي طالب في السفينة. قال ابن عرفة: المراد به الأنبياء والرّسل فقط. لكن يضعف لقوله «يُؤْمِنُونَ بِهِ» فكأنه إخبار بالمعلوم. ابن عطية: ويصح أن يكون «يَتْلُونَهُ» حالا والخبر «أُوْلئِكَ يُؤْمِنُونَ». ورده ابن عرفة: بأنه إخبار بالمعلوم فيمتنع كما امتنع أنّ الذاهبة جاريته مالكها، لأنّهم فسّروا: يتلونه «بمعنى يتبعونه بامتثال أوامره ونواهيه، وهذا هو حقيقة الإيمان به. لكن قال: هذا إنما يلزم إذا جعلنا الهاء من» به «عائدة على الكتاب، وأما إن أعدناها على محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أو على» الهُدَى «فيتم له ما قال. قيل لابن عرفة: أو يجاب بأن الحال من شرطها الانتقال فالتلاوة غير لازمة؟ فقال: الإخبار عن (المبتدإ) إنما هو (بصفته) والحال من صفته فإذا انتقلت انتقل الخبر. قال ابن عرفة: وفي الآية رحمة وترجّ لكونها لم يذكر فيها إلا من آمن بالكتاب ومن كفر به، ويبقى من كان في زمن الفترة والمجانين والصغار مسكوتا عنهم لم يتناولهم هذا الوعيد. وجاءت الآية مفصولة بغير عطف غير موصولة مع أنهم شرطوا في ذلك اختلاف الجملتين بأن تكون إحداهما طلبية، والأخرى خبرية وكذا الأمر والنهي وهاتان متفقتان في الخبر لكنهما مختلفان. قوله تعالى: {اذكروا نِعْمَتِيَ التي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ ... } ذّكرهم بنعمة واحدة إشارة إلى أن التذكير باستحضار النعم الكثيرة من حيز المحال (تكليف) بما لا يطاق فلا يطيقون إلا الشكر على النعمة الواحدة. قوله تعالى: {وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى العالمين}. أي فضلت أمتّكم على الأمم: إمّا على أمم زمانكم لأن بعثة موسى عليه السلام لم تكن عامة لجميع الناس فكان في زمانه أمم أخرى، وإما على جميع الأمم التي قبله وبعده فتدخل فيه أمة سيدنا محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لكثرة ما كان في زمن بني إسرائيل من الأنبياء. وليس المراد ب «العَالَمِينَ» جميع النّاس لأن سيدنا محمدا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أفضل الخلق (على الإطلاق). قوله تعالى: {وَلاَ تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ ... }.

124

جعله ابن عطية من باب «على لاحب يهتدي بمنارة». قوله تعالى: {وَإِذِ ابتلى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ ... } والعامل/ في إذ (مضمر) أي (اذكر) إذ ابتلى، ويعمل فيها عمل الفعل في المفعول به ولا عمله في الظرف لأنه يستحيل ذكره في ذلك الوقت. وقرئ برفع «إِبْرَاهِيمُ» ونصب «رَبَّهُ» ومعناه ابْتَلَى (ابراهيمُ) إجابة ربه، أي اختبر حاله عند ربه. قيل لابن عرفة: فهل يجوز أن يختبر المكلف حاله عند ربه؟ فقال: أما عند الاضطرار فجائز كما في حديث الثلاثة الذين أخذهم المطر فأووا إلى غار في جبل فانحطت عليهم من (أعلى الجبل) صخرة فسدت (فم) الغار فقالوا: تعالوا يتوسّل كل واحد منا إلى الله بأفضل عمل عمله، الحديث أخرجه الصحيحان. قال: وكذلك عند الضرورة الظاهر الجواز. قال الإمام فخر الدين هنا: والجمهور على أن إمامة الفاسق حال فسقه لا تجوز، واختلفوا في الفسق الطارئ هل يبطلها أم لا؟ قال: وخطأ أبو بكر الرازي من نقل عن أبي حنيفة إجازة كونه خليفة وامتناع كونه قاضيا. قال: فإن شرط كل واحد منهما العدالة. وفي الإكمال للقاضي عياض في كتاب الإمارة قال المازري: وإذا عقد الإمام على وجه صحيح ثم فسق وجار بأن كان يكفر وجب خلعه، وأما بغيره من المعاصي فلأهل السنة لا يخلع، وللمعتزلة يخلع. عياض: الاختلاف أنها لا تنعقد لكافر ولا تدوم إن طرأ عليه الكفر، وكذا إن كان يترك الصلاة والدعاء لها، وكذا عند الجمهور بالبدعة ولبعض البصريين أنها لا تنعقد للمبتدع وتدوم له للتأويل. عياض: لا تنعقد ابتداء للفاسق بلا تأويل، وهل يخرج منها بمواقعة المعاصي أو لا؟ قال جمهور أهل السنة من الفقهاء والمحدثين والمتكلمين: لا يخلع (بالظلم) والفسق وتعطيل الحقوق، ويجب وعظه وترك طاعته فيما لا يجب فيه طاعة. وقال بعضهم: يجب خلعه، وهذا مع القدرة فإن لم يقدر على ذلك إلا بفتنة وحرب فاتفقوا على منع القيام عليه. واحتج الزمخشري بهذه الآية على أن الفاسق لا يصلح للامامة. قال ابن عرفة: لا دليل فيها، وفرق بين نيل العهد للفاسق وتعلقه به وبين انعقاد الإمامة للفاسق. فنقول: أمّا ابتداء فلا يصح أن يَلِي الإمامة الفاسق. وأما بعد الوقوع فتنعقد له الإمامة كما قالوا في البياعات الفاسدة: إنما تمنع ابتداء فإن وقعت مضت وحكم لها بحكم الصحيح. قيل لابن عرفة: كيف هذا مع قول الله تبارك وتعالى {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الكتاب الذين اصطفينا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ} فقال: يكون الاصطفاء (لنفسه) فقط لا مطلقا.

125

قوله تعالى: {وَإِذْ جَعَلْنَا البيت مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْناً واتخذوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى ... } أي محل رجوع، والرجوع ليس هو باعتبار الشخص الواحد المعين بل باعتبار الأنواع (فيحج) واحد ولا يرجع، ويحج آخر. ويحتمل أن يراد بالشخص الواحد المعين لكن لا يتناول إلا الأفاقِي فإنه يطوف طواف القدوم ثم يرجع إلى البيت فيطوف طواف الإفاضة. واتفقوا على أنه ليس المراد بالبيت حقيقة بل ما حولها فمن دخل المسجد الحرام فهو آمن. قوله تعالى: {وَعَهِدْنَآ إلى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ والعاكفين والركع السجود}. ابن عطية: عن عطاء وغيره: الطائفون أهل الطواف، وعن ابن جبير: الغرباء الطارئون على مكة والعاكفون أهل البلد المقيمون. وعن عطاء: المجاورون بمكة الذين عكفوا بها فأقاموا لا يبرحون. وعن ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: المصلون وعن غيره المعتكفون. قال الزمخشري: المعتكفون الواقفون يعني القيام في الصلاة. قال ابن عرفة: وقدم الطائفين لقرب الطواف من البيت (واختصاصه) به والعكوف في سائر البلد، وإن أريد به الاعتكاف فهو أحرى لأنه يكون فيه (وفي) كل مسجد تصلى فيه الجمعة ثم الرّكوع والسجود لأنه يكون في سائر المساجد والمواضع الطاهرة. وقال السماكي: لأن العكوف يخص موضعا واحدا من المسجد والطواف يكون بجميع البيت فهو أعم والأعم قبل الأخص. قال وجمع: (الطائفين) جمع سلامة لأنه أقرب إلى لفظ بمنزلة يطوفون للاشعار بعلة تطهير البيت وهو حدوث الطواف وتجرده ولو قيل: الطواف: لم يفد ذلك لأن المصدر يخفي ذلك، وجمع العاكفين جمع سلامة لقربهم من البيت كالطائفين بخلاف الركوع والسجود فإنّه لا يلزم أن يكون في البيت ولا عنده، فلذلك لم يجمع جمع سلامة ولم يعطف (السجود على الركوع) لأنّ الرّكع هم السّاجدون ومن لم يسجد فليس براكع شرعا، ولأن السجود يكون مصدر «سَجَدَ» ويكون جمع «سَاجِد» ولو عطف لأوهم أنه مصدر. فإن قلت: هلا قيل: السجّد، كما قيل: الركع، قال الله تعالى: {رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً} قلت: يراد بالسجود وضع (الجبهة على) الأرض ويراد به الخشوع ولو قيل (السجَّد) لم يتناول

126

إلا السجود المرئيِ بالعين، فقيل: السجود ليعم المعنوي والحسي بخلاف الركوع. وجعل السجود وصفا له لأن الخشوع روح الصلاة وسرها. قوله تعالى: {رَبِّ اجعل هذا بَلَداًءَامِناً ... } قيل لابن عرفة: إنه دعا بصيرورته بلدا آمنا، فظاهره أنه لم يكن حينئذ بلدا فدعا (هنا بصيرورته بلدا ثم بعد حصوله بلدا دعا بما في) سورة إبراهيم؟ فقال: إنك تقول: رب اجعل هذا رجلا صالحا، فلم تدع بحصول الرجولية له بل بكونه صالحا. قيل له/ قد ذكروا في الجواب عن معارضة الآيتين أنه لم يكن حينئذ بلدا فدعا هنا بصيرورته ثم بعد حصوله بلدا دعا بما في سورة إبراهيم؟ فقال: الظاهر أنه كان في موطنين فقال أولا: {رَبِّ اجعل هذا بَلَداًءَامِناً} ثم أعاد الدعاء في إبراهيم إما لأنه استجيب له وطلب دوام الأمن، أو تأخرت الإجابة وأعاد الدعاء تأكيدا، وإن كان ذلك منه في موطن (واحد) فيشكُل فهم الآيتين لأنه إن كان نطق به معرّفا فلِمَ حكى منكّرا، وإن قاله منكّرا فلِمَ حكي معرّفا؟ ومنهم من أجاب بانه على حذف الصفة أي اجعل هذا البلد آمنا، وخص بعض ذريته بالدعاء دون بعض إما لأنه علم أن (فيهم) الظالمين أو لأن الله أوحى إليه بذلك أو لأن هذا اسلام أخص فخصص البعض (به دون البعض). قوله تعالى: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ ... } قال: إنما فصل بين إسماعيل وإبراهيم بالمفعول (ليظهر كمال المباينة بينهما) لأن إبراهيم هو متولي البناء وهو الذي كان يضع الحجر في الحائط وإسماعيل إنما كان يناوله خاصة. قوله تعالى: {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّآ ... } مع قوله: {رَبَّنَا واجعلنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ} دليل واضح لأهل السنة في قاعدة الكسب لأن مجرد الدعاء بقبول العمل دليل على أن العبد مستقل بفعله والدعاء (بتحصيل) الإسلام دليل على سلب القدرة على العبد فالجمع بينهما موضح لقاعدة الكسب. قوله تعالى: {وَمِن ذُرِّيَّتِنَآ أُمَّةً مُّسْلِمَةً ... } تقدم أن الواحد يطلق عليه «أُمَّة» وفيه تناقض كلام ابن الخطيب في المحصول. قوله تعالى: {وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا ... } المراد به موضع الهدى، وأما النسك فيذبحه حيث شاء من البلاد.

129

قوله تعالى: {وَتُبْ عَلَيْنَآ ... } الصواب فيه انه باعتبار الانتقال من مقام إلى مقام أعلى منه (فيرى) في ذلك نقصا (يقتضي) التوبة لأن الكبائر (تستحيل) على الأنبياء، وكذلك صغائر الخسة بإجماع، ويحتمل أن (يريد) (أعطنا ثواب التائبين. فإن قلت: الرحمة سبب في التوبة فلَِم أخرها عنها؟ قلت: لأن الرحمة) وسيلة والتوبة مقصد والمقصد أشرف من الوسيلة. قوله تعالى: {رَبَّنَا وابعث فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ ... } إعادة النداء للاهتمام بالسبب وزيادة «مِنهُم» تنبيه على عموم رسالته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في العرب لأن ضمير الذرية يعم العرب والعجم لأن بعض كفار قريش زعم أنه لم يرسل إليهم. قوله تعالى: {وَيُعَلِّمُهُمُ الكتاب والحكمة وَيُزَكِّيهِمْ ... } هذا جاء على الأصل في تقديم العلم أولا ثم (العمل) به لأن العلم شرط في العمل، ولذلك قال: كل شيء يمكن حصوله للولي الجاهل إلا العلم، لأن العلم لا يحصل له إلا بالتعلم وما يحكى في بعض المسائل عن الشيخ الصالح أبي الحسن علي الشاذلي وغيره إنما هي مسائل جزئية يمكن أن يطلعه الله على حكمها في مرآة يراها مسطورة بين يديه، فيجيب بما فيها، إنما العلم الكلي من حيث هو بحيث (يتصدى) لإقرائه وتعلمه فلم يوجد في العادة لأحد (بوجه)، كذا كان بعض الشيوخ يقول. وقدم هنا وفي الحزب الذي يليه بعده «يُعَلِّمُهُمُ» «يُزَكِّيهِمْ»، وآخّره في سورة الجمعة. كان الشيخ محمد بن عبد السلام يقول: إنه بحسب المجالس فحيث تقدم التعليم تكون تلك الآية نزلت عليه بمحضر الخواص ومن هو أهل للتعليم، فيكون التعليم أَهَمّ، وحيث تقدم التزكية تكون الآية نزلت عليه في موضع أكثره عوام، فتكون التزكية في حقهم أهمّ. قوله تعالى: {إِنَّكَ أَنتَ العزيز الحكيم}. (لَمْ) يَقُلْ: الغفور الرحيم لأن العزيز هو الذي ينفذ مراده ولا ينفّذ فيه مراد (أحد) والحكيم هو الذي تضمنه قوله تعالى: {الله أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} وقوله {وكانوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا}

130

قوله تعالى: {وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ ... } الاستفهام في معنى النفي، أى لا يرغب إلا السفهاء، وهذا إن كان المراد عقائد التوحيد فالملل كلّها متفقة على ذلك وخصص منها ملة إبراهيم لشرفها واجتماع جميع الملل على اتباعها، وإن كان المراد به شريعته والأحكام الفرعية فلا شك أنها منسوخة (فالمراد) من يرغب عنها قبل (تقرر نسخها). قوله تعالى: {وَإِنَّهُ فِي الآخرة لَمِنَ الصالحين} الآخرة هي التي يظهر فيها فائدة الصلاح في الدنيا. انتهى. قوله تعالى: {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ ... } قال: هذا إما قول حقيقة بعد رؤية الكوكب والقمر والشمس وإما بمعنى الإلهام إلى/ ذلك وخلقه في قلبه بنصب الدلائل العقلية عليه. قوله تعالى: {قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ العالمين} إقرار بالحكم ودليله فلذلك لم يقل: أَسْلَمْتُ لَكَ. قوله تعالى: {أَمْ كُنتُمْ شُهَدَآءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الموت ... } ولم يقل: أم كنتم حضورا، لأن لفظ الشهادة تفيد الضبط والإحاطة بعلم الشيء. فإن قلت: مفهوم الآية أنهم لو حضروا لذلك لصح لهم الاحتجاج به مع أنه حجة عليهم لأن يعقوب إنما أوصى بنيه بعبادة الله سبحانه وتعالى وتوحيده؟ فالجواب: أن المعنى: أم كنتم شهداء إذ قال ذلك، أم تقولون هذه المقالة وتدعون أنه أوصاهم (بغير ذلك). قال ابن عرفة: لأن هذا الاستدلال على سبيل التقسيم عليهم والتنزل معهم على عادة المستدل، فأبطل قولهم بالدليل العقلي ثم احتج عليهم بالدليل السّمعي النّقلي فقيل لهم: أحضرتم لوصية يعقوب لبنيه، وتزعمون أنها كانت موافقة (لدعواكم)، أي ما لكم دليل عقلي ولا نقلي. وتقديم يعقوب وهو مفعول على الموت للاهتمام لأنّ الآية (نزلت) في معرض إقامة الحجة على الكفار وإقامة الحجة إنما هي بإسناد الأمر إلى يعقوب لا للموت. قال ابن عطية: والمعنى إذا حضر يعقوب مقدمات الموت، وإلا فلو حضره الموت لما قال شيئا.

134

قال ابن عرفة: لا يحتاج إلى هذا إلا لو قيل إِذْ نَزَلَ (بيعقوب) الموت. وأما حضور الموت فهو أعم من (نزولها) و (مقاربة) نزولها. قوله تعالى: {مَا تَعْبُدُونَ ... } قال الزمخشري: «مَا» علم في كل شيء فإذا (علم) فرّق ب «ما» و «من» وكفاك دليلا قول العلماء «مَنْ» لما يعقل ولو قيل: من تعبدون، لم يعم إلا أولي العلم وحدهم. قال ابن عرفة: إن قلت: جعل «مَا» عامة تقع على «مَا» وعلى «مَنْ» فتقسم الشيء إلى نفسه وإلى غيره؟ (قلتُ): جعلها مشتركة بين الأعم والأخص، فتارة وضعت لأن تدل على كل شيء وتارة وضعت للاختصاص بمن يعقل. فإن قلت: كيف قال «من» لما يعقل فأطلق «ما» على العاقل وهي لا تصدق عليه إلا مع غيره؟ قلنا: عادة الطلبة يجيبون بأنّها إنّما أطلقت عليه مقيدا بالعقل وإنما تخص غير العاقل عند عدم القرينة كقولك: رأيت ما عندك. الزمخشري: ويجوز أن يقال «مَا تَعْبُدُونَ» سؤال عن صفة المعبود. وضعفه ابن عرفة لقولهم «نَعْبُدُ إلهك» فلم يجيبوا بالصفة وإنما يصح ذلك لو قالوا: نعبد القادر السميع البصير. فإن قلت: لم قال: «من بعد» فاتى ب «من» المقتضية لأول الأزمنة البعدية مع أنه لا يتوهم مخالفتهم ورجوعهم عن دينهم إلا بعد طوال الزمان (وأما) بالقرب من موته فلا يزالون متَّبعين له ومقتفين (لآثاره)؟ قال الغاسل: عادتهم يجيبون بأن الآية أتت في معرض الرّد على اليهود، وهم يدعون أنهم متبعون لآبائهم فذكر لهم الوجه الذي يصدق على أولاد يعقوب أنهم متبعون له وذلك لا يصدق إلا بأول أزمنة البعدية، وأما (ما) بعد ذلك فقد يقال: إنّهم لم يتبعوا، بل تناسوا الأمر واتبعوا غيره والزمن القريب من موته يقوى فيه وجه الاتباع. قوله تعالى: {وإلهءَابَآئِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ ... } قال ابن عرفة: إن أجزنا استعمال اللّفظ في حقيقته ومجازه (فالعم) يطلق عليه أب مجازا. وجعله الزمخشري حقيقة واستشهد بحديث: «عم الرجل صنو أبيه» وبقوله في العباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه «هذا بقية آبائي». ابن عطية وقال: «أنا ابن الذبيحين» قال: وعلى القول المشهور في أنه إسحاق. وهو قول مالك في العتبية، وإن كان اختيار ابن عطية في غير ما موضع أنّه إسماعيل وجعله أصح من القول الآخر، والوصف بقوله «وَاحِداً» دليل على أن لفظ الإلاه كلي ولذلك كان دليل الوحدانية نظريا وإلاّ (كان يكون) ضروريا. قوله تعالى: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ ... }

135

ابن عطية: رد على الجبرية القائلين بأن العبد لا قدرة له وأنه كالميت بين يدي الغاسل. زاد القرطبي: أن فيها ردا على المعتزلة القائلين بأن العبد يستقل (بفعله) لأن الآية دلت على الكسب لا على الخلق والاختراع. قال ابن عرفة: إن كان الكسب في اللغة هو الذي اصطلح عليه المتكلمون، فما قاله حق وإلا لم يتم له ذلك. قوله تعالى: {وَلَكُمْ مَّا كَسَبْتُمْ ... } قوله تعالى: {وَلاَ تُسْئَلُونَ عَمَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} فيه حذف، أي ولا يُسْأَلُونَ هم عما كنتم تعملون. قال أبو حيان: «لَهَا مَا كَسَبَتْ» يجوز أن يكون حالإ من الضمير في «خَلَتْ» ويضعفه عطف «وَلَكُمْ مَّا كَسَبْتُمْ» عليه، لأنها تكون حالا، وعطف الحال على الحال يوجب اتحاد الزمانين وزمان استقرار (الكسبين) مختلف. وأجاب ابن عرفة بكون الثانية حالا مقدرة مثل، مررت برجل معه صقر صائدا به غدا، أي قد خلت حالة كون (لها) ما كسبت وحالة كون (لمن) بعدها ما يكسب على تقدير (اكتسابه). قوله تعالى: {وَقَالُواْ كُونُواْ هُوداً أَوْ نصارى تَهْتَدُواْ ... } قال ابن عرفة: هذا قياس استثنائي (في) قوة كلامهم (فيه) أنهم قصدوا استثناء غير المقدم فينتج عَين التالي وينتفي الثاني لانتفاء الأول، أي إن لم تكونوا هودا لم تهتدوا لكنكم لستم بهود فلستم بمهتدين. وقاعدة الأصوليين استثناء عين التالي وينتفي/ الأول لانتفاء (الثاني) حسبما نص عليه ابن التلمساني في كتاب القياس فيجيء تركيبه: إن لم تهتدوا تكونوا هودا، وليس هو مرادهم بل مرادهم أن الهداية لازمة لدين اليهودية. والجواب: أنهما متساويان إذا انتفى أحدهما لزم منه انتفاء الآخر والإضراب ب «بل» إبطال. فإن قلت: هلا قيل: وما كان مشركا، فهو الأخص لأن نفي الأعم أخص من نفي الأخص لأنه يستلزم نفي الأخص؟ فالجواب أن النفي ورد على (وفق) دعواهم و (هم) ما ادعوا إلا أنهم متّبعون له وأنه كان على دينهم وهم مشركون لقولهم: عزير بن الله والمسيح ابن الله وادعائهم (التجسيم). والخطاب بقوله: {قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ ... } لجميع الناس خوطب به كل واحد على حدته وهو أولى من جعله خطابا للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لأنه مقابل لقول أتباع موسى وعيسى فيقابلون بقول أتباع محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. قوله تعالى: {قولواءَامَنَّا بالله}

قال ابن عرفة: فيه دليل على أن من قال: أنا مؤمن، لا يحتاج إلى زيادة: إن شاء الله، وهو قول سحنون. قلت: قال ابن بطال في أوائل شرح البخاري هو قول ابن عبد الرحمان السلمي، وعطاء، وسعيد بن جبير، وإبراهيم التميمي وعون ابن عبد الله، (ورأى) زيادة الاستثناء ابن عبد الحكم وحمديس وابن عبدوس وأحمد بن صالح الكوفي. قلت: ونقل لي بعض الطلبة عن الركراكي بالقيروان وكان صالحا أنه قال: لا أماته الله على الإسلام إن كان يعتقد أنه مسلم. (قال: فسألت الفقيه أبا عبد الله محمد بن محمد بن سلامة. فقال: مراده إن كان يعتقد أنّه كامل الإسلام. وقال لي شيخنا الفقيه أبو العباس أحمد بن إدريس: إنما أراد ما في حديث: «المسلم من سلم الناس من لسانه ويده» قال ابن عرفة: والصواب أنه إن أراد: أنا مؤمن في الحال، لم يحتج إلى زيادة: إن شاء الله تعالى، وإن أراد المستقبل فلا بد من زيادة إن شاء الله، وهذه الآية إما خبر أو إنشاء فإن كانت خبرا فهو ماض لا يحتاج فيه إلا الاستثناء لأنه محقق عنده، وإن كان إنشاء فمدلولها حق صح الإخبار عنه على ما هو عليه من غير استثناء لأنه حق. (ابن عرفة). والمسألة المتقدمة مذكورة في الفقه وفي المعالم الفقهية. وقال أبو حيان: هنا في إبراهيم وإسماعيل (يجوز) أن يجمعا جمع سلامة فيقال: (ابراهيمون) وإسماعيلون. قال ابن عرفة: كان بعضهم يمنع ذلك (فيه) لأنه عجمي. والله أعلم. قال الزمخشري: والأسباط حفدة يعقوب عليه السلام (ذرارى) أبنائه الاثني عشر. وقال ابن عطية: (هم أولاد) يعقوب وهم روبيل وشمعون ويهودا وداني ولاوى وكرد. قلت: وتقدم لنا في الختمة التي قبل هذه قال بعض الطلبة لابن عرفة: ما الحكمة في تخصيص أول الآية بلفظ الإنزال و (ثانيها) بالإيتاء؟ فقال: لفظ الإنزال صريح فيما أنزل من أعلى إلى أسفل، ولفظ الإيتاء محتمل لأن يكون من اليمين والشمال والأمام والعلو، والنصارى (مؤمنون) بما أنزل على عيسى، واليهود (مؤمنون) بما أنزل على موسى لأنهم لا احتمال عندهم فيه ولا شك، ولما كانوا شاكين في المنزل على محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وعلى آل إبراهيم وما بعده وبعضهم يدعي أنهم (تلقوه) من الكهان، أتى فيه باللفظ الصريح الدال على نزوله من أعلى إلى أسفل ولهذا قال: {وَمَآ أُوتِيَ النبيون مِن رَّبِّهِمْ} لينفي هذا الاحتمال، فعورض بوجهين: -

137

الأول قال بعض الطلبة: السحر إنما يتلقونه من الشياطين المسترقين للسمع فهو من أعلى إلى أسفل فلا احتمال في الإنزال كالاحتمال في الإيتاء. - الوجه الثاني: قلت: (إذاً) إنّ النصارى كافرون بما أنزل على موسى واليهود بما أنزل على عيسى فالاحتمال لم يزل أقال في هذه: {وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا} وفي آل عمران {قُلْءَامَنَّا بالله وَمَآ أُنزِلَ عَلَيْنَا} قال ابن الخطيب: إنّ «على» صريحة في حصول الشيء من فوق «وإلى» يحتمل حصوله من إحدى الجهات السْبب. والخطاب في قوله «ءَامَنَّا» بالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ والقرآن أنزل عليه حقيقة من السماء. والخطاب هنا للمؤمنين، وإنما حصل لهم القرآن من النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ (ولم يحصل) لهم من فوق. وأورده الزمخشري في آل عمران، وأجاب بأن الوحي يتنزل من فوق وينتهي للرسل، فجاء تارة بأحد المعنيين وأخرى بالآخر، قل ومن قال علينا لقوله قل: «إِلَيْنَا» لقوله «قُولُواْ» فقد تعسف، ألا ترى إلى قوله «بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ» وإلى قوله {ءَامِنُواْ بالذي أُنزِلَ عَلَى الذينءَامَنُواْ} وأجاب ابن عرفة بجواب آخر: وهو أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لما كان خاطره إلى العالم العلوي أميل، إذ في السّماء الجنّة والعرش والكرسيّ والملائكة، ناسب تعدي الإنزال إليه ب «على» ليشعر بإتيانه من الجهة الشريفة المحبوبة بخلاف هذه فإنّ فيها «قُولُوا» وهو خطاب له ولغيره. وأجاب ابن عرفة وبعض طلبته عن تخصيص أول الآية بالإنزال وآخرها بالإيتاء بأنه لما/ كان ظهور المعجزات الفعلية على يد موسى وعيسى أكثر (وأشهر) من ظهورها على يد إسحاق ويعقوب وإبراهيم لأن موسى ضرب البحر فانفلق، وألقى العصا فعادت ثعبانا، وأخرج يده فصارت بيضاء من غير سوء، (ورفع) من على البئر الصخرة لابنة شعيب، ووضع ثوبه على حجر، ودخل النهر فمضى الحجر به فتبعه وهو يقول: ثوبي حجر. وعيسى كان يبرئ الأكمه والأبرص ويحيى الموتى بإذن الله، فناسب لفظ الإيتاء سَيدَنَا إبراهيم عليه السلام وأولاده فإن اشتهارهم بإنزال الوحي أكثر من اشتهارهم بالمعجزات. قوله تعالى: {فَإِنْءَامَنُواْ بِمِثْلِ مَآءَامَنتُم بِهِ فَقَدِ اهتدوا وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ ... } قال ابن عرفة: الباء: إما للسبب والمراد أسباب إيمانكم وهي البراهين والمعجزات، أو للتعدية (به) والمراد متعلق الإيمان وهو الإلاه؛ فإن كان للسبب فواضح أي «فَإِنْءَامَنُوُاْ» بسبب مثل الأسباب التي أرشدتكم أنتم إلى الإيمان فقد اهتدوا، وإن أريد متعلق

138

الإيمان فمشكل. قال ابن عطية: فقيل الباء زائدة (وقيل مثل الزائدة) وقيل: إنَّه مجاز والمراد (من مثل) الشيء ذات الشيء كقولك: مثلك لا يفعل هذا. زاد الزمخشري: أنه تبكيت لهم كقولك: هذا هو الرأي، فإن كان عندك أصوب منه فاعمل عليه وقد علمت أنه لا أصوب منه. فإن قلت: هلا قيل: فَإِنْءَامَنُواْ بِمِثْلِ مَآ آمَنتُم بِهِ كما قيل: فَإِنَّمَا هم «مهتدون»، كما قيل {فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ}؟ قلنا هذا تأكيد في التنفير عن دين الكفر واهتمام لتخفيف جانب الخوف على جانب الرجاء. قوله تعالى: {فَسَيَكْفِيكَهُمُ الله ... } يتضمن كفاية شرهم وقتالهم (وكلّ ما) يصدر عنهم من المضار وهو أبلغ من (أن) لو قيل: فسيكفيك الله شرّهم. وقول الله كفايته إياهم بنفسه اعتناء بالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. قوله تعالى: {وَهُوَ السميع العليم}. الزمخشري: وعيد لهم أو وعد للرسول عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ. قال ابن عرفة: بل هما معا فهو وعد ووعيد. قوله تعالى: {صِبْغَةَ الله وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ الله صِبْغَةً ... } قال ابن عرفة: هذا في معنى: الله أحسن صبغة من غيره مثل: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ الله حَدِيثاً} أي الله من أصدق من غيره. قال: وهذا التركيب يرد على وجهين تقول: زيد أحسن القوم، وتقول: لا أحسن من زيد في قومه، فيقتضي الأول نفي الأعلى والمساوي (ويقتضي) الثاني نفي الأعلى فقط. قال الزمخشري: وانتصاب «صِبْغَةً» على أنّه مصدر مؤكد وهو الذي ذكره سيبويه، والقول ما قالت حذام. قيل لابن عرفة: هذا هو معرفة الحق بالرجال؟ فقال: نعم الذين لا يعرف الحق إلا منهم، وهذا صواب. انتهى. قوله تعالى: {وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ} راجع للعمل {وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ} للإيمان الاعتقادي التوحيدي فتضمنت الآية العلم والعمل. قوله تعالى: {قُلْ أَتُحَآجُّونَنَا فِي اللَّهِ ... } سماها حجة مجازا وإنما هي شبهة وليست حجة بوجه. قوله تعالى: {أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ ... } «أَمْ» إما متصلة والمعنى: أي الأمرين تأتون المحاجة في حكم الله أم ادعاء اليهودية والنصرانية على الأنبياء، وخلط هنا مقالتهم مع أن اليهود ادعوا على الأنبياء دين اليهودية فقط؛ وإما منفصلة والإضراب انتقل إلى ما هو (أشد) وأشنع.

141

قال ابن عرفة: وقوله: {قُلْءَأَنتُمْ أَعْلَمُ أَمِ الله ... } دليل على أنها منقطعة لأنه رد عليهم في المقالة الثانية فقط أي لم يكونوا كذلك. وقوله «أَمِ اللهُ» إما على ظاهره أو المراد به أمْ رسول الله، كما قال الله جل ذكره: {إِنَّ الذين يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ الله} وهو على سبيل التنزل معهم والإنصاف (أو) من باب تجاهل العارف قوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَتَمَ شَهَادَةً عِندَهُ مِنَ الله ... } جمعه مع {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ الله} ومع {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَبَ علَى الله} يقتضي التساوي إلا ما دل الدليل على (التفاوت) فيه (بل أقوالهم تضمنت كتم الشهادة فيقال: إنما علق الظلم على الكتم ليعلم أن شهادة الزور أعظم جريمة فقد وعده بالعذاب على الوجهين (ووبخوا) بفعل ما ارتكبوا من ذلك) والشهداء على ثلاثة أقسام: شاهد بالحق، وشاهد بالزور، وكاتم للشهادة، فلا يشهد بشيء) مع علمه بها. وهؤلاء شهدوا بالزور ولم يكتموا الشهادة فقالوا: {كُونُواْ هُوداً أَوْ نصارى} فعلق الحكم على الأخف ليفيد العقوبة على ما هو أشد منه من باب أحرى. قال الزمخشري: ويحتمل أن يرجع للمؤمنين، أي لو كتمنا الشهادة لم يكن أحد أظلم منا فلا يكتمها. قوله تعالى: {وَمَا الله بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} من باب السلب والإيجاب لا من باب العدم والملكة. قوله تعالى: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ ... } راجع للأنبياء والأمم السالفة. قيل لابن عرفة: هم إنما ادعوا أنهم ينتفعون بعلمهم / لا أنهم يسألون عن (علمهم) فقالوا: كونوا على ديننا، ونحن متبعون لهم لننتفع بعلمهم. فهلا قيل: ولا (ينفعهم) علمهم؟ فقال: هذا (استدلال) أي اعلموا أنّهم (لم يضركم عملهم) فكما لا يضركم كذلك لا ينفعكم، أو يكون فيه حذف أي لا تُسألون عما كانوا يعملون ولا يُسألون هم عما (أنتم) تعملون. قلت: وتقدم في الختمة الأخرى قال بعض الطلبة {قُلْءَأَنتُمْ أَعْلَمُ أَمِ الله} يقتضي نفي العلم عنهم، وقوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَتَمَ شَهَادَةً عِندَهُ مِنَ الله} يقتضي ثبوت العلم لهم إذ لا يكتم إلا من علم؟ فأجيب بوجهين:

142

الأول: {ءَأَنتُمْ أَعْلَمُ} لا يقتضي نفي العلم بل مقتضاه أن العلم الحاصل لهم لا يقارب علم الله ولا يدانيه. الثاني: أن العلم المنفي أولا غير المثبت آخرا، فالمنفي هو العلم بأنّهم كانوا هودا أو نصارى، والمثبت الّذي (ذُمّوا) على كتمه هو العلم بأنّ إبراهيم كان (حنيفا) مسلما، فهم أولا ادّعوا ما لا يعلمون (ثم كتموا ما يعلمون). قلت: وتقدم في الختمة الأخرى قال بعض الطلبة {قُلْءَأَنتُمْ أَعْلَمُ أَمِ الله} يقتضي نفي العلم عنهم، وقوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَتَمَ شَهَادَةً عِندَهُ مِنَ الله} يقتضي ثبوت العلم لهم إذ لا يكتم إلا من علم؟ فأجيب بوجهين: الأول: {ءَأَنتُمْ أَعْلَمُ} لا يقتضي نفي العلم بل مقتضاه أن العلم الحاصل لهم لا يقارب علم الله ولا يدانيه. الثاني: أن العلم المنفي أولا غير المثبت آخرا، فالمنفي هو العلم بأنّهم كانوا هودا أو نصارى، والمثبت الّذي (ذُمّوا) على كتمه هو العلم بأنّ إبراهيم كان (حنيفا) مسلما، فهم أولا ادّعوا ما لا يعلمون (ثم كتموا ما يعلمون). قلت: وتقدم في الختمة الأخرى قال بعض الطلبة {قُلْءَأَنتُمْ أَعْلَمُ أَمِ الله} يقتضي نفي العلم عنهم، وقوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَتَمَ شَهَادَةً عِندَهُ مِنَ الله} يقتضي ثبوت العلم لهم إذ لا يكتم إلا من علم؟ فأجيب بوجهين: الأول: {ءَأَنتُمْ أَعْلَمُ} لا يقتضي نفي العلم بل مقتضاه أن العلم الحاصل لهم لا يقارب علم الله ولا يدانيه. الثاني: أن العلم المنفي أولا غير المثبت آخرا، فالمنفي هو العلم بأنّهم كانوا هودا أو نصارى، والمثبت الّذي (ذُمّوا) على كتمه هو العلم بأنّ إبراهيم كان (حنيفا) مسلما، فهم أولا ادّعوا ما لا يعلمون (ثم كتموا ما يعلمون). قوله تعالى: {سَيَقُولُ السفهآء مِنَ الناس ... }. جعله الزمخشري مستقبلا حقيقة، قال: وفائدة الإخبار به قبل وقوعه لأن مفاجأة المكروه أشد والعلم به قبل وقوعه أبعد من الاضطراب إذا وقع. قال ابن عطية: عن ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما وغيره أنه مِنْ وضع المستقبل موضع الماضي (لدلالته على دوام) ذلك واستمرارهم عليه. قال ابن عطية: وإنّما قال {مِنَ النَّاسِ} لأن السّفيه يكون من الجمادات والحيوانات، (يقال): ثوب سفيه أي خفيف النسج. ورده ابن عرفة بأنّ القول المسند إليه في الآية يخصصه بالحيوان. قال: وإنما عادتهم يجيبون بأمرين: أحدهما أنه لو لم يذكر لاحتمل كون هذا القول من الجن وكان يكون (ضمير) الغيبة في قوله: {مَا وَلاّهُمْ عَن قِبلَتِهِمْ} مرجحا لهذا الاحتمال. ويقال: لو كان من (الإنس) لقيل ما ولاهم عن قبلتكم لحضورهم معهم، فقيل: {مِنَ النّاسِ} لِيخرج الجن قال الله تعالى: {الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ مِنَ الجِنَّةِ وَالنَّاسِ} الثاني أنه (إشارة) إلى أنّ هذا القول صدر من رؤسائهم وأشرافهم ومن المنافقين الذين آمنوا ظاهرا، أو من علماء اليهود ولم يصدر من العوام والجهال بوجه وذلك على سبيل (النفي) عليهم والتبكيت لهم فكفر أي جهل ليس ككفر غيره. قوله تعالى: {مَا وَلاّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمْ ... } عبر بلفظ الغيبة إشارة إلى أنّهم قالوا ذلك فيما بينهم ولم يباشروا به المؤمنين بوجه، وهذا مرجح لأن تكون المقالة من المنافقين. قال العلامة ابن العربي في القبس: إن هذا مما نسخ ثلاث مرات وليس في القرآن ما نسخ ثلاث مرات غيره.

143

قال ابن عرفة: يريد أنه كان يصلي لبيت المقدس ثم نسخ بالصلاة للكعبة، ثم نسخ فصلى لبيت المقدس ثم نسخ فصلى للكعبة وقيل: كان يصلي لمكّة ثم صلى لبيت المقدس ثم صلى لمكة فيجيء التحويل ثلاث مرات والنسخ مرتين. قوله تعالى: {قُلْ لِلَّهِ المشرق والمغرب ... } أى ليس استقبالهما لذاتهما فيسأل عن سبب التخلف عنه وإنما ذلك حكم شرعي لا اختيار له فيه بوجه، وفيه دليل على أن لحكم الشرعي إذا لم تظهر لنا علته فالأصلُ فيه التعبد. قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً ... } أي ومثل هدايتنا من (نشاء) إلى صراط مستقيم (هديناكم) إلى الإيمان بمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. قال ابن عطية: عن بعضهم؛ خير الأمور أوسطها أي خيارها. قيل لابن عرفة: لا فائدة في هذا الخير وكأنه قيل: خير الأمور خيارها؟ فقال: فائدته الحصر (ولو قال): الخير في الوسط، لم يفد الحصر. قال ابن عرفة: إنما قال: {عَلَيْكُمْ شَهِيداً} ولم يقل: لكم شهيدا، لأن شاهد الإنسان مستعمل عليه إذ لا يتم له غرض إلا بشهادته. قال الزمخشري: لأن الشهيد كالرقيب المهيمن على المشهود (له). قيل لابن عرفة: ذكر الأصوليون خلافا في إجماع غير هذه الأمة هل يعتبر أو لا؟ وذكر ابن التلمساني وابن الحاجب منه مسائل وهذه الآية تدل على عدم اعتباره؟ فقال: ذلك الخلاف لا يصح، (والإجماع) (على) انتساخ الملل كلها بالملة المحمدية. قيل لابن عرفة: قد تقرر الخلاف في شرع من قبلنا هل هو شرع لنا أم لا؟ قوله تعالى: {لِّتَكُونُواْ ... }. قوله تعالى: {إِلاَّ لِنَعْلَمَ ... }. قيل: أي ليعلم رسولنا من يتبعه، قال الله تعالى: {إِنَّ الذين يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ الله} وقيل: إلا ليظهر متعلق علمنا حقيقة للمجازات عليه وإنما لم يقل: إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن لا يتبعه، زيادة في نفي الشدة عليهم والخسران. قوله تعالى: {وَمَا كَانَ الله لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ ... } أي ليضيع أعمالكم. وقيل: إنها حجة على المعتزلة في أن مرتكب الكبيرة مخلد في النار، إلا أن يجيبوا بأن إيمانه يذهب بالموازنة. قوله تعالى: {إِنَّ الله بالناس لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ}. دليل على أنّ الكافر منعم عليه لعموم الناس، وفيه خلاف، وأجيب بأنه منعم عليه في الدنيا فقط. قال ابن الخطيب في شرح الأسماء الحسنى: إنما قدم الرؤوف على الرحيم لأن الرحمة في الشاهد إنما (تحصل) لمعنى وفي / المرحوم من حاجة (و) ضعف،

144

والرأفة تطلق عند حصول الرحمة لمعنى في الفاعل من شفقة منه على المرحوم فمنشأ (الرأفة كمال في إيصال الإحسان ومنشأ) الرحمة كمال حال المرحوم في الاحتياج إلى الإحسان، وتأثير حال الفاعل في إيجاد الفعل أقوى من احتياج المفعول إليه. قوله تعالى: {قَدْ نرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السمآء ... } قال الزمخشري: قد نرى بما نرى، ومعناه كثرة الرؤية كقوله: قد أترك القرن مصفرا أنامله (كأن أثوابه مجت بفرصاد). أبو حيان: في كلامه تضاد لأن (رُبَّ) للتقليل عند المحققين، ثم إن اللفظ من حيث (قُرِّر) ليس فيه ما يدل على التكثير لأن دخول «قَدْ» على الفعل ماضيا (كان) أو مضارعا لا يفيد هذا المعنى وإنما فهمت الكثرة من التقلب لأنه يقال: قلّب إذا ردّد. قال (كاتبه): كلام الزمخشري عندي صحيح لا تضاد فيه. نبه عليه في قول الله سبحانه وتعالى {عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّآ أَحْضَرَتْ} في جواب الإتيان بلفظ النفس مفردا. قال: هو من عكس كلامهم الذي يقصدون به الإفراد فيما يعكسونه. ومنه قول الله تعالى: {رُّبَمَا يَوَدُّ الذين كَفَرُواْ لَوْ كَانُواْ مُسْلِمِينَ} ومعناه أكثر وأبلغ؟ ومنه قول الشاعر قد أترك القرن (البيت المتقدم). وتقول لبعض قواد العساكر: كم عندك من الفرسان؟ فيقول: «رب فارس عندي»، أوْ «لاَ تقَدّم عندي فارس» وعنده الكثير فيقصد التمادي في تكثير فرسانه ولكنه أراد إظهار براءته من التزين وأنه (ممن) يقلل كثيرا ما عنده، فضلا عن أن يزيد. فجاء بلفظ التقليل، ففهم منه لفظ الكثرة. انتهى كلامه. قلت: فظهر أنّ أبا حيان لم يفهم كلامه ولا أنصفه. وكان الخولاني يجيب عن الزمخشري بأن (رُبَّ) إذا اقترنت بها (ما) تكون للتكثير ولا حاجة بهذا وإنما الجواب ما قلناه. انتهى. قال ابن عرفة: أي تقلبه في جهة السماء والرؤية في كل مكان وهو دليل على أن القول من السفهاء مستقبل غير واقع كما قال الزمخشري. وتنكير القبلة للتعظيم، وفيه دليل عل أنّ السّماء قبلة للدّعاء، وفيه دليل على جواز القسم على فعل لأنه لما قال:

145

{فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً} عطفه بقوله {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المسجد الحرام} إذا ليس مراد النحويين بالحال الحال العقلي، بل إنما يريدون الحال الحقيقي أو ما يقرب منه. قوله تعالى: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المسجد الحرام ... }. المعتبر في القبلة، فيمن يرى البيت العين، وفيمن يصلي على جبل أبي قبيس السمت، وفي البعيد عنه الجهة. قوله تعالى: {وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ ... } هو دليل على أن الأصل من أفعاله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عدم التأسي حتى يدل الدليل على التأسي ولولا ذلك لما احتيج إلى قوله: {وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ}. قال ابن عرفة: وأجيب بأن القرب مظنة الاستقبال بخلاف البعد. قال الزمخشري: وقيل كان التحويل إلى القبلة في رجب بعد الزوال قبل قتال بدر بشهرين ورسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بمسجد بني سلمة وقد صلى في أصحابه ركعتين من الظهر فتحوّل في الصلاة واستقبل الميزاب وحوّل الرجال مكان النساء والنّساء مكان الرجال. قال ابن عرفة: فيه دليل على أن المعتبر في النسخ يوم البلاغ لا يوم النزول. قال القرطبي: وفيه دليل على (جواز نسخ) المتواتر بالآحاد. قيل لابن عرفة: هذا إن قلنا: إنّ الأصل مشروعية القبلة (كانت) بالقرآن وقد قيل: إن أصل مشروعيتها بالسنّة؟ فقال: على كلا الأمرين (فكلّه) وحي في زمن النّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فهو متواتر. وكذلك نسخها هو بخبر واحد اختلفت قرينته في حياته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مع العلم بقوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «من كذب عليّ (متعمدا) فليتبوأ مقعده من النار» فيكون محصلا للعلم كخبر التواتر سواء. قوله تعالى: {وَلَئِنْ أَتَيْتَ الذين أُوتُواْ الكتاب بِكُلِّ آيَةٍ ... }. قال ابن عرفة: في هذا تهدئة (روعته) صلّى الله عليه وسلم وتطمين له حتى لا يتهالك على عدم إيمانهم وهو عام في جميع المعجزات. قيل لابن عرفة: إن الإمام ابن العربي قال: لا يناول الآيات النظرية وأما الآيات (الملجئة) الاضطرارية فلا، لأنّ الإيمان عندها ضروري؟ فقال: بل يتناول الجميع لأنّا نقول: إنّ ربط الدليل بالمدلول عادي لا عقلي، أو نقول: إن في الجائز: إن يستدل المستدل بالدليل الصحيح ويعمي الله بصيرته عن العثور على الوجه الذي يدل الدليل منه، أو نقول: إن الإيمان الاضطراري ليس إيمانا بوجه ولا يترتب عليه ثواب لأنه ليس للمكلف فيه اختيار.

وفي الآية دليل على أنّ ارتباط الدليل بالمدلول عادي لا عقلي. وفيها رد على المعتزلة القائلين بمراعاة الصلاح والأصلح وأنّ الآيات التي يمكن الإيمان عندها قد أتى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بجميعها وليست القدرة / صالحة لغيرها فقوله: {وَلَئِنْ أَتَيْتَ الذين أُوتُواْ الكتاب بِكُلِّ آيَةٍ} (دليل على أنه لم يأتهم بكل آية) وأن القدرة صالحة للإتيان بآيات أخر. قوله تعالى: {مَّا تَبِعُواْ قِبْلَتَكَ ... }. قال ابن عطية: أي جواب (إن) كجواب (لو) وهي ضدها، لأن (لَوْ) تطلب المضي (والوقوع) و «إِنْ» تطلب المستقبل، والجواب إنما هو للقسم لأن أحد الحرفين يقع موقع الآخر هذا قول سيبويه. وتعقب هذا أبو حيان بأن أول كلامه يقتضي أن الجواب لِ « إن» مع أن قوله بالجواب للقسم (يقتضي) أن الجواب ليس لِ «إن». قال ابن عرفة: إنما ذلك سلب حكم، لا حكم بالسلب فلا تناقض فيه. قوله تعالى: {وَمَآ أَنتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ ... }. نفى الأول بالفعل وهذا بالاسم ولم يقل: وما أنت تتّبع قبلتهم، مع أن النفي بالفعل أعم لأنه مطلق، ونفي الأعم يستلزم نفي الأخص. قال ابن عرفة: الجواب أن الأول جاء على الأصل في أنهم مصممون على عدم اتباعه وأما نفيه هو بالاسم فلأن أفعاله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ثابتة لازمة فهو إذا اتبع أمرا ثبت عليه ولا ينتقل عنه فنُفي على حسب ما هو عليه. قيل لابن عرفة: فيكون هذا نفي أخص؟ فقال: لا. بل ورد النفي عليه على حسب ما وجد إذا لو (وجد) اتباعه أمرا لما وجد إلا على سبيل الثبوت واللزوم. قيل: أو يجاب بأنه قد كان تابعا قبلتهم ثم انتسخ ذلك. فقال: هذه الآية نزلت بعد النسخ و «ما» لنفي الحال، واتّباع قبلتهم (ماض). قوله تعالى: {وَمَا بَعْضُهُم بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ ... }. لأن اليهود يستقبلون بيت المقدس والنصارى يستقبلون الشمس من حيث تطلع. قوله تعالى: {وَلَئِنِ اتبعت ... }. راعى ابن عطية الأمر العادي فصرفه عن ظاهره وحمله على غير النّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. وراعى الزمخشري الأمر العقلي فأبقاه على ظاهره، وقال: وهو على حسب الفرض والتقدير من خطاب التهييج والإلهاب. قوله تعالى: {إِنَّكَ إِذَاً لَّمِنَ الظالمين}.

146

أي إنك لغريق في الظلم. قال ابن عرفة: ويحتمل أن يكون هذا من باب السلب والإيجاب مثل «الحائط لا يبصر» لأنّ النبي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ معصوم من اتّباع أهوائهم. قيل لابن عرفة: لا يصح التكليف بذلك لأنه من تكليف العاجز؟ فقال: الأشياء على ثلاثة أقسام: موجود، وقابل للوجود، ومستحيل. فالإبصار للحائط غير محال إذ في الجائز أن يخلق الله فيه الإبصار فيبصر، هذا (هو) مذهبنا، لأنا لا نشترط (البنية). وكذلك النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ معصوم من اتّباع (أهوائهم) لكنه (كلف) بذلك. وجعل ذاته قابلة للاتباع باعتبار اعتقاد الكفار فيها قبول ذلك وأنّها عندهم غير معصومة لا باعتبار ما في نفس الأمر. قال ابن عرفة: وفيه دليل على أنّ عقوبة العالم أشد من عقوبة الجاهل. قوله تعالى: {الذين آتَيْنَاهُمُ الكتاب يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَآءَهُمْ ... }. أي يميزونه بصفاته من حيث كونه رسولا. (كما يعرفون) أبناءهم (من حيث كونهم أبْنَاءهم، أو يكون من تشبيه المركب بالمفرد، أي يعلمونه بصفاته من حيث كونه رسولا كما يعرفون أبناءهم) بالإطلاق لا من حيث النسبة كما قال عبد الله بن سلام: إنه لا يتحقق أن ابنه المنسوب إليه ابنه حقيقة، ويتحقق رسالته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ علما يقينيا. قال ابن عطية: لم شبّه معرفتهم له بمعرفتهم أبناءهم ولم يشبهها بمعرفتهم أنفسهم؟ وأجاب بأن الإنسان يتقدم له زمن لا يعرف فيه حال نفسه وهو زمن الصغر بخلاف ولده فإنه يشاهده من صغره إلى كبره. قال ابن عرفة: ويحتمل عندي أن يجاب بأن ذلك التشبيه للمشاكلة لأن الكتاب منفصل عنهم فشبه بما هو منفصل عنهم وهو الولد بخلاف أنفسهم. قوله تعالى: {لَيَكْتُمُونَ الحق وَهُمْ يَعْلَمُونَ}. وباقيهم إما يقرون بالحقّ، أو يكتمون الحق وهم يجلهون. وهذا دليل على أن كفر الأولين عناد. قلت: تقدم لنا في الختمة الاخرى عن الشيخ الإمام ابن عرفة وهو أن آخر الآية مناقض لأولها لأن قوله {يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَآءَهُمْ} دليل على أن جميعهم يعلمونه. وقوله تعالى: {وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الحق ... }. دليل على أن بعضهم يجهلونه. فإن قلت: إنما مقتضاه أن باقيهم يعلمون الحق ويظهرونه؟ قلنا: لا يصح لوجهين:

147

الأول: أن الضمير المجرور في قوله {مِّنْهُم} عائد على {الذين آتَيْنَاهُمُ الكتاب} وقد قالوا: إن {الذين} بدل من {الظالمين}، فإذا كان كذلك بطل أن يكون بعضهم عالمين به ومظهرين له إذ لا يسمى فاعل ذلك ظالما. - الثاني: {إِنَّ فَرِيقاً} إنما يطلق على القليل من الجماعة ولا يقال للنصف (فريقا) (فيلزم) أن يكون أكثرهم مظهرين للحق، وذلك مخالف لسياق الآية لأنها إنما سيقت لذمهم. وأجاب ابن / عرفة عن الإشكال باحتمال كون فيهم مِن علِم وتحقق ولم تعرض له شبهة توجب له الريبة والشك في علمه فهؤلاء هم الّذين قيل فيهم {وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الحق وَهُمْ يَعْلَمُونَ}. ومنهم من علم وعرضت له شبهة توجب التردد في علمه فهؤلاء هم المسكوت عنهم. قوله تعالى: {فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الممترين ... }. يتناول أقسام التردد الثلاثة و (هي) الظنّ، والشك، والوهم، لأن المطلوب في الإيمان العلم اليقين ولا (يجزئ) فيه الظنّ بوجه. قيل لابن عرفة: لعلّ المراد الظن به فقط، ويدل على النهي عما سواه من باب أحرى؟ فقال: الظنّ (مطلق) يتناول ظن الباطل وظن الحق، ودلالة أخرى إنما هي في ظن الحق، أي فلا يعتقد الحق اعتقادا ظنيا فيقول القائل: لعل المراد فلا يعتقد الباطل ظنا فيبقى الشك والوهم غير منهي عنهما والصواب تناوله للجميع. قوله تعالى: {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا ... }. حمله الزمخشري على معنيين، أحدهما: ولكل فريق من أهل الأديان المختلفة قبلة هو موليها نفسه، أو يعود الضمير على الله، أى الله موليها إياه. - (الثاني): ولكل واحد منكم يا أمة محمد جهة يصلي إليها شمالية، أو جنوبية، أو شرقية أو (غربية). فالقبلة عندنا نحن في الجنوب وعند أهل العراق و (اليمن) في الشمال والمغرب. وضعف ابن عرفة الأول إذا أعيد الضمير في {هُوَ مُوَليِّهَا} على الله لأن الملل كلها قد انتسخت بشريعة سيدنا محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فلا يصدق أن لكل قوم (وجهة). قال ابن عرفة: وكان بعضهم يفسره بمعنى ثالث وهو أن (لكلّ) شخص منّا وجهة من وجوه الخير، والله أقامه فيها، فواحد مجاهد وآخر صائم وآخر عالم وآخر حاج وآخر كثير الصدقة. قوله تعالى: {فاستبقوا الخيرات ... }.

150

دليل على أن الأمر للفور لأن مدلول صيغة اِفعل وهو الفور من مسمّى الخيرات لأن المبادرة إلى فعل المأمور به (من جملة) الخيرات فهو مأمور به. وإنما قال: {اسْتَبِقُوا} ولم يقل: اسْبَقُوا، ليتناول السابق والمسبوق فالمسبوق حينئذ يصدق عليه أنه استبق ولكنه لم يسبق، ولو قال: اسبقوا لما تناول إلا السّابق. والخيرات (تعم) الواجبات والمندوبات، وتعم من سبق بخير أو سبق غيره لخير (آخر) وإن لم (يستبقا) لشيء واحد. قوله تعالى: {يَأْتِ بِكُمُ الله جَمِيعاً .. } حمله الزمخشرى على معنيين: إما يأت بكم (للجزاء) أو للحشر والنشر، وإمّا أَيْنَ مَا تَكُونُوا من الجهات يجعلكم تصلون إلى جهة واحدة (كأنكم) تصلون (حاضري) المسجد الحرام. قال ابن عرفة: وقوله إنّ اللهَ عَلَى كُلّ شَيءٍ قَدِيرٌ يرجح المعنى الأول. قوله تعالى: {لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الذين ظَلَمُواْ مِنْهُمْ ... }. الاستثناء منفصل، والمعنى: لكنّ الّذين ظلموا فما يكون لهم عليكم حجة، أو متصل، والمعنى (لتنفى) حجة النّاس عليكم إلا الّذين ظلموا فما تنفى حجّتُهم عليكم لما هم عليه من الظلم ولذلك (يقال): فما أضيع البرهان عند المقلد. قلت: وهذا شطر بيت لابن سهل من قصيدة شهيرة. أقلد وجدي فليبرهن مفندي ... فما أضيع البرهان عند المقلد هبوا نصحكم شمسا فما عين أرمد ... بأوضح في مرآه من عين مكمد قال أبو حيان: والحجة على هذا الاحتجاج والخصومة وعلى الأول الدليل الصحيح (والمراد بالناس اليهود). قال ابن عرفة: فإن قلت على الإتصال يلزم أن يكون الذين ظلمو عليهم الحجة؟ وأجاب ابن عرفة في الختمة الأخرى بوجهين: الأول: أنه من باب أحرى لأنه إذا لم يكن الحجة للمنصفين العارفين فأحرى أن لايكون للآخرين فإن هؤلاء فهموا وعاندوا (وأنصفوا) في الدليل وأولئك لم (ينصفوا). الثاني: أنّ ابن مالك في هذه الآية جعل إلا بمعنى الواو. قال ابو حيان: فعلى الاتصال التقدير: لئلا يكون لأحد من اليهود حجة عليكم إلا المعاندين منهم القائلين: ما ترك قبلتنا وتوجه (للكعبة) إلا ميلا منه لدين قومه وحبا لبلده.

151

قال ابن عرفة: وعلى الانفصال فالمراد إلاّ الظالمين من المشركين كذا قال في الختمة الأخرى. قال ابو حيان: وعلى الانفصال تقديره: الذين ظلموا منهم فإنهم يتعلقون عليكم بالشبهة. قوله تعالى: {فَلاَ تَخْشَوْهُمْ واخشوني ... }. قال ابن عرفة: كيف ينهى المكلف عن فعل أمر هو فيه بالطبع لأن الخوف من العدو أمر جبلي لا يستطيع الإنسان زواله؟ وأجاب عن ذلك بأن أوائل ذلك حاصل بالطبع والدوام عليه هو المنهي (عنه). قوله تعالى: {وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}. إن قلت: هذا تكرار لأن الهداية من جملة (النعم)؟ قلنا: المراد النعم الآتية من عند الله تعالى لا تسبب فيها للمكلف بخلاف الهداية والضلال فإن له (فيها كسبا وأرادة). / قوله تعالى: {كَمَآ أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً .. }. قال ابن عطية: الكاف إما متعلقة بقوله {لأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ} أو ب {لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} أو ب {اذكروني} قال ابن عرفة: على الأول فهي للتشبيه فقط، وعلى الأخير للتعليل فقط. وعلى الثاني يحتمل الأمرين، أي يهتدون لما أرسلنا أى لأجل إرسالنا. قلت: وعلى التعلق ب {اذكروني} حملها أبو حيان على الوجهين فانظره. قوله تعالى: {مِّنكُمْ يَتْلُواْ عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا .. }. دليل على أن الخاصية التي اختصّ الرسل بها حكمية وليست خلقية بوجه، وفيه التنبيه على حكمة إرساله منهم وهو تبرئته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عن أن يكون ساحرا أو مجنونا، فيقال إليهم: لم نرسل إليكم أحدا تجهلونه بل أرسلنا واحدا منكم نشأ بين أظهركم وعرفتم براءته من كل (آفة تنسب) إليه. قوله تعالى: {وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الكتاب والحكمة}. (قال بعضهم): حيث يقدم التزكية يكون معظم المخاطبين عواما مقلدين ليسوا أهلا (لتعلم) الحكمة والكتاب فتكون التزكية أهم، وحيث يقدم التعليم

152

يكون المخاطبون خواص فيكون الأهم التعليم مع أن كِلاَ الأمرين مطلوب. والكتاب هو الكلام المعجز، والحكمة القول غير المعجزة. قوله تعالى: {وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ}. قيل: إن هذا تكرار، ففصل في أولها ثم (أجمل) ب {ما لم تكونوا تعلمون} شمل الكتاب والحكمة. ومنهم من قال: إنّ العلم قسمان: علم يكون (الإنسان) بحيث لو (شحذ) (قريحته) وفكر فيه لأدركه من تلقاء نفسه بعقله (وفطرته)، وعلم لايمكن للإنسان التوصل إليه من ذاته ولا يقبل أن يتعلمه وحده بعقله بوجه. وهذا هو المراد بقوله {وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ} أي ما لم تكونوا قابلين لمعرفته بعقولكم. قوله تعالى: {فاذكرونيا أَذْكُرْكُمْ ... }. (لما بين شريطة الذكر وهو التعلم أمرهم بالذكر). قوله تعالى: {واشكروا لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ}. قيل لابن عرفة: إنه دليل على أن الأمر بالشيء ليس نهيا عن ضده إذ لو كان نهيا عن الضد لما كان لقوله {وَلاَ تَكْفُرُونِ} فائدة؟ فقال: الأمر بالشكر مطلق (فيصدق) بشكره يوما واحدا ثم يكفر دائما، فلما قال {وَلاَ تَكْفُرُونِ} أفاد النهي عن الكفر دائما. قيل: هل بين الشكر والكفر واسطة؟ فقال: أما في غير هذا فنعم، لأن بينهما حالة الغفلة (والذهول) وأما هنا فلا، لأن الأمر بالشكر وترك الكفر إنما أتى عقب الأمر بالذكر. قال: والكفر هنا (هو) كفر النعمة. قوله تعالى: {يَآأَيُّهَا الذين آمَنُواْ استعينوا بالصبر والصلاة إِنَّ الله مَعَ الصابرين}. (استعينوا) بالصبّر على المشاق كلّها ومنها الصلاة {إِنَّ الله مَعَ الصابرين} أي مع المصلين، ولما كان الصبر مستلزما (لتحصيل) جميع العبادات ومنها الصلاة استغنى به عنها. قوله تعالى: {وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ الله أموات ... }. ان قلت: هلا قيل: لمن قتل في سبيل الله بلفظ الماضي؟ قال أجيب عنه بوجهين: - الأول: أن ابن عطية قال: سبب نزولها أن الناس قالوا فيمن قتلوا ببدر وأحد مات فلان وفلان فكره الله تعالى أن يحط منزلة الشهداء إلى منزلة غيرهم فنزلت الآية. وغزوة بدر

155

وأحد هما أعظم الغزوات وما بعدهما من الغزوات دونهما بلا شك فلو كان الفعل ماضيا لتوهم خصوصية هذه الفضيلة بمن قتل في الغزوتين فقط فأتى به مضارعا ليدل على عمومها فيمن بعدهم وفيهم من باب أحرى. - الثاني: لو قال: «قتل» لكان فيه إيحاش ووصم عليهم لأنهم كانوا (متأسفين) على من قتل منهم فيتذكرونهم بهذا ويزداد حزنهم عليهم، ولا يقال: قتل فلان غالبا إلا فيمن يفتجع عليه أو يفرح لموته فيقال: لِمَنْ يُقْتَلُ، ليعم على من يأتي ومن مضى ويسلم من هذا الإيحاش. قوله تعالى: {بَلْ أَحْيَاءٌ ... }. هذا إما إخبار أو حكم من الله تعالى عليهم بالحياة. والمراد بل قولوا: هم أحياء والأول أظهر (لقوله: {ولكن لاَّ تَشْعُرُونَ}). قوله تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الخوف والجوع}. هذا ترق لأن الجوع أشد من الخوف. فإن قلت: إنه أيضا أشد من النقص من الأموال. قلت: الجواب أن النقص من الأموال أكثر وجودا فى النّاس من الجوع فهو أشد مفسدة والنقص من الأنفس بالمرض أو بالموت أشد من الجميع. قوله تعالى: {قَالُواْ إِنَّا للَّهِ وَإِنَّآ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ}. لأنه إذا علم العبد أنه وجميع أهله وماله ملك لله طابت نفسه وهانت عليه مصيبته (كما) قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ للمرأة التى عزاها فى ولدها «إن لله ما أخذ وله ما أبقى وأعطى ولكل أجل مسمى وكل إليه راجعون فاحتسبي واصبري فإنما الصبر عند أول الصدمة». ومن شرط اللفظ العمل بمقتضاه وهو أنه يصبر ويحتسب، فإن قاله قولا فقط فلا فائدة فيه، وإن صبر ولم يقله فقد قاله بلسان الحال ويحصل له (الأجر)، وإن فعل الأمرين أخلفه الله الخير في الدنيا وأعظم له الأجر في الآخرة. (والصلاة) المراد بها الرحمة، وجمعها (لإرادة) التكرار عليهم (رحمة بعد رحمة) أي عليهم رحمات كثيرة متعددة ورحمة أخرى أعظم من الجميع فلذلك أفردها بالذكر وعطفها عليها وليس فيه تكرار بوجه. قوله تعالى: {إِنَّ الصفا والمروة مِن شَعَآئِرِ الله ... }.

قال ابن عطية: الصفا والمروة جبلان بمكة. قال الجوهري: في الصحاح موضعان بمكة. والصفاء بالمدّ ضد (الكدرة) والتغيّر. ابن عطية: والصفا جمع صفاة. ابن عرفة: وجعله أبو حيان اسم جنس وهو الصواب. ابن عطية: وقيل إنه مفرد وجمعه صفى وأصفاء، وهي الصخرة العظيمة. قال الراجز: (كأن منبته من النفي مواقع الطير على الصفا) وقيل: من شرط الصفا البياض والصلابة وشرط الجوهري فيه الملوسة ولم يشترط الصلابة. ابن عطية: والمروة واحدة المرو، وهي الحجارة الصغار التي فيها لين ومنه قولهم (ذكيتها بمروْة). ابن عرفة: الصواب العكس لأن التذكية إنما تأتي بالصلب لا باللين. ابن عطية: ومنه قول (الأمين أخرجني) فإن قتلني بمروة قتلته بمروة. ابن عرفة: الأمين والمأمون ولدا هارون الرشيد وكان الأمين أراد أن (يغدر) أخاه المأمون فقال هذه المقالة. الجوهري: الصفا والمروة علمان للجبلين كالصمان والمقطم. الجوهري: الصّمان جبل قرب (الرملة) بالشام والمقطم جبل بمصر. أبو حيان: فالألف واللاّم فيهما زائدة كزيادتهما في الاسم العلم، وقيل للغلبة كالنجم والثريا. ابن عرفة: فرق بينهما بأنّ التي للغلبة يمتنع اسقاطها فلا تقول: صفا ومروة، وتريد هذين الموضعين والزائدة يصح أسقاطها. ابن عطية: والشعائر جمع شعيرة وهي العلامة أي من أعلام (مناسكه) ومتعبداته، أى من معالمه ومواضع عبادته. ابن عرفة: أي عباداته الخاصة المؤقتة وإلا فكلّ مسجد من (مواضع) عباداته، فالمراد من معالمه التى وقّتها الشارع لهذه العبادة الخاصة. ابن عرفة: وعلى هذا لا يحتاج إلى ما قال أبو حيان إن الآية على حذف مضاف (لأن). المعنى: أن الصفا والمروة بعض (مواضع) عبادة الله إلاّ على تأويل، ذكره مختصرا. ابن الخطيب: المراد من عبادة الله فيحتاج أن يقال إن طواف الصفا والمروة. واحتج بعض الأصوليين بالآية مع حديث «إبدؤوا بما بدأ الله به» على أنّ الواو تفيد الترتيب. وقال الآخرون: لو كانت تفيد الترتيب لما سالوه وهم

159

عرب فصحاء، والصواب أنّها لا تقتضيه ولا (تنافيه) لكن يحتج بها على ترجيح تقديم ما قدمه الشارع في لفظه. وقرىء «أَنْ لاَ يَطُوف بِهِمَا». أبو حيان: لا فرق بين ذكر «لا» وإسقاطها والمعنى واحد. ابن عرفة: بل مختلف كقولك: لاجناح عليك أن تصلي العصر عند الغروب ولا جناح عليك أن لا تصليها عند الغروب. ابن عطية: وليس المقصد إباحة الطواف للحاج وإنما المقصد زوال ما وقع فى نفوسهم من كراهة الطواف بهما. واختلف في أصل ذلك كيف كان؟ فروي أن الجن كانت تطوف بهما فى الجاهلية (فتحرج) المسلمون (من الطواف) بينهما لذلك. وروي عن عائشة: أن الأنصار كانوا يهلون لمناة التي بالمشلل (حذو) (قُدَيْد) ويعظمونها فكانوا (لا يطوفون) حذو أساف ولا نائلة إجلالا لتلك. فلما جاء الإسلام (تحرجوا) فنزلت الآية. ابن عرفة: هذا لا يناسب ولا يليق بالمؤمنين أن يفعلوه. ابن عطية: وعن الشعبي أنهم كانوا يطوفون بهما معتقدين ذلك (السعي) إجلالا لأساف ونائلة وهما صنمان فتحرج المسلمون من ذلك فنزلت الآية. ابن عرفة: هذا صواب. قوله تعالى: {إِنَّ الذين يَكْتُمُونَ مَآ أَنزَلْنَا ... } قال ابن عرفة: من الناس من ينظر وجه المناسبة بين الآية وما قبلها كابن الخطيب، ومنهم من لا يلتزمه في كل آية كالزمخشري وابن عطية، ومنهم من يمنع النظر في ذلك ويحرمه لئلا يعتقد أنّ المناسبة من إعجاز القرآن فإذا لم تظهر المناسبة فقد يدرك الناظر وهن في دينه وخلل في معتقده. ابن عرفة: ووجه المناسبة هنا أنه لما تقدم الإخبار بحكم شرعي عقبه ببيان عقوبة العالم إذا كتم علمه. ابن عطية: والمراد ب {الذين} أحبار اليهود ورهبان النصارى الذين يكتمون أمر محمد ويتناول من علم علماً من دين الله محتاجا إلى بثه وكتمه. قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «من سئل عن علم فكتمه ألجمه الله بلجام من نار» وهذا إذا لم يخف ضررا في بثه.

160

قال ابن عرفة: ولا يحل للعالم أن يذكر للظالم تأويلا أو رخصة يتمادى منها إلى مفسدة كمن يذكر للظالم ما قال الغزالي في الإحياء من أن يبث المال إذا ضعف واضطر السلطان إلى ما يجهز به الجيش ويدفع (به) الضرر عن المسلمين فلا بأس أن يوظّف على الناس العشر أو غيره لإقامة الجيش وسد الخلة. قال ابن عرفة: وذكر هذا مما يحدث ضررا (فادحا) في الإسلام. قال ابن عرفة: والبينات إما الأدلة، والهدى نتائجها، أو العكس. ويحتمل أن يكون البينات هو الأدلة الشرعية السمعية والهدى الدليل العقلي أو العكس. قال ابن عرفة: وقع هذا الوعيد في هذه الآية مشوبا بالرجاء لقوله: {تَكْتُمُونَ} بلفظ المستقبل ولم يقل كتموا بالماضي (تنبيها على أن ما وقع منهم قبل ذلك معفو عنه لا يتناوله هذا الوعيد). ثم أكد هذا الرجاء برجاء آخر وهو أن الكتم الصادر منهم في المستقبل إنما يعاقبون عليه مع الإصرار عليه والمداومة لقوله: {إِلاَّ الذين تَابُواْ}. قال ابن عرفة: وكرر لفظ {يَلعَنُهُمُ} لوجهين: إما تشريفا لله بذكره وحده إشعارا بالتفاوت الذي بينه وبين (اللاّعنين)، وإما تنبيها على أن لعنة الله تعالى أشد من لعنة (اللاّعنين) فهو إما للتفاوت بين اللّعنين، وهذا كما قال ابن التلمساني في المسألة الثامنة من الباب الأول في حديث الخطيب القائل: «من يطع الله ورسوله فقد رشد ومن يعصهما فقد غوى». وتقدم جواب القرافي وعز الدين بن عبد السلام فيه. قال ابن عرفة: وفي الآية عندهم حجة (للعمل) بالإجماع السّكوتي لأن المجتهد إذا بلغه مذهب غيره في المسألة النازلة فإمّا أن يظهر له موافقته أو مخالفته فإن وافقه فهو المطلوب، وإن ظهر له مخالفته وسكت بطل العمل بقوله لأنه عاص (في كتمه) العلم. فإن قلت: تبقى منهم ثالث وهو أن لايظهر (له) في الحال موافقة ولا مخافة. قلنا: لا يكون إذ ذاك مجتهدا. وقال القرطبي: فيها حجة (لوجوب) العمل بخبر الواحد قال: لأنه لا يجب عليه (البيان) إلا بعد قبول قوله وقال: {إِلاَّ الذين تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَبَيَّنُواْ} فحكم بوقوع البيان بخبرهم ورده ابن عرفة بأن أول احتجاحه على العمل والكلام في كتم العلم وفرق بين العمل بخبر الواحد وبين العلم به. قوله تعالى: {إِلاَّ الذين تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَبَيَّنُواْ فَأُوْلَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ}.

161

ابن عرفة: في الآية اللّف والنشر، فالتوبة والإصلاح راجعان لقوله: {أولئك يَلْعَنُهُمُ الله} لأنه يعلم السر وأخفى، وقوله: {وَبَيَّنُواْ} راجع لقوله: {يَلْعَنُهُمُ اللاعنون} لأن الملائكة وغيرهم لا يعلمون توبتهم إلا إذا بيّنوا وظهر على حالهم ذلك. قال: ومن كان متصفا بالفسق ويظهر للبعض الصلاح، ثم تاب، فلا تقبل توبته إلا إذا زاد صلاحه. وأما إن دام على صلاحه الأول فقط، فلا يقبل منه ذلك لأن صلاحه الأول لم يمنعه من الفسق. وقوله {وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} إشارة إلى عموم توبته عليهم وعلى غيرهم، وتنبيه على أنه لا يجب عليه شيء وَأَنّ قبول التوبة رحمة وتفضل، (لا أنه) واجب. قوله تعالى: {إِن الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُواْ ... }. منهم من قال: إنها مؤكدة لما قبلها لقوله {إِلاَّ الذين تَابُوا} فبقيت الآية عامة فيمن كفر ولم يتب يكون داخلا تحت الوعيد وهو مقتضى هذه الآية، ومنهم من قال: أنها مؤسسة. وقرره بوجهين: - الأول: أنّ اللّعنة في الأولى مطلقة تحتمل الدّوام والانقطاع وهنا مقيدة بالخلود والدوام. - الثاني: أن العموم غير المخصوص بشيء أقوى دلالة من عموم خص بشيء، فلذلك أعيدت هذه الآية. ونحو هذا (لابن رشد) في النكاح الثالث. قال ابن عرفة: فإن قلت: هلا قيل: ماتوا كفارا. فهو أخص من قوله: {وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ}؟ قال: وعادتهم يجيبون بوجهين: - الأول: أن هذا فيه فائدة البناء على المضمر، وقد ذكروا أنه يفيد إما الاختصاص أو مطلق الرّبط، قاله الزمخشري في {وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النار} - الثاني: أن الحال قيد في الجملة، فهو من قسم التصور وقوله: {وَهُمْ كُفَّار} جملة من مسند ومسند إليه، فيرجع إلى قسم التصديقات، والتعبير بما هو من قسم التصديق أولى مما هو من قسم التصور لأنه يستلزم التصور (فيدل) على الأمرين.

162

قيل لابن عرفة: أو يجاب بأنه لو قيل «وماتوا كفارا» لكانت حالا، والحال من شرطها الانتقال مع أن المراد: من ثبت ودام على كفره فقال: وكذلك «وهم كفار» والواو فيه واو الحال. (قيل لابن عرفة، كيف عبر بهذا اللّفظ المقتضي للخصوص مع أن من مات كافرا بالإطلاق يناله هذا الوعيد)؟ فقال: هذا وعيد خاص رتب على فعل خاص/انتهى. قوله تعالى: {أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ الله والملائكة ... }. قال ابن عرفة: إن قلت: لم أعيد لفظ الفعل في الآية المتقدمة فقيل: {يَلعَنُهُمُ الله وَيَلْعَنُهُمُ اللاعنون} ولم يعد هنا، فكرر هناك ما أسند إليه الاسم المعطوف عليه ولم يكرر هنا، فهلا قيل: أولئك عليهم لعنة الله ولعنة الملائكة ولعنة الناس أجمعين فهو أولى؟ قال: عادتهم يجيبون بأن الإسناد الأول للفاعل، وهو واحد بذاته لايتعدد، لأنه لا فاعل في الحقيقة إلا الله، والإسناد الثاني إضافي فهو أمر نسبي، والأمور النسبية الإضافية يمكن فيها التعدد كالوجود بالنسبة إلى القديم والحادث، فلذلك لم يفد لفظ اللعنة هنا. قوله تعالى: {والناس أَجْمَعِينَ}. قال ابن عرفة: {أَجْمَعِينَ} إما تأكيد أو حال فإن كان حالا فالمراد لعنة الجميع مجتمعين، ويبقى النظر: هل ذلك يوم القيامة أو لا.؟ فإن كان في (الآخرة) فيكون خالدين فيها حالا (محصلة أو أعيد الضمير على النار. وإن كان في الدنيا فيكون «خالدين فيها» حالا) مقدرة. وإن كانت تأكيدا فالمراد لعنة جميعهم بالإطلاق. ابن عطية: قال قتادة: المراد بالناس المؤمنون خاصة وقال ابو العالية: ذلك في الآخرة أي يلعن الكفرة أنفسهم يوم القيامة. وقيل معناه يقولون في الدنيا: لعن الله الكافرين، فيلعنون أنفسهم من حيث لا يشعرون. قال ابن عرفة: ويخرج عن هذا من كفر عنادا فإنه لا يلعن الكافرين. قوله تعالى: {لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ العذاب وَلاَ هُمْ يُنْظَرُونَ}. (قيل) لابن عرفة: كيف يفهم ما ورد في أبي طالب أنه أَخَفُّ أَخَفِّ أهل النار عذابا، وأنه تنفعه شفاعة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فصار عذابه بجمرتين في أخمص قدميه يغلي منهما دماغه. وما ورد في أبي لهب من أنه يخفف عنه العذاب يوم الاثنين لكونه أعتق فيه الجارية التي بشرته بولادته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؟ قال: (العذاب) الذي

163

استحقه كل واحد منهما ونزل به لا يخفف عنه منه بل يخفف عنه بمعنى أنه يعذب عذاب غيره فالتخفيف من عذاب غيره لا من عذابه هو النازل به. قوله تعالى: {وإلهكم إله وَاحِدٌ لاَّ إله إِلاَّ هُوَ الرحمن الرحيم}. قال ابن عرفة: الإلاه في اصطلاح المتقدمين من الأصوليين هو الغني بذاته المفتقر غيره إليه، وعند الأصوليين (المتأخرين) واللغويين هو المعبود تقربا، وبه يفهم قوله عَزَّ وَجَلَّ {وَقَالَ فِرْعَوْنُ ياأيها الملأ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرِي} وقول إبراهيم لأبيه آزر {أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً آلِهَةً} وقول الله عَزَّ وَجَلَّ {ءأالهتنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ} قال ابن عطية: ومعناه نفي (المثل) والنظير. وقال أبو العالية: (نفى) التبعيض (والأنقسام). قال ابن عرفة: فعلى الأول نفي الكمّية المنفصلة وعلى الثاني نفي الكمية المتصلة، ويحتمل الأمرين إن قلنا إن الوحدة ينطلق عليها بالتواطُؤ، وإن كان إطلاقها عليها بالاشتراك فما يتم إلا على القول بتعميم المشترك، وقوله: نفي للتبعيض والانقسام صوابه أن يقول: نفي لقابلية (الانقسام) بمعنى واحد، أي (غير) معروض للانقسام فيخرج الجوهر الفرد لأنه لا ينقسم، لكنه في حيز والحيز منقسم. فإذا قلنا غير معروض للانقسام انتفى الجوهر الذي في الحيز. قوله تعالى: {لاَّ إله إِلاَّ هُوَ ... }. (قال ابو حيان: «إِلاّ هو» بدل من اسم «لاَ». ورده المختصر وأنه لا يجوز أن يقال: لا ألَهَ إلا هو. ابن عرفة: لرده وجه آخر ذكره النحوين وهو أن يكون بدلا من مجموع «لا» واسمها، ومعناه الموجود الذي نفيت الألوهية عن غيره، وأثبت له هو الله. قلت: قال الاستاذ أبو العباس أحمد بن القصار. هذا ذكره النحويون وعادتي استشكله لأنه يلزم عليه بدل المثبت من المنفي، وكذلك قال سيبويه: لا رجلَ في الدار وامرأةً، بالنصب إنه معطوف على مجموع لا واسمها وكنت أنا أستشكله بأنّ «امرأة» مثبت فكيف يعطف المثبت على المنفي؟ وكان الأستاذ الفقيه أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن قيس يجيبني عنه بأنه معطوف على اسم «لا» فقط، لكنهم لما ركبوا «لا» مع اسمها وصار كجزء واحد، فالعطف عليه كالعطف على خبر الكلمة، كرهوا التصريح بالعطف عليه

فقالوا: إنه معطوف على المجموع ومرادهم أنه معطوف على اسم لا فقط فكذلك يجيء هاهنا. قال أبو حيان: وقال صاحب المنتخب: المعنى لاَ إلاهَ لنا ولاَ إِلَهَ موجود، ورده المختصر بأنه يلزمه المفهوم في لاَ إِلاَهَ لنا وقوله لاَ إِلاهَ موجود باطل على مذهب المعتزلة. وأجاب ابن عرفة: أن الوجود على أربعة أقسام، فمنها وجود في الإيمان ووجود في الأذهان، فإن أراد الوجود في الإيمان فما قاله صحيح لأن أهل السّنة يمنعونه والمعتزلة يجيزونه، فيقولون: إن للمعدوم تقررا في العدم، وإن أراد الوجود في الأذهان فممنوع لأن اجتماع النقيضين باعتبار التصور الذهني فيه خلاف، فإن قلنا بامتناعه فكلام المجيب حق، وإن قلنا بصحته فكلام السائل صحيح. قلت: وقال الأستاذ ابن القصار: المعتزلة إنما قالوا: إنّ المعدوم ثابت في العدم ولم يقولوا أصلا: إنه موجود في العدم. فالموجود لا يثبت إلا في الوجود. قال ابو حيان عن الزمخشري في المفصل: لا يجوز أن تكون «إلاّ هو» خبراً عن «لا إلاه» لأنه بيان له فيمتنع الإخبار عنه به قال: وفيه بَحث. قال ابن عرفة: يظهر لي أنّ البحث الذي فيه هو أنّ الحكم قسمان: تقييدي، وإسنادي. فالبيان بالحكم التقييدي لا يصح والبيان بالإسنادي صحيح، نقول: زيد العاقل الكريم الشجاع، فإن كانت نعوتا امتنع البيان بها وإن كانت خبرا صح البيان بها. قلت: وقال ابن القصار: البحث الذي فيه هو أنّ الإسناد قيد في المبتدإ، فلا يصح أن يكون خبرا عنه لكنه نائب مناب الخبر، لأن التقدير: لا إلاه كائن في الوجود إلا هو، فهو استثناء من الضمير المستكن في كائن أو في الوجود، فلما حذف ذلك الخبر ناب هذا الاستثناء منابه، فهو نائب مناب الخبر، وقيد فيه، قال وهذا راجح في المعنى. قيل لابن عرفة: ثم قال أبو حيان بعد كلام طويل ذكره قال: فرق ابن الحاجب بين الرفع والنصب في قوله: ما قام القوم إلا زيد برفع زيد ونصبه؟ ابن عرفة: لا فرق بينهما في هذا والحال فيها واحد. قال ابن عرفة: وقد أغفل أبو حيان الفرق بينهما فقد) قال النحويون: إنك إذا قلت: ما قام القوم إلا زيد بالرفع يكون نفيت القيام عن القوم وأثبته لزيد. وإن قلت: إلا زيدا بالنصب يكون نفيت القيام عن القوم ونفيت ذلك النفي عن زيد ونفي الإثبات في حقه محتمل مشكوك فيه على (خلاف) في ذلك عندهم، فإذا قال قائل: لا إلاه إلا الله بالنصب فيلزمه الكفر لأن المراد نفي الألوهية عما سوى الله

164

وإثباتها له. وهذا المعنى لايحصل إلا مع الرفع، وأمّا النّصب فما فيه إلا نفيها عما سوى الله ونفي ذلك (النفي) عن الله وأما الثبوت فلا. قيل لابن عرفة: إذا انتفت الألوهية عما سوى الله ثبتت له بالضرورة؟ فقال: يبقى القول (بالتعّطيل) فقال الله تعالى {وَقَالُواْ مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدنيا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَآ إِلاَّ الدهر} قلنا: قال ابن عصفور في شرح الإيضاح: إن مذهب سيبويه وجمهور البصريين أنك إذا قلت: «قام القوم إلا زيد» تكون أخرجت زيدا من القوم ومن وصفهم. ومذهب (الفراء) أنك أخرجت وصفه من وصفهم (ولم) تخرجه من (صفهم). ومذهب الكسائي أنك أخرجته هو منهم ولم تخرج وصفه من وصفهم فمعناه أنه لم يقم معهم أعمّ من أن يكون قام وحده أو لم يقم فالاستثناء عنده بالنصب محتمل وهذا البحث هنا إنّما هو على المشهور. قوله تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السماوات والأرض ... }. قال ابن عرفة: تقدمها آية النبوة والرسالة في قوله تعالى {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ} وآية الوحدانية في قوله تعالى {وإلهكم إله وَاحِدٌ} فيحتمل أن يكون دليلا لهذه أو هذه. قال ابن عطية: / عن عطاء: قال لما نزلت الآية المقدسة بالمدينة، قال كفار قريش بمكة: ما الدّليل على هذا وما آيته وما علامته؟ فطلبوا دلالة الوحدانية فنزلت هذه الآية. وقال سعيد بن (المسيب) رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: قالوا إن كان ما تقول حقا فأت بآية تدل على صدقك حتى قالوا: اجعل لنا الصفا ذهبا فقيل لهم: ذلك (لكم)، ولكن إن كفروا عُذبوا فأشفق رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من ذلك وقال: «دَعْنِي أدْعُهُمْ يَوْما فَيَوْما». قال ابن عرفة: ظاهره أنه رق لحالهم. ويحتمل أن يكون ذلك لما في سورة الأنعام {وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَآ إِلَيْهِمُ الملائكة وَكَلَّمَهُمُ الموتى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً مَّاكَانُواْ ليؤمنوا إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله} فكأنه قال: ولو حصل لهم الصّفا ذهبا فإنهم لن يؤمنوا. قال ابن عرفة: قد تقرر الخلاف في الخلق هل هو نفس (المخلوق) وهو مذهب أهل السنة. وإن من يقول: إنه غير نفس المخلوق يلزمه التسلسل وهو مذهب المعتزلة لأن ذلك الخلق يحتاج إلى خلق آخر لأنه يقال بماذا وجد؟ فيقول: بخلق آخر.

وهل هو نفس المخلوق (أم) لا ويتسلسل. وأجابوا بأنه أمر نسبي فهو غيره ولكنه أمر نسبي ليس فيه تسلسل. قيل لابن عرفة: والأمور النسبية عدمية والعدمية لا يصح الاحتجاج بها فكيف يستقيم الاستدلال بها في الآية؟ فقال: الاستدلال بها من حيث إضافتها إلى أمر موجود وهو المخلوق. قيل لابن عرفة: إن الفخر ابن الخطيب احتج بها على أن الخلق غير المخلوق. قال: لأنه لا يقع الاعتبار إلا بالنظر إلى المخلوقات بعد وجودها لا بخلقها لأنه غير مرئي. فقال: الاعتبار بها من حيث إيجادها (من) عدم وهو خلقها، أي معنى خلقها. قال: والناس قسمان: عالم وجاهل، فالجاهل يعتبر بنفس خلقها على الجملة والعالم ينظر فيجد المعمور من الأرض أقل من الخالي بالنسبة إلى سائر الأرضين أقل، والأرضون بالنسبة إلى سماء الدنيا وما فوقها أقل، والسماء الدنيا وما فوقها بالنسبة إلى الشمس أقل، لأنها في السماء الرابعة، والشمس بالنسبة إلى السماء الّتي فوقها أقل منها. قال ابن عرفة: وإنما جمعت السماوات وأفردت الأرضون مع أنها سبع لأنّ عدد السماوات يدرك بالرصد، وطول الأعمار، والكسوفات، وأطوال البلاد وأعراضها، وجري الكواكب، والأرضون لا طريق لنا إلى إدراكها بوجه إلا من السمع، لأن المشاهد لنا منها إنما هي أرض واحدة فأفردت بالذكر، ولذلك اختلف فيها الإمام المازري وشيخه عبد الحميد الصائغ /انتهى/. وأجاب القرطبي عن هذا السؤال بأنّ السماوات مختلفة، فقد ورد في الحديث أن بعضها من فضة وبعضها من زبرجد، وبعضها من لؤلؤ إلى غير ذلك، فلذلك جمعت بخلاف الأرضين فإنها متماثلة كلها من شيء واحد. ورده ابن عرفة بوجهين: - الأول مذهب المتكلمين أنّ الجواهر كلها متساوية في الحد والحقيقة، وإنما تختلف في الأعراض فلا فرق بين جسم الذهب وجسم الفضة. - الثاني: أنّ النحويين أجازوا جمع المتماثلات، ألا تراهم يجمعون زيدا وزيدا مع تماثلهم في اللفظ والمعنى، فكذلك يجمعون الأرضون هنا؟ قال ابن عرفة: وإنما الجواب ما قلناه في قوله تعالى في: {إِنَّ فِي خَلْقِ السماوات والأرض}

الى قوله {يَعْقِلُونَ}: فإن قلت: هلا أريد بخلق السماوات والأرض أنفسها أو نفس إيجادها وإثباتها؟. قلت: مذهب أهل السّنة أن الخلق نفس المخلوق لا أنه أمر زائد عليه. وكان شيخنا الإمام أبو عمرو بن الحاجب يقول بحسب ذلك: خلق الله السماوات مصدر، كقولك: خلق الله خلقا، وينكر طلبة النحو ذلك لاستغرابهم كون الجوامد مصادر وما لهم تصور لحقائق علم الكلام، ولا لهم إحاطة بالضروريات الملجئة إلى مخالفة، فإن المتكلمين التجأوا إلى ذلك لعلمهم أنّ الخلق لو كان معنى زائدا لكان وجوديا، ولكان مخلوقا ولكان خلقه مفتقرا إلى خلق آخر. فلما قطعوا باستحالة ذلك قطعوا بأن القدرة تتعلق بذات العين، فتوجدها (أفعال) الله كما أن المعاني أفعال. فإن قلت: حاصل ذلك لا تغاير بين الخلق والمخلوق فلا مصدر إذاً، لأن (المصدر) في قولك: ضربت زيدا ضربا زائد على ذات زيد و (لا هناك) زائد، ولا يستقيم إذا كان الموت مصدرا. قلت: هو ما ذكرت. والمستقيم كون الموت مفعولا به وهي نفس الفعل وهو الذي أراد الشيخ ابن الحاجب ولكن لو أعدّها مفعولا به لجمع بين الاصطّلاح وبين المعقول. فإن قلت: لو قال قائل: خلق الله السماوات خلقا، فكيف يعرب خلقا؟ قلت: مصدرا، وهو نفس المفعول به في المعنى فاحفظ الصناعة والحقيقة معا، فالتغاير بين المصدر والمفعول به حقيقي في غير هذا الباب ولفظي هنا. فإن قلت: ما وجه (المعطوفات) في الآية على «خلق السماوات» وقد فسرت خلقها بمخلوقاتها وكلما ذكر من المخلوقات فيصير من/ عطف الشيء على نفسه؟ قلت: هو من عطف الجزء على الكل لثبوتهما بالجزء أو من عطف الأخبار في غيرها وإن كانت فيها. فإن قلت: ما وجه التقوية؟ (قلت) باعتبار مقصد الاستدلال لأن ذوات السماوات والأرض لا دلالة لها من حيث الأعراض القائمة بها وأنها لا أعراض بدلالة الأكوان إذ الطبيعي (محال) في إنكار الأكوان، وأبعد الأكوان الحركة والسكون، والحركة أبعد لمشاهدتها ضرورة ولأجله استفتح الشيخ الأشعري في البرهان لقوله: تحرك الجوهر وكان ساكنا. ولا دعوى (للطبيعي) إلا في كونها تستفتح للجمع بين النقيضين. وعلى هذه النكتة دارت هذه الأدلة (فاختلاف) اللّيل

والنهار (راجع إلى الحركات وذكر الفلك) باعتبار جرمها وتحركها حركات قوية ضرورية متوالية. قوله تعالى: {بِمَا يَنفَعُ الناس ... }. أي يحدث الله المنفعة به في نفوسهم (فيقطع) قول الطبيعي: «الحركة عدم» لأن المعدوم لا ينفع وإنما ينفع الله بالفلك بواسطة حركاتها ولا فرق بين عدم النفع والنفع بالعدم. ثم ذكر (الماء) بواسطة كونه (منزلا بحركة) من السماء والأرض ثم ذكر أنه بث الأحياء بواسطة تلك الحركة، وكيف يكون العدم واسطة في الإحياء ثم إحياء الأرض عبارة عن تحريك الحب الكائن فيها إلى الظهور، ثم ذكر بث الدواب وهي المتحركات بالوصيب ثم ذكر تصريف الرياح أي تحريكها من قطر إلى قطر (ثم ذكر السحاب المسخر أي المحرك من قطر إلى قطر وكله) استدلال على حدوث الجواهر وحدوث حركاتها التي لا (تنافي) وجودها بدليل إثارتها الحسية. فإن قلت: ليس له في كل شيء (دلالة) فما فائدة هذه الأدلة والأمثلة؟ قلت: الإيقاظ بعد الإيقاظ والإيقاع بعد الإيقاع والضرب على الضرب حتى لا يبقى للقبول علة في الاستدامة والغفلة، حتى تتحرك الدواعي حركات متتابعة متسارعة إلى ضرب (النّجاة). قوله تعالى {واختلاف الليل والنهار ... }. قال ابن عطية: أي تخالفهما ومعاقبة أحدهما للآخر أو يريد اختلاف أوصافهما فالليل تارة أطول والنهار تارة أطول. قال ابن عرفة: أو المراد اختلاف كل واحد منهما في نفسه فَلَيْلَةُ البارحة أقصر من ليلة اليوم ونهار اليوم أطول من نهار غد وأشار إليه الفخر. قوله تعالى {فَأَحْيَا بِهِ الأرض ... }. مجاز في الإفراد وهو لفظ إحيائها ولفظ موتها. قوله تعالى: {مِن كُلِّ دَآبَّةٍ ... }. «من» للتبعيض في الأصناف و «كُلّ» للعموم في الأنواع. قوله تعالى: {وَتَصْرِيفِ الرياح ... }. تصريفها هبوبها من (جهاتها) المختلفة أو دوران الرّيح إلى المغرب بعد هبوبه من المشرق. قوله تعالى: {لأَيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}. لم يقل: يعلمون، لأن هذا من باب الاستدلال (والاستدلال) مقدمة شرطها العقل وأما العلم نتيجة عن تلك المقدمات فلذلك لم يذكر هنا. قيل لابن عرفة: عادة المتكلّمين في كتبهم يذكرون (باب) حدوث العلم ويستدلّون (فيه) على وجود الصانع ويفردون بابا آخر للاستدلال على وحدانية الصانع (فيجعلونهما

165

بابين والآية اقتضت الاستدلال بحدوث العالم على وحدانية الصانع)؟ فأجاب ابن عرفة بوجهين: - الأول: قال: إن الآية خطاب لقريش وهم مقرون بأن المؤثر واحد والشركاء غير مؤثرين، فلا استدلال بالآية مع ضميمة اعتقاد أن المؤثر واحد استْدل به على أنه موجود. - الجواب الثاني: أنها دليل على أن هذه الأشياء لها فاعل ومؤثر، وقد دل الدليل العقلي على منع اجتماع مؤثرين على أثر واحد فصح بالآية وجود الصانع ووحدانيته. قوله تعالى: {وَمِنَ الناس مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ الله أَندَاداً}. ابن عطية: ذكر الله تعالى الوحدانية، ثم الآية الدالة على الصانع الذي لا يمكن أن يكون إلا واحدا، ثم ذكر هنا الجاحدين للصانع تعجبا من ضلالهم بعد هذه الآية. قال ابن عرفة: ويحتمل أن يكون ذكر هذه الآية توطينا وتسكينا للنّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لئلا يطمع فيى إيمانهم وتتعلق نفسه بذلك كما قال {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ على آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ بهذا الحديث أَسَفاً} فأخبره بعدم إيمان بعضهم حتى لا يناله حزن ولا غم بوجه. قال ابن عرفة: و «من» في قوله «من دون الله» لابتداء الغاية وانتهائها حتى يعمّ في جمع الدون وتفيد كثرة تلك الوجوه. قوله تعالى: {يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ الله ... }. إن قلت: (هم) إنما كانوا يعبدونهم والعبادة أخص من المحبة لأن الواحد منا يحب ولده وأباه وأمه ولا (يعبدهم) فهلا قيل: يعبدونهم؟ قلت: أجاب ابن عرفة بوجهين: - الأول: أنه ذمهم على الوصف الأعم وهو المحبة ليفيد الذم على الأخص وهو العبادة من باب أحرى. - الجواب الثاني: أنه عدل عن لفظ العبادة استعظاما له واستحقارا للأصنام أن تنسب إليهم العبادة. قيل لابن عرفة: إن هذه الآية تدل على أن ارتباط الدليل بالمدلول/ عادي لا عقلي، لأن هؤلاء (نظروا) فلم يؤمنوا؟ فقال ابن عرفة: (لعلهم لم ينظروا أو نظروا فلم يهتدوا) للعثور على الوجه الذي منه يدل الدليل. قال: وهما مسألتان في أصول الدين. مسألة تخالف العلم مع التّمكن

166

من مراد النظر الصحيح. ومسألة (تخالف) العلم مع حصول النظر الصحيح فالآية إنما تدل على الأول لا على الثاني. قوله تعالى: {إِذْ تَبَرَّأَ الذين اتبعوا ... }. قال ابن عرفة: لا ينبغي للانسان أن يشغل نفسه بشهواته وجمع المال فإنه عليه (وبال) كما ورد: «الكيّس من دان نفسه» وتبرؤهم منه قبل (رؤيتهم) العذاب أشد في الممانعة وعدم النصرة. قوله تعالى: {وَقَالَ الذين اتبعوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً ... }. قال ابن عرفة: (تمنوا) العودة في الدنيا، وأن يكونوا متبوعين ورؤساؤهم تابعين لهم فتبرؤوا منهم. قيل لابن عرفة: كيف يتمنون الرجوع إلى الكفر؟ فقال: إنما تمنوا التبرّي فقط وهو مستلزم للكفر. فقال: أو يريد إنهم تمنّوا الرجوع (للدنيا) وبقاء رؤسائهم كفارا فيتبرؤون هم من دينهم واتباعهم كما تبرؤوا هم من نصرتهم في الآخرة. قال ابن عرفة: ويحتمل أن تكون الكاف للتعليل. قوله تعالى {كَذَلِكَ يُرِيهِمُ الله أَعْمَالَهُمْ}. أي مثل ما نالهم من الحسرة يتبرى متبوعهم منهم (لئلا) تنالهم الحسرة برؤيتهم أعمالهم القبيحة وَبَالا عليهم، وكذلك أعمالهم التي كانوا يظنونها صالحة وَبَالا عليهم لأنهم كفار. قيل لابن عرفة: الآية على قراءة مجاهد مشكلة فإنه قرأ «إذ (تبرأ) الذين اتَّبَعُوا» بفتح التاء «منَ الّذين اتُّبِعُوا» (بضم التاء) فيشكل قوله {وَقَالَ الذين اتبعوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ} (لأنهم قد تبرؤوا منهم)؟ فقال ابن عرفة: تبرّي التابعين من المتبوعين يعم تبرّي المتبوعين منهم فلذلك قال هنا: {كَمَا تَبَرَّءُواْ مِنَّا}. قوله تعالى: {وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النار}. قال ابن عرفة: قال الزمخشري: الضمير لمطلق الرّبط. لأن مذهبه خلود مرتكب الكبيرة في النار فلو جعله للحصر لكان مفهومه أنّ مرتكب الكبيرة يخرج من النار بالشفاعة. وأجاب بعض الناس بأنه يلزم أهل السّنة كذلك لأن الآية في كفار قريش وهم جعلوا مع الله شريكا فلا يصح الحصر لأن غيرهم من الكفار مخلدون في النار. وأجيب بأن

168

الإجماع من الفريقين يقتضي أن الضمير لمطلق الربط. (فالمعتزلة) يحملون الآية على مذهبهم ويجعلون مرتكب الكبيرة مخلدا في النار. وأهل السنة يجعلونها على مذهبهم لكن الضمير ليس هو للحصر ليدخل الكافر غير المشرك فقط. قوله تعالى: {ياأيها الناس كُلُواْ مِمَّا فِي الأرض حَلاَلاً طَيِّباً ... }. قال ابن عرفة: هذا الأمر إما للوجوب أي أوجب الله علينا الأكل لأنّ به قوام الأجسام، أو لوجوب الأكل من الحلال. وإما للندب أو للإباحة وفيه دليل على أنّ الأشياء على الحظر، أو على الإباحة. ابن عرفة: وهو أظهر، لأنّ لو قلنا إن الأشياء كانت على الحظر فيلزم عليه الإجمال في هذا الأمر لأن من جملة ما في الأرض النبات والسباع وغير ذلك. قوله تعالى: {وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشيطان ... }. من مجاز التمثيل فإنه ليس المراد النهي عن اتباع خطواته حقيقة إذ لا نراه نحن بل الخطوات (معنوية). قوله تعالى: {إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بالسوء والفحشآء ... }. وقال (ابن عرفة): لأن العدو (قد) يأمر بالخير وهذا العدو لا يأمر إلا بالشر. قيل لابن عرفة: فيه دليل على أنّ الأمر لا يشترط فيه العلو بل الاستعلاء فقط، لأن الشيطان أسفل من مأموره. فقال: إنّما هو أسفل منه شرعا وهو في الوجود أعلى لاستعلائه عليه من حيث لايراه ولا يشعر به. وأورد الزمخشري على هذا قوله تعالى {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} قال (كان) أمرا مع تلك الآية. وأجاب عن ذلك بأنَّه شبّه تزيينه وبعثه على الشّر بالأمر وقبول العباد وساوسه بامتثال الأمر. قال ابن عرفة: أو يجاب بأن تلك مقيدة بالسّلطان وهو الحجة أو بلفظ العباد، فالعباد لا يتسلط عليهم ولا تقوم له عليهم حجة ولذلك أضافهم الله إليه إضافة تشريف، وقوله {بالسوء والفحشآء} يحتمل أن يكون السّوء ما لم يرتب الشارع عليه الحد (والفحشاء ما رتب عليه الحد، والسوء الصّغائر) والفحشاء الكبائر. قوله تعالى: {وَأَن تَقُولُواْ عَلَى الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ}.

170

قال ابن عرفة: يدخل فيه المفتي إذا أفتى بما لايعلم والقاضي إذا حكم بما لايعلم فإنه قال على الله ما (لا) يعلم. قيل لابن عرفة: يؤخذ منه أبطال العمل بالقياس؟ فقال: أما من لا يقول به فظاهر وأما من يقول به فمقدمات القياس ظنية فتكون (النتيجة) ظنية، لكن يلزم عليه إبطال العمل بجميع الأحكام الشرعية، لأنها كلها ظنية فليس المراد العلم الحقيقي بل ما عليه الظن. قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتبعوا مَآ أَنزَلَ الله ... } (قال) ابن عطية/: يعني كفار العرب، قال ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: نزلت في اليهود وقال الطبري: الضمير في (لهم) عائد على النّاس في قوله {ياأيها الناس كُلُواْ} وقال ابن عرفة: وهذا بناء على أن ذلك الخطاب خاص بكفار قريش. وقال الزمخشري: الضمير للناس (وعدل) عن الخطاب إلى الغيبة التفاتا. ورده ابن عرفة بوجهين: - الأول: أنه يحتاج إلى تخصيص عموم الناس بكفار قريش. - الوجه الثاني: أنّ الأول أمر وهذا خبر فبيعد فيه الالتفاف. قوله تعالى: {قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَآ أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَآءَنَآ أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ}. «بَلْ» هنا عاطفة، والإضراب (بها هنا) للانتقال لا للإبطال لأنه أي الإبطال: لا يشترط فيه أن يكون ما قبلها وما بعدها من لفظ متكلّم واحد حقيقة أو حكما، وليس هو كذلك هنا فإن المعنى قالوا: بل نتبع. وقوله: {مَآ أَلْفَيْنَا} قال ابن عرفة: كان بعضهم يقول: إنما لم يقولوا ما وجدنا عليه آباءنا ولو كان المعنى واحدا لأن الوجدان يكون اتفاقيا على غفلة (من) غير (قصد) ومنه وجدان الضالة. «وألفينا» يقتضي وجدان ما كان ثابتا دائما مستقرا. قال ابن عطية: الآية دالة على ابطال التقليد، وأجمعت (الأمة) على إبطاله في العقائد. وحكى الأستاذ أبو اسحاق الإسفراييني الإجماع على جواز التقليد في العقائد. وحكى المقترح في شرح الإرشاد ثلاثة طرق منهم من ينقل الإجماع (على الجواز ومنهم من ينقل الإجماع) على المنع، ومنهم من يحكي الخلاف بين الشيخ القاضي (أبي بكر الباقلاني) والأستاذ أبي إسحاق الإسفرائيني وتوقف ابن العربي، وأجمعوا على أنّ الفرض من أصول الدين معرفة الله تعالى على الجملة، وأما معرفة دقائق ذلك العلم والتبحر

171

فيه ومعرفة الله بالدلائل القوية الدقيقة فهو فرض كفاية. قاله ابن التلمساني في شرح المعالم الدينية. وقال الشيخ أبو عمرو بن الحاجب والآمدي: لا (تقليد) في العقليات كوجود الباري، وقال (الفخر) بجوازه، وقيل: النظر فيه حرام، ولنا الإجماع على وجوب ذلك والتقليد لا يحصل بجواز الكذب ولأنه كان يحصل بحدوث العالم ولأنه لو حصل لكان نظرا ولا دليل (عليه) قاله الشيخ ابن الحاجب. قال ابن عرفة: وكان بعضهم يقول إن هذه الآية دليل على صحة ما يقول الأصوليون من أنّ الفعل في الإثبات قد يكون عاما مع القرينة لأن همزة الإنكار عليهم في حال عدم العقل تدل على أنهم قصدوا اتّباعهم مطلقا في حالة العقل وعدمه، أي أيَتّبعون إياهم، ولو كانوا لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئا وَلاَ يَهْتَدُونَ. وهذا نفي أخص، فالتأكيد بالمصدر دخل على المنفي، (فأكده) لأنه سابق على النفي. وإن جعلت شيئا مفعولا لم يحتج إلى هذا. فإن قلت: ما أفاد قوله {وَلاَ يَهْتَدُونَ} مع أنّ نفي (العقل) عنهم يستلزم نفي الاهتداء؟ فالجواب: أن المراد لايعقلون (شيئا) من ذات أنفسهم ولو (نبّههم) غيرهم لما اهتدوا. قوله تعالى: {وَمَثَلُ الذين كَفَرُواْ كَمَثَلِ الذي يَنْعِقُ}. أي وَصِفَةُ الَّذينَ كفروا كصِفة الذي ينعق. قال الشيخ أبو حيان: وقيل الكاف زائدة. قال ابن عرفة: يفوت معنى التشبيه لأن قولك زيد (كزهير شعرا) يقتضي انك جعلته مثله سواء. وأجيب بأنه هنا شبهت الذّات بالذّات وذات زيد (معينة) مشخصة لا يقبل التعدد، وفي الآية شبهت الصفة بالصّفة، والصفّة يمكن فيها التعدد والمخالفة فجعلت كأنها هي ولو في (وحدة) النوع. قيل لابن عرفة: وكذلك ذات زيد جعلت كأنها ذات عمرو في الشعر فقوله «شعرا» أزال الشخص والتعيين. فإن قلت: لم خالف بين «كفروا» فعبر فيه بالماضي وبين «من ينعق» (فجاء) به مستقبلا وهلا استويا أو كان الأمر بالعكس؟ فالجواب بوجهين: - (الأول): أن المراد من اتصف بمطلق الكفر. - الثاني: أنه تقبيح للكفر أن يذكر بصيغة يقتضي الدوام. قال ابن عرفة: وعادتهم يفرقون بين الدعاء والنداء بأن الدعاء يكون بلفظ الطلب وسواء كان معه نداء أو لم يكن، والدعاء أخف من النّداء لأن البهائم تناديها فلا تجيب فإذا دعوتها وزجرتها أتت. فالنداء للخواص والدعاء للعوام فمن لم يستجب للنداء قد يستجيب للدعاء، ومن لم ينفع فيه (الدعاء) فهو في غاية الجهل والغباوة. ونقل أبو حيان عن بعضهم: (إلاّ) زائدة. قال ابن عرفة: وسببه توهم التناقض لأنه إذا قال: {لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَآءً وَنِدَآءً}، ويلزم أن

172

يكون الدعاء والنداء مسموعين له وقوله {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ} يدل (على) أنه لا يسمع شيئا بوجه. قوله تعالى: {فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ}. أي العقل التكليفي النافع. قوله تعالى: {ياأيها الذين آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ ... }. تقرير مناسبتها لما قبلها أنه لما تضمن الكلام السابق ذمّ المشركين لكونهم ليسوا أهلا لأن يخاطبوا بشيء من الأخبار ولا بشيء من الأوامر والنواهي، عقب ذلك بخطاب المؤمنين بهذا الأمر المستلزم لكونهم أهلا للمخاطبة. وقرر الفخر وجه مناسبتها بوجه لا ينهض والأمر بقوله / «كُلُوا مَا» للامتنان أو للاباحة. قال ابن عطية: الطيب هنا يجمع الحلال المستلذ، والآية تشير بتبعيض «من» إلى أن الحرام رزق. قال ابن عرفة: وجه دلالتها على ذلك من المفهوم لأن مفهومه أن البعض الآخر وهو الذي ليس بحلال ولا مستلذ غير مأذون فيه. قال ابن عرفة: وعادتهم يوردون هنا سؤالا وهو أنه قال في الآية الاخرى {ياأيها الرسل كُلُواْ مِنَ الطيبات} ولم يقل من طيبات ما رزقناكم مع أن تلك خطاب للرسل (فهو كان يكون) أولى بهذا اللفظ؟ وعادتهم يجيبون بوجيهن: - الأول: أمّا إذا قلنا: إن الرزق لا يطلق إلا على الحلال فنقول: لمّا كان الأنبياء معصومين أمروا أمرا مطلقا من غير تعيين الحلال وغيرهم ليس بمعصوم، فقيد الإذن في الأكل له بالحلال فقط فيكون الطيب على هذا المراد به المستلذ. - الجواب الثاني: الرسل في مقام كمال التوحيد ونسبة كل الأشياء إلى الله عَزَّ وَجَلَّ وأما غيرهم فليس كذلك فقد يذهل حين اقتطاف الثمرة ويظن أنها من الشجرة ويغفل عن كون الله تعالى هو الذي أخرجها منها وأنبتها فقيل لهم {كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} حتى يعتقدوا حين التناول أن ذلك الرزق كله من عند الله وليس للمتسبب فيه صنع بوجه. قوله تعالى: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الميتة والدم ... }. قال ابن عرفة: الدّمُ المسفوح نجس بإجماع، وكذلك الذي يخرجه الجزار من منحر الشاة بعد سلخها والدّم الذي يبقى في العروق طاهر (بإجماع وأمّا ما انتشر من العروق على اللحم ففيه قولان والمشهور أنه طاهر) كذا قال اللّخمي وغيره. والميتة هي (كل مازهقت) روحه بغير ذكاة من الحيوان المفتقر إلى الذكاة شرعا. فإن قلت: هلا قيل: إنما حرم عليكم لحم الميتة كما قال: لحم الخنزير؟ قلت: الجواب عن ذلك أن الخنزير غير مقدور عليه إلا بالاصطياد،

والاصطياد فيه في غالب أمره إنما يكون للحمه، فعلق بما هو المقصود فيه غالبا بخلاف الميتة فإن النفوس تفر منها وتكره لحمها فالمحرم جميعها. قال ابن عرفة: وما ذبح للجان ويتعمدون ترك التسمية عليه يقولون: إنه لا يؤكل. والظاهر عندي جواز أكله لأنهم لا يقصدون به التقرب للجان وإنما يقصدون به تكرمته، وأنه ينال منه ولا يتركون إلا النطق بالتسمية وهم إنما يسمّون في أنفسهم. قوله تعالى: {فَمَنِ اضطر غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ ... }. الفاء للتسبب ومن الأولى (أن تكون) موصولة لما تقدم فى قوله تعالى {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا} من أن القضية الشرطية لا تدل على وقوع الشيء، ولا على إمكان وقوعه. و {غَيْرَ بَاغٍ} قال ابو حيان: حال من الضمير فيى «اضطر» وقيل: حال من الضمير في الفعل المقدر معطوفا على «اضطر» أي في فأكل غير باغ ولا عاد. وتعقبه أبو حيان باحتمال تقدير ذلك (الفعل) بعد {غَيْرَ بَاغٍ} وهو أولى لأن في تقديره قبله فصلا بين ما ظاهره الاتصال بما بعده. قال ابن عرفة: وهو أيضا باطل من جهة المعنى لأنه، على ما قال هو يكون البيان للحكم بعد الأكل وعلى ما قال أبو حيان يكون البيان للحكم قبل الأكل والبيان قبل الفعل أولى. قال ابن عرفة: وكان بعضهم يقول: البغي غالب إطلاقه في اللّسان على ابن آدم (والعدوان غالب إطلاقه على غير ابن آدم). فيقال: عدا عليه السّبع ولا يقال: بغى عليه، ويقال: بغى فلان على فلان فالبغي خاص بالعاقل والتعدي مشترك، وغالب إطلاقه على غير العاقل، وفرق المنطقيون بين حرف السّلب وحرف العدول فحرف السلب «لا» وحرف العدول «غير» وجعلوا قولك: الحائط لا يبصر سلبا وزيد لاَ يبصر عدولا، فجاءت هذه الاية على هذا المنوال لاقتران «غير» بالبغي الخاص بالعاقل واقتران «لا» بالتعدي الذي كثر اطلاقه على غير العاقل حتى اشتهر به وغلب عليه. قوله تعالى: {فلآا إِثْمَ عَلَيْهِ ... }. قال ابن عرفة: لا ينفى إلاّ ما هو في مادة الثبوت ووجود الإثم هنا غير متصور لأن الأكل من الميتة في هذه الحالة واجب لإقامة الرمق قال: فأجاب بان المراد لا عقوبة عليه أو لا ذم عليه. واختلفوا في حد الحرام. قال المتقدمون: إنه ما عوقب فاعله. قال بعضهم: والصحيح أنه ما ذم فاعله لأن العقوبة قد ترفع بالتوبة، فعلى الأول معنى الآية فلا عقوبة

174

عليه، وعلى الثاني معناها فلا ذم عليه. قال ابن عرفة: وفي الآية دليل على أن العام في الأشخاص عام في الأزمنة والأحوال، وهو الصحيح، ولولا ذلك لما احتيج إلى استثناء المضطر منه، واختلفوا في الآية، فقيل: إنها خاصة بسفر الطاعة، وقيل عامة فيه وفي سفر المعصية لأنه لو لم يبح للعاصي أكل الميتة للزم أن يضاف إلى عصيانه بالسفر عصيان آخر بقتله نفسه؟ وأجاب بعض الناس عن ذلك، بأن عصيان السفر يرتفع بالتوبة وهي (ممكنة) / حينئذ قال ابن عرفة: وفي الآية حجة للمشهور وهو أنّ العاصي بالسفر (لا يباح له أكل الميتة). قوله تعالى: {إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ}. قال ابن عرفة: وجه مناسبة المغفرة أنه قد يظن أنه مضطر فيأكل الميتة ولا يكون مضطرا إليها. قوله تعالى: {إِنَّ الذين يَكْتُمُونَ مَآ أَنزَلَ الله مِنَ الكتاب وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً ... }. قال ابن عرفة: عطفه بالواو مع أن الشراء مسبوق عن الكتم فهلا عطف بالفاء؟ وأجاب عن ذلك بأن المراد الذمّ على كل وصف منهما لا على واحد فقط. وجعل الثمن مشترى فإما أن يتجوز في لفظ «يَشْتَرُونَ» فيجعل بمعنى يبيعون أو في لفظ «ثمنا» بمعنى مثمون قليلا؟ وهذا إن حملنا اللّفظ على حقيقته اللّغوية فنقول يصح: إطلاق الثمن على المشترى وعلى عوضه وإن نظرنا الاصطلاح فيجيء ما قلناه. قيل لابن عرفة: ظاهره منع أخذ الأجرة على تعليم القرآن لأنه من كتم ما أنزل الله؟ فقال ابن عرفة: أباح له أخذ الأجرة عليه كما أباح له ثمن الماء لأجل المشقة، (وكما) أباح له أخذ ثمن الطّعام في الأعوام التي هي مسبغة مع أنه يجب عليه إعطاؤه والواجب إنما هو تعليمه وإعطاؤه ما عنده سواء كان بالثمن أو بغيره وليس الواجب عليه بذل ما عنده بلا ثمن وهذه أمور جعلية لا عقلية. قوله تعالى: {أولئك مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النار ... }. قال تعالى في سورة الغاشية {لَّيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلاَّ مِن ضَرِيعٍ} وأجاب ابن عرفة: بأن الضريع طعامهم ولا يأكلون منه وإنما تكون المعارضة إن لو قيل ليس لهم أكل (إلا) الضريع أو يكون باختلاف الحالات في الأوقات (أو يكون) الضريع نارا فأكلهم للضريع أكل للنار، والأكل المضغ فهو في الفم لا في البطن لكن روعي السبب.

175

قوله تعالى: {أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى ... }. إن قلت: ما فائدة قوله «الذين» وهلا قال: أولائك اشْتَرُوا الضَّلاَلَةَ بِالهُدَى كما قيل {أولئك يَلعَنُهُمُ الله وَيَلْعَنُهُمُ اللاعنون} {أولئك كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإيمان وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِّنْهُ} (فهل هو للحصر)؟ (فأجاب ابن عرفة: بأنه ليس للحصر بل للتحقيق، أي فهم جديرون وحقيقون بأن يقال فيهم هذه المقالة وهي أحق من غيرهم. ابن عرفة: وفي كتاب الوصايا من المدونة: إذا أوصى فلان بعبده لرجل ثم أوصى به لرجل آخر فهو بينهما نصفين. فإن قال: عبدي الذي كنت أوصيت به لفلان فهو لفلان فلذلك رجوع عن الوصية الأولى ويختص به الثاني). قال ابن عرفة: إنّ {اشتروا الضلالة بالهدى} راجع لتصوّر حالتهم في الدنيا. قوله تعالى: {والعذاب بالمغفرة ... }. راجع لتصوّر حالهم في الآخرة وهذا أولى مما قال ابن عطية: لما كان العذاب تابعا للضلالة والمغفرة تابعة للهدى أدْخِلا في (حوز) الشراء، ولما كانوا متمكنين من الإيمان والكفر جعلوا كأنّهم حصلوا الإيمان ثم باعوه بالكفر. وتقدم لابن عطية في أول البقرة الاستدلال بهذا على أن من خير بين شيئين يعد منتقلا. قيل لابن عرفة: إنما فيها الاحتجاج لمن يقول من ملك أن يملك بعد مالكا؟ فقال: تلك قاعدة (مختلف) فيها والصحيح بطلانها وهذه قاعدة صحيحة دلت عليها آخر مسألة من كتاب الخيار في المدونة. قيل لابن عرفة: هم ليسوا مخيرين بين الإيمان والكفر؟ فقال: لما كانوا متمكنين منهما فكأنهم (مخيرون) بينهما. قال ابن عرفة: وإنما أفردت المغفرة (إشارة) إلى أن مغفرة واحدة (تكفي) في رفع العذاب وإن تعدد، وهذا دليل على أن التوبة من الكفر قطعية القبول وأنّها تَجُبّ ما قبلها، قال الله تعالى: {قُل لِّلَّذِينَ كفروا إِن يَنتَهُواْ يُغْفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ} قوله تعالى: {فَمَآ أَصْبَرَهُمْ عَلَى النار}. (قال ابن عطية عن جماعة: أظهروا التعجب (من) صبرهم على النار لما عملوا عمل) (من وطّن نفسه عليها) أي ما أجرأهم على النّار. وحكى عن المقتضب للمبرد أنه تقرير واستفهام من قولك مصبور أي محبوس أي ما أشد حبسهم في النار أو ما أحبسهم في النار.

176

قال ابن عرفة: وهذا أصوب لأن الأول يقتضي أن لهم اختيارا وجلادة على الصبر على النّار وهذا مدح لهم بالقوة والجلادة. والثاني يقتضي أن حبسهم فيها اضطرار ليس لهم فيه اختيار بوجه. قيل لابن عرفة: إنّما التعجّب من أسباب صبرهم على النار؟ فقال: أسباب الصبر (محبوبة) مستلذة، لا يتعجب (منها) كما قال «حُفَّتِ الجَنَّةُ بِالمكَارِهِ وَحُفَّتِ النَّارُ بِالشَّهَوَاتِ». قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ الله نَزَّلَ الكتاب بالحق ... }. قال ابن عطية: أي بالواجب أو بالأخبار الصادقة. وضعف ابن عرفة الأول بأن فيه (إيماء لمذهب) المعتزلة القائلين بالتحسين والتقبيح عقلا وأنّ بعثة الرّسل وإنزال الكتب واجب عقلا فليس المراد إلا إنزال الكتب مصاحبا لكلامه الحق المصدق، وإنزاله بسبب الحقّ الصدق. قوله تعالى: {وَإِنَّ الذين اختلفوا فِي الكتاب لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ}. هم كلهم في شق واحد بعيد عن شق الحق، ولا يؤخذ منه أن المصيب واحد لأنّ المراد المختلفين في الكتب/ من أهل البدع وكلهم على الباطل. قوله تعالى: {لَّيْسَ البر أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ ... }. قال ابن عطية عن ابن عباس (ومجاهد) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم: الخطاب للمؤمنين أي ليس البر الصلاة وحدها. وعن قتادة والربيع: (الخطاب) لليهود والنصارى. قال ابن عرفة: هو الظاهر لقوله: {قِبَلَ المشرق والمغرب} والمراد بالمشرق حقيقته لأنّ النّصارى يستقبلون مشرق الشمس، والمراد بالمغرب الأفق لأن اليهود إنما يستقبلون بيت المقدس وهو في جهة المغرب. وفي الآية إيماء لصحة القول بأن المطلوب في القبلة الجهة لا العين. ومعنى «قِبَلَ المَشْرِقِ»: عند المشرق وهو مراد الموثقين بقولهم: قبل فلان (لفلان) كذا وكذا دينارا. قال ابن عرفة: ومن لوازم الإيمان بالملائكة الإيمان بعصمتهم وأنهم (أجسام). وصوب المقترح في شرح الإرشاد القول بثبوت الجسمية لهم بالسمع لا بالعقل، كأنه اختار ثبوت الجوهر المفارق سمعا لا عقلا. قوله تعالى: {واليوم الأخر ... }.

قوله تعالى: {والنبيين ... }. قال ابن عرفة: (النبي) أعمّ من الرسول، وثبوت الأعم لا يستلزم ثبوت الأخص، فما يلزم من الإيمان بالنبي الإيمان بالرسول فهلا قيل المرسلين؟ والجواب: أن ذلك باعتبار الوصف، لأن وصف النبوة أعم من وصف الرسالة. وترتب الحكم هنا عليهم من حيث ذواتهم لا من حيث أوصافهم، وعرف بالألف واللاّم الدالة على العموم فيدخل في ضمنه الأخص بلا شك فهو كقولك كل حيوان في الدار. قيل لابن عرفة: أو يجاب بأن الإيمان باليوم الآخر والملاَئِكَة وَالكِتَابِ يستلزم الإيمان بالرسول؟ فقال: لايحتاج إلى هذا والجواب ما قلناه. فإن قلت: لم جمع الكل وأفرد ابن السبيل؟ قلنا: لِكثرتهم باعتبار الوجود الخارجي وقلة ابن السبيل، وقرىء {لَيْسَ البِرَّ} بالنصب. قال ابن عرفة: و «أَنْ تُوَلُّوا» اسم ليس إما لكون «أَن» وما بعدها أعرف المعارف أو لأن التولية معلومة والبر مجهول أي ليست التولية برا. قوله تعالى: {وَفِي الرقاب ... }. قوله تعالى: {والموفون بِعَهْدِهِمْ ... }. قال ابن عرفة: إن قلت: هلا قيل: بعهودهم فهذا أبلغ من الوفاء، فالعهد الواحد لا يستلزم الوفاء (بالعهود) بخلاف العكس؟ فالجواب: أنه يستلزم من ناحية أنّ المكلف إذا عاهد هو وغيره ووفى غيره بالعهود وبِهِ فإنه قد حصل الوفاء بالعهد على الإطلاق بخلاف ما إذا عاهد وحده ولم يوف فإنّه لم يقع في الوجود وفاء بالعهد، فتعظم العقوبة والذم. فإن قلت: ما فائدة قوله {إِذَا عَاهَدُواْ} ولو أسقط لكان الكلام مستقلاّ صحيحا؟ فالجواب عن ذلك: أنّه أفاد سرعة الوفاء فالعهد به (يعقب) العهد منهم فهُم بنفس أن يعاهدوا يبادرون إلى الوفاء بالعهد. قوله تعالى: {والصابرين فِي البأسآء والضراء وَحِينَ البأس ... }. البَأْسَاءُ هو الفقر، والضَّرّاءُ هو المرض، وحين البأس أي حين القتال وهذا ترق، لأن وقوع الفقر والحاجة (في) الناس أكثر من وقوع القتال فالصبّر على القتال أشد لغرابته، وقلة وقوعه، ودونه الصبر على المرض ودونه الصبر على الفقر، ولهذا تجد الفقراء الأصحاء أكثر عددا من المرضى، والمرضى أكثر عددا من الفرسان المقاتلين. فإن قلت: لم قال «في البأساء» فعداه بفي ولم يقل وفي البأس وكان يقال: والصابرين حين البأساء وحين الضراء؟ فالجواب عن ذلك: أنه لما كان

178

وقوع القتال أقلها وجودا بالنسبة إلى غيره كان الصبر عليه أغرب وأعجب فالمراد بالصابرين من حصل الوصف الكامل من الصبر ولو عدي بفي لتناول من حصل منه مطلق الصبر، وهو الصابر في أول جزء من أجزاء القتال لأنه حينئذ يصدق بأول جزء، فقيل: «وَحِينَ البَأْسِ» (ليفيد) كمال الصبر من أول القتال إلى آخره وأما الفقر والمرض فكلاهما أكثري الوقوع فلا غرابة فيهما فلم يحتج إلى التنبيه على كمال الصبر فيه. قال سيدنا علي رضي الله تعالى عنه: «الصبر رأس كل عبادة وإذا ذهب رأس الشيء ذهب ذلك الشيء». وذكر بعضهم أن العهد يكون بالقول وبالفعل كمن يحدث حديثا وهو مترقب (لمن) يسمعه فهذا كالعهد في عدم نقله عنه والتحدث به. قوله تعالى: {أولئك الذين صَدَقُواْ ... }. كرر لفظ أُوْلاَئِكَ تنبيها على أن كل وصف من هذا كاف في حصول المدح والثناء لا المجموع. قيل لابن عرفة: احتجّ بها بعض الأصوليين على أن هذه الأمور واجبة؟ ابن عرفة: الصحيح عند الأصوليين أن الواجب ما ذمّ تاركه فالواجب إنما يستفاد من الذم على الترك لا من المدح على الفعل لأن ذلك قدر مشترك بين الواجب والمندوب. قيل لابن عرفة: هذه الآية حجة على أن (ابن قتيبة) في قوله: إن الخبر المستقبل إذا طابق مخبره فإنما يسمّى موافقة و (وفاقا) ولايسمى صدقا، وقد سماه هنا صدقا فقال: والصدق هنا المراد به المطابقة المطلقة. (فقال ابن عرفة: بل هي حجة له لأنه يجعل {أولئك الذين صَدَقُواْ} راجعا للماضي ويجعل {الموفون بِعَهْدِهِمْ} راجعا للأمر المستقبل فيكون الكلام تأسيسا وعلى قولكم «أنتم» يكون تأكيدا والتأسيس أولى من التأكيد). قاله ابن التلمساني شارح المعالم الفقهية في المسألة الأولى من الباب (الثامن). قوله تعالى: {ياأيها الذين آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ القصاص ... }. قال ابن عرفة: الخطاب للمؤمنين. فإن قلنا: إنّ الكفار مخاطبون بفروع الشريعة؟ فنقول: إنما عين المؤمنين هنا لما ذكره المفسرون في سبب نزول هذه الآية. قال: كتب بمعنى فرض أو كتب في اللوح المحفوظ. وأورد الشيخ ابن العربي هنا سؤالا قال: كيف يفهم الكتب بمعنى الفرض مع أن القصاص غير واجب؟ قال ابن عرفة: والجواب أنّا إذا اعتبرنا جهة المجني عليه ووليه فالقصاص غير واجب لأنه مخير بين القصاص وأخذ الدية، وإذا راعينا جهة الجاني فالقصاص غير (واجب). إن طلب الولي

الدية، وهذا بخلاف الدين فإنّ رب الدّين إذا أسقط دينه وامتنع من أخذه وأبى ذلك المديون فإنه يجبر رب المال على أخذ دينه، ولذلك إذا حلف أنه لا يأخذه وحلف المديون أنه لايحبسه فأنه يحنث رب المال وما ذاك إلا لحفظ النفوس، بخلاف الأموال فإن المديان يقول له: لا أقبل (مزيتك) ولا أحبها. قال ابن عرفة في هذا: والقصاص (فعال) لأنه يفعل كما فعل له (كالإتباع) سواء لأنه يفعل كفعل المتبع. قال ابن العربي: واحتج بها الحنفية على أن المسلم يقتل بالكافر لقولهم «الحر بالحر» فعمم ولم يقيد ولو كان بينهما فرق لبينه. وأجيب بقوله: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} ولا أخوة بين المسلم والكافر إلا أن يريد بالأخوة الصحبة فحينئذ (لايزال السؤال واردا). لكن يجاب بما قال الفخر الرازي في المحصول في قوله تعالى {لاَ يستوي أَصْحَابُ النار وَأَصْحَابُ الجنة} قال: المراد نفي مطلق المساواة في الخلود وغيره فاحتج به الشافعي على أنّ المسلم لا يقتل بالكافر. قال: والأعم لا إشعار له بالأخص. قال ابن عرفة: ورد عليه بعضهم بأنه لا يستوي فعل في سياق النّفي فيعم لأن نفي الأعم أخص من نفي الأخص (فنقول) تلك الآية دلت على نفي مساواة بينهما فلا يقتل المسلم بالكافر. قال الفقيه أبو عبد الله محمد بن أبي بكر الأنصاري القرطبي: قال الكوفيون والثوري: يقتل الحر بالعبد والمسلم بالكافر الذمّي. واحتجّوا بهذه الآية. قالوا: الذّمي مع (الحر) متساويان في حرمة الدم على التأبيد بدليل أن المسلم يقطع بسرقة مال الذمي كمال المسلم فيتساويان في الذّم إذ المال إنما يحترم بحرمة مالكه. قال ابن عرفة: يقال: إنّما قطع في المال لأنه من فساد الأرض بدليل قول مالك: إن الكافر إذا سرق من مال المسلم فإنما تقطع يده، وإذا زنا بالمسلمة طائعة فإنه لا يحد وما ذلك إلا لأنّ أخذ المال من الفساد في الأرض بخلاف الزنا. قال ابن عرفة: وقولهم في العبد إذا جنى جناية وقطع يد المسلم إنّ سيده مخيّر، فله أن يسلمه في الجناية مع أنه يبقى سليما في بدنه. والصواب كان في عقوبته أن تقطع يده لأن إسلامه في الجناية كبعيه، فما يظلم (بذلك) إلاّ سيّده وأما هو فلم يقع عليه عقاب ولا حد يرتدع به بوجه.

وغلط الزمخشري هنا في نقله عن الإمام مالك رَضِيَ اللَّهُ عَنْه لأنه قال: مذهب مالك والشافعي أن الحر لا يقتل بالعبد، والذكر لا يقتل بالأنثى. أخذ بهذه الآية. (واختلفوا في هذه الآية) فقيل: إنها منسوخة بآية المائدة وقيل مجملة وتلك مبينة لها. وقال ابن العربي: تلك مجملة وهذه مبنية (لها). ابن عطية: وقال علي والحسن ابن أبي الحسن إذا قتل رجل إمرأة فإن أراد أولياؤها قتلوه (ووفوا) أولياءه نصف الدية، وإلا استحيوه وأخذوا الدية، وإذا قتلت امرأة رجلا فإن أراد أولياؤها قتلوها وإلا استحيوها، وإن قتلوها أخذوا نصف الدية وإن استحيوها أدّوا الدية كاملة. قال ابن عرفة: (نظيره) في مذهبنا قولهم في كتاب الزكاة: إذا وجبت على الإنسان بنت لبون فأعطى للساعي بنت مخاض وما نقصت قيمتها عن بنت اللّبون أو وجب عليه بنت مخاض فأعطاه بنت اللّبون وأخذ منه ما زادت قيمتها عن قيمة بنت المخاض فالمشهور عدم الإجزاء وقيل يجزيه. قوله تعالى: {ذلك تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ ... }. (ابن عطية) الإشارة إلى ما شرعت له هذه الآية من أخذ الدية، وكان عند بني إسرائيل في التوراة وجوب القصاص ولا دية عندهم. وقال الطبري: حرم على أهل الإنجيل الدّية وكان الواجب عليهم إمّا القصاص أو العفو على غير شيء. وقال الزمخشري: فرض على أهل الإنجيل العفو وحرّم عليهم القصاص والدّية. ورده ابن عرفة بوجهين: - الأول: ما نقله الطبري وهو حجة في التفسير، - الثاني: أن الأصوليين عدوا حفظ النفوس في الكليات الخمس التي اجتمعت الملل كلها على (حفظها)، وأيضا فهو مصادم لمقتضى الآية لأنه تكون شريعة النّصارى أخف من شريعتنا فلا يكون ذلك تخفيفا بل تثقيلا. قال ابن عرفة: فالتخفيف هو أنه كان في الجاهلية تحتم القصاص من غير قبول العفو، فصار الآن عقوبته إذا عفى عنه الولي أن يجلد مائة ويسجن عاما. قوله تعالى: {فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ}.

179

ابن عطية: وقال الحسن: عذابه/ أن يؤدي الديّة فقط ويبقى (إثمه) إلى عذاب الآخرة. قال ابن عرفة: هذا (شبه) ما قالوا في اليمين الغموس إنها أعظم من أن تكفر. قوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي القصاص حَيَاةٌ ... }. ابن عرفة: فيه دليل لاهل السنة القائلين بأن لا حسن ولا قبح لأن الآية خرجت مخرج الامتنان بتعداد هذه النعم، فدلّ على أنها تفضل من الله تعالى، ولو كان القصاص واجبا في (العقل) لما حسن كونه نعمة، ولما صح الإتيان به لأن ذلك تحصيل الحاصل. قال الأصوليون والبيانيون: وهذه أبلغ من قول العرب القتل أنفى للقتل. وقدره ابن مالك في المصباح بأربعة أوجه: أحدهما: أن حروفها عشرة، وأسقط منها الياء من في (وألف) الوصل من «القِصَاصِ» لسقوطها في النطق وفي التفعيل أعني الأوزان (الشعرية)، وحروف «القتل أنفى للقتل» أربعة عشر. الثاني: تنافر الحروف في المثل وتناسبها في الآية. الثالث: لفظ الحياة محبوب، فالتصريح باسمها أولى من الكناية عنه بنفي القتل. الرابع: صحة معناه لأن تنكير الحياة يفيد إما حياة عظيمة أو نوعا من الحياة إشارة لحسنه وغرابته، بخلاف المثل فإن معناه غير صحيح وحقيقته غير مرادة. قال ابن عرفة: ويظهر لي بيان الرّابع إما بأن القتل في المثل (مطلق) (يتناول) القتل عدوانا مع أنه غير مراد والآية صريحة في نفي ذلك. قال (ابن عرفة): والآية أصوب من وجه آخر وهو أنها تقتضي المساواة في جميع الوجوه بخلاف المثل فليس فيه تنصيص على المساواة. وذكر (الطبري) في تأليفه في البيان والجعبري في شرح الشاطبية الصغرى أنّ الآية تفضله من وجوه: أحدها: (إيهامه) التناقض لمنافاة الشيء لنفسه أو العموم فيكون القتل ظلما أنفى للقتل قصاصا والمراد العكس بخلاف الآية فإنّها صريحة في معناها من غير احتمال (شيء). الثاني: عدول الآية عن التكرار وعن الإضمار، بخلاف المثل لأن تقديره كراهية القتل أنفى للقتل. الثالث: سلامة ألفاظها عما يوحش السامع، وتخصيصها بالحياة المرغوب فيها وبعدها عن تكرار (قَلْقَلة) القَافِ للضَغط والشدة وتخصيصها بتكرار الصاد المستجلب (باستعلائها) وإطباقها مع الصفير للفصاحة. الرابع: فيها الطباق المعنوي بين القصاص

180

والحياة. قلت: وزاد بعضهم عن القاضي ابن عبد السلام أن الآية أعجب لاقتضائها أنّ الموت سبب في الحياة ولأن دلالة القصاص على الحياة مطابقة ودلالة القتل عليها باللزوم. قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ ... }. قال الزمخشري: الوصية للوارث كانت في ابتداء الإسلام فنسخت بآية المواريث ولقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «أن الله أعطى لكل ذي حق حقه، ألا لا وصية لوارث». قال (ابن عرفة): (وهذا حديث تلقته الأيمة بالقبول حتى لحق بالمتواتر وإن كان أخبار آحاد. وحكى ابن عطية عن ابن عباس والحسن أنه نسخ منها الوصية للوالدين والقريب والوارث ثم قال: وهي في آية الفرائض في النساء) (ناسخة لهذا الحديث المتواتر: قوله: «إن الله أعطى كل ذي حق حقه»). وهذا خطأ كيف يجعله متواترا والمحدثون مطبقون على أنه لم يصح، وكلام الزمخشري فيه أصوب. ابن عطيّة: «الوَصِيَّةُ» مفعول لم يسم فاعله «لكُتِبَ» وجواب الشرطين «إِذَا» و «إن» مقدر يدل عليه ما تقدم. وتعقبه أبو حيان بامتناع تقدّم العامل في «إِذَا» عليها. ابن عطية: يجوز أن يكون العامل في «إذا» الإيصاء المقدر المدلول عليه بلفظ الوصية والوصية. مبتدأ وهو جوابه للشرطين معا. وتعقبه أبو حيان بأنه إذا قدر قبل «إذا» لزم تقدم العامل فيها عليها، وإن قدر بعدها فهو موصول، ومعمول الصلة لا يتقدم عليه وبأن المقدر هنا ضمير المصدر معناه كتب عليكم هو أي الإيصاء وضميره المنطوق به لا يعمل عند الكوفيين فأحرى (المنوي) بامتناع كون الشيء الواحد جوابا لشرطين معا. وأجاب ابن عرفة بأن المعنى يقتضي كون الجواب للشرطين معا لئلا يلزم عليه فيمن حضره الموت وله مال قليل أن يؤمر بالوصية، فالأمر فيها إنما هو لمن اجتمع فيه الوصفان، ورده بعض الطلبة بأن مراد أبي حيان أنّ الجواب للشرط الأول والشرط الثاني قيد في الجواب، وجوابه محذوف يدل عليه جواب الأول والمعنى: كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الموت ... «الوصية» إِن تَرَكَ خَيْرا. قال ابن عرفة: يلزمك أن يكون الشرط الثاني وجوابه جوابا للأول، والبحث إنما هو على أنهما شرطان وجوابان أو شرطان وجواب واحد. قال ابو حيان: لا يجوز أن يكون جواب (إذا) مقدرا من معنى كتب (لمضيه) واستقبال الشرط.

قال ابن عرفة: أراد ما ذكر ابن عصفور في باب القسم (من) أن جواب الشرط لا يحذف إلا إذا كان فعل الشرط ماضيا، وبهذا (ردوا) على حازم في قوله تعالى {إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ العزيز الحكيم} قال: جواب الشرط مقدر، أي فإنك أنتَ الغَفُورُ الرّحِيمُ، لأنّ (العزّة) لا تناسب المحل، وكان المختار أن يوقف عند قوله «وَإِن تَغْفِرْ لَهُم» «فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ» فردوا عليه بأن جواب الشرط لا يحذف إلا إذا كان فعل الشرط ماضيا. قال ابن عرفة: واتفقوا على أن الوصية واجبة لكنّها تختلف فقد يكون/ مندوبا إليها إذا كان القريب فقيرا وإن كان غنيا فهي للبعيد أولى. قوله تعالى: {حَقّاً عَلَى المتقين}. إن قلنا: إن المتقي مرادف للمؤمن، فالآية واضحة وإن قلنا إنه أخص من المؤمن كما هو مذهب المحققين من المتأخرين فتفهم الآية على أن الخطاب باعتبار ظاهر اللفظ للتكليف وفي المعنى الامتثال لأنّ ظاهرها تخصيص وجوب ذلك (بالمتقي) فلا بد أن يُرَادِفَهُ وجوب قبول وامتثال. فإن قلت: ما فائدة الإتيان بهذا المصدر (المؤكد)؟ وأجاب ابن عرفة: بأن قولك «أكرم زيدا» أبلغ من قولك أكرم زيد إذا جاء عمرو ولضعف الثاني بتعليقه على الشّرط، والأول مطلق فهو أقوى ولما أتي الأمر بالوصية مقيدا بالشرط وهو إن (تَرَك) خيرا ضعف فأكد بقوله {حَقّاً عَلَى المتقين}. قال أبو حيان: «حقا» مصدر مؤكد لمضمون الجملة أي حُقّ ذلك حقا، ورُدّ بأن «على المتقين» إما متعلق به والمصدر المؤكد لا يعمل، أو صفة له فيخرج عن التأكيد لتخصصه. قال ابن عرفة: تقرر أن معاني الحروف والأسماء الجوامد تعمل في الظروف والمجرورات. قلت كقول الشاعر: كأنه خارج من حيث صفحته ... سعود شرف نشده عند معتاد أنشد ابن الصائغ في باب الاشتغال ورد به على ابن عصفور وقوله: أنا ابن ماوية (إذا جدّ النقر) قال أبو حيان: وقيل: نعت لمصدر محذوف أي كتابا حقا أو (إيماء) وقيل منصوب ب «المتقين» وهو بعيد لتقدمه على عامله الموصول وعدم تبادره إلى الذهن. قال ابن عرفة: العلوم النظرية كلها كذلك لأنها توصل إلى فهم المعاني الدقيقة التي لا تفهم بأول وهلة. قيل لابن عرفة: إنمّا (يراد) أن الظاهر خلافه؟ فقال: إن أراد أن ظاهر

181

اللّفظ ينفيه فليس كذلك وإن أراد أن ظاهر اللّفظ لا يقتضيه ولا يدل عليه فكذلك المعاني الدقيقة كلها. أبو حيان: (والأولى) أنه مصدر من معنى «كتب» لأن معناه وجب وحق مثل قعدت جلوسا. قال ابن عرفة: الّذي فر منه وقع فيه لأنه ألزم غيره امتناع عمل المصدر المؤكد لغيره، وكذلك يلزمه هو. قيل لابن عرفة: هل يؤخذ من الآية عدم وجوب الوصية كما قالوا في {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بالمعروف حَقّاً عَلَى المتقين} ويقال له: إن كنت محسنا أو متقيا (فمتّع)؟ فقال: إنه يتم لك هذا لو وقع الاتفاق على عدم وجوب المتعة. قوله تعالى: {فَمَن بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ ... }. ابن عرفة: إن أريد به الموصى فالمعنى: فمن لم يمتثله، لأن تبديل حكم الله تعالى غير معقول. وأن أريد به الوارث الأجنبي فالتبديل حقيقة بَاقِ على ظاهره. قوله تعالى: {فَإِنَّمَآ إِثْمُهُ عَلَى الذين يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ الله سَمِيعٌ عَلِيمٌ}. قال ابن عرفة: كان بعضهم يفهم فيقول فائدة الحصر أنّ الموصي للفقراء بوصية ثم منعهم منها سلطان ظالم فالأجر ثابت للموصي والإثم خاص بالظالم. قال: (وكذلك) أخذ منه بعضهم، أنّ الموصي إذا اعترف بدين عليه وحبسه الوارث عن ربّه فقد برىء الموصي من عهدته وإثمه على المانع. ففي الآية ثلاثة أسئلة: - الأول: لم خص الحصر بإنَّما ولم يقل: فإثمه إلا على الذين يبدلونه مع أنه أصرح؟ والجواب أنهم قالوا: إنّ «إنما» تقتضي ثبوت ما بعدها بخلاف (إلاّ) فتقتضي وجود الإثم وثبوته. - السؤال الثاني: قال «يبدلونه» بلفظ المضارع «ومن بدله» بلفظ الماضي؟ والجواب عنه ما أجاب الزمخشري في قوله الله تعالى {وَمَن قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَئاً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ} {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ} وهو أنه لما كان القتل عمدا ممنوعا شرعا عبر عنه بلفظ الماضي والمستقبل إشعارا بكراهيته (والتنفير) عنه حتى كأنه غير واقع، وكذلك يقال هنا. قلت: لأنه ذكر لفظ الإثم في الثاني مقرونا بأداة الحصر أتي بالفعل مستقبلا زيادة في (التنفير) عن موجب الإثم.

183

- السؤال الثالث: هلا استغنى على إعادة الظاهر فيقال: فإنما إثمه عليه؟ والجواب عن ذلك! أنه تنبيه على العلة التي لأجلها كان مأثوما وهي التبديل. قوله تعالى: {ياأيها الذين آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ ... }. كرر النداء لبعد النداء المتقدم وكثرة ما بين النداءيْن من الفصل فكرره تطرئة. ابن عطية: الصيام مجمل لأنه لم يعين مقداره ولا زمنه. قال ابن العربي: بل هو معين في الآية لقوله {كَمَا كُتِبَ عَلَى الذين مِن قَبْلِكُمْ}. (قال ابن عرفة: إنما هو تشبيه حكم بحكم والحكم لا يتبدل ولا يتفاوت فهو تشبيه وجوب بوجوب). ابن عرفة: وهذا التشبيه وإن رجع إلى الأحكام فهو تسلية لنا لأن الإعلام بفرضيته على من مضى يوجب خفته عل النفوس وقبولها إياه، وإن رجع إلى الثواب فهو تنظير نعمة بنعمة، أي: أنعم عليكم بالصوم المحصل للثواب الأخروي، كما أنعم على من قبلكم من أن ثوابكم أعظم. وحذف الفاعل للعلّم به وزيادة «مِنْ» تنبيه على عموم ذلك في كل أمة من الأمم السالفة إلى حين: تزول هذه الآية. قوله تعالى: {أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ ... }. زيادة/ (في التسلية) والتخفيف، أي هو أيام قلائل تعد عدا. قلت: كما في قوله تعالى {دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ} قاله الزمخشري. قوله تعالى: {فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً ... }. ابن عطية: قال قوم: متى صدق على المكلف أنه مريض صحّ له (الفطر)، وقاله ابن سيرين فيمن وجعته أصبعه (فأفطر) وحكاه عنه ابن رشد في مقدماته والجمهور: المراد المرض الذي يشق معه الصوم. قال ابن عرفة: سبب الخلاف ما يحكيه المازري وابن بشير من الاختلاف في الأخذ بأوائل الأسماء أو بأواخرها فظاهر الآية عندي حجة للجمهور لقول الله {فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً} ولم يقل: فمن مرض فظاهره، أنه لا يفطر بمطلق المرض بل مرض محقق ثابت يصدق أن يقال في صاحبه كان مريضا لأن «كان» تقتضي الدوام. قوله تعالى: {أَوْ على سَفَرٍ ... }. ولم يقل: مسافرا.

قال ابن عرفة: يؤخذ منه في الحاضر إذا عزم على السفر (أن له أن يبيت على الفطر ويفطر، ولا يلزمه كفارة لأنهم قالوا في الحاضر إذا عزم على السفر وبيت) على الصوم ثم أفطر فالمشهور عندنا أنه لا كفارة عليه. وقال المغيرة المخزومي: تلزمه الكفارة فإذا كان لا يكفر إذا أفطر بعد أن يبيت على الصوم فأحرى أن لا يكفر إذا أفطر بعد أن يبيت على الفطر. تقول: هذا الحائظ على سقوط وهو لم يسقط أي على حالة السفر. فقوله: {أَوْ على سَفَرٍ} مما يصحح ما قلناه بخلاف المرض، فإنه لايباح الفطر إلا لمن وقع به المرض وهما في المدونة مسألتان متعاكستان. قال: في الحاضر يفطر مريدا للسفر يقضي فقط. فقال المخزومي وابن كنانة: يقضي ولا يكفر. قوله تعالى: {فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ... }. ولم يقل فعدة أيام أخر، إشارة إلى ما أجاب به الزمخشري في قوله تعالى {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ القواعد مِنَ البيت} وذكر «أَيَّامٍ» إشارة إلى أنه يجزي فيها الصوم في النهار القصير قضاء عنه في النهّار الطويل وإنما المطلوب عدة أيام (كعدد) الأيام الأول لا كقدرها وصفتها. قال أبو حيان: أجازُوا نَصب {أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ} على الظرف والعامل فيه «كُتِب» أو يكون مفعولا على السعة والعامل فيه كتب ورد بأن الظرف محل الفعل وليست الكتابة واقعة في الأيام وإنما الواقع فيها متعلقها وكذا النصب على المفعول مبني على وقوعه ظرفا انتهى. قال المختصر: في هذا الأخير نظر. قلت: يريد أنه لا يلزم من منع جعله ظرفا ل «كتب» ان لا يكون مفعولا كما قيل: إن يوم الجمعة مبارك (فجعلوه) اسم يوم مع امتناع كونه ظرفا فليس (هو) مبنيا عليه. قوله تعالى: {وَعَلَى الذين يُطِيقُونَهُ ... }. حكى أبو حيان في «يُطِقُونَه» خمسة أقوال. الأول: أنه على تقدير: لايطيقونه، مثل قولهم: فخالف خلا والله تهبط تلعة ... من الأرض إلا أنت للذل عارف وضعفه بأنّه لا دليل عليه. قال ابن عرفة: والجواب بأن السياق هنا يدل عليه كما قالوا في {مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ} أن «لا» زائدة وفي {لِّئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الكتاب} أنها زائدة أيضا. وأيضا، فيجاب بقوله قبله، ويحتمل قراءة التشديد أنها بمعنى يتكلفونه أو يكلفونه ويكون من تصويب قول بقول. ونقل ابن عطية في تأويل الآية خلافا. ثم قال: والآية

185

عند مالك إنما هي فيمن يدركه رمضان وعليه صوم من رمضان المتقدم فقد كان يطيق في تلك المدة الصوم فتركه فعليه الفدية. قال ابن عرفة: ويبقى القضاء عنده مسكوتا (عنه). فإن قلنا: إن القضاء بالأمر الأول فلا يحتاج إلى تقدير. وإن قلنا: بأمر جديد فلا بد من تقديره في الآية، ويكون حذف لفهم المعنى. ({وَعَلَى الذين يُطِيقُونَهُ} استدلوا به على أنّ المرضع مأمورة بالصوم بدليل إيجاب الفدية عليها). قوله تعالى: {فِدْيَةٌ طَعَامُ ... }. قال أبو حيان: إضافته للتخصيص وهي إضافة الشيء إلى (جنسه) لأن الفدية اسم للقدر الواجب والطّعام يعم الفدية وغيرها. قال ابن عرفة: إضافة الشيء إلى جنسه هي إضافة أمرين بينهما عموم وخصوص من وجه دون وجه مثل خاتم حديد، وثوب خز. قوله تعالى: {فَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً ... }. إن كانت «مَنْ» شرطية فظاهر وإن كانت موصولة فمشكل لأنه كقولك: إن الذاهبة جارية مالكها. وأجيب: بأن الخير الأول هو المال والثاني فعل ما هو أفضل من غيره، أو الخير الأول (فضل) والثاني أفضل فعل. قوله تعالى: {وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ ... }. استدلو به على أن الصوم للمسافر خير وأفضل. قلت: وقال لي سيدي الشيخ الصالح الفقيه أبو العباس أحمد ابن إدريس البجائي: لا دليل فيها لأن قوله {ياأيها الذين آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصيام ... } إلى قوله {وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ} مسنوخ بقوله الله تعالى {شَهْرُ رَمَضَانَ الذي أُنْزِلَ فِيهِ القرآن} (ويدلّك) على النّسخ قوله تعالى {أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ} وهو جمع قلة ولا يتناول الشهر حسبما قال الزّمخشري معناه: أياما (مؤقتات) (بعدد) ملعوم أو قلائل كقوله {دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ.} قوله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الذي أُنْزِلَ فِيهِ القرآن ... }. ابن عطية انظره وأبا حيان.

قال ابن عرفة: نقل الآمدي في شرح/ الجزولية عن السهيلي أنك إذا قلت: صمت رمضان كان العمل في كله، قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه». وإذا قلت: صمت في شهر رمضان كان العمل في بعضه بدليل هذه الآية. قال ابن عرفة: يرد بأن الفعل في الآية لم يتعد إليه بنفسه بل بواسطة «في» لقوله {الذي أُنْزِلَ فِيهِ القرآن} وما كان يتم له الاستدلال إلا لو كان تعدى إليه الفعل بنفسه. ونقل بعضهم عن شرح المقرب لابن عصفور أنك إذا قلت صمت رمضان أو شهرا، فالعمل في كله وإن قلت: صمت شهر رمضان فهو محتمل لتخصيصه بالإضافة ولم يرضه ابن عطية. قال الضحاك: أُنزِلَ القُرآنُ في (فرضه) وتعظيمه والحض عليه، وقيل: الذي أنزل القرآن فيه. قال ابن عرفة: ولا يبعد أن يراد الأمران فيكون أنزل القرآن فيه تعظيما له وتشريفا ولم يمدح القرآن بما مدح به الشهر لأن فضله معلوم. وقيل: أنزل فيه القرآن جملة إلى سماء الدنيا. قال ابن عرفة: فالقرآن على هذا الاسم للكل وعلى القول الثاني بأنه أنزل فيه بعضه يكون القرآن اسم جنس يصدق على القليل والكثير. قوله تعالى: {وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الهدى ... }. قال ابن عطية: الألف وللام في «الهدى» للعهد والمراد به الأول. قال ابن عرفة: إن كانت «مِنَ» لبيان الجنس فالألف (واللاّم) للعهد في الشخص وإن كانت للتبعيض فهي للعهد في جنس فيكون القرآن نوعا من أنواع جنس الهدى. قوله تعالى: {فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضاً أَوْ على سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ... }.

قال الزمخشري: فمن حضر المدينة في الشهر. قال ابن عرفة: خشي أن يترك الآية على ظاهرها لأن ظاهرها وجوب الصوم على حاضر الشهر مع أنه ينقسم إلى حضري وإلى مسافر (فتأولها) على أن المراد حاضر المصر في الشهر والّذي فر منه وقع فيه، لأن حاضر المصر في الشهر ينقسم (أيضا) إلى صحيح وإلى مريض، وظاهر الآية وجوب الصوم على الجميع فإن قال: خرج ذلك بالنّص عليه في الآية الثانية. قلنا: وكذلك المسافر خرج بالنّص عليه. وقيل: من شهد هلال الشهر. قال ابن عطية: وقال علي بن أبي طالب وابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم من حضر دخول الشهر وكان مقيما في أوله فليكمل صيامه سافر بعد ذلك أو أقام، وإنّما يفطر في السّفر من دخل عليه رمضان وهو مسافر. قال ابن عرفة: انظر هذا مع قول ابن بشير: «لا خلاف بين لأمة أن السفر من مقتضيات الفطر على الجملة». قلت: وكان سيدنا الشيخ أبو العباس أحمد بن ادريس رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى يقول: هذه الآية تدل على أن المسافر غير مأمور بالصّوم لأن «شهد» بمعنى حضر والمسافر ليس بحاضر وقالوا إذا صامه فإنه يجزيه ويكون أداء، وقالوا في العبد: إنّ الحج ساقط عنه فإن حج ثم عتق لم يجزه عن حجة الفريضة، فحينئذ نقول: فعل العبادة قبل وجوبها إن كانت عندكم نفلا سدّ مسدّ الفرض. قال: والجواب عن ذلك أن المسافر مأمور بالقضاء لقوله تعالى: {فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} وذلك دليل على أن اباحة الفطر له (إنما هو رخصة) لا لكون السفر مانعا من الصوم بخلاف العبد فإنه إن عتق فلا يزال مطلوبا بالحج وإذا فعله بعد العتق كان أداء لأنّه أوقعه في وقته وهذا إن أدركه الصوم في السفر ثم حضر وفعله كان قضاء. قلت: هذا لا يلزم إلا إذا جعلنا الشّهر من قوله: {فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} ظرف زمان لأنه على تقدير «في» والمسافر لم يحضر في الشهر، ويحتمل أن يكون «الشهر» مفعولا به فلا يلزم هذا السؤال لأن المسافر حضره وفرق بين قوله حضره وحضر فيه. وذكرته لشيخنا ابن ادريس فوافقني عليه. قوله تعالى: {يُرِيدُ الله بِكُمُ اليسر وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العسر}.

قال ابن عرفة: المتعذر هو الذي لايمكن فعله ولو بمشقة والمتعسر هو الذي يمكن فعله بمشقة. قال: في الآية إشكال وهو أن متعلق الإرادة إما فعل أو حكم. والأول: باطل بالمشاهدة لأن الله تعالى يفعل الخير والشر وقد رأينا بعض الناس في الخير وبعضهم في الشر. والثاني، باطل لأنه يلزم عليه أن يكون حكم الله تعالى مرادا فيكون حادثا (إذ) من شأن الإرادة التخصيص، مع أن الحكم راجع إلى كلامه القديم الأزلي والتخصيص يستلزم الحدوث. (قيل) لابن عرفة: يقال المراد الحكم باعتبار متعلقه وهو الحكم المتعلق التنجيزي لا (الصلوحي)؟ قال ابن عرفة: قد تكرر أنّ الصحيح أنّ التعلق صفة نفسية والتعلق التنجيزي حادث، فإن حكمنا لموصوف بحكم صفته لزم عليه حدوث حكم الله تعالى، وإن لم يحكم له بحكمها لزم عليه مفارقة الصفة (النفسية) لموصوفها، والأمران باطلان. قيل له: نقول إن الإرادة متعلقة بالحكم؟ فقال: قد تقرر الخلاف في الإرادة هل هي مؤثرة؟ والتحقيق أنه إن أريد به التعلق التنجيزي فهي/ مؤثرة كالقدرة، ومعنى التخصيص فيها كون الشيء على صفة خاصة في وقت معين، وإن أريد به التعلق الصلاحي فهى غير مؤثرة كالعلم فإنه يتعلق ولا يؤثر وهو اختيار المقترح. قيل لابن عرفة: لعل المراد الحكم التكليفي وهو يسر لاعسر؟ فقال: هذا تخصيص والآية عامة. قيل له: (الحكم) أبدا لايمكن أن يكون إلا مرادا، وليس هناك حكم غير مراد، تعالى أن يكون في ملكه ما لا يريد؟ فقال: الحكم موافق (للارادة) أي مقارن لها لأنه مراد كما نقول العلم مقارن للارادة وليس متعلقا بها. قال ابن عرفة: الجواب عن الإشكال لا يكون إلا بأنّ (يشرب) يريد معنى يحكم أي يحكم الله عليكم باليسر لا بالعسر ولا سيما إن قلنا: إن تكليف ما لا يطاق غير جائز أو جائز غير واقع. فإن قلت: قوله {يُرِيدُ الله بِكُمُ اليسر} عام فيقتضي عموم متعلق الإرادة باليسر. فقوله تعالى: {وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العسر} تأكيد فلا فائدة له. قلنا: {يُرِيدُ الله بِكُمُ} ليس جملة مثبتة، فهي مطلته لا تعم، {وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ}، (فعل منفي) فيعم. قال: والعسر واليسر (تجنيس) مختلف مثل {وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْئَوْنَ عَنْه}

186

قال ابن عطية: وقال مجاهد (والضحاك): اليسر الفطر في السفر والعسر الصوم في السفر. قيل لابن عرفة: يلزم أن يكون الصوم في السفر غير مأمور به. فقال: هذا مذهب المعتزلة، لأنهم يجعلون الأمر نفس الإرادة وإنّما معنى الآية: يريد الله بكم إباحة الفطور ولا يريد بكم وجوب الصوم. لأن الوجوب والإباحة قسمان من أقسام الحكم الشرعي. قلت: وتقدم في الختمة الأخرى لابن عرفة أنه لا يمكن أن تحمل الإرادة هنا على حقيقتها لأنّ المريض (الذي) بلغ الغاية في المرض والمحبوس المعسر بالنفقة، قد أريد بهم العسر فترجع الإرادة إلى باب التكليف وقد قال {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِي الدين مِنْ حَرَجٍ} قوله تعالى: {وَلِتُكْمِلُواْ العدة وَلِتُكَبِّرُواْ الله على مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}. منهم من قال: إنه أمر. قيل لابن عرفة: قول الله جل جلاله {فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} يغني عنه لأنه يفيد أنه (يقضي) أياما على عدد ما فاته؟ فقال: أفاد هذا الأمر بإكمالها وهو الإتيان بها على وجهها موفاة كما قالوا: إنّ (الصائم) يأخذ جزءا من أول الليّل في أول النّهار وجزْءا من آخره يتحرّاه لأنه مما لا يتوصل إلى الواجب إلا به. قوله تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ ... }. قال ابن عطية: قال عطاء لما نزلت {وَقَالَ رَبُّكُمْ ادعوني أَسْتَجِبْ لَكُمْ} قال قوم: في أي ساعة ندعو؟ فنزلت. (وروى أنّ أعرابيّا قال: يارسول الله أقريب ربّنا فنناجيه أم بعيد فنناديه فنزلت). قال ابن عرفة: هذا يوهم اعتقاد التجسيم والجهة وهو صعب. وقد كان بعض الناس يستشكله فكنت (أقرّبه) له بالمثال، فنقول له: لو فرضنا رجلا لم يشاهد قطّ في عمره إلا الحيوان الماشي على الأرض فإنه إذا سئل عن حيوان يطير لا هو في السماء ولا هو في الأرض بل بينهما بالفضاء فإنه يظن ذلك محالا، وكذلك النملة لو كان لها عقل وسئلت عن ذلك لأحالته. وظاهر ما ذكروا في سبب نزول هذه الآية أن لفظ «عِبَادِي» عام ولكن آخر الآية يدل على أنه خاص بالمؤمنين. وقوله «فَإِنِّي قَرِيبٌ» قال أبو حيان: أي فاعلم أني قريب.

قال ابن عرفة: لأن الأمور الواقعة الموجودة لا يصح ترتيبها على الشّرط إلا على مَا ذكر المنطقيون في القضية الاتفاقية مثل كلّما كان الإنسان ناطقا كان الحمار ناهقا هي لا تفيد شيئا. قوله تعالى: {أُجِيبُ دَعْوَةَ الداع إِذَا دَعَانِ ... }. قال ابن عرفة: «أُجِيبُ دَعْوَةَ الداع» فيه سؤالان: الأول: ما الفائدة في زيادة لفظ «دعوة» مع أنه مستغنى عنه؟ قيل له: إنّه إذا أجاب الدّعوة الواحدة فأحرى أن يجيب الدّعوات (المكررة المؤكدة)؟ فقال: العكس أولى لا، إذ لا يلزم من أجابة الدعوة الواحدة إجابة الدعوات. قال: وعادتهم يجيبون عنه بأنّ «أجاب» تطلق على (الإجابة) بالموافق والمخالف و «استجاب» خاص بالموافق، فلو قال: أُجِيبُ الدّاعِي، لأوهم العموم، وقوله «أُجِيبُ دَعْوَةَ الداع» صريح في الإسعاف بالمقصود، كما نقول: أجيب طلبة فلان وأجيب دعوته، أي أسعفه بمطلوبه. السؤال الثاني: ما الفائدة في قوله «إِذَا دَعَانِ» مع أنّه أيضا مستغنى عنه. قال ابن عرفة: وعادتهم يجيبون بأنّ الدّعاء على قسمين دعاء بنية وعزيمة، والداعي مستجمع لشرائطه، ودعاء دون ذلك، فأفاد قوله «إِذَا دَعَانِ» إجابة الداعي بنية وحضور. وذكروا أنّ الدّعاء على أقسام فالمستحيل عقلا والمحرم لا يجوز، وكذلك الدعاء بتحصيل الواجب لأنه من تحصيل الحاصل، وكذا قالوا في قوله تعالى {وَلاَ تعتدوا إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ المعتدين} أي المعتدي في الدعاء بالمستحيل عقلا كالدعاء بالجمع بين النقيضين وأما المحال في/ العادة كالطيران في الهواء والمشي على الماء فمنهم من أجازه ومنهم من منعه. والمختار عندهم أنه إن كان في الداعي أهلية لذلك وقابلية له جاز له الدعاء وإلا لم يجز كدعاء شيخ ابن ثمانين سنة أن يكون فقيها عالما، ودعاء رجل من سفلة الناس بأن يكون ملكا. قلت: في الجامع الثالث من العتبية قال الإمام مالك رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: صلى رجل في المسجد ثم انصرف ولم يدع كثيرا فدعاه عروة بن الزبير رَضِيَ اللَّهُ عَنْه فقال له (أما) كانت لك حاجة عند الله. والله إني لأدعو الله في حوائجي حتى في الملح. قال الإمام ابن رشد: الدعاء عبادة فيها الأجر العظيم استجيب أَمْ لا، لأنه لا (يجتهد) في الدعاء إلا بإيمان صحيح ولن يضيع له عند الله. قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «ما من داع يدعو إلاّ كان بين إحدى ثلاثة: إما أن يستجاب له، وإمّا أن يدّخر له، وإمّا أن يكفر عنه» إلاّ أن هذا الحديث ليس فيه ما يدل

عنه على أنه لا يدّخر له ولايكفر عنه إذا استجيب له لأن معناه: إلا كان بين إحدى ثلاثة، إما أن يستجاب له مع أن يدخر له أو يكفر عنه مع أن يستجاب له. وفي شرح الأسماء الحسنى للشيخ ابن العربي: الدّعاء لغة الطّلب. «اغفر لنا»، ويطلق على النداء وعلى الترغيب مثل: {والله يدعوا إلى دَارِ السلام} وعلى التكوين مثل: {ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِّنَ الأرض} قوله تعالى: {فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي ... }. قال الزمخشري: فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي، إذا دعوتهم إلى الإيمان والطاعة. قال ابن عرفة: يلزم التكرار في الآية لغير فائدة، والتقديم والتأخير لأن الطاعة مُتأخرة عن الإيمان وما معناه عندي: أَلاَ فلينظروا في الأدلة التي ترشدهم للايمان ويؤمنوا بالفعل. قيل لابن عرفة: هذا إذا قلنا إن ارتباط الدليل بالمدلول عادي أمّا إن قلنا: إنه عقلي فيجري فيه تحصيل الحاصل لأنّهم إذا نظروا آمنوا فلا فائدة في أمرهم بالإيمان؟ (فقال): إنّما (أمروا) بالإيمان قبل كمال النظر كما تقول لغيرك: انظر في كذا واعلمه، فإنما أمرته بالعلم قبل أن يحصل منه النظر. قوله تعالى: {لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ}. أي لعلهم يحصل لهم الفوز والفلاح، وليس المراد لعلهم يهتدون (بطريق) الفوز لأنه من تعليل الشيء بنفسه. قلت: وجدت هذه الآية في ميعاد القاضي أبي علي عمر بن عبد الرفيع فنقلوا عن ابن الخطيب أن الجواب (هنا): وقع بالفاء فقط إشارة إلى أنه قريب مطلقا وقربه من العبد مع الدعاء لا يعقبه، وقيل: أمر محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بأن يقول لهم ذلك (وب «قل» وحدها) في {وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الروح قُلِ الروح مِنْ أَمْرِ رَبِّي} (وبهما) معا في {وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الجبال فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً} الآية، ونسفها إعدامها إشارة إلى الأمر بالمبادرة بالجواب عقب السؤال ردا على من قال بقدمها لأن ما ثبت قدمه استحال عدمه. ونقلوا عن أبي حيان أنّ التقدير «فَقُلْ إنِي قَرِبٌ» لأنه لا يترتب على الشرط القرب بل الإخبار عن القرب، فقال الحسّاني: لا حاجة إلى إضمار «قُلْ» وقد أبدى ابن الخطيب حكمه ذلك. فقال بعضهم: لعل مراد أبي حيان أن هذا شرط والشروط اللّغوية أسباب عقلية والسبب العقلي يلزم من وجوده الوجود، ومن عدمه العدم، فليزم إذا عدم السؤال أن يعدم مطلق

187

القرب. فأجاب الطالب: بحديث: «من أحيا أرضا ميتة فهي له» قالوا فيه: إنه قد تصير له بالملك من غير إحياء فترى الإحياء انعدم والملك موجود. فرد عليه ابن التلمساني في المسألة السادسة من باب الأوامر قال: قال (مالك) في الإحياء إنه غير موجود وإنّما الموجود ملك الشراء. قوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصيام الرفث إلى نِسَآئِكُمْ ... }. قال الزمخشري: إن قلت لم كنّى الجماع بالرفث الدال على القبح أي على معنى القبح بخلاف قوله {وَقَدْ أفضى بَعْضُكُمْ إلى بَعْضٍ} وقوله {فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ} وأجاب عن ذلك بأن ذلك تقبيح لما صدر منهم قبل الإباحة، كما سماه (اختيانا). ابن عرفة: والجواب عندي بعكس هذا وهو أنّه مبالغة في الإباحة والتحليل فعبر عنه باللّفظ الصّريح حتى لا يبقى عندهم فيه شك ولا توهم بوجه. قال ابن عرفة: وعدّي الرفث بإلى لتضمنه معنى الإفضاء. وقال ابن جني في سر الصناعة في مثل هذا: إنّ الرفث يتعدّى بالباء والإفضاء بإلى فذكر الرّفث ولم يذكر معموله، وذكر معمول الإفضاء ولم يذكر عامله إشعارا بإرادة الجميع وأن الكل مقصود بالذكر. قوله تعالى: {هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ ... }. ابن عرفة: ليس هذا من (النّسب) المتعاكسة مثل: زيد أخوك وأخوك زيد، إذ لا يلزم من كونهنّ لباسا للرّجال أن يكون الرجال لباسا لهن وهذا تأكيد في التحليل. قوله تعالى: {عَلِمَ الله أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ ... }. قال ابن عرفة: هذا من باب القلب مثل كسر الزجاج الحجر لأنّ النفس هي الخائنة قال تعالى {إِنَّ النفس لأَمَّارَةٌ بالسوء}

قوله تعالى: {وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي المساجد ... }. ابن عطية: قال: الإمام مالك/ الاعتكاف إلا في مساجد الجماعات. وروي عنه أن ذلك في كل مسجد. ابن عطية: وروي عنه أنّ ذلك في كل مسجد من المساجد. ابن عرفة: لو نذر أن يعتكف فإنه يجزيه عند مالك الاعتكاف في أي مسجد أراد ويخرج به من العهدة وشرط الجامع غير واجب. وكذا قال الشيخ ابن العربي عن الإمام مالك رَضِيَ اللَّهُ عَنْه. قوله تعالى: {تِلْكَ حُدُودُ الله ... }. الإشارة (راجعة) إلى الأحكام أو إلى النواهي المتقدمة. قوله تعالى: {فَلاَ تَقْرَبُوهَا ... }. نهى عن القرب لحديث «الراتع حول الحمى يوشك أن يقع فيه». قيل لابن عرفة: تقرر أن اتقاء الشبهات غير واجب بل مستحب؟ فقال: هي أقسام: مظنون، ومشكوك فيها، ومتوهمة، فالوهم مرجوح، والظن راجح فينتج وجوب الاجتناب، والشك فيه خلاف (ومحمل النهي) في الآية على تحريم المظنون والمشكوك فيه وقال في الآية الأخرى: {تِلْكَ حُدُودُ الله فَلاَ تَعْتَدُوهَا} ابن عرفة: يحتمل أن تكون تلك قبل هذه فنهينا أولا عن تعدي الحدود، ثم نهينا ثانيا عن قربها؛ أو يكون الأمر الأول للعوام والثاني للخواص. وأجاب أبو جعفر الزبير بأن قرب النساء بالمباشرة يدعو إلى المواقعة فقل من يملك نفسه، فنهى عن القرب ونظيره: {وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حتى يَطْهُرْنَ} {وَلاَ تَقْرَبُواْ الزنى} ولذلك منع المحرم من الطيب. فإن قصد البيان العام الفارق بين الحلال والحرام لم ينه عن المقاربة بل عن التعدي فقط، مثل {الطلاق مَرَّتَانِ} الى قوله {فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افتدت بِهِ تِلْكَ حُدُودُ الله فَلاَ تَعْتَدُوهَا} فحرم أموالهم على الأزواج بغير حق ما لم يقع نشوزٌ أو ما يمنع عن القيام بحقوقهم. وأجاب بعضهم بأنّ تلك تقدمها «الطلاق مَرَّتَانِ» وهو أمر مباح، فناسب النهي عن تعديه لا عن قربه، وهذه تقدمها النهي عن المباشرة وهو محرم فناسب النهي عن قربه. قوله تعالى: {يُبَيِّنُ الله آيَاتِهِ ... }.

188

قيل لابن عرفة: هذا يؤخذ منه أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ غير مجتهد؟ فقال: الآيات هي القرآن والمعجزات، وأما السنة كلها فلا تسمى آيات. قوله تعالى: {وَلاَ تأكلوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بالباطل وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى الحكام ... }. قيل لابن عرفة: إن المازري حكى في تعليقه عن الشعبي أنّ الفقيه إذا علم من نفسه أنه ما في بلده من يصلح للفضل غيره فلا بأس أن يتسبب في الولاية ويعطي عليها الأجرة والرّشوة لولاة الأمر؟ فأنكره ابن عرفة وقال: هذا من أكل المال بالباطل والمشاركة فيه على الخطإ والّذي أدركت القضاة عليه أن بعضهم كان يتسبب في ذلك بالكلام فقط. وقد قسّم المازري في شرح التلقين القضاء على أربعة أقسام: مندوب ومكروه وحرام وواجب، ولم يذكر هذا بوجه ولو كان جائزا لذكره. قيل لابن عرفة: وقال المازري في تعليقه: إنّه كان ببلدهم مفتيان أحدهما يطلب الأجر على الفتوى، والآخر لا يأخذ أجرة فأجاز ذلك (شيخنا) عبد الحميد الصائغ ومنع ذلك الشيخ أبو الحسن علي اللخمي. فقال ابن عرفة: وكان بتونس الفقيه أبو علي ابن علوان يأخذ الأجرة على الفتوى ممن يستفتيه. وحكى الشيخ أبو الحسن محمد البصريني قال: أخبرني أبو العباس سيدي أحمد بن فرحون اليقربي أنّ رجلا من أصحابه كان يهدي إليه كل عام خروفين وزنبيلين فولا، وزيرين لبنا فيعطي لسيدي الشيخ الصالح أبي محمد المرجاني نصف ذلك ويأخذ هو نصفه، فجرت على الرجل مظلمة فتسبّب له الشيخ المرجاني في زوالها فأهدى ذلك العام للشيخ ابن فرحون مثله ما عادته يهدي له فبعث نصفه للمرجاني كعادته فأمره أن يقبل منه مقدار العادة ويرد له الزائد على ذلك. قوله تعالى: {بالإثم ... }. إما مصاحبين للاثم أو بسبب اقتراف الإثم، أو بسبب الإثم. وجعل الإثم على هذا كأنه السبب في ذلك الفعل تقبيحا له وتنفيرا منه. قوله تعالى: {وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ}. تنبيها على أنّ الجاهل لايناله ذلك (أو) أنّ ذلك لايقع إلا على هذه الصفة فلا يقع من الجاهل بوجه. قوله تعالى: {يَسْئَلُونَكَ عَنِ الأهلة قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ والحج ... }.

190

أي عن حال الأهلة. وجمع الأهلة إما لتعددها بتعدد الأشهر أو لاختلاف أحواله وإن كان واحدا فهو كالمتعدد. قال ابن عطية: الهلال ليلتان بلا خلاف، وقيل ثلاث. الأصمعي هو هلال حتى يحجّر، ويستدير له كالخيط الرقيق. وقيل: هو هلال حتى (يعم ضوؤه) السّماء وذلك ليلة سبع. وأنشد الآمدي شاهدا على ذلك لاختلاف أحواله. قال ابن عرفة: وجواب السؤال في القرآن كله بغير «فاء» مثل {وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ المحيض قُلْ هُوَ أَذًى} ومثل {يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشهر الحرام قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ} {وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ اليتامى قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ} إلا قوله {وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الجبال فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً} قال ابن عرفة: وعادتهم يجيبون بأن الكل أمور دنيوية فالسؤال عنها ثابت واقع في الوجود/ وقوله «وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الجبال» فأمر أخروي والكفار منكرون للبعث فالسؤال غير واقع لكنه مقدر الوقوع في المستقبل أي إِنْ «(يَسْأَلُوكَ) عَنِ الجِبَالِ»، فهو جواب لشرط مقدر فحسنت فيه الفاء. قال ابن عرفة: وهذا على سبيل الإعراض عن الشيء والإقبال على غيره، لأنهم سألوا عن سبب تغيير الهلال ونقصه وزيادته في أيام الشهور، فأجيبوا بالسبب عن ذلك ونتيجته. وأنّ فائدة ذلك معرفة أوقات الناس، وأوقات الحج، أي ذلك سؤال عما لا (يعني) فلا حاجة لكم بالجواب عنه، وإنما حقكم أن تسألوا عن نتيجته وهو كذا. قوله تعالى: {وَلَيْسَ البر بِأَن تَأْتُواْ البيوت مِن ظُهُورِهَا ... }. كانوا إذا حجوا واعتمروا يلتزمون أن لا يحول بينهم وبين السماء شيء فيدخلون بيوتهم من خلفها ينقبون الحائط أو من سقفها أو يطلعون بسلم على السطح فينزلون في وسط الدار، وهذا عند ابتداء الدخول فإذا تكرر ذلك تركوه. قوله تعالى: {وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله الذين يُقَاتِلُونَكُمْ ... }.

191

قلت لابن عرفة في الختمة الأخرى: قاتل مفاعلة لا يكون إلا من الجانبين فما الفائدة في قوله «الذين يُقَاتِلُونَكُمْ» ومعلوم أنّه لا يقاتل إلاّ من قتله؟ فأجاب بوجهين: الأول أنهم لا يقاتلون إلا من بدأهم بالقتال. الثاني: قول الله تعالى: {إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ المعتدين} هذا (النفي) يحتمل أن يكون على الكراهة لأن عدم محبة الشيء لا يقتضي تحريمه لأن المحبّ هذا إما مباح أو مكروه) وإنّما يدل على التحريم الذّم على الفعل وعلى الوجوب الذم على الترك. ويحتمل أن يكون هذا النهي (على) التحريم لأن النحاة قالوا: إذا أردت مدح زيد قلت: حبذا زيد، وإن أردت ذمه قلت: لا حبذا زيد (فسمُّوا) نفي المحبة (ذما). قوله تعالى: {واقتلوهم حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ ... }. هذا (احتراز) لأنه لمّا تقدم الأمر بقتال من قاتل أمكن أن يتوهم أنّه لا يقاتل إلاّ من قاتل، فهذا إما نسخ له أو تخصيص. ابن عطية عن الطبري: الخطاب للمهاجرين والضمير لكفار قريش. واختار ابن عطية أنّ الخطاب لجميع المؤمنين، أي أَخرِجوهم إذا أخرجوا بعضكم. قال ابن عرفة: يلزمه استعمال اللّفظ في حقيقته ومجازه. قيل لابن عرفة: في ظاهر الآية تناف لأن «اقتلوهم حيث ثقفتموهم» يقتضي الأمر باستِئْصالِهِم وعدم إحياًء أحد (منهم) فلا يبق للاخراج محل. وقوله: «وَأَخْرِجُوهُم» يقتضي إحياء بعضهم حتى يتناوله الإخراج. فأجاب بوجهين: الأول منهما: أنّ الاستيلاء عليهم تارة يكون عاما بحيث لا تبقى لهم ممانعة بوجه، فهنا يقتلون وتارة يكون (دون) ذلك بحيث يتولّى المسلمون على وطنهم (ويمتنعون) هم منهم في حصن ونحوه، حتى لا يكون لهم قوة على المسلمين ولا للمسلمين قدرة على قتلهم فهنا يصالحونهم على أن يخرجوا لينجوا بأنفسهم خاصة. انتهى. الثاني: أنهم يخرجون أولا ثم يقتلون بعد الإخراج والواو لا تفيد رتبة ففي الآية التقديم والتأخير.

192

قال ابن عرفة: في الآية عندي إيماء إلى كون فعل الطاعة إذا (وافق) غرضا دنيويا فلا يقدح ذلك فيه ولا ينقص ثوابه لقوله: {مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ}. قلت: وتقدم لنا في الختمة الأخرى عن ابن عرفة أنه تقرر أن الإمام مخير في الجهاد بين ثلاثة أشياء: إما القتل، وإما الفدية وإما الأسر، والآية تقتضي تحتم القتل من غير تخيير. وأجاب بأنه قد يكون تخصيصا. قوله تعالى: {فَإِن قَاتَلُوكُمْ فاقتلوهم ... }. وقرىء «فَإِن قَتَلُوكُمْ» أي فإن قتلوا بعضكم أو فإن أرادوا قتلكم، وقول الله جل جلاله: {كَذَلِكَ جَزَآءُ الكافرين} بعد أن قال {وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ المسجد الحرام حتى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ} فظاهره أن الكافرين ليس لهم (جزاء إلا هذا، مع أن جزاءهم) أن يقاتلوهم حيث (ثقفوهم) حتى يُسلموا، فيجاب بهذا إما منسوخ أو مخصوص. قوله تعالى: {فَإِنِ انتهوا فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ}. إما أن يراد إنّ انتهوا عن الكفر فالله غفور رّحيم {قُل لِّلَّذِينَ كفروا إِن يَنتَهُواْ يُغْفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ} وإن انتهوا عن قتالكم، فالله غفور لكم في ترككم قتالهم، أو غفور لهمْ بالستر على نسائهم وعلى صبيانهم من كشفكم لهم وسبيكم (إياهم). قوله تعالى: {وَيَكُونَ الدين لِلَّهِ ... }. في الأنفال: {وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} وأجاب بعضهم: بأن هذه في قتال كفار قريش وتلك في قتال جميع الكفار لأن قبلها {قُل لِّلَّذِينَ كفروا إِن يَنتَهُواْ يُغْفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ} فالمراد في آية البقرة ويكون الدّين (الّذي) هم عليه لله ودينهم بعض الدين لا كله بخلاف آية الأنفال. قال ابن عرفة: هذا (ينتج) له العكس لأن الأمر بقتال جميع الكفار يقتضي أنّ المراد صيرورة جميع الدّين لله فلا يحتاج إلى التأكيد بكل، والأمر بقتال بعضهم لا يقتضي ذلك فهو أحق أن يؤكد (بكل). قوله تعالى: {الشهر الحرام بالشهر الحرام ... }.

195

ابن عطية: عن ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه وجماعة (صد) النبي عن البيت سنة ست ودخلها سنة سبع فنزلت آية: «الشهر الحرام» الذي دخلتم فيه الحرم «بالشهر الحرام» الذي صدوكم فيه عنه. وقال الحسن بن أبي الحسن البصري: سأله الكفار هل يقاتل في الشهر الحرام؟. فقال: لا، فهمُّوا بالهجوم عليه فيه فنزلت، أي هو عليكم كما هو عليهم إن تركوا فيه القتال فاتركوه وإلا فلا. قال ابن عرفة: الأول: بناء على أنهما شهران من سنتين، والثاني: على أنه شهر واحد من سنة واحدة وتعدده لأجل تعدد حالاته. قوله تعالى: {فاعتدوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعتدى عَلَيْكُمْ}. قال ابن عرفة: فاعتدوا اعتداء جائزا شرعيا فلا يجوز لمن زني بأخته أو ابنته أن يزني بأخت الزاني أو ابنته. قوله تعالى: {وَأَنْفِقُواْ فِي سَبِيلِ الله ... }. قال ابن عرفة: (هو عندي يتناول النفس والمال، أي أنفقوا ما يعز عليكم في سبيل الله) لقول الزمخشري في غير هذا: إن المفعول قد يحذف قصدا للعموم. (قلت: أظنّه ذكره في قوله تعالى {فَأَمَّا مَنْ أعطى واتقى} قوله تعالى: {وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التهلكة ... }. قل الزمخشري: الباء زائدة أي لا تجعلوا التهلكة آخذة بأيديكم مالكة لكم، والمعنى النهي عن ترك الإنفاق في سبيل الله لأنه سبب الهلاك أو عن الإسراف في النفقة حتى (يفقر) نفسه ويضيع عياله. قلت لابن عرفة: إن أريد النهي عن ترك الإنفاق في سبيل الله يكون في الآية دليل على أن الأمر بالشيء ليس نهيا عن ضده إذ لو كان قوله {وَأَنفِقُواْ فِي سَبِيلِ الله} ملزوما للنهي عن ترك النفقة (في سبيل الله) لما احتيج إلى قوله {وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التهلكة}؟ فقال لي: إن قلنا إن الأمر يفيد التكرار فيتم ما قلت، وإن قلنا إنه لا يفيده فيقال إنه مطلق والمطلق يصدق بصورة، فمهما أنفق في سبيل الله ولو مرة واحدة كان ممتثلا. وأتى بالنهي بعده ليفيد التكرار. قوله تعالى: {وأحسنوا إِنَّ الله يُحِبُّ المحسنين}.

196

أي ببذل المال المتطوع، أو يراد به الإحسان الذي في حديث القدر «وهو أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك» وقوله {إِنَّ الله يُحِبُّ المحسنين} أبلغ من قوله إن الله (مع)، لأن قولك: زيد يحب بني فلان أبلغ من قولك زيد مع بني فلان لأنه قد يكون معهم ولا يحبهم، قال الله تعالى {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ.} قوله تعالى: {وَأَتِمُّواْ الحج والعمرة لِلَّهِ ... }. (نقل ابن عطية فيه أقوالا منها) قيل: إِتْمَامُهَا أن يحرم بهما قارنا. قال ابن عرفة: فالواو بمعنى «مع» والظاهر أن الإتمام الإتيان بالحج مستوفى الشرائط على كل قول. فإن فرعنا على أنّ الإحرام من الميقات أفضل فإتمامه أن لا يتعدى الميقات إلا محرما وكذلك في كل أفعاله. وذكر ابن عطية واجباته فأسقط منها طواف الإفاضة مع أنّه فريضة إن تركه بطل حجه، ولا يجزيه عنه طواف القدوم متصلا بالسعي. قال ابن عرفة: وتقدم في قول الفخر في المعالم: إن اللّفظ إما أن يعتبر بالنسبة إلى تمام مسماه وهو المطابقة أعتقد أن: أحدهما: قال ابن التلمساني التمام يشعر بالتركيب، فيخرج عنه البسائط كالنقطة والوحدة. وهو يوافق قول من فسر الإتمام بما هو قبل الدخول، وهو بأن تأتي بهما مفردين (أو قارنا). الثاني: قلنا نحن: أراد أن يحد المطابقة بحد التضمن إذ لا يتناول كلامه إلا الجزء الأخير الذي يتم به المركب وهذا موافق القول بأن إتمامهما أن يتمهما بعد الدخول فيهما، ولا يفسخ عنهما حسبما نقله ابن عطية.

قال ابن عرفة: وإن أريد الإفراد أو القران فالآية دالة على وجوبهما بصيغة: افعل. قوله تعالى: {وَلاَ تَحْلِقُواْ رُءُوسَكُمْ حتى يَبْلُغَ الهدي مَحِلَّهُ ... }. قال ابن عرفة: انظر هل تدلّ على وجوب الحلق بالنص أو باللّزوم. كان بعضهم يقول: إنّه بالنّص ولولا ذلك لما ورد النهي عن الحلاق (مقيدا) ببلوغ الهدي محله. قوله تعالى: {فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِّن رَّأْسِهِ ... }. قال ابن عرفة: «مِن رَّأْسِهِ» صفة «لأَذى» ولا يصح رجوعه للجميع كالاستثناء وسائر القيود إذا تعقب جُملا لأن المرض مبيح للرخصة مطلقا سواء كان بالرأس أو بغيره. قوله تعالى: {فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الحج ... }. قال ابن عرفة: أي إن وجد من يسلفه، فإن لم يجد من يداينه إلا بالربح لم تلزمه الفدية. وقرىء «فصيامَ» بالنّصب. قال أبو حيان: أي فليصم صيام أو فليلزم صيام. قال ابن عرفة: عادتهم (يعربونه) منصوبا على (الإغراء)، قيل له ذلك (قليل) جدا. أبو حيان: «إذَا رَجَعْتُمْ» قيل العامل في «إذا» «صيام» ورده ابن عرفة: بِأَنّه يلزم أن يكون صوم الثلاثة بعد الرجوع والفرض أنه قبل الرجوع إلا أن يجاب بأنّ يكون مثل: عندي درهم ونصفه، فالمعنى فيصوم سبعة إذا رجع، فيكون «صِيَامُ» عاملا فيه لفظا لا معنى. قيل (له): يلزمك على هذا الجواب العطف على عاملين، وصيام سبعة (إذا رجع) بعطف «صيام» على «صيام» «وإذا» على قوله «فِي الحَجّ». فقال: إنما هو عامل واحد فقط. قلت: وقال الأستاذ أبو العباس أحمد بن القصار: (العامل) / «صيام»، كما قال أبو حيان باعتبار لفظ المطلق والمعنى يبنه كما تقول: أكرم في الدار زيدا. أو في السوق عمرا أو لو لزم كون الثلاثة بعد الرجوع لتناقضت الآية ولكان يلزم أن يكون السبعة في الحج لأنه كما (تجعل) إذا رجعتم قيدا في صيام الجميع فاجعل «في الحج» أيضا قيدا في صيام الجميع. هذا إذا جعلنا «في الحَجّ» و «إِذَا رَجَعْتُمْ» متعلقين ب «صيام». قال: والصواب عندي غير هذا. وهو أن يكون، «إذَا رَجَعْتُمْ» صفة ل «سبعة»، فالسبعة ظرف زمان فيصح وصفها بظرف الزمان ويكون في الحج أيضا صفة ل «ثلاثة». قوله تعالى: {تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ... }.

قال ابن عرفة: (أحدُ تفسيري) ابن عطية بناء على أنّ أسماء الأعداد نصوص، والآخر على أنّها ليست كذلك. وأورد الزمخشري هنا سؤالين: أحدهما عن الإتيان بالفذلكة وهي لفظ «تِلْكَ» وأجاب بثلاثة أوجه. قال بعض الطلبة: فيبقى السؤال لأيّ شيء لم يقل: فهي عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ؟ فقال ابن عرفة: «تِلْكَ» القصد بها التعظيم. قال ابن عرفة: وعادتهم يجيبون بأن القاعدة أنّ الصوم المتتابع أعظم ثوابا من المفرّق، فقد يتوهّم بتفريقها أن ثوابها أقل من ثوابها لو كانت مجموعة (فأشار بقوله «عشرة» إلى أن ثوابها على هذه الصفة أعْظَمُ من ثوابها لو كانت مجموعة فرعا عن أن) يكون مثله ولذلك قال: «كاملة». قيل لابن عرفة: وأشار إليه مكي. قال ابن عرفة: وعادة الشيوخ يحكون عن ابن الحاجب أنه قال: في قول الأصوليين: إن عمومات القرآن كلها مخصوصة (إلا قوله: {والله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} أنهم كان ينبغي أن يمثلوه بآية تقتضي حكما من الأحكام الشرعية) كقول الله تعالى {وَلاَ تَنكِحُواْ المشركات حتى يُؤْمِنَّ} الآية ونحوه. وكان الشاطبي يرد عليه بما إذا كان الولي مسلما والزوجين مشركين فإن ظاهر عموم الآية المنع من إنكاحهما مع أنّه جائز فيكون عمومها مخصوصا (بهذا). قيل لابن عرفة: هل المراد ولا تنكحوا المشركين المؤمنات؟ فقال: هذا تخصيص. قال ابن عرفة: وهذه الآية عندي من العام الباقي على عمومه إلا أن يجاب بأنه مخصوص بالمرض فإن المريض لا يقدر على الصيام ولو كانت باقية على عمومها للزم في المريض أن يؤمر بالقضاء وليس كذلك. قال أبو حيان: فِي الحَجّ: في وقت الحج، فيجوز عنده الصيّام قبل أن يحرم بالحج وبعده. وقيل: في وقت أفعال الحج فلا يجوز الصوم إلاّ بعد الإحرام. قال ابن عرفة: لا يحتاج إلى هذا لأن قوله «فِي الحَجّ» يَدُل عليه لأن الحج بذاته فعل والصوم فيه.

197

قيل لابن عرفة: ليس الصوم فيه؟ فقال: الحج بنفس أن يحرم فيه ينسحب عليه حكمه (فالثلاثة) الأَيَّامُ هي في الحج حكما. قوله تعالى: {ذلك لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي المسجد الحرام ... }. قال ابن عرفة: يؤخذ فيمن له أهل بمكة وأهل بغيرها. فقد قال الإمام مالك رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: إنها من مشبَّهات الأمور يؤخذ منه أن حكمه حكم الحاضر بدليل قول (مالك) في المسافر: إذا سافر ومر ببلد له فيها أهل فإنه يتمّ الصلاة كالمقيم. قوله تعالى: {واعلموا أَنَّ الله شَدِيدُ العقاب}. دليل على أنّ الطلب المتقدم قبل هذا كله للوجوب. قوله تعالى: {الحج أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ ... }. ابن عطية: أي وقت الحج أشهر. ابن عرفة: أو الحج ذو أشهر كقولهم: زيد عدل أي ذو عدل. ابن عرفة: وعادتهم يوردون في هذا تشكيكا وهو أن هذه القضية، إمّا صادقة أو كاذبة وكلاهما باطل، أمّا بطلان الثاني فظاهر وأمّا الأول فلأنّها إذا كانت معلومة كان الإخبار بها غير مفيد إذ هو تحصيل الحاصل كقولك هذا (الشهر) معلوم. والجواب أن المعلوم قسمان: باق على أصله ومعلوميته لم يقع فيه (تغيير) بوجه، ومعلوم غير عن وضعه وهذا منه، كما قالوه في النسيء: فإنهم كانوا (يؤخرون) المحرم لصفر ويجعلونه كذلك عاما بعد عام حتى كانت حجّة أبي بكر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه في ذي القعدة سنة تسع، وحجّة سيّدنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أعني حجة الوداع في ذي الحجة ولذلك قال في خطبته: «إن الزّمان قد استدار كهئته يوم خلق الله السماوات والارض» فاقتضت الآية أنّ (الحجّ) هو الأشهر المعلومات (الأصلية) التي ليس فيها ذلك (التغيير). (والجواب الثاني) بأن فائدة ذلك التنبيه على هذه الأشهر المعلومة بالحج كما هو في شرع من قبلنا هي في شرعنا. ورده ابن عرفة بأنّ اللّفظ لا يقتضى ذلك. قال ابن عرفة: فإن قلت: ما فائدة (العدول) عن الحقيقة إلى المجاز في الإخبار بظرف الزمان عن المصدر مثل: زيد عدل؟ فأجاب عن ذلك بأن عادتهم يقولون: (فائدته) التنبيه

على مفارقة الصلاة / فإن الصلاة الفائتة تقضى في غير وقتها، والحج لا يقضى إلا في هذه الأشهر فجعلت كأنها هي نفس الحج لملازمته لها. قال ابن عطية: وأشهر الحج، شوال، وذو القعدة، وعشر ذي الحجة، حكاه الشيخ ابن حبيب عن الإمام مالك رَضِيَ اللَّهُ عَنْه وترك قولين آخرين في المذهب: أحدهما: أنّه شوال وذو القعدة وذو الحجة، والثاني أنه شوال وذو القعدة وعشر ذي الحجة وأيام الرمي. قوله تعالى: {فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الحج ... }. نقل الفخر في المحصول عن أبي الدّبوسي من (الحنفية): أن الفرض ما نشأ عن دليل قطعي لأنه مأخوذ من الفرض في (الخشبة)، والواجب ما نشأ عن دليل (ظني) لأن الوجوب في اللغة السقوط. قال الله تعالى {فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُواْ مِنْهَا وَأَطْعِمُواْ القانع والمعتر} ولذلك يقولون: هذا واجب وجوب السنن ولا يقولون: هذا فريضة فرض السنن. قال ابن عرفة: فإن قلت لم أعيد لفظ الحجّ مظهرا، وهلا قيل: فمن فرضه فيهن؟ فأجاب عن ذلك بأنه لو قيل كذلك لكان فيه عود الضمير على اللفظ لا على المعنى مثل: عندي درهم ونصفه لأن الحج الأول مطلق يصدق بصورة فيتناول حج زيد وعمرو بالتعيين الواقع منهما وحجمها القابل لأن يفعلاه. وقول الله جل جلاله: {فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الحج} مقيد بحج كل واحدٍ واحدٍ بعينه، والشخص المعين (حجه مقيد لا) مطلق، فلذلك أعيد لفظ الحج مظهرا فيتناول الفرض والتطوع. قيل لابن عرفة: ما الفرق بين (جواز تقديم) إحرام الحجّ على أشهر الحج ومنع تقديم إحرام الصلاة على وقتها؟ فقال: الإحرام قسمان منقطع ومستصحب، فالمنقطع كتكبيرة الإحرام والمستصحب النية، فالنية يصح تقديمها على الوقت لأنها لايزال حكمها منسحبا على المصلي في جميع أجزاء صلاته ولا يصح تقديم تكبيرة الإحرام لانقطاعها بالفراغ منها، ونظيره هنا السعي، لا يجوز تقديمه على أشهر الحج. وأما نية الإحرام والتوجه فهو مستصحب فيصح تقديمه على أشهر الحج. وفرقوا بين إحرام الصلاة وإحرام الحج بأنّ إحرام الصلاة متيسر (لا مشقة) فيه فامتنع تقديمه وأمر المقدم له بإعادته واعتقاد وجوبه بخلاف إحرام الحج.

198

قوله تعالى: {فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الحج ... }. نقل ابن التلمساني في شرح المعالم الفقهية عن الإمام مالك رضي لله عنه: إنّ أقل الجمع اثنان، وقال الباجي في الفصول: المشهور عن مالك وعن أصحابه أن أقل الجمع ثلاثة إلا ابن خويز منداد فإنه قال أقله اثنان. واحتج الأولون بقوله: {وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الحرث إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ القوم وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ} وأجيب باحتمال أنْ يريد بالضمير الفاعل والمفعول معا، أي الحاكم المحكوم عليه. وردّه ابن التلمساني بإلزام كون الضمير فاعلا ومفعولا في حالة واحدة فيكون مرفوعا منصوبا، انظر المسألة الخامسة من الباب الثالث. قوله تعالى: {فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ ... }. قال أبو حيان: قرأ الأعمش رفوث. قال ابن عرفة: هو إما جمع بناء على أن جمع المصدر إذا اختلفت أنواعه إما قياسا كما قال ابن عصفور أو سماعا كما قال ابن أبي الربيع وابن هشام، وإمّا مفردا. قلت: مثل قعود ووقوف وكقولك: أقل أفولا، ولزم لزوما، والجمع كالحلوم وأما «رَفَثَ» فمثل قولك وَجِلَ وَجَلا وخَجل خجلا. قوله تعالى: {وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ الله ... }. إن قلت: المتقدم نهي وامتثاله بالترك كما أنّ امتثال الأمر بالفعل، فهلا عقب بأن يقال: وما تتركوا من شيء يَعْلَمَهُ اللهُ؟ قيل لابن عرفة: نقول إن الترك فعل؟ فقال: البحث على أنّه غير فعل. قال: وإنّما الجواب بما قال ابن الحاجب من أنّ نقيض الجلي (جلي)، ونقيض الخفي خفي فالإخبار بأن الله تعالى يعلم الفعل يستلزم معرفته نقيض ذلك وهو الترك وإنّما عدل على التنصيص على ذلك بالمطابقة إلى دلالة الالتزام ليفيد الكلام أمرين، وهو الحض على عدم الاقتصار على ترك ذلك فقط فيتضمن طلب تركه وطلب تعويضه بفعل الخير المحصل للثواب فإنه تعالى عالم بمن يترك ذلك ويفعل الخير فنبه على الترك والفعل. قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ ... }.

سبب نزول هذه الآية أَنَّهم كانو يتوهمون أن سفر الحاج إذا خالطته نية التجارة ينقص من ثوابه أو يوقع في الإثم، فنزلت الآية. وقوله «مِّن رَّبِّكُمْ» دليل على أنّ المراد التجارة بالمال الحلال أما الحرام فلا. قيل لابن عرفة: كله من الله؟ فقال: أما باعتبار القدرة فنعم، وأمّا باعتبار الإذن فلا، والآية خرجت مخرج الإذن ورفع الحرج. ابن عطية: الجناح أعم من الإثم لأنه فيما يقتضي العقاب وفيما يقتضي العقاب والزجر. قال ابن عرفة: والنفي ب (ليس) لما يتوهم وقوعه والإثم كان متوهما وقوعه في سفر الحج للتجارة بخلاف النفي ب (لا). حسبما ذكره المنطقيون في السالبة والمعدومة، مثل: الحائط لا يبصر، وزيد ليس يبصر، أو غير بصير. قوله تعالى: {فَإِذَآ أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فاذكروا الله ... }. ذكر الزمخشري هنا أنّ التاء في (بنت) ليست للتأنيث. قال ابن عرفة: يقال له بل للتأنيث لأن المذكر «ابن» المؤنث «بنت» وعادتهم يجيبون بأن تاء التأنيث لا يكون ما قبلها إلا مفتوحا كفاطمة. أبو حيان: منهم من قال: العامل في «إذا» «فَاذْكُرُوا» قال (وأخذ) من الآية أن جواب «إذَا» لا يعمل فيها لأن مكان إنشاء الإفاضة غير مكان الذكر فإذا اختلف المكان لزم منه ضرورة اختلاف الزمانين فلا يجوز أن يكون الذكر عند المشعر الحرام واقعا عند انشاء الإفاضة. قيل لابن عرفة: نقول: إنه يذكر الله تعالى عند آخر أزمنة انفصاله من عرفات إلى المشعر الحرام، فقال: هذا صحيح لو لم يكن بين المكانين فاصل، وإنما الجواب الذي عادتهم يقولونه: إنّك تقول إذا قدم زيد من سفره فاكرمه بعد قدومه بيوم، فالعامل في «إذا» هو أكرمه مع اختلاف الزمان. قال: عادتهم يقولون: ليس العامل في إذا أكرمته بذاته، بل لاستلزامه معنى فعل آخر يصح عمله تقديره: إذا قدم زيد فاعلم أنّكَ مكلف بإكرامه بعد قدومه بيوم، وكذلك (تفهَم) هذه الآية فلا يتم لأبي حيان الرد بهما على من يقول العامل في «إذا» جوابُها. قوله تعالى: {واذكروه كَمَا هَدَاكُمْ ... }.

199

الأول: ذكرُ الحَجّ، والثاني: ذِكْرٌ مُطْلَقٌ، فهو تأسيس لا تأكيد وقوله: «كَمَا هَدَاكُمْ» الكاف إمّا للتعليل مثل: {وَأَحْسِن كَمَآ أَحْسَنَ الله إِلَيْكَ} قوله تعالى: {وَإِن كُنتُم مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضآلين ... }. قال ابن عرفة: إن قلت هذا تأكيد لأن الهداية تستلزم تقدم الضّلال لها. فالجواب أنّه إنما (كان) يكون تأكيدا (أن) لو قيل: وَإِن كُنتُمْ مِنْ قَبْلِهِ ضَالِّينَ. وهذا أخص لأن قولك: زيد من الصالحين أخصّ من قولك: زيد صالح. قاله الزمخشري في قول الله تعالى {والذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصالحين.} قوله تعالى: {ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ الناس ... }. قال أبو حيان: «ثم» قيل إنّها للترتيب في الذكر لا في الزّمان لتعذره وهذا على (الإفاضة) من عرفات وقيل بمعنى الواو. قال ابن عرفة: لا فرق بينهما لأن الواو كذلك هي أيضا للترتيب في الذكر فالمقدم فيها مقدم في اللفظ لا في المعنى. قيل لابن عرفة: إنّما يريد النحويون بذلك الذكر القلبي بمعنى: أنه لم يستحضر أوّلا غير (الأول) من المعطوفين فلذلك بدأ به فلما نطق به استحضر الآخر وهذا مستحيل في الآية. وذكر الزمخشري أن «ثُمّ» هنا لبعد ما بين الإفاضتين وأن إحداهما صواب والأخرى خطأ كما تقول: أحسن إلى الناس ثم لا تحسن الى غير كريم. قال ابن عرفة: فإن قلت: هلا (قال) ثم أحسن إلى الكريم فيعطف الأمر على الأمر فهو أولى من عطف النهي على الأمر. فأجاب بأنه أراد تحقيق كونها لبعد ما بين الصواب وهو الإحسان إلى الكريم والخطأ وهو الإحسان إلى غير الكريم ولو أتى بالكل أمرا لكانت «ثم» بين الجائز والأولى (ولم) تكن صريحة في البعد والتفاوت. (وزاد) أبو حيان قولين: أحدهما: أنّها للترتيب الزماني والإفاضة (من) جمع.

والآخر: أنها على بابها من الترتيب. وفي الكلام تقديم وتأخير أي وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الألْبَاب ثم أفيضوا. قال ابن عرفة: والفرق بين القولين (الأولين) عندي أن يريد بقوله «ثُمّ» هنا، قيل للترتيب في الذكر، إنّها في هذه الآية خاصة بمعنى الواو، وبالقول الثاني: إنها بمعنى الواو مطلقا والله أعلم. قال ابن عرفة: وعادتهم يقولون: إنّها للتراخي والمهلة فهي على بابها، والمهلة فيها بين الذي يليها فقط والذي يليها هو معطوف على ما قبله بالواو والمشهور في الواو أنّها للجمع من غير ترتيب ولا مهلة، فتكون الجملة الموالية ل «ثم» مراد بها التقديم. والتقدير: «فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُواْ اللهَ كَمَا هَدَاكُمْ» «ثم أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ» و {واذْكُرُا الله عِند المَشْعَرِ الحَرَامِ}. قال ابن عرفة: وهذا معنى سادس لم يذكروه، وهو الذي (ينبغي) حمل الآية عليه. والله أعلم. وقول الله تعالى: {مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ الناس} قرأ ابن جبير (الناسي). أبو حيان: والألف واللاّم قيل للعهد وقيل للجنس فالعهد يريد آدم عليه السلام. (قال) ابن عرفة: كونها للجنس (إما) أن يريد النّاسِي في الحجّ أو بالإطلاق. فالنّاسي في الحج لا إفاضة له لأنه نسي الإفاضة فلا يصح أمرنا له بالإفاضة من حيث أفاض النّاس وإِن أراد الناسي مطلقا، وهو الذي نسي غير هذا أي من حيث أفاض الذي من شأنه النسيان فباطل أيضا، لأن ترتيب الحكم على الاسم (المشتق) (يشعر) بمناسبة معناه للحكم، وعلته له فإذا قلت. أكرم زيدا المصلي، فإكرامه إنما هو لصلاته لا لصدقته. قال ابن عطية: ويجوز عند بعضهم حذف الياء. قال: فأما جوازه في العربية فذكره سيبويه وأمّا جوازه مقروءاً به فلا أحفظه. قال ابن عرفة: وهذا غير صحيح كيف يقول: لا أحفظه وهو شأن الزوائد في القرآن في الاسم والفعل، قال الله تعالى {يَوْمَ يَأْتِ لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ} وقال أيضا {قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ} فقرأ ابن عامر وعاصم وحمزة: «يَأْتِ» «وَنَبْغِ» بحذف الياء وصلا ووقفا. وتعقبه أبو حيان بأن سيبويه لم يجزه إلا في الشعر وجوّزه الفراء. قال ابن عرفة: وعادتهم يقولون: لم عدل في الآية عن دلالة المطابقة وهي حقيقة إلى دلالة الالتزام، وهي مجاز، فعبر بالإفاضة المستلزمة للوقوف، وهلا

200

عبر بالوقوف نفسه فيقول: ثم قفوا من حيث وقف الناس، فما السر في ذلك؟ قال: وعادتهم يجيبون عن ذلك بأنّ قريشا كانوا لا يخرجون من الحرم لشرفه ويرون الخروج عنه موجبا للوقوع في الإثم، (ويقفون بالمشعر الحرام، فأتت الآية ردا عليهم وتنبيها على أن الخروج هنا لاينقص أجرا ولا يوقع في الإثم) ثم إنّ الإتيان إلى المحل الشريف من المحل البعيد مُشْعِر بنهاية تعظيمه وكمال تشريفه، فقصد التنبيه على الحكم مقرونا بعلته، وهذا هو المذهب الكلامي عند البيانيين. ولو قيل: ثم قفوا، لما أشعر بالانتقال والرجوع من الحل إلى الحرم بعد الخروج منه، فعبر بالإفاضة التي من شأنها أن لاتكون (إلا بعد) وقوف لإشعارها بالانتقال من المحل البعيد وهو عرفة لأنه في الحل إلى هذا الحرم الشريف تكريما له وإجلالا، فالإفاضة مستلزمة للرجوع إلى الحرم، ومشعرة بالوقوف المستلزم للخروج من الحرمِ إلى الحل. قيل لابن عرفة: أو يجاب بأنه عبر بالإفاضة للمناسبة بينه وبين لفظه في أول الآية والله أعلم. قوله تعالى: {فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ ... }. المراد: القضاء المطلق اللّغوي وهو فعل (العبادة) سواء كان في وقتها أو بعد وقتها، أي إذا فرغتم من حجكم. قوله تعالى: {كَذِكْرِكُمْ آبَآءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً ... }. الأشدية إما في القدر أو باعتبار حضور النيّة فالمراد إما الإكثار من ذكره أو كمال الحضور والإخلاص في ذكره. وفي إعرابه ستة أوجه. قال الزّمخشري: «أَشَدّ» معطوف على ما أضيف إليه الذكر في قوله {كَذِكْرِكُمْ آبَآءَكُمْ}. قال الطيبي: وضعفه بعضهم لأن فيه العطف على (المضمر المخفوض) من غير أعادة الخافض. قال ورد قراءة من قرأ {تَسَآءَلُونَ بِهِ والأرحام} بالخفض أقبح رد. قال ابن عرفة: وهذا إما كفر أو معصية لأنها قراءة حمزة. قال ابن عرفة: ومنهم من فرق بين العطف على الضمير المجرور بالحرف وبين العطف على المخفوض (بالإضافة) فأجاز العطف على المضاف من غير إعادة الخافض.

قال الزّمخشري: كما تقول (كذكر) قريش آباءهم أو قوما أشد منهم ذكرا. قال: ويكون «أشد» في موضع نصب عطفا على «(آبَاءَكُمْ) أَوْ أَشَدّ ذِكْرا» من آبائكم على أن «ذِكْرا» من فعل المذكور. واختلف في تفسيره فقال أبو حيان: معناه أنك إذا عطفت «أشَدّ» على «آبَاءَكُمْ» كان التقدير: أو قوما أشَدّ ذِكْرا من آبائكم فالقوم مذكورون والذكر الذي هو (تمييز) (بعد) أشَدّ هو من فعلهم أي وفعل القوم المذكورين لأنه جاء بعد أفعل الذي هو صفة للقوم أي أو قوما أشَدّ ذِكْرا من ذكركم لآبائكم. قال ابن عرفة: فمعناه عنده أو كذكركم قوما ذاكرين الله بذكر هو أشد ذكرا، أي بذكر هو أشد من الأذكار التي تذكرون بها آباءكم، فجعل القوم المذكورين ذاكرين وهو بعيد. وقال الطيبي: أراد الزمخشري أن معناه كذكركم قوما مذكورين بذكر هو أشد ذكرا، فقوما مفعول وأشدّ صفة، فوصفوا بالأشدية من حيث كونهم مذكورين أي كذكركم قوما ذكرتموهم بذكر هو أشد ذكرا. قال ابن عرفة: واعلم أن «أَفْعَلَ (مِنْ)» إن انتصب تمييزها كانت من صفته وإن انخفض كانت من صفة الاسم الذي (جرت) عليه. تقول: زيد أحسن عبدا بالنصب، أي زيد يملك عبدا أحسن من عبيد غيره. وأن خفضت كان معناه: أن زيدا في نفسه أحسن عبيد الله تعالى. ففي الآية هنا على كلام التفسيرين جعل للذكر ذكر مبالغة مثل جد جده وشعر (شعره) أي ذكرا شبيها بذكر آبائهم أو ذكرا أشد، فالأشدية من صفة ذكر المتأخر وهو غير الأول فيكون الذكر ذكر مبالغة. فالحاصل أن معناه عند أبي حيان: أو كذكركم قوما ذاكرين الله بذكر ذلك الذكر أشد ذكرا، أي ذلك الذكر كلّه ذكر أشدّ من الأذكار التي يذكرون بها آباءهم. (وعند الطيبي: المعنى أو كذكركم قوما ذكرتموهم، فذكر له ذكر أشد من غيره من الأذكار التي تذكرون بها آباءكم). فقول الزمخشري: على أن «ذكرا» من فعل المذكور هو عند أبي حيان (الفعل) وعند الطيبي الفعل الاصطلاحي النّحوي وكلام. الطّيبي أصوب لأن (التشبيه) بالقوم إنمّا هو من حيث كونهم مذكورين بأشد الأذكار لا من حيث كونهم ذاكرين بأشد الأذكار. قال ابن عرفة: وهذه مسألة طويلة (عويصة) ما رأيت من يفهمها من الشيوخ إلا الشيخ ابن عبد السلام، والشيخ (ابن الحباب). وهكذا كانا يقررانها وما قصّر الطيبي (فيها) (وهو الذي كشف القناع عنها و (تكلم عليها) هنا وفي قول الله تعالى في النساء {يَخْشَوْنَ الناس كَخَشْيَةِ

الله أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً} وكلامه في تلك الآية هو الذي حمل التونسيين على نسخه لأني كنت عند ابن عبد السلام في السقيقة لما قدم الواصل بكتاب الطيبي فقلت له: ننظر ما قال في «أشَدَّ خَشْيَةً» فنظرناه فوجدنا فيه زيادة على ما قال الناس فحض الشيخ إذاك على نسخه. قلت: ولما (حد) ابن الصائغ (المصدر) في بابه استشكل نصب «ذكرا» في الآية لما تقدم من أن (التمييز) المنتصب بعد افعل سواء بدأ (غير) الموصوف بها مثل: زيد أفضل الناس أبا، ف «أشدّ» في الآية صفة للذكر ثم أجاب بأنّه كقولك: زيد أفضل الناس رجلا وعبدا، ومعناه عند سيبويه أفضل النّاس إذا وصفوا رجلا رجلا، وليس المراد أن عبده أو (رجله) أفضل النّاس، فمعنى الآية أشد الأذكار إذا (صنفت) «ذكرا» في الآية تمييز أو حال والأكثر في مثل هذا أنْ تضاف إليه افعل لكنه لتقدم الذكر قبله قد يجوز مثل: زيد أفضل النّاس رجلا. قال: ويمكن أن يكون «ذكرا» مصدرا ل «اذكروا» فقدمت صفته وهو (ذكر) فانتصب على الحال. والممعنى: واذكروا الله ذكرا كذكركم آباءكم، وأطال الكلام بما هذا حاصله. قلت: وعلى هذا لا يحتاج فيه إلى المجاز الذي في: جد جده وشعر شعره. وبالله التوفيق. قال ابن عرفة: هذه الآية نص في (أنّ) الأمر بالشيء نهي عن ضده لأنّهم قالوا: سبب نزولها أنّ قريشا الحمس كانوا يجتمعون بعد الإفاضة من عرفات فيفتخرون بأنسابهم فنزلت الآية ردا عليهم فكان الأصل أن يقال: فإذا قضيتم مناسككم لا تفتخروا بآبائكم. لكنه لو قيل ذلك لاحتمل أن يسكتوا ولا يتكلّموا بشيء ويتحدّثوا في أخبار الأوائل فيما ليس بذكر ولا فخر فأمرهم الله تعالى بذكر حتى يتناول النهي عن الاشتغال بجميع أضداده المنافية له. قال ابن عرفة: و «أَوْ» في قوله «أَوْ أَشَدّ» للتفصيل فمن هو كثير الشغل والشغب فذكره كذكر آبائه ومن هو خالي البال يعني الخاطر فذكره أشدّ ذكرا ويزيد ما استطاع. قوله تعالى: {فَمِنَ الناس مَن يَقُولُ رَبَّنَآ آتِنَا فِي الدنيا وَمَا لَهُ فِي الأخرة مِنْ خَلاَقٍ}. قال ابن عطية: سببها أنهم كانوا في الجاهلية يدعون في مصالح الدنيا فقط إذ كانوا لا يعرفون الآخرة فنهو عن ذلك.

قال ابن عرفة: فتقدير (السَّببية) على هذا إما أنهم نهوا عن الاقتصار (في الدعاء) بمصالح الدنيا فقط وأمروا بالشعور بالآخرة واستحضار وجودها. قال: ويحتمل (تقدير) السببية بوجهين آخرين. أحدهما: أن في الآية اللف والنشر مَن «يَقُولُ رَبَّنَآ آتِنَا فِي الدنيا» راجع لقوله «كَذِكْرِكُمْ آبَآءَكُمْ» وقوله تعالى {وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَآ آتِنَا فِي الدنيا حَسَنَةَ} راجع إلى قوله «أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً». قيل لابن عرفة: (يعكر) عليه قوله «وَمَا لَهُ فِي الأخرة مِنْ خَلاَقٍ» (يدل على أنه كافر فيكف يذكر الله كذكره أباه؟ فقال: قد تقرر أنّ «وَمَا لَهُ فِي الأخرة مِنْ خَلاَقٍ» (معتبر) بأمرين لأنّ الواو فيه واو الحال فيحتمل أن يراد أنه في نفس الأمر ليس له نصيب في الآخرة، ويحتمل (أن) يريد من الناس المؤمنين من يطلب أمور الدنيا، ولم يتعلق له بال بطلب الثواب في الآخرة عليه، فقد يعمل العمل الصالح، ويطلب المعونة عليه، ولم يخطر بباله طلب الثواب عليه في الآخرة بوجه (أو بطلب الرزق الحلال من نعيم الدنيا ومستلذاتها، ويصرفه في وجهه وهو مع ذلك طائع، ولا يتشوق إلى طلب الآخرة بوجه) بل (يغفل) عن ذلك. الوجه الثاني في تقرير السببية: أنه لما تقدم الأمر بذكر الله عقبه بهذا تنبيها على أن من الناس من لا يمتثل هذا الامر ولا يقبله، ومنهم من يمتثله ويعمل بمقتضاه فهو الذي يقول: {رَبَّنَآ آتِنَا فِي الدنيا حَسَنَةً وَفِي الأخرة حَسَنَةً} أو يرجع إلى القبول والأجر. وتقرر أن القبول أخص، فمن الناس من يفعل العبادة فلا يجزيه ويخرجه من عهدة التكليف فقط ولا يثاب عليها كمن يصلي رياء ومنهم من يفعلها بالإخلاص ونية فتقبل منه، ويثاب عليها في الدار الآخرة. قال ابن عرفة: وعادتهم يختلفون في الألف واللام في «الناس» فمنهم من كان يقول إنها للعهد والمراد بها الناس الحجاج (ومنهم من جعلها للجنس فعلى أنّها للعهد يكون التقسيم مستوفيا لأن الحجاج) لا بد أنهم يدعون إما بأمر دنيوي أو بأخروي (وعلى أنها للجنس لايكون مستوفيا) لأن بعض الناس قد لا يدعون بشيء أصلا لا دنيوي ولا أخروي. قيل لابن عرفة: وكذلك على أنها للعهد لأن بعض الحجاج يدعو أيضا بأمر الآخرة فقط؟ ... قال أبو حيان: ومفعول «آتِنَا» الأول محذوف.

201

قال ابن عرفة: هذا أحد القولين فيها، وفيها قول آخر بأن الفعل المتعدي إذا ضمن المجرور الذي بعده معنى آخر تصح نيابته مناب المفعول. و «في» هنا يتضمنه معنى كقولك: أكلت من الرغيف. قوله تعالى: {وَفِي الأخرة حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النار}. ضعف الشيخ أبو حيان العطف هنا للفصل. وأجاب بعض الطلبة بأن «حسنة» مفعول صريح وفي الآخيرة مجرور مؤخر في المعنى، فتقديمه يصيره فاصلا. فقال ابن عرفة: لا يضر ذلك عندهم. وأنا فيه عندي أنّه نعت نكرة تقدم عليها فصار حالا والحال صفة في المعنى، وإذا كان صفة فالفصل (به) جائز لأنه جزء من الموصوف أو كالجزء. ونظيره (من) الآية التي مثل بها. قال: (وما يجيء) (تمثيل) الفصل إلا بقوله تعالى {فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِن وَرَآءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ} بالنصب على قراءة حمزة وأما قوله تعالى {إِنَّ الله يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأمانات إلى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ الناس أَن تَحْكُمُواْ بالعدل} فالفصل هنالك بالظرف (وهي) جملة معطوفة على جملة. قوله تعالى: {أولئك لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُواْ ... }. راجع للفريقين فمن طلب الدنيا لها وكذلك الآخرة. قوله تعالى: {والله سَرِيعُ الحساب}. قال ابن عطية: قيل لعلي كيف يحاسب الله العباد في يوم؟ فقال (كما يرزقهم في يوم). قل ابن عرفة: كما يفهم أن العرض لا يبقى زمنين والقدرة صالحة إلى الإمداد بعرض آخر فكذلك القدرة صالحة (لأن) يخلق لله في نفس كل واحد الإخبار بما لَهُ وما عليه (فيخبرُون) بذلك في زمن واحد. وهذا أمر خارق للعادة ولا يمكن قياسه على الشاهد. قوله تعالى: {واذكروا الله في أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ ... }. الأمر إما خاص (بالحاج) أو عام لأن سائر الناس أيضا يكبّرون في تلك الأيام غير أنّ الحجاج يكبرون في كل النهار وغيرهم يكبّر دبر (كل) صلاة فقط، وقد كان عمر يرفع صوته بالتكبير في (خبائِه) فيكبّر من خلفه ثم يكبر النّاس كلّهم حتى (يُسْمَع)

204

التكبير من مكة. (وقيل) هل الأمر للوجوب أو للندب؟ قال: إن أريد مطلق الذكر فهو للوجوب وإن أريد الذكر الخاص في الوقت الخاص فهو للندب، وأما للاباحة (فلا). وقوله «مَّعْدُودَاتٍ» أخذوا منه أن الواحد عدد لأنه جمع مفرده معدود. وأجيب بأن الشيء في نفسه ليس كهو مع غيره فالمجموع عدد والبعض غير عدد. قوله تعالى: {فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلآ إِثْمَ عَلَيْهِ}. (تُؤول) بأمرين إما نفي للإثم حقيقة أو إثبات الأجر له والثواب (لأن الثواب) كان حاصلا (بالإقامة) لأن الذكر معلوم أنه يحصل الثواب فما يبقى إلا توهم الوقوع في الإثم هنا (لما كان) الجاهلية يعتقدون. (فنفي) ما يتوهم وبقي ما عداه ثابتا بالأصالة وهو حصول الثواب على الذكر. قيل لابن عرفة: والآية تدلّ على ترك العمل (بمفهوم) العدد لأن مفهومها أن المتعجل في أقل من يومين مأثوم، مع أن التأخير سنة وتارك السنة غير مأثوم؟ فقال: إمّا أن نفرّع على أن تارك السنن متعمدا مأثوم وتقدم نظيره في الوتر، أو نقول: معنى «لاَ إِثْمَ» أي له الثواب. قيل للامام: ففيه حجة للقائل بأن تارك السّنن متعمّدا مأثوم؟ قال: لا حجة فيه لاحتمال أن يراد بنفي الإثم حصول الثواب. قوله تعالى: {واعلموا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ}. في ظاهره دليل على أنّ الحشر بإعادته هذه (الأجساد) بعينها. قيل لابن عرفة: وفيه دليل على ذم التقليد؟ فقال: يقال الحاصل للمقلد علم لا ظن. قوله تعالى: {وَمِنَ الناس مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ ... }. حكى ابن عطية في سبب نزولها ثلاثة أوجه: إمّا أنها عامة في كل من أبطن الكفر وأظهر الإسلام، وإما أنّها خاصة بقوم من المنافقين تكلَّموا في قوم من المؤمنين استشهدوا في غزوة الرجيع. وإما أنها خاصة بالأخنس بن (شريق). قال أبو حيان: و «من» إما موصولة بمعنى الذي أو نكرة موصوفة. قال ابن عرفة: إعرابها نكرة مناسب للقول بعموم الآية في كل منافق، وإعرابها موصولة مناسب للقولين الآخرين لأجل العهد الذي في الصلة فيقتضي تقدم معهود

205

على (الخصوص) ويكون تعجبك ماضيا في المعنى (أي) بفلظ المضارع للتصوير والتحقيق كأنه مشاهد وعلى العموم فهو مستقبل حقيقة. قوله تعالى: {فِي الحياة الدنيا}. إما متعلق ب «يعجبك» أو ب «قَوْلُهُ». وعادتهم يوردون عليه سؤالا وهو أنه إن تعلق ب «يعجبك» كان الكلام غير مفيد لأنه معلوم لأن الإعجاب منه إنما هو في الدنيا، ولا يقع في الآخرة فهو تحصيل الحاصل، وإن تعلق ب «قَوْلُهُ» فإما أن يراد نفس قوله أو متعلقه، فمتعلقه إنّما هو في الآخرة لا في الدنيا لأن (محصول) ذلك القول (الإسلام) وهو أمر أخروي لا دنيوي. وإن أريد نفس «قَوْلُهُ» فذلك القول إنما وقع منه في الدنيا ونحن نعلم ذلك من غير حاجة إلى الإعلام به فيرجع إلى تحصيل الحاصل. قال: فالجواب أنه على حذف مضاف، أي يعجبك قوله في شأن الحياة الدنيا، لأنه إنما (يقصد) بكلمة الإسلام عصمته من القتل والأسر وضرب (الجزية)، وصيانة ماله وعرضه، فالإعجاب راجع إلى حكم دنيوي لأن المراد به نفس التعجب. قوله تعالى: {وَيُشْهِدُ الله على مَا فِي قَلْبِهِ ... }. دليل على أن العقل في القلب. قيل لابن عرفة: وهذا من الكذب على الله. وقد ذكر ابن التلمسانى فيه قولين: قيل إنه كفر، وقيل لا؟ قال ابن عرفة: إنّما الخلاف في الكذب على الله في الأحكام كقوله: أَحَلّ الله كذا وحرم كذا وأما قول القائل أي الحالف لقد كان كذا والله يعلم أنّي لصادق، فهو يمين غموس وليس من ذلك القبيل وعلق التعجب بالقول ليفيد التعجّب من كلامه من باب أحرى. قوله تعالى: {وَهُوَ أَلَدُّ الخصام}. إنما كان مُلدّا لحلفه على الباطل وتأكيده الحلف يعلم أنه تعالى أنه حق. قوله تعالى: {وَإِذَا تولى سعى فِي الأرض لِيُفْسِدَ فِيِهَا ... }. (ابن عطية): يحتمل أن يكون توليه بقلبه، أي ضل، أو بجسده، أي أدبر عنكم بجسمه. وضعف ابن عرفة الأول بأنه لم يكن قط مسلما والتولي عن الشيء يقتضي تقدم الكون فيه.

206

قوله تعالى: {وَيُهْلِكَ الحرث والنسل ... }. من عطف الخاص على العام. قوله تعالى: {والله لاَ يُحِبُّ الفساد}. الصحيح أنّه ليس المراد حقيقة المحبة بل الذمّ على ذلك والله يذم الفساد ويعاقب على فعله لقول العرب في المدح التام: حَبَّذَا زَيْدٌ، وفي الذم التام: لاَ حَبَّذاَ زَيْدٌ، واحتجاج المعتزلة بها لا يتم. والجواب عنه بما قلناه .. وكذلك احتجاجهم بقول الله تعالى {وَلاَ يرضى لِعِبَادِهِ الكفر.} قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتق الله أَخَذَتْهُ العزة بالإثم فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ المهاد}. قال ابن عرفة: الآية لها منطوق ومفهوم والتقدير: لم يتق لأجل ما نالته (من العزة) بسبب الإثم واكتفى عن ذلك المفهوم فذكر علته. وفي كتاب الأقضية والشهادة فيمن قال له القاضي أو غيره: اتّق الله فإنّه يقول له: اللهم اجعلنا من المتّقين، لئلا يدخل في ضمن هاته الآية. قال: ولا ينبغي أن يقول أحد لأحد: اتّق الله، فإنه تعريض له لعدم التقوى. قوله تعالى: {وَمِنَ الناس مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابتغآء مَرْضَاتِ الله ... }. قيل: إنّها خاصة بصهيب وقيل عامة في كل مجاهد أو في كل آمر بالمعروف وناه عن المنكر. قال ابن عرفة: (يشري) على أنها خاصة (فعل حال وعلى العموم) مستقبل حقيقة و «النّاس» إمّا المؤمنون فقط أو المؤمنون والكافرون لأنه إذا تعارض العموم في جنس أقرب أو فيه وفي أبعد منه فالأقرب (أولى). «مَرْضَاتِ»: قال ابن عطية: وقف عليها حمزة بالتاء والباقون بالهاء. وتبعه أبو حيان وهو غلط إنما وقف عليها بالهاء الكسائي فقط. وعن ورش في إمالتها وجهان، والمشهور عدم الإمالة. قال ابن عرفة: وهو عندي منتقد على الشاطبي لأنه ذكر أنّ ورشا يميل ذوات الياء ثم عدها من ذوات الياء فضاهره إنه يميلها.

208

قوله تعالى: {والله رَءُوفٌ بالعباد}. المراد رؤوف بهم، أي بمن يشتري نفسه، أو المراد رؤوف بهم أي بشيء يشتري نفسه. والمراد رؤوف بالنّاس إذَا قلنا: إن الكافر مُنعَم عليه وذلك أنك إذا قلت: أنعم فلان على فلان. فإن أردت أنه أذهب عنه كل مؤلم فالكافر غير منعم عليه في الآخرة. وإن أردت أنه أذهب عنه مؤلما بالإطلاق فالكافر منعم عليه إذْ مَا مِنْ عذابٍ إلاّ وَفِي علم الله (ما هو) أشد منه. قال الزمخشري: «رؤوف بالعباد» حيث كلّفهم الجهاد فعرضهم لثواب (الشهداء). قال ابن عرفة: وهذا جار على مذهبنا لقوله «رؤوف» (فدل على) أَنّه لاَ يَجِبُ عليه مراعاة الأصلح وإنما ذلك محض (رأفة ورحمة) وتفضل. قوله تعالى: {ياأيها الذين آمَنُواْ ادخلوا فِي السلم كَآفَّةً}. أجاز ابن عطية أن يكون «كافة» حالا من فاعل «ادخلوا» أو من «السِّلم» كقول الله تعالى {فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ} «فتحمله» (حال) من فاعل «أتت» ومن قوله «به». قال أبو حيان، واعترض بأنه لا يصح إلاّ إذا جعلت صاحبي الحال مبتدأين والحال خبر عنهما كقول الشاعر: وعلقت سلمى وهي ذات موصد ... ولم يبد للآتراب من ثديها حجم صغيرين نرعى البهم ياليت أننا ... إلى اليوم لم نكبر ولم يكبر البهم فيصح: أنا وسلمى صغيران وقال امرؤ القيس: خرجت بها نمشي تجر وراءنا ... على إثرنا أذيال مرط مرجل لأنه لا يصح: أنا وهي نمشي ولا يصح أن يقال: هو وهي تحمله. فقال ابن عرفة: يصح حمله على الوجه الذي صح إتيانه حالا منهما تقول: هي تحمله وهو محمول كما (يفهم) في الحال منهما مجموعة. قلت: وتعقب ابن القصار هذا بأنّهما كما جمعا في حال واحدة كذلك يجمعان في خبر واحد فيمتنع الجمع في تلك، ويصح هنا أي أنتم والسلم مجتمعون لكن يبطل من جهة أن المقدر خبر أو «ادخلوا في السلم» أمر والأمر لا يقدر بالخبر. فإن قلت: المعنى أنتم والسلم مطلوبان بالاجتماع؟ (قلنا لم يخبر) عنهما بالحال بل بلازمها. ابن القصار: ولا أعلم من شرط هذا إلا أبا حيان بل إنما اشترطوا اتحاد العلم في صاحب الحال مثل ما تقدم، وكقول عنترة العبسي في عمارة بن زياد العبسي، كان يتوعده عنترة بالقول: «متى تأتني فردين ... » وقوله {ادخلوا فِي السلم} أي دوموا على الدخول. قوله تعالى: {وَلاَ تَتَّبِعُواْ ... }.

209

احتجّ ابن الخطيب بها على أنّ الأمر بالشيء ليس نهيا عن ضده إذ لو كان كذلك لما كان لقوله «ولاَ تَتَّبِعُوا» فائدة. قال ابن عرفة: إنما يتمّ له هذا (على) القول بأن الأمر للتكرار مع أنّ الصحيح أنّه مطلق يخرج المأمور من العهدة بالمرة الواحدة والنّهي يقتضي الانتهاء دائما ففيه زيادة فائدة لم تكن في الأمر. قال ابن عرفة: والاتباع في الاصطلاح كما قال الفخر الرازي في المعالم: أن يفعل فعل المتبوع (لأجل) أنه فعله. قيل لابن عرفة: هذا فعل في سياق النفي فهو عام في جميع وجوه الاتباع؟ فقال: إنما يعم في مسمى الاتباع فقط كقولك: لا عين عندي. إنما يعم في مسمى العين الذي حملته عليه وهو المال مثلا أو غيره. قوله تعالى: {خُطُوَاتِ الشيطان ... }. أبو حيان عن ابن أبي مريم صاحب الموضح: سكنت تخفيفا عن ضم مقدر منوي إذ هي حركة فارقة بين الاسم والصفة كما في جمع «فعلة» المفتوحة الفاء. قال ابن عرفة: إنّما يكون الفرق باللّفظ لا (بالنّية). فرد عليه بمثل ذلك بوجهين للمفرد والجمع (بالنية). فقال: قد ذكروا في ذلك أنّ حركته صغيرة بالنّسبة إلى حركة أخرى ولم يجعلوا (للنّية) فرقا. قيل لابن عرفة: قد فرق المنطقيون بين العدول والتحصيل (بالنية). فقال: المراد منهما أنّ الحركة منوي بها ذلك من أول، وهنا ليس كذلك. قوله تعالى: {فَإِن زَلَلْتُمْ مِّن بَعْدِ مَا جَآءَتْكُمُ البينات}. فيه سؤالان الأول أن قبلها {ادخلوا فِي السِّلْمِ} والأمر بالدخول يقتضي أنّهم غير مسلمين وقول الله تعالى: «فَإِن زَلَلْتُمْ» يقتضى أنَّهم مسلمون ثم زلوا بعد ذلك قال الله تعالى: {فَأَزَلَّهُمَا الشيطان عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ} وأجيب بأنّه مثل: {الله وَلِيُّ الذين آمَنُواْ يُخْرِجُهُمْ مِّنَ الظلمات إِلَى النور} لأن الكفار لما كانوا متمكنين من الإيمان فكأنهم حصل لهم الإيمان بالفعل. (السؤال) الثاني: الآية خرجت مخرج التقسيم لحالهم والتقسيم الأصل فيه أن يكون بالواو. تقول: العلم إما تصور وإمّا تصديق، ولا يجوز عطفه بالفاء، فقسم حال هؤلاء إلى من دخل في الاسلام ولم يتبع الشيطان وإلى من زلّ عن الإسلام بعد

210

مجىء البينات فهلا عطفه بالواو؟ وأجيب بأن الفاء تقتضي السبب فقصد التنبيه على أنهم ضلوا بسبب هذه الآيات التي كانت سببا في هداية غيرهم. قال الله تعالى: {يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً} لا سيما مع مذهبنا أنّ ارْتِبَاط الدّليل بالمدلول عادي، وعبر ب «إن» دون إذا (تنفيرا) عن الزلل حتى كأنه غير واقع. قوله تعالى: {فاعلموا أَنَّ الله عَزِيزٌ حَكِيمٌ}. قيل لابن عرفة: هل يؤخذ منه إثبات هاتين الصفتين لله تعالى (بالسماع)؟ فقال: إنما المراد العلم بلازم ذلك وهو العقوبة والانتقام ممن زلّ. قوله تعالى: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ الله ... }. قال أبو حيان: قيل بمعنى ينتظرون فيتعدى إلى واحد بنفسه ولو كانت من نظر العين لتعدت بإلى وأضيفت إلى الوجه مثل {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إلى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} ورده أبو حيان بجواز كونها منه وإلى محذوفة وحذف حرف الجر مع أنه كثير وهو قياس مطرد ولا يلزم إضافتها إلى الوجه بل قد يضاف إلى الذات قال الله تعالى: {أَفَلاَ يَنظُرُونَ إِلَى الإبل كَيْفَ خُلِقَتْ} {قَالَ رَبِّ أرني أَنظُرْ إِلَيْكَ} وقدر ابن عرفة هذا التعقب بأنه (إن) أراد أن المنظور إليه لايكون إلا (بالوجه) فباطل بقوله {أَفَلاَ يَنظُرُونَ إِلَى الإبل} (وإن) أراد (أنّ) النظر (بالنسبة) لاعتبار الفاعل لا إلى الوجه فيقال: نظر وجهي إلى كذا، فباطل أيضا. قال ابن عرفة: ويبطل أيضا من وجه آخر وهو المنظور إليه هنا هو الإتيان المفهوم من قوله {إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ الله}. والإتيان معنى من المعاني لأنه مصدر والمعاني لا ترى بوجه الا باعتبار الجواز العقلى لكونها موجدة والوجود مصحح للرؤية. فإن قلتم: نرى إتيان الشخص؟ قلنا: إنما رأيت الشخص الآتي لا إتيانه. فإن قلتم: إنه عرض؟ قلنا: العرض الذي هو اللون مرئي، وأما الرائحة والعلم والقدرة فليس بمرئي بوجه. (والجواب) عن ذلك أن النظر هنا بمعنى الانتظار ومعناه أن (حالاتهم) تقتضي انتظارهم العقوبة (لا أنهم) يقصدون ذلك وفي هذا عقوبتان (حسية) ومعنوية لأن وجود السحاب مظنة الرّحمة بالمطر قال الله تعالى: {فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضاً مُّسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُواْ هذا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا استعجلتم بِهِ} وقال الله جل ذكره {والذين كفروا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظمئان مَآءً حتى إِذَا جَآءَهُ لَمْ

211

يَجِدْهُ شَيْئاً} ففيه العقوبة (بالخيبة) فيما يظن فيه قبل الغرض فلا تناله العقوبة بنقيض المقصود وهو إتيان العذاب معه. قوله تعالى: {سَلْ بني إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُم مِّنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ ... }. (قال ابن عرفة: لما تضمن الكلام السابق أنهم إن زلوا بعد الآيات البينات عوقبوا نبّه بهذه الآية على مساواة حالهم لبني إسرائيل، إذ جاءتهم بينات كثيرة فزلّوا وتولّوا فعوقبوا). قال ابن عطية: أي كم جاءتهم في أمر محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من آية دالة عليه. قال الزمخشري: {كَمْ آتَيْنَاهُم مِّنْ آيَةٍ} (دالة) على الذي آتيناهم أو من آية دالة على صحة دين محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. قال ابن عرفة: الأول راجع للثاني لأنه (إن) أراد بالآيات المعجزات الصادرة عن أنبيائهم دلالة على صدقهم فلا يناسب ذكره هنا عقب هذه الآية. (وإن) أراد بذلك أن (أنبياءهم) أخبروهم بإرسال محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وصفته وصحة نبوته فيرجع إلى الوجه الثاني. قوله تعالى: {فَإِنَّ الله شَدِيدُ العقاب}. الصواب: أن يكون على إضمار الجواب وهذا تعليل له (أي) فليعلم أن الله يعاقبه فان الله شديد العقاب. قوله تعالى: {زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ الحياة الدنيا ... }. أسند التزين إلى الملزوم اكتفاء به عن اللازم، مع أن اللازم هو الذي يكتفي به عن الملزوم بخلاف العكس كما قال {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشهوات} إذ لا يلزم من تزيّن الحياة الدنيا لهم محبتهم إياها ولو قيل: زين للكافرين حب الدنيا لا ستلزم ذلك تزيّن الدنيا لهم. وتقرر أن المحبة إن كانت متعلقة بأحد النقيضين أو الضدين دلت على كراهة مقابله. ((قال ابن عرفة): والمحبة على أن المزين له كافر إلا مع معارضتها للآخرة وترجيحها عليها أما مع عدم المعارضة فلا. وهذا في الاعتقاد وأما في الأحكام والفروع فلا؛ لأجل أن عُصاة المؤمنين كلّهم رجحوا الدنيا على الآخرة). قوله تعالى: {والذين اتقوا فَوْقَهُمْ يَوْمَ القيامة والله يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ}.

213

إما تهييج على الاتصاف بالتقوى فلذلك قال: «فَوْقَهُمْ» وإما تنبيه على تفاوت درجاتهم، وإما أن يكون التقوى والايمان بمعنى واحد. قوله تعالى: {فَبَعَثَ الله النبيين مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ ... }. دليل على أن النبي أعمّ من الرّسول بناء على الحكم المسند الى مشتق أو موصوف بصفة تقتضي ثبوت ذلك الوصف له حالة ثبوت الحكم، فيقتضي ورود البعث عليهم حال حصول النبوءة فلو كان النبي والرّسول بمعنى واحد للزم تحصيل الحاصل. وقيل الرّسول أعمّ حكاه الغزالي في (الاقتصاد) والشيخ ابن العربي. وقال ابن الصلاح: اختلف المحدثون في جواز نقل الحديث بالمعنى، فقيل يجوز وقيل لا (يجوز) وقيل: إن بدل اسم الرسول بالنبي جاز بخلاف العكس. قال ابن عرفة: الآية دالة على أن الجمع المحلي بالألف واللاّم لا يفيد العموم إذ ليس كل نبي مبعوثا وبدأ بالبشارة لأن الرحمة سبقت غضبه. قوله تعالى: {وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الكتاب ... }. قيل لابن عرفة: فهلا قيل: أنزل عليهم الكتاب، كما في سورة النساء {وَأَنزَلَ الله عَلَيْكَ الكتاب والحكمة} {إِنَّآ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الكتاب بالحق لِتَحْكُمَ بَيْنَ الناس بِمَآ أَرَاكَ الله} لأَنَّكَ تقول: قام زيد مع عمرو، فيقتضي اشتركهما في القيام، والرسل ليسوا منزلين مع الكتاب. قال ابن عرفة: المراد أنزل مع بعثهم والإنزال مصاحب للبعث ولا اشتراك بينهما لأنه معنوي لا يمكن إنزاله وهم من أول بعثهم إلى آخره لايزال الكتاب منزلا عليهم حتى يموتوا. قيل لابن عرفة: هذا كله مجاز فلم عدل عن الحقيقة إليه؟ قلت: وحمله الشيخ ابن القصار على (أمرين): أحدهما: أن «أنزل» بمعنى بعث، فيفيد لفظة الإنزال تشريف الرسل وقومهم بالكتاب الشريف المنزل من أشرف الجهات وهي جهة فوق، ويفيد معنى البعث أن الكتاب مبعوث مع الرسل لقومهم اعتناء بهم وتأكيدا على امتثال أوامره ونواهيه. الثاني: أن يجعل «معهم» حالا من «الكتاب» وقدمت عليه للاهتمام بالمصاحبة. فإن قلت: الكتاب حين إنزاله لم يكن معهم؟ قلنا: هي حال مقدرة لا محصلة.

واقتضت الآية الاستدلال بمقدمة منطقية وهو أن يقول: كلما ثبتت الرّسالة لغير محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ثبتت لمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. قال ابن عرفة: وقولهم إن الكتاب هو التوراة باطل بقوله {فَبَعَثَ الله النبيين} لأنّ التوراة ليست منزلة على كل النبيين. قوله تعالى: {لِيَحْكُمَ بَيْنَ الناس ... }. هذا عندنا (فضل) لا واجب. واستشكل بعض الطلبة فهم الآية لأن قوله {فِيمَا اختلفوا} يقتضي تقدم اختلافهم على إنزال الكتاب. قوله تعالى: {وَمَا اختلف فِيهِ إِلاَّ الذين أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ البينات}. يقتضي تأخير اختلافهم عن الانزال وعدم تقدمه عليه لأنه مقرون بأداة الحصر كما قال في سورة الجاثية {وَآتَيْنَاهُم بَيِّنَاتٍ مِّنَ الأمر فَمَا اختلفوا إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ العلم بَغْياً بَيْنَهُمْ} وهذا كله على قولهم: إن الضمير المجرور في قوله {وَمَا اختلف} عائد على ما عاد عليه قوله تعالى: {فِيمَا اختلفوا فِيهِ}. قال ابن عرفة: اختلفوا قبل وبعد. قلت: اختلفوا قبله اختلافا ضعيفا فلما ورد الكتاب والدلائل أعمى الله بصائرهم فاستنبطوا به شبهات كانت سببا في تعنتهم وضلالهم واختلافهم كمن يقرأ أصول الدين ليهتدي فيضل وكان قبل على الصواب فاختلافهم المعتبر إنما هو بعد الآيات وما قبل ذلك لا عبرة له. قلت: فهذا يحسن جوابا والله أعلم، قال الله تعالى {يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً} ووافقني عليه بعضهم وقال: تكون من عود الضمير على اللفظ فقط نحو: عندي درهم ونصفه. قوله تعالى: {فَهَدَى الله ... }. العطف بالفاء إشارة على سرعة هدايته للمؤمنين بعقب الاختلاف فإن يكن اختلافهم في الفروع فيحسن أن يكون {وَمَا اختلف فِيهِ} بعض الحق وإن يكن من الاعتقاد فهو كل الحق لا بعضه. قوله تعالى: {لِمَا اختلفوا فِيهِ مِنَ الحق بِإِذْنِهِ ... }.

214

قال ابن عرفة: الصّواب أن معناه بقدرته وإن كان مجازا فهو أولى من أن يقال بعلمه أو بأمره ليكون فيه حجة على المعتزلة. قوله تعالى: {والله يَهْدِي مَن يَشَآءُ إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ}. قال ابن عطية: فيها حجة على المعتزلة في قولهم: إن العبد يخلق أفعاله. قال ابن عرفة: هذا بالظاهر لا (بالنضر) ولهم أن يجيبوا بعود ذلك إلى الداعي ووقع الاجماع هنا ومنهم عليه. قوله تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الجنة وَلَمَّا يَأْتِكُم ... }. قال ابن عصفور في مقربة والآمدي في شرح الجزولية: (لَمْ) لنفي الماضي المتصل بزمن الحال ومثل ذلك {وعصىءَادَمُ رَبَّهُ فغوى} ولم يندم، وعصى إبليس ربه ولمّا يندم لأن نفي الندم عن آدم كان ومضى وانقطع كوقوع الندم منه بعد ذلك، ونفيه عن إبليس متصل بزمن الحال. قال ابن عرفة: وعادتهم يتعقبونه بوجيهن: الأول: نسبة العصيان لآدم عليه السلام فإنه وإن كان ورد في القرآن لكنّه لا ينبغي أن (يتكلم) المخلوق على جهة المثال فإنه من إساءة الأدب على الأنبياء. الثاني: ان نفي النّدم عنه إما قبل المعصية أو بعدها، والأقسام كلها باطلة لوقوع النّدم منه إثر المعصية. قال الله تعالى {فَأَكَلاَ مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا} (فعقب) الأكل بدت لهما السوءات، فوقع الندم والندم حين العصيان غير متصور فأحرى قبله. وقال القرطبي: (لَمَّا) هنا بمعنى (لم) لنفي الماضي المنقطع لأن ذلك كان في غزوة أحد وهي متقدمة على (هذه) الآية. ورده ابن عرفة بأنّه إنّما يلزم ذلك لو (علّقه) في الآية بالعلم، وهو أنما علّقه بالحسبان. قلت: ونقله بعض الطلبة بلفظ لا يحتاج إلى هذا بل هي على بابها لأن حسابهم أنهم يدخلون الجنة حالة كونهم لم يأتهم مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ وهذا (الحسبان) لم ينقطع وما زال المؤمنون يظنون أنهم يدخلون الجنة من غير بأس ولا مشقة تنالهم إلى حين نزول هذه الآية، ونيلهم البأس في (هذه الغزوة) لا يرفع ظنّهم ذلك. قال ابن عرفة: والبأَسَاءُ راجع لفقد المال، وَالضّرّاءُ للنقص في البدن والزلزال في النفس.

215

قوله تعالى: {حتى يَقُولَ الرسول ... }. قرأ نافع، بالرفع. قال ابن عطية: كأنه اقترن بها (تسبيب)، فحتى (حرف) (ابتداء) يرفع الفعل. ابن عطية: ظاهره أيضا إذا كان ما قبلها سببا لما بعدها، فالرفع مطلقا وليس كذلك. بل لابد من زيادة كونه ماضيا أو حالا، وأما إن كان الفعل مستقبلا فالنصب ليس إلا، وكذلك جعله الزمخشري حكاية حال ماضية. قال أبو حيان: وحتى على النصب (للغاية) بمعنى: إلى أن، أو للتعليل بمعنى كي. قال: والغاية أظهر لأن (الضراء) والزلزال ليسا معللين بقول الرّسول والمؤمنين. قال ابن عرفة: إن اعتبرنا (الزلزال) من حيث نسبته إليهم فليس بعلة، لأنهم لا يتزلزلون قصدا لأن يقول الرّسول والمؤمنون هذه المقالة، وإن اعتبرناه من حيث نسبته إلى الحق سبحانه وتعالى إذ هو الفاعل المختار في الحقيقة فهو علة في قول الرسول والمؤمنين؛ ذلك لأن الله تعالى زلزلهم ليقول الرسول والمؤمنون هذه المقالة. وأبو حيان لما رأى الفعل وهو «زُلْزلُوا» مبنيا للمفعول اعتبر نسبته إليه. قال ابن عطية: عن طائفة: وفي الكلام تقديم وتأخير تقديره: حتى يَقُولَ الَّذينَءَامَنُوا مَتَى نَصْرُ الله، ويقول الرّسول أَلاَ إنّ نَصْرَ الله قَريبٌ. قال ابن عرفة: لا حاجة إلى هذا التقديم والتأخير بل هو لف ونشر مخالف جعل فيه أول القولين للقائل الثاني لكونه يليه. وقوله «مَعَهُ» يحتمل أن يتعلق ب «ءَامَنُوا» أو ب «يَقُول» فإن تعلق ب «ءَامَنُوا» فيكون من جمع القول دون قائله مثل: {وَقَالُواْ كُونُواْ هُوداً أَوْ نصارى تَهْتَدُواْ} فكل فريق دعا إلى دينه وإن تعلق ب «يقول» فيكون من جمع (القائلين وأقوالهم) فيكون الرسول قال المقالتين والمؤمنون كذلك قالوا المقالتين. قوله تعالى: {يَسْئَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ ... }. السؤال (يتعدى) للمحسوسات بنفسه، ويكون معموله مفردا مثل: سألته طهورا، أي طلبت منه الماء، وللمُعاين كذلك، ويكون جملة مثل: سألته ماء هو الطهور. الزمخشري: سألوا عن تعيين المنفق فأجيبوا بتعيين المصرف لاّنه يستلزم المنفق. قال ابن عرفة: جعل السؤال (هنا) عن حال الشيء ويظهر لي وجه آخر وهو أن السؤال بماذا عن حقيقة الشيء وهي قسمان: عقلية وشرعية. فالعقلية لا يختلف جوابها بوجه ولا يمكن فيه التحريف، وأما الشرعية فهي أمور جعلية يصح تحريف الشّارع لها عن شيء آخر، فالمراد: يسألونك عن حقيقة الشيء المنفق المحصل للثواب في الدار الآخرة ما هو؟ فأجيبوا بأنه الشيء المنفق على الوالدين والأقربين واليتامى والمساكين وابن السبيل وفعل الخير بالإطلاق.

216

قوله تعالى: {قُلْ مَآ أَنفَقْتُمْ مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ والأقربين واليتامى والمساكين وابن السبيل ... }. (مَا) إما شرطية أو موصولة. قال ابن عرفة: الظاهر أنها شرطية، لأن فعل الشرط مستقبل ولو كانت موصولة لما حسن ترتيب الجواب عليها، لأنهم لم يكن إنفاقهم الماضي قاصرا على الوالدين والأقربين ومن بعدهم، بل عاما فيهم وفي غيرهم، فإنَّما أمروا بذلك في المستقبل. قيل لابن عرفة: قد قال ابن مالك: إنّ الفعل بعد الموصول يحتمل الحال والاستقبال. قوله تعالى: {وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ الله بِهِ عَلِيمٌ}. علله بالعلم والمراد لازمه وهو حصول الثواب الجليل عليه. فإن قلت: الآية تدل على أن الأب مساوٍ للأم في البر لتسويتهما في النفقة عليهما؟ قلنا: الآية إنّما تضمنت مطلق الإنفاق عليهما من غير تعرض لما بينهما من التفاوت، بدليل تضمنهما أيضا النفقة على الأقربين بالإطلاق، مع أنّهم متفاوتون لأن القرابة مقولة بالتشكيك، فالنفقة على أقرب الأقربين تكون أكثر (من النفقة) على من هو أبعد منه. وابن السبيل هو المسافر إذا قدم على بلد هو فيها فقير ويكون في بلده غنيا، فإن كان فقيرا في بلده فهو (مسكين). قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ القتال ... }. قال ابن عرفة: لفظ الكتب دليل على تأكيد وجوب القتال. والكتب إما حكم الله أو في اللوح المحفوظ أو في القرآن. والجهاد هنا (قيل فرض عين) وقيل فرض كفاية. قال ابن عرفة: الظاهر أنه فرض (عين) لأنا إذا شككنا في شيء فيحمل على الأكثر. وفرض العين في التكاليف أكثر من فرض الكفاية. (قيل له: في غير هذا، وأما هنا فلا؟ فقال: هذا محل النزاع، وكان بعضهم يقول: إنه فرض عين في كفاية) فواجب على (جميع) الناس حضور القتال. ويكفي فيه قتال البعض، والحضور فرض عين (والقتال فرض) كفاية كالصلاة في الدار المغصوبة فإنّها فرض في حرام. قال ابن عرفة: وإذا قلنا: إنّ خطاب المواجهة يعم ولا يخص، فنقول: الأمر للحاضر والغائب وغلب فيه المخاطب. والأمر للحاضرين ويتناول الغائب (بالقياس) عليه من باب (لا فارق).

قوله تعالى: {وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ ... }. الضمير عائد على القتال إما (لقربه) وإما لأنه إنما يعود على (الكتب) باعتبار متعلقه لأنهّم لايكرهون الكتاب لذاته. والكراهة هنا ليست بمعنى البغض بل بمعنى النفور منه وصعوبته على النفس كصعوبة الوضوء في زمن البرد فيكرهه المكلف كذلك لا أنه يبغضه. قوله تعالى: {وعسى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ... }. قال أبو حيان: عسى الأول للاشفاق والثانية للرجاء. قال ابن عرفة: المناسب العكس، فإن المستقبل في الأولى خير وانتظاره رجاء، والمستقبل في الثانية شر فانتظاره إشفاق وخوف. قيل لابن عرفة: إنما المعتبر ما دخلت عليه (أن)؟ فقال: نعم لكن بصفته وقيده، والأول مقيد بأنه (يعقبه خير، والثاني مقيد بأنه يعقبه الشر. قيل لابن عرفة: المستقبل غير معلوم للانسان وإنّما يعلم الحاضر فيعسر عليه المستقبل فإن كان الحاضر خيرا ترجّى دوامه وإن كان شرا أشفق وخاف من دوامه. قال أبو حيان: وكل عسى في القرآن للتحقيق يعنون به الوقوع الا قوله عَزَّ وَجَلَّ {عسى رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُ أَزْوَاجاً خَيْراً مِّنكُنَّ} قال ابن عرفة: بل هي أيضا للتّحقيق لما تقدم من أنّ القضية الشرطية تقتضي صحّة ملزومية الجزاء للشرط ولا تقتضي الثبوت والوقوع، والقضية الحملية تقتضي الثبوت والوقوع أو بفهم الوقوع في (الآية) باعتبار (المتكلم) بهذا الشرط والرجاء واقع من الله تعالى. قوله تعالى: {والله يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ}. قال ابن عرفة: الآية تدل على أن جميع الأحكام الشرعية تعلل، وذلك أنهم اختلفوا في التعبدات فذهب جماعة منهم الشيخ الهمام عز الدين ابن عبد السلام إلى أنّها الأحكام (التي لاتدرك لها علة، وفي بعض كلام ابن رشد وكلام المتقدمين ما يدل على أنها الأحكام) التي لا علة لها، والآية تقتضي أنّ الأحكام كلّها لاتكون إلا لمصلحة لأنّها خرجت مخرج (التّبيين) على كمال المبادرة إلى امتثال الأحكام الشرعية فدل على أن المراد والله أعلم ما في ذلك من المصلحة وَأنتُمْ لاَ تَعْلَمونها. فعليكم أن تأخذوها بالقبول. وقوله: وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ: قال ابن عرفة: يصح أن يكون في موضع الحال. قيل له: علمنا حادث لا يُجامع علم الله القديم؟ فقال: هي حال مقدرة والتحقيق أنّا إن جعلنا الجملة في موضع الحال تكون سالبة تقتضي وجود

217

الموضوع، وبقي في الآية أنّ الزمخشري قال في {وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ} إما مصدر من الكراهة أو أنه بمعنى بمعنى المكروه مثل (الخبز) بمعنى (المخبوز). وقرىء: «كَرْهٌ» بالفتح على أنه بمعنى (المضموم) كالضعف والضعف. قال ابن عرفة: وقال القاضي أبو الفضل عياض في تنبيهاته: الوضوء بالضم هو الفعل وبالفتح اسم الماء، وقيل: بالعكس. قال: فيجيء هنا كذلك. قيل لابن عرفة: هذا قياس في اللّغة فلا يجوز؟ فقال: إنما هو (إجراء) لا قياس. قوله تعالى: {يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشهر الحرام قِتَالٍ فِيهِ ... }. قال ابن عرفة: القتال الذي وقع منهم في الشّهر الحرام، إن كان غلطا فهو كبير موجب للإثم، وإن كان اجتهادا أجري على الخلاف في الاجتهاد هل يرفع حكم الخطأ أم لا؟ فإن قلت: لم أعيد لفظ القتال مظهرا، وهلا كان مضمرا، ولم أعيد منكرا وهلا كان معرفا؟ قيل: الجواب أنّ ذلك لاختلاف المتكلّم فالأول في الكلام السائل والثاني في كلام المسؤول. قال الفراء وهو معطوف على كبير. قال ابن عطية: (وهو خطأ لأنه (يؤدي) إلى أنّ قوله «وَكُفْرٌ بِهِ» معطوف على (كَبِير) فيلزم أن يكون إخراج أهل المسجد الحرام منه أكبر عند الله من الكفر. وأجيب عنه بثلاثة أوجه: الأول: لأبي حيان أنّ الكلام تمّ عند {وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ الله} وما بعده ابتداء. الثاني: قال ابن عرفة: الكفر قسمان: صريح حقيقي وهو الكفر بالشرك، وكفر) حكمي غير صريح. فنقول: (دلت الآية) على أن القتال في الشهر الحرام كفر وإن لم يعتقد فاعله الكفر، وكذلك إخراج أهل المسجد الحرام منه كفر وإن لم يعتقده فاعله فجعل الشارع إخراج أهل المسجد الحرام منه أكبر إثما من الكفر الحكمي الذي نشأ عن القتال في الشهر الحرام، وهذا لا شيء فيه ولا سيما إن جعلنا الضمير في «وَكُفْرٌ بِهِ» عائدا على «عن سَبِيلِ الله». الجواب الثالث: لبعض الطلبة قال: أهل المسجد الحرام عام يشمل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وغيره ولا شك أن اخراج النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من المسجد الحرام كفر وزيادة فهو أشد من الكفر بالله عَزَّ وَجَلَّ فقط. وحكى ابن عطية عن الزهري ومجاهد، أن {قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ} منسوخ بقول الله تعالى {وَقَاتِلُواْ المشركين كَآفَّةً} ورده القرطبي: بأن {وَقَاتِلُواْ المشركين كَآفَّةً} عام وهذا خاص، والخاص يقضي على العام.؟ وأجاب عن ذلك ابن عرفة: بأن الأصوليين

قالوا: إنّ العام إذا تأخر عن الخاص فإنّه ينسخه. قلت: قال أبو عمرو بن الحاجب ما نصه: «يجوز تخصيص الكتاب بالكتاب». أبو حنيفة والقاضي والإمام: إن كان الخاص متأخرا وإلا فالعام ناسخ، فإن جهل تساقطا. قوله تعالى: {وَمَن يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَن دِينِهِ ... }. قال ابن عرفة: في (لفظها) رحمة وتفضل من الله عَزَّ وَجَلَّ لأن قبلها {حتى يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ} فكان المناسب أن يقول: ومن (يُرَدّ) منكم عن دينه؛ لكنّه لو قيل هكذا لدخل في عمومه من أكره على الردة. فقال: ومن «يَرْتَدِدِ» (ليختص) الوعيد بمن ارتدّ مختارا متعمدا. فإن قلت: هلا قيل: فَيَمُتْ وَهْوَ مرتدّ، ليناسب أوّل الآية آخرها، ويسمونه ردّ (العجز) على الصدر؟ (قال: قلت): إنّ من عادتهم يجيبون بأنه لو قيل كذلك لتناول مرتكب الكبيرة من المسلمين لأنه يصدق عليه أنّه مرتد عن دينه لقوله تعالى: {إِنَّ الدين عِندَ الله الإسلام} وفسر الإسلام في الحديث بأن قال: «هو أَن تشهد أن لا إله إلاّ الله وأن محمدا رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، (وتصوم رمضان) وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا» فالإسلام (حقيقة) مركبة من هذه الخمسة أمور (فمتى) عدم بعضها عدم الاسلام لامتناع وجود الماهية بدون أحد أجزائها فمن فعلها كلّها ثم بدا له في بعضها فلم يفعله يصدق عليه أنه مرتدّ عن دينه، وأنه غير مسلم، فلذلك قال: {فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ}. قال أبو حيان: قوله «وهو كافر» حال مؤكدة. ورده ابن عرفة بوجهين: الأول: منهما ما قلناه: من أنّه احتراز من موت مرتكب الكبيرة، فإنه مات مرتدّا عن دينه الذي هو الإسلام. الجواب الثاني: أنّها إنما تكون مؤكدة أن لو كانت حالا من «يرْتَدِد» ونحن إنّما جعلناها حالا من «يَمُتْ» والمرتدّ يحتمل أن يراجع الإسلام فيموت مسلما. قيل لابن عرفة: فيمت معطوف على «يَرتَدِدْ» بالفاء التي للتعقيب، فهو بعقب رِدّته مات؟ فقال: (هما زمانان) ارتدّ في الأول ومات في الثاني، إمّا مسلما أو كافرا، في حال مبينة بلا شكّ. قوله تعالى: {فأولائك حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ ... }. عامل (أولئك) لفظ «مَن» (ثم) معناها، فوجه أبو حيان من طريق الإعراب اللفظي.

218

قال ابن عرفة: قالوا وتوجيهه من جهة المعنى أن الأول راجع الى فعلهم القبيح في الدنيا، فالمناسب فيه (تقليل) الفاعل تنفيرا عنه فلذلك أفرده، والثاني راجع إلى جزاء ذلك والعقوبة عليه في الدار الآخرة فالمناسب فيه لفظ العموم في جميع الفاعلين خشية أن يتوهم خصوص ذلك الوعيد بالبعض دون البعض. قال ابن عرفة: وإحباط أعمالهم في الدنيا بترك الصلاة (عليهم) وعدم دفنهم في مقابر المسلمين ومنع أقاربهم من إرثهم. قال الزمخشري: وذلك مما يتوقع هنا بالردة للمسلمين في الدنيا من ثمرات الإسلام واستدامتها والموت عليها من ثواب الآخرة. قال ابن عرفة: ومذهبنا أنه يعتق على المرتدّ أمّ ولده ومدبره دون الموصى بعتقه. ومذهب الإمام مالك رَضِيَ اللَّهُ عَنْه (أن ميراثه) لبيت المال. قال القاضي عياض في الإكمال: وقال الامام الشافعي: ميراثه لجماعة المسلمين. ووهنه تاج الدين الفاكهاني وقال: بل مذهبه كمذهب مالك. وكذا حكى عنه الغزالي في البسيط. ابن عطية وروي عن علي رَضِيَ اللَّهُ عَنْه (انه) استتاب مرتدا شهرا فأبى فقتله. ونقل عنه كرم الله وجهه: أن يستتاب ثلاث مرات فإن تاب في الاولى ترك، وإلا (روجع) في الثانية (ثم) الثالثة فإن تاب وإلا قتل. قال: ومنهم من فرق بين الذكر والأنثى فمنع قتل الانثى. قال ابن عرفة (ووجهه) أنه عنده كالحربي سواء. قوله تعالى: {إِنَّ الذين آمَنُواْ والذين هَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ الله ... }. قال ابن عطية: الهجرة الانتقال من موضع الى موضع بنية الإقامة، ومن قال: الانتقال من البادية إلى الحاضرة فقد وهم بسبب أن ذلك كان الأغلب عندهم فيلزم أن لايكون (أَهلُ مكّة مهاجرين) عنده بالإطلاق. قال ابن عرفة: الهجرة الانتقال من الوطن إلى محل نصرة النّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ويقرب منه الهجرة في موضع كثير المنكر إلى موضع (أخف) منه. فان قلت: لم قال «يَرْجُونَ رَحْمَةَ / الله». وكل مؤمن ولو كان من أهل الكبائر يرجو رحمة الله. قلت: فالجواب: أن هذا رجاء شهد الله تعالى لهم به، فدل ذلك على صحته. ونظيره: من يزرع فدانا في سنة خصيبة ويوفي بخدمته فيراه الفلاحون فيقولون: هذا زرع يرجو صاحبه بلوغ الأمل، وآخر يزرع فدانا يراه الفلاحون فيذمونه وربه يستحسنه ويرجوا أن يبلغ فيه الأمر ويعتقد ذلك فليس الرجاءان سواء. فإن قلت: هلا قيل: وَالَّذِينَ هَاجَرُوا والَّذِينَ جَاهَدُوا أو بحذف الموصول (فيهما) واكتُفي بذكره في الأول؟ (فالجواب) أنه قصد التنبيه على أن مجرد الإيمان كاف في حصول المطلوب من ترجي رحمة الله تعالى،

219

ولما كانت الهجرة إنّما هي للجهاد مع النّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ونصرته كانا كالشيء الواحد فلذلك لم يكرر ذكر الموصول مع الجهاد. قلت لابن عرفة في الختمة الأخرى: إن الآية حجة على المعتزلة في قولهم إن الطائع يجب على الله أن يثيبه لأن الرجاء إنما يتعلق بالمظنون لا بالمحقق، فلو كان الثواب محققا لما قال «يرجون رحمة الله»؟ فقال: لهم أن يجيبوا بأن من هاجر وجاهد لا يعلم أيموت مسلما أو لا؟ فهو لا يتحقق خاتمته (فصح) إسناد الترجي إليه وبطل الدليل. قوله تعالى: {يَسْئَلُونَكَ عَنِ الخمر والميسر ... }. قال ابن عرفة: قال ابن عطية، والشيخ الزمخشري: لما نزلت (هاته الآية) شربها قوم وتركها آخرون. قام بعض الشاربين فقرأ: قُلْ يا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ أسقط (لا) فنزلت: {لاَ تَقْرَبُواْ الصلاة وَأَنْتُمْ سكارى} قال ابن عرفة: هذا نصّ على أنّ لفظ التأثيم في قوله عَزَّ وَجَلَّ ّ: «قُل فِيهمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ» غير ملزوم للتحريم لأنّ الصحابة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم لم ينتهوا عنها بهذه الآية فيستفاد منه الجواب عن السؤال المورود على قول الفقهاء: إنّ اتّخاذ السترة للمصلي سنة، مع قولهم: إن تركها وصلى حيث لا يأمن المرور فمر عليه أحد أثِمَ. (قال: وكنّا أجبنا عنه بأنه إنما أثم بالتعرّض للمرور والمرور معا) لأنه لو لم يمر عليه أحد لما أثم. قال ابن عرفة: (وحكي) ابن عطية في الإثم وجوها: الأول: أن يراد في استعمالها بعد النهي إثم كبير. (ابن عرفة) ما قلناه الا على هذا. الثاني: ان يراد خلال السّوء الّتي فيها وهي السباب والافتراء وذهاب العقل. وعن سعيد بن جبير: لما نزلت كرهها قوم (للاثم وشربها قوم) للمنافع. قال ابن عرفة: ويؤخذ (من الآية أنها إذا تعارضت مصلحة ومفسدة واستويا لا ينبغي الفعل لأن الصحابة لما نزلت) الآية لم ينتهوا كلهم عن شرب الخمر. فقال: (نعم)، بل هو من باب أحرى. قال: وهذا هو الذي ذكر فيه الأصوليون عن علي بن أبي طالب أنه قال: من شرب الخمر هذى وإذا هذى افترى فأرى عليه حد المُفتري. قلت: ذكره العلامة بن التلمساني في المسألة الثانية من الباب التاسع. قال: وساعده عمر (وغيره). قال ابن عرفة: وهذا هو اعتبار جنس العلة في عين الحكم لأن الهذيان مظنة الافتراء باعتبار جنس المظنة في عين حد الخمر فجعله ثمانين بعد ما كان أربعين قياسا على حد القذف. قلت: وذكر ابن التلمساني هذا في المسألة (الثانية) من الباب التاسع ومثله باعتبار جنس المشقة في اسقاط قضاء الرّكعتين عن المسافر قياسا على اسقاط القضاء على الحائض. قال ابن عرفة: وجعله الأصوليون من القياس في الأسباب وقياس الكفارات من القياس في المقادير الذي لهم فيه قولان. قال: وهذا اجتهاد من الصحابة لفهمهم عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ (أنّ حده لشاربه) أربعين اجتهاد لا نصّ، وكذا ما ورد أنه ضربه (بالجريد) فخافوا اختلاف المجتهدين وأجمعوا على هذا الحد فكان قطعا للنزاع. ابن عطية: عن بعضهم حرمت الخمرة بهذه الآية لقوله: {إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الفواحش مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ والإثم والبغي بِغَيْرِ الحق} واقتضت هذه الآية أنّ

220

الخمرة فيها الإثم فيستنتج التحريم، ثم أبطله هو بأنّ التّحريم حينئذ صار بمجموع الآيتين لا أنّه بهذه (وحدها) لان هذه إنّما فيها الإثم فقط لا التحريم، وكذا قال القرطبي. قال ابن عرفة: والميسر من اليسر واليسار، اليسار بالنسبة إلى آخذه لأنه يحدث له يسرا، واليسار بالنسبة إلى معطيه لأنه مذهب يساره. ابن عطية: عن ابن عباس ومجاهد رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم وغيرهما: كل قمار ميسر من نرد وشطرنج حتى لعب الأطفال بالجوز. قال ابن عرفة: إنما ذلك إذا كان بالمخاطرة بشيء يعطيه المغلوب، فأما بغير خطار فجائز. وقد أجاز الإمام مالك في العتبية للرجل أن يشتري الكعاب لولده يلعب بها. وكان ابن عبد السلام يقول: في السّبك أنّه مركب من النّرد والشطرنج فلا يجوز (لأنه من المقامرة). قلت: وقد ذكر اللّخمي في كتاب الأشربة أنّ الخمر إنمّا حرم بالكتاب. وذكر ابن عطية في سورة المائدة أنه إنّما حرم بالسنة. ونقل لي: أن القاضي ابن عبد السلام/ أنكره وأنهم نظروه في جامع مقدمات ابن رشد فوجدوه موافقا لابن عطية ولم أجده أنا فلعله في البيان. وخرج الترمذي أن عمر بن الخطاب رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قال: اللهم بيّن لنا في الخمر؟ فنزلت آية البقرة. فقال: اللهم بين لنا في الخمر؟ فنزلت آية النساء. {لاَ تَقْرَبُواْ الصلاة وَأَنتُمْ سكارى} فقال: اللهم بيّن لنا في الخمر بيان (شفاءٍ) فنزلت آية العقود إلى قوله: فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ. فقال عمر: انتهينا انتهينا. خرجه الترمذي عن أبي ميسرة عن عامر بن شرحبيل عن عمر (ب). قوله تعالى: {وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ اليتامى قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ ... }. ابن عرفة: تضمنت الآية أنّ للموصى في خلطه بمال اليتيم ثلاث حالات: النظر في المصلحة، والنظر في المفسدة، والنظر المطلق. والأول مستفاد من قوله: «قٌلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ». والثاني من قوله: «والله يَعْلَمُ المفسد مِنَ المصلح». والثالث من لفظ «إِخْوَانُكُمْ» فإنه يقتضي التساوي. والظاهر أن «خير» مبتدا «واصلاح» خبر لتكون (الخبرية) محصورة فيه. ولو جعلنا «اصلاح» مبتدأ «وخير» خبرا لاحتمل أمرين: أحدهما: أن يراد أن الفساد خير لأن (المختلقات) يمكن اجتماعها في شيء واحد. والثاني: أن الكفارات خير. قوله تعالى: {والله يَعْلَمُ المفسد مِنَ المصلح ... }. في الآية سؤال وهو أن القاعدة في التمييز أن يميز القليل من

221

الكثير وتقرر في الوجود وفي الشرع أن الفساد أكثر من الصلاح. قال الله عَزَّ وَجَلَّ في سورة غافر: {إِنَّ الساعة لأَتِيَةٌ لاَّ رَيْبَ فِيهَا ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يُؤْمِنُونَ} قال ابن عرفة: والجواب أنه باعتبار الطلب لا باعتبار الوجود الخارجي فنبه بالآية على أنّ المطلوب تكثير الصّلاح وتقليل الفساد حتى يكون في الوجود أكثر من الفساد. قيل لابن عرفة: أو إشارة إلى عموم علم الله تعالى ما قلتموه في السؤال إنما يكون في المخلوقين لقصورهم وعجز إدراكهم، فيكون تمييز القليل من الكثير أهون عليهم من العكس. قلت: أو يجاب بأن الآية خرجت مخرج التخويف فالمناسب فيها تعلق العلم والقدرة بالمفسد ليميز من المصلح. انتهى. قوله تعالى: {وَلَوْ شَآءَ الله لأَعْنَتَكُمْ إِنَّ الله عَزِيزٌ حَكِيمٌ}. قال ابن عرفة: وهي حجة لأهل السنة في قوله: إن تكليف ما لا يطاق جائز غير واقع. قيل له: قد تقدم لكم أن الشرط يتركب من المحال؟ فقال: إن الآية خرجت مخرج التمدح بكمال قدرة الله تعالى والامتنان على خلقه بتيسير التكليف، والتَّمدح إنما يكون بالجائز. وهذا نظير جواب الجزري المتقدم في {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ.} قوله تعالى: {وَلاَ تَنْكِحُواْ المشركات حتى يُؤْمِنَّ ... }. النكاح حقيقة في الوطء مجاز في العقد، وقيل حقيقة فيهما. قال القاضي عياض في تنبيهاته: «النكاح لغة الجماع والضمّ، يقال: نكحت البُرّ في الأرض ونكحت الحصاة خفاف الإبل، ثم استعمل في الوطء وهو في الشرع يطلق على لعقد لأنه بمعنى الجمع ومآله إلى الوطء. قال الزمخشري في أساس البلاغة: ومن المجاز قولهم: نكحت الحصى خفاف الإبل: فظاهره أنه حقيقة في العقد مجاز في الوطء، إلا أن يراد المجاز في الإسناد. والنهي هنا للتحريم بدليل ما عطف عليه وهو التحريم بلا خلاف، وإن كان ابن التلمساني أجاز عطف التحريم على المكروه وعكسه لكن الأغلب التساوي. قيل لابن عرفة: ما أفاد قول الله تعالى» حتى يُؤْمِنَّ «مع أنّ النكاح (يستقل) بدونه؟ (فأجاب) هو أصرح في دوام الانتهاء بأن الأول مفهوم صفة وهو مفهوم غاية، والقائلون بإعمال مفهوم الغاية أكثر من القائلين بإعمال مفهوم الصفة. قلت: أو يجاب بأنّه لو لم يذكر لأوهم إباحة نكاحهن إن رجعن عن الإشراك إلى دين اليهود والنّصارى فيكون في الآية حجة لما حكى ابن عطية عن ابن عباس والحسن ومالك فيما ذكره عنه ابن حبيب من أنه عام فيهم وفي الكتابيات، ثم نسخت بقوله في المائدة: {والمحصنات مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ} قوله تعالى: {خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ ... }.

خيْرٌ (أفعلَ من) الجواز اشتراك المتباينات في وصف ما. فالخيرية في المشركة في الدنيا فقط أما بكثرة المال أو الجمال وميل النفس إليها. وفي المؤمنة باعتبار الدنيا والأخرة واليهود والنصارى ليسوا من المشركين لقول الله عَزَّ وَجَلَّ: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ الناس عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ اليهود والذين أَشْرَكُواْ} قال ابن عرفة: وأغرب ابن الخطيب: فقال: احتج من قال: بأنّهم مشركون بقول الله تعالى: {إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ} وأجمعوا على أن اليهود والنّصارى لا يغفر لهم فهم مشركون (وإلاّ لزم) منه تطرق احتمال المغفرة لهم. قوله تعالى: {وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ ... }. من إثبات ما يتوهم نفيه، أو نفي ما يتوهم ثبوته مثل: {وَمَآ أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ} قلت: وتقدم لابن عرفة في الختمة الآخرى أن هذه الآية يرد بها على ابن بشير فإنه نقل في أول كتاب الجنائز عن ابن عبد الحكم: ان الصلاة على الجنائز فرض كفاية محتجا بقول / الله تعالى: {وَلاَ تُصَلِّ على أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَداً وَلاَ تَقُمْ على قَبْرِهِ} والنهي عن الصلاة على المنافقين للتحريم فضده وهو الأمر بالصلاة على المؤمنين للوجوب. وتعقبه اللّخمى بأنّه لا يكون (هذا) للوجوب إلاّ إذا كان له (ضد) واحد، وهذا له (أضداد)، وهو إما وجوب الصلاة على المؤمنين أو كراهتها، أو إباحتها (أو استحبابها). وأجاب ابن بشير: بأن النّهي إذا كان للتحريم فضده الأمر للوجوب بلا شدة، وإن كان للكراهة فضده الأمر للندب. وقال ابن عرفة: وهذا باطل بالكتاب والسنة والنظر، أما الكتاب فقول الله تعالى: «وَلاَ تَنْكِحُواْ المشركات» فإنّ النهي عن نكاح المشركات للتحريم وضده وهو الأمر بنكاح المسلمات للنّدب على الجملة. (وإنما) يجب في بعض الأحيان على بعض الأشخاص، وأما السنة فخرج مسلم في كتاب الحج في رواية (قتادة) عن قزعة عن أبي سعيد الخدري رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «لا تسافر امرأة فوق ثلاث ليال إلا مع ذي محرم». فهذا نهي عن السفر مع غير ذي المحرم، وهو

للتحريم (وضده) وهو الأمر بالسفر مع ذي محرم مباح لا واجب. وقال القاضي أبو بكر الباقلاني في كتاب التقريب والارشاد ما نصه: وأما النهي عن الشيء فلا بد أن يكون أمرا بضده إن كان له ضد واحد أو بعض أضداده إن كان له أضداد، ويكون أمرا بالضد على سبيل ماهو نهي عنه إما وجوبا أو ندبا. ونص القرافي في شرح التنقيحات على أن ضد الكراهة الندب. قلت: وذكرت ذلك لشيخنا المفتي الفقيه الصالح الحاج العلامة أبي العباس أحمد بن ادريس بن بلال البجائي وللفقيه أبي الحسن علي بن يحيى بن عجمي البجائي فأجابا عنه (بوجهين): الأول: قال ابن إدريس: النهي للتحريم ضده الأمر للوجوب ما لم يعارضه معارض كقولهم في الأمر بصغة افعل: إنّه للوجوب ما لم تقترن به قرينة صارفة عنه للندب وهنا قد جاء الأمر بالنكاح صريحا قال الله تعالى: {فانكحوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النسآء} وفي الحديث: «من استطاع منكم الباءة فليتزوج» فإذا حمل الأمر الصريح على الندب لقرينة فأحرى أن يحمل على ذلك الأمر المفهوم من النهي فلا يتم للشيخ ابن عرفة بهذه الآية. قلت: وذكر بعضهم لابن عرفة معبرا عنه بان هذا خرج بالدليل الدال على عموم وجوب النكاح. فقال ابن عرفة: أين الدليل مع قول داود بوجوب نكاح الحرة مطلقا. قال ابن عرفة: وإنّما يعترض على اللّخمي بما قال المازري فانظره؟ الجواب الثاني: قال الشيخ ابن (عجمي): إنما مفهوم الآية أن من أراد النكاح هنا يجب عليه إن ينكح المؤمنات كما أنه يحرم على من يريد النكاح هنا أن ينكح المشركات وكذا

222

الكلام في الحديث سواء، والمفهوم هنا مفهوم الصفة وهذا لا نزاع فيه. قلت: وكلام الشيخ ابن إدريس مثل ما رد به الإمام ابن رشد في مقدماته على ابن عبد الحكم. وانظر ما تقدم لنا عن ابن الحاجب في قول الله تعالى: {واعلموا أَنَّ الله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} قوله تعالى: {والله يدعوا إِلَى الجنة والمغفرة بِإِذْنِهِ ... }. إن قلت: هلا قال: والمؤمنون يدعون إِلَى الجَنَّةِ وَالمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ. كما (أسند) للمشركين الدّعاء إلى النار. قلت: أجاب ابن عرفة بأن فيه كمال تشريف لدين الإسلام كما قال الله تعالى: {إِنَّ الذين يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ الله} قال ابن عرفة: فإن قلت المغفرة سبب في دخول الجنة فهلا: قدمت عليها؟ فالجواب من وجوه: الأول: قال ابن عرفة: تقدم لنا الجواب عنه فإنّها إنّما أخّرت لتتناول الآية من أطاع الله ولم يعصه فإنه يدخل الجنة (دخولا أوليا) ومن أطاع الله وعصى فإنه يدخل النّار ويغفر له فيدخل الجنة، ومن أطاع الله وعصى وغفر له فإنه أيضا يدخل الجنة دخولا أوليا. الثاني: أنه قصد ذكر المغفرة بالتضمن وبالمطابقة. الثالث: أن المراد أولائك يدعون إلى النّار والمعصية، وهذا مقابل له فحذف من الأول لدلالة هذا المذكور في الثاني عليه. ورده ابن عرفة: بأنّ الآية إنما جاءت تهييجا على الطاعة، فالمناسب أن يذكر فيها (المخوفات) والدعاء للمعصية ليس بمخوف. قلت: تقول التقدير: أولئك يدعون إلى النار والعذاب. قال ابن عطية: والإذن (العلم) و (التمكين) فإن انضاف إليه أمر فهو أقوى. قال ابن عرفة: (على هذا) لا يتقرر الدعاء للمغفرة. قيل له: الإذن الكلام والكلام يصدق على الخبر وعلى الأمر؟ فقال: الأمر مثل {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَآ أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} قيل له: والأمر عندنا ليس هو (عين) الإرادة لأن الإنسان قد يأمر بما لا يريد. قوله تعالى: {وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ ... }. قال ابن عرفة: يستفاد منه حجة وقوع المجمل في القرآن لأن الآية دلّت على جواز تأخير البيان إلى وقت الحاجة. قوله تعالى: {وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ المحيض ... }. قال القاضي عياض في تنبيهاته/: قيل أصله: من حاضت (السمرة) إذا خرج منها (ماء) أحمر، ولعل الشجرة إنّما شبهت بالمرأة. قال ابن عرفة: ظاهرة أنه حقيقة فيهما. وقال الزمخشري: في (أساس) البلاغة: من المجاز قولهم حاضت (السُّمرة) اذا خرج منها ماء أحمر. قال ابن عرفة: وينبغي أن ينظر الأغلب، والظاهر أنه مجاز كما قال لأن مسيس الحاجة إلى الإخبار عن حيض المرأة أشد وأكثر من الإخبار عن حيض السمرة فينبغي أن يحكم بأنّه الأسبق وحيض (الشجرة) منقول عنه. قوله تعالى: {قُلْ هُوَ أَذىً ... }. (وقال تعالى: {لَن يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذىً} والجامع أنّ الأذى هو الأمر المؤلم الذي) يقصد إماطته، وأتى هنا بالحكم مقرونا (بعلته) ونصوا على أنّ (الأصل تقديم العلة على المعلول) كهذه الآية، وكقولك: سهى فسجد، وزنا فرجم. وقد يجيء الحكم مذكورا قبلها (وإنّما) ذلك لأن العلة أصل في الأصل واعتبارها فرع في

223

الأصل. واختلفوا في الحائض إذا طهرت من الدم ولم تتطهر بالماء فالمشهور أن وطأها حرام. وحكى القاضي عياض في الإكمال عن ابن بكير جواز وطئها ابتداء من غير كراهة. قلت: وكذا حكى ابن العربي في الاحكام وحكى غيرهما عن ابن بكير كراهة وطئها. وقرأ أبو بكر وحمزة «حتى يَطْهُرْنَ» بالتشديد واختلفوا في فهم الآية على القول المشهور، فقال بعض البيانيين: فيها حرف التقابل أي حتَّى يَطهرن وَيَتَطَهَّرْنَ فَإِذَا طَهُرنَ وَتَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنّ. مثل قول الله عَزَّ وَجَلَّ ّ {وَمَثَلُ الذين كَفَرُواْ كَمَثَلِ الذي يَنْعِقُ} وقول الشاعر: وإني لَتَعْرُوني لذكراك هزة ... كما انتفض العصفور بَلَّله القطر أي: وإني لتعروني لذكراك سكون ثم يزول عنِّي فأفيق وأنتفض لها كما يعتري العصفور عندما بَلَّله القطر، فإنه يسكن ثم ينتفض وكذا قوله الآخر: فإن كان شجوا فاعذروني على الهوى ... وإن كان داء غيره فلك العذر أي فاعذرني فلك العذر وإن كان داء غيره فاعذرني أيضا. انظر ابن الصائغ في باب المعرب والمبني. وقال العلامة ابن رشد: في البيان والتحصيل «يَطهرن» بمعنى: يَتَطَهَّرْنَ بدليل قراءة التشديد ولو كان الاول في الدّم والثاني للماء لجاز بالاول ما لم يجز بالثاني، إذ لا يقال: لا تقم حتى يأتي زيد، فإذا أتى عمرو فافعله. وقال ابن عبد البر في الاستذكار: الحجة للمشهور أنهم جعلوها كالحيض في العدة فأوجبوا لزوجها عليها الرجعة ما لم تغتسل بالماء فإن قيل: الله تعالى قال: «حتى يَطْهُرْنَ». وَحَتَّى غاية لما بعدها بخلاف ما قبلها؟ فالجواب: بأنه قد يقع التّحريم بشيء آخر ولا يزول بزواله لعله أخرى (تخلفه) كقوله تعالى في المبتوته: {فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حتى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} وليس بنكاح الزوج تحل له حتى يطلقها الزوج وتعتد منه. انتهى. قلت: ونقل صاحبنا الفقيه أبو عبد الله أحمد بن علي بن ميمون النّجار عن بعضهم أنه تعقب على ابن رشد بأن التطهير بالماء يستلزم الطّهر من الدم فصار كقوله: لا تفعل كذا حتى يأتي زيد فإذا دخل عندك زيد فافعله. لأن دخوله مستلزم لإتيانه. وهذا الكلام جائز بلا شك وذكرته لشيخنا ابن عرفة فاستحسنه وأجاب عن كلام ابن عبد البر بأنّ (المبتوتة) خرجت بالإجماع لإجماعهم على أنها لا تحل للاول حتى يطلقها الثاني ومسألتنا فيها (الخلاف). قلت: وبين الأصوليين خلاف في لزوم عكس العلة الشرعية، وأشار إليه ابن بشير في النكاح الأول، وكلام ابن عبد البر مبني على عدم انعكاسها. قوله تعالى: {إِنَّ الله يُحِبُّ التوابين ... }. التَّشديد لتكثير التَّوبة ودوامها، فقد تكون توبة واحدة لكنّها دائمة فمن يذكر المعصية ويندم عليها تائب، ومن يذكرها ويتشوّق لعودته إليها غير تائب لأنه مصر عليها، وتارة يقف ولا يندم ولا يتشوّق إلى العودة، واختلفوا هل تجب التوبة في كل زمن هو فيه ذاكر للمعصية، أم لا تجب على قولين؟ قوله تعالى: {فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أنى شِئْتُمْ ... }. قال ابن عرفة: هذا أمر، فإن قلنا: إنّ سبب نزولها ما ذكره المفسّرون عن أم سلمة من أن قريشا كانوا

224

يأتون على النساء على هيئات مختلفة، فلما تزوجوا الأنصار أرادوا ذلك فامتنعن منه، فنزلت الآية فان. قلنا: سبب نزولها هذا فيكون أمرا واراد عقيب الحظر فهو للاباحة وإن قلنا كما قال الزمخشري: فيكون أمرا ابتداء للوجوب، أو الندب. قوله تعالى: {واتقوا الله واعلموا أَنَّكُم مُّلاَقُوهُ ... }. تأكيد في وجوب امتثال هذا الأمر وتحريم الوطء في (الدبر) ولذا قال: إنه شبه اللّواط. وفي نوازل الشعبي ضرب سحنون فاعله (خمسين) سوطا، وفي كتاب الجامع من العتبية إجازته عن مالك وهي مكتوبة وهي مكتوبة فيه (بالفور). قال ابن بزيزة في شرح الجمل: الجمهور على المنع وزعم ابن رشد أنّ (المشهور) جوازها وأسند عنه عيسى بن دينار فقال: هذا أحلى من شرب الماء البارد. ونقل أبو بكر الخطيب في تاريخ بغداد أن مالكا سئل عنه فقال: الآن كما اغتسلت منه. قوله تعالى: {وَبَشِّرِ المؤمنين}. قال ابن عرفة: قد يتمسك بها المعتزلة في قولهم: إن مرتكب الكبيرة مخلد في النار لأن المناسب أن كان يقال وبشر المحسنين (أو بشّر المتّقين) الذين يجتنبون هذا الفعل، فما قال «وَبَشِّرَ / المُؤْمِنِينَ» دل على أن فاعل هذا الفعل غير مؤمن؟ قال: والجواب أن المراد (المؤمنين) الايمان الكامل. قوله تعالى: {وَلاَ تَجْعَلُواْ الله عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ ... }. قيل: أي مانعا من أيمانكم. وأطلق اليمين على المحلوف عليه مجازا، أي لا تجعلوه مانعا من فعل ما حلفتم عليه، وقيل أي لا تكثروا الحلف به وإن كان ذلك تعظيما له خشية أن يفضي بكم ذلك إلى التهاون وعدم التعظيم فأحرى فيما عداها. قال ابن عرفة: وعلى الوجه الأول يكون في الآية عندي دليل على أنّ الاسم غير المسمّى لأن الجعل لا يتعلق بالذات الكريمة، وإنّما يتعلق بالألفاظ الدّالة عليها بخلاف قولك: جعلت زيدا

225

حائلا بيني وبين كذا. وكذلك أيضا على الثاني لأن الحلف إنّما هو بالألفاظ لا بالذات. قال ابن عرفة: وقول الله تعالى: {أَن تَبَرُّواْ وَتَتَّقُواْ ... }. قيل إرادة البرّ، وقيل أي إرادة أن تكونوا أبرارا فعلى الأول تكون ترقيا، لأن التقوى أخص من البر، والإصلاح بين الناس أخص. قوله تعالى: {لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ الله باللغو في أَيْمَانِكُمْ ... }. حكى ابن عطية في اللغو (خمسة) أقوال: منها قول ابن عباس ومالك: اللغو حلف الإنسان على تيقنه فتبين له خلافه. ابن عطية: وهذا اليقين هنا غلبة الظن أطلقوا عليه لفظة اليقين. قال ابن عرفة: وهذا مخالف لكلام الفقهاء كلّهم وأين هو من قول ابن الحاجب. قلت: والظاهر أن الظن كذلك بعد أن قال: اللغو هو الحلف على ما يعتقده فتبين خلافه. وقيل: ما سبق إليه اللسان بغير عقد. وفي المدونة: والغموس الحلف على تعمد الكذب أو على غير (يقين) فيدخل فيه الظّن. قيل لابن عرفة: إن الشيخ القاضي أبا العباس أحمد بن حيدرة كان يقول الظاهر أن اللغو هو قول: الرّجل: لا والله وبلى والله، لقوله تعالى في سورة العقود {ولكن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأيمان} ففسر الكسب هنا بما عقد عليه اليمين وحلف الانسان على ما يعتقده ثم يتبين له خلافه هو مما كسبت القلوب لأنه انعقد عليه (اليمين) بخلاف قوله: لا والله وبلى والله. فانه شيء جرى على اللسان من غير مواطأة القلب عليه فقال ابن عرفة: يمكن تأويل الآية على القول الآخر فإن الماضي لا يتعلق به كسب لعجز الفكر عن تلافيه والمستقبل منتظر الوقوع فيتعلق به الكسب أعني بانتظاره والتماسه وإدراكه هل هو كذلك أم لا؟ بخلاف الماضي. قوله تعالى: {والله غَفُورٌ حَلِيمٌ}. يحتمل أن يرجع «غفور» للغو اليمين و «حليم» لعدم المعاجلة بالعقوبة في اليمين الغموس. قوله تعالى: {لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ ... }.

227

قال ابن العربي: في قول الله عَزَّ وَجَلَّ {واستشهدوا شَهِيدَيْنِ مِّن رِّجَالِكُمْ} وفي قول الله عَزَّ وَجَلَّ: {والذين يُظَاهِرُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُواْ} أجمعنا على أن الأمة من نسائنا، فليكن العَبْدُ من رجالنا فتجوز شهادته، وكذلك يقال هنا: إن لفظ النساء يتناول الحرائر والإماء. قال ابن عرفة: أو يجاب هنا بالقرينة وهو أن منصب العدالة شريف عظيم فلا تقبل فيه العبيد، وكذلك القرينة هنا (لأجل) أنّ الإيلاء إنّما هو لرفع الضرر على الزوجة والمشقة، فإذا روعي ذلك في الزوجة الحرة لزم أن يراعى في الأمة الزوجة من باب أحرى ما اتصف به من الزلة الموجبة لانتهاك (الحرمة) فضررها أشد. قوله تعالى: {تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ ... }. قالوا: هذه الإضافة على معنى (في). قال ابن عرفة: فهذا دليل على صحة القول بأنه بنفس انقضاء الأربعة أشهر تخرج مطلقة لأن التربّص هو في الأربعة أشهر فإذا انقضت انقضى التربص إلاّ أن يقال: إن التربّص (يقتضي) عند فراغه إما الطلاق أو (أيقافه) ليطلق، وكان أوّلا اتفاقا بغير طلاق. أو يقال: إنّ هذا التقسيم في الآية يدل على أنّ الزوج مخير بين أن يبقي أو يطلق، فدل على أنّه لا يلزمه الطلاق بمضي الأجل. قوله تعالى: {فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ}. قيل لابن عرفة: هذا دليل على أن الإيلاء غير جائز؟ فقال: المذهب أنّه جائز على تفصيل، والصّحيح جوازه مطلقا، لأنّ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ آلى من نسائه. وقد ذكر الشيخ ابن العربي قضيته لما رد على ابن الخطيب في قوله: إن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ آلى وطلّق وظاهرَ. فقال: له قولك آلى وطلق صحيح وقولك ظَاهَرَ (غير صحيح) كيف والله تعالى يقول {وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنكَراً مِّنَ القول وَزُوراً} قال ابن عرفة: والجواب بأن تكون المغفرة والرحمة راجعين بسبب الإيلاء لأن الإيلاء لا يكون إلاّ عن غضب وشرور وذلك غير جائز فحسن تعقيبه بالمغفرة. قوله تعالى: {وَإِنْ عَزَمُواْ الطلاق فَإِنَّ الله سَمِيعٌ عَلِيمٌ}. قال ابن عرفة: جواب الشرط مقدر، أي ارتفع حكم الإيلاء (عنهم).

228

قال الزمخشري: فإن قلت: العزم من أعمال القلب فيكف عقبه بالسّمع وهو من لوازم الأقوال لا الأفعال. قال ابن عرفة: وهذا (السؤال) لا يوافق أصله فإنه يرد صفة السمع لصفة العلم فلا فرق / عنده بين السميع والعليم وأيضا فهو ينفي الكلام النفسي. وأجاب الزمخشري: بأنّ العازم على الطلاق لا يخلو من مقاولة ودمدمة. وأجاب ابن عرفة: بأنا (نثبت) الكلام النفسي، ويصح عندنا سماعه كما سمع موسى كلام الله القديم الأزلي، وليس بصوت ولا حرف، أو يقال: إنّ العزم على الطلاق له اعتباران: اعتبار في نفس الأمر عند الله تعالى، واعتبار في الظاهر لنا بالحكم الشرعي من حيث يرتفع له حكم الإيلاء عن صاحبه، ويخرج عن عهدة الحكم عليه، فهو بهذا الاعتبار لا يعلم إلا بأمارة وقول يدل عليه، وذلك القول مسموع فعلق به السمع بهذا الاعتبار والعلم باعتبار الأول. قوله تعالى: {والمطلقات يَتَرَبَّصْنَ ... }. هذا عام مخصوص (بالمطلقة قبل البناء والحامل والصغيرة والآيسة من الحيض. ابن عرفة: وهو (مخصوص) بدليل متصل لأنّ الحامل معلوم عمارة رحمها فلا بد من انتظارها وقت زوالها، ومن عداها معلوم براءة أرحامهن فلا فائدة في عدّتهن ثلاثة قروء. قيل لابن عرفة: هذا إن قلنا: لا تحيض، وأما على قول ابن القاسم بأنها تحيض فيكون مخصوصا بدليل منفصل عن الآية. قوله تعالى: {ثَلاَثَةَ قروء ... }. مشترك بين الطّهر والحيض، والشافعي يقول: الأقراء هنا الحيض. والإمام مالك رَضِيَ اللَّهُ عَنْه نقل الكل عنه أنها للأطهار، ونقل اللَّخمي عنه قولين، والقرء في اللغة الجمع. قيل لابن عرفة: كنتَ قلتَ لنا: إن هذا ليس من ذلك لأن الجمع من قريت الماء في الحوض غير مهموز، والقرء مهموز. وقلت لنا: الصحيح أنه للقدر المشترك وهو براءة الرحم؟ قال ابن عرفة والظّاهر في لفظ الآية أن الأقراء الحيض، لأن التربص هو الانتظار، والانتظار يقتضي (أقراء مستقبلة)، وقد أمر الشارع بالطلاق في طهر لم تمس فيه، فاذا طلقها طاهرا، فان قلنا: إن الأقراء: الحيض، صح الانتظار، وان قلنا: الاطهار، لم يستقم إسناد الانتظار إليها لأن (القرء) الأول حاصل في الحال. فلا (يقال) له: انتظره. وأجيب: بأنّ الانتظار أسند ((لمجموع الثلاثة أطهار.

(فقال: على أنّها الحيض يكون) الانتظار أسند لمجموعها)). ولكل واحد منها وعلى أنّها الأطهار فالانتظار مسند لمجموعها باعتبار الكل لا باعتبار الكلية. قوله تعالى: {وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ الله في أَرْحَامِهِنَّ ... }. قال ابن عرفة: هذا إخبار عن الحكم، فلا يصح أن يكون الشرط الذي بعده قيدا فيه لأن متعلق الخبر حاصل في نفس الأمر سواء حصل الشرط أو لا. لأن حكم الله لا يتبدل فلا يحل لهن ذلك سواء آمنّ أو كفرن، ولا بدّ أن يقال: إنه شرط في لازم ذلك الخبر. والتقدير لا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن فلا يكتُمنه إن كن يؤمن بالله، وهذا على سبيل التهييج لئلا يلزم عليه التكفير بالذنب وهو مذهب المعتزلة. قيل لابن عرفة: ما قلتموه إنما (يقوم) على أن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة؟ وقال ابن عرفة: واستعمال الأشياء (المعقمة) المانعة من الحمل قبل (الحمل) كرهها في العتبية، وأما بعد الحمل في الأربعين فالجمهور على المنع من إسقاط الماء من الرحم ذكره ابن العربي وغيره. وحكى الامام اللخمي فيه خلافا شاذا، واما بعد التطوير والتكوين فأجمعوا على تحريم ذلك. قوله تعالى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ ... }. مخصوص بطلاق الخلع. وفي المدونة قولان إن قال لها: أتت طالق طلاق الخلع. قوله تعالى: {إِنْ أرادوا إِصْلاَحاً.}. مفهومه: إن لم يريدوا إصلاحا فلا حق لهم سواء أرادوا الإفساد أو لم يريدوا شيئا. قيل لابن عرفة: فعلى هذا لايجوز أن يتزوجها ليطلقها إذ لا (إصلاح) فيه؟ فقال: قد يكون فيه الإصلاح، تأمل. قوله تعالى: {وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ ... }. أي في التفضيل، وفي تفسير الدّرجة خلاف (فالجمهور) يحملونها على حسن العشرة كما قال ابن العباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما. وهذا الظاهر، فيقولون وله عليها من القيام بحقه المبادرة

229

إلى غرضه ورفقه، مثل الذي عليه وزيادة درجة التقديم. ويريدون المعنوي وهو التفضيل ومن بدع التفاسير ما نقلوه عن ابن مسعود أن الدرجة (اللحية). قال ابن عرفة: والتفضيل هو الأمر المُباح مثل إذا تعارض سكناها في دار أرادتها مع سكناها في دار أخرى أرادها زوجها وهما مستويان، فينبغي للمرأة إيثار اختيار الزوج. قوله تعالى: {الطلاق مَرَّتَانِ ... }. فسّروه بوجهين: إما الطّلاق الرجعي مرتان لأن الطلقة (الثالثة) لا رجعة فيها، وإما الطّلاق السني مرتان. (فإن) قلت: الطلاق السّني ثلاث تطليقات؟ (قلنا) لأجل هذا قال الزمخشري: إنّ التثنية ليست على حقيقتها بل للتكرار أي مرة بعد مرة مثل {ثُمَّ ارجع البَصَرَ كَرَّتَيْنِ} أي كرة بعد كرة فيكون تنبيها على أنّ الطّلاق الموقع في كلمة واحدة غيرُ سنّي. فإن قلت: هلاّ قال: الطلاق ثنتان؟ فالجواب من وجوه: الأول: قال ابن عرفة: قدمنا أن (الثنتين) يصدقان على الطلاق الممكن والمحال فيقال: الطلاق طلاقان. ويكون محالا بخلاف المرتين لأن المرة تفيد بدلالتها / على الزمان أن الطّلاق وجودي واقع. الثاني: أنه إنما قيل «مرتان» تنبيها على أن المراد الطلاق (مرة بعد مرة لأن المرة زمان والزمانان متفرقان بلا شك لاستحالة اجتماعهما) ولو قيل: ثنتان الطلاق مجتمعا ومفرقا لأفاد بذلك النهي عن أيقاع الثالث في كلمة واحدة. قيل لابن عرفة: إن الشيخ الفقيه القاضي أبا العباس أحمد بن حيدرة والفقيه المفتي أبا القاسم الغبريني رحمهما الله تعالى سئلا عمن شهد عليه أنه قال: لزوجته ما نصّه: أنت طالق مرتين؟ قال لها في مرة واحدة فقالا: يُنَوّى. فاستشكله ابن عرفة لأنه صريح أو ظاهر في الاثنتين وقد أسرته البينة. أبو حيان: أي عدد الطلاق مرتان أو إيقاعه مرتان. قال اين عرفة: إن أراد تقدير معنى فصواب، وإن أراد أمرا حاجيا لا بد منه ولا يتم اللفظ إلا به، فليس كذلك. قال ابن عرفة: والآية دالة على أن طلاق الحر مساو لطلاق العبد. قوله تعالى: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ ... }.

قال ابن عرفة: فإن قلت: هلا قيل: فإمساك بإحسان أو تسريح بمعروف، وهذا السؤال مذكور في حسن الائتلاف؟ قال: وعادتهم يجيبون بأن المعروف أخفّ من الإحسان لأن المعروف حسن العشرة والتزام حقوق الزوجية والإحسان ألاّ يظلمها شيئا من حقها، فيقتضي الإعطاء وبذل المال أشق على النفوس من حسن العشرة (فجعل) المعروف مع الإمساك المقتضي لدوام العصمة إذ لا يضر تكرّره، وجعل الإحسان المشق على النفوس (مع) التسريح الذي لا يتكرر بل هو مرة أو مرتان أو ثلاث فقط. ونقل ابن يونس عن أبي (عمر): أنّ هذه الآية ما زالت يكتبها الموثقون في الصّدُقات. قال: وكان الشيخ القاضي أبو عبد الله محمد بن عبد السلام ينكر على أهل زماننا كتبها في الصدقات إذ لا يذكر في عقد النكاح إلا ما يلائمه ويناسبه. وأما الطلاق ففي ذكره فيه تفاؤل ومناقضة للنكاح ولذا (تجد) بعضهم يقول: من الإمساك بالمعروف أو المعاشرة بالإحسان (فيؤول) اللفظ. أبو حيان: («إِمْسَاكٌ») إما خبر، أي فالواجب إمساك، وإما مبتدأ وخبره مقدر إما قبله أي فعليكم امساك أو بعده أي فإمساك عليكم. قال ابن عرفة: سببه أنّ «بِمَعْرُوفٍ» إن كان صفة الإمساك قدر الخبر متأخرا، وإن كان متعلقا به قدر مقدما لأن المبتدأ نكرة. قوله تعالى: {وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمَّآ آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً ... }. قال ابن عرفة: إن أريد تأكيد التحريم يقال: لا يحل كذا، وإن أريد مطلق التحريم يقال: لا تفعل كذا، لاحتماله الكراهة، وكذلك المفتي لا يقول: لا يحل كذا، إلاّ فيما قوي دليل تحريمه عنده، وأما دون ذلك فيقول: لا يُفعل أو لا ينبغي (أن تفعل) كذا. قوله تعالى: {مِمَّآ آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً ... }. قال أبو حيان: حذف العائد على (ما) لأنه (المفعول) الأول للفعل وهو ضمير نصب متصل، والثاني كذلك. وتقديره مِمَّاءَاتَيْتُمُوهُنّ. هذا نص أبي حيان، إن «ءاتَيْتُمْ» يعتدّى إلى مفعولين حذف أحدهما وهو العائد على ما تقديره (ءاتيتموهن إيّاه). قال الصفاقسي: فيه نظر لأنّهم نصّوا على أنّ الضمير المنصوب لا يجوز (حذفه) ولا يجوز اجتماع ضميري نصب متصلين. فقال بعض الطلبة: إنّما ذلك إذا اتفقا في الإفراد والتثنية والجمع أما إذا كان أحدهما مفردا والآخر مجموعا فنص سيبويه على جوازه. وقال بعض الطلبة: بل ضعفه ابن مالك.

230

قال ابن عرفة: وعادتهم يجيبون بأن (يردوا) على أبي حيان بأنّ المحذوف هنا ضمير نصب متصل. والتقدير: مماءَاتتموه إيّاهن، فحذف الضمير المفرد واتصل الآخر بالفعل بعد أن كان منفصلا فصار «ءَاتَيْتُمُوهُنّ». قوله تعالى: {إِلاَّ أَن يَخَافَآ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ الله ... }. هذا إما استثناء من الأسباب، أي منهن شيئا لسبب من الأسباب: خوف عدم إقامة حدود الله. والزمخشري يعبر عنه في غير هذا بأنه استثناء من أعمّ العام. قال ابن عرفة: وهذا يدل بالمطابقة على جواز الخلغ منهما معا وباللزوم على جوازه من المرأة وحدها وأما الزوج فيستحيل ذلك في حقه. وهذا الخلع للزوجين قد يكون للحاكم. ومثاله: إذا زوج الأب ابنه الصغير ومات وأراد القاضي أن يخالع منه. قوله تعالى: {إِلاَّ أَن يَخَافَآ ... }. ذكر أبو حيان أنّه في موضع الحال. ورده ابن عرفة بأنّ «أَنْ» الموصولة (أعرف المعارف عندهم والحال لايكون إلا نكرة. قلت: الحال هنا) معنوية لا لفظية والتعريف في اللفظ لا في المعنى. قوله تعالى: {فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افتدت بِهِ ... }. قيل لابن عرفة: الفدية في اصطلاح الفقهاء هي المخالعة بالبعض لا بالكل وهو مناسب لقوله «أَن تَأْخُذُواْ مِمَّآ آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً». فقال: اللّغة لا تفسر بإصطلاح. والمناسب هناك منع الخلع بالبعض فيستلزم منعه بالكلّ من باب أحرى. والمناسب هنا إباحة الخلع بالجميع فيستلزم إباحته بالبعض. قوله تعالى: {وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ الله فأولئك هُمُ الظالمون}. قال ابن عرفة: / إفراد الضمير العائد على (مَنْ) أوّلا (و) جمعه ثانيا مناسب لفظا ومعنى؛ أما اللفظ فالمستحسن عند النحويين معاملة لفظ (من) أولا ثم معناها، وأما المعنى فأفرد ضمير المتعدي تقليلا له ومبالغة في التنفير من صفة التعدي حتى كأنه لا يقع (الأمر) من أحد. ثم جمع الظالمين لأنه (جزاء) انتقام وعقوبة فالمناسب جمعه (ليعم) كل ظالم حتى يزجر عن ذلك من هذه صفته. قوله تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ ... }

قيل لابن عرفة: وما أفاد قوله «من بعد» والكلام يستقل بدونه؟ فقال: أفاد التنبيه على مرجوحية الطلقة الثالثة. قال ابن عرفة: (وهذا الخلع) هل هو فسخ أو طلاق؟ منهم من قال: لا يكون طلاقا إلا إذا كان بلفظ الطلاق فتقول له: خالعتك على كذا. فيقول: أنت طالق على ذلك، ولو قال وأنا أخالعك على ذلك أو قال: سرّحتك على (ذلك) وخليت سبيلك وأبحت لك الأزواج، فهو فسخ. وهي مسألة وقعت في المغرب في رجل كان يقال له البخاري، لأنه كان يحفظ البخاري، كان طلق زوجته طلاق الخلع ثلاثا بغير لفظ الطلاق، ثم ردها قبل زوج فاختلف الفاسيون. فبعضهم قال: يرجم، وآخرون قالوا: يلزمه الأدب فقط، لأنه خالع بغير لفظ الطّلاق، وحدّوه حينئذ وتركوه. وهي مسالة المدونه إما أن يعذر بجهل أولا، وهذا الرجل كان عالما. قوله تعالى: {حتى تَنكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ ... }. قال سعيد بن المسيب:: إنها تحلّ بالعقد. قال ابن عرفة: وما حمله عندي إلا أنه يقول: اقتضت الآية أنّها تحل بالعقد، وبينت السنة أنّها لا بد من الوطء. وبهذا كان يرد بعضهم على من قال: كل نكاح في القرآن المراد به العقد إلا (في) هذه الآية، فكان يقول: بل هو هنا حقيقة في العقد، وبينت السنة أنه لابدّ من الوطء. قوله تعالى: {إِن ظَنَّآ أَن يُقِيمَا حُدُودَ الله ... }. ولَمْ يَقُلْ: إن لم يخافا ألاّ يقيما حدود الله، لأن هذه أبلغ في التكليف. قال ابن عرفة: وأهل بلدنا يكلفونها إذا أرادت الرجوع لمطلقها بالثلاث إثبات كون المحلل غير متّهم لفساد الزمان. وأهل القيروان يكلفونها (إثبات) ذلك عند تزويجها. وكان الشيخ ابن هارون لما عزل عن قضاء توزر تكلّم معه القاضي ابن عبد السلام في أمور منها أنّه لم يأمر بذلك، فقال ابن هارون: تكليفها بهذا لم يذكره أحد وفيه مشقة عليها، وإنما الصواب أن يعمل على ما اتفقا عليه هي والذي (حللها) لمطلقها. قال: فأنكر ذلك ابن عبد السلام وقال له: سمعت عنك أنك تأخذ في كل صداق دينارا كبيرا وتسرحه، فسكت عنه.

231

قوله تعالى: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النسآء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً}. وقال قبل هذا: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} وتقدّم أن المعروف أخف من الإحسان فالجمع بين الآيتين بأنه لما وقع الأمر بتسريحهن مقارنا للاحسان إليهن خاف أن يتوهّم أن الأمر بالإحسان إليهن عند تسريحهن للوجوب فعقبه بهذا تنبيها على أنه إحسان بمعروف فهو للندب لا للوجوب. ولفظ التسريح عندهم من الكنايات الظاهرة في الثلاث. وقوله «لاَ تُمْسِكُوهُنّ» قال أبو حيان: إن كان «ضرارا» حالا تعلقت اللاّم (من «لِّتَعْتَدُواْ» به أو ب «وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ»، وإن كان مفعولا من أجله تعلقت اللام) ب «ضرارا» أو كان علة للعلة كقولك: ضربت بني تأديبا لينتفع. ولا يجوز أن يتعلق ب «لاَ تُمْسِكُوهُنَّ» فيكون الفعل قد تغير إلى علة وإلى عاقبة وهما مختلفان. قال ابن عرفة: ليس امتناعه من جهة الإعراب بل من جهة المعنى لأنه لا يقصد أحد (بإمساك زوجته أنه متعدّ حكم الله كما لا يقصد أحد) بالزنا أنه متعدّ حكم الله، وإنّما يقصد أضدادها فيؤول (أمره) إلى تعدى (حكم الله) والزاني يقصد اتّباع شهوته ويؤول أمره إلى أنه تعدى حدود الله. قوله تعالى: {وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ ... }. قال ابن عرفة: هذا احتراس لأنّ من يأمره بأمر ويؤكده بالنّهي عن ضده ثم يزيد تأكيدا، فإنما يفعل ذلك لتعلق غرضه به وانتفاعه به وتضرره من (عدمه) فبين أنه تعالى لا يلحقه من فعل ذلك نفع ولا يناله من (تركه) ضرر بوجه. قوله تعالى: {وَلاَ تتخذوا آيَاتِ الله هُزُواً ... }. ولم يقل: ولا تستهزئوا بآيات اللهِ، مع أن الاستهزاء بها أعم من اتّخاذها هزؤا ونفي الأعم أخص من نفي الأخص لأن اتّخاذ آيات الله هزؤا أخص من مطلق الاستهزاء. فالجواب أنّ الاستهزاء بها لو وقع لما وقع إلاّ على المعنى الأخص ولذلك أضاف الآية إلى الله تعالى إضافة تشريف. ونظيره قول الله تعالى: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ} أجابوا بوجهين:

232

إما بأن المبالغة في نفس الظلم أي لو كان وقع لكان عظيما لأنّ الحقير من العظيم، وإما باعتبار تعدد متعلقاته. وآيات الله إما أحكامه أو دلائل أحكامه وهو الظاهر لأن الزاني لم يستهزىء بالزنا ولا بتحريمه، (بل) بالدليل الدال على تحريمه. قوله تعالى: {لِّتَعْتَدُواْ}. لتعتدوا: متعلق ب «ضرار» وهي لام العاقبة وليس متعلقاً ب «تمسكوا». قوله تعالى: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النسآء ... }. الخطاب للأزواح وقيل الأول وأمّا الثاني فقيل للأزواج وقيل للأولياء فإن كان للأزواج فالمعنى: أن ينكحن أزواجهن الذين يرغبن فيهم ويصلحون لهنّ. قال ابن عرفة: / ومنهم من قال الخطاب للجميع لأن المفعول إذا لم يكن شخصا بعينه فيمكن أن يكون فاعلا مفعولا. وقوله: {فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ} ليس المراد به (نساءكم) المطلقات بل المراد لا تعضلوا النّساء بالإطلاق فيقال للرّجال: إذا طلقت امرأتك لا تعضل النّساء، أي لا تمنعها هي من التزويج ولا تمنع وليّتك من التّزويج. قالوا: وبلوغ الأجل هنا حقيقة وليس المراد مقاربته. قال ابن عرفة: ليس مرادهم أنّه يجب (هنا حمله على حقيقته) وإنّما يريدون أن الاصل في الإطلاق الحقيقة، اقترن بالأول ما أوجب صرفه عن حقيقته إلى مجازه وبقي هذا على الأصل فيصح حمله على المجاز فإن (صح بأن) خوطب الأزواج فظاهر، وان خوطب الأولياء فالمراد نهي الأولياء عن عضل المرأة عن التزويج في العدة بقرب فراغها خوف الضرار، لو فرض جواز ذلك وهم ممنوعون منه شرعا فأحرى أن يُنهوا عن ذلك بعد العدة حيث هم متمكنون من المنع والإباحة. قوله تعالى: {إِذَا تَرَاضَوْاْ بَيْنَهُمْ بالمعروف ... }. إن قلت: ما أفاد قوله «بينهم»؟ قلنا: أفاد ذلك قصر ذلك على تراضي الزوجين خشية أن يظن توقفه على تراضي عموم العشيرة وسائر القرابات. قوله تعالى: {ذلك يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ مِنكُمْ يُؤْمِنُ بالله واليوم الأخر ... }. أي يوعظ به الوعظ النافع المحصل للانزجار. قوله تعالى: {ذلكم أزكى لَكُمْ وَأَطْهَرُ ... }.

233

أي يزكيكم، فيجعل لكم صعود الدّرجات في الجنات، ويطهركم من الآثام ويبعدكم عن الدّركات والحلول في النار. وقوله تعالى: {والله يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ}. إما باعتبار عاقبة الأمر في المستقبل وإما لكون العلم القديم مباينا للعلم الحديث ولا مماثلة فيهما بوجه. قوله تعالى: {والوالدات يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ ... }. قال ابن عرفة: هذا عام مخصوص بالعادة فالشريفة التي ليس من عادتها الإرضاع لا يطلب ذلك منها. ونص الأصوليون على صحة التخصيص بالعادة. واعتبره مالك في حديث غسل الإناء من ولوغ الكلب سبعا، فخصصه بالماء دون الطعام لان العادة تحفّظ النّاس على الطعام، فالغالب أنّ الكلب لا يصل إليه بخلاف الماء. قال ابن عطية: فإن مات الأب ولا مال للابن، فذكر مالك في المدونة أنّ الرضاع لازم للأم بخلاف النفقة. وفي كتاب (ابن) الجلاب: رضاعه في بيت المال. وقال عبد الوهاب: هو من فقراء المسلمين. قال ابن عرفة: هذان يرجعان إلى قول واحد، لأن الفقر يستدعي الإعطاء من بيت المال. قال ابن عطية: وانتزعه مالك وجماعة من العلماء من هذه الآية أنّ الرّضاعة المحرمة الجارية مجرى النّسب إنّما هي ما كان في الحولين لأن بانقضاء الحولين تمت الرضاعة فلا رضاعة. قال ابن عرفة: من يطالعه يتوهم (قصد) التحريم على الرّضاع في الحولين. وفي المدونة: ولا يحرم رضاع الكبير إلاّ ما قارب الحولين ولم يفصل مثل شهر أو شهرين، وأما لو فصل بعد الحولين وبعد حول حتى استغنى بالطعام فلا يحرم ما رضع بعد ذلك. قال ابن عرفة: فالرضاع فيما زاد على الحولين بقربهما ينشر الحرمة. قال ابن عطية: وروي عن قتادة أنه نزل أولا: {والوالدات يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ} ثم نسخت بقوله تعالى: {لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرضاعة}. ابن عطية: وهذا القول متداع (مبتدع). قال ابن عرفة: أي متناف لأن الشيء إنما ينسخ بنقيضه وما محمله عندي هنا إلا أنّه نسخ في الأخف. قوله تعالى: {وَعلَى المولود لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ ... }.

قال ابن عرفة: ولو قيل: نفقتهن وكسوتهن، لكان فيه حُجة لمن يقول: إن الكسوة غير داخلة في النفقة، وهي مسألة اختلف فيها الشيوخ ابن زرب وغيره من الاندلسيين. قيل لابن عرفة: المطلقة في العدة لا كسوة لها؟ فقال: وكذلك الكسوة هنا ثابتة للزوجة على زوجها وإن لم يكن إرضاع. قوله تعالى: {بالمعروف ... }. عدل بين الآباء والأبناء فلا تبالغ في طلبه ولا يقصّر هو في الإعطاء. قوله تعالى: {لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا ... }. دليل على أنّ تكليف ما لا يطاق غير واقع، [ومذهبنا*] إنه جائز غير واقع. قيل لابن عرفة: بل (هي) دليل على أنه غير جائز كمذهب المعتزلة ويكون من باب السلب والإيجاب كما تقول: الحائط لا يبصر؟ فقال: الأكثر في الكلام ان لا ينفى إلا ما هو ممكن قابل للثبوت والوقوع. قوله تعالى: {فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَن تَرَاضٍ مِّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ}. قال ابن عطية: فِصَالا، أي فطاما. وفصاله قبل الحولين لا يكون إلاّ برضاهما وألاّ يكون على المولود فيه ضرر. وأما بعد تمامهما فمن دَعَا إلى الفصل فذلك له إلاّ أن يكون على الصبي فيه ضرر. قال ابن عرفة: فعلى هذا ينبغي أن تحمل الآية على (أن) التراضي والتشاور قبل انقضاء الحولين لأنه جعل التشاور بعدهما غير معتبر. ابن عرفة: وتقدم لنا سؤال وهو أن التراضي سبب عن التشاور ((لأن المشورة) (تحصّل) التراضي أو عدمه فكان الأنسب تقديم التشاور على التراضي)). قال: وتقدم الجواب بأنه أفاد عدم الاقتصار على تراضيهما فإذا تراضيا على الفصال وكانت مشورتهما للغير تنتج أن المصلحة في عدم الفصال فلا عبرة بما تراضيا عليه. قيل لابن عرفة: أو يجاب بأنّه لو قيل: عن تشاور وتراض، لأفاد تبعية أحدهما للآخر فإن المستشير أضعف رتبة (من) المستشار فقدم الرضى ليفيد اعتبار رضاهما معا من غير تبعية؟ فقال ابن عرفة: ليس في الآية أن أحدهما يستشير مع الآخر وإنّما يَسْتَشِيرَانِ مع الأجنبي. قال ابن عرفة: (وعبر) ب (إنْ) دون (إِذَا) لأن النفوس مجبولة على محبة الولد فإرادتهم الفصال اقل بالنسبة إلى إرادة الرضاع، فكأنه غير واقع، أو يكون أفاد أنّه (غير) (مرجوح)

شرعا. وعبر في الثاني ب (إذا) لأن استرضاع الولد للأجنبية (مرجوح) بالنسبة إلى إرضاع أمه. قيل لابن عرفة: ما الفائدة في هذه الآية مع أن معناها مستفاد من قوله: {والوالدات يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرضاعة} فمفهومها أن من لم يرد الإتمام فلا جناح عليه في الفصال. فقال: هذا جاء احتراسا لأن مفهوم تلك أن من أراد الفصال له ذلك فاقتضت الآية هذه اعتبار رضاهما معا بذلك. فقيل: قوله لمن أراد أن يتم الرضاعة يفيد هذا لأنه إن أراد أحدهما (الفصال) وأراد الآخر الإتمام لم يتراضيا معا بالفصال؟ فقال: أفادت هذه زيادة الأمر بمشورتهما غيرهما. قال: وقوله {تَرَاضٍ مِّنْهُمَا} ولم يقل: عن تراضيهما، ليفيد التفسير بعد الإتمام كما قال الزمخشري في قوله الله تعالى: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ القواعد مِنَ البيت} قوله تعالى: {فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا ... }. دليل على مرجوحية الفصال لأن اللّفظ غالب استعماله في فعل المرجوح. قوله تعالى: {إِذَا سَلَّمْتُم مَّآ آتَيْتُم بالمعروف ... }. قرىء: «مَّآ أُتِيتُمْ». قال ابن عرفة: وفي هذه القراءة تهييج على الأمر بالتّسليم لأن تسليم الإنسان ما لا يملك أهون عليه من تسليم ما يملك. ومعنى قوله «مَّآ آتَيْتُم» بالنّصب أن يعطي الأب (الأم) دينارا على الإرضاع ثم يريد أن يسترضع الولد (عند) الأجنبية فلا جناح (عليهما) إذا سلم الدّينار للأم ولم يسترجعه من عندها. قال أبو حيان: «إذا سَلّمتُم شرطٌ»، قالوا: وجوابها ما يدل عليه الشرط الأول وجوابه وذلك المعنى هو العامل في (إذا) وهو متعلق تعلق بما يتعلق به (عليكم). أبو حيان: وظاهره خطأ لأن القول بأن العامل في (إذا) المعنى الذي يدل عليه الشرط وجوابه مع القول بأنّها تتعلق بما تعلق به (عليكم) متناف. قال: ابن عرفة: لأنه إذا كان العامل في (إذا) ما تعلق به (عليكم) فيكون (إذا) جوابا للشرط الأول فقد قلتم إن الشرط الأول (جوابها) فيلزم التناقض. قيل لابن عرفة: أو يريد بالتنافي أنّها إذا كان العامل فيها ما تعلق به (عليكم) يكون (إذا) ظرفا وقد جعلتموها شرطا وهذا تناقض.

234

قوله تعالى: {واتقوا الله ... }. إشارة إلى مراعاة حق الولد في ذلك لأنه لا يتكلم ولا يخبر بشيء. قوله تعالى: {واعلموا أَنَّ الله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}. ابن عرفة: الوصف ب (بصير) أشدّ في الوعيد والتخويف من الوصف ب (عليم) لأن الإنسان قد يتجرأ على مخالفة سيده الغائب عنه وإن علم أنه يعلم ولا يتجرأ على مخالفته إذا كان حاضرا يشاهده وينظر إليه. فائدة: سئل الشيخ ابن عرفة عن امرأة سقطت حضانتها لولدها إما لتزويج أو سفه أو عجز أو غير ذلك ثم إنها اشتاقت إلى الولد وأخذته فبقي عندها عاما كاملا ثم طلبت من أبيه نفقته فادّعى أنّه كان ينفق عليه؟ فقال ابن عرفة: بأنّ القول قولها فتحلف وتستحق، وقصارى الأمر أن تكون كالأجنبية إذا أنفقت على الولد. وقد قال في المدونة: القول قولها. وهذه لما سقطت حضانتها صارت كالأجنيبة. أنتهى. قوله تعالى: {والذين يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ... }. قال ابن عرفة: وتقدم لنا فيه سؤال وهو أن يقال: ما الفائدة في زيادة (منكم) ولو أسقط لكان اللَّفظ أعم فائدة؟ كما تقدم لنا الجواب عنه بقول بعضهم: إن العام إذا قيد بشيء غالب أمره أنه يتخصص به، وقد يكون تقييده موجبا لتأكيد عمومه كهذه الآية، فإن توهّم وقوع المخالفة ممن لم يدرك النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ (من المؤمنين) أشد من توهّم وقوع المخالفة ممن أدركه منهم فإذا خوطب بذلك من أدركه فأحرى من سواهم، ف (منكم) تأكيد لا تخصيص. وأجيب أيضا بأنّ (منكم) تخصيص لا تأكيد. والمراد من المسلمين الحاضرين والغائبين وغلب فيها ضمير المخاطبين على غيرهم ويكون في الآية على هذا دليل على أنّ الكفار غير مخاطبين بفروع الشريعة. فإن قلت: ما فائدة قوله: «بِأَنْفُسِهِنَّ»؟ قلت: فائدته التنبيه على مجاهدة النفس بمنعها شهواتها وتحملها الصبر على النكاح حتى تنقضي العدة. فإن قلت: ظاهر الآية أن يكون التربص مقصودا لها. والمذهب على أنها إذا لم تعلم بوفاة زوجها إلاّ بعد مضي العدة فإنّها تجزيها تلك ولا تستأنف عدة أخرى بوجه؟ قلنا: الأغلب في النساء معرفة - وكذلك المذهب - في الأربعة أشهر وعشرا أنها تكفي بشرط أن تحيض فيها حيضة وهو الأعم الأغلب في النساء فإن لم تحض (واسترابت) رفعت إلى تسعة أشهر فإن زالت عنها/ الرّيبة فقد انقضت عدتها وإن (استرابت) بحس بطن فإنّها تمكث أقصى أمد الحمل، ولهذا قال في المدونة: والعدة في الطلاق بعد الرّيبة وفي الوفاة قبل الريبة.

235

قوله تعالى: {أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً ... }. قيل: أراد عشر ليال بأيامها وغلب اللّيالي لأنها أسبق. الزمخشري: ولا تراهم فقط يستعملون التّذكير فيه ذاهبين إلى الأيام تقول: صمت عشرا، ولو ذُكرت خرجت من كلامهم. قال المبرّد: وعشر مدد كل مدة منها يوم وليلة. وتعقبه أبو حيان بأنه لا حاجة إلى ذكر اللّيالي والعدد لأنهم مضوا على أن المعدود إذا كان مذكرا أو حذفته فلك في العدد وجهان إما التذكير الفصيح أو التأنيث. قال ابن عرفة: كان الشيوخ يحكون عن شيوخهم خلافا فيمن يشتري سلعة بعشرة دارهم وفي تونس القديم والجديد فكان سيدى الشيخ الفقيه أبو محمد عبد الله الزواوي يفتي بأن له أن يعطيه عنها ثمانية دراهم جديدة لأن غالب حال الناس التعامل بالجديد وهو الأكثر. وكان الشيخ الفقيه القاضي أبو القاسم بن زيتون يقول أسماء العدد نصوص فما يعطيه إلا عشرة دراهم قديمة كما وقع العقد بينهما. قلت: وذكرت هذا بعينه في سورة العنكبوت. قوله تعالى: {وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُم بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النسآء ... }. الزمخشري الكناية: هي أن يذكر الشيء بغير لفظه الموضوع له مثل: فلان جبان، (القلب) عظيم الرماد. والتعريض: أن يذكر شيئا يستدل به على شيء لم يذكره. ابن عرفة: فلفظه يقتضي أن الكناية ترجع لدلالة المطابقة والتعريض لدلالة الالتزام ولهذا كان بعضهم يقول في قولك: رأيت أسدا يريد به رجلا شجاعا إنه مطابقة ويرد على من كان يقول: إنّه مجاز ولذلك فرقوا بين دلالة اللفظ وبين الدلالة باللفظ لأن المطابقة دلالة اللّفظ على تمام مسماه بالإطلاق وما عرض من جعله مجازا، إلا أنه (فسر دلالة المطابقة بأنها دلالة اللّفظ على) تمام ما وضع له أوّلا. قلت: قال القزويني في الإيضاح الكناية لفظ أريد به لازم معناه مع جواز إرادة ذلك كقولك فلان: كثير رماد القدر، كناية عن الكرم. وطويل نجاد السيف كناية عن طول قامة الرجل. ومثله: بَعِيدَةٌ (مَهْوَى) القرط كناية عن طول قامة المرأة. قيل لابن عرفة: هل يجوز لمن عنده أربع نسوة أن يعرض ويواعد خامسة؟ فقال: الظاهر الجواز وهو أخف من المواعدة في العدة لأن من تزوج في العدة تحرم عليه للأبد، ومن تزوج خامسة يجبر على تطليق واحدة ونكاحه صحيح، وأيضا

فالمواعد في العدة غير قادر على تنجيز (العقد عليها في الحال ومتزوج الخامسة) قادر على تطليق واحدة في الحال ويتزوجها. فإن قلت: (ليس) قادرا على أن يطلقها طلقة بائنة؟ قلنا: هو قادر على أن يطلقها بالثلاث. قيل لشيخنا القاضي أبي عبد الله: محمد بن القاضي أبي العباس أحمد بن حيدرة كان يقول: هذا إذا كان التعريض من أحد الجانبين فقط. وأما إذا وقع منهما التعريض فظاهر المذهب أنه كصريح المواعدة. فان قلت: إذا نفي الجناح في التعريض فأحرى أن ينتفي عما يخطر بالقلب فما فائدة عطفه عليه. قلت: فائدته الإشعار بالتّسوية بينه وبين ما في النفس من الجواز أي هما سواء في رفع الحرج عن صاحبهما وعلى الحكم بتعريض الرجل للمرأة لأنه الأغلب والأكثر وجودا أن الرجال يخطبون النّساء فهو مفهوم خرج مخرج الغالب فيستفاد منه جواز العكس قياسا عليه. قوله تعالى: {ولكن لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّاً ... }. الزمخشري: المستدرك مقدر، أي فاذكروهنّ وَلكِن لاَ تُوَاعدوهنّ سِرّا. قال ابن عرفة: هذا يتخرج من الخلاف في أنّ ما بعد (لَكِن) إن كان مناقضا لما قبلها جاز بلا خلاف وإن وافقه امتنع اتّفاقا فإن خالفه فقولان، ومفهومه تحريم المواعدة جهرا من باب أحرى. قوله تعالى: {إِلاَّ أَن تَقُولُواْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً ... }. جلعها الزمخشري متصلا أمّا مستثنى من مصدر «تُوَاعِدُوهُنَّ» أي إلاّ مواعدة القول المعروف فينتصب على المصدر أو مفرعا من مجرور أي إلاّ بالقول المعروف فينتصب على إسقاط حرف الجر، ومنع انفصاله على استثنائه من «سِرّا» لعدم تسلّط العامل عليه فلا يجوز: لاَ تُوَعِدُوهُنّ إِلاّ التعريض. ورده أبو حيان بمنع الحصر لأن المنفصل قسمان ما تسلط عليه العامل. مثل: مَا رَأَيْتُ أَحَدا (إِلاّ حِمَارا) فالحجازيون أوجبوا نصبه والتميميون أجازوا اتباعه لما قبله. وما لم يسلط عليه العامل نحو ما زاد إلا ما نقص. (قلت: وعبر القرافي عمّا يتسلط عليه العامل بأن يكون الحكم على المستثنى بنقيض الحكم على المستثنى منه، وعمّا لا يتسلط عليه بأن يكون الحكم بغير النقيض مثل ما زاد إلا ما نقص)، فالزيادة هي نقيض عدم الزيادة وذلك بعد أن قال: الاستثناء المتصل هو أن يكون الحكم على المستثنى

بنقيض الحكم على المستثنى منه وأن يكون استثناء من غير الجنس فإن اختل أحدهما أو هما / كان منقطعا ومثل الحكم بعدم النقيض فقول الله تعالى: {لاَ تأكلوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بالباطل إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ} فظاهره جواز أكل التجارة بالباطل وليس كذلك. وتعقب ابن عرفة منع الزمخشري الانفصال وتعليله بأنه مشترك الالزام بين المتصل والمنفصل. وأجيب عن ذلك بأن (المفرّغ) أصله مستثنى من شيء محذوف تقديره في الآية: وَلَكِن لاَ تُوَاعِدُوهُنّ سِرّا بشيء من الأشياء بالقول المعروف. ونظيره: ما مررت إلاّ بزيد، أي ما مررت بأحد فليس (فيه) مشترك الإلزام. وتعقب ابن عرفة قول أبي حيان في: ما رأيت أحدا إلاّ حمارا بأن ذلك إنّما هو في النقيض. قيل لابن عرفة: قد ذكر القرافي والشلوبين وغيرهما ومثلوه بقول الله تعالى: {لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا الموت إِلاَّ الموتة الأولى} فقال: هذا منفي، مع صحة قولك لا يذوقون إلاّ الموتة الأولى. فقيل له: لايجوز لا يذوقون إلاّ الموتة الأولى؟ فقال: (سقط فيها). قلت: قال بعضهم: كلام أبي حيان صحيح وما تقدم للقرافي بيّنه. قوله تعالى: {وَلاَ تَعْزِمُواْ عُقْدَةَ النكاح حتى يَبْلُغَ الكتاب أَجَلَهُ ... }. أبو البقاء: عقدة مصدر مضاف إلى المفعول، أو على إسقاط حرف الجر كقول عنترة: ولقد أبيت على الطوى وأظلّه ... حتى أنال به كريم المأكل أي وأظل عليه. قيل لابن عرفة: تقدم النهي عن المواعدة في العدة وهي أدنى من هذا والنهي عن الأدنى يستلزم النهي عما فوقه من باب أحرى؟ فقال: دلالة المطابقة أقوى. قيل له: والأول من دلالة المطابقة مثل: {فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ} فقال: الصحيح عنهم أنّه من دلالة الالتزام؟ قال: والعزم منهم من يفسره هنا بالفعل وهو عقد النكاح. ومنهم من فسره بالنية، أي لا تنووا عقدة النكاح وهو الصحيح لأن العزم هو الجزم بفعل الشيء فهو أمر قلبي. قال الله تعالى: {فَإِذَا عَزَمَ الأمر} وَمما (يؤيده) هنا قوله: {واعلموا أَنَّ الله

236

يَعْلَمُ مَا في أَنفُسِكُمْ فاحذروه}. فدل على أنّه أمر قلبي. وحكى ابن عطية عن ابن الجلاب: أن العقد في العدة يوجب حرمتها أبدا. وكان بعضهم يقيده بما إذا تعمد ذلك فإن وقع العقد خطأ لم يتأبد التحريم. قيل لابن عرفة: الصواب العكس لأن النكاح متى كانت له شبهة تأبد فيه التحريم ومتى لم تكن له شبهة لم يتأبد التحريم؟ فقال ابن عرفة: ليس كذلك لأن (عليه) المعاقبة بنقيض المقصود. قوله تعالى: {واعلموا أَنَّ الله يَعْلَمُ مَا في أَنفُسِكُمْ فاحذروه ... }. عبر فيه بِ (اعْلَمُوا) وب (احْذَرُوهُ) تأكيدا في التنفير عن ذلك والعقوبة من المواطأة هنا على ما في النفس والإصرار عليه. قوله تعالى: {لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ}. وجه الفصل كونها جملة خبرية والأولى طلبية فلذلك لم يعطفها عليها. قال ابن مالك: وإلا فالقاعدة أن الجملتين إذا كانتا متقاربتين في المعنى لم يعطف. قوله تعالى: {مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ ... }. ابن عرفة هذا كما (قال) غير مرة: إن من أكثر ما وردت (لَمْ) في القرآن لنفي الماضي المتصل بزمن الحال قال: و (أو) هنا بمعنى الواو. كما قال ابن راشد، وهو الصحيح، لأنها إذا كانت على بابهما أعني (للتنويع) لزم نفي الجناح (عمن طلق بعد الدخول في نكاح التفويض، وإذا اكانت بمعنى الواو فيكون المراد برفع الجناح) بسقوط نصف الصداق) بالطلاق. قوله تعالى: {وَمَتِّعُوهُنَّ ... }. قال ابن عرفة: إنما عطف هذه وهي أمر على ما قبلها وهي خبر لأن قبلها تضمن حكم الطّلاق وهو سبب في الأمر بالمتعة والسببية ظاهرة فلذلك عطفت (بالواو) ولو كانت خفية لعطفت بالفاء. قال ابن عرفة في مختصره الفقهي: المتعة ما يؤمر الزوج بإعطائه الزوجة لطلاقه أياها، والمعروف أنّها مستحبة يؤمر بها ولا يقضى بها ولا (تحاصص). قال ابن زرقون في المبسوط عن محمد بن مسلمة هي واجبة (يقضي بها) (لأنه) لا يأبى أن يكون من المحسنين ولا المتقين إلاّ رجل سوء.

قال ابن عرفة: ولأن رأي المتقدمين أن المؤمن والمتقي متساويان ولأن قوله: {حَقّاً عَلَى المتقين} يقتضي عموم تعلقها بكل مسلم لأنه متق الشرك وقوله «عَلَى الْمُحْسِنِينَ» مفهومه عدم تعقلها بمن ليس بمحسن من المسلمين فيتعارض العموم والمفهوم والأصح عند الأصوليين أن العموم مقدم ونقله اللَّخمي ولم يعزه وعزاه الامام ابن عبد السلام لابن حبيب. قال ابن عرفة: قال أبو عمران: إنما يقدر حال المرأة، وابن عبد البر يقدر حال الرجل وابن رشد (يقدر) حالهما. قال ابن عرفة: وهي لكل مطلقة في عصمة لا رجعة فيها ولا خيار على الزوج. وفي المدونة ما نصّه: لا متعة لمختلعة ولا مصالحة ولا ملاعنة ولا مطلقة قبل البناء. وقد فرض لها اللخمي. ولا مفتدية ولا متبارية ولا من اختارت نفسها لعتقها ولا من فسخ نكاحها ولم تعارض. قال الامام ابن رشد: ظاهر قول ابن القاسم ان طلّق فيما يفسخ بطلاق فسخه، فلا متعة عليه. اللخمي: إن فسخ الرضاع بأمر الزوج رأيت / عليها المتعة وإن اشترى زوجته لم يمتعها لبقائها معه ولو اشترى بعضها متّعها، وأما المخيرة والمملكة فقال الامام ابن رشد: روى ابن وهب: أنّ لهما المتعة. وقال ابن خويز منداد: لا متعة لهما، وقال ابن يونس: لمن اختارت نفسها بتزويج أمة عليها المتعة، انتهى. قال ابن عرفة: المطلقة لا متعة لها في البائن دون الرجعي فإن ماتت في العدة فالظاهر أن المطلق يرث من تلك المتعة. قيل لابن عرفة: لا يرث لأنّه إذا كان الطلاق بائنا فلا متعة ولا ميراث، وإن كانت رجعية فقد ماتت قبل أن تجب لها لأنها إنّما تجب لها بعد انقضاء العدة؟ فقال إنّما (أجّلنا) المتعة بانقضاء العدة رجاء أن يرتجعها قبل تمامها فإذا ماتت ذهبت تلك العدة. قيل لابن عرفة: إنما هي جبر لقلبها ففي الموت لا متعة؟ فقال: قد قالوا: إنّها تجب. وقرىء «عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ». واستشكلها ابن عرفة بحذف المجرور. وقد انتقد القرافي على الفخر الرازي تسميته كتاب المحصول، لأن اسم المفعول من الفعل الذي لا يتعدى إلا بحرف الجر لايجوز أن يحذف مجروره، وأجابوا: بأن ذلك اسم عَلَمٍ سمّاه بالمحصول كما قال تعالى {عِندَ سِدْرَةِ المنتهى} لكن ذلك الجواب لا يتصور هنا. وأجيب: بأن هذا يتعدى بنفسه تقول: وسعت المكان والدار والطريق ووسعت

237

الأمر: - قال الله تعالى: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السماوات والأرض} _ وقال: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ.} قوله تعالى: {مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ ... }. قوله تعالى: {وَأَن تعفوا أَقْرَبُ للتقوى ... }. الخطاب للأولياء، ويحتمل أن يكون الخطاب بالأول للزوجات والأولياء ليعفوا عن نصف الصداق إذا لم (يمكن) قبضه، وذلك حيث تكون ملية والزوج معسر. والخطاب (بهذه) للأزواج حيث يكون الزوج مليا والمرأة معسرة فالعفو عما زاد على النصف. ومعنى «أَقْرَبُ للتقوى» أن الصداق أمر دنيوي وقد ورد «حبّ الدّنيا رأس كل خطيئة» فتركه أقرب للتقوى)، وإنما عدي باللام التي للاختصاص دون (إلى) إشارة إلى خصوص العفو عنه بالتقوى. قوله تعالى: {وَلاَ تَنسَوُاْ الفضل بَيْنَكُمْ ... }. المراد إما إنشاء التفضل أو مراعاة الفضل المتقدم، أي لا تتركوا أيقاع التفضل ولا تتركوا عند الطلاق مراعاة ما وقع بينكم من الفضل عند عقد النكاح، فإن أريد الأول فيكون تأكيدا لأن ما قبله يغني عنه، وإن أريد الثاني فهو تهييج على (العفو عن) الصداق. قوله تعالى: {بَيْنَكُمْ ... }. دليل على أن الخطاب للأزواج وللزوجات وغلب فيه ضمير (المذكر). وقوله تعالى: {إِنَّ الله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}. قال ابن عرفة: وعد ووعيد. قيل له: إنما هو وعد خاصة لأن ما قبله تفضل ومستحب لا واجب؟ فقال: هو وعيد بالذات ويحتمل أن يتناول الواجب. قوله تعالى: {حَافِظُواْ عَلَى الصلوات ... }. إن قلت: ما وجه مناسبتها مع أن ما قبلها في شأن الزوجات؟ قلنا: الجواب عنه بأمرين: إما بأنّه تنبيه الأزواج أن لا يشتغلوا بأمور زوجاتهم عن الصلوات، وإما بأن بعضهم كان لا يراعي (المناسبة ولا يشتغل) بها. قال ابن عرفة: إنما قال «حَافِظُوا» ولم يقل: احفظوا، إشارة إلى تأكدها (وتكرر) الأمر بها من وجهين: أحدهما: أن «حَافِظُوا» مفاعلة لا تكون إلاّ من اثنين مثل: قاتلت زيدا، ووقوعها هنا من الجانبين مستحيل، فيتعين صرف ذلك إلى تكرر (الأمر) بوقوعه وتأكده.

239

الثاني: إنّ لفظه يقتضي الاستيلاء والإحاطة فهو إشارة إلى تعميم الإحاطة بالصلوات دون ترك شيء (منها) وتخصيص الصّلاة الوسطى منها بالذكر: إما لورودها على النّاس في زمن شغلهم أو في زمن راحتهم ونومهم أو لكونهم من بقية الصلوات التي كانت مفروضة على الأمم المتقدمة وهو من عطف الخاص على العام. قوله تعالى: {وَقُومُواْ لِلَّهِ قَانِتِينَ}. فسره ابن عطية بالقيام الحسي حقيقة قال: ومعناه في صلاتهم فسره بعضهم بالقيام المعنوي وهو الجد في الطلب والطاعة فيتناول ركوع الصلوات وسجودها مثل: «قمت بالأمر». قوله تعالى: {فَإنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً ... }. قال ابن عرفة: الخوف أمر محقق لكونه شرطا في الرخصة والرخصة إنما تكون في الأمر المحقق الثابت لأنها مظنة المبادرة للعمل بمقتضاها لما فيها من التخفيف، فلو لم يكن شرطها محققا لأدّى إلى التهاون بفعلها من غير استيفاء شروطها، فحق هذا الشرط أن يكون ب (إذا) الدالة على التحقيق كما كان الشرط وهو «فَإِذَآ أَمِنتُمْ» لكنه روعي في الشرطين شيء آخر وهو الحظ على تشجيع النفس بإحضار الطمأنينة والأمن من العدوّ وعدم الاهتبال به حتى كأن الخوف منه غير واقع في الوجود بوجه، ولها عبر في آية الخوف ب (إن) وفي آية الأمن ب (إذَا). وقال الزمخشري: وعند الإمام أبي حنيفة لا يصلون في حال المشي. وعند الإمام الشافعي رَضِيَ اللَّهُ عَنْه يصلّون في كل حال والراكب يومىء ويسقط عنه التوجه إلى القبلة. قال ابن عرفة: مذهب الإمام مالك والشافعي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما في ذلك سواء وينوي بقلبه التوجّه إلى القبلة (وهذا إذا خاف العدوّ وفوات الوقت المختار) فإن رَجَا حصول الأمن فيه أخّر/ الصلاة و (وكذا) الخائف من لصوص أو سباع لأنّ الفرع في هذا أقوى من أصله كما (قالوا) في الجدة للأم مع الجد للأب، لأن الخائف من العدوّ لا يقضي والخائف من اللصوص أو السباع يقضي. قوله تعالى: {فَإِذَآ أَمِنتُمْ فاذكروا الله ... }.

240

قال ابن عطية: قيل فإذا زال خوفكم الذي اضطرّكم إلى هذه الصلاة. وقيل: فإذا كنتم آمنين قبل أو بعد أي فمتى كنتم عل (أمن). ورده ابن عرفة بأن الشرط هنا يقتضي أنه مستقبل لم يقع في الوجود لا أنه ماض. قوله تعالى: {فِي مَا فَعَلْنَ في أَنْفُسِهِنَّ مِن مَّعْرُوفٍ ... }. وقال قبله: {فِيمَا فَعَلْنَ في أَنْفُسِهِنَّ بالمعروف} قال ابن عرفة: الجواب أنهم قالوا إن آية «مِنْ مَعْروفٍ» نزلت قبل آية «بِالمَعْرُوف» فنزل هنا معرفا للعهد المتقدم في النزول وإن كان متأخرا في التلاوة كقول الله تعالى {كَمَآ أَرْسَلْنَآ إلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً فعصى فِرْعَوْنُ الرسول} وقاله الزمخشري في قول الله تعالى حكاية عن ابراهيم {رَبِّ اجعل هذا بَلَداً آمِناً} في سورة البقرة ثم قال في سورة إبراهيم {رَبِّ اجعل هذا البلد آمِناً} انتهى. قوله تعالى: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بالمعروف حَقّاً عَلَى المتقين}. قال ابن عرفة: عادتهم يقولون إنّ هذا أبلغ من قوله: «فَمَتِّعُوهُنّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ» من وجهين: أحدهما: لقوله {حَقّاً عَلَى المتقين} (إذا قلنا إنّ المتّقي مرادف للمؤمن، فأفاد وجوبها على عموم المؤمنين وتلك اقتضت خصوص وجوبها بالمحسنين فقط). الثاني: أن ذلك أمر وهذا خبر في معنى الأمر وورود الأمر عندهم بصيغة الخبر أبلغ لاقتضائه ثبوت الشيء المأمور به ووقوعه في الوجود حتى صار مخبرا عنه بذلك. قوله تعالى: {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ الله لَكُمْ آيَاتِهِ ... }. أي مثل هذا البيان في المتعة وفي العدة وجميع ما تقدم يبين الله لكم ءاياته. (والظاهر) ان المراد آيات الأحكام، ويحتمل العموم في المعجزات وغيرها وهو دليل على صحة من منع الوقف على قوله {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ الله} وقال لابد من وصله بقوله {والراسخون فِي العلم}

243

قوله تعالى: {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}. قال ابن عرفة: ليس المراد هنا العقل التكليفي بل أخص منه وهو العقل النافع. وذكر ابن عطية حديثا وقال هو حديث لين. ابن عرفة أي ضعيف. قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ ... }. أي متآلفون مجتمعون، خرجوا في وقت واحد فارين من الموت، والرؤية إما بصرية أو علمية لكن (العلمية لاتتعدى ب (الى) فلذلك قال أبو حيان: «المعنى لم ينته علمك إلى الذين خرجوا من ديارهم). قال ابن عرفة: وكذا البصرية ممتنعة هنا فإن أولئك غير موجودين (حين) الخطاب لكن نزل الماضي منزلة الحاضر تحقيقا له حتى كأنه مشاهد كما قال سيبويه، وهذا باب كذا. وفرق في الإرشاد بين نظر في كذا وهو النظر الفكري فجعله يتعدى (بفي). قوله تعالى: {فَقَالَ لَهُمُ الله مُوتُواْ ... }. أورد الزمخشري هنا سؤالا فقال: كيف قال لهم الله» مُوتُوا «وكان الأصل فأماتهم الله. قال ابن عرفة: هذا السؤال إنّما يرد على مذهبه لأنه ينفي الكلام النفسي. وأجاب بأنه عبارة عن سرعة (التكوين) وزاد فيه (تدقيقا) لمذهبه بقاعدة (إجماعية) وهي قول الله تعالى: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَآ أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} وهذا بناء على خطاب المعدوم وهل يصح (أم) لا؟ قال ابن عرفة: وهنا إضمارٌ أي: فماتوا ثم أحياهم. قوله تعالى: {إِنَّ الله لَذُو فَضْلٍ عَلَى الناس ... }. فضله عام باعتبار الكم وباعتبار الكيف فالكم راجع إلى تكثير أعداد النعم والكيف راجع إلى حالها في أنفسها، والناس عام، فالكافر منعم عليه في الدنيا وأما في الأخرة فمحل نظر. والاستدراك في قوله {ولكن أَكْثَرَ الناس} راجع إلى لازم قوله {لَذُو فَضْلٍ} فإن من لوازم فضله على الناس أن يشكروه ويحمدوه فلذلك استدرك بعده ب (لكن). قوله تعالى: {وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله ... }.

245

المقاتلة تكون للجهاد بالذات لتكون كلمة الله هي العليا أو باللزوم كمن يقاتل ليذبّ عن حريمه، فإنّه يستلزم الجهاد. معناها ليكن اعتقادهم ونيتكم بالقتال (سبيل الله). قوله تعالى: {واعلموا أَنَّ الله سَمِيعٌ عَلِيمٌ}. قال ابن عرفة: وجه مناسبة الصفتين أن من قعد ولم يخرج للقتال لا بد أن يتكلم في المؤمنين ويتحدث في أمره فالله سميع له عليم. (قتال) من قاتل، ففيه وعد ووعيد. قوله تعالى: {مَّن ذَا الذي يُقْرِضُ الله قَرْضاً حَسَناً ... }. هذه رحمة من الله تعالى لأنه متولّ على جميع الخلق غني بذاته عنهم، ومع هذا يجعل طاعتهم له (سلفا) منهم له، وقال في سورة براءة: {إِنَّ الله اشترى مِنَ المؤمنين أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الجنة} ووصفه بالحسن في كميته وكيفيته. و «قرضا» إن كان مصدرا فهو مجاز، كما قال الامام المازري في {وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} إنّ التأكيد يصير التطهير المعنوي حسيا وهو من ترشيح المجاز كقولك قول هند زوجة ابن زنباع: بكى الخزمن (عوف) وانكره جلده ... وعج عجيجا من جذام المطارق قوله تعالى: {أَضْعَافاً كَثِيرَةً ... }. قال ابن عرفة: «كثيرة» راجع الى المجموع (وإفراد)، كل واحد من تلك الأضعاف موصوف/ بالكثرة. قوله تعالى: {والله يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}. قدم القبض ترجيحا له أي ذلك القبض الذي ينالكم (بالصلاة) والزكاة (راجع) لكونه يعود عليكم بالبسط في الدنيا والثواب في الآخرة، وهذا بحسب الأشخاص فقد يكون إنفاق درهم قليلا لشخص (وكثيرا لآخر كما في الحديث: «سَبَقَ دينار مائة، فمن عنده درهمان فأنفق منهما) درهما ليس كمن عنده عشرة دراهم فينفق منها درهما». قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الملإ مِن بني إِسْرَائِيلَ ... }. قال ابن عرفة: الرؤية إن كانت بصرية ونزل الغائب منزلة الحاضر تحقيقا له، (فالخطاب) للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وحده، وكذلك قالوا في قول

سيبويه: هذا باب: إنّ الخطاب للخواص لا للعوام. وإن كانت علمية فالخطاب للجميع والظاهر الاول (لتعديه بإلى). قوله تعالى: {إِذْ قَالُواْ ... }. قوله تعالى: {لِنَبِيٍّ لَّهُمُ ابعث لَنَا مَلِكاً ... }. لم يقل: لنبيّهم لأجل مخالفتهم له وعدم اتّباعهم إياه فلذلك لم يضفه إليهم، والنبي إما شمعون، أو شمويل، أو يوشع. وأبطل ابن عطية كونه يوشع لأن يوشع كان بعد موسى وبينه وبين داود قرون كثيرة. قال ابن عرفة: لعل يوشع رجل آخر (غير) الذي كان بعد موسى. (ابن عرفة قال: وتقدم لنا أنّ الإخبار بهذا القصص إما معجزة له صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ (أو وعظ وتخويف لأمّته أن ينالهم مثل ما نال أولئك). قوله تعالى: {نُّقَاتِلَ فِي سَبِيلِ الله ... }. القتال مع أنّهم لم يقاتلوا إلا لأجل استخلاص (حريمهم) وأولادهم لكنه مستلزم لقتالهم في سبيل الله. قوله تعالى: {هَلْ عَسَيْتُمْ ... }. قال الزمخشري: (هل) استفهام في معنى الإنكار عليهم والتقدير مثل: {هَلْ أتى عَلَى الإنسان حِينٌ مِّنَ الدهر} قال ابن عرفة: ويظهر لي أنه استفهام على بابه، وأنه تأكيد في التلطف في الخطاب لمّا وبخهم على العصيان تلطف في العبارة عنه بوجهين: أحدهما: ذكره له بلفظ الرجاء (مقاربة) العصيان دون التحقيق. الثاني: لفظ الاستفهام دون الخبر. فإن قلت: هم إنما طلبوا منه أن يؤمر عليهم ملكا في قتال يتطوعون به فكيف أجابهم بامتناعهم من قتال يكتب عليهم فرضا؟ قلت: إذا امتنعوا من امتثال قتال يجب عليهم (فأحرى) (ألا يوفوا) بقتال يتطوعون به. وقرأ الكل «عَسَيتُمْ» بفتح السين إلا نافعا كسرها. قال الزمخشري: وهي ضعيفة. قال ابن عرفة: هذا (عادته) في تجاسره على القراءات (السبعة) وتصريحه بأنها غير متواترة. قوله تعالى: {وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَآئِنَا ... }. قال ابن عرفة: (إما أنّهم جعلوا) إخراج مثلهم كإخراجهم فنزّلوا إخراج المماثل لهم منزلة إخراجهم، وإمّا أن المراد وقد قاربنا الإخراج من الديار. قيل لابن عرفة (أو) أخرجوا منها حقيقة ثم رجعوا إليها وقيل: إنّه على القلب، أي إخراج أبنائنا من ديارنا. قوله تعالى: {فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ القتال تَوَلَّوْاْ ... }.

247

ابن عرفة: هذا أبلغ من لو قيل: فكُتب عليهم القتال فتولوا، لأن قولك: لما قام زيد قام عمرو، أبلغ من قولك: قام زيد فقام عمرو، لاقتضائه تحقيق السبيبية والارتباط. ابن عرفة: ويحتمل أن يكون (تقدم) سؤالهم سببا في (وجوب) القتال عليهم وكان قبل ذلك تطوعا كقضية بني إسرائيل في البقرة. قوله تعالى: {وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ ... }. إن قلت: لِمَ أضافه هنا إليهم ولم يضفه في {إِذْ قَالُواْ لِنَبِيٍّ لَّهُمُ} قلنا: إنّما أضافه هنا لأنه في مقام التبليغ لهم بخلاف الأول فإنه حكاية عن (مقالتهم) التي لم يوفّوا بها وعصوا وقدم المجرور لأنهم المقصودون بالذكر. ابن عطية: عن وهب بن منبه لما سأل شمويل من الله عَزَّ وَجَلَّ أن يبعث لهم ملكا ونزله عليهم قال الله تعالى: «انظر القرن الذي فيه الدهن في بيتك فإذا دخل عليك رجل فسرا الدهن الذي فيه فهو ملك لبني إسرائيل. قال ابن عرفة سرا أي ارتفع. وهذا الخبر إن صح وإلاّ فما يكون (مفسره) (في قوله {بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكاً}) إلا مجرد (الوحي). فان قلت: (قد) حرف (توقع) حسبما ذكره الزمخشري في قول الله تعالى {قَدْ أَفْلَحَ المؤمنون} وبنو اسرائيل لم يكونوا قط (متوقعين تأمّر طالوت عليهم؟ فالجواب: أنّهم كانوا) متوقعين البعثة بالإطلاق لا من حيث تعلقها بشخص معين. قال الزمخشري: طالوت إن كان من الطول فوزنه فعلوت إلا أن امتناع صرفه يمنع أن يكون منه إلا أن يقال: هو اسم عبراني وافق عربيا، كما وافق: حنط حنطة، وبسمالاها رحمانا رحيما، بِسْم الله الرّحْمَانِ الرّحِيمِ. قال ابن عرفة: واستدلّوا على مرجوحية ملكه بالأصل، لأنه ليس في آبائه ملك ولا نبي أحق منه بالعادة لأن الأمير باعتبار العادة لا بد أن يكون غنيا عن غيره ولا يكون فقيرا أصلا. وغالطوا في احتجاجهم فأتوا بدليل ظاهره صواب يمكن قبوله فقالوا: {وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ المال}. وعدلوا عن أن يقولوا: ولم يؤت شيئا من المال، لئلا يرمى دليلهم في وجوههم فيقال لهم: قد أوتي بعض المال وإنْ قل مع أن طالوت لم يكن

248

لديه مال البتة. فأجيبوا عن الدليل الأول بقول الله تعالى: {إِنَّ الله اصطفاه عَلَيْكُمْ} فلا مزية لكم عليه بآبائكم، وعن الثاني بإن الزيادة في العلم والجسم أرجح / من الزيادة في المال، فإنّ المال سريع الذّهاب والعلم إذا حصل ثابت لا يزول وكذلك الجسم الطويل لا يعود قصيرا بوجه. الزمخشري: والواو في {وَنَحْنُ أَحَقُّ بالملك مِنْهُ} واو الحال وفي {وَلَمْ يُؤْتَ} واو العطف. قال ابن عرفة: الأولى أن يكونا معا للحال وهو أبلغ في التعليل لأنّ كل واحد منهما علة مستقلة، أي أنّى يكون له الملك والحالة أنّا أحق به منه، وأنّى يكون له الملك علينا والحالة أنّه فقير لا مال له، فلم يعللوا بمجموع الأمرين بل بكل واحد منهما. قال ابن عرفة: وهما حالان من الفاعل والمفعول. قوله تعالى: {وَقَالَ لَهُمْ نِبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَن يَأْتِيَكُمُ التابوت ... }. قال ابن عرفة: هذا دليل على صحة ما يقول ابن التلمساني من أنّ لفظ الآية ليس خاصا بالمعجزة لأن المراد (بها) هنا الدليل والعلامة بلا خلاف، وهذا اللفظ من حيث هو قابل لأن يراد به آية ثبوت ملكه ملكه أو آية بطلان ملكه، والمراد هنا الأول، فإما أن يكون على حذف مضاف أو (يقول): «القرينة معينة فلا يحتاج إلى إضماره». قال ابن عرفة: والتأكيد ب (إنّ) إنّما هو لمن ينكر ذلك وهم لا ينكرون هذا عند ظهور هذه العلامة. قال ابن عرفة: كان بعض الشيوخ يجيب بأن الإنكار تارة يتسلط على نسبة الخبر (للمخبر) عنه، وتارة يتسلط على الذات المخبر عنها وإن كانت النسبة متفقا عليها كقول الولد لأبيه الذي لا شك في صدقه: جميع ما نربح في هذه السلعة فهو لك وتكون السلعة بخيسة فالأب مستعد للرّبح من أصله وإن كان موافقا على النسبة. فالإنكار بمعنى استبعادهم وقوع ذلك، لأنه إن وقع لا يكون دليلا على صحة ملكه؟ وأجيب أيضا بأنّه روعي في ذلك مخالفتهم له أخيرا لأن بعضهم تعنتوا عليه. وذكر ابن عطية هنا أقوالا منها: أن التابوت من خشب (الشمشار) طوله ثلاثة أذرع وفيه عصى موسى. قيل لابن عرفة: (كيف) تَسَعُ فيه وهي طويلة؟ فقال: لعل ذراعهم كان أكبر من ذراعنا أو تكون العصا مفصلة أو مكسورة. وحكي في السكينة عن علي بن أبي طالب رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أنها ريح (هفافة) لها وجه كوجه الإنسان وعنه أيضا أنها ريح (خجوج) لها رأسان.

249

وقال الزمخشري هي صرصرة فيها ريح. قال ابن عرفة: ولا يبعد ما حكى ابن عطية على مذهبنا لأن الوجود مصحح للرؤية فيمكن أن ترى الريح. وقوله: ريح (خجوج) أي لينة. قال ابن عطية: وقال أبو صالح: (البقية) عصى موسى وعصى هارون ولوحان من التّوراة والمنّ المنزل على بني إسرائيل. واستشكله ابن عرفة لأنهم ذكروا أنّ المراد المنّ إذا بقي يفسد. قلت: يجاب بأنّ هذه آية وخرق عادة. ابن عرفة: لما ذكر الخلاف كله قال: وهذه أخبار متعارضة ويمكن الجمع بينهما فإنّ السّكينة (تتطور) فتارة تكون كالطست وتارة كالهرّ وتارة كغيره، والله أعلم! قوله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لأَيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ}. قال ابن عرفة: إنّما أكّده ب (إِنّ) (لأن) الخطاب بهذا قبل وقوعه وقد كانوا منكرين له حينئذ أو بعد وقوعه ويكون تأكيدا لكونه آية. وقوله {إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} إما حقيقة أو تهييجا على الاتصاف بالإيمان. قوله تعالى: {فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بالجنود قَالَ إِنَّ الله مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ ... }. أضمر ابن عطية هنا الجواب فقال: التقدير، فاتفق بنو اسرائيل على ان طالوت ملك وأذعنوا وتهيّؤوا لغزوهم عدوهم فلما فصل طالوت بالجنود (تعنتوا). قال ابن عرفة: ترك (إضماره) سبب الجواب وحقه ان كان يضمر شيئين: الجواب وسبب الجواب، ويقول: التقدير فلما أتاهم بآية ملكه وفصل بالجنود تعنتوا. قال ابن عرفة: وعطفه بالفاء لأنه سبب ظاهر كما تقول: جاء الغيم فلما نزل المطر كان كذا، وتقول أيضا: قام زيد ولما نزل المطر قعد فهذا ليس بسبب. قال ابن عرفة: وإنما قال: «بِالجُنُودِ» ولم يقل: بجنوده لما اقتضت الآية من أن أكثرهم تعنتوا عليه وخرجوا عن طاعته فليسوا بجنوده، وإنما قال: «مُبْتَلِيكُمْ» فعبر بالاسم دون الفعل تحقيقا لوقوع ذلك في نفس الأمر وثبوته في علم الله تعالى أزلا، وأنه لا بد منه. وعلمه بذلك، إما بالوحي أو بإخبار من النبي. قوله تعالى: {فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي ... }. فسره الشيخ الزمشخري: بالكرع مع أنه ينفي فيه المفهوم لأن الشرب منه يكون كرعا ويكون بإناء تملأ منه أو باليد. وقوله «فَلَيْسَ مِنِّي» فسره إن أراد نفيه حقيقة عنه فيكون

مجازا لأنه معلوم أنه ليس منه، فعبر بنفيه عنه نفيه عن ملته، وإن أراد نفيه عن اتباعه أي فليس من اتباعي وجندي فيكون على إضمار مضاف فيتعارض المجاز والإضمار. قوله تعالى: {وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مني}. قال ابن عرفة: أكد الثّاني (بإن)، ولم يقل في الأول «فمن شرب منه فإنه ليس منّي»؟ قال: والجواب بأنه إنّما لم يؤكد الأول لأن سببه أكثر (في) الوقوع، وأكد الثاني لأن سببه أقل في الوقوع فأكده حضا على المبادرة إلى امتثال سببه والعمل بمقتضاه. قال: واحتج به بعضهم على أنّ الماء طعام وهو قول ابن نافع نقله ابن يونس في كتاب السلم الثالث. وكان القاضي أبو عبد الله بن عبد السلام يحكي لنا عن الفقيه القاضي أبي القاسم/ بن علي بن البراء أن رجلا سأله وهو راكب على بغلته عمن حلف بالله لا يتناول طعاما؟ فقال له: لا يأكل ولا يشرب الماء لأنه طعام واحتجّ بهذه الآية. ورده ابن عرفة بوجهين: الأول منهما: أن الآية اقتضت ذلك لغة، وأما الشرع فلا يسميه طعاما. الثاني: أنه نفى في الأول الشرب وفي الثاني الطعمية، والطعمية أوائل الشرب، ولذلك ذكروا في الصيام أن الصّائم اذا استطعم الماء وبصقه فإنه لا يفسد صومه، فلما تعلق النفي بأوائل الشرب قال: «فَإِنَّهُ مِنِّي»، فأكد نسبته إليه ب (إنّ) أي من اتّصف بكمال البعد عنه فهو موصوف بكمال القرب مني وبقي الواسطة مسكوتا عنه وهو الذي شرب بالإناء على تفسير الزمخشري فإما أن ذنبه أقل من ذنب من كرع أو مُسَاوٍ. قال ابن عرفة: و (لَمْ) هنا بمعنى (لما). قوله تعالى: {إِلاَّ مَنِ اغترف غُرْفَةً بِيَدِهِ ... }. قال أبو حيان: يستثني من الجملة (الاولى وهي) {فَمَن شَرِبَ}. زاد أبو البقاء أو مِنْ «مَنْ» الثانية وهي {وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ}. وتعقب بأنّه لو كان من «مَن» الثانية للزم أن يكون من اغترف غرفة واحدة بيده ليس منه (مع أنّه أبيحت لهم الغرفة) الواحدة باليد لأن الاستثناء من الإثبات نفي ومن النفي إثبات. قال ابن عرفة: هذا لا يتعين بل يحتمل عندي استثناؤه من الجملتين فعلى أنّه مستثنى من الأولى يكون المراد نفيه عن الدخول في حكم ليس منِّي أي هو (منه)

وعلى أنّه مستثنى من قوله: {وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مني} يكون (النَّاس) على ثلاثة أقسام: شارب بفيه فليس منه، وشارب منه بيده وهذا يقال فيه (هو) منه فقط، ومن لم يشرب منه شيئا يقال فيه: إنَّه منه مجاله أبلغ، فاستثناؤه من الأخص أي إلا من اغترف غرفة بيده فليس محكوما عليه بأنّه «منّي» أي ليس متصفا بكمال القرب مني. قيل لابن عرفة: يلزمك أن يكون ليس منّي قدرا مشتركا بين الحرام والمباح؟ فقال: لم نخرجه (منه) وإنّما أخرجتهم، من قوله: {وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مني} فإذا خرج من هذا كان منفيا عنه أي يكون منه (وقد) قال: أول الآية {فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي}. فيتعين أنّ النفي هنا (نفي) أخص باعتبار ترك الأمر المستحب بفعل الأمر المباح، فالمستحب ترك الشرب، والمباح الشرب باليد، والحرام الكرع فيه بالفم. قال ابن عرفة: وغرفة بالضم والفتح، فالفتح هو الماء والضم الفعل. (قال ابن عرفة): وعلى أنها الفعل يكون المفعول مقدرا أي إلا من اغترف غرفة ماء. قال (ابن عرفة): وفائدة التأكيد بالمصدر على هذا تحقيقا للرخصة في ذلك الفعل وتأكيدَ (إباحتها) خشية أن يتوهم قصر ذلك على أدنى شيء من الماء المأخوذ باليد فأكده تنبيها على إباحتة الغرفة الواحدة بكمالها. قوله تعالى: {قَالَ الذين يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُواْ الله}. قال ابن عرفة: إن أريد الملاقاة بالإطلاق فهي بمعنى العلم وإن أريد الملاقاة حينئذ فالظن على بابه لأن الإنسان لا علم له بزمن موته. قال (ابن عرفة): وعبر عنهم بهذا إشارة إلى ما قاله بعضهم في رسالة: «من أحب الممات حيي ومن أحب الحياة مات». قوله تعالى: {بِإِذْنِ الله}. قال ابن عرفة: قال ابن عطية: إذنُ الله هنا تمكينه وعلمه بمجموع ذلك الإذن. (ابن عرفة: كذا يقول في كل موضع) والصواب أنّ معناه بقدرة الله وفضله وإرادته. قال ابن عرفة: وهذا إما أن بعضهم قاله لبعض أو قالوه كلهم لأنفسهم (تشجيعا) لها وتوطينا على الصبر على القتال والهجوم عليه. قوله تعالى: {والله مَعَ الصابرين}.

250

قالوا: هذا إما من كلامهم أو من كلام الله تعالى. ابن عرفة: (والصواب أنه من كلامهم لأن فيه تشجيعا لأنفسهم وحضا لها على المقاتلة وأما إن كان من قوله الله تعالى) خطابا لنبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فهو بعد انفصال تلك القضية فلا مناسبة لها، انتهى. قوله تعالى: {قَالُواْ رَبَّنَآ أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً ... }. دَعَوْا بالأمر المعنوي وهو الصبر وبالحسي (والمراد) بتثبيت الأقدام عدم الرجوع على الأعقاب، وليس المراد الوقوف في موضع واحد وابتدؤوا في الدعاء بالصبر لأنه سبب في تثبيت الأقدام. قاله الزمخشري: «أي هب لنا ما نثبت به من القوة والرعب (في قلب العدو) ونحوه من الاسباب. قال ابن عرفة: وهذا على مذهبه في أن العبد يستقل بفعله ونحن نقول: المراد ثبت أقدامنا حقيقة. قوله تعالى: {وانصرنا عَلَى القوم الكافرين}. تنبيه على أن قتالهم إياهم إنما هو لوصف كفرهم لا لغرض دنيوي، وهنا محذوف مقدر أي فقاتلوهم فهزموهم. وحكى ابن عطية هنا والزمخشري أن (ايشي) كان له ستة أولاد أحدهم (داود) وكان صغير السن فمر في طريقه بثلاثة أحجار، قال له: كل واحد منها خذني (فَبِي تقتل) جالوت فجعلها في مخلاته وطلب جالوت (المبارزة)، فقال طالوت: من يبرز فيقلته فأنا أزوجه بنتي وأحكمه في مالي؟ وكان داود من أرمى الناس بالمقلاع والتأمت الحجارة فوضعها في (المقلاع) وسمى بالله وأداره ورماه فأصاب رأس جالوت فقتله وحزّ رأسه وجعله في مخلاته. قال ابن عرفة: المقلاع شبه الوضف. الزمخشري: / وزوجه طالوت ابنته وروي أنه (حسده) وأراد قتله ثم تاب. قيل لابن عرفة: كيف صحّ هذا وقد حكى الزمخشري عن بعضهم أنّ طالوت (نبي). والنّبي معصوم؟ فقال: الأكثر على أنّه غير نبي وقد (تاب) من هذا، ومعلوم ما فيه. قال ابن عرفة: وهذه الآية يرد بها على الكوفيين في قولهم: إن الواو تفيد الترتيب لأن المفسرين نقلوا هنا أنّ الهزيمة إنما كانت بعد أن قتل داود جالوت فحينئذ انهزموا وتفرقوا. قوله تعالى: {مِمَّا يَشَآءُ ... }. قوله تعالى: {وَلَوْلاَ دَفْعُ الله الناس بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأرض ... }.

قال ابن عطية: أي لولا دفعه لكفر بالمؤمنين لفسدت الأرض بعموم (الكفر) من أقطارها، لكه لا يخلو زمان من داع إلى الله ومقاتل عليه إلى أن جعله في أمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. وقال مكي: أكثر المفسرين على أن المراد لولا ان يدفع الله بمن يصلي عمن لا يصلي وبمن يتقي عمن لا يتقي (لأهلك) لاناس بذنوبهم. وضعفه ابن عطية قال: والحديث الذي ذكر عن ابنِ عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما المعارض للآية لا يصح. قلت: انظره في تفسير مكي. قال ابن عرفة: وكان بعضهم يبدي في هذه الآية معنى ذكره البيانيون وهو الفرق بين قولك: أكلت بعض الرغيف وبين قولك: أكلت الّرغيف بعضه. وكذلك: أكلت بعض الشاة، وأكلت الشاة بعضها. (فما تقول) إلا أذا كان المأكول أكثرها أو كان أفضلها، لأنه من باب إطلاق اسم الكل على الجزء ولا يكون إلا لمعنى. قال: وفي الآية حجة على من يجعل لفظ البعض لا يطلق إلا على الأقل وهو (خلاف نقله) الآمدي في شرح الجزولية في باب التثنية والجمع لأن البعض الأول عبر به عن الدافع والبعض الثاني عن المدفوع، والدافع إما أقل من المدفوع أو أكثر أو مساو. وأجيب بأن هذا لازم إذا كانا قسمين فقط ولعلها ثلاثة أقسام دافع ومدفوع عنه ومدفوع. قال ابن عرفة: وفي الآية حجة لمن قال: إن العقل ما خلا عن سمع قط لاقتضائها أنّه لولا ذهاب الفساد بالصلاح المرشد إلى اتباع أوامر الله ونواهيه لعمّ الكفر والفساد الأرض، فلو خلا العقل من سمع في زمن من الأزمان لهلك الخلق كلهم. فقال: بعض الطلبة بمحضره: إنّما يتم هذا على أحد تفسيري ابن عطية. فقال ابن عرفة: والآية دالة على أنّ الفساد هو الأصل والأكثر فيستفاد (منها) فيما إذا كنّا شككنا في صفته، واحتملت الصحة والفساد أنّها تحمل على الفساد كقولهم في فداء المسلمين من أيدي الكفار بالسلاح والكراع هل يجوز؟ وتغلب مصلحة استخلاص المسلمين منهم على مفسدة تقوي الكافرين بالسّلاح أو يمتنع؟ وكذلك إذا تترّس الكفار بالمسلمين هل يباح قتل الترس أم لا؟ قوله تعالى: {ولكن الله ذُو فَضْلٍ عَلَى العالمين}.

252

قال ابن عرفة: هذا احتراس وهو حجة لأهل السنة لأن ما قبلها تضمّن أنّ الله تعالى يذهب الفاسد بالصالح فلو اقتصر عليه لأوهم وجوب مراعاة الأصلح على الله تعالى فبين بهذه الآية أن ذلك محض تفضل من الله تعالى ولا يجب عليه شيء. قال ابو حيان: «وَلَكِنّ» استدراك بإثبات الفضل على جميع العالمين لما يتوهمه من يريد الفساد أن الله غير متفضل عليه إذ لم يبلغه مقاصده. قال ابن عرفة: هذا بناء على أنّ ما بعد (لَكِنّ) لا يكون (مضادا) لما قبلها، ومن يجيز كونه مخالفا له لا يحتاج إلى هذا بل نقول: معناه لهلك النّاس كلّهم بغلبة الفساد. (وعلّل تفضله) بالجميع لأنّه عام يناله المفسد والمصلح والمدفوع عنه، أما نيله المدفوع فظاهر وأما المفسد فلأن منعه من ذلك منقذ (له) من الهلاك ودخول النّار فيصير صالحا. قوله تعالى: {تِلْكَ آيَاتُ الله نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بالحق ... }. قال ابن عرفة: الإشارة إلى الآيات المتقدمة. وعبر عن التلاوة الماضية بصيغة المستقبل للتصور والدّوام، وإمّا أن يكون «نتلوها» مستقبلا حقيقة والإشارة إلى المتقدم باعتبار لفظه فقط. مثل: عندي درهم ونصفه، أو الإشارة إلى المستقبل (المقدر) في الذهن تحقيقا لوقوعه وتنزيلا له منزلة الدافع حقيقة. وفي الآية التفات بالانتقال من الغيبة إلى التكلم. قوله «ءَايَاتُ اللهِ» إشارة إلى عظمها وجلالة قدرها. وقوله «نَتْلُوهَا» لم يقل: يتلوها الله عليك فعبر (بالنون المشتركة) بين المتكلم وحده وبين المتكلم ومعه غيره إشارة إلى بلوغها للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بواسطة الملك. قوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَمِنَ المرسلين}. ابن عرفة: هذا كالنتيجة بعد المقدمتين لأن تلك الآيات المعجزات دالة على صحة رسالة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. وأكدت رسالته ب (أن) واللاّم بورودها بهذا اللفظ لأنه أبلغ من قوله وإنّك (المرسل) كما قال {يس والقرآن الحكيم إِنَّكَ لَمِنَ المرسلين} قاله الزمخشري في قول الله عَزَّ وَجَلَّ في سورة العنكبوت

253

{والذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصالحين.} قوله تعالى: {تِلْكَ الرسل فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ ... }. قال (الزمخشري): الإشارة إلى جماعة الرسل التي ذكرت فقط في السّورة، أو التي (ثبت) علمها عند رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. قال ابن عرفة: بل الإشارة إلى ما قبله يليه وهي الرسل المفهومة من قوله {وَإِنَّكَ لَمِنَ المرسلين} قال ابن عرفة: فهذا التفضيل إما مطلقا / أي بعضهم أفضل من بعض (مطلقا)، أو من وجه دون وجه، فبعضهم أفضل من بعض في شيء والمفضول في ذلك أفضل من الفاضل في شيء آخر، فهل هو كالأعم مطلقا أو كالأعم من وجه دون وجه، والظاهر الأول. وما ورد في الحديث: «لا تفضلوني على موسى ولا ينبغي لأحد أن يقول: أنا أفضل من يونس بن متى» فلا يعارض هذا لأن الآية اقتضت تفضيل بعضهم على بعض من غير تعيين الفاضل من المفضول. قيل له: معلوم أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أفضل الخلق؟ (فقال): بان ذلك يعتقده (الإنسان) ولا يقوله بمحضر الكفار لئلا يقعوا بالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بتنقيص (فيتركه) سدّا للذريعة، أو يجاب بأنه تواضع من النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، قاله الغزالي كقوله: «أنا سيد ولد آدم ولا فخر». وأجاب القاضي عياض في الإكمال عن معارضة حديث نوح لحديث «لا ينبغي لأحد أن يقول أنا خير من يونس بن متى» وحديث «لا تفضلوا بين الأنبياء» مع حديث «أنا سيد ولد آدم ولا فخر».

أحدها أن يكون قبل إعلام الله له أنه أفضل ولد آدم أو يكون على طريق الأدب والتواضع، أو المراد: لا تفضّلوا بينهم في النبوة وإنّما تفضيلهم بخصائص خص الله بها بعضهم كما قال {فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ الله} الآية. قيل لابن عرفة: (إنّ) ابن عطية أخطأ في قوله هنا لأن يونس عليه السلام كان شابا وتشيخ تحت أعباء النبوة؟ فقال: لا شيء في مثل هذا. قال ابن عرفة: وكون بعض الرسل أوتي ما لم يؤته النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ (لا ينافي كون النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ) أفضل الخلق لأن المفضول قد يختص بفضيلة هي ليست في الفاضل كما قالوا: إن (أفضل) الصحابة أبو بكر مع أن لبعضهم من الخصوصيات ما ليست في أبي بكر، وكذلك كون عيسى (اختص) بإحياء الموتى وموسى بالكلام لا ينافي كون النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أفضل منهم، وكذلك قوله في سورة النجم {وَإِبْرَاهِيمَ الذي وفى} وتكليم الله للرسل ليس بمعجزة، وكذلك رفع الدرجات مشترك بينهم، فلذلك لم يسنده إلى معين (ولما كان إيتاء البينات والتأييد خاصا بروح القدس أسنده إلى عيسى. والكلام هنا المراد به) كلام الرحمة. فإن قلت: وكل رسول أيّد بروح القدس وهو جبريل؟ قلت: عيسى اختص من ذلك بقدر زائد من صغره إلى كبره لتكونه من نفخ جبريل عليه السلام في فرج مريم وتكلّمه في المهد. قوله تعالى: {وَلَوْ شَآءَ الله مَا اقتتل الذين مِن بَعْدِهِم مِّن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ البينات ... }. قال الزمخشري: مشيئته قَصْدٌ وَإلجاءٌ لأنّ العبد عنده يستقل بفعله وفعله بإرادته فيقول: إنّه لا تتعلق إرادة الله تعالى بذلك الفعل. قال ابن عرفة: وفي هذه الآية عندي حجة لمن يقول: إنّ العدم الإضافي تتعلق به القدرة لأن المعنى: ولو شاء الله عدم اقتتالهم. فقيل له: فرق بين الإرادة والقدرة؟ فقال: قد تقدم الخلاف في الإرادة هل هي مؤثرة أو لا؟ والصحيح أنه اختلاف لفظي (وأنَّه) خلاف في حال. فإن كان المقصود بها الإبراز من العدم إلى الوجود فليست مؤثرة، إن أريد به كون الشيء على صفة مخصوصة فهي مؤثرة،

254

وإذا كانت مؤثرة فيه كالقدرة وقد تعلقت هنا بالعدم. قال (السكاكي): ومفعول (شاء) (لا يحذف) إلا إذا كان (عدما) أو أريد به العموم. قوله تعالى: {فَمِنْهُم مَّنْ آمَنَ وَمِنْهُم مَّن كَفَرَ وَلَوْ شَآءَ الله مَا اقتتلوا ... }. قدم المؤمن لشرفه وإلاّ فالكافر أكثر وأسبق وجودا. وقوله تعالى: {وَلَوْ شَآءَ الله} إما تأكيد، أو المراد بالأول جميع الخلق. (والمراد) بهذا المؤمنون. قوله تعالى: {ولكن الله يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ}. صريح في مذهب أهل السنة وهو ينعكس بنفسه، فكل مراد مفعول لقوله ({ولكن الله يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ}. وكل مفعول مراد). ولقوله: {وَلَوْ شَآءَ الله مَا اقتتلوا} فدل على أنه أراد اقتتالهم إذ لو لم يرده لما وقع. انتهى. قوله تعالى: {ياأيها الذين آمنوا أَنفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاكُم}. قال ابن عطية: (هو عام في الجهاد والتطوع). والتحاكم في هذا إلى السبب المتقدم (هل ينهض) إلى وجوب القصد عليه أو يعم فيه وفي غيره؟ قال ابن عرفة: وفرقوا بين قولك: تَصَدّقْ، وبين قولك: يا غني تَصَدّقْ. بثلاثة أوجه: إما للوصف المناسب، أو تنبيه المخاطب، أو استحضار ذهنه. وإما خوف احتمال الشركة في النّداء. فإن قلنا: إن الكفار غير مخاطبين بفروع الشريعة فينتفي احتمال (الشريك) هنا، وأيضا فسبب النّزول يعين كون الخطاب للمؤمنين فانحصر كون فائدته إمّا التنبيه أو الإشعار بأنّ سبب الأمر بذلك وصف الإيمان. قوله تعالى: {مِمَّا رَزَقْنَاكُم ... }. مذهب أهل السنة تعميم الرزق في الحلال والحرام، وأمروا هنا بالحلال لأن (من) للتبعيض فيبقى البعض الآخر. قوله تعالى: {مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ ... }. واليوم حمله المفسرون على يوم القيامة. قال ابن عرفة: وعندي أنه يوم موت كل واحد لأن من مات قد قامت قيامته. قيل لابن عرفة: يلزمك الإضمار لأن يوم القيامة لا بيع فيه بالإطلاق ويوم موت كل واحد لا بيع له فيه ولا خلة له فيه، وإلاّ فالبيع لغيره ثابت له فيه لأن غيره حي قطعا؟ فقال: إنّما تعلق النّفي بيوم الموت والبيع غير ثابت فيه من حيث كونه

255

يوم الموت، ونفي البيع لايستلزم نفي الخلة لأنه قد لا يكون عنده ما يبيع وقد يكون (له) صاحب يحميه وينصره، ولا يلزم من نفي الخليل نفي الشفاعة لأن العدو قد (يرق) لعدوه ويشفع فيه، ولأن الخليل يستنقذ بالانتصار والقوة والغلبة والشفيع يستنقذ بالرغبة والفضل لا بالقوة. قوله تعالى: {الله لاَ إله إِلاَّ هُوَ الحي القيوم ... }. قال الامام ابن العربي في شرح الاسماء الحسنى: يقال: حي وحيى ويحيي وقيل: حاي على وزن فاعل والخبر آكد، أي جنس الحي، وقيل: هو الحياة والحي نوع من القبيلة سمى به مجازا لأن به يستعزون على حماية أنفسهم وحياة مواشيهم بالخصب ورعي الحَيَا، وشربه وهو المطر، والحياة وصف للجسم (عرض) إذا وجدت في جسم أو جوهر كان دراكا فعالا والعرب إذا أرادت الإدراك والحس قالت: هذا حي، والحي في الشاهد من قوله: حياة. وأما الغائب فبعضهم قال: لا أقول: إنّ الله حي بحياة، إذ لم يرد فيه ولا في السمع والبصر ونقول: (عالم بعلم) لِوروده «. وقال الامام الغزالي: والكثير من علمائنا: الحي: الفعال الدرّاك. وهو باطل بوجوه: منها أن البارىء في الأزل حي مدرك بنفسه وصفاته ولم يفعل، وأيضا الإدراك معنى غير الحياة والفعل فكيف يفسر معنى بمعنى مغاير له، واعلم أنّ وجود الحياة مصحح للادراك والفعل فيلزم الإدراك إذ لايصح حي غير مدرك ويصح الفعل ولا يلزم. ووجوب الحياة للبارىء يختص بخمسة أوصاف: أنه لم يسبقه موت، ولا (يعتريه)، وليس له (بلل) ورطوبة، ولا يحتاج إلى غذاء، فإنه يطعم وهي للعبد بعكس ذلك كله. قال الزمخشري: والحي الباقي الّذي لا سبيل للفناء عليه وهو على اصطلاح المتكلمين الذي يصح أن يعلم ويقدر. قال ابن عرفة: وكل شيء يصح اتصافه بالعلم والقدرة لكن الحي بغير واسطة والجماد بواسطة الحياة. قال ابن عرفة: قال ابن عطية: قال المعتزلة وقوم: الله حي لا بحياة، وهو باطل. وقال آخرون: حي بحياة، وقال قوم: هو حي كما وصف نفسه، وسلم ذلك أن ينظر فيه. وقد تقدم الخلاف في الصفات فنحن نثبتها ونقول: الله عالم بعلم، قادر بقدرة. حي بحياة. المعتزلة ينفونها، وتقدم الخلاف بيننا في الأحوال كالعالمية والقادرية والحيية. فمنا من يثبتها، ومنا من ينفيها، والمثبتون لها قسموها على قسمين: معللة وغير معللة، والمعللة عندهم مشروطة بالحياة والسوادية والبياضية غير معللة،

والعالمية معللة كالقادرية. وكان بعضهم يرد على من يقول: إنها معللة بصفات الحياة لأن الحياة حال ليست معللة لئلا يلزم عليه تعليل الشيء بنفسه. قوله تعالى: {الحي القيوم ... }. قال الامام ابن العربي: على وزن فيعول: اجتمعت ياء وواو، سبقت إحداهما بالسكون فقلبت وأدغمت. والقيام أصله القيوام وأهل الحجاز يصرفون الفعال إلى الفعلان فيقولون في الصّداع صداع. والقيم عند سيبويه فيعل للتأكيد، فقلب وأدغم. وأنكر الفراء أن في الأمثلة فيعل، وقال: أصلها فعيل ككريم وكان (أصلهم) أن يجعلوا الواو وألفا لافتتاح ما قبلها ثم يسقطونها لسكونها وسكون الياء بعدها فلمّا فعلوا ذلك صار فعيل على لفظ فعل فزادوا ياء ليكمل بها بناء الحرف. قال ابن العربي: واختلفوا في معناه فقيل: الدائم الذي لا يزول، فالقيوم معناه: الباقي الدائم. وقيل: القيوم هو القيم على كل شيء بالرعاية والمدبر لجميع أمور العالم بمعنى: الحفيظ والمدبّر. وقيل: الذي لا تفنيه الدهورو ولا يتغير بانقلاب الأمور فهو بمعنى: الثابت القدوس. قال: والصحيح أنه مبالغة قائم من قام إذا أطاق. قال: وروى ابن راشد الأزدي أنه ورد على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقال له: «ما اسمك؟ فقال عبد العزى بن (غاويه») فقال له: عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: بل اسمك عبد الرحمان بن راشد، قال: من الذي معك؟ قال: مولاي قال: ما اسمه؟ قال: قيوم. قال: ولكنه عبد القيوم «. ورواه الدارقطني وعبد الغني الحافظ كذلك ورواه ابن (رشد) قال:» ما اسم مولاك. قال: القيوم. قال: لا بل عبد القيوم «والدارقطني أحفظ وأوثق. قال: فأما القائم فله في اللغة ثلاثة معان: قام إذا انتصب وعلا، وقام بالامر أي استقل به، وقام إذا لازم. قال الله تعالى: {إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَآئِماً} فقيل كلها حقيقة، وقيل: الأول فقط، واختلفوا في معنى كون الله قائما بنفسه، فقيل: لا يحتاج إلى مكان، وقيل: موصوف بصفاته العلية، وقيل: مستغن عن كل شيء. والصحيح أنه لا يصح وصفه إلا مُضافا لما يبينه فإذا قلت: قائم على كل نفس بما كسبت فصحيح معنى وارد شرعا، وإن قلت: قائم بنفسه فصحيح لم يرد. واختلفوا في معنى قائم على كل نفس بما كسبت، فقيل بما كسبت من رزق تفضلا فهو امتنان، وقيل: بما كسبت من عمل يحفظه عليها فهو وعيد. وقيل: يطلع عليها لا يخفى عليه من أمرها شيء، وقيل: المراد الملائكة الموكلون بحفظ بني آدم لا

يستوون مع الأصنام فكيف بخالق الملائكة ومن هو قائم عليها ومدبرها وهذا مجاز. ابن العربي: والصّحيح أنه قائم بالخلق والحفظ والرزق وغير ذلك فهو غني عنه. قوله تعالى: {لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ}. قال ابن عرفة: هذا كالدليل / على كونه حيا قيوما و {لَّهُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض} كالدّليل على أنه لا تأخذه سنة ولا نوم. فان قلت: نفي السِّنة يستلزم نفي النوم فهلا قدم النوم على السنة؟ قال: فالجواب من وجهين: الأول منهما: (قصد) نفى السنة بالمطابقة واللزوم. الثاني: إنّا نجد من يدافع النوم لا تأخذه سنة لأنه مهما تأخذه السّنة يدافعها ويغلبها حتى يأتيه النوم غلبة فينام فما يلزم من عدم السّنة عدم النوم. قوله تعالى: {لَّهُ مَا فِي السماوات} دليل على أن أعمال العباد مخلوقة لله تعالى لأنها ما في السَّمَاوَاتِ وما في الأرض. قوله تعالى: {مَن ذَا الذي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ ... }. قال ابن عرفة: ورد النّفي بصغية الاستفهام وهو أبلغ لاقتضائه موافقة المخاطب عليه. قال ابن عطية: الإذن قسمان فهو في الشفاعة في الخروج من النّار بمعنى الأمر لحديث «يامحمد ارفع رأسك تعطه واشفع تشفع»، وهو ((في شفاعة غيره من الأنبياء والعلماء وشفاعة (الجار) والصاحب الذين يشفعون)) قبل أن (يؤمروا) بمعنى العلم والتمكين. قال ابن عرفة: (يريد) بمعنى خلق الدّاعي والقدرة على ذلك. قال: واقتضت الآية ألاّ شفاعة إلا بإذن والإذن فيها يقتضي قبولها فيعارض قوله تعالى: {فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشافعين} فدلّ على أنّ هناك من يشفع ولا تقبل منه، إلا أن يجاب بأن تلك سالبة، مثل: الحائط لا يبصر (لا معدومة) مثل: زيد غير بصير، فليس المراد شفاعة الشافعين لا تنفعهم بل هو من باب نفي الشيء بنفي لازمة مثل: على لا حب لا يهتدى بمنارة ... أي ليس له منار يهدى به، أي لا شافع هناك فتنفع شفاعته. قوله تعالى: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ ... }.

هنا دليل على عموم تعلق علمه بالجزيئات والكليات فيرد بها على من نفى تعلقه بالجزيئات. قيل لابن عرفة: قد يقال إنه دليل ظاهر لا نص وندعى تخصيص عمومه؟ فقال: استدلوا بظواهر (الآي) في (كثير) من المطالب وتعقبوا على ابن الخطيب في قوله في المحصول: إن الدلائل السمعية لا تفيد الظن فضلا عن اليقين. قال ابن عرفة: وتقدم لنا سؤال وهو أنه تسلط النفي هنا على الأخص دون الأعم فلو قيل: ولا يعلمون شيئا من علمنا بل علمه إلا ما شاء لكان أبلغ لأن الإحاطة بعلم الشيء أخص من مطلق علمه. قال: والجواب أنّا إن قلنا: إن العلوم كلها متساوية فلا فرق بين الإحاطة وعدمها. وإن قلنا: إنها غير متساوية فالسؤال وارد. وعادتهم يجيبون بأن (الآية) خرجت مخرج التمدح. والعلوم قسمان: ضرورية ونظرية، فالضرورية لا يقع عليها مدح ولا ذم لأنها جبرية يستوي فيها كل الناس وإنما يقع المدح على العلوم النظرية وهي لا تحصل إلاّ بالإحاطة لأنها ناشئة عن مقدمتين والعلم بالمقدمتين مستلزم الإحاطة بعلم النتيجة، فالإحاطة بها وعلمها (متساويان). قيل لابن عرفة: الآية دالة أن المعدوم (يصدق) عليه شيء لأنّا إن لم نجعله داخلا تحت مسمى شيء لزم إبطال العمل بمفهوم الصّفة لأنّه يكون مفهوم الآية (أنهم) يحيطون بالمعدوم من (تعلق) علمه وهذا كفر؟ فأجاب: بأنه مفهوم أحرى لأنهم إذا لم يحيطوا بالموجود فأحرى المعدوم. قلت: وقال بعضهم: إن هذا السؤال غير وارد لأن المعنى إلا بما شاء أن يحيطوا به فإنهم محيطون به ولا يلزم منه نفي تعلق المشيئة بالمعدوم بل يبقى الأمر مسكوتا عنه فلا يلزم تعلق الحكم بنفيه ولا بإثباته. قال ابن عطية: «وقد قال الخضر لموسى عليهما السلام: ما نقص علمي وعلمك من علم الله إلاّ ما نقص هذا العصفور من البحر». قال ابن عرفة: شبّه ما ليس بمُتناه بما هو متناهٍ لأن البحر متناهٍ، فالنقص فيه معقول وليس المراد حقيقة النقص، بل معناه نسبة علمي وعلمك من معلوم الله تعالى الذي لم ندركه نحن كنسبة ما يتعلق بالعصفور من ماء البحر إلى ماء البحر. انتهى. قوله تعالى: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السماوات والأرض ... }. قال ابن عرفة: كلام الزمخشري هنا حسن وكلام ابن عطية في بعضه إيهام والألفاظ الموهمة إذا وردت من الشارع تأولت وردت الى الصواب، وإن وردت من

256

غيره لم تتأول لأن الشارع يذكر الألفاظ الموهمة للابتلاء بها {فَيُضِلُّ الله مَن يَشَآءُ وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ} (فالمحق) يصرفها عن ظاهرها إلى الصواب والمبطل يقف مع الظاهر، وأما إذا وردت من غير (الشارع) فلا تتأول. قلت: وكذا قال الزمخشري: لفظ الكرسي تخييلُ. والتخييل أن يعبر عن الشيء بلازمه كقوله تعالى: {طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشياطين} قوله تعالى: {وَلاَ يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا ... }. ان قلت: هلا قيل: حفظُها، بضمير جماعة ما لا يعقل أو: حفظُه، بضمير الكرسي لا شتماله على العرش والسّماوات والأرض، (والشي) (في نفسه) ليس كهو مع غيره، فلا يلزم من نفي الثقل (عن) السماوات والأرض (بخصوصيتها) نفي الثقل (عنها) مع غيرها؟ فالجواب: أنّه (خصهما) بالذكر لأنهما المشاهدان للإنسان الذي يراهما ويوافق على إمساكهما وعدم إزالتهما ليكون ذلك أقطع في طريق / الاستدلال وأقوى في قيام الحجة عليه. قوله تعالى: {وَهُوَ العلي العظيم}. قال ابن عطية: أي عظيم القدر والخطر وليس من عظيم الأجرام وحكى (الطبّري) عن قوم أن العظيم بمعنى المعظم كقولهم: العتيق بمعنى المعتق، وأنكره آخرون وقالوا: لو كان بمعنى معظم لوجب ان لا يكون عظيما قبل أن يخلق الخلق وبعد فنائهم إذ لا معظم له حينئذ. قال ابن عرفة: وهذا الإنكار غير صحيح، بل يفهم كما قال الضرير في أرجوزته لأنه قسم الحمد على قسمين: قديم وحادث، فالقديم حمده تعالى نفسه. قوله تعالى: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدين ... }. نقل ابن عرفة عن ابن عطية الخلاف في سبب نزولها ثم قال: الظاهر عندي (أنّها) على ظاهرها ويكون خبرا في اللفظ والمعنى. والمراد أنه ليس في الاعتقاد إكراه وهو أولى من قول من جعلها خبرا في معنى النّهي. وكان أبو عمر ولد الأمير أبي الحسن على المريني في (أيام) مملكته جمع كل من كان في بلده من النّصارى وأهل الذمة وقال لهم: إما أن تسلموا أو ضربت أعناقكم، فأنكر عليه ذلك فقهاء بلده ومنعوه وكان في عقله اختبال.

قيل لابن عرفة: من فسّر الدين بالإسلام لا يتمّ إلا على مذهب المعتزلة القائلين بأن الاعتقاد غير كاف. فقال: قد قال الله تعالى: {إِنَّ الدين عِندَ الله الإسلام} وفسره في الحديث «بأنّ تشهد أن لاَ إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا». قوله تعالى: {قَد تَّبَيَّنَ الرشد مِنَ الغي ... }. (قد) للتوقع لأن المشركين كانوا يتوقعون بعثة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. وعارضوها بقوله تعالى: {لِيَمِيزَ الله الخبيث مِنَ الطيب} فجعل الخبيث مخرجا من الطيب، وعكس هنا. وأجيب: بأن هذا في أول الإسلام كان الكفر أكثر وتلك في آخر الإسلام كان الإيمان أكثر ودخل الناس في الدين أفواجا. قوله تعالى: {فَمَن يَكْفُرْ بالطاغوت وَيْؤْمِن بالله ... }. قدم الكفر إما لأنّه من دفع المؤلم، أو لأنه مانع ولا يتم الدليل على الشيء إلاّ مع نفي المانع المعارض ولذلك قال في الإرشاد: «النظر في الشيء يضاد العلم بالمنظور ويضاد الجهل به والشك فيه». فإذا كان الكافر مصمما على كفره استحال إيمانه وإذا ظهر له بطلان الكفر وبقي قابلا للإيمان ونظر في دلائله أنتجت له الإيمان. قوله تعالى: {فَقَدِ استمسك بالعروة الوثقى ... }. قال الزمخشري: هذا تمثيل للمعلوم بالنّظر والاستدلال بالمشاهد المحسوس (ونظرٌ في دلالات أنتجت له) حتى يتصوره السّامع كأنّه ينظر (إليه) بعينه. ابن عطية: هذا تشبيه واختلفوا في المشبه بالعروة فقال مجاهد: العروة الإيمان وقال السدى: الإسلام. وقال سعيد بن جبير والضّحاك: (العروة) لا إله إلا الله. قال ابن عرفة: إنما يريد المشبه خاصة ولو أراد المشبه به لكان تشبيه الشيء بنفسه. قوله تعالى: {والله سَمِيعٌ عَلِيمٌ}. قال ابن عطية: لما كان الكفر بالطاغوت والإيمان بالله مما ينطق به اللسان ويعتقده القلب حسن في الصفات سميع من أجل النّطق وعليم من أجل المعتقد. وقال الفخر: هذا دليل على أنّ اعتقاد القلب الايمان غير كاف ولا بد من النطق.

257

قال ابن عرفة: لايتم هذا إلاّ على مذهب المعتزلة الذين ينكرون الكلام النفسي ونحن نقول: كلام النفس مسموع ولذلك نتصوره في الكلام القديم الأزلي وهم ينكرونه. قوله تعالى: {الله وَلِيُّ الذين آمَنُواْ ... }. أفرد الولي هنا لأن الإيمان من لوازمه التوحيد والكفر من لوازمه الشرك وتعدد الآلهة. قوله تعالى: {يُخْرِجُهُم مِّنَ الظلمات إِلَى النور ... }. وأورد الزمخشري في أول سورة الأنعام سؤالا فقال: لأي شيء جمع الظلمات وأفرد النور وحقه إن كان يورده هنا؟ وأجاب بتعدد طريق الشرك واتحاد طريق الإيمان. قال ابن عرفة: وإخراج المؤمنين من الظلمات إلى النور بالفعل حقيقة، لأنهم كانوا كافرين فآمنوا، والكافرون كانوا في مظنة الإيمان أو القبول إلى الإيمان فأخرجهم إلى التصميم على الكفر والقسمة رباعية كفر مستديم إلى الموت وإيمان دائم إلى الموت وكفر بعد الإيمان وإيمان بعد كفر فتضمنت الآية القسمين الأخيرين. قال ابن عرفة: إما أن يتجوز في لفظ «ءَامَنُوا» فيريد به المستقبل ويبقى «يخرجهم» على ظاهره، أو يبقى «ءَامَنُوا» على ظاهره ويتجوز في لفظ «يُخْرِجُهُم» وغلب في الآية مقام الوعظ والتخويف على مقام البشارة فلذلك لم يقل في الأول: {أولئك أَصْحَابُ النار هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} وذكر في الثاني. قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ ... }. قوله تعالى: {قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ الله يَأْتِي بالشمس مِنَ المشرق فَأْتِ بِهَا مِنَ المغرب}. إن قلت: هلا قال نمرود: أَنا هو الَّذي يأتي بها من المشرق فليأت بها ربّك من المغرب؟ قلت: إنه لا يقدر أن يقول ذلك لئلا تقوم عليه الحجة لأن الشمّس كانت تطلع من المشرق قبل أن يوجد نمرود. وذكره ابن عطية فقال: إن ذوي الأسنان يكذبونه. قوله تعالى: / {أَوْ كالذي مَرَّ على قَرْيَةٍ ... }. قال ابن عطية عن ابن عباس وجماعة: هو عزيز بن منبه، وجماعة هو أرمياء. (وقال ابن اسحاق أرميا هو الخضر). (وضعفه ابن عطية. قال: إلاّ أن يكون اسما وافق اسما لأن الخضر) هو معاصر لموسى عليه السلام، والّذي مر على القرية (هو) بعده بزمان من سبط هارون فيما روى وهب بن منبه. قال ابن عرفة: هذا بناء منه على أنّ الخضر عليه السلام مات والنّاس يقولون: لم يزل حيا إلى الآن على أنّ العلماء قد حكوا في موته خلافا.

(قال ابن عرفة: وعطفه) بغير فاء دليل على سرعة القول حتى أنه قال ذلك مع المرور لا بعده وتعجب من نفس الإحياء أو من كيفيته. قوله تعالى: {بَعْدَ مَوْتِهَا ... }. ولم يقل من بعد موتها إشارة إلى (كمال) التأخر والانفصال عن أزمنة البعدية لا أوّلها والمجاز فيها من أحد وجهين: إما أن يراد بالإحياء العمارة وبالموت الخراب أو يكون الإحياء حقيقة، والموت كذلك والمراد بعد موت أهلها. قوله تعالى: {ثُمَّ بَعَثَهُ ... }. قيل لابن عرفة: ثم للمهلة ولا مهلة بين المائة عام وبين البعثة؟ فقال: إما أن يعتبر أول أزمنة المائة عام أو نقول: المائة عام ماهية مركبة من أجزاء والإماتة بعد مجموعها، ولا تسمى الماهية إلا بكمال أجزائها فكانت المهلة بين إماتته مائة عام وبعثه لابين آخر جزء مائة). قوله تعالى: {قَالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ ... }. قالوا: إنه مات في أول النهار ضحوة وبُعث آخر النهار فقال: لبثت يوما ثم نظر فوجد الشّمس لم تزل على (الجدران) فقال: بعض يوم. قيل لابن عرفة: وكذلك كان يقول: لو وجدها غابت لأنه (ما مات) إلا ضحوة بعد مضي بعض النهار؟ فقال: ما اعتبر إلاّ ما بعد (موته) وما قبله كان فيها فيها مستصحبا الحياة. قوله تعالى: {فانظر إلى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ ... }. الفاء للسببية والنّظر البصر ويستلزم العلم لقول الله: {أَعْلَمُ أَنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}. وقوله: {لَمْ يَتَسَنَّهْ}. الزمخشري حمله على ثلاثة أوجه: أحدها: لم تمرّ عليه السنون لعدم تغيره مثل «عَلى لا حب لا يهتدي بمناره» فبقاؤه دال على عدم مرور السنين عليه ومرور السّنين عليه يقتضي عدم بقائه. الثاني: أنّ معناه لم يتغير.

260

قوله تعالى: {كَيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْماً ... }. قال أبو حيان: أعربوا «كَيْفَ نُنشِزُهَا» حالا من «العظام» أي انظر إلى العظام محياة. وردّ بأن الجملة الاستفهامية لا تقع حالا وإنما تقع حالا (كيف) وحدها. قال ابن عرفة: (يصح) ذلك على إضمار القول كما قال: «جاؤوا بمذق هل رأيت الذيب قط»؟. قوله تعالى: {نُنشِزُهَا ... }. على قراءة الرّاء معناه نحييها فيحتج به على أن العظام تحلمها الحياة. قوله تعالى: {فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ ... }. وقال أولا: {أنى يُحْيِي هذه الله بَعْدَ مَوْتِهَا}؟ قال ابن عرفة: إن كان كافرا فظاهر، وإن كان مؤمنا (فمذهبنا) على القول بأن العلوم النظرية تتفاوت بالقوة والضعف خلافا لقول أبي بكر الصديق رَضِيَ اللَّهُ عَنْه «لو كشف الغطاء ما ازددت يقينا». فهذا كان يعلم ذلك لكن علم المشاهدة أقوى من علم ما هو غائب. قيل لابن عرفة: إنّ بعض الناس يجري على لسانه: يا حمار عزير. فقال: يتقدم إليه وينهى عن ذلك فإن عاد إليه فلا يبعد أن يقال: إنه يؤدب. قلت: في كتاب القذف من التهذيب ومن قال: يا شارب خمر أو يا خائن، أو يا آكل الربا، أو يا ابن الحمار، (أو يا ثور)، أو يا خنزير فعليه النكال. وفي المدارك للقاضي أبي الفضل عياض رَحِمَهُ اللَّهُ في باب نوادر من أخبار مالك سأله رجل عمن قال للآخر: يا حمار؟ قال: يجلد. قال: وإن قال له: يا فرس؟ قال: تجلد أنت. ثم قال: يا ضعيف هل سمعت أحدا يقول: يا فرس؟. قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الموتى ... }. قال ابن عطية: قال الجمهور: إن إبراهيم لم يكن شاكا قط في إحياء الله الموتى، وإنما طلب المعاينة، وقال آخرون: إنه شك في قدرة الله تعالى (في) إحياء الموتى (ولذلك قال ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما ما في القرآن آية أرجى عندي من هذه. ابن عرفة: هذا كلام لا يليق بابن عباس). وحمله على ظاهره يلزم عليه الكفر فلا بد من تأويله وهو أن الشك في كيفية وجود الشيء لا يلزم منه الشك في وجود ذلك الشيء، كما أنا لا نشك في موت عثمان رَضِيَ اللَّهُ عَنْه مقتولا ونشك في كيفية ذلك حسبما اختلف فيه الرواة والنقلة. قال: ومن هنا يستدل على القول بعدم تواتر القراءات (السبعة) غير ملزوم (للقول) بعدم تواتر القرآن جملة.

قال ابن عرفة: فأراد ابراهيم عليه السلام الانتقال من العلم النظري إلى العلم الضروري لأن (النظري) تعرض له الشكوك (والضروري لا تعرض له الشكوك) ولذلك يقول الفخر ابن الخطيب: في كلامه هذا تشكيك في الضروريات فلا يستحق جوابا. قيل له علم (النبي) ضروري لا نظري؟ فقال: علمه بنفس الإحياء ضروري وبكيفيته نظري، وقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «نحن أحق بالشك من إبراهيم» على سبيل الفرض والتقدير في حق إبراهيم، وعلى جهة التواضع منه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ، أي لو فرض وقوع الشك من إبراهيم عليه السلام لكنا نحن أحق بذلك منه. قلت: تأول عياض في الشفاء هذه الآية بستة أوجه. أحدها: ما تقدم أنه طلب زيادة اليقين لأن العلوم تتفاوت. الثاني: علم وقوعه وأراد مشاهدته وكيفيته. الثالث: المراد اختبار منزلته عند الله تعالى وأن يعلم / إجابة دعوته، والمراد: أو لم تؤمن بمنزلتك واصطفائي (لك). الرابع: لما احتج على الكفار بأن الله يحيي ويميت طلبه من ربه ليصحح احتجاجه به عيانا. الخامس: أنّه سؤال على طريق الأدب أي (أقدرني) على إحياء الموتى. والسادس: أنه آمن من نفسه الشّك ولم يشك لكن ليجاب فيزداد قربة. وقول (رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ) «نحن أحق بالشك من إبراهيم» نفي لأن يكون من إبراهيم شك أي نحن موقنون بالبعث وإحياء الموتى، فلو شك إبراهيم لكنا أولى بالشك منه (أو) على طريق الأدب أو المراد أمته (الذين) يجوز عليهم الشك أو هو تواضع، فأما قول الله تعالى {فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّآ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ} فقيل: معناه قل يا محمد للشاك: إن كنت في شك، كقوله تعالى: {ياأيها الناس إِن كُنتُمْ فِي شَكٍّ مِّن دِينِي} وَ {فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الممترين} وقيل: المخاطب غيره وقيل: إنّه تقرير كقوله: {ءَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتخذوني وَأُمِّيَ إلهين مِن دُونِ الله} وقد علم أنّه لم يقل. «وقيل: إن كنت في شك فأسأل تزدد علما إلى علمك، وقيل: إن كنت شاكا فيما شرّفناك به فاسألهم عن صفتك في الكتاب؟ وقيل: إن كنت في شك من غيرك فيما أنزلنا إليك. قال القاضي عياض: واحذر أن يخطر ببالك ما نقله بعضهم عن

ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما أو غيره من إثبات شك النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فيما أوحي إليه وأنه من البشر فمثل هذا لايجوز جملة بل قال ابن عباس: لم يشك عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ. وانظر ما قيل على هذا الحديث (في كتاب الإيمان في دفتر الحديث، وفي أسئلة السكوني). قوله تعالى: {قَالَ بلى ولكن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ... }. دليل على أن (العقل) في القلب. قوله تعالى: {فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ... }. قوله تعالى: {ثُمَّ اجعل على كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءاً ... }. أي من الطير لأنهم جعلوه حالا من جزء فيكون نكرة تقدم عليها فانتصب (على الحال). قال ابن عرفة: ويحتمل هذا أن يكون على كل جبل من الجبال فيعود الضمير على الجبال المفهومة من كل جبل. قيل لابن عرفة: هلا بين له ذلك بإعدامهن جملة ثم أيجادهن عن عدم؟ فقال: إيجادهن لايلزم منه إعادتهن بأعيانهن لأنه يشاهد كل قوم أمثالهن: وقد يظن أن الموجود غير هذا مماثل لهن فهذا أغرب، وهو رؤيته أجْزَاءهُنّ المفترقة (حين) تجتمع وتعود كما كانت أول مرة قالوا: ولما اجتمعت أتت إليه التصق كل جسد مع رأسه. قال ابن راشد في اختصار ابن الخطيب: في الآية دليل على عدم اشتراط البنية خلاقا للمعتزلة. فقال ابن عرفة: هذا بناء فيه على أن البنية هي الشكل الخاص وليس كذلك مطلقا بل البنية المشترطة في الرؤية هي الشكل الخاص والبنية المشترطة في الحياة هي البلة والرطوبة المزاجية. نص عليه القاضي والمقترح وغيرهما لأنا نجد الحيوانات على أشكال متنوعة ولو كانت الشكل الخاص لكانت على (شكل) واحد. قوله تعالى: {يَأْتِينَكَ سَعْياً ... }. دليل على أنّهن أتينه يمشين خلافا لمن أتينه يطرن. قوله تعالى: {واعلم أَنَّ الله عَزِيزٌ حَكِيمٌ}. الحكمة مشروطة (بالإتقان) وهو سأل عن كيفية الإتقان فأخبره أنّه إذا علم كيفية الإتقان فلا يسأل عما وراء ذلك، فَإنّ اللهَ عَزِيز حَكِيم لا يمانع ولا يعاند في فعله فإذا تدبّر الإنسان في ملكوت الله وقدرته على الأشياء وخلقه لها، فلا يتدبّر فيها وراء ذلك لئلا (يجر به) تدبيره إلى الكفر وفساد العقيدة كما قال تعالى: {فارجع البصر هَلْ ترى مِن فُطُورٍ

261

ثُمَّ ارجع البصر كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ البَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ.} قوله تعالى: {مَّثَلُ الذين يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ الله ... }. قال ابن عرفة: ويتناول (نفقة) النفوس وقدروه على حذف مضاف إمّا من الأول أو من الثاني. وعندي أنّه لا يحتاج إليه لأنّ المنفقين للأموال نشأ عنهم نفقات، ونشأ عن نفقاتهم منافع دنيوية من إعلاء كلمة الله وإظهار الإسلام وتكثير المسلمين وهضم (حمية) الكافرين واستئصالهم ومنافع أخروية بتكثير الثواب في الدار الآخرة كما أنّ الحبّة ينشأ عنها أولاد كثيرة. وعن الامام مالك رَضِيَ اللَّهُ عَنْه الأولاد حبوب كثيرة. قال الزمخشري: فإن قلت هلاّ قيل سبع سنبلات بلفظ جمع القلة؟ وأجاب بجواز إيقاع جمع الكثرة على جمع القلة فوقع جمع القلة مثل «ثَلاثَةُ قُرُوءٍ». وأجاب ابن عرفة بأنّه لما سلك في الآية مسلك الحظ على النفقة في سبيل الله وتكثير الثواب المعد عليها روعي في ذلك وصف الكثرة فأتى به بجمع الكثرة. وجعله الزمخشري وابى (عطية) من تشبيه المحسوس بالمحسوس قبل الوجود. زاد الزمخشري: أو تشبيه محسوس بمعقول مقدر الوجود. قال ابن عرفة: كان ابن عبد السلام يقول: هذا عندهم في أرض الحجاز وأما نحن فهو عندنا كثير والحبة الواحدة تنبت قدر الخمسين سنبلة أو مائة واما أنّ (في) كل سنبلة مائة حبة فهذا عندنا قليل الوجود. قوله تعالى: {الذين يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ الله ... }. قال ابن عرفة: أتى به غير معطوف لأنه في معنى التفسير للأول فعلى هذا يكون خبر مبتدإ مقدر، أي هم الذين ينفقون أموالهم. قوله تعالى: {ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ ... }. عطفه ب (ثم) / إما لبعد ما بين المنزلتين أو للمهلة حقيقة ويكون فيه إشارة إلى أنهم يمنون بنفقة طال (أمدها) وداموا عليها (فأحرى) أن لا يَمُنُّوا بنفس الإنفاق. قوله تعالى: {مَنّاً وَلاَ أَذىً ... }.

264

قال ابن عرفة: قالوا الأذى هو الشكوى بذلك والسب عليه. ابن عرفة: وتقدم لنا سؤال وهو أنه لا يلزم من نفي الأخص نفي الأعم بل العكس، فالمنّ أعم من الأذى فإذا لم يمنّوا فأحرى أن لا يسبّوا عليها. وأجيب بأن الإنسان قد يشكو بإعطائه النفقة لغيره ويذم معه ولا يمن عليه لأنه إذا رآه يستحيي منه (فلا يمن عليه). فقال: المن على المعطي يكون بمحضره وفي غيبته. قال: وإنما عادتهم يجيبون بأن سبب المن أخف من سبب الأذى، فإنهم اعتبروا الفاعل ونحن نعتبر المفعول. فنقول: سبب المن مجرد بذل المال للفقير فقط، وأما الأذية (والتشكي) والسب فما يصدر إلا عن موجب وهو إذاية المعطي للفاعل ونحو ذلك. فلا يلزم من نفي المنّ نفي الأذى. قال: وقال هنا {لَّهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ} وقال (بعده) {الذين يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم بالليل والنهار سِرّاً وَعَلاَنِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ} فعطفه بالفاء. وأجاب الزمخشري بأنّ الموصول لم يضمّن هنا معنى الشرط وضمنه هناك لأن الفاء تدل على أنّ الإنفاق به استحق الأجر. قال ابن عرفة: هذا الكلام لا يستقل بنفسه، ولا يزال السؤال واردا، فيقال: لأي شيء أريد الشرط هناك ولم يرد هنا؟ قال: لكن عادتهم يجيبون بأنه لما قصد هناك الإخبار بأن مطلق الإنفاق في سبيل الله (يلزمه) الأجر قلّ أو كثر دخلت الفاء تحقيقا للارتباط، ولما كان المراد هنا إنفاقا خاصا على وجه شبيه بحسنة موصوفة بهذه الصفة وأكدت خصوصية سلامته من المن والأذى كان ترتيب الأجر عليه كالمعلوم بالبديهة وكالمستفاد من اللفظ فلم يحتج إلى ما يحقق الارتباط. قوله تعالى: {لَّهُمْ أَجْرُهُمْ ... }. أفادت الإضافة الاستحقاق أي أجرهم (اللائق) بهم فواحد يقل أجره وواحد يكثر وآخر في مادة التوسط بحسب (عمله) ونفقته. انتهى. قوله تعالى: {وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ... }. قال: الخوف يتعلق بالمستقبل فالمناسب فيه أن يكون الفعل المقتضي للتجدد، والحزن يتعلق بالماضي فالمناسب (أن يكون بالاسم) المقتضي للثبوت والتحقيق. قوله تعالى: {لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بالمن والأذى ... }. (قوله تعالى): {وَمَثَلُ الذين يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابتغآء مَرْضَاتِ الله ... }.

266

تأوله المفسرون إمّا على الإضمار في الثاني أي كمثل غارس جنة بربوة أو على الإضمار في الأول أي ومثل إنفاق الذين ينفقون أموالهم. قال ابن عرفة: والظاهر أن يكون التقدير ومثل مال الذين ينفقون أموالهم فالمال هو الذي يُشبه «جَنَّة بِرَبْوَةٍ» وَ «تَثْبِيتا مِنْ أَنفُسِهِمْ». قال ابن عطية: «ابْتِغَاءَ» مفعول من أجله فكيف عطف عليه «تثبيتا» مع أنّ التثبيت سبب في «ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللهِ» ومتقدم عليه فهو علة فيه. وأجيب بأنّه علة غائبة فذكره أبو حيان. قوله تعالى: {فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ ... }. قال المفسرون: الضعف هو المثل، أي آتت أُكلها المعهود على مرتين أعني آتته وآتت مثله معه. قال ابن عرفة: ووقع في ابن الحاجب ما نصه: ولو أوصى بضعف نصيب ابنه فلا نص. فقيل مثله وقيل مثليه. ابن عرفة: فعلى هذا الخلاف يكون المعنى فأتت أكلها أربع مرات وعلى القول الآخر (يكون) كما قال المفسرون. قوله تعالى: {فَإِن لَّمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ ... }. قال المفسرون: إن أصابها الوابل تؤتي أكلها مرتين وإن أصابها الطلّ فقط تؤتي أكلها مرة واحدة. ابن عرفة: ولا يمتنع أن يراد أنها تؤتي أكلها مرتين سواء أصابها وابل أو طلّ ويكون ذلك مدحا فيها وتأكيدا في أوصاف حسنها. قوله تعالى: {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ ... }. الهمزة للإنكار، أي لا يودّ أحدكم أن تكون له جنّة هكذا! وهذا التشبيه لمن أبطل صدقته بالمن والأذى. (قوله تعالى): {لَهُ فِيهَا مِن كُلِّ الثمرات ... }. وقد قال: {مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ}، يعني أنّ معظمها النخيل والاعناب وفيها من كل الثمرات.

267

قوله تعالى: {وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَآءُ ... }. بيان لتمام الحاجة (إلى) ثمر الجنة أو هو احتراس لأن من بلغ الكبر يكفيه ذرية ينفقون عليه ولا يحتاج إلى أحد. قوله تعالى: {مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ ... }. يحتمل المستلذات فيعمّ الحلال و (غيره) إلا أن يريد المستلذّ بقيد كونه (حلالا) أو يقال بالعموم لأن الغاصب إذا زكّى مَاغَصَبَ (يجزى) عن ربّه ولكن ذلك بعد الوقوع، وأما ابتداء (فيؤمر) بردّه إلى ربّه، وقيل: الطيب الحلال هنا. (وقوله): {وَمِمَّآ أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الأرض}. إشارة إلى الحقيقة وأن الكسب إنّما هو سبب (لا مؤثر)، لأن ما أُخرج من الأرض يدخل في الكسب فهو عطف خاص على عام أو مقيد على مطلق. قوله تعالى: {وَلاَ تَيَمَّمُواْ الخبيث مِنْهُ تُنْفِقُونَ ... }. إما الحرام أو ما تكرهون على التأويلين في الطيب. قال ابن عرفة: وعندي أن الإنسان إذا كانت عنده كسرة باردة وأخرى سخنة وهو يكره الباردة فتصدق بها يدخل في هذا. قوله تعالى: {واعلموا أَنَّ الله غَنِيٌّ حَمِيدٌ}. احتراس أن تتوهموا أن الصدقة بهذا يحصل بها نفع للآمر بل النفع لمخرجها فقط. قوله تعالى: {يُؤْتِي الحكمة مَن يَشَآءُ}. قال ابن عرفة: الظاهر أنّ المراد به الفقه والعمل به. قوله تعالى: {إِن تُبْدُواْ الصدقات فَنِعِمَّا هِيَ ... }. ابن عطية: هي تفسير / الفاعل المضمر قبل الذكر. والتقدير: نعم شيء إبدَاؤهَا. قال ابن عرفة: وكان بعضهم يقول: غير هذا. وهو أنّ المازري ذكر في قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلاّ به». الخلاف هل هو إشارة للفعل فقط أو للفعل بصفته (فكذلك) يجيء هنا إن عاد الضمير على الصدقات بصفتها لم يحتج إلى هذا الإضمار والقرينة هنا تعيّن أن المراد الصفة، وهي قرينة التقسيم بين الإخفاء والإظهار قيل لابن عرفة: لعل القرينة هي المفسرة للمضمر؟ فقال: ثبت أن المراد هنا (الصّدقة) بصفتها وإنّما ثبت استعمال اللفظ في معنى ودار (الأمر) بين صرفه ذلك المعنى إلى القرينة أو إلى نفس اللّفظ فصرفه إلى نفس اللّفظ أولى.

272

قوله تعالى: {وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الفقرآء ... }. قال ابن عرفة: لم يقل أو تبدوها وَتُؤْتُوهَا الفُقَرَاءَ. وعادتهم يجيبون: بأنك إظهارها مظنة الكشف عن حال آخذها، وكثرة السؤال عنه وإخفاؤها مظنة لعدم الكشف عن ذلك فإعطاؤها في العلانية متوقف على علم المعطي وغيره بفقر آخذها فلا تقع إلا في يد فقير لأنه إما أن يسأل عن حاله أو يراه من يعلم أنّه غني فينهاه عن الصدقة عليه وإعطاؤها (سّرا) يتوقف على مجرد علم المعطي فقط بذلك، فقد تقع في يد غني يظنه المعطي فقيرا لأنه لا يسأل عن حاله ولا يطلع عليه من يعرف حاله فيخبره بحاله فلذلك قال في الثاني: {وَتُؤْتُوهَا الفقرآء}. قوله تعالى: {لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ ... }. قال ابن عرفة: الخطاب خاص بالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أو عام له ولسائر المؤمنين كقوله تعالى: {وَلَوْ ترى إِذِ المجرمون نَاكِسُواْ رُءُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ} {وَلَوْ ترى إِذِ الظالمون مَوْقُوفُونَ عِندَ رَبِّهِمْ} وهو راجع إلى الخلاف الّذي (حكاه) ابن عطية لأن ما نقله عن سعيد بن جبير وعن النّقاش يقتضي الخصوص وما نقله عن ابن عباس يقتضي العموم. قال ابن عرفة: وعلى تقدير الخصوص يستلزم العموم فهو خصوص لأنه إذا رفع التكليف عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ الذي هو رسول مأمور بالتبليغ والدعاء إلى الإيمان فأحرى أن يرفع عن من سواه. قال ابن عطية: ذكر النّقاش أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أتِىَ بصدقة فجاءه يهودي فقال: أعطني. فقال له عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «ليس لك من صدقة المسلمين شيء» فذهب اليهودي غير بعيد فنزلت الآية، فدعاه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ثم أعطاه، ثم نسخ الله ذلك بقوله: {إِنَّمَا الصدقات لِلْفُقَرَآءِ والمساكين} قال ابن عرفة: هذا ليس بنسخ ولكن المتقدمين يطلقون عليه نسخا والمتأخرين يقولون: العام إن عمل به ثم ورد بعد ذلك خاص فهو نسخ له وإن ورد الخاص بعده وقبل العمل به فهو تخصيص لا نسخ. قال ابن عطية: والهدى المنفي هو خلق الإيمان في قلوبهم، وأما الهدى الذي هو الدعاء إلى الإيمان فهو عليه. قال ابن عرفة: أما خلق الهدى (فمنفي) معلوم بالضرورة لا يحتاج إلى نفيه، وأما الدعاء إلى الإيمان فغير منفي، ويبقى قسم ثالث وهو الدعاء المحصل للإيمان الكسبي لا الجبري فيقال هديث فلانا إلى الإيمان، أي دعوته إليه فاهتدى بخلاف ما إذا دعوته إليه فلم يهتد فإنك لا تقول: هديته إلى الإيمان، فهذا هو المنفي في الآية، أي ليس مطلوبا بتحصيل الهداية الكسبية لهم إنّما عليك أن تدعوهم فقط، والإضافة على ما قلناه للمفعول. أي ليس عليك أن تهديهم. قيل لابن عرفة: لعل المراد لا يجب عليك أن تهديهم إلى الإيمان؟ فرده بقول الله تعالى: {ولكن الله يَهْدِي مَن يَشَآءُ} فَإِنَّه ليس المراد به الجبر على الإيمان بل خلق الهداية. قال ابن عرفة: وهذا تسكين لروعته لأنه مضى قبل الآية مقدار ربع حزب في الحض على الصدقة، وعلى (خلوص) النّية، وكرر ذلك وأكد فخشي أن يتهالك عليه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لأجل عدم امتثالهم فأتت هذه الآية تسكينا لروعته وتطمينا لجنانه. قوله تعالى: {ولكن الله يَهْدِي مَن يَشَآءُ ... }. فالتشديد كما في قوله تعالى: {ولكن الله رمى} وفي بعضها ولكن بالتخفيف. وسبب ذلك أنه إذا كان المخاطب منكرا وظهرت عليه مخائل الإنكار فيؤتي بها مشددة. ابن عرفة: وهذا أعمّ من قول الله تعالى: {إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ ولكن الله يَهْدِي مَن يَشَآءُ} (فإن عليك أن تهدي من أحببت) أخص من قولك أنت تهدي من أحببت، ونفي الأخص أعم من نفي الأعم. فان قلت: الأصل في نسبة المتكلم إلى نفسه فعلا أن يأتي باسمه مضمرا فيقول: ليس عليك إكرام محمد ولكنه علي، ولا تقول: ولكنه على زيد، يعني نفسه. قال: وتقدم لنا الجواب بأنّه لما كان المعنى خاصا بالله تعالى أتى فيه باسم الجلالة الخاص به ولو قال: ولكنّا نهدي من نشاء لكان عاما لأن الضمائر كلية. قلت: ولأن النون والالف تكون للمتكلم وحده إذا عظّم نفسه وللمتكلم ومعه غيره بخلاف / اسم الجلالة فإنه خاص بلا شك. قوله تعالى: {وَمَا تُنفِقُونَ إِلاَّ ابتغآء وَجْهِ الله ... }. يحتمل أن تكون الواو واو الحال (أى) وما تنفقوا من (خير) فلأنفسكم حالة كونهم يقصدون به وجه الله وهذا خبر في معنى الطلب (أو) الأمر أو النهي. انتهى. قوله تعالى: {وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ}. تأسيس، والمراد بالتوفية في المقدار وعدم الظلم في الصفة لأن من لك عليه طعام موصوف تارة يعطيك مثل الصفة وأقل في المقدار، وتارة يعطيك مثل القدر (وأدوَن) في الصفة. قوله تعالى: {لِلْفُقَرَآءِ الذين أُحْصِرُواْ فِي سَبِيلِ الله ... }. قال الزمخشري: أي اعمدوا للفقراء او جعلوا ما تنفقون للفقراء. ويجوز أن يكون خبر متبدإ (محذوف) أي صدقاتكم للفقراء. قال ابن عرفة: المقدرات باعتبار المعنى متفقة وباعتبار كيفية الدليل مختلفة «وَسَبِيلِ اللهِ» قال مالك في كتاب الحبس: هو وجوه الخير. بالإطلاق كيف ما كانت. وقال ابن عبد البر: المشهور عن مالك أنه الجهاد. قوله تعالى: {أَغْنِيَآءَ مِنَ التعفف ... }. ولم يقل: من تعفّفهم إشارة إلى اتصافهم بأبلغ وجوه التعفف لأن تعفف المحتاج (المضطر) إلى المسألة ليس كتعفف من لم تبلغ به الحاجة إلى السؤال فأفاد أن هؤلاء لم يتّصفوا بتعفّفهم اللائق بهم بل اتصفوا بالتعفف الإجمالي. قوله تعالى: {تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ}. الخطاب له ولغيره. قوله تعالى: {لاَ يَسْئَلُونَ الناس إِلْحَافاً ... }. ونقل هنا ابن عرفة كلام المفسرين ثم قال: ويحتمل أن يكون مثل {وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ} أي لو قدر صدور السؤال منهم لما قدر وقوعه إلا بالإلحاف لأجل ما نالهم من الجهد والحاجة، ويحتمل أن يكون مثل قول الله تعالى {لاَ يَحْزُنُهُمُ الفزع الأكبر} فيكون من باب (نفي) استلزام الأخص أمرا وإذا لم يستلزم الأخص أمرا لم يستلزمه الأعم. والمعنى: لا يسألون الناس لأجل الإلحاف (في السؤال) أي لأجل سبب الإلحاف وهو شدة الحاجة وإذا لم يسألوهم لأجل شدة الحاجة فأحرى أن لا يسألوهم لأجل سبب عدم الإلحاف وهو مطلق الحاجة فقط. قال الفخر بن الخطيب يحتمل أن يراد بالإلحاف (تأكيد) صبرهم. قال ابن عرفة: ينبغي أن يوقف على قوله: {لاَ يَسْئَلُونَ الناس إِلْحَافاً} مصدر، أي يلحفون إلحافا، أي يبلغون في شدة صبرهم وتجلدهم على الفقر. انتهى. قوله تعالى: {وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ الله بِهِ عَلِيمٌ}. قال ابن عرفة: قالوا: إن العبد يفرق بين حالة طاعته لسيده وهو حاضر ينظر إليه وبين حالة طاعته له في غيبته فمع الحضور يجتهد أكثر. قيل لابن عرفة: إذا بنينا على مذهب أهل السنّة في التفريق بين (عليم وبصير) فيرد السؤال على ما قلت، فيقال: هلا قيل: فَإنّ اللهَ بِه بصير فهو أخص من (عليم) خلافا للمعتزلة؟ فقال: الآية خطاب للعوام لا للخواص وصفة العلم عندهم (أجلى) اذ لا خلاف فيها، بخلاف بصير فإنّ منهم من ردّه لعليم ومنهم من أبقاه على ظاهره. قوله تعالى: {الذين يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم بالليل والنهار ... }. قال ابن عطية: عن ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما نزلت في علي ابن أبي طالب كرم الله وجهه كانت له أربعة دراهم تصدق بدرهم ليلا وبدرهم نهارا وبدرهم سرا وبدرهم علانية. قيل لابن عرفة: التصدق بالليل والنهار لايخرج عن كونه سرا (أو) علانية؟ (فقال: لا يصح الاعتراض على السبب وإنما النظر في ذلك عند تطبيق السبب على لفظ الآية، ويفهم هذا بأنه قسمة رباعية فتصدق (بدرهم) بالليل سرا وبدرهم علانية وفي النهار بدرهم سرا وبدرهم علانية). قال: هو في الآية عندي تفسير «سرا» راجع لليل، «وعلانية» للنهار، بدليل إتيان السرّ غير معطوف. قال: وعادتهم يقولون لأي شيء قدم السر على العلانية مع أنّ نفقة السرّ أفضل من نفقة العلانية. فهلا بدأ بالعلانية ليكون العطف ترقيا لا تدليا لأن عطف الترقي فيه تأسيس وعطف التدلي فيه ضرب من التأكيد؟ قال: فكانوا يجيبون بقاعدة استصحاب الحال، وذلك لأن نفقة السر أفضل من نفقة العلانية لخلوص النية فيها فإذا أنفق أوّلا سرا بنية خالصة واستصحب تلك النية بعينها في نفقة الجهر (فإنفاق) الجهر بتلك النية الخالصة الغير المشوبة بشيء من الرياء كان في أعلى درجات الطاعة فروعي فيه هذا المعنى فكان ترقيا. قوله تعالى: {فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ ... }. ولم يقل: فلهم أجر، لأن المراد أجرهم اللاّئق بهم ولو قيل: فلهم أجر لكان مفهومه أن من فعل دون ذلك لا أجر له مع أنه يؤجر. قال ابن عطية: ودخلت الفاء لأن الموصول وصل بالفعل ولم يدخل عليه يغير معناه. قال أبو حيان: وكذلك أيضا إذا كانت الصلة ظرفا أو مجرورا. وكذا ذكر ابن عصفور في المقرب وشرح الإيضاح. فإن قلت: إن الظرف المجرور محل والتعليل عند الأصوليين (إنما يكون) بالصفة لا بالمحل. فالجواب: إنّ المحل هنا ناب مناب متعلقة وهو كائن أو مستقر الذي هو صفة وتقوى هنا حتى صار كأنه هو ولذلك لا يجوز الجمع بينهما. قال أبو حيان: ومن شروط دخول الفاء أن يكون الخبر مستحقا بالصلة كهذه الآية. ورده ابن عرفة: بأنه ما علم كونه سببا إلا بعد دخول الفاء لا قبلها فكونه مستحقا بالصلة فرع عن دخول الفاء فلا يصح أن يكون شرطا فيها وموجبا لها. وأجيب بأن هذا بالنسبة إلى السامع وكلامنا في دخول الفاء بالنسبة إلى قصد المتكلم ونيته. وعادتهم يردّون على كلام أبي حيان بقوله {الذي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ} فإن نفس الخلق غير موجب للهداية وإلا لزم منه مذهب المعتزلة القائلين بمراعاة (الأصلح)، وعادتهم يجيبون بأن المراد: الذي خلقني هذا الخلق الخاص على هذه الصّفة وهي النبوءة فهو يهدين، وتقدم نظيره في قول الله تعالى {أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى} وفي سورة قد أفلح {فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ} قال ابن عرفة: فإن قلت: ما الحكمة في دخول الفاء مع أنه (يجوز) الَّذي يأتيني له درهم. والمعنى فيه وغير ما فيه الفاء واحد، وكذلك (إن قلت) النفقة هنا (مستلزمة) لثبوت

275

الأجر لهم (مع الفاء ومع عدمها). قلت: وعادتهم يجيبون بأن الخبر إذا كان ثابتا وعطف عليه ما يتوهم نفيه وعدم ثبوته فلا بد من الفاء ولا شك أن حزنهم مما يتوهم نفيه فأتي بالفاء الدالة على كمال الارتباط وأنّ ذلك سبب في نفي الحزن والخوف عنهم. قال: ولفظ الرب هنا دال على أن هذا الثواب محض، تفضّل من الله تعالى كما يقول أهل السّنة خلافا للمعتزلة. وعادتهم يوردون سؤالا وهو: لأى شيء نفى الحزن عنهم بالفعل والخوف بالاسم مع أن المناسب العكس لأن متعلق الحزن ماض والخوف مستقبل؟ قال: وعادتهم يجيبون بأن النكرة في سياق النّفي تفيد العموم بإجماع، والفعل في سياق النفي مختلف فيه، هل يفيد العموم أم لا؟ والماضي محصور لأنه مشاهد مرئي فمتعلقه غير متعدد، والمستقبل متعلقاته متعددة لأنه غير محصور، فالخوف منه يعظم لكثرة الخواطر التي تخطر (ببال الإنسان)، (فقد) يخاف من كذا ويخاف من كذا ويخاف من شيء هو في نفس الأمر آمن فيه. فلذلك نفي الخوف بلفظ الاسم الدال على العموم بإجماع ونفي الحزن بالفعل المحتمل للعموم وعدمه. قلت: ورد هذا بمعنى الإجماع لأن النكرة عند النحويين لا تعمّ إلا اذا كانت مبنية مع (لا) مثل: لا رجل في الدار، بالفتح بلا تنوين. ويجاب بأنها أعمّ من الفعل بلا شك. قوله تعالى: {الذين يَأْكُلُونَ الربا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الذي يَتَخَبَّطُهُ الشيطان مِنَ المس ... }. قال ابن عرفة: يحتمل أن يكون التشبيه بمن يتخبطه «الشيطان من المس (حال) تخبطه. ويحتمل أن يكون التّشبيه بالمتخبط إثر تخبطه)) والظاهر العموم، لأن الآكلين من الربا متفاوتون في الأكل، فالمكثر منهم شبيه به حال التخبط والمقلل شبيه به أثر التخبط. قال ابن عرفة: وجه مناسبتها لما قبلها أنها تقدمها إنفاق الصدقة، والصدقة (من) غير عوض (والرّبا في ظاهر الأمر زيادة من غير عوض) لأنه يدفع قليلا في كثير. وقدّر الفخر المناسبة بأن الصدقة (نقص من المال) والرّبا زيادة فيه، فالنفوس تحبه وتكره الصدقة فجاءت الآية ردّا عليهم وإشعارا بأن ذلك النقص زيادة وتلك الزيادة نقص. قال الزمخشري:» مِنَ المَسّ «متعلّق ب» يقومون «(أو يقوم، فرد عليه أبو حيان تعلقه ب» يقومون «) لأن قيامهم في الآخرة وليس فيه جنون ولا مس. قال ابن عرفة: وفيه عندي نظر من وجه آخر وهو (أنّك تقول): ما أكل زيد إلا كالشيطان يأكل بشماله. أو تقول: ما أكل زيد بشماله إلاّ كالشيطان (يأكل بشماله). فهذه الحالة أخف لأنه في الأولى ذمّ لآكله مطلقا، وفي

276

الثانية ذم له إذا اتّصف بالأكل بالشّمال وقد لا يتصف به، وكذلك هذا يلزم أن يكون التشبيه خاصا بقيامهم من المس فيقال: لعل لهم (حالة) أخرى يقومون (بها) من المس. قال ابن عرفة: اعلم أن القدماء من المعتزلة ينكرون الجنّ بالأصالة، وهو كفر لا شك فيه فإنه تكذيب للقرآن والحديث، والمتأخرون منهم يثبتونهم وينكرون الصرع. قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قالوا إِنَّمَا البيع مِثْلُ الربا ... }. قال الزمخشري: الإشارة للعقاب. قال ابن عرفة: أو لأكلهم الربا لأنه سبب في عقوبتهم وسبب السبب مسبب، وهذا قياس تمثيلي ذكروا منه قياس (الشبه) والتسوية وهو قياس أخروي بمعنى أن الحكم في المقيس عليه ثابت في الفرع المقيس من باب أحرى فينعكس فيه التشبيه. ومثله ابن مالك في المصباح بهذه الآية وبقول الشاعر: كأن انتظار البدر من تحت غيمه ... نجاة من البأساء بعد الوقوع وبقول الآخر: وكأن النجوم بين الدّجى ... سنن لاح بينهن ابتداع فجعل أهل السنة بين المبتدعة بمنزلة النجوم في الظلام. وقال غيره: الاهتداء بالنجوم يحتاج فيه إلى معرفة استدلال واتباع أهل السنة لا يحتاج فيه إلى تكليف دليل فكان أحرى. قوله تعالى: {وَأَحَلَّ الله البيع وَحَرَّمَ الربا ... }. قال الزمخشري: هذا رد على قياسهم. قال ابن عرفة: بل هو عندي تجهيل لهم، ويكون النّص متقدما فهو قياس في معرض النّص فهو فاسد الوضع وعلى ما قال الزمخشري يكون النص غير متقدم. قوله تعالى: {يَمْحَقُ الله الربا ... }. قال ابن عرفة: الأحكام الشرعية منطوية بمصالح الدنيا والآخرة، فلمّا تضمن الكلام السّابق حصول المصلحة الأخروية بالصدقة لقول الله تعالى {فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} والعقوبة في الآخرة لفاعل الرّبا تضمّن هذا / أنّه محصل للمصلحة الدنيوية، والربا متضمن للمسفدة الدنيوية لأنّ الربا (ممحقة) للمال والصدقة زيادة فيه. وحمله ابن عطية على أنه في الدار الآخرة. والظاهر الأول. وبدأ هنا بالرّبا،

277

وفيما تقدم بالصدقة وطريق المقابلة واللّف والنشر العكس. لكن الجواب لما كان ذكر الصدقة قد يطول الكلام فيه قدّم الكلام (على) الربا ثم عاد إلى الصدقة. فإن قلت: هلا قيل يمحق الله المال الذي فيه الرّبا فهو أبلغ في التخويف لأن محق المال الذي فيه الرّبا أشد لاستلزامه محق الربا وزيادة؟ فالجواب: أن هذا (أجلى) من محق الربا والمخاطبون عوام. قوله تعالى: {والله لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ}. قال ابن عطية: يحتمل أن يريد: والله لا يحب توفيق الكفّار الأثيم. قاله ابن فورك. ابن عطية: وهذا غير صحيح لأن الله تعالى يحب التوفيق على العموم (ويحببه). قلت: وسمعت القاضي أبا العباس بن حيدرة والمفتي أبا القاسم الغبريني يقولان: هذه نَزْغَةٌ اعتزالية غفل فيها واعتزل من حيث لا يشعر، بل الله يحب الخير والشر تعالى أن يكون في ملكه ما لا يريد والرجل سني لا شك في فضله ودينه. قال ابن عرفة: إن قلنا: إن نقيض المستحب مكروه فالمعنى ظاهر وإن قلنا: إن نقيضه غير مكروه فهلا قيل: والله يكره كل كفار أثيم، لأن نفي المحبة أعم من الكراهة وعدمها. قال: وعادتهم يجيبون بقول العرب في المدح (التام) حبذا زيد. (وفي الذم التام لا حبذا زيد) فنفي المحبة عندهم يستلزم الكراهة. فإن قلت: هلا قيل: والله لا يحب كل (كافر) أثيم فهو أبلغ؟ قلت: إنه لما كان النفي أخص كان (المنفي) أعم. قوله تعالى: {إِنَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات وَأَقَامُواْ الصلاة وَآتَوُاْ الزكواة لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ ... }. قال هنا: «لهُمْ أجْرُهُمْ» وقال فيما سبق: {فَلَهُمْ أجْرُهُمْ} لوجهين: الأول: أن السّابق (أكمل) وأبلغ لقوله: {الذين يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُم بالليل والنهار سِرّاً وَعَلاَنِيَةً}، فأكّده بالسرّ والعلانية وهنا لم يؤكده كذلك. قيل لابن عرفة: الأعمال الصالحة تشتمل على النفقة وغيرها؟ فقال: تستلزم مطلق النفقة وتلك نفقة خاصة.

278

الثاني: إن هذا مؤكد «بإن» فأغنى عن تأكيده بالفاء؟ قلت: لأن الأول موصول مضمن معنى الشّرط فصحّ دخول الفاء في خبره وأن لا تدخل على الشّرط الصريح، فلا يدخل على ما هو مضمّن معناه فدخولها يمنع من تضمين الموصول معناه، وإذا لم يضمن معنى الشّرط فلا يدخل الفاء في خبره. قوله تعالى: {ياأيها الذين آمَنُواْ اتقوا الله ... }. حلمه ابن عطية على أحد ثلاثة أمور: إما يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا بمحمد دوموا على إيمانكم، وإما يَا أَيُّهَا الذين ءامَنُواْ في الظاهر اتقوا الله إن كنتم مؤمنين في الباطن، وإما يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ بموسى وعيسى آمنوا بمحمد. قوله تعالى: {فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ ... }. قال ابن عرفة: عادتهم يقولون: فيها حجة لمن يقول: إن الترك فعل لأن قبلها {وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الربا} ثُمّ قال: {فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ الله وَرَسُولِهِ}. قال: وعادتهم يجيبون بأنّ هذا كف لا ترك، ونظيره: إذا كان طيب طعام بين يدي رجلين: أحدهما جائع والآخر شابع ولم يأكلا منه منه شيئا. يقال في الجائع: إنه كف (عن الأكل) وفي الشبعان: إنه ترك الأكل. قيل لابن عرفة: أو يجاب بأن قبلها اتّق الله وهو فعل؟ فقال: الأمر بالتقوى ليس هو لذاته والآية إنّما سبقت لتحريم الرّبا بدليل استدلالهم بها في كتاب بيوع الآجال في ربا الجاهلية. قوله تعالى: {فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ الله وَرَسُولِهِ ... }. قال الزمخشري: في التنكير للتعظيم. وتقدم استشكاله بأنّ التنكير إنما هو للتقليل والشيوع في آحاد ذلك الشيء. وتقدم الجواب: بأن التعظيم الصفة والكيفية لا في الكمية والقدر وانظر سورة الفجر. قوله تعالى: {فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ}. قال ابن عرفة: مذهبنا أنه يجب ردّ الرّبا وهو الزيادة. قيل لابن عرفة: فكيف يتم مفهوم الآية على مذهبنا فإنّ مفهومها إن لم تتوبوا فليس (لكم رؤوس أموالكم) مع أن مذهبنا بطلان الربا وللمعطي رأس ماله؟ فقال: الجواب إن لم يتوبوا سقط الخطاب لأنه لا يخاطب إلا المؤمن برد الرّبا وأما الكافر فلا (يخاطب برده) حيث كان. قوله تعالى: {وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إلى مَيْسَرَةٍ ... }. قال ابن عرفة: تقرر من كلام الإمام عياض في كتاب الوصايا من الإكمال في حديث سعد بن أبي وقاص أن قولك: زيد ذو مال أبلغ من قولك: زيد له مال، ونحوه للزمخشري

281

في أول سورة آل عمران في قوله: {والله عَزِيزٌ ذُو انتقام} وفي سورة غافر: {إِنَّ الله لَذُو فَضْلٍ عَلَى الناس} ونحوه لابن الخطيب في سورة الروم في قوله {فَآتِ ذَا القربى حَقَّهُ} وخالفهم الشيخ (ابن عطية) فقال في سورة الرعد في قوله {وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِّلنَّاسِ على ظُلْمِهِمْ} (انها) دالة على تغليب جانب الخوف على جانب الرجاء لأن قولك ذو مغفرة مقتض لتقليل المغفرة. قال ابن عرفة: وقال بعضهم قولك: زيد صاحب مال، أبلغ من: ذو مال، لأن ذو مال إنما يقتضي مطلق النسبة سواء اتّصف به / أم لا، بخلاف قولك: صاحب، فإذا بنينا على كلام الجماعة الصحيح فإنما قال «ذُو عُسْرَة» ولم يقل: وإن كان معسرا، إشارة لما (تقرر) في الفقه من أنّ من له دار وخادم وفرس لا فضل في ثمنهن على ما سواهن يجوز له أخذ الزكاة ويسمى فقيرا، مع أنه إذا كان عليه دين يباع عليه داره وخادمه في دينه فليس مجرد الإعسار موجبا لإنظاره (بالدين، فإنّ) الموجب لذلك الإعسار (البين الكثير) فناسب إدخال (ذو). قال ابن عطية: و (كان) هنا عند سيبويه تامة بمعنى وجد وحدث. ومن هنا يظهر أنّ الأصل الغنى لأن إدخال «إن» يدل على أنّ الإعسار لم يكن موجودا. ورده ابن عرفة بأن ذلك (في) الدّين الذي كان (عن) عوض يقول فيه: الأصل المَلاَء، واستصحاب الحال ببقاء ذلك العوض وذهابه على خلاف الأصل، وأما الدين الذي لا عن عوض كنفقة الزوجات والبنين والأبوين فليس الأصل فيه المَلاَءُ. ابن عطية: حكى المهدوي عن بعضهم أن الآية ناسخة لما كان في الجاهلية من بيع من أعسر بدين. وحكى مكي: أنّ النّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أمر به في صدر الإسلام. ابن عطية: فإن (قلنا): فعل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فهو نسخ وإلاّ فليس نسخا. قال ابن عرفة: يريد أنه على الأول يكون نسخا لغويا وعلى الثاني يكون نسخا في اصطلاح الأصوليين. قال: وهنا أورد القرافي (في قواعده) سؤالا قال: ثواب الواجب أعظم من ثواب المندوب مع أن تأخير الغريم بالدّين واجب والتصدق عليه مندوب والآية نص في أنّ التصدق عليه بن أفضل، ثم أجاب التصدق به يستلزم التأخير وزيادة. قوله تعالى: {وَأَن تَصَدَّقُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ ... }. قوله تعالى: {ثُمَّ توفى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ ... }.

282

قال ابن عرفة: عام مخصوص لأن المجانين والأطفال لا يدخلون فيها. فإن قلت: لا كسب لهم؟ قلنا: تقرر مذهبنا أن الطفل الصغير إذا استهلك شيئا فإنه يغرم مثله أو قيمته من ماله، (فنرى) كسبه معتبرا في الدنيا وهو في الآخرة معفو عنه. قوله تعالى: {وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ}. قوله تعالى: {ياأيها الذين آمنوا إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ ... }. قال الفخر: تداين مفاعلة فلا (تكون) إلا من الجانبين، فلا يتناول إلا الدّين بالدّين. أو (فسخ) الدّين (بالدّين) فلا يصح حلمه على ظاهره بل المراد به إذا تعاملتم. وأجاب ابن عرفة: بأنّه يتناول الدّين (بالدّين) عن معاوضة فإن من اشترى سلعة بنقد أو نسيئة فإذا دفع الثّمن حصل له في ذمّة المشتري فله عليه الرجوع بعهدة العيب أو الاستحقاق. قال الزّمخشري: وإنما قال بدين ليعيد عليه الضمير. قال ابن عطية: ليرفع الوهم، إن المراد بتداينتم جزاء بعضكم بعضا. قال ابن عرفة: بلى أتى به ليكون نكرة في سياق الشرط فيفيد العموم. قوله تعالى: {فاكتبوه وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بالعدل وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ أَن يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ الله ... }. الأمر بالكتب مصلحة دنيوية وهي حفظ المال، ومصلحة دينية وهي السلامة من الخصومة بين المتعاملين. قيل لابن عرفة: يخرج (الدين) الذي على الحلول؟ فقال: لا يحتاج إلى كتب وثيقة غالبا فإن له طلبه في الحال. إبن عطية: قوله «بالعدل» متعلق بقوله تعالى «وَلْيَكْتُب» لا ب «كاتب» لئلا يلزم عليه ألاّ يكتب الوثيقة إلاّ العدل في نفسه وقد يكتبها الصبّي والعبد والمسخوط إذا (أقامو فقهها) إلاّ أنّ المنتصبين لكتبها لا يجوز للولاة أن (يولّوهم) إلا عدولا مرضيين. قال ابن عرفة: هذا تخليط لأن الأمر بالكتب ابتداء إنّما هو للعدل في نفسه وإمضاء كتب الصبّي والعبد والمسخوط إنّما هو بعد الوقوع، والآية إنّما جاءت فيمن يؤمر بكتبها وفرّق بين الأمر في كتبها عند العدل في نفسه وبين إمضائها إذا كتبها غير العدل. قوله تعالى: {فَإن كَانَ الذي عَلَيْهِ الحق سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً ... }. قال ابن عطية: السّفيه الذي لا يحسن الأخذ لنفسه ولا الإعطاء (منها).

ابن عرفة: هذا هو السفيه عند الفقهاء. قال: ومن كان بهذه الصّفة لا يخلو من حجر أب أو وصي أو قاض. قوله تعالى: {فَلْيُمْلِلْ ... }. قوله تعالى: {بالعدل ... }. كان بعضهم يقول: الذي يظهر أن يكون بالعدل متعلقا بوليه (لا بيملل) لأن إملاء الوصي إذا كان بغير العدل فالمشهور (يجرحونه) ولا يشهدون له فينبغي أن الوصي إذا أتى ليرهن على المحجور ويعمر ذمته ألاّ يشهدوا له إلا إذا تبين لهم في ذلك وجه المصلحة، وأما تعلقه بدين (وكان) أكثر الأوصياء لا يعدلون فلا يقبل إلا إملاء الوصي الدين ولذلك كان ابن الغماز يقول: جميع من رأيت من الأوصياء يتصرفون بغير الصواب إلا فلانا (أو فلانا) ويعيُّنهما. قوله تعالى: {واستشهدوا شَهِيدَيْنِ مِن رِّجَالِكُمْ ... }. قال ابن عرفة: مذهبنا أن العبد لايستشهد (ابتداء) فإن شهد قبلت شهادته. والآية دالة على أنّه لا يشهد الرّجل والمرأة إلاّ عند عدم الرّجلين مع أنه إذا تعارضت بينتان إحداهما رجل وامرأتان والأخرى رجلان فإنّهما متكافئتان لكن هنا شيء وهو أنّ الأصوليين ذكروا الخلاف فيما إذا تعارض أمران في صورة أو تساويا فيها وثبت لأحدهما الرّجحان على الآخر في غيرها من الصور فهل يرجح الأرجح أم لا؟ فقولان فإن قلنا بالتّساوي فلا سؤال، وإن قلنا بتقديم الأرجح فيرد السؤال، لم جعلهما مالك متكافِئَتين ولم يقدم الأرجح قال ابن العربي: واحتجّ بهذا أبو حنيفة على أنّه لا يقضي بالشاهد واليمين. ورده ابن عرفة بوجهين: الأول: أن الآية سيقت لبيان ما يستقل به الحكم في الشهادة لا لبيان كل ما يوجب الحكم. الثاني: أن هذه حالة التحمل وهو في حالة مأمور بأن يشهد رجلين أو رجلاً وامرأتين وإنما اليمين حالة الأداء والحكم بالحق. قوله تعالى: {مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشهدآء ... }. متعلق ب «اسْتَشْهِدُوا». وأبطل أبو حيان تعلقه ب «امرأتين» أو ب «رجلين» لئلا يلزم عليه المفهوم وهو إطلاق الحكم في الفريق الآخر وهما الرّجلان مرضيان كانا أو غير (مرضيين). (وأجاب ابن عرفة: بأن قوله: «مِن رِّجَالِكُمْ» «وشَهِيدَينِ» بالإضافة، والمبالغة تفيد كونهما مرضيين). قوله تعالى: {أَن تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأخرى ... }.

قال ابن عرفة: كان بعضهم يقول: إنه تعليل للمجموع (وإرادة) أن تذكر إحداهما الآخرى إذا ضلت. قال ابن عطية: قال بعض المكيين «فَرَجُلٌ وامْرَأَتَانِ» بهمز الألف ساكنة. قال ابن جني: لا نظير لتسكين الهمزة المتحركة وإنّما خففوا الهمزة فقرب من الساكن ثم بالغوا في التخفيف فصارت الهمزة ألفا ساكنة ثم أدخلوا (الهمزة على الألف) ساكنة (ومنه) قراءة ابن كثير «وكشفت عن سَأْقَيْهَا». قال ابن عرفة: وقع تسكين (الهمزة) المتحركة (في القرآن) في ثلاثة مواضع: أحدها «وَجِئْتُكَ مِن سَبَأَ بِنَبَإٍ يَقِينٍ». قرأها أبو عمرو والبزي بفتح الهمزة. وروي عن قنبل إسكان الهمزة إجراء للوصل مجرى الوقف، قوله تعالى: «مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلاّ دابَةُ الأَرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ». وقرأها نافع وأبو عمروا بالألف من غير همزة وابن ذكوان بهمزة ساكنة والباقون بهمزة مفتوحة. والثالث قوله عَزَّ وَجَلَّ ّ في سورة فاطر: «وَمَكْرُ السَّيّءِ» قرأ حمزة بسكون الهمزة إجراء للوصل مجرى الوقف والباقون بتحريكها. قلت: وموضع رابع وهو «فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ». روى فيه عن أبي عمرو الاختلاس وروي عنه الإسكان. قال ابن عطية: وقرأ حمزة «إِن تَضِلّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرُ» جعل (إن) شرطا والشرط وجوابه رفع لأنه صفة للمرأتين، وارتفع «تذكرُ» كما ارتفع قوله تعالى «وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللهُ مِنْهُ». هذا قول سيبويه وفي هذا نظر. قوله تعالى: {وَلاَ يَأْبَ الشهدآء إِذَا مَا دُعُواْ ... }. قال بن عرفة: قالوا: إن النهي تارة يكون للحاضر، وتارة يكون للغائب، فأمّا بالنسبة إلى القديم فلا فرق بينهما، وأما في المحدثات فقد يكون النهي في الغيبة أقوى وأشد منه في الحضرة، لأنك قد تنهي الشخص الحاضر عن فعل شيء بين يديك وتكون بحيث لو سمعت عنه أنه يفعله في غيبتك لا تزجره ولا تنهاه. فهذا الأمر فيه أخف من شيء تزجره على فعله في الغيبة والحضرة فإن النهي في هذا أشد. ولا يؤخذ من الآية أنّ الأمر بالشيء ليس هو نهيا عن ضده لأن «اسْتَشْهِدُوا» أمرٌ للمتعاقدين «وَلاَ يَأْبَ» نهي للشاهدين.

قوله تعالى: {وَلاَ تسئموا أَن تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَو كَبِيراً إلى أَجَلِهِ ... }. السآمة (بمعنى) الكسل، وقدم الصغير خشية التهاون به والتفريط فيه كقول الزّمخشري في {لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا} وقوله {مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يوصى بِهَآ أَوْ دَيْنٍ} وقوله {فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إلى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ} مع أن العداوة تنفي أخذ الدية ويوجب (التعارف) بها فلذلك قدمت الدّية. والضمير في قوله «تَكْتُبُوهُ» (إما عائد على الحق أو على الدّين، أو على الكتب. ((قال بعضهم: وإن عاد الضمير على الكتاب ف «أَوْ» للتخيير، وإن عاد على الحق أو الدين ف «أَوْ» (للتفصيل). قوله تعالى: {ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِندَ الله وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ ... }. ابن عرفة: هذا دليل على أنّ الأمر المقدم الندب لا للوجوب. والصواب أنّ المراد الإشهاد أقسط عند الله (والكتاب) أقوم للشهادة فيكون لفّا ونشرا، أي أعدل وأقرب لقيام الشهادة. و «أَقْسَطُ» قيل من الرباعي وهو شذوذ. قال الزمخشري: من قاسط على النسب أي ذو قسط، أو جار مذهب سيبويه في بنائها من أفعل. ورده أبو حيان: بأن سيبويه لم ينص بناء أفعل التفضيل من أفعل بل قال: فعل التعجب ينبني من فعل وأفعل. قالوا: وأفعل التفضيل ينبني مما بني به فعل التعجب. قال ابن عرفة: فظاهره أنه لم يحك بناء وهي من أفعل. وقال ابن خروف: رأيت في النسخ المشرقية أنّه يبنى من فَعَلَ وفَعُلَ وأفْعَلَ زاد في النسخ الرياحية إلا أنّ بناءه من أفعل قليل. وقد نص على صحة بناء التعجب من أفعل مبني منهما. وقول ابن عطية: انظر هل يكون من قَسُط بالضم غير صحيح لأنه لم يحك فيه (أحد) قسُط. وقول الزمخشري: إنه يجوز على مذهب سيبويه صحيح على ما قاله ابن خروف، ولا يحتاج إلى جعله على طريق النّسب إلاّ لو لم يثبت فيه الرّباعي. قوله تعالى: {وأدنى أَلاَّ ترتابوا ... }. ابن عرفة: إن أريد بالرّيبة مطلق الاحتمال فيكون فيه منح الشّهادة بالمفهوم لأنه ظنّي فلا (ينتفي) فيه الاحتمال. وقد قدمنا فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أنه يشهد بها على القطع. الثاني: أنّه لا يشهد. الثالث: أنّه يشهد بها بالفهم على نحو ما تحملها. قال ابن عرفة: وإن أريد بالريبة الشك فلا يكون فيه دليل على ما قلنا.

قوله تعالى: {إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً ... }. قال ابن عرفة: إن أراد بالأول الدّين وبهذا الحاضر / فيكون حينئذ استثناء منقطعا وإن (أراد) بالأول مطلق المعاملة فهو متصل. فإن قلت: هل في الآية دليل لمن يقول:: إنّ الاستثناء من الإثبات ليس بنفي كالاستدلال بقول الله تعالى {فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أبى} لقول الله تعالى {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ} وإلا لما كان له فائدة. (فالجواب) أنّ الأول تناول الكتب والإشهاد، فلو لم تذكر هذه الزيادة لأدّى إلى إهمال الإشهاد والكتب. فأفادت هذه الزيادة رفع الجناح عن الكتب في الحاضر وبقاء الأمر في الإشهاد فيها من غير كتب. أبو حيان: وقيل الاستثناء متصل راجع (لقوله) «وَلا تَسْئَمُوا». وقَدّر أبو البقاء معنى الاتصال في الاستثناء لأنه أمر بالاستشهاد في كل معاملة، واستثنى منه التجارة الحاضرة. والتقدير: إلاّ في حال الحضور للتجارة. قال الصفاقسي: وفي هذا التقدير نظر. انتهى. قوله تعالى: {وأشهدوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ ... }. هذه تضمنت الإشهاد من غير كتب فلا تناقض ((في قوله: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوهَا} لأن تلك إنّما اقتضت رفع الجناح عن عدم الكتب و (بقي) الإشهاد مطلوبا)). قوله تعالى: {وَلاَ يُضَآرَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ ... }. يحتمل أن يكون أصله يضارِرُ مبينا للفاعل أو يضارَرُ مبينا للمفعول. قال ابن عرفة: ويصح حمله على الأمرين معا على القول بجواز تعميم اللفظ المشترك في مفهوميه معا، كما قالوا في الجور والقرء ونحوه. قيل لابن عرفة: هذان لفظان وذلك إنما هو (في) اللّفظ الواحد كذا قال الفخر؟ فقال ابن عرفة: قد قال سيبويه في المشترك إنهما لفظان دالاّن على معنيين. ذكره في باب المستقيم والإحالة في (وجدت). وقال ابن التلمساني في شرح المعالم الفقهية في المسألة الخامسة من الباب الثالث في قوله {وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ} إنّه يحتمل أن يكون مضافا للفاعل والمفعول معا، ثم رده بأنه إذا (عمّمنا) في الأمرين يلزم أن يكون مرفوعا ومنصوبا في حالة واحدة وذلك جمع بين النقيضين. فإن قلت: لم عبر في «شهيد» بلفظ المبالغة دون «كاتب». قلت: إنّ ذلك فيمن برّز وبلغ إلى درجة العدالة. واختلف (الناس) في جواز أخذ الأجرة على الشهادة والمعروف المنع. وبعضهم أجازها إذا كان منقطعا عن أسبابه إليها. وقيل: إن كان له من المعرفة (ما) يفتقر بها إليه في النظر في الوثيقة ليصححها فقها وكتابة باعتبار سلامتها من اللّحن المخل فيجوز له أخذ الأجرة وإلاّ فلا. وقال الحافظ أبو عمرو عثمان بن الصلاح في علوم الحديث ما نصه: من أخذ على التحديث أجرا فقال (إسحاق) بن ابراهيم وأحمد ابن حنبل وأبو حاتم الرازي في ذلك مانع من قبول روايته فلا يؤخذ منه. وترخص أبو نعيم الفضل بن (دكين) وعلي بن عبد العزيز (المكي) وآخرون فأجازوا أخذ العوض عن التحديث وشبهوها بأخذ الأجرة على إقرائهم القرآن على أنّ في هذا من حيث العرف خرما للمروءة والظّن (السّوء) بفاعله إلاّ أنْ يقترن ذلك بما ينفيه كما كان أبو الحسن السّعودي (وأفتى به) الشيخ أبو إسحاق الشيرازي أنّ أصحاب الحديث كانوا يمنعونه عن الكسب لعياله. انتهى. ذكره في النوع الثالث والعشرين (في إكمال عياض في كتاب الطب في أحاديث الرقى. أجاز الإمام مالك وأحمد بن حنبل والشافعي وأبو ثور وأبو إسحاق أخذ الأجرة على الرّقية والطب وعلى تعليم القرآن. ومنع الإمام أبو حنيفة وأصحابه الأجرة على تعليم القرآن وأجازوا الأجرة على الرقية). قال ابن عرفة: (فحاصله) أنه إن كان انقطاعه لذلك يشغله عن معاشه وكان فقيرا محتاجا لما يتعيش به ولم يكن عنده من المال ما يستغني به عن طلب المعاش فيجوز له أخذ الأجرة وإلاّ فلا. وحكى أبو العباس أحمد بن حلولو عن والده أنّ القاضي أبا محمد عبد الله اللّخمي بعث له صهره سيدى أَبَو علي بن قداح بزير لبن فشربه ثم سمع أنه من عند شاهد يأخّذ الأجرة

على الشهادة، فتقيأه، ثم لما صار هو شاهدا كان يأخذ في الشهادة قدر الدينار كل يوم، وما ذلك إلا لأنّه كان يأخذ ذلك من وجهه، والشاهد الأول لم يكن يأخذ ذلك من وجهه. قوله تعالى: {وَإِن تَفْعَلُواْ فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ ... }. الفسق في اللّغة مطلق الخروج عن الحدّ وفي الشّرع هو تعدّي الحدود الشرعية. قوله تعالى: {واتقوا الله وَيُعَلِّمُكُمُ الله ... }. قال ابن عرفة: هذا دليل على ثبوت اشتراط العلم في الكاتب والشاهد. قوله تعالى: {والله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}.

283

اختلفوا في لفظ (شيء) هل يصدق على المعدوم أو لا؟ وقال الشيخ القرافي في تأليفه على الأربعين لابن الخطيب: إن ذلك الخلاف إنما هو في كونه محكوما به لا في كونه متعلق الحكم كقولك: المعدوم شيء. وأما مثل {والله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} فهو متعلق الحكم. قال ابن عرفة: إنما الخلاف مطلقا، وما ذكروا هذا إلا في اسم الفاعل المشتق وأما في هذا فقد ذكره الآمدي في أبكار الأفكار مطلقا. ابن عرفة: والآية حجة بأنّ المعدوم ليس بشيء وهو مذهب أهل السنة. قوله تعالى: {وَإِن كُنتُمْ على سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُواْ كَاتِباً فَرِهَانٌ ... }. ابن عرفة: مفهوم الآية ملغى بنصّ السّنة لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ رهن درعه في الحضر. وأيضا فهو مفهوم خرج مخرج الغالب لأن السفر مظنة لعدم وجدان الكاتب أو هو شيء من الأدلة غالبا بخلاف الحضر. قال ابن عطية: أجمع الناس على صحة قبض المرتهن وعلى قبض وكيله. واختلفوا في قبض عدل فجعله الإمام مالك قبضا. قال ابن عرفة: إذا لم يكن من جهة الراهن. وقال الحكم بن عيينة وقتادة: ليس بقبض. قال ابن عرفة: إذا قبض المرتهن الرهن ولم يزل حائزا له كان أحق به لا خلاف. وإن كان قبضه بالشهادة ثم أذن المرتهن للراهن في التصرف فيه فتصرف فيه الراهن بطل الحوز بلا خلاف، وإن أذن المرتهن للراهن في التصرف فيه فلم يتصرف فيه ولم يزل بيد المرتهن فظاهر كتاب الرهن في المدونة أنه مبطل للحوز. وظاهر كتاب حريم البير منها أنه غير مبطل (بناء) على أن الحوز شرط في لزوم الرهن أو في استحقاق الرهن. قوله تعالى: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الذي اؤتمن أَمَانَتَهُ ... }. ظاهره جواز إعطاء الدين وجواز أخذه من غير رهن فتكون ناسخة لما قبلها لأن عمومها يقتضي اشتراط أخذ الرهن فيه. قوله تعالى: {وَلاَ تَكْتُمُواْ الشهادة ... }. راجع لحالة (الأداء). قوله تعالى: {وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ ... }.

284

قال الزمخشري: لم قال {آثِمٌ قَلْبُهُ} فخصص الإثم بالقلب وهلا علقه بجميع الجسد؟ وأجاب بأربعة أوجه: الأول: أنه تحقيق لوقوع الإثم ثم لأن كتمان الشهادة من فعل القلب وإثمها مقترن بالقلب فلذلك أسند إليه. للثاني: أنّ القلب الأصلُ لحديث «إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب». الثالث: أنّ القلب أصل واللّسان ترجمان له. الرابع: أن أفعال القلب أعظم من أفعال الجوارح وإثمه أعظم من إثمها. قال ابن عرفة: ومنهم من كان يجيب بأن القلب يستوي فيه الفعل والترك وليس بينهما تفاوت إذ لا أثر (للترك) فيه بالنّسبة إلى الفعل بخلاف الجوارح فإنّ الفعل يمتاز عن التّرك (بالبديهة) وكتمان الشهادة ترك فلو أسند للجوارح لما حسن (ترتب) الإثم عليه فلذلك أسند للقلب الذي هما فيه مستويان. قوله تعالى: {لِّلَّهِ ما فِي السماوات وَمَا فِي الأرض ... }. احتجوا بها على أنّ أعمال العباد مخلوقة لله لأنّها (مما) في السماوات وما في الأرض. واحتجّوا بها على أن السّماء بسيطة إذ لو كانت كروية لكانت الأرض (مما) فيها ولم يكن لقوله: {وَمَا فِي الأرض} فَائِدَة؟ وأجيب: بأن ذكرها بالمطابقة أولى من ذكرها بالتضمّن والالتزام، لأنها مشاهدة مرئية، ومذهب (المتقدمين أنها بسيطة ومذهب) المتأخرين أنها كروية. قال الغزالي في النّهاية ولا ينبني على ذلك الكفر ولا إيمان. قوله تعالى: {وَإِن تُبْدُواْ مَا في أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ الله ... }. من إقامة المسبب مقام سببه لأن المحاسبة (عليه) متسبّبة عن العلم به أي يعلمه الله فيحاسبكم عليه، وما في النّفس إن كان وسوسة وترددا من غير جزم فلا خلاف في عدم المؤاخذة به (وإن كان على سبيل الجزم والمواطأة عليه فإما أن يكون له أثر في الخارج أو لا. فإن كان قاصرا على نفس الإنسان ولا أثر له في الخارج كالإيمان والكفر خلاف في المؤاخذة، وإن كان له أثر في الخارج فإن تمّ بإثره فلا خلاف في المؤاخذة)، كمن يعزم على السرقة ويسرق أو على القتل ويقتل، وإن عزم عليه

في نفسه ورجع عن فعله في الخارج فإن كان اختيارا لغير مانع فلا خلاف في عدم المؤاخذة به، بل ذكروا أنه يؤجر على ذلك كما في بعض طرق الحديث (إن) تركها (مأجور)، وإن رجع عنه لمانع منه ففي المؤاخذة به قولان. هذا محصول ما ذكره القاضي أبو الفضل عياض في الإكمال: «إذا هم العبد بسيئة فلم يعملها» الحديث ذكره مسلم في كتاب الإيمان. قال ابن عرفة: والكفر خارج من هذا لقول الله تعالى: {إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلك لِمَن يَشَآءُ} وحكى ابن عطية عن ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما وجماعة أنها لما نزلت قال الصحابة: «هلكنا إن حوسبنا بخواطرنا». فأنزل الله {لاَ يُكَلِّفُ الله نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} فمنهم من جعلها ناسخة. وضعفه ابن عطية لأنه خبر فلا ينسخ. قال لكن ورد أنهم لما قالوا: هلكنا، قال لهم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قولوا: «سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا» فقالُوا فنزلت {لاَ يُكَلِّفُ الله نَفْساً} فصح النسخ وتشبه الآية حيئنذ قول الله تعالى في الأنفال: {إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِاْئَتَيْنِ} ثم نسخت بصبر المائة للمائتين. قال ابن عرفة: آية الأنفال ليس فيها إلا النسخ لأنّه رفع كلّ الحكم (وآيَتُنَا) هذه تحتمل النسخ والتخصيص كما قال بعضهم. قال ابن عرفة: ونظير الآية ما خرج مسلم في كتاب الإيمان عن علقمة عن عبد الله قال: لما نزلت {الذين آمَنُواْ وَلَمْ يلبسوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أولئك لَهُمُ الأمن} شق ذلك على أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ (وقالوا أيّنا لم يظلم نفسه) فقال لهم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «ليس هو كما تظنون إنما هو كما قال لقمان لابنه: {يابني لاَ تُشْرِكْ بالله إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ}». قال ابن عرفة: وذكر الفقهاء الخلاف إذا شهد شاهدان لرجل بشيء مظروف في شيء وماتا أو غابا هل يكون له الظرف (أم لا)؟ قالوا: إن كان الظرف من ضرورياته لا يمكن أن يجعل إلا فيه كالزيت والخل فهو له بما / فيه باتفاق. وإن لم يكن من ضرورياته كجبّة في صندوق أو في (صرّ) ففي كون الظرف له خلاف. وذكره ابن الحاجب في كتاب الإقرار قال فيه ما نصه: وثوب في صندوق أو منديل ففي لزوم ظرفه قولان بخلاف زيت في جرة، وجبة وبطانتها، وخاتم وفصه، أي يقبل قوله. قال ابن عرفة: والآية حجة لمن يقول شهادتهما بالمظروف يستلزم الظرف لأن كون {لِّلَّهِ ما فِي السماوات وَمَا فِي الأرض} يستلزم أن السماوات نفسها له. قَال ابن عرفة: الآية حجة أيضا لمن يقول: إن الطلاق بالنية (لا) يلزم عندنا وفيه خلاف والمشهور أنه غير لازم. قوله تعالى: {فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ ... }.

285

قال الزمخشري: وقرىء فَيَغْفِرْ (بالجزم) في جواب الشرط. ورده أبو حيان بأن النحويين نصّوا على أن الفاء إنما تنصب في الأجوبة الثمانية ولم يعدوا منها الشرطية. فجعله معطوفا على مصدر مقدر فيكون من عطف الفعل على الاسم الملفوظ به. ونص الشلوبين على أنّ قول (النحويين) الأجوبة الثمانية ليس على ظاهره بل مرادهم كل ما ليس واجبا أعني ما ليس بخبر فيدخل فيه الشرط. وتحامل الزمخشري هنا (وأساء الأدب) على السوسى من طريق أبي عمرو وخّطأه كما خطّأ (الصيمري) في تبصرته (والزّجاج) وكذا خطأ ابن عامر في قراءته {وكذلك زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِّنَ المشركين قَتْلَ أَوْلاَدِهِمْ شُرَكَآؤُهُمْ} ولكن تخطئته هنا لأبي عمرو من طريق السوسي أشنع. قال ابن عطية: هنا عن النقاش: فيغفر لمن يشاء (أي) لمن (ينزع) عنه، ويعذب من يشاء أي من أقام عليه. قال ابن عرفة: وهذا نحو ما قال الزمخشري، وفيه إيهام الاعتزال. قلت: لأنه يوهم أنّ المعاصي لا تغفر إلا بالتوبة ومذهب أهل السنّة أنه يجوز أن يغفر له وإن لم يتب (منها) إلاّ الكفر. قوله تعالى: {والله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}. قال ابن عرفة: لفظ (شيء) يطلق على المعدوم والموجود فأفاد أنّه على كل شيء مما في السموات والأرض ومما هو خارج (عنهما) قدير. قال (والفضاء الذي بين السماء والأرض تقول إنّه عامر وإنه خارج عنها وهي مسألة الخَلاء والملاء) ونقول: تناولت الآية الأمر الحالي والماضي ونفي المستقبل غير داخل فيها فلذلك قال: {والله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} ليدخل المستقبل. قوله تعالى: {آمَنَ الرسول بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ والمؤمنون كُلٌّ آمَنَ ... }. ذكر ابن عطية سبب نزول الآية أنها لما نزلت {وَإِن تُبْدُواْ مَا في أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ} .. الآية شق ذلك على المؤمنين ثم قالوا {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا}. فَمَدحهم الله وأثنى عليهم ورفع عنهم المشقة بقوله تعالى: {لاَ يُكَلِّفُ الله نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} قال ابن عرفة: وضم الإخبار عنهم بالإيمان في هذه الآية إلى هذا السبب يقتضي استلزام الإيمان للعمل الصالح، قال: وفيها سؤال وهو أن الفاعل مخبر عنه بفعله وتقرر أنه لا يجوز (قام) القائم، ولا ضرب الضارب، إذ لا فائدة فيه، فلو قيل: «آمن الرسول والصحابة لأفاد، فكيف قال (آمَنَ) المؤمنون؟ والجواب: أنّه يفيد إذا (قيد بشيء) كقولك قام: في الدّار القائم، وهنا أفاد تقيده

وهو قوله {بِمَآ أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ}. انتهى. فإن قلت: لم ذكر الرسول ومعلوم أنه آمن؟ قلت: إنه ذكر مع المؤمنين تشريفا لهم وتعظيما إذ لا ينظم الجوهر النفيس إلا (مع) نفيس مثله. قال ابن عرفة: قال ابن عطية: و» كل «لفظة تصلح للاحاطة والقرينة تبين ذلك. انتهى. قال ابن عرفة: وظاهر أنّها ليست نصّا في العموم خلافا للأصوليين فإنهم ذكروها في ألفاظ العموم وتقدم للنحويين التفريق بين رفعها ونصبها في قوله: قد أصبحت أم الخيار تدعي ... عليّ ذنبا كله لم أصنع فقالوا: رفعها أعم. قلت: إنما أراد ابن عطية قولهم: كل الصيد في جوف الفراء. ورأيت رجلا كل (الرجل) وقولهم: أكلت شاة كل شاة. قوله تعالى: {وملائكته ... }. قال ابن عرفة: لا بد في الإيمان بالملائكة من استحضار أنّهم أجسام متحيزة (منتقلة) كبني آدم. ولذلك قال أبو عمران الفارسي في المسألة المنقولة عنه في الكفار: إنّهم ما عرفوا (الله) قط ولا آمنوا به خلافا للغزالي من أهل السنة (فإنه) قال في الملائكة إنهم أجسام لطيفة لا متحيزة ولا قائمة بالمتحيز ونحا في هذا منحى الفلاسفة. قيل لابن عرفة: إنّ (المقترح) توقف فيهم؟ فقال: إنما توقف في إثبات الجوهر (الفرد) وهو شيء لا متحيز ولا قائم بالمتحيز ولم يتوقف في الملائكة. قوله تعالى: {وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ ... }. قال الزمخشري: قرأ ابن عباس:» وَكِتَابِهِ «يريد القرآن وعنه الكتاب أكثر من الكتب. فإن قلت: كيف يكون الكتاب أكثر من الكتب؟ قلت: لأنه إذا أريد بالواحد الجنس والجنسية قائمة في وحدان (الجنس) كلها لم يخرج منها شيء، وأما الجمع فلا يدخل تحته (الاّ ما فيه الجنسية من المجموع. وقدره الطيبي بأن المفرد إذا أريد به الجنس يدخل تحته) المجموع والأشخاص بخلاف الجمع فإنه لا يتناول إلا المفردات فقط. قيل لابن عرفة: قد اختلفوا في المفرد المحلى بالألف واللاّم (هل يفيد العموم، واتفقوا على أنّ الجمع يفيد العموم لا سيما المحلى بالألف واللاّم)؟ فقال: (ما كلامنا) إلا فيما ثبت فيه العموم من مفرد أو جمع، فالمفرد الذي يثبت فيه العموم (أعم من الجمع الذي يثبت فيه العموم). وكلام أبي حيان في هذا الموضع غير صحيح وكذلك كلام الطيبي. قال: وقد ذكر القرافي في الخلاف في دَلاَلة العام على أفراده هل هي تضمن أو التزام ونص على / أن المفرد الذي أريد به العموم دال على أفراده ومسمياته وذلك كان أعم من الجمع. قيل لابن عرفة: لعل دلالته على العموم بقرينة حالية؟ فقال: إذا تعارض صرف الدلالة للفظ أو لقرينة فصرفها للفظ أولى. انتهى. قلت: لأن دلالة الجمع على أفراده من باب دلالة اللفظ على جزء مسماه ودلالة المفرد من باب دلالة اللفظ على تمام مسماه لأنه يدل على هذا المسمى وحده وعلى هذا

286

بدلا عنه. قال ابن عرفة: ودلالة المطابقة حقيقة ودلالة التضمن والالتزام مجاز. فإن قلت: ليس الكتب في الآية معرفا بالألف واللاّم (بل مضافا)؟ قلت: الإضافة عاقبة الألف واللاّم. ولذلك قال ابن التلمساني شارح المعالم في المسألة الثانية من الباب الثالث: إن من ألفاظ العموم صيغ الجموع المعرفة بلام الجنس أو بالإضافة. ابن عرفة: وفائدة هذا الترتيب في الآية ما يقولونه: وهو التركيب والتحليل لأنّك إن بدأت من أول قلت: الله الأول، والملائكة يتلقون الوحي منه، والوحي في ثالث رتبة، لأنّه ملقى ومتلقى كقولك: أعطيت زيدا درهما، فالدرهم معطى ومأخوذ، فهو مفعول بكل اعتبار، وزيد فاعل ومفعول فالرسل في الرتبة الرابعة. وإن بدأت من أسفل قلت: الرسل المباشرون لنا والقرآن هو الذي يقع به المباشرة وهو منزل عليهم ثم من أنزله من عنده. قوله تعالى: {لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ ... }. فإن قلت: كيف هذا مع قوله {تِلْكَ الرسل فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ} قلت: إذا أسند الحكم إلى الشيء فإنما يسند إليه باعتبار (وصفه) المناسب له وقد قال: «من رسله» فما التفريق بينهم إلا في وصف الرسالة أي لا نؤمن ببعضهم ونترك بعضهم بل نؤمن بالجميع. قال الله تعالى {إِنَّ الذين يَكْفُرُونَ بالله وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُواْ بَيْنَ الله وَرُسُلِهِ وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ.} قوله تعالى: {لاَ يُكَلِّفُ الله نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا ... }. ابن عرفة: تقدم في الآية السابقة أنّها (إما) منسوخة او مخصوصة بهذا أو مبيّنة بهذا. زاد ابن الخطيب أنها من كلام الناس. ورده ابن عرفة: بأنّ هذا خبر فلا يصح أن يكون من كلام الناس إذ لا طريق لهم إلى معرفته إلا أن يكون أنزل قبله ما هو في معناه. قال ابن عرفة: وتكليف ما لا يطاق فيه ثلاث أقوال: مذهب أهل السنة جوازه، ومذهب المعتزلة منعه، والثالث الوقف. وإذا قلنا بالجواز فهل هو واقع أم لا؟ فيه خلاف. وتردد الأشعري في وقوعه، وقسمه ابن التلمساني على خمسة أقسام والخلاف إنما هو في قسمين وهما المستحيل عقلا والمستحيل عادة، وما عداهما فلا خلاف فيه إذ ليس من تكليف ما لايطاق. قال في (شرح) المحصول: وفائدة التّكليف بالمستحيل عقلا أو عادة أن يكون علامة على (شقاوة) المكلف بذلك لأنه لا يتوصل

إلى امتثاله والآية حجة لمن يجيز التكليف (بما) لا يطاق ويبقى وقوعه إذ لا (ينفى إلا) ما هو ممكن الوقوع و (من) قال بوقوع تكليف ما لا يطاق واحتج بقضية أبي لهب فإنه مكلف بأن لا يؤمن لقوله تعالى: {سيصلى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ} وهو مكلف بأن يؤمن بالنّبي صلّى الله عليه وسلّم وبجميع ما جاء به ومن جملته هذا. وأجاب تاج الدين الأرموي في شرح الحاصل بأنه مكلف بأن يؤمن بالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وبما جاء به إيمانا جمليا لا تفصيليا. قال الفخر وابن التلمساني: من تكليف ما لا يطاق التكليف بما علم عدم وقوعه. فقال ابن عرفة: هذا وهم وليس ذلك من تكليف ما لا يطاق بوجه لأنه ممكن في نفس الأمر فهو (مطيق) فعله كتكليف العصاة بالصلاة في الوقت فيفعلونها بعد الوقت قضاء. قيل لابن عرفة: ما فائدة الخلاف (بتكليف) ما لا يطاق بالنسبة إلى النائم؟ فقال: قد ذكروا في النائم أنّه إذا ضرب (برجله) إناء فكسره فإنه يضمنه. وكذلك إذا ضرب أحدا فقتله فهل تضمينه ذلك من تكليف ما لا يطاق أم لا؟ والظاهر أنه من خطاب الوضع والإجبار. قوله تعالى: {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكتسبت ... }. ذكر (الزمخشري) وابن عطية وجه المغايرة بين الفعلين وهما متقاربان. فتقرير ما قال ابن عطية (والزّمخشري) أنّ المكلّف بفعل الطاعة مستحضر للثواب عليها فيسهل عليه أمرها من غير تكليف طبيعي ولا وازع له عن فعلها، وفاعل المعصية يستحضر العقوبة عليها في الدّار الآخرة فشهوته تحمله عليها وتكلفه على فعلها وتوجب معاندته للوازع الديني. وتقرير كلام الزمخشري كأنه على عكس هذا لكنه في الحقيقة راجع إلى هذا وهو أنّ الشّر مما تشتهيه النفوس وتأمر به فهي في تحصيله أعمل وأقوى اجتهادا (فجعلت) له مكتسبة ولما لم تكن كذلك في الخير وصفت بما لا دلالة فيه على الفعل والتكليف. وقال ابن الصائغ في باب ما جاء من المعدول على فعال: لما كان الإنسان يثاب على قليل الخير وكثيره استعمل فيه اللّفظ العام للقليل والكثير وهو «كسب»، ولما كانت الصغائر معفوا عنها بفضل الله عَزَّ وَجَلَّ جاء بلفظ الكثير إشعارا بأنها ليس عليها إلا ما فوق الصغائر قال هذا بعد أن ذكر أن: كَسَبَ واكْتَسَبَ إن اجتمعتا في كلام واحد كانت «كَسَبَ» عامة (في الأمرين) و «اكْتَسَبَ» خاصة بالكثير وإن انفردت إحداهما عمت في الأمرين. وقال القرافي في قواعده: إنها تدل على أن المصائب لا يثاب عليها لأنها ليس للمكلف فيها اعتماد. قلت: وفي شرح أبيات الجمل لابن هشام / النحوي حكى ابن جني عن الزجاج أنه يقال: جزيته في الخير وجازيته في الشر فيستعمل فعل الزيادة

في الشر وفعل النقص في الخير ومنه {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكتسبت}. وقول الشاعر أيضا: إنا اقتسمنا خطيئتنا بيننا ... فحملت بِرّهُ واحتملت فجار قوله تعالى: {رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَآ إِن نَّسِينَآ أَوْ أَخْطَأْنَا ... }. قال الزمخشري: فإن قلت: النسيان والخطأ متجاوز عنهما فما معنى الدعاء بترك المؤاخذة فيهما؟ وأجاب بأن الدعاء راجع لسببهما وهو التفريط والغفلة. قال ابن عرفة: هذا على مذهبه في منع تكليف ما لا يطاق لأنه دعاء بتحصيل الحاصل ونحن نقول: يجوز الدعاء بتحصيله لأنه ممكن باعتبار الأصالة. فإن قلت: الأصل تقديم الشّرط نحو أن يقال: إن نسينا أو أخطأنا فلا تؤاخذنا؟ قلت: قدم المدعو به للاهتمام به. قال ابن عرفة: فالنسيان والخطأ مرفوع عن ابن آدم فيما بينه وبين الله تعالى. قيل له: قد قال الإمام مالك رَضِيَ اللَّهُ عَنْه في العتبية فيمن حلف بالطلاق: ليصومن يوم كذا فأفطر ناسيا: إنّه لا شيء عليه؟ فقال: قال ابن رشد وابن دحون: أي لا حنث له. وقال السيُورِي: واختاره اللخمي أي لا فضل عليه، واحتج بحديث: «حمل (عن) أمتي أخطاؤها ونسيانها. وأجاب الآخرون: بأن الذي حمل إنما هو إثم الخطإ والنيسان لا نفس الخطإ. وذكرها ابن الحاجب في كتاب الأيمان والنذور، قال: وفيها ما نصه:» والنسيان في المطلق كالعمد على المعروف، وخرج الفرق من قوله: من حلف بالطلاق لأصومن كذا فأفطر ناسيا فلا شيء عليه «. قلت: ووقعت هذه المسألة في رسم سلف سمع من سماع عيسى من كتاب الأيمان والنذور بالطلاق. (وقال ابن رشد: أي لا حنث عليه إذا كان ناسيا بخلاف ما لو أصبح مفطرا) ناسيا ليمينه، مراعاة للخلاف في وجوب القضاء على من أفطر في التطوع متعمّدا وفي رمضان ناسيا لما جاء في ذلك. قيل لابن عرفة: قد قالوا: إذا قتل رجل خطأ: إنّ على قاتله صوم شهرين؟ فقال: النسيان إنما هو في رفع الإثم وليس سببا في صومه والقتل سبب في الصوم والشرع رتب عل ذلك القتل صوما فيجب عليه امتثاله (لا لأنه) كفارة بل الإثم ساقط عنه. انتهى. قوله تعالى: {رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَآ إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الذين مِن قَبْلِنَا ... }. قال أبو حيان: قرىء بالتشديد والتّخفيف. قال: في التشديد إما للتعدية أو للمبالغة. قال ابن عرفة: فظاهره أنه لهما على (البديلة) ومنهم من قال: يصح كونه لهما على المعية وقال بعضهم: أما المبالغة هنا مع التشديد فظاهرة، وأما مع التخفيف (فمستفادة)

من لفظ «على» لاقتضائها الاستعلاء والاستيلاء. فإن قلت: ما الفائدة في قوله: {كَمَا حَمَلْتَهُ} ولو أسقط «كما» (احتمل) المعنى، وإسقاطه كان يكون أتمّ وأبلغ لأن نفي «إِصْرا» مطلق أبلغ منه مقيدا؟ (قال) ابن عرفة: وعادتهم (يجيبون) بأن الدعاء حالة الخوف مظنة الإجابة فهو فيه أقوى (منها) حالة عدم الخوف لأن الخوف أقرب لمقام التضرع والالتجاء. فذكر عقوبة من مضى في هذا مما يزيد في الخوف ويقوي فيه العبودية والتضرع والالتجاء. قال ابن عطية: ولا خلاف أن المراد ب {الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا} اليهود. ابن عرفة: لأن (تكاليفهم) والتشديد الواقع في شريعتهم أكثر من النصارى وغيرهم، قال الضحاك: اليهود والنصارى. قوله تعالى: {رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ ... }. تقدم إما أنه راجع لأمور الآخرة أو للتكاليف الدنيوية فإن كان للآخرة فهو تأسيس وإن كان للدنيا فهو تأكيد، إن أريد بما لاَ طاقة لنا به الحقيقة وهو ما ليس في قدرة البشر لأن الدعاء لنفي (الإصر) يستلزم الدعاء بنفي ما فوقه، وإن أريد به المجاز كما أشار إليه ابن عطية في أحد التفاسير من أنّه الأمر المستصعب وإن (كانت) تطيقه فيكون تأسيسا. قوله تعالى: {واعف عَنَّا ... } الآية. قال ابن عرفة: وجه الترتيب هذا أن العفو عبارة عن عدم المؤاخذة بالذّنب، وما يلزم من الدعاء برفع (الأمر) الذي في قدرة البشر بمشقة أو الخارجة عن قدرة (البشر)، عدم المؤاخذة بالذنب. ثم عقبه بالمغفرة لأنه لا يلزم من عدم المؤاخذة ستر ولأنه قد لا يؤاخذه به ويظهره عليه، ثم عقبه بالرّحمة لأنّ العفو والمغفرة من باب دفع المؤلم والرحمة من باب جلب الملائم، فدفع المؤلم آكد وأولى من جلب الملائم ونحوه لابن الخطيب. قال ابن عطية: وقال سلام بن سابور الذي لا طاقة لنا به الغُلْمةُ. وروي أَن أبا الدرداء كان يقول في دعائه: وأعوذ بك من غلمة ليس لها عدة. ابن عرفة: الغلمة (هي) قوله: أنت مولانا فانصرنا. الزمخشري: أي سيدنا وناصرنا ومتولي أمرنا ومالكنا. ابن عرفة: السيد والناصر إطلاقه عليهما من قبيل المشترك والمتولي والمالك ينبغي أن يحمل على أن المراد الأخص منهما ليدخل تحت الأعم من باب أحرى.

قال الزمخشري: وعنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «من قرأ الآيتين من سورة البقرة في كل ليلة كفتاه». قال ابن عرفة: أولهما «آمَنَ الرّسُول» ومعنى كفتاه أي يرفعان قارئهما عن رتبة من حرم قيام الليّل. قلت: وفي إكمال القاضي عياض أي في كتاب الطب: أي كفتاه كل هامة وشيطان فلا يضره (وفي سلاح المؤمن معنى كفتاه أجزأتاه عن قيام الليّل. وقيل: كفتاه من كل شيطان لم يضر به ليلته «وقيل: كفتاه مما يكون من تلك اللّيلة من الآفات وقيل: حسبه بهما فضلا وأجرا. ويحتمل الجميع والله سبحانه وتعالى أعلم).

سورة آل عمران

سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ ابن عطية: حكى الفقهاء أن اسمها في التوراة طيبة. ابن عرفة: ليس معناه أنها في التوراة بل ورد في التوراة حكم من الأحكام ونص فيها على ثبوته في القرآن في سورة آل عمران. قوله تعالى: {الم (1) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (2)}. قال الجرجاني: أحسن الأقوال أن (الم) إشارة إلى حروف المعجم أي أن هذه الحروف كتابك فلا يحل أن يكون الله مبتدأ وخبره (نَزلَ عَلَيكَ الكِتَابَ) بحيث يكون في الخبر ما يدل على الكتاب المضمر، واعترضه ابن عطية: بأن التوراة نزلت ردا على النصارى الذين زعموا أن عيسى هو الله، ونقلوا أقوالا سبعة فما المناسب أن يكون الخبر إلا (اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ) فهو محل الفائدة، فإذا كان الخبر لم يبق ما يدل على إضمار الكتب. قال ابن عرفة: والتوحيد به، منهم من قال: أن مدركه العقل، وقيل: السمع والعقل، وعكس سراج الدين الأرموي فقال: مدركه السمع؛ لأن من أبطل دلالة التمانع، قال: يقول: إن إلهين يتفقان، فقال الآخرون: وإن اتفقا فيجوز اختلافهما، وتردد المقترح في مدركها، وقال الغزالي: أخص أسماء الله تعالى القيوم، فإنه القائم بأمور العباد وغيرها يشاركه فيه غيره، فقال ابن عرفة، هذا ما يتم إلا على مذهب الفلاسفة القائلين بقدم العالم والإيمان يقول أخص أوصافه القديم، وقال ابن الخطيب: الوصف بالحي القيوم يستلزم جميع صفات الله تعالى، فقال ابن عرفة: إن أراد استلزامها ذلك لذاتها [17/ 81] ومجرد لفظها فممنوع، وإن أراد لصحة الدليل العقل إليهما فمسلم. قوله تعالى: {نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ (3)} قال الزمخشري: (نَزَّلَ) يقتضي التفخيم، (وَأَنزَلَ) يقتضي الجمعية، فرده ابن عطية بقوله تعالى: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ) ابن عرفة: إنما عادتهم يردون عليه بقوله تعالى: (لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً)، وأجاب الزمخشري هناك بأن (نُزِّلَ) بمعنى أنزل

وردوا عليه بأن ذلك إنما هو في الفعل المتعدي لواحد إذا ضعف يريد به التضعيف معنى التفريق، مثل: (غَلَّقَتِ الأَبوَابَ) لأن غلق يتعدى غير متضاعف، وأما الغير متعدي فإن التضعيف إنما هو للتعدية كالهمزة كأنه يكسبه معنى آخر. قال ابن عطية: الباء إما للحال فالحق فيه ثابت أو للسبب، أي بسبب الحق، أي باستحقاق إن لم يزل ثم تحرك عن مذهب المعتزلة، فقال: وذلك تفضلا منه لَا على أنه واجب عليه أن يفعل. قوله تعالى: (مُصَدِّقًا). قال ابن عطية: حال مؤكدة؛ لأنه لَا يمكن أن يكون غير مصدقا لما بين يديه من الكتب. قيل لابن عرفة: عادتكم تردون عليه بأن المراد أنه حق في نفسه ثابت، والحق الثابت في نفسه يمكن أن يصدق غيره، ويمكن أن لَا يصدق ولا يكذب، فقال: كان يجيب بأن يقول: إن اعتبرنا الحق في نفسه فيجيء ما قلتم، وإن اعتبرناه من حيث رجوعه إلى الكتب وارتباطه به فلا بد أن يكون مصدقا لما بين يديه، ومعنى تصديقه لها تصديقه لأصوله لما فيها من الشرائع والأحكام؛ لأنه مصدق لاستحقاق تلك الأحكام وجريانها بل هو ناسخ لها، أو المراد بتصديقه لها دلالة على صحة كونها منزله من عند الله. قوله تعالى: {وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (3)} مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ). قيل لابن عرفة: ما الفائدة في قوله: (مِنْ قَبْلُ) ولو أسقط لم يختل المعنى؛ لأنه معلوم أن إنزالها قبل، وأنها هدى للناس من قبل؟ فأجاب: بأنكم جعلتم (مِنْ قَبْلُ) متعلق بأنزل أو بالتوراة، وإنما يجعله متعلقا بهدى، فتقول: تضمنت الآية أن هداية التوراة والإنجيل كان للناس من قبل وذلك غير معلوم، إنما كان المعلوم أن إنزالها قبل الثاني، اقتضت من أول أزمنة القبلية إشارة إلى أن هذا أمر معهود فيما سبق، وأنه ليس بأول ما نزل بل تقدمت كتب قبله واستدام حكمها إلى أزمنة القبلية، وقال هنا: (هُدًى لِلنَّاسِ)، وفي البقرة (هُدًى لِلمُتقِينَ)، فقيل: للتشريف، وقيل: إن الهداية يراد بها الإيمان، قال تعالى: (إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا) ويطلق بمعنى التوفيق والإرشاد إلى طريق الحق.

(5)

قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ). الآيات المعجزات، أو آيات القرآن، وهذا عموم خرج على سبب، وفيه عند الأصوليين خلاف، لكن قالوا إن السبب يجب دخوله فيه، والصحيح أنه عام فيه وفي غيره، وحيث يكون في اللفظ وصف مناسب للسبب فإنه يقصر على ذلك السبب وإلا فهو عام، والآية ليس فيها وصف مناسب للسبب، فإنه يقصر على ذلك السبب وإلا فهي عامة فيه وفي غيره، وقوله (عَذَابٌ شَدِيدٌ) باعتبار الكمية والكيفية والدوام الأبدي. قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ (5)} قيل لابن عرفة: هلا أتى به غير مقيد فهو أبلغ، فأجاب: بأن الآية تضمنت ثلاثة أمور: أحدها: الرد على نصارى نجران في قولهم أن عيسى الله. والثاني: الوعد. والثالث: الوعيد. فلذلك قال (فِي الأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ)، وأجاب الفخر: بغير هذا. قيل لابن عرفة: والآية دالة على أن لفظ شيء يطلق على المعدوم، قال: تقرر أن العلم يتعلق بالموجود والمعدوم، والمستحيل؛ لأن تعلم أن الجمع بين النقيضين، ولم يدل على علمه بالكليات والجزئيات، قال: إن قلنا: إن العلم بالكليات من لوازمه العلم بالجزئيات وإلا فلا وهو مذهب المتأخرين، فيقول: علمه متعلق بالكليات، وذهب المقترح إلى أن الخلق يقتضي العلم، وإن كان قبيحا، وقال غيره: إنما يستلزم الإتقان لأنفس الخلق. قوله تعالى: {كَيْفَ يَشَاءُ (6)} دليل على مذهب [الطبائعيين*]. قوله تعالى: (لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ). كالنتيجة بعد هذه المقدمات. قوله تعالى: {مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ (7)} الزمخشري: أي أحكمت عبارتها بأن حفظت من الاحتمال والاشتباه.

ابن عرفة: يريد النسخ، ابن عطية: وقال ابن عباس: المحكم ناسخه وحلاله وحرامه، وفرائضه، وما يؤمر به ويعمل به، والمتشابه منسوخة، ومقدمة، ومؤخرة. ابن عرفة: كقوله تعالى: (فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى)؛ [17/ 81 و] ولأنه مقدم في اللفظ مؤخر في المعنى، وقد حكى ابن عرفة الخلاف في المتشابه ما هو، قال: حكى الأصوليون خلافا هل يرد في القرآن ما لَا يفهم أم لَا؟ وقال بعض شراح الأصول: أما بالنسبة إلى الكلام القديم الأزلي فلا خلاف في امتناع ذلك فيه، وإنما الخلاف في الألفاظ المعبر بها عنه، بما قاله ابن عرفة: هذا تقسيم بمعنى مستوفى أم لَا؟ قيل له: مستوفى إلا على قول ابن مسعود: أن المحكم النَّاسخ والمتشابه المنسوخ، فبقى قسم ثالث وهو ما ليس بناسخ ولا منسوخ، وذلك أكثر القرآن. ابن عرفة: بل نقول: إنه تقسيم غير مستوفى مطلقا، والأقسام ثلاثة: منها ما نص في معناه ولا يصح صرفه عنه بوجه، ومنها الظاهر والمحتمل، فالمحكم هو النص الذي لَا احتمال فيه، والمتشابه هي الألفاظ المحتملة التي تحتاج في ردها إلى الصواب لدليل عقلي وسمعي، وبقاء ما هو ظاهر في معناه. قوله تعالى: (فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ). دليل على العقل في القلب، قال الطيبي في كتابه المسمى بالبنيان في علم البيان: إن هذا من باب الجمع والتقسيم فقوله تعالى: (مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ)، جمع، ثم عقبه بقوله تعالى: (فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ)، وبقوله تعالى: (وَالرَّاسِخُونَ) فهذا تقسيم وتفريق كأنه يقول، وأما الراسخون في العلم. ابن عرفة: وأهل السنة يتبعون المتشابه له لفظ ظاهر، فأهل السنة يتبعونه قصد الصرفة إلى معناه من الصواب والمبتدعة يتبعون ظاهر لفظه، فإن قلت: عمر بن عبد العزيز، وأنظاره من المتقشفين الصلحاء، إنما اتبعوه ابتغاء للطاعة والثواب، فهل يكون هذا كلام الصيرورة، أي اتبعوه ليهتدوا فضلوا، قلت: أحكام القرآن على قسمين

(8)

تارة يراد بها نفس اللفظ، وتارة يراد مدلوله فمراد ابتغائه سبب الفتنة، أو مدلول الفتنة فهو إنما اتبعوه ابتغاء أمر كان سببا للفتنة؛ لأنهم قصدوا الفتنة. قوله تعالى: (وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ). ابن عرفة: كان بعضهم إنما ذكر الخلاف في الراسخين في العلم هل يعلم تأويله أم لَا؟ القول هذا يتبعني على الخلاف هل بين العلم القديم والحادث اشتراك جاء القول بعدم العطف. قوله تعالى: (آمَنَّا بِهِ). أي يقولون في أنفسهم؛ لأن من آمن بقلبه داخل في هذا. قوله تعالى: (كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا). لفظ الرب هنا مناسب أي ورود المحكم فيه والمتشابه رحمة من الله بنا فنظر في الأدلة، وننظر بعقولنا فنخرجه من ظاهره الحقيقي إلى مجازه دفعا للحكم الباطل فيحصل له الأجر والمثوبة بذلك عند الله عز وجل. قوله تعالى: {لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا ... (8)} قرئ (لَا تَزغ) بفتح التاء، و (قُلُوبَنَا) فاعل، أبو حيان مثل هو مثل لَا أرينك هاهنا إنما يقوله المعتزلة القائلون أن العبد يخلق أفعاله، فيقولون: كيف يطلب ترك ما ليس من فعله فيحتاجون أن يجعلوه، مثل: لَا أرينك هنا لاستحالة نهي الإنسان نفسه أي لَا يخلق لها أسباب الزيغ فيتبع قال أبو حيان: وإذ هنا اسم وليست بظرف؛ لأن الظرف لَا يضاف، فقال ابن عرفة: إن أراد أنها لَا تعرب ظرفا فنعم، وإن أراد أنها ليست بظرف لَا في اللفظ ولا في المعنى فغير صحيح بل معناها الظرفية، فإن قلت: لم أضيف الزيغ إلى القلوب والهداية لجميع الذات؟ فالجواب: أن الزيغ معنوي معلق بالذات؛ لأنه الأصل فإذا زاغ القلب زاغ الجميع والهداية قصدوا أن يخبروا بحصولها لجميع ذواتهم وحواسهم، وتقدم في الختمة الأخرى الجواب بوجهين: الأول: إن الزيغ واقع بهم فأطلقوا أبعاده ونفيه عن العضو الأخص الذي هو سبب في عمومه في سائر البدن، والهداية في جميع البدن، فأخبروا بذلك رغبة في دوامها على ما هي عليه.

(9)

الجواب الثاني: إن الزيغ يحصل للقلب بأول وهلة، والهداية إنما تحصل له غالبا بعد تأمل، ونظر واستدلال فحصولها يشترك فيه القلب، والسمع، والبصر، وغيرهم. قيل لابن عرفة: هل ينظر في الشبهة فيضل؟ فقد حصل الزيغ بالتأمل، فقال: لم ينظر ليضل، وإنما ينظر فيها ليهتدي فضل. ابن عرفة: وهذا إن كان من قول الراسخين في العلم فهي هداية خاصة، وإن كان أمر لجميع النَّاس أن يقولوه فهي هداية عامة. قوله تعالى: {رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ (9)} ابن عرفة: كانت اللام للتقوية فظاهر، وإن كانت للتعليل فلا بد من مقدار أي جامع النَّاس لجزاء [17/ 82] يوم. قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ (10)} .. ابن عطية: هم الدهرية المنكرون للبعث. ابن عرفة: أو نصارى نجران، وهو المناسب؛ لأنه السبب في نزول الآية فالظاهر العموم، فإن قلت: وكذلك المؤمنون لَا تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا، قال تعالى: (وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا)، فالجواب: أن المؤمنين تنفعهم أموالهم بإنفاقه على العيال، وفي سبيل الله في الجهاد وفي الزكاة، وصدقه التطوع والولد الصالح يدعوا لأبيه بعد موته فينتفع بدعائه بخلاف الكافر، فإن قلت: تأكيده شيئا يقتضي العموم في القليل والكثير، مع أنه ورد في قصة أبي لهب: أنه خفف عنه العذاب ليلة الاثنين، ويومه لكونه أعتق الخادمة التي بشرته بولادة النبي صلى الله عليه وسلم حينئذ، وكذلك أبو طالب أخبر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه أهون أهل النار عذابا، فالجواب: إما بأن قصة أبي لهب كانت رؤيا نومية رآها العباس فلا يحتج بها، وإما بأن التأكيد بقوله شيئا، وإن كانت نكرة في سياق النفي فهو عام في الأشخاص والعام في الأشخاص عام في الأزمنة والأحوال، فتقول: ما اقتضى إلا أن أموالهم وأولادهم لا ينقذونهم منه، ولا من يعصمه في وقت ما. قوله تعالى: (وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ).

(11)

إن كان لفظ الذين عاما فالمضمر هنا للحصر، وإن كان خاصا فالمضمر للتأكيد فقط. قوله تعالى: {كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ ... (11)} ذكر أبو حيان: في الكاف عشرة أوجه، إما إنما خبر مبتدأ، أو مفعول بوقود أو نعتا لمصدر من لفظ (وَقُودُ) بل معناه أي عذابا: (كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ) أو منصوب بـ لن تغني، أو بفعل معناه أي بطل عملهم: (كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ) ابن عرفة: وعادتهم يمثلون رد التشبيه للذات، كقولك: اشتريت أمة كأختي، فالتشبيه للذات إذ لَا يصح معه اشتراء أخته، ويمثلون رده للصفة، بقوله: اشتريت بعشرين كاشتراء الجارية المسماة خبران بالتشبيه هنا للنبي، فإن قلت: لم شبههم بآل فرعون دون غيرهم، قلت فأجاب: بعض الطلبة بأن آل فرعون أهلكوا هلاكا عاما مستأصلا لهم، ولم يهلك أحد من الأمم بعد نزول التوراة إهلاكا عاما مستأصلا بوجه، وأما قبلها فهلك قوم نوح بالغرق، وقوم [هود*] بالريح، وقوم لوط بالخسف، فاستحسنه ابن عرفة وقال: إن هذا السؤال وجوابه سمعته من القاضي أبي العباس ابن حيدرة في قوله تعالى: (وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ). قوله تعالى: (كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا). المراد بالآيات المعجزات أو الدلائل العقلية؛ لأن العقل يقتضي أن لهذه المخلوقات خلقا يستحيل عليه التعدد، قال ابن الخطيب: يحتمل أن يكون مضافا إلى الفاعل، أو المفعول، فرده ابن عرفة: بأن فعله غير متعد فلا يصح إضافته إلى المفعول. قوله تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ (12)} قال الزمخشري: هم مشركوا مكة. ابن عرفة: هذه [ ... ] إخبار لما سيقع وظاهره أنه قبل وقعة بدر. قيل لابن عرفة: كيف يفهم، قوله بعدها: (قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا) فدل على أنه متقدم، فقال: لعل الآية نزلت قبل هذه، وهي بعدها في التلاوة، وقيل: هم اليهود وأن هذا كان بعد وقعة بدر، وقرئ (سَتُغْلَبُونَ) بتاء الخطاب، وبالغيبة.

قال ابن عرفة: من قرأ بتاء الخطاب فمعناه قل للكفار جميعا ستغلبون. ابن عرفة: واللام للتعدية ومن قرأها بالياء، فمعناه قل لهؤلاء اليهود سنغلب نحن قريتنا، أو قل لهم كلاما هذا معناه. ابن عرفة: واللام على هذا إما للتعدية أو للتعليل، أي قل لليهود لأجل الذين كفروا ستغلبون. ابن عرفة: وقال بعضهم من قرأها بياء الغيبة راعى حال المرسل فهم غائبون عنه في الظاهر، ومن قرأها بتاء الخطاب راعى حال الرسول فهم بين يديه. ابن عرفة: أو يقال هل أمر بتغليب المعنى أو اللفظ، قلت: وقريبا منه الزمخشري: قيل لابن عرفة: لَا خلاف في إنا متعبدون بألفاظ القرآن، ولا يجوز تبديلها بغيرها، فقال: هذا بالنسبة إلينا، وأما بالنسبة إلى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم مع الكفار فلا. قال ابن عرفة: وعادتهم يوردون فيها سؤالا وهو ما الحكمة في إتيان الفعل مبنيا للمفعول مع أن الأولى هنا ذكر الفاعل لاسيما مع ما ذكر ابن عطية، وغيره: من أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لما غلب قريشا ببدر، قالت: اليهود هذا هو النبي الذي في كتابنا الذي لَا يهزم له راية فلما كانت وقعة أُحد كفروا جميعهم، وقالوا ليس بالنبي المنصور، فكان الأولى أن يذكر فاعل الغلبة؛ لأنهم نعم يقولون: غلبنا غيرك، فهو النبي الحقيقي لَا أنت. قال ابن عرفة: وعادة بعضهم يجيب بأن هذا تشبيه على ذم الدعوى، وتنفير منها على جهة التعليم للقياس، وإنه لَا ينبغي لأحد أن يدعي شيئا، وتلا قوله تعالى: في سورة النمل، (قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ (39) قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ). قال ابن الخطيب: وفي الآية حجة لجواز تكليف ما لَا يطاق؛ لأنهم خوطبوا بأنهم مغلوبون معذبون ومع هذا مكلفون بالإيمان، فقال ابن عرفة: قد تقدم نظيره في قضية أبي لهب، وتقدم الجواب عنه. قيل لابن عرفة: ما ذاك يغني ومأمور بأن يؤمن بالنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، إيمانا جمليا من غير تفصيل فهذا أشد لكونه أمر بأن يقول لهم هذه المقالة ويدعوهم إلى الإيمان إلا أن يجاب بأن المراد ستغلون إن دمتم على دينكم أن وصف

(13)

الكفر يغني عنه إذا لم يعين فيها شخص منهم بخصوص فهمها أسلم منهم أحد لم يكن من الذين كفروا. قوله تعالى: {قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ ... (13)} قال ابن عرفة: فيها سؤال، وهو لم عبر في الأولى بالفعل وفي الجملة الثانية بالاسم، وهلا قيل فيه: مقاتلة في سبيل الله وأخرى كافرة، أو يقال فيه: تقاتل في سبيل الله وأخرى تكفر؟ والجواب: إما بأن القتال أمر فعلي فهو متحدد فلذلك عبر بالفعل، والكفر أمر اعتقادي قلبي فهو ثابت فناسب التعبير عنه بالاسم، وإما بأن الآية حذف التقابل أي [فئة*] مؤمنة تقاتل في سبيل الله، وأخرى كافرة تقاتل في سبيل الطاغوت. قوله تعالى: (يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ). فيها أوجه: أحدها: يروا المشركين مثلي المشركين رأي العين، وقد يشكل لمخالفته سورة الأنفال، لأن فيها: (وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا) وأجاب الزمخشري: بأن المشركين يرون المسلمين قبل القتال قليلين [فيجترءون ويحرصون*] على قتالهم، ثم يرونهم حين القتال كثيرين، [فينالهم*] الخوف والرعب الموجب لقتلهم وانهزامهم. ابن عرفة: ويجيء هنا عكسه، وهو أن المسلمين يرون المشركين قبل القتال مثلهم ابتلاء من الله لهم، فإذا شرعوا في القتال يرونهم قليلين يذهب روعهم وخوفهم. ابن عرفة: وهذه الرؤية [تغلط*] البصر، فيرى القليل كثيرا، والكثير قليلا، وإما بأن الله يخلق هناك ما مثل المشركين [أو يقلل بعض المشركين في أعين المؤمنين]. ابن عرفة: فعلى هذا أنه يكون من غلط البصر يكون المصدر، من قوله تعالى: (رَأْيَ الْعَينِ) [ترشيحا*] للمجاز، كقول الشاعر: بكى الحر من روح وأنكر جلده ... وعجت عجيجا من جذام المطارف

(14)

وعلى أنها رؤيا حقيقة للناس [يقللهم*] الله تعالى هنالك يكون [ ... ] حقيقة، قال: وهذه الرواية إن كانت عليه فيكون رأي العين تأكيدا، مثل: ضربت ضربا. الثاني: أن المراد يرون المشركين، مثل: المؤمنين على ما قدر عليهم من وقوف الواحد [منهم*] للاثنين، في قوله تعالى: (وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ) قال الزمخشري: ولذلك وصف ضعفهم بالقلة؛ لأنه قليل بالإضافة إلى عشرة الأضعاف، فكان الكافرون ثلاثة أمثالهم. ابن عرفة: وصفه بالقلة في قوله تعالى: (وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ). قوله تعالى: (وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ). قرئ بتسهيل الهمزة، قال أبو حيان: يجوز تسهيلها، قال بعضهم: لأن تسهيلها قريب من السكون فيلتقي ساكنا، فرده ابن عرفة لقوله تعالى: (أَأَنْذَرْتَهُمْ) مع أنه يلتقي في أنذرتهم ثلاثة سواكن. قوله تعالى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ (14)} ابن عرفة: مناسبتها لما قبلها إن الآية المتقدمة اقتضت الحصر على الجهاد، ومدح المتصف به ومن خالف نفسه وشهوته [البهيمية*]. قال ابن عطية: قيل المزين هو الله تعالى، وقيل الشيطان. ابن عرفة: فعلى الأول هو تزيين خلق وابتداع، وعلى الثاني تزيين بوجه فهو كقول الشاهد للقاضي أؤدي شهادتي ولا نقول أديته. قوله تعالى: {بِكَلِمَةٍ مِنْهُ (45)} أبو حيان والفخر: (مِن) لابتداء الغاية. ابن عرفة: الصواب أنها للسبب ولا إضمار في الآية، أو للتبعيض على أمر مضاف أي بكلمات، أي من كلماته. قوله تعالى: (اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ).

(47)

دليل على أن الاسم غير المسمى، الزمخشري: وعبر عنها بأنها اسمه مع أن الاسم منها عيسى، وأما المسيح فلقب له، فإنما كان ذلك لاشتراكها في التمييز. ابن عرفة: فهو من استعمال اللفظ الواحد في حقيقته ومجازه، أو من استعماله في القدر المشترك، وهو مطلق التمييز. قوله تعالى: (وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ). أبو حيان: التضعيف للتعدية وليس للمبالغة. ابن عرفة: وذكر غيره أن التضعيف يكون للأمرين في حالة واحدة وأن ذلك غير ممتنع، فأفاد المبالغة من التضعيف، ومن التعريف مع حرف الجر مثل (لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ). قوله تعالى: {قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ (47)} الزمخشري: الخطاب لله تعالى، ومن [بدع*] التفاسير أنه لجبريل. ابن عرفة: والصواب أنه لجبريل على حذف مضاف، أي يا رسول [ربي*]. ابن عرفة: وفي الآية سؤالان: الأول: كيف استبعدت ولادتها فعللت ذلك بمسبب البشر لها، وهي لَا تدري ما يكون من أمرها، وعادتهم يجيبون بوجهين، أنها منذورة محررة للمسجد، والمنذور المحرر للمسجد لَا يتزوج ولا يولد له. الثاني: أنها بشرت بالمسيح عيسى ابن مريم منسوب إلى أمه دون النسبة إلى الأب، فلذلك استبعدت الولادة، وعللته بعدم مس البشر إياها. السؤال الثاني: هلا قالت: (وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ) فتعلق النفي بالمستقبل، فإنها بشرت بولد يزداد لها في المستقبل فكيف تعلل استبعادها ذلك بنفي المس عنها فيما مضي؟ قال: وجوابه عندي بأنه، كقوله تعالى: (لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى) فالنفي، وذلك في الموتة الأولى تنبيها على عمومه؛ لأنها انتفاء ذواقها لهم في الجنة أي لَا يذوقون غيرها فيها كما لَا يذوقونها هي فيها، وكذلك هنا أي كما علمتم عدم مس البشر لي فيما مضى فكذلك في المستقبل. ابن عرفة: وفي سورة مريم: (وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا) وهو دليل على أنها أرادت بالمس الوطء الحلال.

(48)

قوله تعالى: (كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ). وفي قصة زكريا: (كَذَلِكَ اللَّهُ يَفعَلُ مَا يَشَاءُ)؟ فأجاب ابن عطية: بأن أمر زكريا حاصل في الإمكان الذي يعتد وإن قل، وقصة مريم لَا تتقارب ألبتَّة، لأن زيادة الولد بين الرجل وامرأة معهود، وإن كانا شيخين، بخلاف زيادته بغير رجل ليس من جنس مقدور البشر بوجه، فعبر عنها بالخلق الذي هو خاص بالله، إذ لَا يقال: فلان يخلق كذا بوجه. قوله تعالى: (إِذَا قَضَى أَمْرًا). ابن عرفة: أي قدره، والظاهر أن المعنى إذا أراد في الأزل أمرا أبرزه بقوله: (كُنْ) قيل لابن عطية: هل يوجد أن الأمر تابع للإرادة؟ فقال: هذا إلا بقوله (مَسَّنِيَ). ابن عرفة: والآية على صحة خطاب المعدوم، والمعتزلة ينكرونها وينكرون الكلام القديم، ويردونه هنا إلى سرعة التكوين، ونحن نثبته. ابن عرفة: فإن قلت: لم قال زكريا: (رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً) ولم تقل مريم كذلك مع أن العكس كان يكون أولى؛ لأن وجود الولادة من مريم أغرب وأعجب من وجودها من زكريا؟ قال والجواب: إن زكريا دعا بذلك، وتكرر طلبه فطلب الآية ليشكر الله على إسعافه له بالمطلوب، ومريم لم يقع منها طلب لذلك بل بُشِّرت بذلك عفوا. قوله تعالى: {وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ (48)} أي يصيره عالما بذلك. ابن عرفة: فإن قلت: هلا قيل: [ويَعْلَمُ الكتابَ*]؛ لأن هذا من باب الإعلام لَا من باب التعليم، والإعلام عام يقول: أعلم زيد عمروا مقيما، أي صيره عالما بذلك، والتعليم خاص، قال تعالى: (وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا) فلأي شيء أطلق على الأنبياء، وجعل خاصا بهم دون العلم؟ قال: والجواب بوجهين: أحدهما: أن ذلك تشريف له واعتناء به؛ لأن [الإقبال بالتعليم للشخص*] اعتناء به]. والثاني: أن هذا من باب العلم التكميلي؛ لأن العلوم الضرورية لَا يحتاج فيها الإنسان إلى تعليم، فلو قيل: [(ويَعْلَمُ) *] دخل فيه الضروري فيكون تحصيل الحاصل.

(49)

ابن عرفة: وكان الشيوخ مختلفون في [ ... ] هل يشتركان في شيء أم لَا؟ فمنهم من كان يمنع اشتراكهما مطلقا إذ لو اشتركا في أمر لجاز ارتفاعه، وإذا جاز ارتفاعه جاز ارتفاعهما، فيلزم عليه ارتفاع النقيضين، وهذا باطل، وكان ابن الحباب يجيز اشتراكهما بقولهم في حد التناقص، أنه اختلاف قضيتين بالسلب والإيجاب فهما مشتركتان في مطلق الاختلاف. ابن عرفة: من راعي الأمور الوجودية منع اشتراكهما، ومن راعى الأمور الاعتبارية [جوز*] اشتراكهما، وكان بعضهم يستدل بهذه الآية مع قوله تعالى: في سورة الأعراف: (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ) على جواز اشتراك النقيضين في أمر ما، قال: لأن الإخبار عن عيسى عليه الصلاة والسلام بآية علم الكتاب، والحكمة، والتوراة [إخبار*] بوصف كمال، يدل على أن معرفة الكتابة في الشخص من صفات الكمال، ووصف النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بكونه أميا لَا يقرأ ولا يكتب كمال في حقه، والكتابة نقيض لَا كتابة، فقد اشترك النقيضان في أن كلاهما وصف كمال. قال ابن عرفة: والجواب أن يقول الممتنع اشتراك النقيضين في الوصف العقلي، وهذا وصف جعلي شرعي، فإنه يلزم من اشتراكهما الوصف العقلي. قيل لابن عرفة: النقيضان مشتركان في أن كلاهما معنى، أو كلاهما ذات فقال: تلك أمور اعتبارية لَا وجودية. قوله تعالى: {وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ (49)} قال تعالى: (فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ). والنصارى من ذرية إسماعيل، سموا نصارى؛ لكونهم نصروا عيسى عليه السلام، يدخل فيهم بنوا إسرائيل، وإسرائيل هو يعقوب عليه الصلاة والسلام. قوله تعالى: (قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ). قال ابن عرفة: أعلن أن دعوى المدعي لَا بد من اقترانها بالدليل الدال على صحتها، هكذا اقتضى الشرع والعقل، أما الشرع فلقوله صلوات الله عليه وعلى آله وسلم، "لو أعطي النَّاس بدعواهم لادعى قوم دماء قوم وأموالهم"، وأما العقل فلأن

قبول دعوى المدعي على خصمه من غير دليل ترجيح من غير مرجح، وهو باطل وإعمال الدعوتين جمع بين النقيضين وإبطالهما يرد إلى الإهمال والتعطيل، فلذلك ترد دعواه الرسالة بالآية فظاهر كلام ابن التلمساني شارح المعالم الدينية: إن الأمر الخارق للعادة ما يسمى آية إلا إذا كان معه التحدي كذا نقل عنه بعض الطلبة. وقال ابن عرفة: بل الآية أعم كان معها التحدي حسا أو حكما فهي معجزة. قوله تعالى: (أَنِّي أَخْلُقُ)، أي أقدر. قال الشاعر: [ولأَنْتَ تَفْري ما خَلَقْتَ وبَعْ ... ضُ القومِ يَخْلُقُ ثم لاَ يَفْري*] ابن عرفة: معناه تقدر مثلا أنك تقدر عشرة، وتصدق ذلك بالفعل وبعض القوم يقدر شيئا ثم لايستطيع أن يفعله. قوله تعالى: (فَأَنْفُخُ فِيهِ). قال الفخر: احتج بها من يقول: إن الروح جسم لطيف؛ لأن النفخ إنما هو بالجسم. ورده ابن عرفة بأن عيسى لَا ينفخ الروح. قوله تعالى: (بِإِذْنِ اللَّهِ). أي بقدره، وقال ابن عطية: يعلمه أي يعلمه أفعل ذلك، وتمكينه إياي. ابن عرفة: لولا قوله: وتمكينه لكان كلاما خلقا لإبقاء مذهب المعتزلة، والمراد بالتمكين إقداره إياه على فعله؛ لأن التمكين هو القدرة على الفعل، ولذلك قال تأمل قوله تعالى: (فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ) مع قوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم "البكر تستأمر وأذنها صماتها" فناقض بين الآية والحديث؛ لأن معنى الآية فهزموهم بقدرة الله، ومعنى الحديث الإخبار بعجز البكر عن التصرف في أمرها، وعلى العقد على نفسها؛ لأن الإذن فيهما مختلف. ابن عرفة: وإنما قال: (أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطينِ كَهَيْئَةِ) ولم يقل فيه: (بِإِذنِ اللَّهِ)؛ لأن ذلك لَا يمكن البشر فعله عادة فالفخارون والشماعون يصنعون مثل ذلك، وكذلك: (وَأُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ) ولم يقل فيه (بِإِذْنِ اللَّهِ) لأنه ممكن من غير

(50)

عادة، بخلاف نفخ الروح وإحياء الموتى، فلذلك أسنده إلى قدرة الله تعالى، وإن كان الجميع بقدرته جل وعز، ولما كان في سورة العقود في معرض تعداد النعم، والامتنان من الله تعالى على عيسى ناسب تقييد الجمع فيها، بقوله: (بِإِذنِي) زاد [ابن الزبير*] أن في آية المائدة إشارة إلى توبيخ النصارى في زعمهم (إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ)، وأن عيسى ابن الله إلى غير ذلك، كما [يقول: أحدنا لغيره ألم أفعل لك كذا ألم أعطك كذا ويعدد عليه نعما ثم يقول: أفعل لك ذلك غيرى؟ *]، فإذا اعترف به العبد انقطعت حجة من ظن خلافه، فأعلم الله أن تلك الأمور بإذنه، وكرر ذلك تأكيد الدفع توهم حول، أو قوة لغير الله، قال: وآية آل عمران إنما هي بشارة لمريم، وإعلام بما منح ابنها عيسى فقط، فلذلك كرر لفظه: (بِإِذنِي) المائدة أربع مرات، وهنا مرتين. قوله تعالى: (وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ). احتج بها ابن رشد على إبطال الحكم بعلم المنجمين؛ لأنه قال في كتابه الجامع الرابع من بيانه: إن المنجم [ ... ] (¬1) الكل على أنه مصدق لها بالقول، وهو مشكل؛ لأن غيره من بني إسرائيل [مصدق لها موقن بها*]. ابن عرفة: والصواب عندي أنه مصدق لها بالفعل، ونظيره أن يخبرك إنسان بأن الأمير يدخل هذا راكبا على فرسه معمما بعمامته ملتحفا بردائه به، فيدخل هذا على تلك الصفة بالأمير مصدق لذلك الإنسان بالفعل، وكذلك بالتوراة تضمنت أنه يأتي بعدها رسول من عند الله اسمه عيسى تكون معجزاته إحياء الموتى، وإبراء الأكمة، والأبرص، والإخبار بالمغيبات، والحوادث، فيجيئه على هذه الصفة المقتضية لتصديقه لما في التوراة معجزة، وآية من جملة الآيات. ابن عرفة: والصدق والتصديق بينهما عموم وخصوص من وجوه دون وجوه فقد يكون الكلام في نفس الأمر صدقا ولا مصدق له وقد يصدق به وهو كذب، فإن التصديق هنا بالفعل بحرف الجر، في قوله: (مِنَ التَّوْرَاةِ) للتبعيض، وإن كان من القول هو لبيان الجنس لأنه صدق جميع التوراة. ابن عرفة: والتصديق لما تضمنه التوراة من الإخبار. وقوله: (وَلأُحِلَّ لَكُم (50) ¬

_ (¬1) النص في البيان والتحصيل هكذا: "وروي عن النبي عليه السلام أنه قال: "من صدق كاهناً أو منجماً أو عرافاً فقد كفر بما أنزل الله على قلب محمد"، ويمكن أن يصادف في بعض الجمل وذلك من حبائل الشيطان، فلا ينبغي أن يغتر أحد بذلك ويجعله على صدقه دليلاً فيما يقول، كما لا ينبغي أن يصدق المعالجون الذين يعالجون المجانين فيما يزعمون من إنهم إنما يعالجون بالقرآن، فلا يعلم الأمور الغائبة على وجوهها وتفاصيلها إلا علام الغيوب أو من اطلع عليها علام الغيوب من الأنبياء ليكون ذلك دليلاً على صحة نبوته، قال الله عز وجل في كتابه حاكياً عن عيسى ابن مريم - صلى الله عليه وسلم -: (وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين) فادعاء معرفة ذلك والإخبار به على الوجه الذي يعرف ذلك الأنبياء ويخبر به تكذيباً لدلالتهم" اهـ.

راجع لما فيها من الطلب والتكاليف بالأوامر والنواهي، لأن التصديق والتكذيب إنما هو من خواص الخبر، فقد قيل لابن عطية: أو يكون مصدقا لجميعها، أو يكون قوله: (وَلأُحِلَّ لَكُم) دليل على أن ذلك بالفعل لئلا يكون ذلك نسخا وهو بيان انتهاء أحد الحكم واليهود ينكرونه لئلا يلزم عليه البداء وهو باطل. أو هو قوله: (وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ) دليل على التصديق بالفعل؛ لأن المجيء فعلي قالوا: وبعض هنا عند أبي عبيدة بمعنى كل وهو مردود من وجوه: أحدها: تفريق المبالغة بين القضية الكلية بأن سورها كل، والجزئية سورها بعض، أو ليس بعض الإنسان إنسانا أحل لهم ما حرم عليهم، ابن عطية: قال ابن جريج: قال: [أحل*] لهم لحوم الإبل والشحوم، زاد الربيع وأشياء من السمك وما لا مخلب له من الطير وكانت في التوراة محرمة، ابن عطية: أي مما لَا مخلب له من الطير. قوله تعالى: (وَلأُحِلَّ لَكم). قال الزمخشري: رد على قوله: (بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ) جاز ويجوز أن يكون، ومصدقا أيضا مردودا عليه، ورده أبو حيان بأن (بِآيَةٍ) في موضع الحال، (وَلأُحِلَّ) تعليل ولا يصح التعليل على الحال، كان العطف بالحرف المشترك في الحكم موجب التشريك في جنس المعطوف عليه، بأن عطف على مصدر متوهم، أو مفعول به، أو ظرف، أو حال، أو تعليل، أو غير ذلك مشاركة بنفي ذلك المعطوف، وابن عرفة: لما ذكر ابن بشير الخلاف هل هو حدث، أو سبب الحدث؟ قال: احتج من قال أنه حدث بأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم عد موجبات الوضوء ذكر فيها النوم، وعطفه على البول، والغائط، واختلف الأصوليون في العطف هل يفيد التشريك في المعنى كما يفيده في الإعراب أو لا. ابن عرفة: فمنهم من أنكر الخلاف؛ لأن العطف بالواو، وأجيب: بأن هذا الخلاف فيما إذا قيدا أحد المعطوفين بوصف، أو حكم من الأحكام هل يقتضي العطف تقييد الآخر به أم لَا؟ ابن عرفة: أنه يلزم إذا قلت: قام زيد العدل وعمرو أن يكون عمرو متصفا بالعدالة وهو مراد أبو حيان: وهو ضعيف. قوله تعالى: (مِنْ رَبِّكُمْ)). أضاف الرب إليهم؛ لأنه في مقام تكرير النعمة عليهم ليستألفهم للإيمان.

(52)

قوله تعالى: (فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ). ابن عرفة: عطفه بالفاء المقتضية للتعقيب يدل على حصول [العلم*] بالنتيجة من المقدمتين عقلي إذ لو كان [عاديا لجاز فيه التراخي*]، فقال ابن عرفة: إنما هذا علم ملازم للنتيجة؛ لأن التقوى تقوى العمل الصالح مع الإيمان، ولم [ ... ] عن الأطباء قولهم: المحسوسة، ونقله القرافي في شرح المحصول، عن ابن الخشاب. ابن عرفة: إن كانت (حسَّ) متعدية بحرف الجر، فيرد التعقيب بقوله تعالى: (هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ). قرأها علي بن أبي طالب: تحس من حس فهو متعد بنفسه، لأن من في [مِنْ أَحَدٍ*] زائدة، وأنشد صاحب الجمل [لزبيد*] الطائي. [خَلا أنّ الْعِتَاقَ من المَطَايَا ... أَحْسَن بِهِ فَهُنَّ إِلَيْهِ شُوسُ*] قوله تعالى: {مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ (52)} (إِلَى) لانتهاء الغاية، أي من ينصرني نصرة تنتهي إلى نصرة الله إياي، ونصرة الخلق له بالمقاتلة والمجاهدة، ونصر الله بإظهار الحجج والمعجزات على يديه، وقول الحواريين: (نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ) مما يصحح هذا التأويل. قوله تعالى: (آمَنَّا بِاللَّهِ). أن متقدمان على قولهم: (نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ)، فهو ابتداء، وإن كان بعد فهو خبر. قوله تعالى: (وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ). وقال في سورة العقود: (وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ). قال ابن عرفة: فالجواب إيمان بعد أمر الله لهم به مباشرة، وجواب التكليف الواقع عن الله المناسب أن يكون أبلغ من جواب التكليف الصادر عن غيره. الثاني: أن الوحي لهم ليس هو كالوحي المرسل، وإنما هو إلهام ففيه غرابة وإعجاب فناسب المبالغة في الإخبار بحصول الإيمان.

(53)

قيل لابن عرفة: هل تدل على أن الإسلام والإيمان مترادفان، قال: لعل المراد به هنا الانقياد. قوله تعالى: {رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ (53)} ليس بتكرار بل الأول إيمان اعتقاد، والثاني: إيمان بالفروع والشرائع. قوله تعالى: (فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ). تقتضي تبعيتهم للشاهدين وهم أشرف منهم لكن ذلك على جهة التواضع منهم. قوله تعالى: {وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (54)} إن أريد في الحقيقة فهي فعل لَا أفعل، وإن أريد مجرد الإطلاق اللفظي المجازي فهي أفعل من. قوله تعالى: {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ... (55)} اختلفوا في العامل في إذ، فقيل: (اذْكُر)، وقيل: (خَيْرُ الْمَاكِرِينَ)، واستبعد ابن عرفة فيها ما قبلها، واستبعد الياء لئلا يلزم عليه المفهوم، إلا إن يجاب بالمفهوم منفي بالدليل العقلي، والظاهر أن العامل فيها (وَمَكَرَ اللَّهُ). قوله تعالى: (إِنِّي مُتَوَفِّيكَ). التأكيد في مقام التشريف، يريد المخاطب تشريفا، وذكر الزمخشري: في (مُتَوَفِّيكَ) أربع تأويلات، فقال: (إِنِّي مُتَوَفِّيكَ) أجلك وعاصمك من أن يقتتلك الكفار، ومؤخرك إلى أجل كتبته لك. قال ابن عرفة: وهذا بين على مذهبه لأنهم يقولون: إن المقتول له أجلان فلم يستوف أجله وممكن فهمه على مذهبنا. قوله تعالى: (وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ). قيل: هم الحواريون، فالمراد اتبعوك من حيث كونك متبوعا فقط، وقيل: المراد المسلمون وهم أمة محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فالمراد اتبعوك من حيث كونك تابعا ومتبوعا، فالمتأخرون من المسلمين الكائنين حين نزوله اتبعوه من هذه الحيثية هنا، والمتقدمون منهم اتبعوه من هذه الحيثية حكما، ومطهرك من أقوالهم السيئة، وأفعالهم الخبيثة، ومجاورتهم ومخالطتهم.

(56)

ابن عرفة: قال ابن زيد: الذين اتبعوه النصارى، والذين كفروا، أي جاعل النصارى فوق اليهود. ابن عرفة: إنما المراد بالنصارى الحواريون فقط، وأما هؤلاء النصارى فغير داخلين في الآية لأنهم لم يتبعوه، ولو اتبعوه لآمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم، نعم فوق الحديث الصحيح "من أن الله سيذل اليهود ويجعل كل ملة فوقهم" وقد ظهر ذلك ولله الحمد وهو أحد المعجزات الدالة على صحة رسالة محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم. قوله تعالى: (وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا). قال أبو حيان: إلى متعلق بالعامل في فوق، وهو على فوق فاعل جاعل على أن الفوقية مجاز فإن كانت حقيقته وهي الفوقية بالجنة، فالعامل فيه متوفيك، أو رافعك، أو مطهرك. قيل لابن عرفة: كيف يعمل فيه جاعل، وهو عامل في (إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ)، والمجرور بمعنى واحد، فأجاب باختلافهما الأول: [ ... ] قوله تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ ... (56)} هذا من الإتيان في البيان المطلوب، وزيادة كما فى حديث الموطأ: "هو الطهور ماؤه الحل ميتته"، لأن قبل الآية: (ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ) فاقتضى الاحتمال بعقابهم في الدار الآخرة ثم بين كيفية عذابهم فيها، وزاد مع ذلك عقابهم في الدنيا. قوله تعالى: (وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ). يحتمل الرجوع لأمر في؛ لأن عذاب الدنيا هو الذي يتوهم أن لهم فيه ناصر لعلمهم منه، فأفاد التسوية إن كانوا يعلمون أو لَا ناصر لهم في الآخرة، فكذلك في الدنيا وعذابهم الشديد فيها بالذلة، والصغار إلى آخر الدهر، فما من يهودي في قطر من الأقطار إلا وهو [أذل أهل ذلك القطر*]، وأحقرهم، قال: وتولى الله عذابهم بنفسه تشريفا للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وتشديدا عليهم في العذاب. زيادة قوله تعالى: {وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ (57)}

(58)

إن قلت: لم أتى أعذبهم بهمزة المتكلم ونوفيهم بنون العظمة، فأجيب بوجهين: إما الإشارة إلى عظم إلى ما يقال في المؤمنين من الأجر والثواب، فناسب بنون العظمة، لأن العظيم لَا يثبت على فعل الجميل إلا بعظيم، وإما لأن المؤمنين عظموا الله حق تعظيمه وامتثلوا أمره ونواهيه، فخاطبهم بنون العظمة الدالة على تعظيم ما عظموه بخلاف الفريق الآخر. قال ابن عرفة: وهذا عندي تقسيم مستوفى؛ لأن النَّاس على ثلاثة أقسام: كافر، ومؤمن طائع، ومؤمن عاص. فقوله تعالى: (وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ). عبارة عن المؤمن العاصي، قال الفخر: واحتج بها المعتزلة أن لَا يحب الشر، ولا يريده، فرده ابن عرفة بوجهين: الأول: أنه ليس المعنى والله لَا يريد الظالمين فهو ذم لهم، مثل: لَا حبذا زيد، وما يلزم من ذمهم على الظلم إن الله لم يرد ذلك منهم. والوجه الثاني: أن المستدل بها لابد أن يضمر فيها مضافا تقديره: والله لَا يحب ظلم الظالمين، وليس هذا بأولى من أن يقول التقدير: والله لَا يحب ثواب الظالمين. قوله تعالى: {ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآيَاتِ ... (58)} يتعارض فيها المجاز والإضمار؛ لأن الإشارة إلى الآيات المتقدمات، وقد كانت تليت عليه حين نزول هذه الآية، فإما أن يكون نتلوه مضارعا عبر عنه في الماضي فهو مجاز أو يكون مستقبلا حقيقة، والمعنى مثل ذلك نقلها عليك فيكون فيه إضمار. قوله تعالى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ (59)} .. الزمخشري: إن شأن عيسى وحاله كشأن آدم خلقه وخالقه، ابن عطية: وقال إن صفة عيسى كصفة آدم، واختاره، ابن عطية: إن المراد أن المتصور من عيسى في الذهن كالمتصور من آدم، وابن عرفة: فجعله بمنزلة الجمعة للمقدمتين أي: إن مثل عيسى في نفس الأمر الحق اليقين الذي يخالفون فيه كمثل آدم، ابن عطية: والمثل والمقال واحد. ابن عرفة: وتقدم الإشكال في قوله: (لَيسَ كَمِثلِهِ شَيءٌ) فمنهم من قال: الكاف زائدة لئلا يلزم عليه إثبات المثل لله عز وجل، وتقدم الجواب، بأن ثبوته يؤدي إلى نفسه؛ لأنه إذا تقرر أنه ليس مثله مثل ينتفي المماثل؛ لأن مثل المثل، إما الذات

(60)

المكرمة فينتفي الذات، أو مثلها، فلا يكون لها مثل وهو المطلوب، وأورد بعضهم سؤالا، قال: إن قلت: هلا قيل: إن عيسى عند الله كآدم؟ فهو أخص، وأجاب: بأنه لو قيل كذلك لصدق التشبيه في الأمور العرضية فقط، ولم يتناول صفات النفس كلها، فلما جعل المماثل لعيسى كالمماثل لآدم كانت المماثلة بين عيسى وآدم في الأمور الذاتية؛ لأن قوله: مثل زيد مماثل لمثل عمرو، أبلغ من قولك: زيد كعمرو، والزمخشري، قال بعضهم للروم: لم تعبدون عيسى، فقالوا لأنه لَا أب له فقال: آدم أولى؛ لأنه لَا أبوين له فقالوا: كان يحيي الموتى، فقال: فحزقيل أولى أولا؛ لأنه أحيا ثمانية آلاف، وأحيا عيسى أربعة نفر، فقال كان يبرئ الأكمه والأبرص، قال: فجرجيس أولا؛ لأنه طبخ وأحرق ثم قام سالما. ابن عرفة: فعجزوا عن الجواب من عبادتهم وإلا فكان يقولون أنهم عبدة للمجموع. قوله تعالى: (ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ). ابن عطية: قال أبو علي الفارسي: هذا القول مجاز مثل: امتلأ الحوض. وقال ابن عرفة: هذا اعتزال؛ لأن المعتزلة ينفون كلام النفس القديم الأزلي ويردونه إلى سرعة التكوين فقط، الزمخشري: أي [أنشأه بشرا*]، كقوله تعالى: (ثُمَّ أَنْشَأنَاهُ خَلْقًا آخَرَ) أي أنشأناه من طين، ثم قال له: كن لحما، ودما، وعظما، وركب فيه الروح. قيل لابن عرفة: قد يحتج بهذا من يقول مجرور الكلام؛ لأن الفاء للتعقيب فهو تعقيب، إن قال له: كن كان، فقال ابن عرفة: الكلام قديم وسماعه حادث، أعني إظهاره للملائكة وغيرهم. قوله تعالى: {الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ ... (60)} قال الزمخشري: أي هو الحق. ابن عرفة: الصواب هذا الحق، أي هذا المذكور كله الحق من ربك، وأما قوله: (هُوَ) إنما يتناول في نفس الأمر، وقاله ابن عطية: فإن قلت: هلا قيل: فلا تكن ممتريا، أو فلا تمتر فهو أبلغ، الجواب: كالجواب في قوله تعالى: (وَمَا رَبُّكَ

(61)

بِظَلام لِلعَبيدِ) أي لم قدر وقوع الامتراء العظيم، أو أن قيل: لما تصور إلا عظيما. قوله تعالى: {فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ ... (61)} قال ابن عرفة: تقدم الفرق بين فاعل وتفاعل؛ لأن المرفوع في فاعل هو البادئ بالمفاعلة بخلاف تفاعل فإنها محتملة، وتقدم الرد على ذلك، بقوله تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ) مع أن إبراهيم هو البادئ بالمحاجة. قال ابن عرفة: وإذا بنينا على ما قال ابن عطية: في قوله تعالى: (إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ) وأنه قياس تمثيلي مع ما ذكر إمام الحرمين في الإرشاد من أن قياس الغالب على الشاهد بالجوامع الأربعة محصل العلم. وقال الفخر في المحصول إنه محصل علما، وكذا قال في المقترح، وكذا في البرهان، وانظره ابن التلمساني في المسألة الثانية من كتاب القياس فيؤخذ من هذه الآية محل للعلم، لقوله تعالى: (مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ). قوله تعالى: (فَقُلْ تَعَالَوْا). ابن عطية: تعالوا كلمة قصد بها تحسين الأدب مع المدعي ثم اطردت حتى بقولها: الإنسان لعدوه ولبهيمته. ابن عرفة: ليس كذلك إنما بقولها لمن هو صاعد مرتفع لموضع علل عليه، ثم استعملت في نداء من تريد تعظيمه، وأما العدو فلا يقال له: تعالى إلا مجازا، كما في قوله تعالى: (يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (11) وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ)، فجعل هنالك النفس آكد من البنين، والزوجات، وتقدم الجواب بأن ذلك حيث لَا يتحقق الإنسان أنه يموت فإنه يفتدي من العذاب بابنه وزوجته وتقدمهما في ذلك على نفسه؛ لأنه طامع في الحياة، وأما إذا تحقق أنه لابد له من الموت مقتولا فإنه يبادر بنفسه قبل ولده، وزوجته ليكون أسهل عليه حيث يقاسي مرارة القتل فقط، فقال: وإذا قدم عليه ابنته، وزوجته فيقاسي أمرين، أول مشاهدته لقتلها، ثم الثاني: قتله بعدهما، والمباهلة تقتضي الهلاك بلا شك فلذلك بدأ بالبنين؛ لأنهم أشد حسرة حيث يهلك بنوه، ثم زوجاتهم، وهم ينظرون إليهم كيف صاروا قردة، وخنازير، ثم يهلكوهم أخيرا، وأما تلك فهي في

(62)

المفاداة من العذاب والسلامة منه، ولا شك أن الإنسان إذا علم أنه يعيش، فإنه يفتدي من العذاب ببنيه. قوله تعالى: {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ ... (62)} قال النحويون ضمير الفعل الفصل يؤتى به للتأكيد، وقال الطيبي في تبيان بيانه: يؤتى التخصيص المسند بالمسند إليه، أو العكس، واختلفوا في القصص، والخبر، فقيل: هما بمعنى واحد، ومنهم من جعل القصص أخص من الخبر، وفرق بينهما بوجهين: الأول: أن القصص إنما يصدق على كلام يشتمل على جملة تابعة بجملة أخرى فما يصدق إلا على جملتين فأكثر والخبر يصدق على ذلك وعلى الجملة الواحدة. الثاني: أن الخبر هو الإعلام بمعنى القضية فقط، والقصص هو الإعلام بمعناها مع المحافظة على حكايته بألفاظه وبعضها أو العوارض والأوصاف الواقعة في تلك القضية، قال أبو حيان: والإشارة للقرآن. ابن عرفة: أي هذا قص عليكم قصصا حقا، ويحتمل عندي أن الإشارة إلى قضية المباهلة المتقدمة بمعنى أن الله وعد بحفظها، وعدم المخالفة فيها فأنت تقصها إلى آخر الدهر من غير منازع عنها، ولا نكير. قوله تعالى: (وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ). قال ابن عطية: من لتأكيد استغراق الجنس. قيل لابن عرفة: إنما ذلك في مثل ما جاءني من أحد، فقال: اختلفوا في النكرة في سياق النفي هل يعم أم لا؟ فكلام ابن عطية بناء على أنها تعم، وقول أبو حيان: لا لاستغراق الجنس بناء على أنها لَا تعم، واحتج بهذه من قال: أن الاستثناء من النفي نفي صريح، وإنَّمَا يقول: لنفي يحتمل النفي والإثبات، فإذا اقترنت به قرينة عينية لأحد المحتملات، وهنا القرينة تعين المراد به الإثبات. قوله تعالى: (وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ). ابن عرفة: مناسبة هاتين الصفتين؛ لأنه لما تضمن الكلام السابق توحيد الله، وما اتصف به من صفات الكمال، فيقول القائل: فلم وجدنا بعض النَّاس مشركين كفارا عبدوا عيسى وعزيرا، فقال: لأنا نصفه بالعزة والعزيز ممتنع لَا يصل إلى إدراك عظمته

(63)

رجلا له كل إنسان وهو أيضا حكيم يضع الأشياء في محلها يهدي بعض النَّاس إلى الإيمان فامتنع عن الآخرين، وحجبهم عن إدراك وجه الصواب وأضلهم وكفروا. قوله تعالى: {فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ (63)} ابن عرفة: وهذا إشارة إلى أن كفرهم [عناد*] أو شبيه بالعناد فما كفرهم إلا عناد وحسد وفيه إيماء لتعذيبهم. قوله تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ ... (64)} الخطاب بالذات للنبي صلى اله عليه وسلم ولكل واحد من أمته، لقوله: (فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ). قوله تعالى: (أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا). ابن عرفة: تضمنت الأولى نفي الإشراك في الاعتقاد، والثاني: نفي الاشتراك في العمل فيكون تأسيسا، والتأكيد بقوله (شَيئًا) دخل على النفي فأكده، فهو نفي أخص لا نفي الأخص. قوله تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ (65)} قال ابن عرفة: فرق بعضهم في المحاجة والمجادلة بوجهين: أحدهما: أن المحاجة هي استدلال الخصم على دعوى يعتقد حقيقتها، والمجادلة أعم من ذلك فتصدق على هذا، وعلى إلزام الخصم مذهب ألا يقول به فالمحاجة بين سني ومعتزلي يستدل كل واحد منهما على حقيقة دعواه، والمجادلة بين رجلين من أهل السنة يلزم أحدهما الآخر مذهب المعتزلة، وبين رجلين من المعتزلة يلزم أحدهما الآخر مذهب أهل السنة. الوجه الثاني: أن المجادلة أقوى من المحاجة. لأن الجدل هو الشد مأخوذ من قولك جدلت الحبل، إذا شددت فتله. قيل لابن عرفة: يرد الأول بقوله تعالى: (وَجَادِلْهُم بِالتِي هِيَ أَحْسَنُ) مع أنه يعتقد حقيقة ما هو يجادلهم عنه وبطلان ما عداه، فقال: سميت مجادلة باعتبار دعوى الكفار فإنها باطلة عنده هو، وكذلك قوله تعالى: (وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالتِي هِيَ أَحْسَنُ) قال ابن عرفة: وانظر ما معنى الآية هل أنهم ادعوا أن إبراهيم كان على دين اليهودية

(66)

والنصرانية في الأحكام الاعتقادية، أو معناه كان متشرعا بشريعة اليهود متبعا لها في الأحكام الفرعية؛ لأن الملل كلها أجمعت على اعتقاد توحيد الله عز وجل، ونفي الشريك عنه، وليس في ذلك خاصا بملة اليهود، والنصارى بوجه، وإنما تختص الملتان في الأحكام الفرعية فقط. قوله تعالى: (وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ). قال ابن عرفة: وكان بعضهم من يقتضي أزمنة البعدية، وكان يرد عليه بهذا، قاله المفسرون، قالوا: إن التوراة أنزلت بعد إبراهيم بألف سنة، والإنجيل أنزل بعده بألفين سنة، فلا يصح أن يكون نزل أول أزمنة البعدية، أو في أثنائها. قوله تعالى: (أَفَلَا تَعْقِلُونَ). يجاب عليه بوجهين: الأول: قال ابن عرفة: عادتهم يجيبون بأنه قصد الرد عليهم بالدلالة الأخروية التقديرية المجازية لَا بنفس الأمر الواقع في الوجود، أي يقولون: أنه يهودي، ومجرد إنزال التوراة بعده في أول زمن من أزمنة البعدية ينفي كونه كان يهوديا فكيف والواقع في الوجود أنها نزلت بعده بأزمنة متطاولة. الجواب الثاني: قال بعض الطلبة لابن عرفة: إن إبراهيم بينه وبين موسى عليهما الصلاة والسلام أنبياء وشرائع كثيرة فالمراد بذلك أول الأزمنة الكائنة بعد انقضاء شريعته ونسخها بشريعة نبي آخر بعث بعده يليه، فرده ابن عرفة: بأنه إنما المراد وما أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده شخصه وذاته لَا من بعد شريعته وملته، فما الجواب إلا ما تقدم. قوله تعالى: {هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ ... (66)} غلط ابن عطية: فقال: هؤلاء بدل أو صفة، وسكت عنه أبو حيان وهو خطأ صريح؛ لأن المضمر لَا ينعت، ولا ينعت به. ابن عرفة: وهذا على سبيل التبكيت لهم والإبطال لدعواهم، كما يقول لمن يعلم أنه حاجج في مسألة بغير علم ها أنت حاججت في هذه المسألة بعلم ثم تعطف عليه، فتقول بل حاججت فيها بغير علم، وكما تقول لمن تعلم أنه لم يتصدق من ماله بشيء ها أنت تتصدق من مالك بشيء يدل لم يتصدق منه بشيء، وكان بعض الشيوخ يقول:

(67)

يؤخذ من هذا منع تكلم الإنسان في شيء بما لَا يعلم كما في قوله تعالى: (بَل كَذبُوا بِمَا لَم يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ) قال: وحكى لنا شيخنا القاضي ابن عبد السلام: أنه رأى في سوق الكتبيين بتعلب، وعلى عامره بخط مسيري أبي علي عمر القروي في اليوم الفلاني، في مسألة من النحو مع الطلبة وهو غير ضابط لأصولها. قوله تعالى: {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا ... (67)} ابن عرفة: ظاهر هذا أنه تكرار وليس بتكرار، بأن ما تقدمه للاستدلال على بطلان مقالة اليهود والنصارى فيه أنه كان على دينهم، وذلك في قوله تعالى: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ) إن هذا بعد كالنتيجة بعد المقدمتين. قال ابن عطية: وجاء النفي في الآية على ترتيب حسن، بقاء نفس الملل، وقرر الحال الحسنة، ثم بين أن تلك الملل فيها الفساد، وهو الشرك. ابن عرفة: لم يتضح نكته، الحسن في ترتب ذلك، وعادتهم يقررونه بأن دين اليهود والنصارى كلاهما له مزية في مطلق وصف اتباع نبي ودين الإسلام له المزية العظمى يوصف اتباع النبيين، ودين الشرك أقبح الأديان إذ لَا يستند له بوجه فأحرى بحجة وقدم غيره لاشتراكهما في مزية الاتباع، فإن قلت: هلا قيل: (وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا) كما قيل: (مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا)، والجواب: أن النسبة تشعر بالاتباع، وإبراهيم عليه الصلاة والسلام كان دينه موافقا لدين محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم؛ لأنه كان متبعا له؛ لأنه قبله. قوله تعالى: {وَهَذَا النَّبِيُّ ... (68)} قالوا (النَّبِيُّ) إما صفة، أو بدل، أو عطف، ابن عطية: في قوله صفة نظر، قلنا: مشتق من النبأ، أو النبوة. ابن عرفة: وجرى مجرى الأسماء؛ لأنه بولايته للعوامل والصفة لَا على العامل فلذلك تردد فيه، وقال: فيه نظر، ولم يبينه. قيل لابن عرفة: في كلامه تضاد؛ لأن عطف لَا يكون إلا بما هو أعرف، والنعت لا يكون إلا بالمساوي، أو ما هو دونه في التعريف، فقال: تلك واحدة، واعتبار إلا أن المراد التعريف النحوي، قلت: قال ابن عصفور في الكبير: هذا الرجل إن كان عطف بيان بالألف واللام فيه للحضور، والأول يفيد الحضور فقط، والثاني يفيده

(69)

ويفيد معاني الحضور من الرجال فكان أعرف، وإن جعلته نعتا فالألف واللام فيه للعهد، أو كل أمة فتكون للجنس. قوله تعالى: {وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ ... (69)} أي وبال إضلالهم عائد عليهم، وأما نفس إضلالهم فمحال؛ لأنهم يضلون المؤمنين بالانتقال من الإيمان إلى الكفر، وهم لَا يعرفوا قط الإيمان، فمحال أن يرجع إضلالهم عليهم، أو يكون مجازا تعدية المشاكلة، مثل: (وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ) ويكون المراد أنهم بإرادتهم إضلال المؤمنين، ازدادوا إضلالا إلى كفرهم فتضاعف إثمهم. قوله تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (70)} قال ابن عرفة: فيها إيماء لما يقوله الأصوليون من أن وجود المقتضى للحكم، لا يكون موجبا للحكم إلا بعد انتفاء المانع عنه، لأن مشاهدتهم لآيات الله مقتضية لإيمانهم فما المانع من إيمانهم، ففي السؤال عن المانع من الإيمان إيماء لكونه شر، ولا في العمل بالمقتضى، ابن عطية: فالآية دالة على أن كفرهم عناد. ابن عرفة: أما رؤساؤهم فكفرهم عناد، وإما عوامهم فليس كفرهم عنادا، أو كفر الجميع ليس بعناد؛ لأن الحيسوبي إذا ضرب خمسة في خمسة قد يخطئ ويقول أنها ستة وعشرون مثلا، وقد يعلم يعاين ذلك. قوله تعالى: {لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ ... (71)} ابن عرفة: يحتمل أن يكون الحق الأول غير الثاني، فالأول القرآن وصفة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، والثاني: الرسالة، ويحتمل أن يكون من وضع الظاهر موضع المضمر، فيكون الثاني، هو الأول، ونقل ابن عطية عن ابن جريج أن المعنى ويلبسون التوراة والإنجيل بالقرآن. ابن عرفة: هذا خطأ صراح؛ لأن القرآن حق، والذي دخلت عليه الباء في الآية هو الباطل. ابن عرفة: وعادتهم يوردون فيها سؤالا وهو أن القاعدة في استعمال الكلام على أمرين، أعم وأخص، إن نبدأ في الإثبات بالأعم ثم بالأخص، وفي النفي نبدأ بالأخص ثم الأعم؛ لأن ثبوت الأخص يستلزم ثبوت الأعم، ونفي الأعم يستلزم نفي الأخص، والذم على فعل الشر يتنزل منزلة نفيه، والكفر بآيات الله أعم من إلباس الحق

(72)

بالباطل على ما فسروه، لأن الكافر قد يلبس بخلط التوراة بغيرها، وقد لَا يفعل ذلك، وإلباس الحق بالباطل أخص؛ لأنه كفر بلا شك. قال ابن عرفة: وتقدم لنا الجواب: بأن مقام الذم يقصد فيه الإطناب والمبالغة، لأنه يقتضي تكرار الذم بعد أخرى، فذموا على إلباس الحق بالباطل، بالمطابقة وباللزوم وهذا أبلغ في الذم قصدا للتغيير على الكفر، والإبعاد. قوله تعالى: {وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ ... (72)} لما تضمن الكلام السابق ذمهم على الكفر وإلباس الحق بالباطل، عقبه بيان بعض الجزئيات الذي لبسوا فيها الحق بالباطل، وهذه الآية إن كانت نزلت بعد الآية المتقدمة بمهملة وتراخ، فذكر أهل الكتاب فيها بلفظ الظاهر دون [المضمر*]، وإن كانت نزلت عقبيها فكان الأصل أن يعبر فيها عن أهل الكتاب، بالمضمر لتقدم ذكرهم، لكن قالوا الحكمة في تكرار الاسم بلفظ الظاهر دون المضمر وجهان: إما التعظيم والتفخيم، كقوله: لَا أرى الموت ذا الغناء والفقير، وإما للتخفيف مبالغة في الذم؛ لأن الضمير كلي والظاهر جزئي فأعيد بلفظه تحقيقا لوقوع هذه المقالة الذميمة الخبيثة منهم والقول، إما من الرؤساء للعوام، أو من بعضهم لبعض. قوله تعالى: {وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ (73)} قال ابن عطية: إن (قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ) جملة اعتراض، وهذا صعب وأكثر ما يكون ذلك حيث يكون المتكلم بذلك كله شخصا واحدا، وهذان الجملتان من كلام شخص، والجملة المعترضة بينهما من كلام غيره فيحتاج إلى دعامة. ابن عرفة: ومنهم من قال: إن الأخيرة من كلامهم على إضمار، أي فعلنا ذلك أن يؤتي أحد مثل ما أوتيتم استفهاما ما في معنى النفي، بدليل قراءة ابن كثير أن يؤتي بالمدلات أن إرادة الاستفهام كثيرا تحذف، وبدليل لفظه أحد وهي لَا يستعمل إلا في النفي فالكلام، تم عند قوله: (قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ) جملة اعتراض، ثم قال: هل (يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ) يا أمة محمد بل الهدى الذي أوتيتموه، لم يؤته أحد من الأمم قبلكم، وهيهات أن يكون لهم حجة عليكم عند ربكم بأن يقولوا: أوتينا ما لم يؤتوه، ولا يكون ذلك موجه وفي كلام المعربين إشارة إلى هذا. قوله تعالى: {يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ ... (74)}

(75)

أي برحمته الواسعة، فالمراد رحمة خاصة، وإلا فالرحمة تعم الطائع والعاصي، ولاسيما إن قلنا أن الكافر منعم عليه (والله واسع عليم) مشعر بهذه الآية متضمن مقامها فذكرها بعد هو المسمى بالترسل، أو بأن العلم يستلزم الاختصاص، والواسع يستلزم الرحمة. قوله تعالى: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ (75)} قال ابن عرفة: لما تقدم ذم أهل الكتاب بكفرهم وعصيانهم وحالهم الإجمالي عقبه ببيان حالهم، أو لما تضمن الكلام السابق اختصاص الله تعالى من شاء من خلقه بالرحمة بين هنا إن من جملة اختصاصه بعض الكفار بالوفاء بالأمانة، وبعضهم يخون فيها. قال ابن عطية: والقنطار هنا عبارة عن المال الكثير فيتناول أكثر من القنطار المعهود وأقل منه، وإمَّا الدينار فيحتمل أن يكون كذلك مثالا لما قل، ويحتمل أن يريد بالطائفة التي لَا تخون إلا في دينار فأكثر، ولم يعتني بذكر الخائن، في أقل منه لأنهم [لا يؤتمنون عليه*] ويحتمل أن يكون بالتنبيه بالأعلى على الأعلى، وبالأدنى على الأعلى بدلالة أخرى وهو مفهوم الموافقة. قوله تعالى: (قَائِمًا). على رأسه إشارة إلى نهاية الجفاء والضغطة، ابن عطية: وانتزعوا من الآية جواز السجن، لأن الذي يقوم عليه عزيمة، فهو يمنعه من تصرفاته. ورده ابن عرفة: بأن هذا إخبار عن الواقع، فلا ينتزع منه حكم شرعي. قوله تعالى: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ). علل قبح فعلهم بقبح مقالتهم، وما ذكره ابن عطية: هنا موافق للمعنى، ومخالف لظاهر لفظ الآية، قال المفسرون: (إِلَّا مَا دُمْتَ) استثناء من الأحوال. قيل لابن عرفة: لعله من الأزمان، فقال: القيام حالة إلا في حالة القيام. قوله تعالى: (وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ). دليل على أن قولهم (لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ) إخبار، ونقل منهم عن التوراة والإنجيل وهذا أبلغ من، ولو قيل: ويكذبون على الله.

(76)

قوله تعالى: (وَهُمْ يَعْلَمُونَ) حجة لأهل السنة، في أن الكذب يطلق على القول غير المطابق عمدا كان أو سهوا. قوله تعالى: {بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى ... (76)} ابن عرفة: ويحتمل أن يكون من اللف والنشر المخالف، فقوله: (بَلَى) راجع لـ (وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ)، و (مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ) راجع لقولهم (لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ). قوله تعالى: (فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) إما من وضع الظاهر موضع المضمر، أي فإن الله محبه، وإما أن يريد جنس المتقين الشامل لذكره ولغيره، فيتناول التقي الذي لم يوضع تحت يده وأمانته ويكون قوله (وَاتَّقَى) من عطف السبب على المسبب، لأن المراد اتقاء الله بالوفاء بالعهد، فإنه قد يوافي بالأمانة رياء وسمعة، ليقال: فلان أمين. قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ ... (77)} قال الزمخشري: مجازا على الاستهانة والسخط عليهم. ابن عرفة: الكناية جعل اللفظ على غير حقيقته، مع إمكان إرادة الحقيقة، مثل: فلان كثير رماد القدر كناية عن الكرم، ولا يمكن أن يراد الحقيقة والمجاز، مثل زيد أسد؛ لأن الحقيقة مستحيلة. ابن عرفة: وهذا على مذهبه لأنه النظر، وما ينفي إلا ما هو في حيز الإمكان فيتعين عنده أن المراد بذلك الغضب عليهم. ابن عرفة: ويمكن أن يكون كناية على مذهبه أيضا ويكون من باب السلب والإيجاب، مثل الحائط لَا يبصر إلا من باب العدم، والملكة مثل: زيد لَا يبصر، وأما على مذهبنا فهو كناية عن الغضب. قيل لابن عرفة: كيف ينفي النظر والله تعالى يبصرهم فلا بد أن يراد به الغضب عندنا، أو عند المعتزلة؛ لأنه يبصر كل شيء، فقال لَا ينظر نظر رحمة.

(78)

ابن عرفة: وهذا ترق؛ لأن هذه عقوبات بعدم نيلهم الملائمة لهم من عدم الثواب، وعدم الكلام، وعدم النظر، وعدم التطهير، ثم تتمم ذلك بزيادة نزول الأمر المؤلم بهم فهو أنسب، ويحتمل بقاؤه على ما هو عليه، وظاهر كلام الزمخشري: أنهم يأولون اللفظ فقط، وظاهر كلام ابن عطية: أنهم يبدلون اللفظ، لقوله تعالى: (وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا). قوله تعالى: {وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ ... (78)} يحتمل أن يريد في نفس الأمر وفي المشاهدة. قوله تعالى: (وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ). احتج بها المعتزلة على أن العبد يستقل بنفسه. ابن عرفة: ويجاب: بأن الأولى على حذف مضاف، أي يقولون: هو منزل من عند الله، فأتى النفي على ذلك، أي وما منزل من عند الله. قوله تعالى: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ ... (79)} نفي للقابلية العقلية يستلزم نفي الفعل ونفي القابلية عادة، أو شرعا، أو على جهة التأدب لَا يستلزم نفي الفعل [كقولهم*]: ما كان لزيد الضعيف أن يقتل عمرا القوي وقد قتله، والبشر إما عيسى، وإما النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، والظاهر أنه عام فيدخل تحته [عيسى ومحمد - صلى الله عليهما وسلم -*] وغيرهما ونفي الخلاف راجعا لسبب نزول الآية ما ينفي قول النقاش، وقول ابن عباس، والربيع. ابن عرفة: وهذه المعطوفات تأسيس وترق؛ لأنه يؤتى الكتاب، إما بعلمه ويبلغه، أو ليعمل به، والأول باعتبار التبليغ، والثاني: هو الحكمة راجع إلى العمل بمقتضاه. قوله تعالى: (مِنْ دُونِ اللَّهِ). إن قلت: مفهومه ثبوت طلب العبادة مع الله ويتأكد السؤال باعتبار السبب؛ لأنهم ما ادعوا أنه طلب عبادته من دون الله، وهذا كما تقدم في: (أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ).

(80)

قوله تعالى: {وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ ... (80)} ابن عرفة: نفي الأمر أعم من النهي فعلق الحكم على الأعم دون الأخص، فهلا قيل: وينهاهم أن يتخذوا فهو أخص، لأن عدم الأمر بفعل الشيء لَا يستلزم النهي عن فعله، فقد لَا يأمر ولا ينهى، قالوا: والجواب: بأن ذلك باعتبار دعواهم وطلبهم ذلك من الرسل وتقولهم في الطلب، قال أبو عمرو الداني في التيسير: قرأ نافع، وابن كثير، والكسائي برفع الراء وأبو عمرو بالاختلاس من طريق البغداديين، وبالإسكان من طريق غيرهم، والباقون بنصبها، وهذا نص الشاطبي، فقال في البقرة [وَإِسْكَانُ بَارِئْكُمْ وَيَأْمُرُكُمْ لَهُ. . . وَيَأْمُرُهُمْ أَيْضاً وَتَأْمُرُهُمْ تَلَا*]، وقال هنا [وَرَفْعُ وَلاَ يَأْمُرْكُمُو رُوحُهُ سَماَ. . . وَبِالتَّاءِ آتَيْناَ مَعَ الضَّمِّ خُوِّلَا*] فظاهر البيت الأول أنه يسكن الراء، وظاهر أنه يقرأ بالرفع، وقال أبو شامة أبو عمرو: على أصله من الاختلاس والإسكان، وذكر الشاطبي له مع أهل الرفع دليل على أنه رجح الاختلاس على الإسكان. قال ابن عطية: إما قراءة نصب الرافع وعطف على قوله، ثم يقول ابن عطية: وهذا خطأ؛ لأنه يلتبس به المعنى، وصوب أبو حيان قول الطبري، إن كانت لَا زائدة لا لتأكيد النفي، لأن المعنى [ما كان لبشر*] استثناء عدم أمر باتخاذ الملائكة والنبيين وصوبه ابن عرفة: إلا أنه ينفي فيه المفهوم، وهو كونه يأمر بعبادة نفسه، أو بعبادة غيره فقط لكنه من استيفاء لعدم وقوعه. قال ابن عرفة: وانظر أبا حيان فكلامه فيها طويل باسط من هذا. قوله تعالى: (أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ). أخذوا منها تقبيح الردة على الكفر الأصلي، وقد فرق الشارع بينهما بأن الكافر يقر على كفره بضرب الجزية عليه، والمرتد لَا يضرب عليه الجزية، وهذه الآية صريح في أنها خطاب للمسلمين. وقال الفخر: إذا كانت لَا زائدة لتأكيد النفي، فالمعنى قال: إنما ذكره الزمخشري: إذا كانت زائدة فهو خطأ، وقولهم: إنها خطاب للكفار يحتاج فيه إلى

(81)

تأويل، قوله (مسلمون) فإنهم قائلون للإسلام، أو لحديث، "كل مولود يولد على الفطرة". وقال الفخر: احتج بها ... على أن العلم إذا حصل لَا يرتفع أصلا ولا يمكن ضرورته جهلا بوجه، فرده ابن عرفة بأن مذهبنا أن الله يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد فقد يخلق في قلبه العلم، ثم يسلبه عنه، وأيضا فإذا حصل العلم فاتفقنا على أن بقاؤه جائز، لَا واجب، وإذا جاز بقاؤه جاز رفعه. قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ ... (81)} قال ابن عرفة: لما تضمن الكلام السابق براءة الرسل من مطلبهم أن يكونوا معبودين من دون الله، بقوله: (مَا كَانَ لِبَشَرٍ) إلى آخر الآية عقيه بما يؤكد ذلك وهو الإخبار بأن الله أخذ عليهم العهد أن يبلغوا الكتب، والوحي، والإيمان بمحمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وأخطأ ابن عطية فيما حكى عن مجاهد في قوله: هكذا من القرآن وغيره خطأ، ولا يحل كتب ذلك ولا نقله، وفي مثله كانوا يخونون ابن عطية، والزمخشري أجاد فلم ينقل هذا وذكرها في الآية أربعة أوجه: أحدها: وإذا أخذ الله الميثاق وعلى النبيين. الثاني: المراد الميثاق الذي وثقه الأنبياء على اسمهم. ابن عرفة: فالمصدر على الأول مضاف للمفعول، وعلى الثاني للفاعل. والتأويل الرابع: بعيد وهو أن المراد بالنبيين أهل الكتاب تهكما بهم؛ لأنهم قالوا: نحن أولى بالنبوة من محمد. قوله تعالى: (لَمَا آتَيْتُكُمْ).

(82)

فيها وجوها: أحدها: شرطية مفعول وتكلفوا في الجملة ضميرا يعود عليها. ابن عرفة: لَا يحتاج إليه؛ لأن الشرط إذا كان مفعولا لم يحتج إلى ضمير، وإنما يحتاج إليه إذا كان مبتدأ، وذكروا إذا كانت موصوله إن هناك ضمير تقديره ثم حاكم رسول به. ورده ابن عرفة: بأن العائد المجرور، لَا يجوز حذفه إلا إذا كان هناك ضميره غيره مجرورا يمثل الحرف الداخل عليه والعاملان فيها مبتدآن لفظا ومعنى، وذكروا أيضا أن الرابط ضمير مستتر في قوله: (مَعَكُم) ورده ابن عرفة: بأن ذلك الضمير إنما يعود على الثانية لَا على الأول. ابن عرفة: وفي الآية التفات من الغيبة في النبيين للخطاب في مفعول (آتيتكم) إلا أن يقال: إنه حكاية لما تقدم، لَا أنه نفس لما تقدم فليس بالتفات. قوله تعالى: (قَالُوا أَقْرَرنَا) الإقرار على أنفسهم، والشهادة على غيرهم، وفي قوله تعالى: (وَأَنَا مَعَكُم) تشريف للقائم بالشهادة. قوله تعالى: {فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (82)} إما أن يريد الحصر، أو هم العاملون الفسق. قوله تعالى: {أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ ... (83)} ابن عرفة: عادة الطلبة يقولون: لم قال (أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ) ولم يقل: أخلاف دين الله مع أن الخلافين أخص من الغيرين، لأن الغيرين يصدقان على المثلين والخلافين، وأجيب: بأن ذلك في الإثبات والاستفهام هنا على سبيل الإنكار، وهو معنى النفي، ونفي الأعم يستلزم نفي الأخص، كما قالوا: (فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ). قوله تعالى: (طَوْعًا وَكَرْهًا). وقال في البقرة (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ)، وفي النساء (لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا) الكُره بضم الكاف هو البغض ضد الرضا، والكَره بفتحها هو الإكراه عند الطوع. قوله تعالى: {وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا ... (84)}

(85)

أنكر الزمخشري: تفريق من فرق بأن على مقتضي أوائل الإنزال وإلى انتهاءه وآخره. ابن عرفة: وهو صحيح؛ لأن هذه الآية خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم وحده، فالقرآن أول ما نزل عليه فناسب تعديته بعلى، وآية البقرة خطاب له ولأمته، والقرآن لا ينزل عليهم بل نزل عليه وتلقاه أمته منه فناسب إلى النفي لانتهاء الغاية، وكرر (وَمَا أُوتِيَ) في البقرة، ولم يكرر هنا؛ لأن آية البقرة خطاب لجميع النَّاس واحتيج فيها إلى تأكيد الأعم وتكراره، وهذا خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم وحده، فلم يحتج فيها إلى تأكيد الأمر، لأن أدنى شيء من التكليف كان في حقه. قوله تعالى: (لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ). أي في الأحكام الاعتقادية لَا في الأحكام الشرعية، لأن ثواب شرائعهم بينهم مختلفة، ومنهم من قال: لَا نفرق بينهم في التفضيل كما ورد "لَا تفضلوني على يونس ابن متى، ولا تفضلوني على موسى" وهو مردود، بقوله تعالى: (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ). قوله تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا ... (85)} حمله الزمخشري على التوحيد وإسلام الوجه لله. ابن عرفة: والظاهر حمله على دين الإسلام المحمدي؛ لأن الشرط يقتضي الاستقبال، وليس بعد نزول الآية من دين الإسلام إلا الملة المحمدية، وفي الآية ترجيح لمذهب ابن حبيب، القائل: بإلحاق الزكاة وسائر أخوات الصلاة بالصلاة، في أن تاركها كافر، لقوله في الحديث: "ما الإسلام، قال: أن تشهد أن لَا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا"، وقال: (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ) قيل لابن عرفة: هناك لمن تركها، والآية تقتضي من طلب غير الإسلام، وقصد ذلك وتهاون به فقال: بل هي عامة، وقال ابن الخطيب: احتج بها من يقول إن الإسلام بمعنى الإيمان إذ لو كان غيره لزم أن يكون الإيمان غير مقبول، وأجيب بأنه غيره لكنه أعم من الإسلام فلا يقبل الاتصاف بالأعم فقط، مع التمكن من الأخص، وأجاب ابن عرفة: بأن يقول:

(86)

الإسلام هنا بمعنى الاستسلام والانقياد، وليس هو الإسلام الشرعي، كما قال الزمخشري. قوله تعالى: (وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ). ذكر في إعرابه وجها، وزاد ابن عرفة: أن (فِي الآخِرَةِ) خبر المبتدأ، و (مِنَ الْخَاسِرِينَ) في موضع الحال، والحال من تمام الخبر ففي لازمة إذ بها تحصل الفائدة. قوله تعالى: {كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا ... (86)} (كَيْفَ) سؤال عن حال، أي ليس لهم حال يهمون فيها، ولما انتفت حال اهتدائهم انتفت هدايتهم، أي لَا يهتدون في المستقبل إلا أن يتوبوا، وليس المراد أنهم لا يهتدون حين كفرهم لئلا يلزم عليه تحصيل الحاصل، كقولك: كل كاتب محرك يده حين هو يكتب. قوله تعالى: (وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ). مغ ابن عطية النسخ في الآية، قلت: يريد لأنه خبر والخبر لَا ينسخ. قوله تعالى: {أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ ... (87)} الإشارة بلفظ البعيد للقريب للتعظيم في بابه تحقيرا لما اتصفوا، واللعنة مختلفة بالفعل، ولعنه النَّاس والملائكة بالقول، ابن عطية: والنَّاس إذا آتت مطلقة فهي خاصة ببني آدم، وإذا قيدت بالجمع فجاز والنَّاس هنا إما خاص بالمؤمنين، وإما عام والمعنى أنهم في الآخرة يلعنهم المؤمنون ويلعن بعضهم بعضا، وكل من هذه صفته يلعن صاحب هذه الصفة ولا يشعر أنه متصف بها فيلعن نفسه من حيث لا يشعر، واستبعده ابن عرفة: أن جعلت الضمير في: (خَالِدِينَ فِيهَا) عائد على اللعنة؛ لأنه لَا يلعن نفسه دائما، بل في بعض الأوقات، وإن أعدناه إلى النار فيصح. قوله تعالى: {لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ ... (88)} ابن عرفة: الصواب عندي أن يوقف على (لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ) لأنك إذا وصلته لم يكن في قول: (وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ) فائدة الإلزام الأول، فإذا وقفت وابتدأت به كان معطوفا على مقدر، أي لَا ينصرون ولأنهم ينظرون، أي لَا ينصرهم أحد فيزيله

(89)

عنهم، ولا يؤخر عنهم العذاب عن وقت حلوله بهم، فإذا حل بهم يخلدون فيه، ولا يخفف عنهم. قوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ ... (89)} أي بادروا في أول أزمنة البعدية (وَأَصْلَحُوا) أي داوموا على التوبة، وإلا فالتوبة تستلزم الإصلاح. قوله تعالى: (فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ). من إقامة السبب بمقام مسببه، أي فإن الله يتوب عليهم، ويقبل توبتهم لأنه غفور رحيم. قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ... (90)} قال الزمخشري: هم اليهود آمنوا بموسى ثم كفروا بعيسى، ثم كفروا بمحمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم عليهم آباؤهم الذين مضوا، ففيه تخليط الأسلاف بالمخاطبين، وأجاب ابن عرفة بأن الآية فيهم لَا في أسلافهم، وهم متبعون لأسلافهم في الإيمان بموسى والكفر بعيسى، ثم ازدادوا عليهم بكفرهم محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم عليهم آباؤهم الذين مضوا ففيه تخليط الأسلاف بالمخاطبين، وأجاب الزمخشري: وكفروا محمدا بعدما كانوا مؤمنين قبل بعثه وازدادوا كفرا بإصرارهم على ذلك، وطعنهم فيه ونقضهم ميثاقهم، والإضافة في قوله تعالى: (بَعْدَ إِيمَانِهِمْ) إما لتحقيق وقوع الإيمان منهم فنفى كفرهم بعده زيادة شناعة عليهم، أو لضعف الإيمان الواقع منهم، والأول أنسب. قوله تعالى: (ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا). إن قلت: قد تقرر أن اجتماع المماثلات باطل فكيف يصح كفر مع كفر مثله؟ فالجواب: أنه يصح باعتبار المعلقات فكفروا أولا بعدم التوحيد، ثم ازدادوا بادعاء التجسيم، ثم نسبوا إليه الابن ثم إلى غير ذلك، فإن قلت: لَا يلزم من زيادة أحد هل يؤخذ منها أن الإيمان، يزيد وينقص؛ لأن ضده وهو الكفر يزيد وينقص، قلنا: لا يلزم من زيادة أحد النقيضين زيادة الآخر، ولاسيما إذا قلنا أن الزيادة والنقص أمر جعلي شرعي، وليس بعقلي. قوله تعالى: (لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ).

(92)

تأوله ابن عطية: بأمرين: أحدهما: إما لَا توبة لهم فتقبل، مثل على لاحبٍ يهتدي بمناره، وأما إن كان عند العز عزه والمعاينة، زاد الزمخشري أنها كناية عن عدم إيمانهم، مثل: فلان كثير رماد القدر فهو من إقامة المسبب مقام السبب، أي يؤتون كفارا فيدخلون في جملة من لا تقبل توبته، والآية في قوم معينين من اليهود؛ لأن منهِم من أسلم وحسن إسلامه، فإن قلت: لم أدخل الفاء في قوله: (فَلَنْ يُقبَلَ مِنْ أحَدِهِم) ولم يدخلها لن تقبل توبتهم، فأجيب: بقوة السببية، وظهورها في الآية الثانية دون الأولى، لأن موتهم كفارا سبب في عدم قبول الفدية منهم وكفرهم النبي سبب في عدم قبول توبتهم، بدليل ما قالوا من أنها في قوم مخصوصين؛ لأن هناك من أسلم وحسن إسلامه، وقبلت توبته، قال ابن عرفة: واستعمل في الآية شبه مقدمتين صغرى وكبرى، فكأنه قال (الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا) يموتون كفارا، وكل من كفر ومات كافرا لا تقبل منه الفدية بملء الأرض ذهبا. قوله تعالى: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ (92)} قال ابن عرفة: في الآية تخفيف وتشديد، والتخفيف من قوله تعالى: (مِمَّا تُحِبُّونَ) ولم يقل: من أحب الأشياء إليكم فيتناول ذلك النفقة من المحبوب والأحب والصحابة، إنما كانوا ينفقون من الأحب لمحافظتهم على أسنى الدرجات، والتشديد في النفي بلن وهي أبلغ من لَا، وفي تعليق الغاية بحتى المقتضية دخول ما بعدها فما قبلها دون إلى الغير مقتضية للدخول وهذا مثل قوله تعالى: (وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ) واختلفوا في البر، فقيل: هو درجة الكمال، أي لن تكونوا أبرارا، وقيل: هو الجنة، وقيل: هو الثواب. ابن عرفة: فإن قلنا: به درجة الكمال، فظاهر، وإن قلنا: المراد به الجنة أو الثواب فيبقى السؤال فيمن أنفق مما يكره كمن يكره الموز والرمان فيتصدق بهما مع أن له الثواب، فلا بد أن تكون الألف واللام للعهد، والمراد الخاص، وهو ثواب خاص لَا مطلق الثواب، فلذلك عرفه بالألف واللام. قوله تعالى: (وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ). اعتراض خشية أن يتصدق بشيء محبوب عند النَّاس وهو يكرهه ويظهر أنه المحبوب له لينال هذا الثواب الخاص، فإن الله به عليم بما في نيته وكذلك من يتصدق

(93)

بشيء ويكون النَّاس يكرهونه، وهذا كله بحسب حال المتصدق ونيته فرب محبوب له مكروه والعكس، قال الفخر: هذا يدل على أن النفقة من المحبوب واجبة. ابن عرفة: إنما يقتضي الوجوب الذم على الترك لَا تعليق على الثواب الخاص. قوله تعالى: {كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ ... (93)} قال ابن عرفة: عادتهم يقولون (كُلُّ) من ألفاظ العموم وإدخالها على النكرة أبلغ في إفادة العموم، فهلا قيل: كل طعام كان حلا، وأجيب بوجهين: الأول: قال ابن عرفة: عادتهم يجيبون بأن الألف واللام للجنس فأدخلت (كُلُّ) هنا لتأكيد العموم، وصار كتكرار اللفظ مرتين فكأنه قيل: (كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا). الجواب الثاني: قال بعض الطلبة لابن عرفة: الألف واللام للعهد أي كل هذا الطعام المعهود لكم الذي حرمه يهود زمانكم كان حلا لأسلافهم من بني إسرائيل. قوله تعالى: (إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ). ابن عطية: وانتزع من هذه الآية أن للأنبياء أن يحرموا باجتهادهم على أنفسهم ما [اقتضاه*] أو للمصلحة من جهة، ومن هذا تحريم النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم مارية على نفسه فعاتبه الله في ذلك، ولم يعاتب يعقوب عليه السلام، فقيل: إن ذلك [لحق آدمي ترتب في نازلة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم*]، وقيل: إن هذا تحريم تقرب وزهد، وتحريم الجارية تحريم غضب ومصلحة نفوس. ابن عرفة: هذا كلام خلف لَا ينبغي نقله ولا اعتقاده في حق النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، والصواب: ما كان بعض المشايخ يقول في سبب هذا على جهة المثال أنه بمنزلة رجلان يحبهما معا لكنه محبته لأحدهما أكثر فحرما معا على أنفسهما طعاما لذيذا، فإن الولد قد يعاتب الأحب إليه منهما على تحريمه ذلك، وحرمانه نفسه منه، ولا يعاتب الآخر، فلذلك عاتب الله محمدا صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ولم يعاتب يعقوب صلى الله عليه وعلى آله وسلم على تحريم الطعام. قيل لابن عرفة: إن رجلا قال: أي شيء رأى يعقوب عليه الصلاة والسلام في تحريم هذه الأشياء على نفسه التي هي العروق ولحوم الإبل وألبانها فقال: ينهى عن ذلك القول فقط، ويقال: لَا يتعرض للأنبياء عليهم السلام.

(94)

قوله تعالى: {فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ ... (94)} ابن عرفة: الظاهر أن هذه الجملة مرتبطة بما قبلها لدخول الفاء فيها، قال: وفي الآية تخفيف وإشهار لسيفه -رحمه الله تعالى- بوجهين: أحدهما: (مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ) فيها إشارة إلى العفو فمن تاب من هؤلاء اليهود بخبر هذا الإقرار، ورجع عن مقالته بتحريم ما حرموه، وإنما ينال هذا الوعيد من دام على ذلك من بعد هذا البيان المقتضي لتحليل كل الطعام. الثاني: تعريف الكذب، ولم يقل كذبا فهو الوعيد خاصا بمن افترى كذبا خاصا، وهو الكذب على الله في أن ينسب إليه تحريم ما حرمه، أي فمن افترى على الله بعد هذا البيان، ذلك الكذب المتقدم منهم قبل هذا البيان. قوله تعالى: {قُلْ صَدَقَ اللَّهُ ... (95)} ابن عرفة: الظاهر أنه خطاب للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ولكل مؤمن؛ لأن هذه أمور واضحة ظاهرة لكل مؤمن، وقوله: (صَدَقَ اللَّهُ) على حذف مضاف، أي صدق رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، كقوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ) لأنهم ما ادعوا قط نسبة الكذب إلى الله. قيل لابن عرفة: وكيف يخبر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بالصدق عن نفسه؟ فقال: هذا شبيه من يدعي دعوى ثم يدعي عليها بمقدمتين، ثم يقول فقولوا كذا وكذا أحق؛ لأن الخصم إذا سلم له المقدمتين فقد وافقه على صحة النتيجة. قوله تعالى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ ... (96)} الأول قيل: هو الذي لم يسبقه بشيء، وقيل: هو السابق غيره، قال الفخر: فلو قال [أَوَّلُ عَبْدٍ أَشْتَرِيهِ من هذين حر، فاشتراهما معا*]، وقال في المدونة في كتاب العتق إذا قال لأمته أول ولد تلديه حر فولدت توأمين، أنه يعتق الأول منهما، فإِن قال أول ولد تضعيه فوضعت توأمين أنهما يعتقان. قوله تعالى: {فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ ... (97)} ابن عرفة: أي علامات على ما بين من كونه (مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ) والظاهر أن المقام إبراهيم ما منح الله تعالى البيت من أن إبراهيم دعا فيه فأستجيب، ونفى

ابن [ ... ] ذلك في النَّاس، فكل من دعا فيه يستجاب له في الغالب وهي خصوصية ليست في غيره، قال ابن الخطيب، [ومن آيات*] الحج، فرده ابن عرفة: بأن من أركان الحج الوقوف بعرفة، وهي في الحل، فليس الحج من آياته الخاصة به، ابن عطية: قال يحيى بن جعدة، أي ومن دخل البيت كان آمنا من النار. ابن عرفة: أي ومن دخله مؤمنا، ومن قتل واستجار به فإنه يقتل عند مالك، ابن عطية: ومن آياته البينات زمزم، وفي منعها لهاجر [بهمز*] جبريل الأرض بعقبه، وفي حفر عبد المطلب لها آخرًا بعد دثورها بتلك الرؤية المشهورة، وبما نبع من الأبيض الماء تحت خف ناقته في سفره إلى منافرة قريش ومخاصمتهما في [أمر*] زمزم، وذكر ابن إسحاق [القصة*]، قلت: روي في السير أن عبد المطلب رأى في نومه في الحجر أربع مرات قائلا يأمره بحفر زمزم، وقال له في الرابعة: احفر زمزم لَا تنزف أبدا ولا تذر تسقي الحجيج الأعظم، وهو بين الفرث والدم عند نقرة الغراب الأعصم عند قرية النمل، [**قال ابن شهاب الدين: فجرت بقرة بالجزيرة، فقامت وأعلنت ورمت بنفسها في موضع زمزم، فلما أحمل لحمها أقبل أعصم وهو الأبلق ينقر فيه، ومحت على قرية النمل فحفر فيه عبد المطلب، فلما بدا له الطير كبر ... من اشتراك قريش فيها فطلبوا التحاكم معه عند كاهنة بني سعد بن هزيم بأشراف الشام وخرجوا والأرض ... لَا ماء فيها فقرع ماء آل عبد المطلب ومنعهم قريش من مائهم فحفروا لأنفسهم قبورا ينزلون فيها أن ماتوا، ثم بدا لهم فارتحلوا، فلما انبعث بعير عبد المطلب راحله ففجر من تحتها عين من ماء عذب فكبر عبد المطلب واستقر هو وولده وقريش، ثم قالوا: قد والله قضي لك علينا، فارجع إلى سقايتك فهي لك]. قوله تعالى: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا). لما تضمن الكلام السابق التنبيه على بركة البيت، كان ذلك كالسبب الحاصل على حجة وأعمال السفر إليه، وإن كان معظم الحج عرفة كما في الحديث "الحج عرفة" لكن إنما ذلك لأجل أن عرفة له وقت معين يفوت بفواته نحوا لَا ترى أن من أحصر عن الوقوف فهو محصر، ومن أحصر على الحج فليس بمحصر ولا يحله إلا البيت. قال الزمخشري: ودلت الآية على تأكيد الحج من أربعة أوجه: الأول: لفظه على. والثاني: عموم النَّاس.

والثالث: إبدال قوله: (مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا). والرابع: قوله تعالى: (وَمَنْ كَفَرَ). فتارك الحج كأنه كافر، ومنهم من زاد قوله تعالى: (غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ) ابن عرفة: وكان بعضهم يريد فيها وجها خامسا، وهو إسناد ذلك إلى كلمة الجلالة إلا أنا نفرق بين قول السيد لعبده افعل كذا، وبين قوله ... أن تفعل كذا فإن هذا أبلغ في الدلالة على الاعتناء بذلك الأمر والاهتمام به، وقال: وهذا أيضا أبلغ من صريح الأمر، لأن صريح الأمر يختلف فيه هل هو للوجوب أو للندب؟ وهذا لَا خلاف فيه أعنى لفظ علي، وذكر عبد الحق في تهذيب الطالب عن بعضهم أن من شرط الاستطاعة وجود الماء في كل سهل ابن عرفة: ومعناه عندي وجوده كتاب منهله ينفذ فيها ماء الأخرى إما إذا كانت بحيث يصل إليها غالبا، فلا وحكى ابن الخطيب: اختلاف المتكلمين هل اختلاف الاستطاعة مع العقل أو قبله؟ قال: والآية حجة لمن يقول: إنها قبله. ورده ابن عرفة بإن الاستطاعة تطلق على معنيين، فتارة بها التمكن من الفعل كقولك: زيد القاعد مستطيع على القيام، فهذه لَا خلاف أنه لَا يشترط فيها المقارنة، وليست هي المصطلح عليها عند المتكلمين، وتارة يراد بها القدرة على الفعل، فهذه هي التي تعرض لها الأصوليون، وذكر فيها الخلاف، والآية من القسم الأول، واختلفوا هل الحج على الفور أو لَا؟ ابن عطية: واحتج بها القائلون بالتراخي بوجهين: أحدهما: استئذان الأبوين فيه العام والعامين، أجيب: بأن طاعتها واجبة فتعارض واجبان ورد بمنع ذلك بل هو من تعارض واجب ومندوب. الثاني: خرج اللخمي الوجوب من قول مالك: في المرأة يموت عنها زوجها، فتريد الخروج إلى الحج، أنها لَا تحج في أيام عدتها. ورده ابن عرفة: بأن العدة سابقة ولا يمكن طلاقها، والحج يمكن تلاقيه، قيل: بل وجوب الحج سابق على العدة، فقال: يفرض أنها بغت في العدة فسبق وجوب العدة على وجوب الحج، وأما المرأة إذا كان معها ذو رحم منها محرم وجب عليها الخروج، وكذا حكى الباجي عن مالك: إذا كانت في رفقه مأمونة، وفي سماع أشهب في الحج الثاني يسأل عن خروجها مع ختنها، وقال: تخرج مع جماعة النَّاس، ابن

(98)

رشد: لم ير لها ذلك، لأن ختنها ليس من ذوي محارمها، إذا كانت حلالا له قبل أن يتزوج ابنتها، ومثله في سماع ابن القاسم [من كتاب*] النكاح من [كراهته*] سفر الرجل مع [زوجة أبيه أو مع*] ابنه، وحمل مالك حديث: "لَا تسافر المرأة مسيرة يوم وليلة إلا معها ذي محرم منها" على السفر المباح والمندوب إليه دون السفر الواجب لإجماعهم على أن المرأة إذا أسلمت من بلد الحرب لزمها الخروج إلى بلد الإسلام، وإن لم يكن معها ذو محرم منها فأوجب على المرأة الحج، وإن لم يكن معها ذو محرم يحج بها خلافا لأهل العراق، وفي قولهم إن فرض الحج حافظ عنها بعدم ذي الرحم، انتهى. وحكى ابن العربي قولا في المذهب بوجوب الحج وتكرر وجوبه، بعد خمس سنين، الزمخشري: وروي "حجوا حجا قبل أن لَا تحجوا"، قبل: أن يمنع البر جانبه يعني بسبب إخافة الطريق، وعن ابن مسعود: "حُجُّوا [هَذَا الْبَيْتَ*] قَبْلَ أَنْ تَنْبُتَ فِي [الْبَادِيَةِ*] شَجَرَةٌ لا تأكل منها دابة إلا هلكت، وهذا لم يقع، وعن عمر لو ترك النَّاس الحج عاما واحدا ما نظروا بعين ولو تمالوا على تركه كلهم لعجلوا بالعقوبة، ولم يؤخروا. قوله تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ ... (98)} قال ابن عطية: الكتاب التوراة، وجعلهم أهل [بحسب زعمهم ونسبهم*]، وإلا فأهله على الحقيقة هم المؤمنون. ابن عرفة: أو سماهم أهله لنزوله على النبي، الذي هم متبعونه. قوله تعالى: (لِمَ تَكْفُرُونَ). قال ابن عرفة: في إتيان الفعل بلفظ المضارع دون الماضي رحمة ومنهم بقبول توبة من تاب منهم، ورجع عن كفره. قوله تعالى: (وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ). ابن عرفة: هذا دليل على تعلق علم الله تعالى بالجزئيات والكليات، قيل له: فالشهادة عندك هنا بمعنى العلم لَا معنى الإنظار والنظر، فقال: نعم وهو دليل على تسمية ما في القلب عملا.

(99)

وكذلك قال القرافي: أنه يسمى عملا، ولا يسمى فعلا، ولذلك قال الفخر: في قوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم "إنما الأعمال بالنيات" أجمعوا على أنه يشتق من ذلك شيئان، النية والنظر، قالوا: وأما ما مصدرية، أو موصولة بمعنى الذي. ابن عرفة: والظاهر أنها مصدرية لأنه أبلغ في كمال علم الله تعالى، لاقتضاء، إنها تعلقت بالمعاني، وأن العقوبة إنما هي على نفس العمل لَا على متعلق العمل. قوله تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ ... (99)} قيل لابن عرفة: قلتم إن الاستفهام هذا للإنكار والتوبيخ، وأنه يتنزل منزلة النفي، ونفي الأعم يستلزم نفي الأخص، والتوبيخ على الأدنى يستلزم التوبيخ على ما فوقه، فوبخوا أولا على معصية قاصرة وهو كفرهم في أنفسهم، فلا فائدة في توبيخهم على تسببهم في كفر غيرهم، فقال: التوبيخ هنا مسود بالنفي عليهم بأفعالهم القبيحة، ولا شك أن قولك للشخص: لم تسرق أخف من قولك: لم تسرق وتزني، لأن الثاني أبلغ في القبح. قوله تعالى: (تَبْغُونَهَا عِوَجًا). قال الزمخشري: فإن قلت: كيف (تَبْغُونَهَا عِوَجًا) وهو محال. قال ابن عرفة: ليس محال بوجه، لأنه إما أن يريد أنه محال في نفس الأمر، فاعوجاجه محال، وإن أراد في اعتقادهم فالواقع خلافه؛ لأنهم قد لبسوا على بعض المؤمنين، وحسبوا فليس بمحال بوجه إلا أن يريد أن كفرهم عنادا فهم يعتقدون حقيقة ذلك، ويطلبون العوج فيه. قيل لابن عرفة: لعله يريد إن كان الاعوجاج عندهم حاصلا فطلبهم له تحصيل الحاصل، وإن كان غير حاصل فهو محال لَا يصح طلبه، فقال ابن عرفة: يمنح ذلك بل هو غير حاصل، وهو ممكن الحصول عندهم، وفي اعتقادهم فطلبه ليس محال، ثم أجاب الزمخشري: عن السؤال بجوابين.

(100)

وقال الزمخشري: في سورة طه في قوله تعالى: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا (105) فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا (106) لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا (107) .. أنه إنما أسند العوج إلى الأرض، وإن كان حسيا؛ لأن الأرض، وإن كانت مستوية في رؤية العين، فقد يكون فيها اعوجاج خفي لَا يدركه البصر. ابن عرفة: ولذلك نشاهد الصناع من النقاشين والبنائين في فرش الدور وغيرها في السطح المستوي يزنونه بالماء فيظهر لهم فيه الميل والعوج، وإن كان في رؤى العين مستقيما. قوله تعالى: (وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ). قال ابن عرفة: إشارة إلى غفلتهم عن نزول العذاب بهم، أي لَا يتوهموا أن إمهال الله لكم بالعقوبة غفلة منه عنكم، بل هو يعلم منه بتأخير ذلك إلى يوم القيامة، وقال في الأولى: (وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ) لأن الأول أخف من الثاني، فرتب عليه الوعيد الأخف، وأجاب الفخر: بأن كفرهم ظاهر [وعنادهم] عن سبيل الله، إنما كان في [خفية*] بالحيلة والدس، فناسب تعقبه، بقوله تعالى: (وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) وهو جواب حسن. قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ ... (100)} قال ابن عرفة: الطاعة موافقة الأمر، [**وهي لم تقع منهم للمؤمنين، وإنما كان مساو بحسبما وحيله فلم أطلق عليه اتباعه طاعة؟ ثم أجاب بوجهين، إما بأن المراد أن توافقهم في الأمر المتوكد (يَرُدُّوكُمْ)]، وإما أن يكون أطلق عليه أمرا مجازا، أو يجوز في لفظ الطاعة. قوله تعالى: (يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ). إن الذين يردونهم إيمانهم الفرق المجيبون لهم فالضمير إما عائد على الفريق باعتباره معناه، أو على الذين كفروا، وإما من ناحية أنهم إذ أطاعوا رؤسائهم صاروا من حزبهم ومن قومهم، فكان الجميع يردونهم عن دينهم، فإن قلت: ما فائدة قوله: (بَعْدَ إِيمَانِكُمْ) مع أن قوله للذين آمنوا يعني عنه، فالجواب: أنه ذكر زيادة في تقبيح ذلك الفعل. قوله تعالى: {وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ ... (101)}

(102)

هذا شبه ما قالوا في استثناء عين المقدم، فقال: إن تطيعوا أهل الكتاب تكفرون، لأن كفركم حال وجود الآيات معكم والرسل محال فطاعتكم أهل الكتاب، وهذا إن قلنا: إن استلزام الدليل للمدلول، أو المتقدمين للتنحية عقلي فظاهر، وإن قلنا أنه عندي فكذلك أيضا يقول: كفرهم حالة سماعهم الآيات ومشاهدتهم لها محال، قال ابن الخطيب: وهذا تعجب منهم. ابن عرفة: إنما هو استبعاد لأن التعجب إنما يكون من أمر واقع خفي سببه، هذا لم يقع بوجه، فإنما هو استبعاد. قوله تعالى: (وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ). العصمة في اللغة مطلق الامتناع، وفي الاصطلاح عند الأصوليين امتناع خاص، فكان الشيوخ مختلفون في جواز الدعاء بالعصمة، فمن حملها على المعنى اللغوي، أجازا الدعاء بها، ومن نظر للاصطلاح منع ذلك وخصصها بالأنبياء. قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ ... (102)} قال ابن عطية: نزلت في قصة الأوس والخزرج. وقال ابن عرفة: إنما هو لنفي وقوع ما يتوهم مما تضمنت القضية الشرطية المتقدمة فرض وقوعه، وهي أن تطيعوا فتضمنت هذا الأمر بلزوم تقوى الله تعالى، واستدامتها حتى لَا يقع منهم طاعة للكفار بوجه، وفسرها ابن عطية بثلاثة أوجه: إما أن المراد اتقوه التقوى اللائقة به كقولك للأمير الواحد: أطعني على قدرتك، فيلزم عليه تكليف ما لَا يطاق فتكون الآية منسوخة، أو المراد عموم التقوى بالإطلاق فتكون مخصوصة بقوله تعالى: (فَاتقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) أو المراد التقوى المستطاعة فتكون مساوية لتلك الآية سواء زاد ابن عرفة: وجها رابعا وهو أن المراد اتقوا الله واجب تقاته، أي اتقوه فيما أوجب عليكم فيتناول الأمور الواجبة، ويخرج عنه الندب، فتكون هذه الآية أخف من قوله: (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُم). وعلى ما قال ابن عطية: إما أشد منها، أو مساوية. قوله تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا ... (103)}

ابن عرفة: قال بعضهم ولا تفرقوا تأسيس؛ لأن الأمر لَا يقتضي التكرار ولا الدوام، فيصدق بفعله وفناها والنهي يقتضي الانتهاء دائما، وإن قلت: إن الوقت يقتضي التكرار فيكون فيه دليل على أن الأمر بالشيء ليس نهيا عن ضده. وقال ابن عرفة: وهذا في الأحكام الاعتقادية. ابن عرفة: وفيه ترجيح لقول الغبريني القائل بأن كل مجتهد في العقليات مصيب. ابن عرفة: وإن قلنا: إنها في الأحكام الشرعية فيكون فيها دليل على ترجيح الاتفاق على الاختلاف، وأنه مهما أمكن رد أقوال العلماء إلى الآية نسق كان الأولى. قوله تعالى: (وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ). قال ابن عرفة: هذا كما يقال: يصدق تبين الأشياء، وذلك أن من أكل طعاما فأمرضه، ثم صح فانتهى من ذلك الطعام، واستحضر ما ناله من الألم، وعلم أنه إن أكله يعود له مرضه، فإنه يجتنبه ويترك شهوته، وكذلك هؤلاء الأوس والخزرج كان بينهم في زمن كفرهم تباغض وقال: بغي فأنعم الله عليهم بالإسلام الرافع لذلك المثبت للمحبة وزوال البغض وتألفوا الكلمة فإذا استحضروا هذا ذكروه علموا أنه ضد الإسلام، وهو الكفر موجب لضد ذلك، وهو الشأن والبغضاء، فيكون ذلك سببا في ثبوتهم على دينهم وعدم تفرقهم. ابن عرفة: (وَاذْكُرُوا) هو العامل في إذ عمل الفعل في المفعول، فيكون إذ بدلا من نعمة لأن اذكروا إنما يتعدى إلى مفعول، وقد أخذه. قيل لابن عرفة: نقل بعضهم عن الشلوبين، أن إذ يكون تعليلا، وهو هنا مناسب فعلها للتعليل فقال: العلة غير المعلول، والنعمة هنا هي نفس التآلف بينهم، وذهاب العداوة. قوله تعالى: (وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا). قال ابن عطية: إما عائد على (شَفَا) أو على (حُفْرَةٍ) أو على (النَّارِ). ابن عرفة: والمعنى يرجح عوده على (شَفَا)؛ لأن إلإنقاذ من الشيء يقتضي تقدم حصول فيه، وهم لم يحصلوا قط في النار، ولا في حفرها، ولكن في شفا الحفرة. ابن عرفة: والآية تضمنت تذكريهم في الامتنان عليهم بأمرين ضروري ونظري، فالضروري (إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا) لأنه أمر واقع

(104)

في الدنيا مشاهد لهم لَا يخالفون فيهم، والنظري: (وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ) فإنه أمر معيب لَا يعلم إلا بالنظر والاستدلال فعطفه على الأمر الضروري يقتضي التسوية بينهما، وأنهم كما علمتم هنا ضرورة فاعلموا الآخر ضرورة. قوله تعالى: (لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ). قال الزمخشري: أي إرادة أن تهتدوا فاعتزل؛ لأنه جعل الله تعالى أراد هداية جميعهم مع أن منهم من عصى، ولم يهتد، فالصواب أن لعل للترجي، وهو مصروف للمخاطب أي حيث بترجى هدايتكم من يعلم مشاهدتكم لهذه الآية. قوله تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ ... (104)} ابن عرفة: الأمر متعلق بالجميع، ويسقط بفعل البعض، أو متعلق ببعض غير معين، قلت: انظر التلمساني شارح المعالم الفقهية بالمسألة التاسعة من باب الأوامر. ابن عرفة: وهل يسقط بنفس الشروع فيه أو بعد تمام فعله، فقال: إنه لَا يسقط عن البعض إلا بعد فراغ البعض الآخر من فعله واستدل بقولهم: فيمن شرع فيه إنسانا فعل الأول أنه لأنه يلحق به ويكون كفاعلة ابتداء واختيارا. ابن عرفة: أنه بنفس شروع البعض فيه يسقط فرضه عمن بقي واحتج بقوله: في المدونة في كتاب الجنائز، وإذا حدث أمام الجنازة استخلف من يقم بهم باقي التكبير، فإن توضأ وأدرك بعض التكبير كان في سعة إن شاء رجع، أو ترك فكونه خير بين الرجوع والترك قيل: فراغ المستخلف منها دليل على أن فرضها سقط بنفس الشروع فيها بالمعروف فيما طريقة الندب، فحكى إمام الحرمين فيه في الشامل قولين: وذكر ابن بشير لما تكلم على صلاة الوتر. ابن عرفة: وهذه أحد المسائل المذكورة في علم أصول الدين، أعني وهي ومسألة الإمامة، ومسألة التسعير في الطعام. قال الزمخشري: لَا يصح الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلا ممن علم بالمعروف والمنكر، فالجاهل قد ينكر على من لَا ينفع الإنكار في حقه كالإنكار على أصحاب المياصر والجلادين. ابن عرفة: المياصر جمع ماصر أو حبل أو سلسلة توضع على الطريق، والنهر يحبس بها المارون، أو السفن، كما يفعل المكاسون والعشارون.

(105)

ابن عرفة: والجلادون هم الذين يجلدون النَّاس بالأسواط، ويقطعون الأيدي. قال الزمخشري: والأمر بالمعروف تابع للمأمور به، إن كان واجبا فواجب، وإن كان ندبا فندب، فأما النهي عن المنكر فواجب كله، لأن جميع المنكر تركه واجبا لاتصافه بالقبيح، قال بعض الشيوخ يلزمه أيضا أن يقول المعروف فعله واجب، لأنه حسن فيصير الندب واجبا لأنه حسن. قوله تعالى: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا ... (105)} قال ابن عرفة: فيها سؤال، وهو ما الفائدة في قوله: (وَاختَلَفُوا) مع أن تفرقهم يشعر باختلافهم، لكن إن قلنا: إن تفرقهم بالأديان واختلافهم في المذاهب والاعتقاد، فلا سؤال لكنه بعيد، وإن قلنا: إن التفرق في الاعتقاد والمذهب، وهو الظاهر فالسؤال وارد، قال: وتقدم لنا الجواب عنه بأن التفرق أخص والاختلاف أعم، والتفرق يشعر بكون هذا في شق، وهذا في شق هذا يثبت، وهذا يبقي وللخلاف في العلم فيتناول هذا ويتناول من وقف فلم يحكم بنفي ولا إثبات فاقتضى الأول بأن منهم من أثبت العادم منهم من نفاه واقتضاء الثاني: أنه من شك فيه فلم يثبته، ولم ينفيه فيصدق عليه أنه خالف، ولم يناقض حتى يكون هو وصاحبه مفترقين، ولا يكون كالذين اتصفوا بالتفرق والتناقض، بل لَا يكونوا كمن خالف ولم يحكم بالنقيض. ابن عرفة: وهذا كله في الأمور الاعتقادية فقط. قال ابن عرفة: وهل الذين تفرقوا عام في ذي المذاهب الصحيح، والفاسد أو هو خاص بالمبطلين، لَا يدخل فيه المحققون قولان كما في الحديث: "ستفترق هذه الأمة على اثنين وسبعين فرقة، كلهم في النار إلا ما أنا عليه وأصحابي"، فهل المفترقون مجموع الاثنين وسبعين فقط؟ حكى ابن عطية: عن ابن عباس: أنها إشارة إلى كل من افترق من الأمم في الدين فأهلكهم الافتراق، وعن الحسن أنها لليهود والنصارى، وعن الزجاج: احتمال ذلك. قوله تعالى: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ ... (106)} قيل: إن (عظيم) هو العامل في يوم، ومنعه ابن عطية: لاقتضائه أنه عذاب العذاب في ذلك اليوم.

(107)

ابن عرفة: إنما هو عظيم في بعضه، والصواب أنه عظيم في جميعه، ابن عطية: ولا يجوز أن يعمل فيه؛ لأنه مصدر قد وصف. ابن عرفة: بل يجوز؛ لأن العوامل تعمل في الظروف والمجرورات، [فأجري مجرى الفعل*]. ابن عرفة: وهذا راجع أما للذين تفرقوا إن كان التقسيم فيها مستوفيا، وأنهم شاملون الاثنين وسبعين فرقة، وإما راجع للذين تفرقوا ولتسميهم وهم المؤمنون، إن كان المراد بالذين تفرقوا الكافرون فقط. قوله تعالى: (فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ). تشديدا وتخويفا، قوله: (أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ) نقل أبو حيان عن صاحب [نهاية التَّأْمِيلِ فِي أَسْرَارِ التَّنْزِيلِ*] على حذف القول، أي يقال لهم: (أَكَفَرْتُمْ) وجعله مثل قوله تعالى: [(وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ) *]، فقال: تقديره يقال لهم: [(سَلَامٌ عَلَيْكُمْ) *] قال وأجاب صاحب التأميل بأن الفاء في قوله [وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ تَقْدِيرُهُ فَيُقَالُ لَهُمْ: أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ، فَحُذِفَ فَيُقَالُ، وَلَمْ تُحْذَفِ الْفَاءُ. فَلَمَّا بَطَلَ هَذَا تَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ الْجَوَابُ: فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ، فَوَقَعَ ذَلِكَ جَوَابًا لَهُ. وَلِقَوْلِهِ: أَكَفَرْتُمْ، وَمِنْ نَظْمِ الْعَرَبِ: إِذَا ذَكَرُوا حَرْفًا يَقْتَضِي جَوَابًا لَهُ أَنْ يَكْتَفُوا عَنْ جَوَابِهِ حَتَّى يَذْكُرُوا حَرْفًا آخَرَ يَقْتَضِي جَوَابًا ثُمَّ يَجْعَلُونَ لَهُمَا جَوَابًا وَاحِدًا، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ «2» فَقَوْلُهُ: فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ جَوَابٌ لِلشَّرْطَيْنِ، وَلَيْسَ أَفَلَمْ جواب جَوَابَ أَمَّا، بَلِ الْفَاءُ عَاطِفَةٌ عَلَى مُقَدَّرٍ وَالتَّقْدِيرُ: [أَأَهْمَلْتُكُمْ فَلَمْ أَتْلُ عَلَيْكُمْ آيَاتِي*] (¬1)، وصوبه ابن عرفة. قوله تعالى: {وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ ... (107)} قال ابن عرفة: تقدم منا سؤال وهو لم ذكر سبب تعذيب أولئك وعدد لهم وهددوا، ولم يذكر سبب رحمة هؤلاء وثوابهم فلم يقل (وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضتْ وُجُوهُهُمْ)، فيقال لهم اهتديتم إلى الإيمان واتبعتم الرسول فأنتم خالدون في رحمة الله، قال والجواب: إما أنه من حذف التقابل، وإما بأن هذا جرى على الصفح المألوف من فضلاء الملوك، والأشراف في الدنيا، إن من عصاهم يعذبونه ويعددون عليه أفعاله القبيحة زيادة في عذابه بالقول والفعل ومن تكرموا عليه فأطاعهم يكافئونه بمجرد إسداء النعم عليه، ولا يذكرونه بما سلفت له حسبما قال الشاعر: وإن امرءا أسدى إلي بنعمة ... وذكر فيها مرة لبخيل قلت: وأشار إلى تعذيب الله لهم عدل وجزاء عن كفرهم، ورحمته بهم محض تفضيل لَا جزاء عملهم بوجه. ¬

_ (¬1) النص مضطرب جدا في النسخة المطبوعة، وتم نقله كاملا من (البحر المحيط. 3/ 294).

(108)

قوله تعالى: (هُم فِيهَا خَالِدُونَ). ولم يذكر في (الَّذِينَ اسْوَدتْ وُجُوهُهُم) وصف الخلود في العذاب، قال: فعادتهم يجيبون بأن النفوس مولعة بسوء الظن، فمن نزل به أمر مؤلم تظن دوامه، ولا يطمع في زواله غالبا، ومن كان في نعيم فإنه يتوقع زواله، لأن الإنسان من طبعه الهلع والجزع، فذكر الخلود في الثاني احتراسا ولم يذكر في الأول اكتفاء بما حصل في النفوس من ظن دوامه، قال: وهذا الجواب: تقدمنا في قوله تعالى: في سورة هود (فَأمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ) الآية، وقال في الفريق الآخر (وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ). قوله تعالى: {وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ (108)} قال الزمخشري: أي ما يريد شيئا من الظلم لأحد من خلقه، فسبحان من يحلم عمن [يصفه*] بإرادة القبائح والرضا بها، وأجيب: بأنا نحن نقول سبحان من يحلم عمن يجعل له شريكا في ملكه. ابن عرفة: ولا شك أن الآية قوية في صحة مذهبهم لكن تقدمنا الجواب: بأن المراد بالآيات الحجج الظاهرة على بعث الرسول الدالة على صدقه، والإرادة على قسمين فإرادة القديمة الأزلية اقتضت ربط عذابه ببعث الرسل، قال تعالى: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا) فهم في العدم أراد أن لَا يعذب أحد حتى يعذر إليه بأن يبعث إليه رسولا بين له الشرائع والأحكام الاعتقادية والشرعية، فإذا تقرر هذا فهما فرض بعد ذلك أراد تعذيب من غير بعث رسول الله كان هذا الفرض ظلما؛ لأنه مخالف لما قرره الشرع فهذه الإرادة تفيد باعتبار الوجود والتقدير، لكنها قد يتوهم فلذلك احتيج إلى نفيها، وانظر تفريق المنطقيين بين الضرورة السابقة والضرورة اللاحقة، وإن كان الأصوليون قد قالوا أن بعثه الرسل جائزة غير واجبة، وأنه يجوز عقلا أن يعذب الله الخلق من غير أن يبعث إليهم أحدا لكن الشرع ورد أنه أريد في الأزل أن لَا يعذبهم إلا بعد الأعذار إليهم فإذا توهمنا بعد ذلك أنه أراد تعذيبهم فمن ظلم وهو المنفي في الآية، وإلا فالله تعالى أراد الخير والشر تعالى أن يكون في ملكه ما لَا يريد.

(109)

قال ابن عرفة: وتقدمنا في الآية سؤال، وهو أن البيانيين فرقوا بين دخول حرف النفي على الاسم مقدما على الفعل وبين مباشرته للفعل، فجعلوا قولك: ما يقوم زيد هو الأصل؛ لأنه أخص من قولك: ما زيد يقوم؛ لأن هذه ضمير الفاعل، والأول ليس فيه ضمير فما يعدل عن الأول إلى الثاني إلا لنكتة تتوخى قال: فكان يمشي لنا؟ الجواب: بأنه إن أريد نفي الفعل لذاته أدخل حرف النفي عليه مثل ما يطير زيد، فليس الطيران بمنتف عنه بخصوصيته بل لذات الطيران، لأن من ذاته انتفاؤه من نوع الإنسان من حيث هو، وإن نفي الفعل لَا لذاته بل لوصف في الفاعل خاص به مانع منه أدخل حرف النفي على الاسم مباشرة كقولك في زيد المقعد: ما زيد يقوم؛ لأن القيام من صفة أبناء جنسه وإرادة الظلم هنا إنما انتفت لوصف في الفاعل مانع عنها وهو الألوهية المستلزمة لأوصاف الكمال، بدليل وقوع أراد الظلم بعض المخلوقين لبعض زاد بعضهم أن قولك: ما أنا فعلت هذا لحرض بالمخاطب أنه فعله وكذلك الآية فيها تعريض للعالمين أن من شأنهم الاعتداء والتظالم فيما بينهم. قوله تعالى: {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (109)} قال ابن عرفة: من باب الإتيان بالحكم مقرونا بعلته ودليله: أنه إذا ثبت أنه مالك لما في السماوات وما في الأرض الملك الحقيقي، فهو قادر على إعدامهما وقادر على إعادتهما كما كانت، فصح بها إثبات المعاد. قوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ... (110)} الخطاب للصحابة، أو لجميع النَّاس المؤمنين، والظاهر الأول؛ لأن تفضيل الصحابة لأوصاف فيهم ليست في غيرهم إلا أن يكون مما آتى بعدهم فيه تلك الأوصاف فيبلغ هذه المنزلة، أي في الوصف الذي شارك فيه الصحابي، ولكن يتميز عنه الصحابي بوصف الصحبة فهو خير على كل حال. قيل لابن عرفة: إنما المراد أن مجموع هذه الأمة خير من مجموع سائر الأمم تفضل المجموع على المجموع يتناول الصحابة ومن بعدهم، فقال: الصحيح أن المضمرات كلية لَا كل، فما المراد إلا تفضيل كل واحد، واحد من هذه الأمة على سائر الأمم المتقدمة، وليس كل واحد من هذه الأمة فيه تلك الأوصاف، فيبقى حملها على الصحابة فقط، وإن كل واحد منهم أفضل من سائر الأمم المتقدمة، قال: ومن لم

(111)

يأمر بالمعروف ولم ينه عن المنكر متصف بالخيرية لوصف الإيمان لَا بل لَا خيرية، ومن غير المنكر بالفعل أفضل ممن لم يقدر على تغييره فغيره بقلبه. ابن عرفة: واحتج الأصوليون بهذه، على أن الإجماع حجة وهو بناء على قول الحسن ومن تبعه، بأنها خطاب لجميع أمة محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فإن قلت: وصف الإيمان سابق في الوجود على الأمر بالمعروف فلم أخره عنه في الآية؟، قلت: عادتهم يجيبون بأنه تنبيه على السلامة في ذلك من الرياء والصحة فلو قدم الإيمان لقيل خبرا عن الأصل؛ لأن الأمر بالمعروف يستلزم الإيمان، فكان يقول: قدم في الذكر ما هو متقدم في الوجود فلما أخر علم أنه لفائدة، وما نهى إلا الإشعار بالسلامة من المظاهر والرياء فهو حين أمره بالمعروف مستحضر لوصف الإيمان، وأسبابه المانعة له من الرياء والسمعة. قوله تعالى: (مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ). ولم يقل أكثرهم الفاسقون إشارة إلى أنهم آمنوا بالله وآمنوا بأنبيائهم في كل شيء؛ لأن من جملة ما أخبرهم به أنبيائهم إرسال محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم في آخر الزمان فكفرهم به فسق. قوله تعالى: {لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى ... (111)} قال الزمخشري: في هذه الجملة مع قوله منهم المؤمنون كلاما زائد أنه على سبيل الاستطراد عند إجراء ذكر أهل الكتاب. ابن عرفة: كان بعضهم يتعقبه من وجهين: الأول: أن الاستطراد إنما يكون غير مقصود أن يؤتى بالجملة في ضمن جملة أخرى، لم يقصد الإخبار بها أولا بل جاءت على سبيل الاستثناء ... لعزب من المناسبة والقرآن منزه عن ذلك، وهو بخلاف الاستطراد الذي يذكره البيانيون، فإن الاستطراد عندهم، قال مالك: هو أن يكون من الفنون فيتوهم استرساله فيه ويخرج منه إلى غيره، ثم ترجع فإن تمادى بذلك الخروج، قال الله تعالى: (أَلَا بُعْدًا لِمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ). الجواب الثاني: أن جملة (لَنْ يَضُرُّوكُمْ) أتى بها احتراسا أو تتميما لما قبلها؛ لأنه لما تقدمها، (وَأكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ) خشي أن يتوهم المؤمنون

(112)

أن الكفار يغلبونهم بالكثرة والقوة، فاحترس من ذلك بهذه الآية، وقال: لَا تتوهموا أنهم يضروكم غاية أمرهم أنهم يؤذونكم بالقول فقط، وهذا أحسن مما قال الزمخشري. ابن عرفة: والضرر المنفي فعلي والأذى قولي، أي لَا يصدر منهم لكم إذا إلا كما يصدر من المريض العاجز عن الحركات، والمريض العاجز لَا يصدر منه إلا الإذاية بالقول خاصة فكذلك هؤلاء. قوله تعالى: (وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ). ولم يقل: يولوكم أدبارهم، أجاب ابن عرفة بأنه لو قيل: يولوكم أدبارهم لما حصلت كمال الطمأنينة للمؤمنين؛ لأن الجيش له مقدم ومؤخر، وساعة وقلب، ففي الممكن إذا انهزم مقدمه المباشرون للقتال ولوا أدبارهم أن مخلفهم الساعة والمؤخر، فلما قال: (يُوَلُّوكُمُ الأَدْبَارَ) أفاد العموم وأشعر بانهزام جميع جيشهم ثم لما كان المعهود في الجيوش المنهزمين أنهم كثيرا ما يفرون حتى يأخذ العدو سلبهم أو بعضه، ثم يكرون عليه فيهزمونه ويستخلصون منه ما أخذ لهم احترز من ذلك بقوله: (ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ). قوله تعالى: {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ ... (112)} ابن عطية: الاستثناء منقطع، وفي الكلام حذف تقديره: (ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا) هلكوا لَا نجاة لهم فلا نجاة لهم من الموت إلا بحبل من الله. قال ابن عرفة: ويحتمل أن يجاب بأن الذلة على نوعين ذلة أخص، وذلة أعم، فمعناها الأخص هو كون اليهودي إذا وجد بدار الحرب مباح دمه وماله، والمعنى الأعم هو إذلالهم واحتقارهم فقط، فقوله: (ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ) هو المعنى الأخص، وقوله: (إِلَّا بِحَبْلٍ) أوضاع مقدرة شرعا، وحبل من النَّاس وهو ما أخذونه منهم من الجزية، وقوله: (وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ) إما راجع لصفة الشخص الفعل، أو لصفة المعنى وهو الإرادة أعنى أنه راجع لبعض الانتقام منهم، أو لإرادة الانتقام منهم، وما أراد الله لابد من وقوعه. قوله تعالى: (وَضُرِبَت عَلَيهِمُ الْمَسْكَنَةُ).

(113)

ابن عرفة: المسكنة هي الذلة لكن الأول راجع لإذلالهم غيرهم لهم وهذا راجع إلى اتصافهم في أنفسهم بالذلة. قوله تعالى: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ). قال ابن عرفة: الكفر يراد به الشرك بالله، ويراد به كفران النعمة وهو هنا راجع للتوحيد والألوهية، وقال الشلوبين: الكفر بالنعمة لَا يأتي إلا مضمرا بها، وقال غيره: أنه يصح الملامة والقرينة بعينه، قال: وأدخل كان هنا للدلالة على تكرار ذلك منهم ودوامه، ولو فيل: كفروا صدق بالمرة الواحدة. قوله تعالى: (وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ). قال ابن عطية: أنه تأكيد؛ لأن قتل الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لَا تكون بحق بوجه، وتقدمنا الجواب بأنه تأسيس، قال: وذلك إن نفي الحق تارة يكون في نفس الأمر وفي الاعتقاد، وتارة يكون في نفس الأمر فقط، لَا في الاعتقاد ومثاله قتل المسلم في الجهاد لرجل رآه في صف المشركين، واعتقد أنه مشرك، فإذا هو مسلم فهذا قتله بحق في اعتقاده، وفي نفس الأمر ليس بحق قريبا منه بقدر للزمخشري: في سورة البقرة، وحق هنا في سياق النفي؛ لأنه منفي بقوله: (غير) فيعم قتل الأنبياء، قد يكون بحق في الاعتقاد، وأما في نفس فليس إلا بغير حق. قوله تعالى: (ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ). إن قلت: ما أفاد قوله: (وَكَانُوا يَعْتَدُونَ) وأجيب بوجهين: الأول: أن العصيان أعم يطلق على المخالفة في الواجب وفي المندوب حسبما ذكر المازري في المعلم في حديث: "ومن لم يجب الدعوة فقد عصى أبا القاسم"، والاعتداء راجع لقوله تعالى: (وَيَقْتُلُونَ الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ). قوله تعالى: {يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ ... (113)} يعني ساعات الليل وأوقاته وهم يسجدون، وهو نظير قولك: رأيت زيدا أياما عشرة، فإنه يقتضي عموم الرؤية في عدد تلك الأيام لَا عمومها في زمن كل واحد من تلك الأيام على لو رآه ساعة واحدة منها لصدق، أنه رآه ذلك اليوم، وكذلك يتلون آيات الله ساعات الليل، أي في كل ساعاته ولا يقتضي تعميم إجراء كل ساعة منها بالتلاوة.

(114)

قوله تعالى: {وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ ... (114)} ابن عرفة: النهي عن المنكر من باب دفع المؤلم فكان الأصل تقديمه لكن إنما ذلك إذا تعارضا معا والآية ليست من تعارضها مقابل إشارة إلى اتصافهم بالأمرين فكان الأهم في صفات المدح الابتداء الأمر بالمعروف؛ لأنه أخف من النهي عن المنكر فيكون ترقيا في وصفهم. قوله تعالى: (وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ). مبالغة في حقهم؛ لأن قولك: زيد صالح، وقال ابن حزم: إن الصالحين أدون ذلك عليه بعضهم. ابن عرفة: والصواب ما قال ابن حزم. قال ابن عطية: قال بعض النَّاس: دخلت مع بعض الصالحين في مركب فسألته عن الصوم في السفر، فقال: إنها المبادرة يا ابن أخي، قال: فجاءني بجواب ليس من أجوبة الفقهاء. ابن عرفة: بل من أجوبة الفقهاء. قال ابن عرفة: وفي الإيمان باليوم الآخر إيمان بالأنبياء عليهم السلام؛ لأنه من ممايزات العقل التي أثبتها السمع من الأنبياء هذا مذهب أهل السنة ومذهب المعتزلة، أن المعاد واجب عقلا، بناء على [مباحث*] التحسين والتقبيح العقليين عندهم، ابن عطية: وفي الحديث " [اغْتَنِمْ خَمْسًا قَبْلَ خَمْسٍ: شَبَابَكَ قَبْلَ هَرَمِكَ، وَصِحَّتَكَ قَبْلَ سَقَمِكَ، وَغِنَاكَ قَبْلَ فَقْرِكَ، وَفَرَاغَكَ قَبْلَ شُغْلِكَ، وَحَيَاتَكَ قَبْلَ مَوْتِكَ"*] " وينظر قول ابن الفارض: [ ... ]. قوله تعالى: {وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (116)} قال ابن عطية: إضافة تخصيص يقتضي ثبوت ذلك لهم، ودوامه. ابن عرفة: هذا يدل على أن الصحة عندهم لَا تقتضي الدوام، والذي ذكر الأصوليون من باب الأخبار أنها تقتضي الدوام لكن دواما مطلقا، (خَالِدُونَ) أصرح في الاستمرار الأبدي. قوله تعالى: {مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ... (117)}

(118)

ابن عرفة: لما تضمن الكلام السابق أن أموالهم وأولادهم لَا تغني عنهم شيئا عقبه ببيان عاقبة ما ينفقون من أموالهم، وهذا إما إبطال لها من أصلها واو إبطال بشرتها؛ لأن المال في الدنيا تارة يكون البخس فيه بعدم حركته، وترك التجزئة وتارة يكون البخس فيه من حوالة الأسواق فيه بالخسارة، وهو ظاهر في التشبيه هنا، وهل هو تشبيه مفرد بمفرد، كقوله تعالى: (وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ) ففيه حذف شيء واحد إما من الأول، أو من الثاني، أو من حذف التقابل وشبه فيه إنفاقهم وإحباطهم في الآخرة بالزرع الأخضر، وإهلاكه بالريح، ونقل ابن عطية: أن المراد ظلموا أنفسهم بالحرث في غير وقت الزراعة، ولا يبعد أن هؤلاء أنفقوا مالهم في غير محل الإنفاق؛ لأن شرطه وقوع الإيمان منهم، والفرض أنهم كفار، ولكن أنفسهم يظلمون. ابن عرفة: تقدمنا الجواب بأنه روعي فيه مقتضى اللفظ، لقوله تعالى: (يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) فعبر عنها بلفظ الحضور وهو اسم الإشارة فناسب إسقاط كان المقتضية للمعنى والانقطاع، وآية النحل ليس فيها ما يدل على الحضور بوجه، وأجاب الأستاذ أبو جعفر الزبير: بأن آية النحل في قوم مضوا؛ لأن قبلها (كذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبلِهِم)، وأما هذه فهي للمعاصرين للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فناسب إسقاط كان، وتقديم المعمول عنها لرءوس الآي وليس هو للحصر؛ لأنهم ظلموا أنفسهم وغيرهم. قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا (118)} قال ابن عطية: اختلفوا، فقيل: نزلت في قوم مؤمنين كان لهم خلقا في الجاهلية وبقوا على عهدهم معهم في الإسلام، وقيل: نزل في حالة المؤمنين مع المنافقين. قال ابن عرفة: فإن قلنا: إن المؤمنين كانوا يعلمون أعيان المنافقين فظاهر، وإن كانوا غير معلومين لهم لزم تكليف ما لَا يطاق، فالقول الأول أصوب. قوله تعالى: (مِنْ دُونِكُمْ). أي من غيركم، ابن عطية: ومنه قوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم "ما من خليفة إلا وله بطانتان، بطانة تأمره بالخير، وبطانة تأمره بالشر والمعصوم من عصمه الله" فقال ابن عرفة: يحتمل أن يكون كلية، وإن كل خليفة له بطانتان، ويحتمل أن

يكون كلا، وإن البعض الواحد له بطانة تأمره بالخير، والبعض الثاني له بطانتان للخير والشر، ابن عطية: ويدخل في الآية استكتاب أهل الذمة. قال ابن عرفة: من باب أحرى؛ لأن الكاتب له أقرة وتصرف واستيلاء، فإذا منعت الصحبة والمصادقة فأحرى المكانة وقد نهى عنها مالك في المدونة. ابن عرفة: وفي الآية إيماء للنهي عن مصادقة المسلم الذي علم منه الحقد والحسد والمضرة، انتهى. ابن عرفة: وفي الآية عندي اللف والنشر. قوله تعالى: (قَدْ بَدَتِ الْبَغضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِم). راجع لقوله: (لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا)، وقوله تعالى: [(وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ) *] راجع لقوله (وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ) أي بالأقوال، ابن عطية: وخص الأفواه دون الألسنة إشارة إلى [شدقهم*] وثرثرتهم بأقوالهم. قال ابن عرفة: أو لأن الحروف منها ما مخرجه من اللسان، ومنها ما مخرجه من غيره، والفم يجمع ذلك كله، فعبر بالأفواه ليعم جميع الحروف، وأنهم لَا يبغوا منها في كلام، قيل لابن عرفة: قال تعالى في سورة الفتح (يَقولُونَ بِأَلْسِنَتِهِم مَا لَيسَ فِي قُلُوبِهِم) فقال: تلك الآية وردت في معرض الذم لهم وإذا ذم الإنسان على التكلم في شيء ببعض الحروف فأحرى أن يذم على الكل، وهذه خرجت مخرج التهييج على منافرتهم والبعد عنهم بذكر أوصافهم القبيحة، فناسب الإطناب فيها والمبالغة. قوله تعالى: (وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ). يحتمل الكبر في الكمية، أو في الكيفية، فإما أن يراد أن الذي في صدورهم في الحسد، والغل أكثر مما يظهرونه وأنه دائم لَا ينقطع، بخلاف ما يتكلمون به، منه فإنه ينقطع بسكوتهم. قوله تعالى: (قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ). الألف واللام للعهد، أي اللام المعهودة، والبيان ضد الإجمال، فيكون الراجح أنها آية القرآن لَا المعجزات.

(119)

قوله تعالى: (إِنَّ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ) ابن عرفة: الظاهر أنه العقل النافع لَا العقل التكليفي. قوله تعالى: {هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ ... (119)} قال ابن عرفة: لما تضمن الكلام السابق نهي المؤمنين عن اتخاذ الكافرين أخلاء وأصحابا، وكان النهي عن ذلك محتملا لأن يكون اتصفوا بذلك بالفعل، أو لم يفعلوه بل هم في حيز الاتصاف عقبه بما يدل من تنفيرهم عن ذلك بذلك مع زيادة الإشعار باتصافهم به، فهذه الآية تأسيس لَا كما قال ابن عطية: وغيره من أنها تأكيد. ابن عرفة: إن قلت: لم قال: (هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ) فحذف هاء التنبيه من الثاني، وقال قبله: (هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ) بإثباتها في الأول والثاني، فأجاب بعض طلبته بأن تلك الآية خطاب للكفار بلا خلاف فأعيدت هاء التنبيه، لأن المخاطبين أولا هم المخاطبون ثانيا، وأما هذه فقيل: إنها للمؤمنين، وقيل: إنها إشارة للكفار وهم غائبون والغائب [ينبه*]؛ لأنها تنبيه [للمخاطب*]، ولذلك جعله أبو حيان: من باب الاشتغال، كقوله: ها أنت زيدا ضربته. الجواب الثاني: قال ابن عرفة: عادتهم يجيبون بأن التنبيه يشعر بالقرب، فلذلك لم يؤتَ بهاء التنبيه الدالة على القرب بخلاف تلك، فإن المحاجة تقتضي أن أحد الخصمين في شيء، والآخر في شيء آخر فالنهي عن محبتك من لَا يحبك، فأحرى محبتك لمن يكرهك، وهذا في الأمر الديني؛ لأن من الكافرين من كان يحب بعض المؤمنين، لَا لوصف الإيمان بل لقرابة بينهما، أو صحبة قديمة، أو يد سلفت، أو نحو ذلك. قوله تعالى: (وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ). قال ابن عرفة: يحتمل أن يكون الكتاب واحدا بالنوع، أو واحدا بالشخص، وفي آية النساء: (وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ)، فهل التبعيض أيضا في نوع الكتب، أو في شخصه بمعنى إن أنتم تؤمنون بالكتب كلها، وهم يؤمنون بالتوراة خاصة، ولا يؤمنون بالقرآن، أو المعنى إن أنتم تؤمنون بجميع التوراة، وهم يؤمنون ببعضها فقط؛ لأن فيها صفات النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، والإعلام بصحة نبوته، وهم يكفرون به، وهذا هو الظاهر. قوله تعالى: (وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ).

(120)

إن قلت: هلا قيل: عضوا عليكم أناملهم، فالجواب: أنه إشارة إلى شدة غيظهم، وشغل بالهم بحيث يعضوا على أناملهم وأنامل غيرهم. قال ابن عطية: وواحدة الأنامل أنملة بضم الميم وفتحها والضم أشهر، ونقل بعض الطلبة، إن القاضي ابن حيدرة كان يقول: الفتح أشهر، وكذا قال ابن عرفة في كتاب الجنايات في المدونة. قال ابن عطية: عض الأنامل إشعار بغيظ النفس، كما أن قرع الأسنان إشعار بالندم. قال ابن عرفة: وقال الشهرستاني في أول كتابه نهاية الإقدام: لعمري لقد طفت المعاهد كلها، وقلبت طرفي بين تلك المعالم فلم أر إلا واضعا كف حائر على لحية، أو قارعا من نادم. قال ابن عرفة: وكان الفقيه أبو علي عمر بن خليل، وغيره ينتقدون عليه قوله: واضعا كف حائر، قالوا: فإن هذا إبطال لمذهب الشيخ أبي الحسن الأشعري، والأستاذ أبي إسحاق الإسفراييني، والقاضي أبي بكر الباقلاني، وأكثر أهل السنة لاقتضاء أنه حائر لم تقف على حقيقة أمر بوجه. قوله تعالى: (قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ). قيل: إنه خبر كقوله تعالى: (فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ)، وكقوله تعالى: (قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا) هو أمر المراد به الخبر، وقيل: إنه دعاء. ابن عرفة: والظاهر أنه خبر؛ لأنه مستقبل، أي يموتون بغيظكم، وليس الموت من فعلهم حتى يؤمرون. قوله تعالى: {إِنَّ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ ... (120)} قال ابن عرفة: لما تضمن الكلام السابق الإخبار سالم المنافقين من المؤمنين في حال غيبتهم عنه عقبه بما يدله على فاعلهم منهم مطلقا في الغيبة، والحضور وكفى بالحسنة على الملائم بالسيئة على الشيء المؤلم، وأورد الزمخشري: أن لم ذكر السن في الحسنة والإصابة في السيئة؟ فأجاب بجواب لَا يقتضي، وأجاب ابن عطية: بأنه

(121)

تنبيه على شدة غيظهم، لأن العدو يتألم بحصول، أو في شيء ملائم لعدوه، ولا ينتفي من عدوه إلا بنزول عظيم البلاء به وأشده. قال ابن عرفة: وفي الآية حذف التقابل، قال: وذلك الأمر الملائم المعبر عنه بالحسنة سبب في الفرح، والأمر المؤلم المعبر عنه بالسيئة سبب في الحزن، فإذا مست المؤمنين حسنة جعل للمنافقين أمران ضرر في أبدانهم، وهو مشقة مشاهدتهم ذلك وسماعه وحزن في قلوبهم وإذا مست المؤمنين سيئة جعل للمنافقين بذلك تنعما في أبدانهم بشهادتهم لذلك، وسماعهم إياه، وفرح قلوبهم وابتهاج في نفوسهم، فكأنه يقول: (إِنَّ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ) ويحزنون بها، وإن تصبكم سيئة تنفعهم ويفرحون بها؛ لأن السوء يهدي للتنعيم، والحزن ضد الفرح، أي إذا تنعمتم تضرروا هم وحزنوا فإذا أصابكم سوء في ضرر تنعموا وفرحوا. قوله تعالى: (وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا). قال ابن عرفة: هذا من اللف والنشر للمخالفة، أي وإن تصبروا على مس السيئة وتتقوا ربكم إذا مستكم الحسنة. قيل لابن عرفة: كل إنسان لابد له من نيل الخير والشر، فهلا عبر بـ إذا الدالة على تحقيق الوقوع، فقال: إن أعم تدل على المحقق والممكن على فرض وقوع ذلك. قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ). ذكر الزمخشري: قراءة الباء فقط وأنها راجعة للمنافقين ابن عرفة والقراءة بتاء الخطاب، فإما أن يراد بها: قل لهم يا محمد أن الله بما يعملون محيط، وهو إخبار عن إحاطة علم الله تعالى المؤمنين في سرهم وتقواهم. قوله تعالى: {وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ ... (121)} قال ابن عطية: ذهب الطبري إلى أنها متصلة بما قبلها والظاهر عدمه؛ لأن تلك من منافي اليهود، وهذه ابتداء قصة المؤمنين في أمر آخر. ابن عرفة: والظاهر الاتصال، ويكون دليلا على أن عاقبة الصبر والتقوى حميدة؛ لأن هؤلاء لو ثبتوا كما أمرهم النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لما جمع المؤمنين واستشارهم، فقال عبد الله بن أبي وأكثر النَّاس: يا رسول الله، أقم بالمدينة ولا تخرج إليهم.

(122)

ابن عرفة: قال ابن عبد البر: إن الأكثر أشاروا عليه بالخروج لهم، الزمخشري: وقال صلى الله عليه وعلى آله وسلم "إني رأيت في منامي بقرة مذبوحة حولي، فأولتها خيرا، ورأيت في ذباب سيفي ثلمة فأولتها هزيمة". قال ابن عرفة: الذي في السير، والحديث الصحيح، "فأولته رجلا من قرابتي"، فكانت وقعة أحد أصيب عمه حمزة، وابن عمته عبد الله بن جحش، وحامل رايته مصعب بن عمير رضي الله عنهم، وكان من أبلى من المؤمنين في الكفار بلاء شديدا حمزة، وعلي بن أبي طالب، وأبو دجانة الأنصاري، وطلحة بن عبيد الله رضي الله عنهم، الذي في صحيح كتاب الرؤيا، ورأيت أني هززته سبعا فانقطع صدره فإذا هو ما أصيب من المؤمنين يوم أحد، ثم هززته أخرى فعاد أحسن ما كان، فإذا هو ما جاء الله به من الفتح واجتماع المؤمنين يوم أحد، ثم هززته، ورأيت أيضا فيها بقر وأولته خيرا، فإذا هو النفر من المؤمنين يوم أحد. قوله تعالى: (تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ). ولم يقل: أماكن إشارة إلى ما قالوا من أن الرماة كانوا خمسين، وأنه جعلهم خلفه من الخيل، وأمرهم أن يلبثوا هنالك فلذلك عبر بلفظ المقاعد إشارة إلى الثبوت والقعود فيها، وقوله: (تُبَوِّئُ) حالة مقدرة باعتبار أوائل الغد، ومحصلة باعتبار واسطة. قوله تعالى: {إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا ... (122)} ثم قال: (وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) إشارة إلى الذين هموا بالانصراف، خوف العجز والضعف على المبادرة، ثم ندموا على ذلك السر بل كان الله وليهم يصرف عزيمتهم على ذلك إلى نقيضه، وهو المقام والقوة توكلا على الله عز وجل في الإعانة والنصرة. قوله تعالى: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ ... (123)} ابن عرفة: التذكير بالنعمة على وجهين: تارة يقع مطلقا، وتارة يقع في كل الإياس منها، وهو أعظم وأشد في النفوس، وكذلك وقع هذا؛ لأن قبلها: (إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا) قدروا النصرة في محل الإياس من النصرة.

(125)

قوله تعالى: (وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ). لأنها في موضع الحال. ابن عرفة: لأن أن مفرد وما بعده، في حكمه؛ لأنها خفض بها، والمفرد لَا يبدل من الجملة، وكذا قال ابن القصار. قوله تعالى: {بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا ... (125)} قيل لابن عرفة: كيف عبر بـ إن، وهلا عبر بـ إذا؟ لأن المراد أمرهم بالصبر الذي لا يقطع زمانه فأحرى مع إيقاع الصبر المحقق، وردهما ابن عرفة بأن الجواب إنما يترتب على فرض وقوع الشرط سوء أكان محققا أو غير محقق فلا يقع الإمداد إلا بعد ثبوت الصبر، قال: وإنما الجواب أنه عبر بإن تنبيها على كمال الملازمة ولا [تنافي*] بين الصبر والإمداد؛ لأن إن تدخل على [المحال*]، أي ولو كان الصبر منهم محالا، وفرض وقوعه فإن مددكم [بالملائكة*] يكثر نحو (إِنَّ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ)، فإن قلت: أول الآية يقتضي الإمداد بثلاثة آلاف وآخرها بخمسة آلاف، فالجواب: أنه كما تقول للشخص: يكفيك أن ينصرك بعشرة من الخيل، فيقول لك: نعم، فتقول له: أنا أنصرك بخمسة عشر، أي أنصرك بما يكفيك وزيادة، فالأول اقتضى الإخبار عن نصرتهم بما يكفيهم، والثاني: اقتضى أنهم إن صبروا واتقوا ربهم ينصروا بأزيد مما أقروا به كافيهم، فإن الهمزة داخلة للتقرير عليهم، بأمرهم موافقون عليه، فقول: (أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ) يقتضي أنهم موافقون على أن ذلك كافيهم، قلت: وتقدم لابن عرفة في الختمة الأولى: أن بعضهم قال: لم قال: (بِخَمْسَةِ آلافٍ) فاختص هذا العدد دون غيره قال: فأجيب بأن الألف هو نهاية العدد، وغايته، والجيش منقسم على خمسة ذكرها عياض في كتاب النكاح من إكماله، وهي الميمنة والميسرة، والمقدم والمؤخر، والقلب وسمي الساعة وهو الوسط، فجعل لكل قسم منها ألف يقابله فروعي غاية العدد لكل واحد منها. وقوله تعالى: (وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا). ابن عرفة: نصرة الإنسان في هذه الحالة أقرب وأعجب؛ [لأنه عذاب مفاجئ*] فوري يأتي على غفلة، فلا طاقة لهم به. قوله تعالى: {وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ ... (126)}

(127)

ابن عطية: قيل: الضمير في جعله عائد على الإنزال والإمداد، الزمخشري: أي وما جعل الله إمدادكم بالملائكة إلا بشرى لكم بأنكم منصورون، أبو حيان: وقيل: الضمير عائد على النصر، وقيل: على الوعد به. ابن عرفة: والظاهر أنه للوعد؛ لأن المباشرة مقدمة على المبشر به، فليس النصر مبشرا بل هو المبشر به. قوله تعالى: (العَزِيزِ الحَكِيمِ). ابن عرفة: الذي ينصركم إن شاء بسبب وإمداد، وإن شاء بغير سبب ولا إمداد. قوله تعالى: {فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ (127)} الخيبة هو عدم الاتصال بالمطلوب والمراد هنا ما هو أخص من ذلك، وهو خسرانهم. قوله تعالى: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ (128)} قال ابن عرفة: فيه عندي حذف التقابل؛ لأن التوبة لَا تقابل العذاب، وأنه تقابل المعصية، والتقدير، أو يتوب عليهم فيرحمهم، أو يدوموا على كفرهم فيعذبهم فحذف من الأول نقيض ما ذكر في الثاني، ومن الثاني نقيض ما ذكر من الأول. قوله تعالى: (فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ). تأكيد لمقام الوعيد، واعتزل الزمخشري هنا وله فيها شبهة. لكن قوله تعالى: (فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ (129) .. ظاهر في مذهب أهل السنة، وإذا تأوله الزمخشري على مذهبه فجعله لفا ونشرا، فيرد المغفرة، لقوله تعالى: (أَوْ يتُوبَ عَلَيْهِمْ)، والعذاب لقوله تعالى: (أَوْ يُعَذِّبَهُمْ) ونحن نقول: (يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ) من الكفار، أو العصاة، ويعذب من يشاء من الكفار أو العصاة بالإطلاق. وقال الزمخشري: (يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ) توبته ونحن نقول: (يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ) مغفرته سواء إن [ ... ] لابن عرفة: إن هذا مخصوص بقوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ)، فقال: بل هو على عمومه، ويجعله مخصوصا بها لو كانت التلاوة يغفر لجميع الخلق، وإذا جعلته مخصوصا بها يلزم أن بعض من شاء الله المغفرة له لَا يغفر له بمعني أنه لَا يتوب وهو مذهب المعتزلة القائلين: بخلود العاصي في جهنم، وإن الله لم يرد عصيانه، بل هي

(130)

على عمومها، أي يغفر لمن يشاء المغفرة لهم، ويعذب من يشاء تعذيبه، وقولنا: العاصي في المشيئة بمعنى أنا لَا نعلم المشيئة به ما هو، وإلا فهو محكوم له في الأول بالشقاوة وبالسعادة، أو بالجنة أو بالنار. قوله تعالى: (وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ). ولم يقل: غفور شديد العقاب، إشارة لقوله سبحانه: "سبقت رحمتي غضبي". قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً ... (130)} قال ابن عطية: فهذا النهي في أنها أثناء قصة أُحد، ولم يذكر وجها لمناسبتها لما قبلها، وفرق ابن عرفة: وجه المناسبة بأنه لما تقدم الكلام في الكفار المخالفين في الاعتقاد عقبه ببيان أن ذلك الوعيد لَا يخص من خالف في الاعتقاد فقط، بل يتناول العصاة لإطلاق المخالفين في الفروع، [ومَن*] وافقوا في الاعتقاد فقط، فذكر أحد المخالفة وهي أكل الربا. قوله تعالى: (أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً). قال ابن عرفة: تضعيفه إما باعتبار تعدد الأشخاص المعاملين للرجل الواحد بالربا، أو باعتبار تعدده بين الشخصين المتعاملين في دين واحد، مثل الأول أن يكون للشخص الواحد دين لغرماء شيء، فيطلب كل واحد منهم أن يربي له في دينه ويؤخره به، ومثال الثاني: أن يكون على الشخص دين واحد فيحل غير يده فيه، ويؤخره به لأجل فإن تم محل فيربي به ويؤخره لأجل ثالث، وكذلك لرابع وخامس فهو أيضا (أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً) قيل لابن عرفة: يلزم في الآية المفهوم، وهو أن يكونوا إنما نهوا عن الربا المحصول على هذه الصفة، فإذا كانت فيه الزيادة مرة واحدة، لم يكن منهيا عنه؛ لأن النهي عن الأخص لَا يستلزم النهي عن الأعم، فقال: يقول: نهوا عن الربا المضاعفة مرة واحدة ويختار أنه يسمى تضعيفا، قلنا: وتقدم لابن عرفة في الختمة الثانية النهي عن الأكل منه يستلزم النهي عن استعماله في الإطلاق عن اللباس وغيره،

(132)

من وجوه التناول وعبر بالأكل؛ لأنه أحسن أوقاف الإنسان التي يشارك فيها البهيمة، وهما الأكل والجماع، وقوله تعالى: (أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً) حمل النفس على التأكيد، وأن الربا ربا الجاهلية، ويحتمل أن يكون تأسيسا على ما قال اللخمي في كتاب الصرف: من أن الربا ثلاثة أقوال، قيل: هو فتح الدين بالدين، وهو ربا الجاهلية، وقيل: المراد به بيع حرم التعامل فيه؛ لأن الربا في اللسان هو الزيادة، وقيل المراد: كل بيع محرم كان تحريمه من جهة الزيادة أو غيرها، وهو قول عائشة وعمر. قال ابن عرفة: فعل القول الأول يكونوا نهوا من أكل مثل ربا الجاهلية، ومفهومه جواز أكل الربا غير المضاعف ببيع الطعام بالطعام إلى أجل، وبيع الذهب بالذهب متفاضلا. قوله تعالى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (132)} قال ابن عرفة: إن قلت: لم أتى في الرحمة بلفظ الرجاء مع أن طاعة الله والرسول لازمة للرحمة، فأجاب بوجهين: إما أنه على عادة الأمراء والسلاطين في وعدهم أنهم يعبرون على الأمر الثابت المحقق الذي يلتزمون فعله بلفظ الرجاء، وإما أنه باعتبار نية المكلف، وأنه يفعل العبادة غير معتقد ..... للثواب والرحمة بل بترجي ذلك، ويطمع فيه فقط، ولا ينبغي له أن يكتفي بعمله، ولا يقطع بذلك بوجه. قوله تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ ... (133)} قال ابن عرفة: كان بعضهم يقول المسارعة مفاعلة لَا يجعلها لتكلف بها إلا مع فعل الغير، وهي فرض على الأعيان لَا على الكفاية، فكل واحد من النَّاس مكلف بها أن يفعلها حالة فعل الآخر لها فيلزم عليه التكليف يفعل الغير، وهو تكليف ما لا يطاق، قال: فأجبناه نحن بأنه ليس المراد سارعوا بعضكم إلى مغفرة، وإنما المراد سارعوا الموت فكل واحد منا مكلف بل يسبق أجله بفعل الخيرات، والطاعة خوف أن يسبقه الأجل فيقطعه عن ذلك ويمنعه من دخول الجنة، فإن قلت: هلا قيل: إلى غفران من ربكم؛ لأنه جنس المغفرة مفرد، قال: فالجواب أنه لو قيل: إلى غفران لما تناول الأمن هو كثير النسيان فسارع إلى الغفران الكثير مع أن كل واحد لَا يخلو من ذنب يغض به، وإن قل فلما قال: (إِلَى مَغْفِرَةٍ) عم ذلك قليل السيئات وكثيرها، قال: هم محتاجون إلى مغفرة فهو من باب التنبيه بالأدنى على الأعلى، لأنهم إذا أمروا

بالمسارعة لتحصيل قليل المغفرة فهو مأمور المسارعة إلى ما يجعل كثيرها من باب أحرى. قال ابن عرفة: فإِن قلت: أمروا بالمسارعة لتحصيل الأمر الملائم فهلا أمروا بالمسارعة إلى السلامة والنجاة من الأمر المؤلم المنجي من العذاب، فهو أولى؛ لأن دفع المؤلم آكد من جلب الملائم، قال: فالجواب أنه لو كان كذلك لما تناول إلا فعل الواجبات خاصة، وهي ما في فعله الثواب، وفي تركه العقاب، والقصد في الآية أمرهم بتحصيل الواجب المندوب، فلذلك عبر بالملائم دون الملام من المؤلم. ابن عرفة: وذكر المغفرة يستلزم السلامة من النار. ابن عرفة: والمسارعة تستلزم المسابقة؛ لأن من أسرع إلى الشيء فهو يسبق غيره إليه، ولا بد بخلاف المسابقة فإنه قد يسبق إليه من غير إسراع، وقال أبو جعفر الزبير: أنما قال هنا: (سَارِعُوا) وفي سورة الحديد: (سَابِقُوا) لتقدم المسارعة في التوبة على المسابقة فقدمت عليها في التلاوة؛ ولأن من سابق فقد سارع، ومن أسرع فقد سبق، وقد ... فعله سبق، وهو نص في حصول المقصود، وسارع من أسرع، وليس بنص في حصول المقصود؛ لأنه قد يسرع ولا يتصل بالغرض. قوله تعالى: (عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ). ابن عطية: كتب هرقل إلى النبي صلى الله عليه وسلم كتبت إليَّ تدعوني إلى جنة عرضها السماوات والأرض، فأين النار؟ فقال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم " [فأين الليل إذا جاء النهار*] " ابن عرفة: والإشكال أيضا فيها نفسها؛ لأنها إذا كان عرضها السماوات والأرض فأين تكون هي مع أنهم قالوا: هي في السماء فكيف تحصيل الحرم الكبير والصغير لكن، أجيب بوجهين: الأول: قال ابن عرفة: هي كعرض السماء والأرض الآن، ثم يوم القيامة، ثم (تُبَدُّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ) وتصير أكبر مما هي الآن عليه، فيمد في السماوات حتى تصير أكبر من الجنة فهل فيها.

(134)

الثاني: قال ابن عطية: إنها فوق السماوات، وأن السماوات بالنسبة إليها كحلقة ملقاة في فلاة من الأرض، وكذلك كل [سماء*] أكبر من التي تحتها [ ... ] ثريا مقلوبة، ونحوه ذكر مكي: في سورتي الطلاق والحديد. وقال ابن عرفة: قوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم "إذا جاء الليل أين يكون النهار"، قلنا: إن السماء [كورية*]، فيقول: يصير الليل عند قوم آخرين، وإنما يبقى الإشكال أنها كانت بسيطة، إساءة ظن حكم الفلاسفة بل هي السنة .... قال ابن عطية: والطول إذا ذكر لَا يدل على قدر العرض بل قد يكون الطويل يسير العرض، كالخيط. قال ابن عرفة: الصواب تمثيله بالخط عند من يثبت الجوهر الفرد فإنه طويل لا عرض له. قال ابن عطية: وقال قوم: معناه كعرض السماوات والأرض، كما هي طباق لا يأت بفرش كبسط الثياب. ابن عرفة: إنما يتم هذا على القول بأنها بسيطة، وإذا كانت كورية فلا عرض لها بوجه؛ لأن الكورة ليس لها عرض ولا طول، إلا كما يقول ابن عباس: إنها بسيطة ويقرن بعضها إلى بعض. قوله تعالى: (أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ). قال ابن عطية: مذهب المنذر ابن سعيد، وغيره، أن الجنة والنار ليسا الآن مخلوقتين، وهو قول ضعيف، ومذهب جمهور العلماء لهما قد خلقتا، وهو ظاهر قوله تعالى: (أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) ابن عرفة: ولا يلزم عليه كفر ولا إيمان، كما أنه لا يلزم أيضا على الاختلاف في السماء هل هي بسيطة، أو كورية كفر ولا إيمان. قوله تعالى: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ ... (134)} أي العسر واليسر.

(135)

ابن عرفة: يحتمل أن يكون جميع المؤمنين بالنسبة إلى المنفوق المتفق عليه، فهل المراد أنهم ينفقون في يسرهم وعسرهم، أو أنهم ينفقون على الموسر والمعسر، والأول أدخل في مقام المجد والثناء. قوله تعالى: (وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ). ابن عرفة: إذا عفى الإنسان عمن قتل ابنه فإنه يصح عفوه، ولا يجوز عفو عمن قطع الطريق عن ابنه. ابن عرفة: والمراد مجموع هؤلاء بحسب الإمكان فإن من النَّاس من لَا يعمل له أحد ما يوجب غضبه. قال الزمخشري: وعن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم "إن هؤلاء في أمتي قليل إلا من عصمه الله، وقد كانوا كثيرا في الأمم كلها إلا في الأمة التي مضت". قيل لابن عرفة: كيف وهذه الأمة أفضل من سائر الأمم، فأجاب بوجهين: إما أن يراد أن هذه الأوصاف فيهم أقل مما هي في مجموع سائر الأمم كلها لَا في أحد كل أمة على انفرادها، وإما أن يكون المراد أنهم لفضلهم وشرفهم الفساد فيهم، والعصيان بالنسبة قليل إليه في أحد كل أمة على حدتها، والعفو فيهم قليل بالنسبة إليه مع كل أمة على حدتها لعله لقلة سببها. قوله تعالى: (وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ). قال الزمخشري: يجوز أن يكون الاسم للجنس، فيتناول كل محسن، ويدخل تحته هؤلاء المذكورون، ويجوز أن يكون للعهد والمراد به هؤلاء فقط. ابن عرفة: فإن كانت للعهد فيكون المحسن مرادفا للنفي، وإن كان للجنس فيكون المحسن أعم من المتقي، كما تقول: كل إنسان حيوان والحيوان أعم، وكذلك هنا كل متقٍ محسن. قوله تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً ... (135)} الزمخشري: أي فعلة زائدة القبح: (أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُم) معناه أذنبوا ذنبا أي ذنب كان.

ابن عرفة: جعل الزمخشري قسم الشيء قسما له؛ لأن الظلم أعم من الفاحشة والصواب أن يقال: الفاحشة هي الكبيرة وظلم النفس هي الصغيرة، أو فيهما عموم وخصوص من وجه دون وجه، فالفاحشة تطلق على ظلم النفس وغيره، وظلم النفس يطلق على الفاحشة وغيرها، فإذا ظلم نفسه بأدنى الظلم الذي ليس بزائد في القبح فليس بفاحشة، وإذا ظلم غيره بأقبح الظلم فهو فاحشة، وليس بظلم نفس، فإن قلت: الظلم قبيح منهي عن الاتصاف به، فهلا عبر بأن الدلالة على عدم الوقوع وعلى إرادة عدم الوقوع، فالجواب: أنه إذا كان جواب الشرط هو المقصود عبر بـ إذا كقولك: إذا ولي عمر بن عبد العزيز، فاسكن حيث شئت من البلاد وإذا ولي عبد مجدع الأطراف فاسمع له وأطع، فليس المراد ولاية العبد، وإنَّمَا المراد عموم الأمر بالسمع والطاعة، فالمقصود في الأول الشرط، وفي الثاني جوابه، وكذلك المراد هنا تأكيد الاتصاف بذكر الله تعالى والاستغفار، أي استغفروا الله لأجل ذنوبكم، وهذا هو التوبة، وفسر ابن عطية الإصرار بأمور وحاصلها فعل الذنب وعدم التوبة، فإن تاب منه فليس بمصر وهو خلاف ما قال ابن زيد، فإنه في الرسالة والتوبة فريضة من كل ذنب من غير إصرار، والإصرار المقام على الذنب واعتقاد العودة إليه، فقال ابن عرفة: الإصرار أعم من ذلك لكن هذا أقبح صورة. قوله تعالى: (وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ). قيل لابن عرفة: يؤخذ من الآية أن من هم بالفاحشة ولم يفعلها أنه يغفر له، ولا يعاقب على ذلك، فقال: نعم، الحكم كذلك إلا أنه لَا يؤخذ من الآية، فإن قلت: فهلا قيل: من يغفر ذنوبهم إلا الله كما قيل: (فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ)، فالجواب: أنه قصد عموم مغفرة الذنوب لهم ولغيرهم، ولاسيما على مذهب أهل السنة القائلين: بأن المعاصي في المشيئة فلا يلزم أن لَا يغفر الذنوب إلا التوبة بل يغفر بها وبغيرها، وذكر الزمخشري: هنا آثارا ظاهرها حسن يوافق عليه أهل السنة، لكن مقصده جاء غير حسن؛ لأنه إنما جلبها تقوية لمذهبه الفاسد وأنشد فيها لرابعة: ترجوا النجاة ولم تسلك مسالكها ... إن السفينة لَا تجري على اليبس قال ابن عطية: وروى أبو بكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "ما من عبد يذنب [ذنبا*] ثم يقوم فيتطهر ويصلي ركعتين ويستغفر إلا [غُفر له*] " قال ابن عرفة:

(136)

الصلاة ليست بشرط في التوبة، وإنما ذكر من حيث كونها سببا في المغفرة فهي وصف لأنها شرط. قوله تعالى: {أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ... (136)} قال ابن عرفة: هذا من باب الاستعارة بالمطلوب وزيادة؛ لأنهم إنما طلبوا المغفرة فاسمعوا بها، وبزيادة النعم في الجنات. قوله تعالى: {قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ ... (137)} قال ابن عرفة: الآية دالة على وجوب النظر والسير في الأرض إما حسي وإما معنوي بالنظر في كتب التواريخ المتعددة، بحيث يحصل للناظر فيها العلم، أو ما يقرب منه وهو أولى؛ لأن التواريخ المتقدمة يحصل بها من الكشف والاطلاع ما لا يحصل للناظر فيها العلم، أو ما يقرب منه وهو أولى؛ لأن التواريخ بالسير الحسي في الأرض لعجز الإنسان وقصوره، وماذا عسى أن يمشي من الأرض، وإذا نظر الإنسان شخصين يعرفهما أحدهما عالم عامل والآخر مسرف على نفسه ظالم لغيره متبع للضالة وقد ماتا فإنه يتحقق حرمان العاصي من النعيم، أو يظن ذلك، ويترجح عنده سلامة الطائع من العذاب، ويرجو ثوابه وتفقهه والأمور الشرعية إنما هي مبنية على غلبة الظن لا على اليقين، فهذا وجه مناسبة هذه الآية لما قبلها. قوله تعالى: {هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (138)} قال ابن عرفة: وجه الترتيب أن البيان راجع للتصور، والهدى والموعظة راجعة للأول الراجحة فما وقع به التصديق فالمتكلف أولا يتصور الأشياء في ذهنه كلها ثم يهتدي إلى معرفة طريق الحق من تلك الأشياء المتصورة، وطريق الباطل فحكم بأن هذا حق، وهذا باطل وذلك تصديق، ثم بعد ذلك هو موعظة، أي مرجح لطريق الحق بالدليل والناظر فيه أولا يتصور به الأشياء، ثم يصدق فيحكم بأن هذا حق، وهذا باطل، ثم يستدل على حقيقة هذا وبطلان غيره، وترجيح اتباع الحق، ولذلك أسند البيان للناس؛ لأن التصور حاصل للجميع، والهداية والوعظ إنما حصلت للمتقين فقط.

(139)

ابن عرفة: والاتعاظ هو أن تقيس فعله بفعل غيره من العصاة، ويخاف أن ينزل به من العقوبة بمثل ما نزل بمن فعل ذلك وليهتدي فمن أطاع الله عز وجل ويرجو أن يناله من الخير والثواب مثل ما نال ذلك الطائع. قوله تعالى: {وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا ... (139)} ابن عرفة: الوهن هو ذل وضعف في النفس بمؤلم مستقبل كسماعنا الآن ... عند النصارى وخوفنا منها أن تكون على ... فتحدث بذلك في نفوسنا روع وهلع، والحزن هو التفجع على أمر مؤلم وقع ومضى، وقدم الوهن؛ لأنه المقصود بالذات. قوله تعالى: (وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ). قالوا: إنه حال من الضمير (وَلَا تَهِنُوا). ابن عرفة: والصواب أنه مستأنف؛ لأنهم لم ينهوا عن الوهن في هذه الحالة بل مطلقا وهم الأعلون أيضا مطلقا سواء وهنوا أو لَا، فإن قلت: هلا قيل: أو كنتم مؤمنين؟، قلت: إنما عبر بأن تهييجا على الاتصاف بأن الإيمان ولاسيما أنها تعريض بالمنافقين فهم داخلون فيها فكذلك عبر بأن. قوله تعالى: {إِنَّ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ ... (140)} قيل: جواب الشرط مقدر، أي: فلا ضعف ينالكم تأسيكم بهم وتسليكم بما لهم معكم، وما نالهم من أيديكم، وقيل: المذكور هو نفس الجواب. ابن عرفة: وكان بعضهم يجري هذا على الخلاف في لأن المذهب هل هو مذهب أو لَا؟، فإن قلت: إنه مذهب، فيكون المذهب هو الجواب، فإنه لازمة التسلي والتأسي بهم، فإِن قلنا: إنه ليس بمذهب، فالجواب: قوله تبارك وتعالى: (وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً) قال ابن عطية: سبب نزول الآيتين، أن الصحابة قالوا: يا رسول الله، كان بنوا إسرائيل أكرم على الله منَّا حين كان المذنب منهم يصبح، فعقوبته مكتوبة على باب داره، فأنزل الله هذه الآية توسعة ورحمة ومؤمنا من ذلك الفعل. قال ابن عرفة: وضم هذا السبب للآية نفيه أن المستغفر من الذنب مساو لمن يذنب، لكن إن من لم يذنب إن كان للعلم بفاعل الفاحشة، واجتنبها فليس مساويا له

بوجه، بل هو أعلى منه، وإن تركها حين عالم بفاعلها فهو مساو لمن فعلها واستغفر الله منها وقد جاء "التائب من الذنب كمن لَا ذنب له". قال ابن عطية: والذنب عطف على جملة ناس، وناس على جملة أخرى، وليس الذين تبعت كرر معه واو العطف؛ لأن تلك الطبقة الأولى منزه عن الوقوع في الفواحش. قال ابن عطية: أراد أنه من عطف الموصوفات لَا من عطف الصفات. ابن عرفة: وهذا [اعتزال*] خفي؛ ولذلك قال ابن عبد السلام: [**يحدنا منه]؛ لأنه إذا كان من عطف الصفات يكون داخلا تحت سنن المتقين، والزمخشري وأصحابه: لا يسمونه متقيا، ولذلك قال الزمخشري: أعدت للمتقين [وللتائبين*] فجعل المؤمنين ثلاث طبقات: متقين وتائبين عن الذنب، ومصرين عليه، [فسمي*] المذنب التائب متقيا. قيل لابن عرفة: لعل ابن عطية جعلها قضية حقيقية فسلم من الاعتزال، فقال: إنما تحتمل على أنها خارجية، وأما الحقيقية فبعيدة هنا، فإن قلت: هلا قيل: إذا عملوا؛ لأن العمل يصدق على الفعل الحسي والمعنوي بدليل حديث "إنما الأعمال بالنيات" وقال الفخر: أنه استثناء فيه النية والنظر، فجعلهما داخلين تحت مسمى العمل، فالجواب: أنه من باب استلزام الأخص أمر استلزمه الأعم من باب أحرى؛ لأنه إذا كان الفعل المسمى المعقب بالاستغفار مستلزما للمغفرة فأحرى أن يستلزمها المعنوي، فإن قلت: المراد نفي الفاحشة، والنهي عن فعلها حتى يصير كأنها من باب المحال، فلم عبر بـ إذا التي تشعر بتحقيق الوقوع، ولا تدخل إلا على الممكن أن التي يصح دخولها على الممكن، والمحال نحو: (قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ) فالجواب: أنه يراد تارة ثبوث الشرط، وتارة يراد ثبوت الملازمة بينهما، فلو عبر بأن لاحتمل أن يكون ثبوت الملازمة بينهما محال؛ لأن (إِنَّ) قد تدخل على المحال فيستلزم محالات فعبر بـ إذا التي هي لا تدخل إلا على الممكن، والممكن إنما يستلزم ممكنا مثله، ولا يستلزم المحال أبدا.

قيل لابن عرفة: أو يجاب بأنه إذا الاستغفار يزيل الذنب أثر الذنب المحقق فعله فأحرى أن يزيل المشكوك في فعله، والذي يقطع فعله ولم يفعله، قال كاتب هذا سمعت من ابن عرفة في ميعاده، وكان أعطاني ليلة الجلوس براءة تجعله على هذه الدولة نصها، إن قيل: لم عدل عن أن التي لَا تدخل على محقق الوقوع، ولا إمكانه إلى ذا الدالة على ذلك، مع فعل الفاحشة المطلوب شرعا نفيه لَا أنواعه؟، قلت: لأن المقصود من هذه الشرطية إنما هو ثبوت الملازمة بين فعل الفاحشة والاستغفار منها، ولفظ إذا يدل على رجحان وقوع الفاحشة الملزوم لعدم امتناعها فثبوتها يدل على ثبوت ملازمها قطعا ضرورة امتناع وقوع استلزام وقوع الممكن للمحال، والمحال قد يستلزم محالات فلا يثبت نفس الملازمة بين فعلهم الفاحشة وبين استغفارهم، فإن قلت: فإذا كان فعل الفاحشة منهم محالا كان أبلغ في رفع درجاتهم، قلت: ليس المقصود من هذا القسم حصول هذه الدرجة، بل هذه حالة الطائفة الأولى، والمقصود الإخبار عن طائفة يمكن وقوع الفاحشة منهم إلا أنهم لَا يصرون عليها، بل مبادرون بالاستغفار منها عاجلا، انتهى نقله من خط ابن عرفة. قال ابن عطية: والفاحشة لفظ يعم جميع المعاصي، وفسرها السدي بالزنا. قوله تعالى: (أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ) دليل على أن ذلك إلا أن يقال هنالك: معرفة بالألف واللام العهدية. ابن عرفة: ويحتمل عندي أن الفاحشة هي المعاصي المتعدية للغير، والظلم هو المعاصي القاصرة على النفس، وهو أحد تفسيري الزمخشري: في قوله تعالى: (وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ). قوله تعالى: (وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ). المكلف تارة بفعل الذنب ويستغفر منه وينوي أنه لَا يعود إليه، وتارة لَا يستحضر ذلك ونفي الإصرار يعم الوجهين. ابن عرفة: ما أفاد قوله (وَلَمْ يُصِرُّوا) بعد قوله تعالى: (ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ) وهو يعني عنه لحديث ما أصرَّ من استغفر، فالجواب عنه مثل ما أجاب به الفخر في قوله تعالى: (لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ) أي لم يصروا على ما فعلوه في المعاصي، وحالهم في المستقبل أنهم لو فعلوا فاحشة يستغفروا الله منها.

قيل لابن عرفة: أو يجاب بأن الأول أفاد استغفارهم عن الفعل الواقع لهم ويبقي إليهم فعله، والعزم على العود، فأفاد قوله تعالى: (وَلَمْ يُصِرُّوا) أو يجاب: بأنهم إذا فعلوا استغفروا لَا يعودون إلى الذنب مرة أخرى، فقال ابن عرفة: إذا عادوا إليه فهو ذنب آخر وفاحشة أخرى ليست منفية بعد الإصرار. قوله تعالى: (وَهُمْ يَعْلَمُونَ). قال الزمخشري: حال من فعل الإصرار وحرف النفي منتصبا عليهما معا وفسره بوجوه، ومنها قول بعضهم: (وَهُمْ يَعْلَمُونَ) إن باب التوبة مفتوح. ابن عرفة: والمعنى على هذا منصوب على الأول فقط دون الثاني. قوله تعالى: (خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ). قال الفخر عن القاضي عبد الجبار من المعتزلة: إنها دليل على أن الثواب مربوط بالعمل، فقال ابن عرفة: نعم تدل على أن هذا الثواب الخاص العمل، وليس فيها حصر بأن لَا ثواب إلا على العمل، وأيضا فالعمل على الإيمان، ونحن نقول: إذا لم يحصل الإيمان فلا ثواب واعتزل الزمخشري ورقق عن مذهبه الفاسد بآثار ذكرها وخلط الصحيح منها بالسقيم، وما توافق عليه أهل السنة، وما يخالفون فيه جملة منه تحمله على الناظر وعمومه عليه، ومن جملتها قوله عن شهر بن حوشب: طلب الجنة بلا عمل ذنب، وأرتجي الرحمة ممن لَا يطاق حمق وجهالة، أي ممن لَا يطيعه راجي منه الرحمة منه، وشهر بن حوشب: ضعيف عند المحدثين، وما حكاه عن الحسن صحيح، وقوله عن رابعة: ترجوا النجاة ولم تسلك مسالكها ... إن السفينة لَا تجري على اليبس قال الطيبي قبله: ما بال نفسك تبغي أن تدنسها ... وثوب جسمك معسول من الدنس فإن قلت: قال هنا: (وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ)، وقال تعالى في العنكبوت: (لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ) فعطفه هنا بالواو، ولم يعطفه هناك، فأجاب أبو جعفر: بأن هنا وقع ذكر الجزاء منفصلا معطوفا فقال: جزاؤهم مغفرة وجنات، فناسب أن عطف عليها الجملة التي مدح بها ذلك الجزاء، ولما لم [يفصل*] جملة

الجزاء في العنكبوت، ولا وقع فيها عطف جاءت جملة للمدح غير معطوفة، فناسب النظم التعلم. قوله تعالى: (هَنَا بيَانٌ لِلنَّاسِ). ابن عرفة: الإشارة ولم يكن نزل كله بالإشارة لما نزل منه، قيل له: يلزمك استعمال اللفظ الواحد في حقيقته ومجازه، قال هو كقول سيبويه: هذا باب كذا فالإشارة لمن يأتي. ابن عرفة: وعادتهم يقولون: فيه دليل على امتناع ورود المجمل في القرآن، وأنه كله بين، قالوا: وأجيب بأنه ليس المراد أنه بين الإجمال، بل المراد ببيانه دلالته على وجود الله تعالى ووحدانيته، وما يجمع له، وما يستحيل عليه، قالوا: وهذا ترق، فالبيان راجع للتصوير، والهدى للتصديق بالحق والباطل والموعظة راجحة لاتباع الأوامر والنواهي والاتعاظ بالخوف من عذاب الله. قوله تعالى: (وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ). هذا دليل على أن الأول خطاب المؤمنين فقط؛ لأن هذا خطاب لهم فتجري الآية على أسلوب واحد، ابن عطية: وهو من وهن، ومن كلامهم: المؤمن هين لين. ورده ابن عرفة بأن وهن معتل الفاء وهين معتل العين، فالمادة مختلفة والعجب من أبي حيان: كيف سكت عنه ولم يتعقبه، ابن عطية: وقول العرب إذا لم تغلب فاطلب وأطلابه الخديعة والمكر، ومنه فعل عمرو بن سعيد الأشدق، مع عبد الملك ابن مروان: فإنه عند قتله إياه خدعه. ابن عرفة: هنا وهم بأن عمرو بن سعيد مكر بعبد الملك، وليس كذلك بل المنقول هو أن عبد الملك مكر بعمرو بن سعيد، فالصواب أن يقول: ومنه فعل عبد الملك بعمرو بن سعيد فذلك أن عمرو بن سعيد طلب من عبد الملك أن يوليه الخلافة بعده، وقال له: قد صحبت أباك فامتنع عبد الملك فنفى عمرو إلى الشام واشتغل واستقل بنفسه فيه بالخلافة فجاء به عبد الملك وقاتله، ثم اصطلحوا على أن ولاه الخلافة من بعده وأعطاه أميرا في كل بلاد ثم أرسل إليه أن يأتيه أمر فحذره النَّاس منه، ولم يسمع منهم حتى آتى عبد الملك فدخل عليه، فقال: إني كنت جئت لك ظفرت بك لأكبلنك فكبله، ثم أخرجه إلى النَّاس وقتله.

قوله تعالى: (إِنَّ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ). ابن عرفة: فعل الشرط مستقبل، وهو هنا ماضي؛ لأن مس القرح لهم قد وقع ومضى، وحينئذ فترجع إلى السبب؛ لأن المس سبب في التألم، وهو دائم مستمر في المستقبل معناه: إن ينالكم تألم في المستقبل بسبب مس القرح، فقد مس القوم قرح مثله. ابن عرفة: وجواب الشرط إما المذكور بعينه أو لازمه ولكم في الكفار أسوة وسبيل، فقد نالكم مثل ذلك، قال وعادتهم يقولون: ما الفرق بين المس والإصابة قال تعالى: (إِنَّ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ) والظاهر أن الإصابة أعم لصدقها على الحسي والنظري، ولذلك تكلم الأصوليون على اختلاف هل كل مجتهد مصيب، أم لَا؟ مع أنه حكم نظري، والمس في المحسوسات يقول مس كذا، ولذلك فرق ابن رشد في المقدمات بينه وبين اللمس فجعل اللمس لَا يكون إلا عن قصد، يقول تماس الحجران، والمس يكون مقصودا وغير مقصود، فلا يطلق إلا على الأمور الضرورية المحسوسة فعبر هنا بالأخص في باب التسلي؛ ليكون أبلغ، وأنشد ابن عطية قول لخنساء: ولولا كثرة الباكين حولي ... على إخوانهم لقتلت نفسي ولا يبكون مثل أخي ولكن ... أعزي النفس عنه بالتأسي قال والتأسي بالنَّاس هو النفع الذي يجره إلى نفسه الشاهد المحدود، فلذلك ردت شهادته فيما حد فيه، وإن تاب وحسنت حاله. ابن عرفة: يريد الذي زنا وحده في الزنا لَا يقبل شهادته على أحد بالزنا؛ لأنا نتهمه أنه رمى غيره بالزنا لكي [يتسلى به*]؛ لأن الزاني يود أن يكون النَّاس كلهم زناة. ابن عرفة: وحكي أن طفلا أحدب عيره النَّاس فاشتكى إلى أمه فقالت: إذا دخلت الجنة يعير كل من عيرك أحدب، وتكون أنت وحدك مستوي القامة، فقال لها: لقد زدتيني غما وهما، إذ جعلتيني في الجنة خارجا منها وأنا في الدنيا كذلك. ابن عرفة: وخلط ابن عطية: وحكم للمجاور حرف الخلق. لأن ما وسطه حرف حلق، يجوز فتحه وتسكينه، باتفاق وما أخره حرف حلق فيه خلاف بين البصرين والبغداديين فشبه هو القرح لقولهم: أنا محموم.

(141)

قوله تعالى: (وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا). حمله الزمخشري على وجهين: أحدهما: ولتبين الثابت على الإيمان من غيرهم تمثيلا، أي فعلنا ذلك فعل من يريد أن يعلم من الثابت منكم من غير الثابت. الثاني: وليعلمهم علما يتعلق به الجزاء. قال ابن عرفة: هذا يوهم أن تم علما لَا يتعلق به الجزاء، قال: والفرق بين العلم والمعرفة، أن المعرفة من المتصورات والعلم تصديق وهو باطل لقولك: عرفت زيد فإنه تصديق لَا تصور، ويجاب: بأن مراده وأن متعلق العلم تصديق ومطلق المعرفة تصور موت من مات من الكافرين محاق له مصيره إلى العذاب الأليم، وموت من مات من المؤمنين شهادة له لمصيره إلى الثواب والنعيم المقيم. قوله تعالى: {وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا ... (141)} ابن عطية: التمحص تمييز الشيء مما هو منفعل عنه، والمحص تميزه مما هو متصل به، تقول: محصت عن زيد في بني تميم فوحدته، ومحصت الذهب من الفضة، أي خلصته منها، ومنهم من قال: المحص في الأمور الحسيات، والمحص من العقوبات، فإن قلت: لم عبر عن المؤمنين بالفعل، عن الكافرين بالاسم، فأجيب بوجهين: الأول: لحديث "سبقت رحمتي غضبي فمن اتصف بأدنى الإيمان مغفور له، والمغضوب عليه إنما هو من كفر وداوم على كفره، وصمم عليه وثبت". قيل لابن عرفة: أو يجاب بأن المراد من قرح الإيمان بالمعاصي فمحص الله حسناته من سيئاته، والكفر ليس معه حسنات فلذلك عبر عنه بالاسم، فإنه لَا يتناول إلا من أخص الإيمان، ولم يخلط بمعصيته، فرده ابن عرفة: بأن هذا عزيز لَا يعلم إلا لمن هو معصوم، قال: وعبر عنهم بالوصف دون الاسم تنبيها على الصفة التي لأجلها مدح هؤلاء، وذم هؤلاء، وهذان الوجهان مدح للمؤمنين، وحسرة للكافرين فهما معا في حق النبي صلى الله عليه وسلم بشارة سرور.

(142)

قيل لابن عرفة: ابن إسحاق قال: هي خاصة بكفار بدر ففيها أمحق الكافرين، فرده ابن عرفة: بأن المحق قسمان: حسي، ومعنوي فمحق بعض الكافرين يوجب إذلال الباقين وحسرتهم، فهو محق لهم بالمعنى. قوله تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ ... (142)} أي: دخولا أولياء، وهو الدخول المسبب عن الجهاد. قوله تعالى: (وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ). ابن عرفة: عبر عن المجاهدين بالفعل، وعن الصابرين بالاسم؛ لأن الصبر عام فلا توجد عبادة من العبادات إلا مع الصبر، فلذلك عبر بما تقتضي الثبوت واللزوم لعمومه، وأيضا فالجهاد متلف للنفس، وكل عبادة مما سواه هي مشقة على النفس فقط، والصبر على المتلف للنفس ألزم، وأقوى من الصبر، فلذلك عبر عن الصبر بالاسم. قوله تعالى: {وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ ... (143)} ابن عرفة: هذا تعارض قوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم "لَا تتمنوا لقاء العدو واسألوا الله العافية"، فالجواب: أن ذلك كان في أول الإسلام حيث كان الكفر كثيرا، والإسلام قليلا فنهوا عن تمني لقاء العدو، ثم قعد وكسع عن قتاله حين اللقاء أشد عقاب ممن لَا يتمنون لقاء العدو، ولا خطر له ببال. قوله تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ ... (144)} .. قال ابن عرفة: تضمنت الآية أمرين أحدهما: أنه من البشر، كقوله تعالى: (قُل إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثلُكُمْ) فوصف الرسالة فيه ليس ذاتيا له بل هو اختصاص من الله تعالى. الثاني: العتب على من هم بالردة من المسلمين في غزوة أحد لما صرخ الصارخ بأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قد قتل، وقال ناس من المنافقين: لو كان نبيا ما قتل، فأخبر الله تعالى بأن الرسل من قبله قد ماتوا وثبتت أممهم على دينهم، ولم

(145)

يرتدوا عنه بوجه والحصر على بابه وحقيقته؛ لأن وصف الرسالة يستلزم جميع أوصاف الكمال؛ لأنه معصوم. قيل لابن عرفة: ليس الحصر على بابه؛ لأنه لم يكن رسولا قبل البعث، فالقضية حينيه، وليست دائمة، قال: وكل قضية لَا تقتضي الدوام. قوله تعالى: (قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ). وقرئ (قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ رُسُلٌ)، ابن عطية: قراءة التعريف تعظيم وتفخيم وتنويه بهم، وقراءة التنكير تسير الأمر للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في معنى الحياة فكان تنوية بينه وبين النبيين عليه عليهم وعليهم وعلى آلهم السلام في ذلك. قال ابن عرفة: أراد أنه خلت من قبلكم رسل كثيرة وهلكوا بموت بعضها كاف في الرد عليكم في قولكم: لو كان نبيا ما قتل. قال ابن عرفة: وكان بعضهم يقول هذه تسلية له؛ لأنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم بتقديم آيات الرسالة وذكر موت من قبله عند ذكر موته؛ هذا وقيل مثل قوله تعالى: (عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ). قوله تعالى: (أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ). قال أبو حيان: الشرط بأن دخل على (انْقَلَبْتُمْ) لَا على موته. ورده ابن عرفة بأنه دخل على مجموع القضية؛ لأن أصله إن مات انقلبتم على أعقابكم، وهذا شرط لازم فدخل على الاستفهام بمعنى الإنكار لملازمة الشرطية، وموته ممكن واقع، وقتله ممكن غير واقع، لقوله تعالى: (وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ). قوله تعالى: (فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا). لن يضر رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم لقوله تعالى: (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ) والتأكيد بالمصدر، وهو شيء داخل على النفي، فهو نفي أخص لَا نفي أعم. قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ ... (145)} قال الزمخشري: إن أردت نفي ما ينتفي بذاته أتي بأداة النفي فقط، مثل ما تطير زيد ولا يحتاج إلى نفي القابلية؛ لأن العقل يصدق ذلك النفي، وإن أريد نفي ما هو

(146)

ممكن الوقوع أو قريب من الإمكان، أتاك بكان التي تقتضي بنفي القابلية مثل: ما كان لزيد أن يقوم، فهو قابل لذلك باعتبار جنسه غير قابل له بذاته، فدخلت كان هنا على النفي وأتى به في صورة الممكن ليكون أبلغ في النفي. قوله تعالى: (وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا). ابن عرفة: تضمنت الآية أنهم على ثلاثة أقسام مؤمن مجاهد في سبيل الله ثابت على دينه، وآخرون ارتدوا على أعقابهم وهموا بالردة، وآخرون اشتغلوا بالغنائم ومتاع الدنيا، قال تعالى في سورة هود: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ)، وقال تعالى في الإسراء: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا)، وقال تعالى في سورة الشورى: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ)، وقال ابن عطية: هذه الآية مقيدة بآية الإسراء؛ لأن ذلك مشروط بالمشيئة إذ ليس كل من أراد الدنيا نالها بل كثير من النَّاس أرادها، ولم ينلها، لقوله تعالى: (عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ) يقول الغيبة، ولم يقل ما يشاء بياء الغيبة، فقال ابن عرفة: هذا لَا يحتاج إليه إذا جعلنا من للتبعيض، ويمكن أن يجعلها للسبب، ويكون من الكلام الموجه المحتمل للشيء وصفه، مثل حديث "إذ لم تستحِ فاصنع ما شئت" أي: (وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا) قوته بسببها إما مراده، وإما الخيبة من مراده، وإما العذاب والشقاوة، وعطف الثاني عليه يدل على الماضي هو الثواب ليس إلا قوله: (وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ)، راجع لقوله عز وجل: (وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ) فهو دليل على أن من أراد ثواب الآخرة تنعم عليه في الدنيا وفي الآخرة؛ لأن التكرار إنما يكون على النعمة فيعطف بمراده في الآخرة وينعم بسبب ذلك في الدنيا فيشكر الله على ذلك فيثاب أيضا عليه في الآخرة على شكره. قيل لابن عرفة: فمن طلب الدنيا بالآخرة يجوز، قال فيه قبح، ومثاله: رجل أنزل الجهاد وجلس للتجر، ورجل آخر خرج مع المجاهدين قاصدا للتجر والغنيمة فهذا أقبح من الأول. قوله تعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ ... (146)}

أنشد ابن عطية هنا: [وكَائِنْ تَرَى مِنْ صامِتٍ لكَ مُعْجِبٍ ... زِيَادَتُهُ أَوْ نَقْصُهُ في التَّكَلُّمِ*] قال أبو عبيد في الأمثال: البيت للأحنف بن قيس، كان يجالسه رجل يطيل الصمت حتى عجب منه الأحنف، ثم إنه تكلم يوما، فقال للأحنف: يا أبهر تقدر أن تمشي على شرف المسجد فعنده تمثل البيت وبعده لسان الفتى نصف، ونصف فؤاده ... فلم يبق إلا صورة اللحم والدم قال شيخنا: أخبرا شيخنا الفقيه أبو عبد الله محمد بن يحيى بن الحباب قال أخبرنا شيخنا الفقيه الأستاذ أبو العباس أحمد بن يوسف السلمي الكناني قال: قلت لشيخنا الأستاذ أبي الحسن علي بن عصفور: لم أكثرت من الشواهد في شرحك للإيضاح على (كَأَيِّنْ)، قال: لأني دخلت على السلطان الأمير أبي عبد الله المنتصر فألفته ابن هشام خارجا من عنده، فأخبرني أنه سأله عما يحفظ من الشواهد على قراءة (كَأَيِّنْ) فلن يستحضر غير بيت الإيضاح: [وكائنْ بالأباطحِ من صديقٍ ... يرانى لو أصبتُ هو المصابا*] قال ابن عصفور: فلما سألني أنا، قلت له: أحفظ خمسين بيتا، فلما أنشدته نحو العشرة، قال حسبك، ثم أعطاني خمسين دينارا فخرجت فوجدت ابن هشام جالسا بالباب، فأعطيته شطرها. قوله تعالى: (فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا). قال ابن عرفة: هذا ترتيب حسن؛ لأن الوهن أشدها وعليه الضعف، وعليه الاستكانة، فنفى أولا الأبلغ، ثم نفى ما دونه، ثم نفى ما دونه؛ لأن نفي الأخص لا يستلزم نفي الأعم، وفي الآية الحذف من الثاني لدلالة الأول عليه، وما ضعفوا لما أصابهم. قال ابن عرفة: والضمير في (وَهَنُوا) إما على لفظ الربيين دون معناه، مثل عندي درهم ونصفه؛ لأن من قل لَا يوصف بعدم الوهن، وإما عائد على أن الربيون لفظا، ومعنى، ويكون المراد أنهم ماتوا على حالة التجلد والشدة من غير خوف في نفوسهم ولا ضعف في قلوبهم بوجه.

(147)

ابن عرفة: والآية دالة على أن من فعل شيئا من الطاعات من غير مشقة عليه فيها، فإنه يسمى صابرا، قال بعضهم: كمن يترك شرب الخمر والزنا من غير مشقة عليه في تركه، أو يصوم لكونه اعتاد ذلك وصار معتادًا؛ لأن هؤلاء لم ينالهم وهن ولا خوف، فسماهم صابرين، وقد حكى ابن الحباب: أنه حضر في محضرة بجاية وقت إنها هذه، قال: توقف رجل تحت الجبل فرميت عليه حجرا من أعلى الجبل شرخت رأسه، فرجع آخر في موضعه في الحين، فألقى بنفسه إلى الهلاك فالصبر إنما هو حبس النفس على لزوم الأمر المؤلم لها، وهذا عند هؤلاء غير مؤلم بل صار كأنه جبل يدل على أن صاحبه يسمى صابرا. قوله تعالى: {وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا ... (147)} قال ابن عرفة: الذنوب والإسراف بمعنى واحد، وعن ابن عباس الذنوب عام، والإسراف راجع للكبائر. ابن عرفة: وعندي أن الذنوب راجعة لعدم امتثال الأوامر والإسراف لعدم اجتناب النواهي، لأن الإسراف في اللغة هو الزيادة على الشيء، قال تعالى: (وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ) وقرأ جماعة قولهم بالرفع، ابن عطية: والخبر فيما بعد [(إلَّا) *]. قال ابن عرفة: تقرر في الإيضاح وغيره أنه لَا يجوز أن [أن الذاهبة جاريته صاحبها*]، فالمعنى كان قولهم: [(رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا) وَانْصُرنَا .. وَإِسْرَافَنَا*] .. والجواب: أما على قراءته بالرفع، [وهي*] الشاذة يكون الخبر أعم من المبتدأ، [فيصح الإخبار به*]، لأنه أعم منه؛ لأن [قولهم*] مضاف لضميرهم، فإن قالوا: أعم منه، والتقدير: (وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا) [قول*] رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا) [وقول*] أعم من قولهم، وأما على القراءة المشهورة فيكون من باب، [فأنكرت*] الوجوه، وقلت: هم هم، ومثل: جد جده، وشعر شعره، فهو تأكيد وإطناب، وقال ابن عطية: ينحوا إلى أنهم أن ما نزل بهم من مصائب الدنيا، إنما هو بذنوب مضت لهم؛ كما جرت قصة أُحدٍ بعصيان من عصى، فقال: كيف يعتقدون هذا مع أنهم ما وهنوا لما أصابهم وما ضعفوا وما استكانوا. قوله تعالى: (وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا). قال ابن عرفة: اتصفوا بالصبر في الحال والعزم على استدامته في الاستقبال فلذلك طلبوا تثبيت الأقدام، ابن عطية: قال ابن فورك في رده على القدرية

(148)

بقوله: (فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا ... (148) .. ابن عطية: عن ابن جريح هو الظفر والغنيمة، وعن النقاش: هو العقل والغلبة فقط، لأن الغنيمة لم تحل إلا لهذه الأمة. ابن عرفة: كانت الغنيمة في الأمم المتقدمة، وكانوا يأخذوها ويتصدقون بها، ويجعلونها قربانا، وإنما أحل لنا نحن الاستمتاع بها، ولم يقل ابن جريج: بل قال الغنيمة مطلقا، وقد كانت حلالا لمن بلغنا على هذا الوجه. ابن عرفة: (وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ) أخص من الجنة. قوله تعالى: {يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ (149)} من باب ذكر المستلزم، ولازمه، لأن لازم ردهم على أعقابهم انقلابهم خاسرين. قوله تعالى: {سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا ... (151)} قال الزمخشري: هذا مثل: عَلَى لَاحِبٍ لَا يَهْتَدِي بِمَنَارِهِ؛ لأنه يوهم أن هناك سلطانا، وحجة مع أن الشرك بالله لَا سلطان له، كقولك: ما جاءني غلام زيد فيتوهم أن لزيد الغلام، قال الفخر: والآية حجة لمن يقول بذم التقليد بالإطلاق، فلا وإن أراد ذم تقليدها، فتكون مهلة، والمهلة في قوة الجن ومنه فنقول نحن: نعم، وهو التقليد في الباطل الذي ليس له أصل يستند إليه من حجة ولا دليل. قوله تعالى: (وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ). قال: (النَّارُ) مبتدأ، أو (مَأواهُمُ) خبر ليفيد الحصر. قوله تعالى: {إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ ... (152)} قال أبو حيان: العامل في إذ وعده. ورده ابن عرفة بأن الوعد قديم سابق على وقت، فإن قلت: المراد متعلقة الصدق؛ لأن الوعد إذا وقع الموعود به، كان صدقا وإلا كان كذبا، فالعامل فيه صدق مع الصدق قديم، لكن المراد ظهور الصدق الموجود. قوله تعالى: (بِإِذْنِهِ). أي بأمره، والمناسب أن يراد بقدرته ونصرته، (وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ) إما أن يراد الأمر الحقيقي يقتضي النهي؛ لأنهم تنازعوا هل يبقون على أمر النبي صلى الله عليه

(153)

وعلى آله وسلم بالثبوت على الخيل، أو ينصرفون لأخذ الغنائم، أو المراد بالأمر الشاق. قوله تعالى: (مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا). ابن عرفة: المناسب أنه يريد الدنيا والآخرة؛ لأنهم مسلمون، ومنهم من يريد الآخرة فقط. قوله تعالى: (ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ). قلت: المناسب باعتبار الفهم، أن يقال: ثم صرفهم عنكم لما نالهم من الرعب، والذعر فانصرفوا عنهم، لكن ما يجعل الابتلاء إلا بصرف المؤمنين عن الكافرين، فحينئذ يزداد المنافقون كفر ويثبت المؤمن على إيمانه. قوله تعالى: (وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ). أي ليس أفضاله عليكم قاصرا على هذه النعمة، بل له على المؤمنين فضائل سابقه، ولاحقه. قوله تعالى: {إِذْ تُصْعِدُونَ ... (153)} قالوا: العامل في أن ظاهر وهو: عفى عنكم، أو مقدر: أي اذكر (إِذْ تُصْعِدُونَ) وضعف أبو حيان بأن اذكر مستقبل، (إِذْ تُصْعِدُونَ) ماض. ابن عرفة: وعادتهم يجيبون بوجهين: الأول: أنه عامل فيه، عمل الفعل في المفعول به لَا عمله في الظرف. الثاني: أنه عامل فيما هو متعلق به، أي اذكر حالكم (إِذْ تُصْعِدُونَ) قال ابن عرفة: فإما أن الله تعالى عفا عنهم، أو عاقبهم بأدنى ما يستحقون، وقوله تعالى: (وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ) إما أن يريد به النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - وهو الظاهر، أو رسوله. قوله تعالى: (فِي أُخْرَاكُمْ). ولم يقل: أولاكم؛ لأنهم لما انهزموا ورجعوا ثبت هو في موضعه، فصار في أخراهم بعد إن كان في وسطهم، أو في مقدمتهم، وفروا هم عنه، فصار في أخراهم. قوله تعالى: (فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ).

(154)

إما أن يراد الغم بالحسرة، أي حسرة بعد حسرة، ومصاحبة بحسرة وأثابكم فما بسبب ما تسببتم من غم الكفار يوم بدر، وهذا الأخير ضعيف إلا أن يتاول بأنه تسليه لهم، ولفظ الثواب على هذه حقيقة لَا تهكم. قوله تعالى: {ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا ... (154)} أبو حيان: نعاسا يمتنع أن يكون مفعولا من أجله؛ لأنه ليس مفعولا لفاعل الفعل المعلل. ابن عرفة: إلا لو كان نعاسا؛ لأنه من أنعس الله فلانا، وأما هذا فإنما هو من قولك: نفس زيد ففاعله ليس هو الله بخلاف فاعل الإنزال. قيل لابن عرفة: مذهب الأشعرية، أن لَا فاعل في الحقيقة إلا الله ونسبة الفعل إلى العبد مجاز، فقال: المفعول من أجله إنما ينتصب الفعل لمن يصح وقوع الحدث منه كقوله: جئت إكراما لك؛ لأنك تقول: أكرمت المجيء والنعاس يستحيل وقوعه من الله، وإنما يقع من المخلوق، والواقع، من الله هو الإنعاس، وقال تعالى في الأنفال: (إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً) فقدم النعاس، فأجاب ابن عرفة: بأن فاعل الغشيان هناك، هو النعاس، فلذلك قدم الأمنة واختلف الزمخشري، وابن عطية، فقال الزمخشري عن أبي طلحة: غشينا النعاس ونحن في مصالحنا، فكان السيف يسقط من يد أحدنا فيأخذه، وما أحد إلا ويميل تحت [حجفته*]، يعني درقته، فعبر بلفظ النعاس في كتاب الظهار أنه أوائل النوم، ونص على أن ذلك كان في معركته القتال، لقوله في مضافا، وعبر ابن عطية ونص على أن ذلك إنما كان بعد ارتحال أبي سفيان من موضع الحرب، وانفصال القتال، وهو ظاهر الآية لقوله تعالى: (ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ) فعطفه بـ (ثم) التي تهمله، ونص حديث أبي طلحة البخاري في كنت فيمن يغشاه النعاس حتى سقط سيفي من يدي مرارا يسقط وآخذه، وقرئ (يَغْشَى) بالياء والتاء، فالتذكير لنفس النعاس، والتأنيث لمعناه، قلت: وهو السنة، أبو حيان: والأمنة مفعول من أجله؛ لأن المُؤَمِّنَ هو الله تعالى، وهو الفاعل وعكس المختصر الأمن، إلا أن يقال: الأمن مفعول، كقولك: أمن زيد يستدعي أن غيره أمنه فهو مؤمن والله أمنهم. قوله تعالى: (يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ).

ابن عرفة إن قلت: ما أفاد قوله تعالى: (فِي أَنْفُسِهِم) مع أن الإخفاء يعني عنه، فالجواب: أن الإخفاء قد يكون باعتبار رجلين يسر أحدهما إلى الآخر حديثا نفيا من غيرهما، وقد يكون في حديث النفس فلذلك، قال تعالى (فِي أَنفُسِهِمْ). قوله تعالى: (يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ). قيل لابن عرفة: هذه الجملة مفسرة للأولى، فقال: ليست مفسره؛ لأن القول في الاصطلاح بصفة في النطق اللفظي فلذلك قال الفقهاء: إذا حلف أن لَا يقول شيئا فإنه لا يحنث إلا بالنطق اللفظي، والجملة الأولى حملناها على كلام النفس فهما علتان مستقلتان. قال ابن عطية: أو غيره وهذا إما تعريض لكفرهم بالنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، لو لم يشاء على ديننا ما قلنا شيئا من هذا، وإما إشارة منهم إلى استدانة عنهم، فالرأي وأنه لو استشارهم لأشاروا عليه الجلوس وعدم الخروج. ابن عرفة: وهو الظاهر لوجهين: الأول: أن التعريض، مستفاد من قوله تعالى: (يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ) فأغنى عن هذا. الثاني: قوله تعالى: (قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ) دليل على أنهم قصدوا بذلك التنبيه على أنه لو دبره معهم لأشاروا بالجلوس، فلذلك حسن الرد عليهم بقوله تعالى: (لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ) لمات من حضر أجله منكم بالقتال، وبنور من ذات اختياره. قوله تعالى: (قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ). ابن عرفة: تكذيب للقضية المتقدمة بصدق نقيضها، وإما إبطال للقياس بأحد مقدمتيه، وهي الكبرى بمعنى الأولى لو كان لنا من الأمر شيء لما خرجا، ولو لم يخرج ما نقلنا فأبطلت القضية كلها، بأن قيل لهم: بل (لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ) لخرجتم. ومعنى الثاني: أن يمنعكم الكبر، وهو كلما لم يخرجوا، ولم يقتلوا يصدق ما هذا، خص منها لكن كونهم في بيوتهم أخص من لو كان لنا من الأمر شيء، فإذا ترتب الموت على كونهم في بيوتهم فأحرى أن يترتب على عدم خروجهم.

(155)

قال ابن عطية: وهذا من المنافقين، قول بأن للإنسان أجلين، فرده ابن عرفة بأن نقول: لعلهم وقفوا مع الأمور العارية، ولم يعتقدوا ذلك مذهبا. قوله تعالى: (وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ). ابن عرفة: فيه سؤال مذكور في حسن الائتلاف لم أسند الابتلاء للصدور والتمحيص للقلوب، ثم أجاب بأن الابتلاء هو الاختيار فهو إشارة إلى كمال تعلق علم الله تعالى، فإذا كان علمه عام التعلق ناسب أن يسند لك الأعم، وهو الصدر، وأما التخصيص فهو تخليص شيء بشيء وتصفيته فالمناسب تعلقه بالمعنى المقصود من الإنسان، وهو القلب كما في حديث "ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب". قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ ... (155)} قال ابن عرفة: في لفظ هذه من التلطفة والإشفاق ما ليس في سورة الأنفال، وهو قوله تعالى: (يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ) والتطلف فيها من وجهين: الأول: التصريح بلفظ الدبر في آية الأنفال دون هذه. الثاني: أن لفظ التولي يقتضي تكليف الفعل، فهو إشارة إلى أن لهم في ذلك عذر أما وأنهم إنما فعلوه إنظار وتكليفا وليس باعتبارهم؛ لأنهم فرقوا بين ولّوا وتولوا، كما فرقوا بين كرم وتكرم، فلذلك رتب عليه الوعيد الأخف مع العفو. قيل لابن عرفة: وأيضا فإن هذا إخبار عن واقع فناسب التلطف به وتلك الأخبار عما سيقع فناسب بأن نعبر عنه باللفظ البليغ الشديد صرفا عنه وإبعادا. قوله تعالى: (إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ). قال ابن عرفة: إن كانت السين للعطف فظاهر، وإن تكن كذلك فيكون (اسْتَزَلَّهُمُ) بمعنى أن أزلهم، فإن أريد بسوء العاقبة فالسين للتحقيق، وإن أريد قبح الفعل الواقع منهم في الحال مجريا من غير تحقيق، قال الفخر: واحتج بها الكعبي من

(156)

المعتزلة على أن الشر لَا يقع من الله لأجل أداة الحصر، وأجاب ابن عرفة بأن نسبته لغيره، وإنما هي في اللفظ فقط على جهة الأدب والكل من خلقه وفعله، والحصر في الآية إنما هو في لفظ ببعض، أي لم يستزلهم إلا الشيطان إلا ببعض مكسوبهم، وليس المراد أنهم لم يستزلهم إلا الشيطان بوجه. قال الزمخشري: فإن قلت لم قيل: (بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا) وأجاب: بأنه كقوله تعالى: (وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ) ابن عرفة: هذا بناء منه على أن المراد ما كسبوه من الشر فعفوا أكثره وبقي أقله هو شر يسببه بوسوسة الشيطان، وأما لفظ (كَسَبُوا) صادق على كل ما مكسوبهم من خير وشر، فالشر بعضه، فلا يرد السؤال بوجه. قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ). الحليم هو الذي لَا يعالج بالعقوبة فيؤخر العاصي ليستدرك فيتقي لما يغفر له. وقوله تعالى: (لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا ... (156) ابن عرفة: إذا نهى الإنسان عن التشبيه بل هو متصف بوصفين، فالنهي مصروف إلى الوصف الأخص منهما، وهو القول الذي لأجله وقع النهي، والآخرة إما في النسب، أو في الدين، وهو هذا أخص من ذلك؛ لأنهم فالوه لأصحابهم من المنافقين، ونظيره ما يأتي، قلت لابن عرفة: في (وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ) فانظره والظاهر أن إذا ضربوا حكاية حال ماضية، قال الفخر ابن الخطيب: والآية حجة على الكرامية القائلين: بأن مجرد النطق بالشهادتين كاف في حصول الإيمان، وإن لم يصحبه الاعتقاد القلبي لقوله تعالى: (كَالَّذِينَ كَفَرُوا) فجعل المنافقين كفارا مع أنهم نطقوا بالشهادتين في الظاهر، وإن لم يعتقدوا بقلبهم شيئا، وأما هؤلاء فهم يعتقدون نقيض الشهادة فهم كفار بالضرورة. قال ابن عرفة: وما أضعف الفخر في التفسير؛ لأن بعضهم يقول: فيما إذا اشتمل الكلام على المعاني بين أمرين معطوفين بواو، ثم رتب عليها أمران آخران، فإِنه يجوز عطفهما بـ أو، أو عطفهما بالواو كهذه الآية. قوله تعالى: (أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا). قال ابن عرفة: هذا وقف منهم على الأمور العالية، ابن عطية: [مَن جمع غاز، وزنه فُعل كشاهد وشهد*]، قال رؤبة: فالآن أول علم ليس بالسنة، وقول الآية فلأنه أي: إن

(157)

لم تتب الآن فلا تتوب أبدا، وهو مثل معناه: إن لم يكن كذا فهو كذا، وقال الأصمعي: إن لم يكن كذا فلا يكن كذا، قلت، وقال أبو عبيد في الأمثال في باب طلب الحاجة: معناه هذا الآن فلا يكن بعد الآن. قوله تعالى: (لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ). قال الزمخشري: معناه أن الله عند اعتقادهم ذلك الأمر الفاسد يضع الغم والحسرة في قلوبهم وتضيق صدورهم عقوبة. ابن عرفة: هذا فيه ترقيق لمذهبه الاعتزال إلى الفساد؛ لأن قولهم (لَوْ كَانُوا عِندَنَا مَا مَاتُوا)، ومذهبهم أن الله لَا يخلق المعصية ولا يريدها فلذلك أسند الجعل الواقع من الله تعالى إلى متعلق القول، ولم يسنده إلى القول نفسه، ونحن نقول: اسم الإشارة راجع إلى نفس مقالتهم لَا إلى متعلقاتها وهي الحسرة والحيرة والحزن والندم، وهي مختلفة المعاني فالحزن هو التألم، والتفجع على أمر وقع من غير تسبب فعل للمتألم كمن يحزن على ميت، فالندم هو التلهف على عدم فعل الشيء، كما ورد "لا يقول أحدكم لو كان كذا، فإن لو تفتح عمل الشيطان"، والحيرة: هو التألم من أمر أنت قادر على فعله، ومتمكن منه ففرطت فيه حتى فات، فكذلك هؤلاء كانوا قادرين على الجلوس في بيوتهم. قوله تعالى: (وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ). إن قلت: ما فائدة ذكر الإحياء مع أن الكلام في موت من مات؟ قلت: فائدته التسوية بين الأحياء والأموات فمعنى أنكم كما شاهدتم الإحياء، وعلمتم أن الله تعالى هو الذي أحياهم من غير سبب كذلك فاعلموا أن الله تعالى قادر على إماتتهم من غير سبب، فقد يموتون وهم في بيوتهم، وقد يحضرون القتال ويشعرون بالجراح ويعيشون. قوله تعالى: (وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ). قرئ بتاء الخطاب يشمل المؤمنين والمنافقين، فهو وعد ووعيد، وقرئ بياء الغيبة فخص المنافقين، ويكون صوابه وعيد فقط. قوله تعالى: {وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ ... (157)}

قال ابن عرفة: لما قتل مرجوحية القتل في سبيل الله بقوله تعالى: (وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ) عقبة ببيان راجية على الموت من غير قتل. قوله تعالى: (أَوْ مُتُّمْ). إما أنه فيه حذف من الثاني لدلالة الأول عليه، أي (أَوْ مُتُّمْ) في سبيل الله، أو هو كما قال ابن بشير في كتاب الطهارة في التيمم: إن الأصوليين اختلفوا في العطف هل يقتضي التشريك في المعنى كما تقتضيه في الإعراب أم لَا؟ وتقدم بيانه في هذه السورة في قوله تعالى: (وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ) وأشارا إليه ابن التلمساني: في المسألة الرابعة من الباب الثالث في العطف على العام، هل يفيد العموم، أم لَا؟ قال ابن عرفة: والقراءة على ثلاثة أنواع، فواحد يموت قبل حضور القتال، فهذا قال في المدونة لَا يسهم له، فلو لم يذكر في الآية لما توهم أنه لا يلحق برتبة الشهداء؛ لأن الأول لَا يسهم له في الغنيمة، والثاني: يغسل ويصلى عليه بخلاف الميت في معركة القتال، فذلك قال تعالى: (أَوْ مُتمْ) ليتناول هذين النوعين. قوله تعالى: (لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ). قال مغفرة نكرة، والتنكير للتعظيم، ولاسيما مع قوله تعالى: (مِنَ اللَّهِ) حسبما نبه الزمخشري عليه في قوله تعالى: (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ) فإن قلت: ما فائدة قوله تعالى: (وَرَحْمَةٌ) بعد ذكر المغفرة؟ إن الرحمة سبب في المغفرة فهلا قدمت عليها، أو لم تذكر من أصل، قلنا: المغفرة هي نعمة، وهي رفع الأمور المؤلمة، فالرحمة تعم الجلب والدفع، فالرحمة بالثواب ومحو السيئات، والمغفرة تقتضي محو السيئات فقط، فكان العطف تأسيسا. قوله تعالى: (خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ). قرئ بياء الخطاب وبياء الغيبة. ابن عرفة: فعلى قراءة الغيبة يكون خير فعلا، ولا مشاركة فيها، وعلى قراءة الخطاب يكون للمؤمنين فهي أفعل من؛ لأن موتهم في القتال أخير وأحسن من جمعهم فيه أنفقاه في السبيل في التصدق بها؛ لأنها أحسن من جميع المال لإنفاقه في شهوات الدنيا ولذاتها، فإن قلت: كلف بها من مات، قلنا: هي حكاية حال ماضية، أي خير من جمعهم المال عاشوا وجمعوه، ثم لما كان الموت بغير القتل أكثر منه بالقتل، وكان الخير يعم الجميع بالأعم، ليرتب عليه الوصف العام.

(159)

قوله تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ ... (159)} ابن عرفة: الآية تدل على أنه في مقام التوسط بين الشدة واللين لقوله تعالى: (لِنْتَ لَهُمْ)، ولم يقل: فبما رحمة من الله كنت لينا، أو كنت تلين، فليس هو في ذاته في لين، لكنه يستعمل اللين وما قالوا: إنها زيادة في اللفظ، قال أبو حيان: ورده ابن عرفة: فإنه يلزم عليه أن القرآن مخلوق؛ لأن الحروف والألفاظ مخلوقة، إلا أن يريد أن الحروف مخلوقة والمعنى قديم ومنهم من يمنع ورود الزيادة في القرآن، كما منع إطلاق التهكم فيه، ومنهم من قال: فائدة التأكيد، فإنه قائم مقام تكرير اللفظ بعيد، فكأنه قيل: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ) وقال بعض الطلبة: الزيادة مجاز، فيمكن في الآية وجه آخر من المجاز، وهو أن فيها تقديما وتأخيرا، كما قالوا: في (غُثَاءً أَحْوَى) كذلك نفي المعنى، (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ) وتكون ما نكرة وصفة، وعلى ما ذكر أبو حيان: تكون ما نكره لَا موصوفة، ولا موصولة كما التعجب. قوله تعالى: (فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ). ابن عرفة: الفاء للتسبيب، وليست عاطفة إذ لَا يصح عطف الجملة الطلبية على الخبرية، وتقدير السبيبة بتمهيد أنه لين الجانب، وعلى الاتصاف على خلق عظيم، فهو قائل: لأن يعفو عنهم، فليسبب أمر بالعفو عنهم. قوله تعالى: (وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ). حمله ابن عطية والزمخشري: على الرجوع لفريق واحد. ابن عرفة: والظاهر أنهم ثلاثة أقسام، فريق فروا فلم يرجعوا، فهؤلاء أمر بالعفو عنهم، [وآخرون*] فروا حتى قال لهم: إلي فارجعوا، فأمر بالاستغفار لهم، وآخرون ثبتوا ولم يفروا، فهؤلاء المأمور بمشاورتهم في الأمر، قيل: فرجعوا فأمر بالاستغفار لهم. ابن عرفة: قال الفخر: أن المتشاورين، أبو بكر، وعمر، مع أن عمر لم يثبت، فقال: منصبه معلوم. قال ابن عطية: ومن لَا يستشير أهل العلم والدين فعزله واجب بلا خلاف. قال ابن عرفة: هذا غير صحيح، ولم أره لغيره، والمسألة مذكورة في أصول الدين في باب الإمامة، وفي كتب الحديث، وفي الفقه، وذكروا فيها فعل الإمام، ما

(160)

هو أشد من ذلك لَا يجب عمن له بوجه، ابن عطية: وصفه المشاور في الأحكام كونه عالما دينا، والمستشار في أمور الدنيا كونه عاقلا مجربا. ابن عرفة: دينا أيضا لئلا يخدعه ولا ينصحه، وقد ورد "الدين نصيحة". قيل لابن عرفة: في زمانه فمنهم من أجاز الاختيار والتعليم، فقال: هذا لم يقله أحد، وإنَّمَا الخلاف في اجتهاد محضره، وهو يسمع من غير أن يسأله أحد منهم وتسديده بذلك، وأما هو فمجتهد في نفسه ويخبرهم بما ظهر له فيمتثلونه؛ لأنه سألهم. قال ابن عرفة: والآية دالة على اعتبار الأسباب العادية، وهل تدل على أن السبب ما ينافي التوكل، وهو الظاهر والنَّاس على ثلاثة أقسام: فقوم من المتصرفين أفرطوا وتركوا الأسباب وتوكلوا، وآخرون اعتبروا الأسباب فقط، وآخرون فعلوا الأمرين، وقال صلى الله عليه وعلى آله وسلم لصاحب الناقة "اعقلها وتوكل". قال ابن عرفة: واتخاذ السبب عندي أولى وأقرب لمقام التوحيد؛ لأن من أكل وتوكل أكثر توحيد ممن ترك الأكل وتوكل؛ لأن الجوع والشبع بخلق الله تعالى، لا بالأكل وعدمه؛ لأن الذي أكل يؤخذ أنه من جهتين: لأنه يعتقد أن قدرة الله متعلقة بخلق ذلك الشيء المأكول، ويخلق الشبع له عند أكله إياه، والذي لم يأكل معتقد تعلق القدرة بشيء واحد وهو الشبع فقط. قوله تعالى: {إِنَّ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ ... (160)} ابن عرفة: دون أي إشارة لتساوي الأمر، وأن نصرتهم وخذلانهم يالنسبة إلى قدرته متساويان، وليس أحدهما أرجح من الآخر، فإِن قلت: هلا قيل: (إِنَّ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ) تنصروا وتظفروا، أو أنتم الغالبون؛ لأنه أصرح في تغلبهم على عدوهم، ولفظ الآية ليس بصريح في غلبهم لعدوهم بل بنفي، وهو أن لَا تغلبوا ولا تغلبوا، قال: وتقدمنا الجواب عنه: بأنه حذف جواب الشرط، وذكر ما يستلزمه والتقدير: إن ينصركم الله ظفرتم ولا غالب لكم، ولو قيل: ظفرتم فقط، لما أفاد انتصارهم في

(161)

المستقبل، فقيل: هذا تنبيه على ظفرهم بعدوهم في الحال والاستقبال، أي إن ينصركم الله على عدوكم انتصرتم عليه في الحال، ولا يغلبكم بعد ذلك [أحد*]، إن الله معكم، فذكر ظفرهم بعدوهم في الاستقبال بالطائفة وفي الحال باللزوم، وتقدير الثاني: [وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ*] هزمتم، (فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ)، وأجيب: أيضا بأن نصرة الله بأحد الوجهين: إما بأن يغلبوا عدوهم، وإما بممانعة حتى يساوونه ولا يغلبهم أحد، وذلك إذا كان أكثر منهم، وأشد قوة، وهم في غاية الضعف، فينصرهم الله عليهم، بمعنى أنه يمنعهم من غلبتهم، وإن قلت في الثاني: (وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ) فلا ناصر لكم، فالجواب: إذا كان المخاطب موافقا على ما خوطب به، فيؤتى بخطابه بحرف الاستفهام. قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ ... (161)} قرئ [(يُغَلَّ)، وهو من الغلول، بمعنى الخيانة في الغنيمة وغيرها، وقرئ (يَغُلَّ)] وهو من غل يغل، وهو من الغل، بمعنى الحسد والحقد، وحكى ابن عطية عن الضحاك، أن سبب نزولها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث طلائع في بعض غزواته، ثم غنم قبل مجيئهم، فقسم للغانمين، ولم يقسم للطلائع فأنزل الله هذه الآية [عليه عتابا*] [**فصرفه عن الجبال معنى، والتقديرية للجهات وهذا قبيح]، ومبادرته لما فيه من التعرض لمقامه والمناقضة، لقوله تعالى: (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى). ابن عرفة: والصواب عندي فيه آخر، وهو أن يبقي على حقيقته، ويكون المراد أن جميع ما صدر منه صلى الله عليه وعلى آله وسلم ليس بغلول؛ لأنه شرع في أفعاله كلها، لَا غلول فيها بوجه، وإن كان ظاهرها الغلول لمن أراد، ويمنع منهم من رد قراءة (يغل) يعني، ما كان له أن يصور فإلا، أي لَا ينبغي أن يعتقد فيه الغلول بوجه. ابن عرفة: ويصح العكس، وهو رد يُغل إلى يَغل، ويكون فعل على حذف مضاف، وما كان لتابعي النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أن يَغل فإذا لم يَغل [تابعه*] صدق أنه لَا يُغل، وهذا على سبيل النهي. قوله تعالى: (وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ).

(162)

ورد في الحديث "ألا لأعرفن أحدكم يأتي ببعير له رغاء، وبقرة لها خوار، وشاة لها يَعَارٌ، فيقول يا محمد، فأقول لَا أملك من الله شيئا" الزمخشري: وعن بعض جفاة العرب أنه سرق نافجة مسك، فتليت عليه الآية، فقال: إذاً أحملها طيبة الريح خفيفة المحمل، قال الطيبي: هذا فيه كفر. قال ابن عرفة: إذا كانت البقرة لها خوار والبعير له رغاء، فتكون أيضا نافجة المسك ثقيلة منتنة. قوله تعالى: (ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ). عام في الفعل، فيقول: الكاسب ومكسوبه من خير وشر، وهم لَا يظلمون، فلا يزاد في سيئاتهم ولا ينقص من حسناتهم. قوله تعالى: {أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ ... (162)} قال أبو حيان: هذا يدلك على أن فعل الجزاء التركيب في العطف بالفاء والهمزة، أن المعطوف عليه مقدر قبل الهمزة. قال ابن عرفة: لَا دليل فيها بل التقدير فيها استواء الطائع والعاصي، (أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ) وتكون الهمزة كهمزة (أَطلَعَ الْغَيْبَ)، فإن قلت: هلا قيل: (أَفَمَنِ اتبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ) كما قيل: (بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ) أو يقال: (بِسَخَطٍ) بالإضافة كما قيل: (رِضْوَانَ اللَّهِ) فأجيب بوجهين: الأول: قيل لابن عرفة: أضيف الرضوان إلى الله تشريفا، وفعل السخط منه تأدبا وتعظيما لله تعالى في إضافته إليه وابعاد الشر عنه، كما قال الله تعالى: (الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ)، ثم قال: (وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ)، ولم يقل: وإذا أمرضني مع أن الكل من فعله وخلقه. الوجه الثاني: قال ابن عرفة: إنما الجواب أن تنكير السخط للتعظيم، أي ليس من اتبع أدنى شيء من رضا الله تعالى، (كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ) عظيم من الله فأحرى من اتبع أعلى الرضا، قيل له: ينتفي (مَنْ بَاءَ) بأدنى السخط فقال: الآية إنما خرجت مخرج التنفير والوعظ، فالمناسب التقليل في جانب الرضا، بمعنى أن قليلة لَا يقارب عظيم

(163)

السخط ولا يدانيه، فهو نفي تشبيه، قلنا أو ياتال: أن أدنى السخط، وإن قل فهو من العظيم عظيم فيستوي في حقه أقل السخط، وأعلاه بخلاف الرضا. قوله تعالى: {هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ ... (163)} قال الطيبي: عائد على المؤمنين، وقيل: عائد على النوعين، وغلب لفظ الدرجات على الدركات، فإن قلت: هلا عاد على الكافرين فهو أقرب، فأجاب الفخر بوجهين: الأول: أن الكافرين ذكرت عاقبتهم، فقيل: مأواهم جهنم، ولم يقل: يُذكر للمؤمنين شيء. الثاني: إن لفظ الدرجات خاص بأهل السعادة، والمناسب للكافرين الدركة لا الدرجة، وقوله (عِنْدَ اللَّهِ) هي عندية مكانة لَا مكان، وجعلوه على حذف مضاف من الثاني: أي هم ذو درجة. ابن عرفة: وإن شئت قدرته بالأول، أي منازلهم درجات. قوله تعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ... (164)} ابن عرفة: المن يطلق بمعنى التذكير بالنعمة، ويطلق على التفضل بالنعمة، وهو المراد هنا. ابن عرفة: وفي الآية حجة لأهل السنة في أن بعثه الرسل محض تفضل من الله تعالى؛ لأنها واجبة عليه، لقوله تعالى: (مَنَّ) والمن الفضل بالنعمة فرده عليه بوجهين: الأول: قوله (عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) والرسول مبعوث للجميع، فقال المن على المؤمنين باعتبار مآلهم وعاقبة أمرهم في الآخرة. الثاني: قوله تعالى: (مِنْ أَنْفُسِهِمْ) فالمن عليهم بكون الرسول منهم لَا في نفس بعثته، فقال: قرئ (مِنْ أَنْفُسِهِمْ) بالفتح والضم، فكان بعضهم يصوب الفتح، فإن فيه إعظاما لقدره صلى الله عليه وعلى آله وسلم وإعلاما بشرفه، وعلو منزلته، وكان بعض المحققين يصوب الضم، ويقول: هو أقرب لمقام التوحيد، فإن قلت: قد قال تعالى: (وَمَا كَانَ لِنَبِي أَنْ يَغُلً) فعبر بلفظ دون لفظ الرسول، وعبر هنا بلفظ الرسول فما السر في ذلك؟ فالجواب: أن تلك في مقام الصبر والتخويف، فإذا نفوا عنه من

(165)

نسبة الغلول للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فأحرى الرسول وهذه في مقام التذكير بالنعمة، فناسب فيها لفظ الرسول؛ لأنه أبلغ في الإنعام عليهم. قوله تعالى: (وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ). وتقدم الاتصاف بنقيضها كقوله تعالى: (وَوَجَدَكَ ضَالا فَهَدَى). قوله تعالى: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ ... (165)} قال ابن عطية: الهمزة إما للإنكار أو للتقرير، وضعف ابن عرفة الثاني؛ لأن التقرير في الغالب إنما يكون بأمر ملائم، كقولك: ألم أحسن إليك قيل له: (قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا) ملائم، فقال: ليس هو من قولهم، والهمزة إنما دخلت على قولهم، قال: والمصيبة هي الأمر المؤلم البين إيلامه، وهمزة التقرير والإنكار لَا تحتاج إلى جواب، فما فائدة الجواب، قيل: إنما هو جواب لقوله: (أَنُّى هَذَا) قال الزمخشري: والمعنى: من أين لكم هذا، فرده أبو حيان بأن (أَنُّى هَذَا) ظرف لا يقدر بأين، وإنما يقدر نهي، وأجيب: بأن ذلك تقرير معنى الجواب: بها على اللفظ ولفظها المناسب فيه من قوله تعالى: (هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ) يحسن أن يعزل كل واحد إلى أصحابه، قال الفخر: واحتج بها المعتزلة على أن العبد يخلق أفعاله. ورده ابن عرفة: بأنه لم يقل أحد أن العبد خلق أفعاله غيره، والمصيبة التي أصابت المؤمنين هي بفعل الكافرين، فليس هي فعل لهم، وإنما فعلهم السبب في ذلك فإذا استدلوا بالسبب، قلنا: ليس لهم دليل من الآية بل فيها ما يرده، وهو قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ). قوله تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ ... (166)} ابن عطية: فيها تقديم وتأخير، أي بأذن الله ما أصابكم. قوله تعالى: (وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ). أي ليظهر متعلق عمله. ابن عرفة: وهو وعد ووعيد؛ لأنه إذا علم العبد الطائع أن سيده عالم بما هو فاعل من الطاعة يزداد فرحا وسرورا واجتهادا في عمله، وإذا علم العاصي بأن سيده عالم بما هو يفعل من وجوه المخالفات يزداد هما وغما، ويكون ذلك إنذارا له وتنفيرا عن

(167)

نعمته، وعبر عن المؤمنين بالاسم والكافرين بالفعل إشارة إلى أن ذلك الوعد إنما هو لمن ثبت له الإيمان في قلبه وفي ظاهره، وأما الوعيد فهو لمن اتصف بأدنى شيء من النفاق فجرت الأولى مجرى الأمر، والثانية مجرى النهي، وفي الحديث: "إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم وإذا نهيتكم عن شيء فانتهوا". قوله تعالى: {هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ ... (167)} قال أبو حيان: لَا يصح تعلق المجرورين بـ أقرب. ابن عرفة: يقول المعنى (هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ) في حالهم إلى الإيمان، أو أقرب منهم مستقلين أو موجهين إلى الإيمان في موضع الحال. قوله تعالى: (يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ)، نقيضه وهنا إنما عبر عن الأعم فيكون المعنى أنهم يعلمون نفي ذلك. قوله تعالى: (وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ). يستحيل عليهم بالكفر. قوله تعالى: {الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا ... (168)} وذكر أبو حيان في إعرابه وجها ابن عرفة: اللام للتعليل وإخوانهم الموتى، أو للتعدية وإخوانهم الأحياء، وذكر أبو حيان في إعرابه وجها وزاد ابن عرفة بأن يكون مبتدأ وخبره (قُلْ فَادْرَءُوا) والرابط محذوف، أي قل لهم. قال الزمخشري: فإن قلت: فقد كانوا صادقين في دفعهم القتل عن أنفسهم بالقعود، ثم أجاب بوجهين: الأول: أن النجاة من القتل يجوز أن يكون سببا للقعود، وأن يكون غيره، وقد تكون المقاتلة والوقوف سببا للنجاة، ورده ابن عرفة: بأن قولهم: (لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا) موجبة جزئية، إما نقيضها سالبة كلية، وإما السالبة الجزئية نقيضها بوجه، قلت: يريد أنه لَا يكون ردا له، إلا لو كان القعود ليس سببا للنجاة مطلقا، فحينئذ يتم الرد عليهم بذلك مع أنه تارة وتارة، الجواب المعني أنه قيل لهم: لو أطاعوكم لقتلوا قاعدين، فإِن قلت: لم يدعوا نفي الموت وإنما نفوا القتل، فلما قيل لهم: (فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ)، فالجواب: أن الموت أعم فإذا عجزوا بالأعم دخل في صحبة الأخص، وصيغة أفعل التعجيز وقوله: (ادرَءُوا) ولم يقل: لَا تموتن إشارة إلى

(169)

ملازمة الموت لهم، وأنه أمر حتم لَا بد له منه، كما في سورة الجمعة (إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ) أي يأتيكم ويواجهكم، فإذا فررتم منه، فإليه تفرون. قوله تعالى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ ... (169)} ابن عطية: قرأ حميد بن قيس: (وَلَا يَحسَبَن) بياء الغيبة، ورويت عن [ابن*] عامر، وذكرها [ابن*] عامر، وروى هذه القراءة بضم الباء. ابن عرفة: إنما يحسبن الكلام ممن يقول أن السبع غير متواتر، واختلفوا في معنى قوله تعالى: (أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ)، فقيل: أجسادهم في التراب وأرواحهم [في الجنة*]، وفضلوا بالرزق في الجنة، ابن عطية: وهم طبقات وأحوال مختلفة بحجمها أنهم يرزقون أي كما ترى حالات النَّاس مختلفة، فواحد خفيف النوم يستيقظ من أول وهلة، وآخر متوسط فكذلك حياتهم في الآخرة متفاوتة. قوله تعالى: {بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ ... (170)} قالوا: هذا مطاوع بشر. ابن عرفة: المطاوع غالبا إنما هو في الماضي مثل كسرته فانكسر، وجبرته فانجبر، والذين لم يلحقوا بهم، قيل: هم من تأخر عنهم من الشهداء المقاتلين، وقيل: جميع المؤمنين لم يلحقوا برتبتهم في فضل الشهادة. ابن عرفة: وهو ظاهر لقوله تعالى: (أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ)، ولو أريد الأول لما استبشروا بهذا بل بما هو أخص منه، وهو الثواب العظيم وإنما ينفي الخوف والحزن عن من دونهم ممن لم يترقَ إلى رتبتهم. قوله تعالى: {يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ ... (171)} ابن عطية: النعمة الجزاء، والفضل الزيادة عليها. ابن عرفة: ويظهر لي أن النعمة هي نفس الثواب مع اعتبار سببه فحاصله أن اعتبرنا الأمر الملائم من حيث ذاته فهو نعمة، ومن حيث سببه فهو فضل؛ لأن سببه من الله، ولذلك قيد النعمة بقوله تعالى: (مِنَ اللَّهِ) ولم يقيد الفضل، والآية دالة على مذهب أهل السنة في قولهم: إن الثواب محض تفضل من الله تعالى ولا يجب عليه شيء.

(172)

قوله تعالى: (وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ). على قراءة الكسر. قال ابن عرفة: ويحتمل أن يكون جملة اعتراض، وغالب ظني أن في صحة كونها بالواو خلاف ومنه قوله: ومهما تكن عند امرئ من خليقة ... ولو خالها تخفى على النَّاس تعلم كذلك قوله تعالى: (إِنَّ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلا تَتبِعُوا الْهَوَى) جعلوا الجواب (فَلا تَتبِعُوا الْهَوَى). قوله تعالى: {الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ ... (172)} استجاب إذلال له عن، وأجاب بالموافق، وأما أجاب فمطلق يتناول الإتيان بالموافق والمخالف. قوله تعالى: (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا). ابن عرفة: هو على التوزيع، فمنهم من يبلغ درجة الإحسان كأبي بكر وعمر رضي الله عنهما، ومنهم من هو دون ذلك فهو في رتبة المتقين كعبد الله بن عمر، وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهما وأمثالها. قوله تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا ... (173)} قال الزمخشري: الفاعل عائد على القول، أبو حيان: أو على لفظ النَّاس؛ لأن الجمع يزاد على لفظه فيفرده الغير، ومعناه فنجمع. ابن عرفة: وأيضا فهو اسم جمع لَا جمع فإفراد ضميره أسهل من إفراد ضمير الجمع. ابن عرفة: وانظر حيلة هذا القائل إذا لم يبالغ أن تأكيد خبره فأكده بـ إن فقط، ولم يؤكد مع ذلك باللام خشية أن يتفطن ويحترز منه فجاء به لمقام التوسط ليكون ذلك ادعاء لتصديقه وقبول خبره، وقوله تعالى: (فَزَادَهُمْ إِيمَانًا). قال ابن عرفة: هذا يشبه قلب النكتة وهو الاحتجاج بدليل الخصم على نقيض دعواه فكذلك هذا المخبر أراد بقوله: أن يثبطهم عن الخروج للقتال فكان ذلك سببا في تحريضهم على الخروج والمقاتلة، وحكى ابن عطية: الخلاف في زيادة الإيمان،

(175)

فقيل: باعتبار كثرة الدلائل، وقيل: باعتبار الأعمال، وقيل: باعتبار نزول السور والأحكام شيئا فشيئا فمنهما ورد على شيء منها آمن به، وقال أبو المعالي: الإيمان عرض لَا يبقى زمانين فخلف بعضه بعضا. ابن عرفة: والتحقيق أن القدر المجزئ منه لَا يزيد ولا ينقص، والإيمان الكامل يزيد وينقص، قيل له: القول زيادة معلومة، وفي نسخة ملزومة لاجتماع الأمثال في محل واحد فقال: قد قال إمام الحرمين: إنه عرض لَا يبقى زمانين فلا يجتمع الأمثال بوجه قال: والآية تدل على أن الزيادة في نفس الإيمان لَا باعتبار الأعمال؛ لأن حين هذا كانوا جلوسا غير منتصبين للقتال، فزادهم ذلك خشية وإيمانا وفرة في الاعتقاد القلبي، ثم بعد ذلك تحركوا للخروج والمبارزة، وحكى ابن عطية: أن المسلمين تحرجوا من الخروج، ومحكي في السير أنهم اختلفوا فمنهم من عزم على الخروج وهان عليه، ومنهم من شق ذلك عليه. قوله تعالى: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ ... (175)} أبو حيان: إن أريد الشيطان بنفسه فهو إما علم لإبليس أو صفة؛ لأن الوصف العلم قد يخرج على ..... سماع الصفة. قوله تعالى: (يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ). قيل: المعنى يخوفكم أولياءه، وقيل: يخوف أولياءه من أشياء. ابن عرفة: وعلى الثاني يكون فلا تخافوهم التفاتا وفيه بعد؛ لأنه لَا يلتفت من الغيبة إلى الخطاب إلا قصد الإقبال على المخاطب، وهؤلاء منافقون فيهم مبعدون مطرودون، وإن أريد بالخطاب المؤمنون فظاهر لكن يجيء فيه تفكيك الضمائر، والمعنى فلا تخافوهم وتقعدوا عن الخروج وخافوا وأخرجوا إلى القتال (إِنَّ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ). قوله تعالى: (إِنَّ كُنْتُم). تأسيس على أن الخطاب يكون للمنافقين وتأكيد على أنه للمؤمنين. قوله تعالى: {وَلَا يَحْزُنْكَ ... (176)} من باب [لَا أرينك هاهنا*] إلا في باب لَا يعم؛ لأن النهي بها للفاعل، وفاعل الأحزاب غير من خوطب فالمعنى لَا تحزن فيحزنك.

(177)

قوله تعالى: (يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ). عداه بـ في دون الباء للمبالغة في دخولهم في الكفر، فهو مثل (لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ)؛ لأنهم إذا لم يحزنهم الفزع الأكبر فأحرى ما دونه وكذلك هنا. قوله تعالى: (يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ). إشارة لحرمانهم من دخول الجنة ولا يلزم منه تعذيبهم، فقوله تعالى: (وَلَهُم عَذَاب أَلِيم) تأسيس. قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا ... (177)} جعلهم باعوا الإيمان ولم يكن تحصل لهم بوجه إما لظهور دلائله ووضوحه فهو حاصل لهم، وإما لحديث: كل مولود يولد على الفطرة"، أو لأن من حضر في شيء ... فكأنهم اختاروا الإيمان وانتقلوا عنه بعد الكفر، وقال في الأولى: (وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) لأن كفرهم أشد لقوله تعالى: (وَلَا يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ) وهم سارعوا إليه قبل غيرهم وهؤلاء كفروا بعد نور أو تأمل فناسب أن الأولين لهم عذاب عظيم، وهؤلاء دون ذلك؛ لأن العظيم أعظم من الأليم. قوله تعالى: {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ ... (178)} قال أبو حيان: على قراءة الخطاب يكون (الَّذِينَ) مفعول، وإنما يدل مثلها في قول بعضهم لبعض، فرده ابن عرفة: بأن بعضهم بدل وفرق مفعول بأن، وهنا ليس ثم ما يكون مفعولا، وأعربه الطيبي إنما بمعنى بدل لهم وبدل من الذين وجد أن سدَّها مسد المفعولين، قيل: قال ابن عطية: قرئ على أبي الفارسي: (وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا) بفتح (أَنَّمَا) لَا تكون مفعولا ثانيا، والمفعول الثاني في هذا الباب هو الأول في المعنى وليس هم نفس الإملاء. ابن عرفة: إلا أن يجعله مثل (وَلَكِنَّ البِرَّ مَنْ آمَنَ) أي ذوي البر منها، أو البر من آمن، وأنشد سيبويه: وكيف بحال من أصبحت ... حالته كأبي مرحب أي كحالة أبي مرحب، فالمعنى هنا (وَلَا يَحسَبَن الَّذِينَ كَفَرُوا) قال بعض الطلبة: إنما ذلك حيث يكون جملة الخبرية من ضمير يعود على المبتدأ أما إذا كان فيه

(179)

ضميرا يربط بينها وبين ..... مثل ابن عرفة: في المفتوحة إنها جميع ما بعدها في قراءة المفرد فإنما المعنى (الذينَ كَفَرُوا) أملأنا الخير لهم، وهذا لَا يجوز؛ لأن الإملاء بمعنى، (الَّذِينَ كَفَرُوا) ذات معنى لَا يكون خبرا عن الذات، ثم عقبه بقوله (عَذَاب مُهِين)، لأن الإملاء فيه باعتبار الظاهر رفعة لهم لأجل إمهالهم ونيلهم شهواتهم ولذاتهم الدنيوية فناسب لفظ المهانة والزلة، وأيضا فهو نقيض الطول كما أن الإملاء مشعر بالطول. قوله تعالى: {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ ... (179)} ابن عرفة: هذا التفات من الغيبة إلى الخطاب وليس بالتفات ويكون المراد بالمؤمنين جميع من آمن به ومن سيؤمن من إلى قيام الساعة، وكان تقدم لنا في هذه الآية فيه سؤالان؛ لأن الخبيث فالإعجاب بالكثرة يدل على ما كثر من الطيب، والقاعدة أن القليل هو الذي يميز من الكثير، فهلا قيل: (حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ). السؤال الثاني: نقول إن الآية على صحة أبي حنيفة في أن الأصل في النَّاس العدالة؛ لأن العميد قال في الصورة المفردة إذا أشكل علينا بتعينها لأحدى نوعين الجملة بالتعيين فإنا نحملها بأكثر النوعين، وفي مذهبنا أن الصفقة إذا احتملت الصحة والفساد فإنها تحمل على الصحة ما لم يكن الفساد في النَّاس أغلب، فإنها تحمل وقد ثبت بهذه الآية أن الطيب أكثر من الخبيث؛ لأن القليل هو الذي يميز من الكثير فينتج أن العدالة في النَّاس أكثر من الجرح، فمن شككنا فيه أضفناه إلى الأكثر وحكما الأصل في النَّاس العدالة كما قال أبو حنيفة. والجواب عن الأول أن قوله تعالى: (وَلَوْ أَعجَبَكَ كَثرَةُ الْخَبِيثِ) في سياق الشرط، فيدل على فرض وقوعه وتقديره لَا على أصوله وثبوته وتحقق وجوده بالفعل يقول: لم يقم زيد، ويقول: لو قام زيد لأكرمته فلا يتنافيان فيكون الخبيث أكثر عن واقع بل مقدر للوقوع. والجواب عن السؤال الثاني: أن قولهم: (مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ) خطاب للصحابة وكلهم عدول، فالأصل أن ذاك في النَّاس العدالة.

(180)

ابن عرفة: ومن قرله (مِنَ الطَّيِّبِ) يتبين لَا لبيان الجنس مثل ما في الحديث: "لست من دد ولا دد مني". فإِن قلت: ما بعد الغاية مخالف لما قبلها فينتج الله ميز الخبيث من الطيب بترك المؤمنين على ما هم عليه من الاختلاط وهنا لا يصح. ابن عرفة: ويجاب بأن الاختلاط أشكال معلقا بمعنى أنه لَا يعلم المؤمنين من المنافقين، واختلاط أشكال بوجه لَا كعما قد يجمعا مخلطا فيه الأبيض والأكحل والعفن والسالم تمييز الأبيض من الأسود، فإنه لَا يزال مسالمة مختلطا ببعضه فكذلك لا تميزهم خبيثهم من طيبهم بالمعرفة فيعلم الكافر من المؤمن ولا يزالون مختلطون بالمعاشرة والسكنى وغير ذلك. قوله تعالى: (وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ) من للتبعيض، قال الله: (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ). قوله تعالى: (وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ). دليل على أن التقوى وصف زائد على الإيمان لقوله تعالى: (عَظِيمٌ). قوله تعالى: {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ ... (180)} ابن عرفة: إن قلت: لم قال: (وَلَا يَحْسَبَن الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ) فعبر عن كفرهم بلفظ الماضي ثم قال هنا: (وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ) فعبر عن بخلهم بلفظ المستقبل مع أن الكلام فيهم بعد وقوع البخل منهم والكفر، فالجواب: إن الكفر متعلق بشيء وهو حجة الإله والرسول فإذا اعتقد هذا كان كافرا ودوامه عليه بقاء لا يجدد، والبخل له متعلقات متعددة؛ لأنه يبخل بكذا ويبخل بكذا، ولا يسمى بخيلا حتى تتعدد متعلقات بخله وتتكرر منه بخلاف الكفر؛ لأنه باعتقاده له أول مرة يسمى كافرا، فإذا دام عليه فهو بقاء لَا تجديد، قال ابن عطية: وعن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: "ما من ذي رحم يأتي رحمه فيسأله من فضل ما عنده فيبخل عليه إلا خرج له يوم القيامة شجاع من نار يلتطمه حتى يطوقه". ابن عرفة: فحمله عندنا على من يجب عليه نفقته من الأقارب، أو حيث تجب المساواة وذلك عند الضرورة الملحقة، لكن يستوي في هذا القريب والبعيد إلا أن

(181)

القريب أرجح، ابن عطية: وقال ابن عباس نزلت الآية في بخل أهل الكتاب ببيان ما علمهم الله من أمر محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم. قال ابن عرفة: الصادر من أهل الكتاب الجحد والإنكار للدلائل الواردة في كتابهم، وهو أشد من الكفر وإنَّمَا كانوا يوصفون بالبخل أن لو سكتوا على ذلك فقط بل تكلموا بنقيضه، قال: وهو على حذف مضاف أي ولا تحسبن بخل الذين يبخلون. ابن عرفة: أو بقدره في الثاني: أي (وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ) هو ذا خير لهم لكن يبعد هذا لأجل الفضل والإضراب بل إن كان متعن الحسبان فهو إضراب إبطال، وإن كان عن نفس الحسبان هو إضراب انتقال. قوله تعالى: (وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ). عطف الأرض المستوية أي كما يعتقدون أن السماوات ليست ملكا لهم وإنما هي لله تعالى فكذلك الأرض، ومثله قوله تعالى: (يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ) أي كما علمتم أنه يعلم جهركم، فلذلك علمه لسركم مساو علمه لجهركم، والمراد ميراث ما فيها؛ لأنه لم يدع أحد ملك ذواتها، والميراث يقتضي إما ملكا مسبوقا بعدم أو مخلوقا بعده، فالأول: ملك الوارث، والثاني: ملك الموروث عنه؛ لأنه مخلوق بعدم. قوله تعالى: (وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ). وعد ووعيد. قوله تعالى: {لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ ... (181)} قال ابن عرفة: الآية دالة على إثبات صفة السمع لله تعالى ومذهبنا أنهما مغايرة لصفة العلم، والمعتزلة يقولون: إنهما شيء واحد، قيل له: القرآن معجزة والمعجزة ينزل قول الملك صدق عبدي، وهذا مسموع فتجيء به إثبات السمع بالسمع، فقال: إنما المعجزة محصلة للعلم بمدلول صدق عبدي؛ لأنها بمنزلة سماع لفظ صدق عبدي. قال الزمخشري فإن قلت: عبر عن السماع بالماضي، وعن الكتاب بالمستقبل ثم أجاب: بأن السامع إذا كان على وثوق من نفسه أنه لَا يتسنى ما سمع، فإنه يتراخى في كتبه ولا يكتبه إلا بعد مدة طويلة، وأجاب ابن عرفة: بأن المراد بالكتاب الجزاء أي سيجازيهم على قولهم ذلك، والجزاء مستقبل لَا ماض.

(182)

ابن عرفة: ومن حيلتهم ودهائهم بالكتاب تأكيدهم نسبة الفقر إلى الله تعالى وعدم تأكيدهم نسبة الغناء إلى أنفسهم كان ذلك عندهم أمر جعلي وحق بين لأمر به فيه. قوله تعالى: (وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ). إما أنه على حذف مضاف أي وقتلهم آبائهم الأنبياء بغير واو إما أنه نسب إليهم فعل القتل مجازا لرضاهم بفعل آبائهم، فيتعارض فيه المجاز والإضمار، وفيه ثلاثة أقوال ثالثها أنهما سواء. قوله تعالى: (بِغَيْرِ حَقٍّ). أي بلا شبهة ولا دليل. قوله تعالى: {ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ ... (182)} مع أنهم تقدم منهم العصيان بالقول والفعل، ثم ذكر هنا أنهم عوقبوا بسبب الفعل فقط، فالجواب: إما بأن المراد بالأيدي الكسب أي مما كسبتم وافترقتم فيتناول القول والفعل، وإما بأن القول في الوجود أكثر من الفعل، فإذا عوقبوا بسبب الأخص للأقل دل على العقوبة على ما فرقه من باب أحرى قيل له: بل الفعل أشد من القول فقال: لا بل القول أشد بدليل الكفر فإنه قولي، أي ذلك بسبب حرمكم وعدل إليه. قوله تعالى: {الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ ... (183)} ابن عرفة: في الآية إشكال وهو أن اليهود ينكرون النسخ كذا نقل عنهم الأصوليون، وهذا القول إقرار منهم بالنسخ لاقتضائه أن شريعته تنسخ إذا أتاهم رسول بقربان تأكله النار، وقد أتاهم كثير من الأنبياء وقتلوهم، قيل لهم: هم أنبياء لَا رسل، أو هم رسل أتوا بشريعة موافقة لشريعتهم لَا مخالفة، فرده ابن عرفة: بأن هذه مقالة منهم مع محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وقد أتاهم بشريعة ناسخة لشريعتهم، وكذلك عيسى عليه السلام من قبله. قوله تعالى: (بِالْبَيِّنَاتِ). أي بالمعجزات وبالذي قلتم هي الآية المقترحة التي إن خالفوا بعدها عجلوا بالعقوبة وليس المراد نفس أمر ما قيل لما قالوا، لأن الذي قالوا لم يقع. قوله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ... (185)} قال ابن عطية: نزلت تسلية له صلى الله عليه وعلى آله وسلم.

(186)

ابن عرفة: بل وعيد لهم، وإنما التسلية بقوله تعالى: (فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ) ثم عقبه ببيان أنهم يموتون ويصير كل فريق إلى قدر له من الثواب والعقاب. ابن عرفة: والدليل على أن الآية إنذار ووعيد للجميع. قوله تعالى: (فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ). الزحزح يقتضي أن الأصل مماسة النار وملاصقتها للجميع قال تعالى: (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا)، وقال بعض المتصوفة: ليس العجب ممن هلك كيف هلك، إنما العجب ممن سلم كيف سلم. قال ابن عرفة: وهذا عام باق على عمومه، إن قلنا: إن ذات الله لَا مطلق عليها نفس وإن جوز ما إطلاق النفس عليها أخذا بظاهر قوله تعالى: (تَعْلَمُ مَا فِي نَفسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ)، فيكون مخصوصا قيل له: الأرواح للنفس قال الفخر: ويتناول الجمادات فرده ابن عرفة: بقوله تعالى: (كُلُّ نَفْسٍ) وبأن الموت إنما مصدق على من يقتل الحياة، قال: إلا أن يريد بالنفس الذات ويجعله من قسم السلب مثل الحائط لَا يبصر إلا من قسم العدم، والملكة مثل: زيد لَا يبصر، قال: وذكر الأصوليون والمناطقة والنحويون الكل والكلي والكلية، فالكل: الحكم على المجموع من حيث هو مثل: ... ، والكلي: هو ما لَا يمنع نفس تصور معناه من وقوع الحركة فيه مثل: الإنسان حيوان، والكلية: هي الحكم على المجموع باعتبار تتبع الأفراد، مثل كل إنسان حيوان موجود في زمن، وهذه الآية من قسم الكلية بحسب التمثيل بها. قوله تعالى: {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ... (186)} قال ابن عطية: هذا خطاب للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ولسائر أمته. ابن عرفة: لَا ينبغي إدخال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في هذا [الخطاب*]؛ لأن هذا الخطاب تهيئة الصبر على المصائب، وتوطين النفس عليها ليكون المخاطب على هيئة خشية أن يلحقه خوف وهلع، والنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ممن لا يتأتى لمثل ذلك، وقد قال: "إنما الصبر عند الصدمة الأولى".

(187)

قال ابن عرفة: والعطف ترق لكن قصر الأصوليون في الكليات الخمس أن آكدها حفظ الأديان، ثم النفوس ثم العقول ثم الأنساب ثم الأموال، كذا رتبها الآمدي، وابن الحاجب، وقال ابن التلمساني: آكدها الدين وحفظ الأنساب وحفظ الأعراض وحفظ العقل وحفظ المال، وظاهر الآية مخالف لذلك سيما بين قوله تعالى: (أَنْفُسِكُمْ) مع قوله: (وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ) فيوهم أن حفظ الأعراض آكد من حفظ النفوس وأميز، كذلك؛ لأن الأعراض إنما فيها حد القذف، والنفوس فيها القصاص في الدنيا والعذاب الأليم في الآخرة، حتى قال ابن عباس وغيره: إن قاتل النفس مخلد في النار ولا تنفعه توبة، لكن [يجاب*] بأن ضم حفظ الأعراض هنا إلى سبب نزول الآية يدل على أن [هذا*] راجع لحفظ الأديان، وهو آكد من حفظ النفوس، كما سبق فصح أنه ترق على بابه، قيل لابن عرفة: (وَلَتَسْمَعُنَّ) مستقبل وما ذكروه في سبب نزول الآية تقتضي أنه متقدم عليها، فقال: هو واقع فيها معنى، وتزايد في المستقبل. قوله تعالى: (وَإِنْ تَصْبِرُوا). عبر بإن دون إذا مع أن الصبر مطلوب لواجبة مراد وقوعه فهو إشارة إلى المعتبر منه، المشكوك في وقوعه منهم فإذا أمر بالمعتبر منه أمر معزوما عليهم دل على الأمر بالمتيسر منه من باب أحرى، فإن قلت: لم قال (وَتَتَقُوا)، قلت: لأن الصبر على نوعين: تارة: يكون للتجلد، [والحمية*] في الباطل وإظهار القوة والرياء والسمعة، وتارة: يكون للتقوى ونصرة دين الله عز وجل [فأُمروا*] بأن يصبروا صبرا يبتغون به وجه الله وهو الذي يصحبه التقوى فقط. قوله تعالى: (فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ). فهو دليل على الجواب وعلة له، أي يجوزوا الفضيلة العظمى؛ لأنكم أسلمتم أمرا معزوما عليكم فيه والأمور، قال ابن عطية: فالمراد هنا الشان. ابن عرفة: وهو عام لكن جمع لاختلاف أنواعه. قوله تعالى: {لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ ... (187)} ابن عرفة: إن قلت: المناسب في الترتيب باعتبار الفهم عكس هذا؛ لأن عدم كتمانه إنما يفيد لقاءه فقط هو الفاء مبين أو غير مبين، والأمر بتبيانه بعد الأمر بالغاية المفهوم، من قوله تعالى: (وَلَا تَكْتُمُونَهُ) وزيادة فلو عكس لكان الأمر تأسيسا وهو ملقى، أو لَا غير مبين ثم بين في تأتي حال، قال: والجواب أنه روعي فيه ما تقرر من

(188)

أن نفي الأعم يستلزم نفي الأخص، وثبوت الأخص يستلزم نفي الأعم؛ لأن هذا البيان عدم البيان، ويكون إما بكتم الكتاب عنهم من أصل، وإما بإلقائه لهم مبهما غير مبين فلما أمر بالبيان توهم أنهم ما بيتوا للأمة إلا ما سمعوه منهم، وأما ما يبلغ النَّاس فلا يلزمهم ببيانه، فقيل: فلا تكتموا عنهم ما بلغكم منه ولم يشعروهم به، قلت: لئلا يقال أنهم ما يجب عليهم أن تبلغوا النَّاس إلا آية التكليف وما يتعلق به حكم من وعد ووعيد ونحوه، فيبلغون ويعلموا بمقتضاه وما سوى ذلك هي القصص الخارجة عن أمور التكاليف العملية والعلمية فليس بواجب عليهم فأخبر عن ذلك بقوله تعالى: (وَلَا وَلَا تَكْتُمُونَهُ)، وأجيب أيضا بأن المراد (لَتُبَيِّنُنَّهُ) لعوام النَّاس (وَلَا تَكْتُمُونَهُ) عن خواصهم أي القوه مبينا وغير مبين بحسب الحاضرين، قلت: وأمروا ببيان ما نزل فيه إذا كانوا يلقوه عليهم غير مبين، وأن لَا يكتم عنهم ما سينزل منه في المستقبل. قوله تعالى: (فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ). قال الفقيه أبو العباس أحمد بن غلبون يقول: الظهر هو الوجه، فهو من وجوه قدامهم، وأجيب: بأن المراد بالظهر مقابل الأمام فهم نبذوه ورائهم مبالغة في النبذ، وتقدم نظيره في البقرة. قوله تعالى: (وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا). جعل الثمن مشترى، وهم متمنون لكن كل واحد منهما مشتري يباع، وانظر ما سبق في البقرة في قوله تعالى: (ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا). قوله تعالى: {لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا ... (188)} ابن عطية: قرأ حمزة (لَا تَحْسَبَنَّ) بالتاء وكسر السين فلا تحسبنهم بالتاء، وكسر السين وفتح الباء. ابن عرفة: الذي ذكر في القراءة بفتح السين وتنكير مفازة للتقليل، أي لَا تحسبنهم بمفازة قليلة من العذاب، وإذا انتفى دل على نفي الكثير من باب أحرى. قوله تعالى: (وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ). ابن عرفة: وتقدم لنا أن هذه الواو عكس هذه الواو في قوله تعالى: (يَغْشَى طَائِفَة مِنْكُمْ وَطَائِفَة قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُم) لأن تلك نص سيبويه على أنها واو الحال، وليست عاطفة والمانع لفظي حسبه المفهوم. قوله تعالى: {وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ... (189)}

(190)

ابن عرفة: يؤخذ منها أن الحوز دليل الملك، وأن ملك الظرف يستلزم ملك المظروف؛ لأنه مالك لما في السماوات وما في الأرض بإجماع فجعل هنا ملكها مستلزما لملك ما فيها، واستغنى بذكره عنه، وذكره في كتاب الصلاة في باب الإمامة: إذا رجلين راكبين على بهيمة فادعياها معا أنها لمن ركب في مقدمتها، قيل: وإن كان المتأخر أعمى، قال: نعم، قاله ابن الهندي، وانظر آخر البقرة، وقوله تعالى: (وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)، حكى ابن عرفة عن ابن الباقلاني أنه عام مخصوص بالمستحيل. ابن عرفة: فظاهر أن المستحيل يطلق عليه شيء وأكثر الأصوليين كالتلمساني، وغيره منعوا ذلك وبعضهم جوز الإطلاق، وحكى الآمدي مسألتين: أحدهما: هل يطلق على المعدوم شيء أم لا، [ولا يبنى عليه*] كفر ولا إيمان؟ والثاني: هل المعدوم تقرر في الأزل أم لَا؟، فنحن ننفيه وهم يثبتونه، ويلزمهم قدم العالم. ابن عرفة: في الثاني ليس المحال شيء باتفاق، وعلى الأول هو شيء، قال: [تاج الدين في الحاصل*] والسراج في اختصار المحصول: اتفق أهل السنة والمعتزلة على أن المعدوم المستحيل لَا يطلق عليه شيء، وإنما الخلاف في المعدوم الممكن، وحكى الشيرازي شارح ابن الحاجب الإجماع أنه لَا يستحيل شيء، وحكى الأصبهاني شارح ابن الحاجب أن المستحيل شيء نكرة في باب المستحيل للعام والخاص، لما ذكر ابن الحاجب التخصيص، وذكر هذه الآية تعقبها، قال الأصبهاني: إنها مخصوصة بواجب الوجود والمستحيل، فظاهر صحة إطلاق لفظ شيء يدل عليه، وقال الشيرازي: في حد القياس حمل معلوم إنما لم يقل: حمل شيء لدخل المعدوم، والممكن عندنا والمستحيل عندنا، وعند المعتزلة فظاهره الاتفاق على أنه ليس شيء، وكذا قال ابن التلمساني في شرح المعالم الدينية، وظاهر كلام ابن التلمساني في شرح المعالم الفقهية في حد القياس المعدوم ليس بشيء، فإنه قال حمل معلوم على معلوم، ثم قال: وإنما لم يقل: حمل شيء ليدخل المعدوم، قيل لابن عرفة: وحاصل عند الأصوليين، فقال فإما بذاتها فليس بشيء، لأنها لَا موجودة ولا معدومة، وإما باعتبار من شيء تابعة له فهو شيء. قوله تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ... (190)}

(191)

قال ابن عرفة: اختلفوا هل الخلق نفس المخلوق أو غيره؟ فحجة من قال: [إنه*] نفسه فإنه لو كان غيره للزم عليه إما قدم العالم إذا قلنا: إن ذلك الخلق لَا يفتقر إلى خلق آخر، وإما مع التسلسل إذا قلنا بالافتقار، وأجاب الآخرون بأنه لو كان نفسه للزم عليه إضافة الشيء إلى نفسه في هذه الآية وأمثالها. ابن عرفة: والتحقيق في الشرع يطلق ويراد نفس المخلوق، كقوله تعالى: (ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ) والآخر يطلق على الإنشاء والاختراع والتكوين كهذه الآية، والتأكيد من تنبيه على غفلة النَّاس كالتفكر في مخلوقات الله تعالى كقول الشاعر: جاءَ شقيقٌ عارضًا رُمْحَه ... إِن بني عَمِّكَ فيهم رِمَاحُ واكتفى هنا بذكر الليل والنهار عن ذكر لازمها، وهما الشمس والقمر وعكس في نوح، فقال: (أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا (15) وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا (16). قوله تعالى: (لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ). أي في كل واحد منهن آية، ابن عطية: والمراد العقل التكليفي لَا أزيد من ذلك. قوله تعالى: {قِيَامًا وَقُعُودًا ... (191)} جعل ابن عطية الواو بمعنى، أو فهو على تنويع النَّاس، الزمخشري: ابن عمر وعروة وجماعة، أنهم خرجوا يوم العيد فتلا بعضهم هذه الآية، فقاموا يذكرون الله على أقدامهم. ابن عرفة: مذهبنا أن الذكر جالسا أفضل، ابن عطية: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: "لَا عبادة كالتفكر" ابن عرفة: لأنه إذا تفكر في مخلوقاته وقدرته يستزيد علما بمعبوده، ومجرد العبادة لَا تزيد علما فلذلك كان التفكير أفضل. قوله تعالى: (رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا). فسره الزمخشري على مذهبه، وهو ظاهر في مذهبهم، وكان بعضهم يستضعف فهم الآية على مذهب أهل السنة، وسألني عنها فقلت له: معناها ما خلقت هذا مخالفا لما أتتنا به الرسل عنه من الحصر والنشر والإعادة والثواب والعقاب بل هو موافق ذلك، ودليل عليه لَا لأجله وعلة فيه، ومثله: (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ) وكون فعل الله تعالى إما واجب، وإما جائز، أو مستحيل فالمعتزلة يقولون: بالوجوب بقاعدة التحسين والتقبيح العقلي، ونحن نمنع

(192)

ذلك، ونقول: إنما هو ارتباط عادي يجوز بخلفه، وكان بعضهم لهيئة علة لَا عقلية، وبعضهم يتحاشا عن تسميته عله، بل ارتباط عادي شرعي، وأفعال الله غير معللة، ولابن سلامة هذا كلام ضعيف، وما قلناه أصوب. قوله تعالى: {رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ ... (192)} ابن عرفة: في هذا الدعاء تلطف من وجهين: من تكرار النداء خمس مرات، ويكونه بلفظ الرب المشعر بالحنان، والشفقة، فإن قلت: الملازمة بين الشرط وجوابه حجة واضحة فما فائدة تأكيده بإن، فأجاب بعض الطلبة: باحتمال كونها تعليلا، لقوله تعالى: (سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) واستبعده ابن عرفة للفصل، وذكر أبو حيان في إعرابها ثلاثة أوجه: زاد ابن عرفة رابعها: وهو أنه مبتدأ وتدخل وحدها خبرها على الوجه الضعيف للذي ذكروه في قوله: قَدْ أصبحَتْ أمُّ الخِيارِ تَدَّعي ... عليَّ ذَنْباً كلُّه لم أَصْنعِ بالرفع في قوله: ..... ، واحتج الزمخشري بالآية على نفي الشفاعة؛ لأن الخزي يقتضي عدم خروجهم منها. ورده ابن عرفة: لصحة صدق الخزي على كل من دخلها ولا تعكر علينا: (يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ) لاحتمال الوقف عند قوله (النَّبِيَّ). قال ابن عرفة: فالجواب بأن المراد بالظالمين الكفار، وإمَّا بأنا نقول ما لهم أنصار ابتداء قبل دخولهم النار، وبعد ذلك تقع الشفاعة هو، قلت: أو يقال: إنما لهم ناصر واحد، وهو النبي وحده لَا أنصار، أو ليس لهم أنصار مشغولون بالنصرة، بل إنما لهم شفعاء لله عز وجل ينقلون شفاعتهم إلى القبول. قوله تعالى: {رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ ... (193)} الزمخشري إن قلت: ما أفاد قوله (يُنَادِي)، ثم أجاب بثلاثة أوجه: الأول: أنه تأكيد. الثاني: أن مناديا عام يتناول ابتداء للإيمان، أو للحرب، ولإغاثة المكروب، ولكفاية بعض النوازل فكرره ليفيد التفسير بعد الإبهام، لتذهب النفس أولا به كل مذهب فكرر الفعل تعظيما للمنادى، قلت: أو لأنه جواب لمن سأل، فقال: لماذا ينادي، فقال:

(194)

الوجه الثالث أن قولك: سمعت المنادي يحتمل، إما سماعك نداءه، أو سماعك منه قولا آخر غير النداء، فلما قال: ينادي للإيمان فهم أن المراد سماع ما نودي به. قوله تعالى: (فَآمَنَّا). فيه حجة لما اختار عياض، وهو القول الثالث في مسألة القائل: أنا مؤمن فلابد من زيادة إن شاء الله تعالى أولا، فقال عياض: إن أراد في المستقبل في التقبل وما يقع به فلا بد من زيادتها وإن أراد صحة معتقده في الوقت الحالي فيجب حذفها، فهذا حجة لعياض نقلها في المدارك لما عرف بمحمد بن سحنون فإن لَا يستثنى، وابن عبدوس يستثنى وانظر ما سبق في البقرة في قوله تعالى: (قُولُوا آمَنا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَينَا). قوله تعالى: (فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا). الزمخشري: الذنوب الكبائر، والسيئات الصغائر. ابن عرفة: الصواب العكس لَا حل الترتيب لئلا يكون تكرارا لغير فائدة؛ لأن مغفرة الكبائر يستلزم مغفرة الصغائر من باب أحرى ألا ترى أن الصغائر مغفورة باجتناب الكبائر، ولا يرد هذا بعد قوله هذا: (لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ) فالمراد بالسيئات الكبائر والمغفرة الستر، فلا يلزم منها للتخوف بذلك، قال تعالى: (وَكَفر عَنا سَيئَاتِنَا) ليفيد محو الذنب من أصل، وكذلك هو في الدنيا والآخرة، فقال: هذا إن [أُفرد الدعاء بها، وأمَّا إن أقرناها*] بالتكفير، فهو دليل على إرادة ما قلناه أن الستر في الدنيا، والمحق في الآخرة. قوله تعالى: {رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ ... (194)} قيل: أي على تصديق رسلك، وقيل: على ألسنة رسلك، والعطف في الآية ترقٍ؛ لأن الأول جلب ملائم، (وَلَا تُخْزِنَا) دفع مؤلم وهو آكد من دفع الملائم. قوله تعالى: (إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ). ابن عرفة: الصواب أن يراد إنك لَا تخلف ما وعدتنا به، وليس المراد لَا تخلف الميعاد بالإطلاق عليه سؤال، الزمخشري: في طلب الوفاء بالعهد مع أنه حق لَا حلف فيه. قوله تعالى: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ ... (195)} قال ابن عطية: ليس هو لطلب الفعل بل بمعنى أجاب، كـ: وداعٍ دَعَا يَا مَنْ يُجيبُ إِلَى النَّدَى ... فلَمْ يستَجِبْهُ عندَ ذاكَ مُجِيبُ

فقلتُ ادعُ أخَرى وارفعِ الصوتَ دعوةً ... لعلَّ أبا المغوارِ منكَ قريبُ قلت: أو بمعنى الطلب مجازا على معنى التشريف لهم، والاعتبار بقضاء حاجتهم في الفور من حيث نزل نفسه منزلة من سأل حاجة غير متيسرة له في الحال فجعل يطلبها ويحث عليها وجدها، فبادر بإعطائها لمن سأله إياها؛ لأن الاعتناء بدء بهذا السائل أشد ممن سأل حاجته وأصغرها أو قال: إشارة إلى سرعة الإجابة. ابن عرفة: والصواب أن أجاب عام في الإجابة بالموافق والمخالف، ولذلك خصصه بقوله تعالى: (أَنِّي لَا أُضِيعُ)، كما يقول: هذا الحيوان زيد فخصصه والآية حجة لأهل السنة القائلين: بالكسب، ويؤخذ منها أن الإيمان عمل، قيل له: قد قالوا: إن الإيمان لَا يوزن نص عليه أبو طالب، وصاحب سورة الأعمال وغيره قالوا: أنه لو وزن الإيمان لرجح بجميع السيئات، وذكروا في ذلك حديثا فرده ابن عرفة: بأن الإيمان يوزن ولا يرجح بالسيئات والمسألة علمية، فلا يحتج فيها كما قال المازري في حديث: " [مَنِ اقْتَطَعَ شِبْرًا مِنَ الْأَرْضِ ظُلْمًا، طَوَّقَهُ اللهُ إِيَّاهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ سَبْعِ أَرَضِينَ*] " مع أنه حديث صحيح أخرجه البخاري ومسلم، فكيف بحديث لم يخرجه واحد منهما ولا صححه أحد. قوله تعالى: (بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ). [هذا احتراس*]؛ لئلا يوهم أن الإناث أفضل من الذكور]، أو العكس. قوله تعالى: (فَالَّذِينَ هَاجَرُوا). إما عام تحته أنواع، أي الذين هاجروا بعضهم باختيارهم كعمر وعثمان، وغيرهما من رؤساء قريش، وأخرج بعضهم من مكة جبرا كبلال وعمار وسلمان الفارسي وغيرهم من ضعفاء المسلمين، وأوذي بعضهم، وإما على تقرير حذف الموصول أي فالذين هاجروا والذين أخرجوا، فيكون من عطف الموصوفات، وإما أنه من عطف الصفات. قوله تعالى: (لأُكَفرَنَّ عَنْهُمْ سَيئَاتِهِمْ). ابن عرفة: هذه تدل على أن المراد بالسيئات الكبائر كما قلناه فيما سبق لا الصغائر، كما قال الزمخشري: لأن الصغائر مقصورة باجتناب الكبائر، قال وغفران الكبائر إما بالتوبة أو الهداية مع هذه الأفعال فترجمها، وقال الأصوليون في الكليات الخمس: إن أكدها حافظ الأديان فما بعده، قالوا: وفائدة هذا الترتيب إذا ظهر هذا

(196)

الفسق من الخلفاء، وتعدى الحدود فإن الإنسان يهاجر من البلد التي فسقهم فيها بأشدها إلى التي فسقهم فيها بأحقها والعطف فيما بين الأول والثاني تدلي، وفيما بعده ترقٍ. قوله تعالى: (وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ). على أنه الله تعالى وعدهم أكثر من ذلك فلا تعلم نفس ما أخفي لهم، فليس لهم عند الله ذلك الثواب فقط، بل ثواب جزيل أعظم منه. قوله تعالى: {لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ (196)} مَتَاعٌ قَلِيلٌ). نقل ابن عرفة كلام الزمخشري، ثم قال: حاصله أن الأمر الملائم إذا اعتبر من حيث ذاته مع قطع النظر عن عاقبته ومآله غرور، وإن روعي مآله فليس بغرور، وهو معنى قوله تعالى: (لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا). قال الزمخشري: وهو من إقامة السبب مقام المسبب، والمعنى لَا يغير بتقلبهم فيعزل نقلهم مثل لَا أرينك هاهنا، أي: لَا تكن هنا فأراك، الزمخشري: وروي أن [أناسا من المؤمنين كانوا يرون ما كانوا فيه من الخصب والرخاء ولين العيش فيقولون: إن أعداء اللَّه فيما نرى من الخير وقد هلكنا من الجوع والجهد*] (¬1) فنزلت. ابن عرفة: فالخطاب على هذا للمؤمنين لَا للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم. قوله تعالى: (مَتَاعٌ قَلِيلٌ). حذف [المبتدأ] (¬2) هنا لكون الخبر لَا يصح إلا له، أي ذاك متاع أو هو متاع، الزمخشري: وقلته إما بالنسبة إلى ثواب الأبرار. ابن عرفة: هو بالنسبة إليه عدم فتكون كقول سيبويه قل رجل يفعل كذا، وأنشد: مررت بأرض قل ما ينبت البقل قوله تعالى: {اتَّقَوْا رَبَّهُمْ ... (198)} أسند التقوى إليه معبرا عنه بلفظ الرب دون لفظ الإله؛ لأنهم إذا اتقوه مع استشعار الحنان والشفقة، فأحرى أن يتقوه مع استحقار العقاب ويجري أعربه مكي حالا من الضمير الفاعل، فلهم بناء على أنه خبر وجنات مبتدأ. قوله تعالى: (نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ). ¬

_ (¬1) سقط تم جبره من الكشاف. اهـ. (¬2) سقط تم جبره من الكشاف. اهـ.

(199)

سماها نزلا مع أن النزل هو ما يقدم للضيف ساعة نزوله، وهو أدنى مما تقدم له إذا مات، فإن هذا فعل من أجله فيختبر فيه أحسن المطالب ويبلغ فيه المجهود بخلاف الأول إشارة إلى سعة رحمة الله تعالى فجعل الجنة نزلا فقط عما وراءها من الإحسان والخير أكثر من ذلك، قال الفخر: واحتج بها أهل السنة على إثبات الرؤية ليس ثم ما هو خير من الجنة إلا النظر إلى وجه الله عز وجل. قوله تعالى: {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ ... (199)} قال الزمخشري: نزلت في أصحاب النجاشي، وقيل: في عبد الله بن سلام ونظائره. ابن عرفة: عبر عنهم بالمضارع مع أنهم كانوا آمنوا، فهو على التصوير على أنه النجاشي وللتجدد على أنه المراد غيره؛ لأن النجاشي قد مات فإن قلت: المنزلة إليهم متقدمة في النزول على المنزل إلينا فهلا قدم في اللفظ؟ فالجواب: أنه قدم ما هو بالوقوع؛ لأن إيمانهم بكتابنا مستبعد الوقوع، فكان تصديق الأخبار بإيمانهم به أهم وهذا كما قالوا: في قوله تعالى: (وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا)، فقدم الأمر بتحرير الرقبة وقدم الدية لكون المقتول كافرا فهي مستبعدة الوقوع خشية أن يترك. قوله تعالى: (لَا يَشتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا). قال ابن عرفة: الآية تعريض بأخبار اليهود فإنهم كانوا يقبلون الرشا ويأخذونها على تحريف آيات الله عز وجل، فإن قلت لم قيل: (ثَمَنًا قَلِيلًا) فمفهومه أنهم يشترون بآيات الله ثمنا كثيرا، قلنا: إن وقع فما يقع إلا قليلا أبدا، ولو كان مثل أحد ذهبا. قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ). المراد سرعة وقته أي قربه، وقيل: سرعة مدته وقصرها، وإذا كان المخلوق، قال: (أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ)، ثم وفي بذلك وقدر عليه فما بالك بالخالق. قوله تعالى: {اصْبِرُوا ... (200)} الزمخشري: أي صابروا أعداء الله في الجهاد، أي غالبوهم في الصبر على شدائد الحرب ولا تكونوا أقل منهم صبرا، زاد ابن عطية: (وَصَابِرُوا) أنفسكم أي عاندوها وأكرهوها على الصبر على الجهاد.

ابن عرفة: من عنده معنى ثالثا، قال: صابروا بعضكم بعضا، أي ليقصد كل واحد منكم أن يكون أصبر من صاحبه على الحروب والجهاد، وأصبر من أشجع أصحابه وأمنع، أي: ليخرجنكم كل واحد على أن يكون صبره على الجهاد أشد من صبر أصحابه المسلمين عليه. قوله تعالى: (وَرَابِطُوا). قال ابن عطية عن ابن المواز: المرابط هو الذي يشخص لثغر من الثغور ليرتبط فائدة بإسكان الثغور دائما بأهليهم، فليسوا بمرابطين، ولما نقله الباجي في أواخر كتاب الجهاد قال: الظاهر أنه مرابط، وإن أقام بأهله. ابن عرفة: وهو الصحيح ألا ترى أن مالكا قال في المدونة: [ولا بأس أن يخرج الرجل بأهله إلى مثل السواحل، ولا يذهب بهم إلى دار الحرب في الغزو، إلا أن يكون في عسكر عظيم لَا يخاف عليهم لِقِلَّتِهِمْ*]. ابن عرفة: كان الأمير أبو الحسن المديني إذا خرج للجهاد يجب على من عنده زوجة حرة وجارية فيضطره إلى خروج الحرة معه، وإذا كان الإنسان يؤجر على اللقمة فيجعلها في فم امرأته كما في الحديث الصحيح، فأحرى أن يؤجر على مجاهدته على امرأته، وكذلك في الرباط فإنه يكون حرص الأنساب حينئذ على السلامة أشد؛ لأنه يقاتل عن نفسه رعن حريمه وعن المسلمين. قوله تعالى: (وَاتَّقُوا اللَّهَ). حجة للمتأخرين في أن المتقي أخص من المؤمن؛ لأن ما في المقصود أخص وصف التقوى والترجي بفعل صروف للمخاطب ونبه المفسرون في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ)، ثم قال: (لَعَلُّكُمْ تَتَّقُونَ). انتهى المجلد الأول ويليه المجلد الثاني وأوله سُورَةُ النِّسَاءِ ولله الحمد والمنة * * *

سورة النساء

سُورَةُ النِّسَاءِ قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ... (1)} قال ابن مالك: لفظ أصله (أي) نائبة مناب الإضافة إليها، وقال الأخفش: أي موصولة بمعنى الذي، (النَّاسُ) خبر مبتدأ محذوف مضمر عائد على الموصول، وهذه الآية تدل على أن المراد بالنَّاس بني آدم. ابن عرفة: والخلق هو الإنشاء على صورة مختلفة فمادة الخلق تشعر بالاختلاف، قال الفخر: والآية حجة للقائلين بالطبعية، فرده ابن عرفة بما قلنا: مع الاختلاف مع خلقهم في نفس واحدة، قال تعالى: (وَاخْتِلافُ ألْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ)، ومن إما للغاية أعني للابتداء، أو الانتهاء إن قلنا: إن المراد بالخلق نفس الإخراج من الظلمات إلى النور والإيجاد عن عدم، وأما لابتداء الغاية فقط، إن قلنا: إن الخلق مخترع مطلق الاختراع، والإنشاء مع إغفال تبدل الأغراض، وإنها لَا تبقى زمانين. قوله تعالى: (وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً). الكثرة مستفادة من لفظ (بَثَّ) ومن قوله (كَثِيرًا)، فإن قلت: لم وصف الرجال بالكثرة دون النساء، فالجواب من وجهين: بأن النساء في الوجود أكثر من الرجال، فحذف النعت للعلم به مع دلالة الأول عليه ووصف الرجال بالكثرة فيؤذن بكثرة النساء من باب أحرى، وإمَّا بأن الآية خرجت مخرج الوعظ والتذكير بالنعمة والعرب من شأنهم حب كثرة الرجال والعصبة وكراهية كثرة النساء فذكروا بما يحبون، فإن قلت: هلا قيل: وبث منهما ذكورا وإناثا فيعم اللفظ الصغار والكبار من النوعين، قلت: الآية في معرض التكليف بالتقوى فذكروا بالمكلفين من النوعين. قوله تعالى: (وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ). قال ابن عرفة: ليس هذا تكراراً فالأمر الأول: بالتقوى معقب بالتذكير بنعمة الإخراج من العدم إلى الوجود، والثاني: معقب بالتذكير بنعم متتابعة دائمة في مدة الحياة، وهي نعمة قضاء النَّاس حوائج بعضهم بسبب سؤاله إياه بالله ففيه تعظيم لله عز وجل، ومن هو بهذه المنزلة جدير بأن يتقى، والرحم ذكر الفقهاء مراعاتها في الإنفاق وأما مراعاتها في حال الصحة والمؤاثرة والريادة فعندي أنه مفترق فيها مجيء ذي

(2)

الرحم من غير ذي المحرم قسمان: فمن يعتق على الإنسان أشد حرمة ممن لَا يعتق عليه، وأما غير المحرم فهو كالأجنبي. قيل لابن عرفة: والرحم المحرم ينبغي أن يكون من جهة الأم؛ لأن الرحم إنما هو بالأم، فالعم للأب فليس من ذوي الأرحام إذا لَا يجمع بينهما الأم، وإنما يجمعان في الأب. قوله تعالى: {وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ ... (2)} ابن عرفة: منهم من يجعله من إقامة السبب مقام المسبب، أي: واحفظوا أموال اليتامى عليهم لتعطوها لهم إذا كبروا، فحفظها عليهم في حال الصغر سبب في إعطائها لهم إذا رشدوا فوقع الإيتاء، وهو المسبب موقع سببه وهو الحفظ، ابن عرفة: وتقدم لنا أن هذه الإضافة إضافة استحقاق، لَا إضافة ملك، ومعناه إلى أن يستحقوها إما بالاحتياج إلى الإنفاق، وإمَّا بالرشد، ولو كانت إضافة ملك للزم تخصيصها بالرشاد، ويكون (وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُم) إذا رشدوا لَا مطلقا. قوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى ... (3)} علقها بأن دون إذا مع أن هذا كان عندهم واقعا محققا، فأجاب ابن عرفة بأنه إذا ثبت الجواب مع الخوف المشكوك في وقوعه فأحرى أن يثبت مع المحقق أبو عبيد: (خِفْتُم) بمعنى أيقنتم، ابن عطية: لَا يكون بمعنى اليقين بوجه، وإنَّمَا هو من أفعال التوقع؛ لأنه قد يميل فيه الظن إلى أحد الجهتين، ابن عرفة: الخوف يكون من أمر متيقن ومن أمر مظنون، ومن أمر مشكوك فيه فالنَّاس مختلفون إذا رأى حائطا مائلا جلس بإزائه، ولا يخاف ولما يخاف يهرب مسرعا، وآخر يمر من بعيد، وآخر يهرب من ذلك الطريق، واحتج أهل الظاهر بهذه الآية فبعضهم أخذ منها نكاح تسع زوجات، وبعضهم أخذ ثمانية عشر؛ لأن معناها اثنين اثنين، وثلاثة ثلاثة، وأربعة أربعة فعدد المكرر، وبعضهم عد الأربعة مرتين فجوز نكاح ثمانية والإجماع على خلاف ذلك، ومثل هذا لَا يعد خلافا. قوله تعالى: (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلُّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ). ابن عرفة: احتجوا بها على عدم وجوب النكاح؛ لأنه خير بينه وبين التسري أي فانكحوا واحدة، أو تسروا ما ملكت أيمانكم والتسري غير واجب فيكون النكاح غير واجب، وأجيب بأن سياق الآية في النكاح فإن المعنى فانكحوا واحدة، أو انكحوا ما ملكت أيمانكم فيكون مجيزا بين نكاح الحرة، وبين نكاح الأمة، وهو أخف من نكاح

(4)

الحرة إلا أن في هذا تفكيك الضمائر؛ لأن الضمير في قوله تعالى: (فَانْكِحُوا) عائد على الأزواج، والضمير في قوله تعالى: (مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم) عائد على المالكين واحد منها، ابن العربي: جواز نكاح اليتيمة قبل البلوغ، بقوله تعالى: (فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النسَاءِ) بعد قوله تعالى: (أَلا تُقْسِطوا فِي الْيَتَامَى) ولا يتم بعد بلوغ، ورده بعض الطلبة بحديث: "البكر تستأمر والثيب تعرب عن نفسها" قال: لأن البكر إما ذات أب أو وصي أو مهملة، فالأوليان لَا إذن لهما فلم يبق إلا اليتيمة المهملة، وقال في المدونة: الصغيرة لَا إذن لها، ولا إذن إلا للبالغة فيتعين أنها البالغة، قال: فهو عام مخصوص بهذا، فالمراد باليتيمة البالغة. قوله تعالى: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً ... (4)} ابن عرفة: ظاهر الأمر الوجوب، ونقل كلام المفسرين، ثم قال: وعندي أنا في هذا أنه إنما قال: (نِحْلَةً) ليبيته على الحالة التي نظر فيها عدم إتيانهن الصداق، وهي إذا ماتت الزوجة قبل البناء عقب عقد النكاح وكانت فقيرة، فإن الزوج يؤدي الصداق مجردة نحلة لَا من عوض، وكذلك إذا مات الزوج فإن الزوجة تأخذ الصداق من تركته نحلة من غير عوض، فإذا أمروا بدفعه حالة كونه نحلة فأحرى أن يلزمه دفعه إذا كان عن عوض، قلت: أو هو إشارة إلى أحد القولين فما إذا تطوع الزوج بعد العقد، وقبل البناء بزيادة الصداق ألحقها به، وجعل حالها كحاله؛ لأن النحلة هي العطية لَا لعوض، وهذا كذلك لجعلهم إياها كالهبة، لأن المعطي ما ذكرها قال: يقضى على الزوج بها فإن لم تقبضها حتى مات أو طلقها قبل البناء فلها عليه نصف الزيادة إن طلق، ولا شيء لها إن مات؛ لأنها عطية لم يقتض، قاله مالك رحمه الله في المدونة، قال عبد الوهاب، وقال الأبهري، وغيره من أصحابنا: القياس أن يجب لها بالموت؛ لأنها إن كانت كالمهر وجبت بالموت، وإن كانت كالهبة ينبغي أن لا تجب لها نصفهم في الحياة بالطلاق قبل البناء، ابن عرفة فإن قلت: هذا شأن العطية لا تشرك بالطلاق والصداق لَا يبطل بالموت، قلت: الصواب أنها عطية وإنَّمَا تشركت بالطلاق ولأن الزوج ما ألزم نفسه هذه العطية إلا على حكم الصداق ومن حكمة التشطير، فإن قلت: إلزامه نفسه على الوجه المذكور يوجب أن لَا يبطل بالموت والفلس، قلت: لَا تسلم؛ لأن التزامه نفسه إخراج مال عن غير عوض على وجه مخصوص لَا يخرجه عن حكم العطية، وأيضا فقد في هذا الباب حق الورثة بالموت وحق بالفلس. قوله تعالى: (فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ).

(5)

حكى ابن عرفة عن الزمخشري في قصة القاضي شريح، ثم قال: وجهه أنها رجعت بالقرب، وأما إن رجعت بالبعد فلا يصح لها الرجوع لكن يمكن توجه اجتهاده من الآية وهو أنه قال: (فَكُلُوهُ)، ولم يقل: فخذوه والأكل متأخر عن الجوز فدل على أنه إذا أجازه الزوج، وبقي بيده مدة حتى سماه طيبة نفوسهن، ويستمرون عليه فحينئذ يطيب للأزواج أن يأكلوه، قال: وحكم عبد الملك واستدلاله بما قاله عنه لا يتم له ولو استدل عبد الملك بن مروان على حكمه بما استدل به القاضي شريح لكان أصوب له، قال: ونظيرهما في مذهبنا إذا ادعت الزوج أنها كانت في ترك الصداق مكرهة بحكم شرعي لطرز القول الشاذ. قوله تعالى: {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا ... (5)} قال الزمخشري: وكان السلف يقولون: المال سلاح المؤمن، ولأن أترك مالًا يحاسبني عليه خير من أن أحتاج إلى النَّاس. ابن عرفة: وعن سفيان وكانت له إضافة يقلها، فقال: لولاها لعدل في بني العباس، ابن عرفة: ودخلت على القاضي أبي عبد الله بن عبد السلام عام اثنتين وأربعين وسبعمائة، والتي من سطوره كان تركها والدي بالشعير، فقلت: بعتها، فقال: وما فعلت بثمنها، فقال له: أردت أن أشتري ربعا أسلكه فلم أجد، قال: وكذلك أنا لي مدة نحرس في شراء ربع لولدي أبي القاسم فلم أجده إلا بثمن كثير، ثم قال لي: ينبغي للإنسان أن يكتب الرباع ليخلفها لأولاده فيها فإن سيدي الفقيه أبا عبد الله محمد بن شعيب شيخ سيدي أبي عبد الله الزواري، والتونسي الكل لم يخلف لولده شيئا، فكان يمشي على طلبة أبيه فلم يجد منهم من يرحمه بشيء، فانتهى أمره إلى أن رجع بوابا في باب الحديد فجاءته أمه؛ لأنها كانت من بني الفتوح في ذلك تعيش حتى مات، وكان الفقيه يحيى أبو بكر ابن العربي يقول لنا: إنه كان في ابتداء أمره ما يأكل حتى يرى الحائط يرقص والإنسان إذا اقتصر في [سقط] بقوم به ويبة من شعير، [سقط] في الشهر والصالحون الذين أدركوا المعودون منهم من يدرك صلاحه بالضرورة والمتزوجون ما يدرك صلاحهم، إلا بالنظر والمخالطة، قال: الزوج لَا يعين على الصلاح. قوله تعالى: (وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ).

(6)

ابن عرفة: انظر هل فيها حجة لمسألة القاضي ابن زرب بأن النفقة تعم العولة والكسوة؟ قوله تعالى: (وَقولُوا لَهُمْ قَوْلا مَعْرُوفًا). ابن عرفة: يحتمل عندي أن يريد بالمعروف في الشرع وإن كان عند المحجور منكرا، أو هو أن الوصي يحض محجوره على الاقتصار في حالة والإقتار على نفسه في النفقة والكسوة، وعدم التبذير وسمعت وصيا يقول لمحجوره: كنت أنا محجورا فأعطاني رجل درهما فبقي عندي سنة حتى اشتريت به ويبة من قمح وحاولها حتى صارت أقفزة ويحتمل أن يزيد بالمعروف المحبوب وبالغير معروف المكروه فمن يحب إنسانا ينبغي أن يذكره بعرفه، ويكره آخر فلا يعرفه حتى يكرر ذكره عليه فالإنسان يعرفها يجيب بأول وهلة ويكره ما يكره، قلت: إشارة إلى أخذ شيء بالسياسة واللين دون الشدة والغلظة. قوله تعالى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى ... (6)} ابن عرفة: اختلف المذهب في البكر بعد البلوغ وقبل التعيين هل للوصي عليها أن يرشدها ويشهد له أم لَا؟ وهو الصحيح والآية حجة للجواز وسبب الخلاف أن البكارة مظنة لجهلها بمصالح نفسها فإن وجد بعض الأبكار عارف بمصالح نفسه فلا يضر؛ لأن الحكمة قد تبتغى وتبقى المظنة، وكذلك وجه قول أبي حنيفة في أنها إذا بلغت خمسا وعشرين سنة ترشد، وإن كانت سفيهة؛ لأن بلوغ ذلك عنده بمظنة الرشد فلا يضر بخلقه في البعض، ورده ابن عرفة: بأن التعليل بالمظنة حالة وجود النص من القرائن لَا يصح لاشتراط الرشد منها، وهل يصح أن يدفع للمحجور مالا يختبر به حاله أم لَا؟ ظاهر كتاب الوصايا والْمِدْيَانِ من المدونة جواز ذلك، وقيل: لَا يجوز وإنما نختبر بغير شيء، وقال القرطبي: هنا إن كان ذكرا اختبر بنفقة المنزل فيعطاه يشتري اللحم والبقل والخبز، وإن كانت أنثى اختيرت بالغزل، ونقله ابن عبد السلام في شرح ابن الحاجب، واختلف في الرشد هل من شرطه العدالة أم لَا؟، وهو الصحيح فقد يكون الرشيد في ماله فاسقا في دينه، وأما السفيه ففي تبذيره ماله لَا في إفساد دينه، وحكى القاضي ابن حيدرة أن القاضي ابن عبد السلام نقل عن بعضهم أنه رأى في المشرق شيخا عليه حلة كبيرة يقرئ أنواع العلوم وهو مشهور بالصلاح والدين لكنه سفية محجور عليه، فسئل عن موجب ذلك، فقيل له: إذا رأى الحلاوة يموت عليها حتى يشتريها.

(7)

قيل لابن عرفة: على القول بأن الرشد مشروط بالعدالة يلزم الدور؛ لأن العدالة في الرشد بكونه مرضيا في أحواله لَا عدالة الشهادة، قاله عياض في الشهادات من التنبيهات. قوله تعالى: (وَلَا تَأكُلُوهَا إِسرَافًا وَبِدَارًا). ابن عرفة: الظاهر أنه حال؛ لأن الإسراف هو أن يأكلها وهو غني عنها، أو يكون فقيرا فيأكلها بغير المعروف، وحكى ابن العربي أن الآية منسوخة بقوله تعالى: (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا) فقال ابن عرفة: إنما يحتاج لهذا لو لم يقل (ظُلْمًا)، وأما مع ذكره فلا تناقض فيمن أكل بالمعروف ولم يأكل ظلما. قوله تعالى: (فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ). ابن عرفة: الفاء للتشبيه؛ لأن حفظهم للمال سبب في دفعهم إياه للأيتام، وهل المراد إذا أردتم الدفع فيكون الإشهاد بالمعاينة حين الدفع فإذا دفعتم بالفعل فيكون الإشهاد بعد ذلك. قوله تعالى: (وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا). إما وعيد للأيتام إذا أخذوا المال من الأوصياء وجحدوه ولم يعترفوا به. قوله تعالى: {مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ ... (7)} إما ترق فيكون تأكيدا، أو تدلي فيكون تأسيسا؛ لأنهم إذا أمروا بالإعطاء من القليل فأحرى الكثير، ومنهم من قال: إن القليل ربما تسمح النفس به وبالإعطاء منه بخلاف الكثير. قوله تعالى: {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ ... (8)} عبر بـ إذا دون إن إما إشارة إلى ترجيح الأمر بإرزاقهم منه وتأكيده، وإمَّا لأن حضورهم أمر غالب أكثري وإلا لمجرد وصف القرابة واليتم والمسكنة موجب للأمر بإرزاقهم سواء حضروا أو غابوا فهو مفهوم خرج مخرج الغالب أو العطف تدلٍّ لوجهين: أحدهما شرعي وهو حديث الصدقة على الأقارب صدقة وصلة اليتيم ضعيف لَا قدرة له بخلاف المسكين، والثاني أن القرابة وصف ثابت خيري غير مكتسب، وكذلك اليتيم، وأما المسكين فقد يكون تسوء في إتلاف ماله فلا فتسمح النفس بالصدقة عليه، والآية حجة على أبي حنيفة القائل بتوريث ذوي الأرحام كلهم؛ لأنهم لو كان لهم حظ في الإرث لما أمر الله تعالى برزقهم من المال، وهذا هو الجمع

(10)

بينها وبين التي قبلها وهي قوله تعالى: (لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ) لأن ذلك يقتضي ميراث الجميع، وهذه تقتضي عدمه فالجمع بينهما بأن تلك فيمن فيه مع القرابة سبب آخر موجب للإرث وهذه فيمن ليس فيه ذلك السبب. قوله تعالى: (فَارْزُقُوهُم مِنْهُ). ولم يقل: فأعطوهم منه تهييجا على كمال الإعطاء وإشعارا بأن ذلك من الرزق الحاجي الذي به قوام الأنفس، وأيضا فهو إشارة تقليل ذلك ويسارته بخلاف ما لو قال: فأعطوهم، وقال الزمخشري: إن هذا مندوب أو واجب، وهو إن كان واجبا فهو إما منسوخ أو غير منسوخ، وقال ابن عطية: وهو مندوب أو واجب وعلى كلامهم فهو إما منسوخ أو غير منسوخ يتحلل، ابن عطية: ابن عرفة: تقدمنا أنه إذا كان الجواب مثبتا يؤتى بـ إذا وإن كان منفيا يؤتى بـ لو، والخوف على الذرية الضعاف أمر ثابت محقق فهلا أتى بـ إذا، قال: وعادتهم يجيبون بأنه روعي في هذا سبب الشرط، وسبب الشرط هذا المراد نفيه لينتفي كون الذرية ضعافا، قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا (10)} نقل ابن عرفة كلام المفسرين، ثم قال: ومن عادتهم يقولون من قواعد علم البيان أنه إذا كان مضمون الجملة مشكوك فيه يؤتى بإن تأكيدا للمعنى المراد وتثبيتا له وتحقيقا وإن كان محققا، والشك في اختصاص المخبر عنه يؤتى بإنما المقتضية للحصر كقولك في الأول الذي يأتيك: إنه لص، وفي الثاني الذي يأتيك فإنه سارق، بل مشكوك فيه بأنا إذا علمناه بهذا الخبر وإنما المحقق عندنا عقوبتهم فقط لَا عقوبتهم بأكل النار فكان الأصل أن يؤتى فيه بإن، فيقال: إنهم يأكلون في بطونهم نارا، قال: والجواب أنه روعي فيه كون أكلهم من حيث هو معلوم لعلمنا أنهم يأكلون شيئا بالإطلاق ويجيء بإنما لتقيد حصر أكلهم في النار، قلت: وأجاب بعضهم بأنه إن لم يرد بأكلهم النار حقيقة بل مطلق تذميمهم على ذلك، وأنهم مجازون عليه فهو معلوم؛ لأنا نعلم نصا أن أكل المال ظلما موجب العقوبة مطلقا وإن أريد أنهم يعذبون بأكل النار حقيقة فهو غير معلوم لنا لكنه نزل منزلة المعلوم تحقيقا له حتى صار كالمشاهد الذي لَا يخالف أحد فيه فيكفي في الإخبار عن وقوعه أو في شيء من غير تأكيد فلم يبق إلا الحصر فأدخلت إنما دليلا عليه. قوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ ... (11)}

ولم يقل: أبنائكم لصدق الابن على ابن التبني، والولد أيضا والولد لَا يصدق إلا على ولد الصلب وورث ولد الولد بالإجماع لَا بالقياس. قوله تعالى: (لِلذكَرِ مِثْلُ حَظِ الأُنْثَيَينِ). الزمخشري فإن قلت: هلا قال للأنثيين مثل حظ الذكر أو الأنثى مثل حظ نصيب؟، قلت: بدأ لبيان الذكر لفضله كما ضوعف حقه لذلك، ولأن قوله (حَظِ الأُنْثَيَينِ) قصد إلى بيان فضل الذكر، وقوله: للأنثيين مثل حظ الذكر قصد إلى بيان نقص الأنثى وما كان قصد إلى بيان فضل الشيء كان أدل على فضله من القصد إلى بيان نقص غيره عنه، ولأنهم كانوا يورثون الذكر دون الإناث وهو السبب لورود الآية، فقيل: كفى الذكور أن ضوعف لهم نصيب الإناث فلا يتمادى في حظهن حتى يحرمن، قال ابن عرفة فإن قلت: هلا قيل: للذكر مثل حظ الأنثى مع ما حصل مركوزا في نفوسهم أنهم لَا يورثون مع الذكور لأوهم أنه يرث جميع المال دونهم أو النصف، وفي الحديث: "إن للابنتين الثلثين" هل هو معارض لبعض عموم الآية؟ فيكون مخصصا لها أو معارض لها فيكون ناسخا لها، والظاهر معارض لمفهوم الآية لكن في الآية مفهومين متعارضين فقوله: (فَوقَ اثنَتَينِ) مفهومه أن الابنتين كالواحدة قوله: (وإن كَانَتْ وَاحِدَةً) مفهومه أن الزائد عليها له الثلثين فيعمل هذا المفهوم؛ لأن الحديث يعضده. قوله تعالى: (فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ). ابن عرفة: اتفقوا على أن الأم يحجبها ثلاثة من الإخوة فصاعدا واختلفوا في الاثنين، فقال ابن عباس: إنها ترث معهما الثلث، وخالفه سائر الصحابة حسبما قاله عثمان مع الآخرين، فقال ابن عباس بقوله واتخذه مذهبا ثم إن ذلك القائل رجع عن مذهبه إلى مذهب الجماعة فانعقد الإجماع بعد مخالفة ابن عباس لَا قبله، قيل: أو يقال: انعقد الإجماع حين مخالفته هو لَا قبله، ولذلك بعد خلافه خلافا، قال: الظاهر الأول. قوله تعالى: (مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ). قال أبو حيان: إنما قال من السدس وسلمه له المنتصر. ورده ابن عرفة: بأن يلزم عليه أن يكون أحدهما: السدس وهو مقيد بهذه الحالة وهي حالة الوصية والدين فإن لم يوصِ لم يكن لها السدس.

(12)

قوله تعالى: (لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا) إشارة إلى أن الوارث إذا اشتمل الوصية والدين وأداه عن الميت، فإنه أعظم له أجرا وأكثر له نفعا من أخذه ذلك لنفسه؛ لأن الأول: نفع أخروي أن فيه ثواب التوفية بالحق الواجب، والثاني: يقع دنيوي وأي إما موصولة أو استفهامية وكان بعضهم يختار أنها موصولة إذا كانت من الله تعالى لاستحالة الاستفهام في حقه. قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا). إما كان للدوام أي كان ولم يزل، وإمَّا أنها على بابها؛ لاقتران مضمون الجملة بالزمان الماضي؛ لأن الخطاب بهذه الأحكام حصل [للمكلفين*] العلم بأن الله تعالى بين الخطاب موصوف بالعلم والحكمة، فقيل له: كما علمتم اتصافه؛ لأن بهما كذلك فاعلموا بأنه كان أيضا موصوفا بهما فيما مضى وانقطع. قوله تعالى: {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ ... (12)} ابن عرفة: [الأزواج مخصوص بالكتابيات، [وإلا فإنه لَا يرث المسلم الكافر*] والأمة يرثها سيدها لَا زوجها، أو لَا يخصص بالنكاح الفاسد؛ لأنا إن قلنا: إن فيه الميراث فهو نكاح وزواج صحيح، وإلا فليس بنكاح، وليست له زوجة، قال: وقوله مخصوص بالأحرار، قال ابن عرفة: عادة الطلبة يوردون هنا سؤالا وهو أن هذه الجملة الشرطية قدم عليها جزاؤها في اللفظ وإن كان المعنى مؤخرا عنها، والجملة التي بعدها أخر عنها جزاؤها، فما السر في ذلك؟ وأجيب: بأن الجزاء في الأولى كالمقتضي، والشرط كالمانع، والمانع متأخر على المقتضي، فالحكم اقتضى أن للأزواج من زوجاتهم النصف والولد كالمانع، فقال ابن عرفة: إنما عادتهم يجيبون بأن حكم الأول شرط بوصف عدمي، وهو عدم الولد والأصل في الأشياء العدم، فالجزاء فيها ثابت بالأصالة من غير شرط فيه، والجزاء في الثانية مترتب على أمر وجودي، والمترتب على الوجود [متأخر*] عنه في الوجود فلذلك أخر عنه في اللفظ. قوله تعالى: (فَإِن كَانَ لَهُن وَلَدٌ). يتناول ولد الزنا وولد الرشدة، وقيل لابن عرفة: ما أفاد قوله: (مِمَّا تَرَكَ) مع أنه مستفاد من الأول، فقال: أعيد؛ لأن هذه جملة أخرى فالأصل ذكره. قوله تعالى: (وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ). الولد الرشدة؛ لأن ولد الزنا لَا يلحق بأبيه بوجه وإنما يلحق بأمه. قوله تعالى: (وَإِنْ كَانَ رَجُل يُورَثُ كَلالَةً أَو امْرَأَةٌ).

فإن قلت: هلا قال: وإن كان أحد يورث كلالة ليدخل الصغير والكبير والذكر والأنثى، فالجواب: أنه قصد التنبيه على الصورة الغريبة النادرة وهي عادة المتأخرين في التمثيل بالصورة الغريبة لتدل على غيرها من باب أحرى بخلاف المتقدمين فإنهم يمثلون بالصور الجلية الواضحة ويتركون الخفية، قال: وذلك أن وجود الولد للرجل والمرأة أكثري وأمر غالب، وعدمه أمر نادر بخلاف فقدان الوالد للصبي فإنه ليس بنادر بل هو كثير، وأجاب السهيلي بقوله تعالى: (مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ) والوصي لَا يصح منه ذلك. ورده ابن عرفة: بصحة الوصية من الصبي المميز حسبا، قال في الوصايا الأول من المدونة، ويجوز وصية الصبي ابن سبع سنين فأقلهما يقارنهما إذا أصاب وجه الوصية، وبأنه كان يؤتي أولا باللفظ العام، ثم يقول: (مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ)، (أَوْ دَيْنٍ) ليتناول بعض صور ذلك العام وهو من تصح عنه الوصية والدين، وذكر ابن عطية هذه الفريضة الحمارية وأنها زوج وأم وإخوة، لأم وإخوة شقائق، وكذا في رسالة ابن أبي زيد، وقال الفراء، وابن الحاجب: إنها إما أم أو جدة، وتكلم أبو حيان هنا في العطف، وهل يشترك في الإعراب والمعنى أم لَا؟ كما قال ابن بشير في التيمم من أن الأصوليين اختلفوا في العطف، ابن عرفة: والتشريك شك إنما فهم من السياق فدل على أن ثم وصف مقدر، والمفضل هو الميت، أي: وإن كان الميت رجلا يورث كلالة. قوله تعالى: (فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثلُثِ) احتجوا بها أن الشركة تقتضي التساوي، ووقع في المدونة في السلم الثالث وفي القراض، قال في السلم: وإن ابتاع رجلان عبدا فسألهما رجل أن يشركاه ففعلا، فالعبد بينهم إتلافا فظاهره أنها تقتضي التسوية، وقال في القراض: وإن أقرضه ولم يسم ماله من الربح وتصادقا على ذلك أو على أن له شركاء في المال إن لم يسمه كان على قراض مثله إن عمل، فظاهره أنه لَا يقتضي التسوية بأن لفظ اشتركا يقتضي التسوية، ولفظ أشرك بمعنى النصيب فهو للنصف وغيره، ابن عرفة وأجيب: بأن القرينة في الآية عينت أن المراد المساوي وهو قوله: (فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ). قوله تعالى: (غَيْرَ مُضَارٍّ). قال ابن عطية: المضارة إنما هي في أكثر من الثلث، وأما الثلث فالمشهور من مذهب مالك رحمه الله إن ضارر فيه تنقل الوصية، وقيل: إنها ترد، وإن كانت في الثلث، فقال ابن عرفة: ليس كذلك بل الأمر على العكس سواء فالمشهور

(13)

أنه إن قصد الضرر ترد الوصية؛ لأن في كتاب الوصايا من المدونة ما نصه، وإذا أوصى بثلثه لوارث، وقال: فإن لم يجزه باقي الورثة فهو في السبيل لم يجز ذلك! وهو من باب الضرر وكذا لو أوصى لوارث بعبد، وقال: إن لم يجيزوا فهو حر فإنها تبطل ويورث، ولو قال عبدي حر وفي سبيل الله، أو قال: داري وفرسي في السبيل إلا أن يشاء ورثتي أن ينفذوا ذلك لابني، فذلك صحيح على إوصائه فحاصله التفريق بين تقديمه الورثة أو الأجنبي فإن قدم الوارث في لفظه كان قرينة في إرادة الضرر فتبطل الوصية كلها. قوله تعالى: (وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ). أي (عَلِيمٌ) بمن يوفي بما أمر به (حَلِيمٌ) عمن خالف وعصى فلا يعاجل بالعقوبة. قوله تعالى: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ ... (13)} قال ابن عرفة: الظاهر أن (تِلْكَ) مبتدأ، و (حُدُودُ) خبر لوجهين: أحدهما: أن الحدود أضيفت إلى اسم الله تعالى تعظيما له في الجزاء المستفاد من الجملة. الثاني: أن حدود أعم من المبتدأ، قال: وفي لفظ الحدود إشارة إلى أن تأكيد الأمر يتوقى الشبهات كلها، وأن المكلف ينبغي له الأخذ بالاحتياط، وأن يحمل أوامر الشرع كلها على الوجوب ونواهيه على التحريم، قال: وفيها سؤال وهو لم خصص الحدود بالله دون رسوله مع أنها أيضا حدود رسوله؟ ثم قال: (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسولَهُ) فأسند الطاعة لهما، قال: والجواب أن الرسول هو مبلغ عن الله تعالى إذ لا معرفة لهما إلى حدود الله إلا من جهة رسله فكونها من جهة الرسول معلوم لنا بالمشاهدة والعيان فالإعلام بذلك من باب تحصيل الحاصل وإضافتها إليه يستلزم إضافتها إلى رسوله، بخلاف الطاعة فإنها قد تفهم مفردة في حق الله تعالى دون رسوله، فقرنت طاعة الرسول بطاعة الله تعالى تشريفا له كما جعلت طاعة الرسول طاعة الله عز وجل، قال تعالى: (مَنْ يُطِعِ الرسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ). قوله تعالى: (يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ). إن قلت: هلا قيل: ومن يطع الله ورسوله ولم يتعد حدوده كما قال تعالى: (وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ) قلت: اكتفاء بقوله تعالى: (تِلْكَ حُدُودُ

(15)

اللَّهِ) وتحقيقا لمذهب أهل السنة في أن من أطاع في شيء وعصى في شيء يطلع من الجنة. قال الزمخشري: وقرئ (يدخل) بياء الغيبة وهو التفات. ورده ابن عرفة بأن الالتفات إنما هو قراءة التكلم، ثم أجاب بأن هذا اللفظ واقع موقع ضمير المتكلم، فإنه قال: نلك حدودنا ومن يطيعنا حسبما قال السكاكي: إن مثل الالتفات، ورده عليه الآخرون وهي مسألة خلاف وجاء هذا على أحد القولين عند البيانيين. قوله تعالى: (وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ). قال ابن عرفة: عندي فيه حذف التقابل: (يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ) وله نعيم مقيم، (وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) وفي تسمية (يُدْخِلُهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا) إن قلت: ما أفاد قوله: (وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ) قلت: الجواب أن الفضائل على ما نقل عليها في كتاب النكاح من الإكمال على المازري في حديث: "ولم يجب الدعوة فقد عصى أبا القاسم" يطلق على مخالفة الواجب والمندوب، ولا يلزم من ثبوت الأعم [ثبوت*] الأخص فأتى بالأخص ليكون نصا في أن هذا الوعيد إنما هو أن ارتكب الأمرين، وإن قلنا: إن العصيان خاص بالمخالفة في الواجب والمحرم فيكون القصد بقوله: (وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ) رفع لجواز المتوهم فالحاصل أن العطف تأسيس لَا تأكيد، واحتج بعضهم بها لأهل السنة من ناحية أن الثواب لمن اتصف بمطلق الطاعة والوعيد مرتب على مخالف في الأمرين، وأجيب: بأن الوعيد أيضا بمن اتصف بمطلق العصيان، ورده شيخنا بأن هذا الوعيد إنما هو لمن تعدَّى حدود الله وهو الكافر، وأما العاصي فلم يتعد الحدود، وإنما تعدى بعض الحدود، قيل لابن عرفة: أو يكون العصيان راجعا لمخالفة الأوامر، وتعدي الحدود لمخالفة النواهي [ ... ] قوله تعالى: (وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى). قوله تعالى: {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ ... (15)} قال ابن العربي: لَا تدخل فيه الأمة كما لم يدخل العبد كما في قوله تعالى: (وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُم) الآية إذا لم يكن العبد من رجالنا لم تكن الأمة من نسائنا، فرده ابن عرفة: بأن منصب الشهادة شريف والعبودية

(16)

نقص يمنع منه، والفاحشة لحساستها بالزنا هو الذي يطلب الشهادة عليه، وأما من لم يرم به فالستر في حقه أولى، ويستكشف الشهود في الزنا؛ لأن المقصود منها الستر يسألون على أي حال، وفي أي موضع وفي أي زمان، وكذلك القطع في السرقة؛ لأن أكثر النَّاس لَا يفرقون بين السرقة والاختلاس والخديعة والتعدي والغصب والنهب والخيانة والغيلة والحرابة؛ لأن أحكامهما مختلفة، وقال أبو عمران: في النظائر شهود السرقة لَا يستكشفون ابن عرفة وهو غلط، وكذلك اشتراط إيجادهم في زمن الأداء كشهود الزنا وهو غلط أيضا، ابن عرفة وقوله تعالى: (فَإِنْ شَهِدُوا) إنما عبر بدون إذا؛ لأن المقصود عدم شهادتهم، وقوله تعالى: (حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ) عقبه لأن المتوفى أعم قال الله تعالى: (اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا). قوله تعالى: (أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا). أو بمعنى إلا أن ولا يصلح أن يكون بمعنى إلى إلا إذا قلنا: أن ما بعد إلى داخل فيما قبلها، وقد قالوا في: [وكنتُ إذا غَمَزْتُ قَناةَ قَوْمٍ ... كَسَرْتُ كُعُوبَها أَوْ تَسْتَقِيمَا*] قال ابن عطية: أما [البكر فلا خلاف أنه يجلد*] واختلفوا في نفيه وتغريبه، فقال الخلفاء الأربعة، ومالك والشافعي رحمهم الله: أنه لَا يُنفَى، وقال جماعة: يُنفَى، وقيل: نفيه حجة، ولا تُنفى المرأة ولا العبد هذا مذهب مالك وجماعة. ابن عرفة: وهذا غلط؛ لأن في كتاب الرجم من التهذيب ما نصه ولا نفي على النساء ولا العبيد ولا تغريب ولا ينفي الرجل الحد إلا في الزنا، وفي حرابة فينفيان جميعا في الموضع الذي لَا ينفيان إليه بسجن الزاني فيه والمحارب حتى تعرف توبته، فإن قلت: لم قال (مِنْ نِسَائِكُمْ)، قلنا: المراد بإخراج الذمية لقول مالك في كتاب الرجم في المدونة وإن زنا مسلم بذمية حد، وردت هي إلى الأصل في دينها فإن شاءوا رجمها فلم أمنعهم، فإن قلت لم قال: (فَاسْتَشهِدُوا) فأمر بطلب الشهادة مع أنه موضع يقصد فيه الستر شرعا، قلنا: المراد به الحاكم فهو إذا أخبر بأنهما زنيا؛ بحيث هل يشهدهما أحد أم لَا؛ لأنه يأمر الشهود بالبحث عنهم ابتداء فإن لم يجد من يشهد عليهما كان من أخبره بذلك قادحا فنحده. قوله تعالى: {وَأَصْلَحَا ... (16)}

(17)

إما عطف تفسيري مثل: (وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ)، أو المراد به ما زاد على التوبة، وهو إن يستديم على ذلك ويتزايد حاله في الصلاح شيئا فشيئا، ليكون ذلك دليلا على صدق توبته. قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا). إن قلت: لم أخر الرحمة وهي سبب في التوبة، قلنا: لأن المقصود عموم رحمته بالتوبة وغيرها فمن لم يتب من الفاحشة وهو مؤمن فإنه عندنا في المشيئة ولا بد له من الجنة. قوله تعالى: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ... (17)} ابن عرفة: منهم من شرط في الندم العزم أن لَا يعود إلى الذنب، ومنهم من لا يشترط ذلك، وقوله تعالى: (عَلَى اللَّهِ) بمعنى إن إمكان القلوب غير القبول فنحن نقطع بإمكان قبول توبة التائب شرعا ويبقى قبولها بالفعل مستفاد من قوله تعالى: (فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيهِم) فيكون تأسيسا ونظيره أن يقول: من دخل داري اليوم فأعطيه درهما، وزيد عظيم فأعطه درهما. قوله تعالى: (بِجَهَالَةٍ). قال ابن عطية: ليس المراد به جهلهم بأن ذلك معصية؛ لأن المتعمد أيضا يصح توبته إجماعا، ابن عرفة. وقال الفخر: المعصية لَا يصح صدورها من العالم؛ لأن الداعي لقضايا اقتضى ترجيحا، فإن كان المكلف حينئذ عالما بأنها معصية وإن تركها أرجح من فعلها ثم تعمد لقضايا فهو جهل التقدمية المرجوح على الراجح، فلا بد أن يكون ذلك بدل اقتضى عنده ترجيح المرجوح، وترجيح المرجوح جهل، ابن عرفة: وفيه بحث بأنه يلزم عليه اجتماع النقيضين؛ لأن علمه اقتضى أن الترك راجح، والداعي اقتضى أن الفعل راجح فيجتمع النقيضان، قال: وهذا كلام موجب إشكالا في فهم كلام أهل السنة في قولهم: إن الأمر غير ملزوم للإرادة وإن الأمر قد يأمر بما لا يريد خلافا للمعتزلة، فإن قلت: لم أفرد السوء وجمع السيئات، قلت: لقوله تعالى: (ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ) فهم ينفون أن يذنبوا ذنبا واحدا يتوبوا منه بخلاف الآخرين، فإنهم يتربصون حتى يكفر ذنوبهم ويتكرر ويعاينون مقامات الموت وحينئذ يتوبوا معه. قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا ... (19)}

(20)

ابن عرفة: هذا نفي لأحد أقسام الشريعة وهو المباح وإذا انتفى، انتفى أن يكون واجبا لهم أو مندوبا من باب أحرى، ويبقى الحرام والمكروه، هل هو حرام لهم أم لا مكروه؟ لكن إن فسرنا المباح بالمأذون في فعله فنقول إنه لإثبات المكروه بوجه؛ لأنه غير مأذون في فعله، وإن فسرناه بالذي لَا يترتب على فعله ثم احتمل أن يكون هذا حراما أو مكروها، فإن قلت: ما أفاد قوله: لكم؟، قلنا: أفاد التهييج على المنع من ذلك بأداة الخطاب أي لكم أيها المسلمون الملتزمون لأحكام الشريعة المحمدية. قوله تعالى: (وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ). ابن عرفة: إن أريد بالمعروف المباح، فالأمر للوجوب وإن أريد الزائد على ذلك فالأمر للندب. قوله تعالى: {وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ ... (20)} ابن عرفة: الفعل الواقع شرطا تارة يأتي غير مصرح فيه بالإرادة مثل: (فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ)، (إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ) مع أن المراد إذا أردت أن تقرأ القرآن وإذا أردتم القيام للصلاة، وتارة يأتي مصرحا فيه بالإرادة هكذا الآية فما السر في ذلك؟، ثم قال عادتهم يجيبون بأنه إذا كان فعل الشرط مرادا وقوعه شرعا أمر به في صورة الواقع حتى كأنه أراده وفعله، فإن كان أمر أو عدمه فيؤتى به مسندا إلى إرادة المكلف واستبدال الزوج مكروه مراد عدمه شرطا لحديث: "أبغض الحلال إلى الله الطلاق". ولذلك عبر في قوله تعالى: (فَإذَا قَرَأْتَ) و (إِذَا قُمْتُمْ) بـ إذا وفي هذه بإن، فإن قلت: ما أفاد قوله: (مَكَانَ زَوْجٍ) والمعنى مفهوم يغني عنه، قلنا: ذكر ليعاد عليه الضمير في قوله تعالى: (إِحْدَاهُن قِنْطَارًا). قوله تعالى: (فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا). ابن عرفة: الأخذ يكون بأحد ثلاثة أمور إما بأن يضايقها ويضاررها ويستكرهها حتى ترد عليه ما أخذت منه، وهو السبب في نزول الآية، وإما بأن يطلب ذلك منها برفق ولين فترد عليه طائعة، وإما بأن تطوع هي له بذلك من غير سؤال ولا طلب، فنهوا الأزواج عن أخذ ذلك مطلقا، وإن كان طوعا على سبيل المبالغة وإلا فمعلوم أنه

(21)

إن كان لضرر منها والنشز بسببها فخالعته بشيء، فإنه يجوز له أخذه؛ لأنه معاوضة، ولذلك تقدم لنا إذا خالعته بطعام فاختلفوا هل يجوز بيعه قبل قبضه على قولين. قوله تعالى: (أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا). ابن عرفة: الظاهر أن الواو بمعنى أو [للتفصيل*]، فالبهتان راجع إلى كذبه عليها ورميه [فقط*] بالزنا حتى ترد عليه ما أخذت منه، والإثم للبنين يرجع إلى تضييقه عليها بغير ذلك، فمن النَّاس من يكذب على زوجته ومنهم من يضيق عليها، ويهين عشرتها حتى يسترجع منها ما كان دفع إليها. قوله تعالى: {وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ ... (21)} ابن عرفة: انظر ما أحسن هذا الترتيب فهو يفهم على أسلوب طريقة أهل الفقه؛ لأن المجتهد إذا الحكم في المسألة لم يتم له إلا بأحد أمرين: أولهما: أن يأتي بالدليل المقتضي للثبوت. الثاني: انتفاء المانع منه فلما حكم بعدم الأخذ منه عقبه ببيان أنكم ليس لكم دليل موجب لجواز أخذ ذلك بل هو مجرد بهتان، وإن سلمنا أن لكم في أخذ ذلك مستندا أو دليلا فهناك مانع يمنع الأخذ، وهو إفضاء بعضكم إلى بعض، وتقرر العهد بينكم بالمواثيق. قيل لابن عرفة: الحكم عام في الدخول بها وضرها، فقال: جرى على غالب الأمور؛ لأن الغالب في وقوع الشر إنما يكون بعد الدخول، وكونه قبله نادرا، قال ابن عطية: ويؤخذ من الآية جواز المغالات في المهور، وذكر قضية عمر. ورده ابن عرفة: بحديث خرجه عبد الحق عن عائشة رضي الله عنها وكرم وجه أبيها، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من يمن المرأة تيسير أمرها وقلة صداقها"، وقلت أنا ومن شؤم المرأة عسر أمرها وكثرة صداقها. قوله تعالى: {وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ ... (22)} قال ابن عرفة: الأب يطلق حقيقة على الوالد، وعلى الجد مجازا، ففيه استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه، لكن الجمع وهو أخف من المفرد، وإذا أريد بالنكاح العقد فيدخل فيه ملك اليمين باللزوم، ولأن المراد ما دخل في حكم النساء وصح له وطؤه، قال ابن عرفة: النكاح المجمع على صحته ينشر الحرمة بلا خلاف، وضده المجمع على فساده كنكاح الأخت والبنت لَا مثل حرمة لَا خلاف والمختلف فيه حكى اللخمي

(23)

فيه الخلاف، قيل له: بل حكى اللخمي الخلاف في المتفق على فساده وهو في المدونة إنها في الجمع بين الأم وابنتها في العقد فقط، ثم يصح قبل الدخول فإنه يباح له نكاح الابنة، وقيل: ليس له ذلك لأجل شبهة العقد قال: ويحتمل بهذا الزنا ويكون قوله تعالى: (إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ) مستثنى من بعض صور ذلك، وهو صورة الزنا. قال ابن عطية: أو يكون المراد ما عثر عليه في الجاهلية فأقره في الإسلام، فرده ابن عرفة: بأن لَا يصح أن يكون المعنى إلا الدوام (إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ) وإنما المراد إنشاء العقد إلا أن يجعل الدوام كالإنشاء وهو بعيد. قوله تعالى: (إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا). ابن عرفة: الظاهر أن المعطوفات تأسيس فالمراد بالفاحشة ما عظم منعه شرعا، والمقت هو المنقوص اعترض بقدر عيب الشهوة فتنزه من فعلها، وقوله تعالى: (وَسَاءَ سَبِيلاً) إما باعتبار عاقبة أمره في الدار الآخرة، وإما بمعنى أن الولد الناشئ عنه يقال لهَ: ولد المقت فيكون العطف في هذا كله تأسيسا. قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ ... (23)} ابن عرفة: قالوا: النهي يرد في القرآن على ثلاثة أوجه: أحدها: بلفظ التحريم لهذه الآية ومثل: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ) وهو أشدها وعليه أن لَا يقال: لَا يحل لك أن تفعل كذا ودونه أن يقال: لا تفعل كذا؛ دونه بفعل التحريم والكراهة، وقال تعالى في الأول: (وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا) فذكر التعليل بالفاحشة مع علته فرأيت الثلاث، وهو قوله: (لَا تَنْكِحُوا) ولم يذكره هنا وهو النهي الصريح الذي هو أقواها وهو: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ)، والمناسب كان يقرن التعليل بالفاحشة ونتيجتها مع مخاطب بالنهي الشديد المتأكد ليقع المناسبة بين الحكم وعلته. قال ابن عرفة وأجيب بوجهين: الأول: أن لفظ التحريم نص في إفادة المعنى المراد منه فيغني عن تعليله بذلك بخلاف لفظ (لَا تَنكِحُوا) فإنه لما كان محتملا افتقر إلى اقترانه بتعليل يعني أن المراد فيه التحريم. الثاني: أن النفوس مجبولة على الامتناع في الأمهات والنساء وما ذكر معهن فأغنى ذلك عن ذكر علته، قال البيانيون: والأصل تقديم المرفوع على المجرور وما تقدم

(24)

المجرور إلا تمكنه إما للاهتمام أو غير ذلك، وهنا إنما قدم المجرور لكثرة المرفوعات وتكررها فلو أخر عنها لبعد من العامل واختل المعنى. قوله تعالى: (وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ). ذهب داود إلى أن الربيبة التي ليست في الحجر حلال مثل أن يتزوج رجل امرأة ولها بنت عند أمها فطلق المرأة واحتج بمفهوم الصفة، وأجيب: بأنه مفهوم خرج مخرج الغالب، ورده الشيخ عز الدين بأنه أحرى في [الحجر*]؛ لأنه يلزمكم أن لَا تكون الصفة فائدة، فلا بد للإتيان بالوصف من فائدة، وما هو إلا تحريم ما ذكر، وتحليل ما سواه، وأجاب ابن عرفة: بأنه لما كان كونها في غير محرم نادرا جعل مانعا كالعدم، وذكر هذا الوصف يجري مجرى التعليل أي (حُرِّمَتْ عَلَيْكُم)، لكونها ربيبة في حجوركم، قلت: فيكون من التعليل بالمظنة وتخلف الحكمة عنها في بعض الصور لَا يظن. قوله تعالى: (وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ). ولم يقل: الجمع بين الأختين ليفيد مواجهتهم بهذا الخطاب، فيكون أبلغ في التعبير عما نهوا عنه. قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا). إما غفورا لما قد سلف منكم أو ما سيصدر منكم من المخالفة في ذلك. قوله تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ... (24)} اتفقوا الجميع على فتح الصاد ومن الكتابي في غير هذه الآية بكسر الصاد وهاهنا بالفتح، قال ابن عرفة: وجهه أن المحصنات هنا ليس إلا من قبيل المنع، لأن النكاح هنا المراد به الوطء ليس إلا، والنساء منفعلات فغيرهن أحصنهن، وفي غير هذه الآية حديث "هن أحصن لأنفسهن إما بالظاهر وإمَّا بالإسلام أو بالحرية". قوله تعالى: (إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانكُمْ). إن قلت: هلا قيل إلا ما ملكتم فهي الحقيقة وهي أخص، وأما هذا المجاز من إطلاق الكل على الجزء، فالجواب: أن المراد بهذا الشيء المأخوذ في الجهاد والغرور وإنما هو بالأيدي. قوله تعالى: (كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ).

(25)

مصدر إما مؤكد للجملة إن اعتبر (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ) مع معنى (كِتَابَ) مثل قام قياما أو وقوفا، أو مؤكد لنفسه مثل: قام زيد حقا، ومؤكد لفعل من لفظه لو كتب كتاب الله عليكم. قوله تعالى: (وَأُحِلُّ لَكُمْ). دليل على أن الأشياء على الحظر، ودليل على إبطال مفهوم اللقب؛ لأنه كان يكتفي من هذا بذكر المحرمات، قيل: وقرئ (وَأُحِل) على البناء للمفعول وحذف الفاعل عند النحويين للعلم به، وعند البيانيين تعظيما له، أي لم يذكر مع المفعول لشرفه وضخامة المفعول وجسامته؛ لأن المحل هنا هو الوطء ومقدماته، وأما العلم به فهو قدر مشترك في كل ما يحذف منه الفعل. قوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ ... (25)} ابن عرفة: الظاهر أن من جملة لَا يشترط لوجهين: إما للمادة أو لأنه أغلب، إنما قيل: (مِنْكُمْ) ليفيد أن الخطاب للأحرار لَا للعبيد، وأجاب ابن عطية بأن المراد منكم أيها المؤمنون، ابن عطية، قال أشهب في المدونة: جائز للعبد المسلم أن يتزوج أمة كتابية فبغضه ابن عرفة بأن ابن يونس واللخمي إنما نقلا عنه جواز التمادي على ذلك بعد الوقوع؛ لأنه أجازه ابتداء فكان حقه أن يحكمه كذلك، أو يقول لَا فرق بين التمادي عليه وبين جوازه ابتداء. قوله تعالى: (وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُم) على أن وصفه المؤمنات، في قوله تعالى: (الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ) معتبر. قوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ ... (26)} قال ابن عرفة: اختلف الأصوليون هل يرد في القرآن ما لَا يفهم أم لَا؟ وقال بعض شراح المحصول قلت: أظنهم يبينون أن المعنى القديم الأزلي يستحيل فيه، وإنما الخلاف في الألفاظ. قوله تعالى: (وَيَهْدِيَكُمْ). الهداية تطلق على معنى أعم ومعنى أخص، فالأعم هو التمكن من أسباب السعادة، والأخص هو خلق القدرة على فعل أسباب السعادة، فإن أريد بها هذا المعنى الأعم لزم التكرار؛ لأنه مستفاد من قوله تعالى: (يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ) وإن أريد الأخص لزم الحلف في الخير؛ لأن الكفار غير مهديين، وكذلك عصاة المسلمين، قال: والجواب أنا نختار بها المعنى الأعم لكي يكون البيان الأول أعم من الهداية،

(27)

كما تبين النقد طريق الجامع وتنبيها للصحيح، فالأول: بينت له ولم يمكن منها، والثاني: بينت له ويمكن عنها والمعنى ليبين لكم ويمكنكم سلوك طريق من مضى من الأمم، وإذا مكنوا منها فتارة يهتدوا، وتارة لَا يهتدوا، ابن عرفة: وهذا ترتيب مني؛ لأنه يبين أولا طريق الرشاد ومكن من سلوكها وخلق القدرة على سلوكها بعض النَّاس، وتاب فمن عصى ولم يسلكها والله أعلم بالبينات. قوله تعالى: {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ ... (27)} ابن عطية: هذا تكرار للتأكيد، فرده أبو حيان: بأن معمول الإرادة هو التكاليف، أي يريد الله تكاليفهم ليبين لكم وليبين معمول التوبة، وقال المختصر في هذا نظر ابن عرفة: أراد أن التوبة معلقة بالفعل راجعة إليه، والتقدير يريد الله تكليفهم ليبين لكم وليتوب عليكم فكأنما معمول له. قال ابن عرفة: والرد عندي على ابن عطية من وجهين: أحدهما: أن البيانيين فرقوا بين قولك: زيد يقوم، ويقوم زيد، فقولك: (يُرِيدُ اللَّهُ) أعم (وَاللَّهُ يُرِيدُ) أخص فهو تأسيس. الثاني: أن الأول تضمن مشروعية التوبة، والثاني: إخبار بقبولها، قيل لابن عرفة: مذهبنا أنها غير واجبة، فقال: عقلا، وأما شرعا فقبولها واجب. قوله تعالى: (وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ). ابن عرفة: منهم النفس فإنها تحب من صاحبها أن يفعل جميع شهواتها ومستلذاتها، ويقال: يميل بفتح الياء. قيل لابن عرفة: نص البصري في شرح قول الشقراطيسي فانقضَّ منكسر الأرجاء ذا ميل أن الميل بالفتح إنما هو في المحسوسات قال: يكون هذا مثل، قول الزمخشري: في قوله تعالى: (لَا تَرَى فِيهَا عِوَجَا وَلَا أَمْتا) أنه تنزيل المعنوي في منزلة الحسي، مثاله في الميل والعوج. قوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ ... (28)} إشارة إلى أن جميع التكاليف حقيقة، فينبغي أن تؤخذ بالقبول والامتثال، أي دليل يريد الله تكليفكم ليبين لكم، وإشارة إلى أن إباحة نكاح الأمة مع عدم الطول وخوف

(29)

العبث رخصة وتخفيف من الله تعالى على عباده ولا إثم فيه كما ورد " [إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه*] ". قيل لابن عرفة: فيؤخذ منه لَا يجوز نسخ حكم قرئ في حقيقة الحكم بأن نقلا منه وإنما يحتج بالخفيف، فقال ذلك لَا تقل هو خفيف بالنسبة في غيره من الأحكام لا بالنسبة الموالي. قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ... (29)} ابن عرفة: فيه إيماء لكون الكافرين غير مخاطبين بفروع الشريعة. قوله تعالى: (لَا تَأكُلُوا أَمْوَالَكُمْ). ابن عرفة: عبر بالأكل لوجهين: إما لأنه عام في بني آدم والبهائم بخلاف اللباس، وإما لأنه أهم على النفوس من اللباس والحاجة إليه أشد، فإذا جوع الإنسان نفسه فإنه لَا يتشوق إلى التلذذ باللباس. قوله تعالى: (أَموَالَكُمْ). إن أريد مال الإنسان نفسه فإن النهي يتناول الأموال المقيدة فيها بالدنيا، وإن أريد نهيه عن أكل مال غيره فيكون مطلقا لكن قوله يفيد الثاني. قوله تعالى: (إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً). أي لَا تأكلوا بسبب من الأسباب إلا بسبب التجارة، قيل له: والكون داخل في الأول فهو متصل فقال: الباطل ليس له كون كما أن الذوات ليست بكون. قال ابن عرفة: وقدم أولا النهي عن النكاح الفاسد ثم بقي بالنهي عن أكل المال بالباطل فإن راعينا المفسدة، فمفسدة التزويج أشد من مفسدة المال؛ لأن حفظ الأنساب آكد من حفظ الأموال، وإن راعينا الحاجة فالحاجة إلى المال أسهل من الحاجة إلى النكاح بدليل أن الإنسان يجب عليه الإنفاق على ابنه بالطعام والشراب ولا يجب عليه تزويجه. قوله تعالى: (عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُم). قال ابن العربي: مفهومه منع أكل المال الحاصل بالهبة والصدقة، فرده ابن عرفة بأن الآية اقتضت أن التراضي عنه في جواز أكل المال الحاصل فائدة فيه فأحرى عليه في جواز أكل ما حصل بالمعروف؛ لأن النكاح والهبة محض معروف، قال ابن

(30)

العربي: فظاهر الآية منع بيع الخيار؛ لأن التراضي في التجارة إنما يحصل بعد التروي والنظر عن غير عين. قوله تعالى: (وَلَا تَقتُلُوا أَنفُسَكُم). قيل لابن عرفة: فمن يقتل نفسه في حد من حدود الله كما أراد بقتل نفسه فقال: هو مأمور؛ لأنه مأمور بستر نفسه وبالتوبة، وقد قال مالك في المدونة فيمن قتل أخاه، وأتى رجل فقتل القاتل قال: أنه يقتل به [لافتئاته*] على الإمام فكذلك إذا قتل القاتل نفسه عليه إثمان، إثم المقتول، وإثم نفسه، ونقل له عن عز الدين غير هذا فاذكره. قوله تعالى: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا ... (30)} قال: العدوان إما القصد وإما العمد، فيكون عطف (وَظُلْمًا) تأسيس، وإما أن يقول: العدوان تعدي الحدود، والظلم وضع الشيء في غير محله، فيكون العطف تأكيدًا. قوله تعالى: {إِنَّ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ ... (31)} قال ابن عرفة: لما تضمن الكلام السابق حكم التكاليف وكان العبد في مظنة عدم الوفاء لمشقتها، فقد تعرض القنوط عقب ذلك ببيان غفرانه تعالى عن كل شيء من ذلك، قال ابن عرفة: والكبائر عرفها الشيخ عز الدين بأنها كلها كوعد الشارع عليها بعقاب بنص في الكتاب والسنة، قال: فإن سألني عمن لَا نص فيه فنقيسه بأدنى الذنوب المتوعد عليها، فإن ساواه في المفسدة جعلناه بالكبائر، وإن قصر عنه حكمنا بأنه صغيرة، ابن عرفة: وفائدة الاجتناب يؤذن بأن التارك للمعصية يعطيه أو لعدم قدرته عليها، إما لذاته أو لمانع من إكراه ونحوه أن ذلك لَا يوجب تكفير الصغيرة لا اجتناب الكبائر خوفا من الله تعالى وامتثالا لنهيه لحديث: "إنما تركتها من أجلي" ولولا ذلك لقال: إن تتركوا كبائر، قال ابن عرفة: وعادتهم يعارضون الآية كما روي في الصحيح عنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه قال: "من صلى صلاة أحسن وضوءها وركوعها وخشوعها فإنها تكفر صغائره ما اجتنبت الكبائر"، ووجه المعارضة، أن يقال: إذا كانت هذه الصلاة بهذه الصفة مكفرة للصغائر لم يبق ما يكفر باجتناب الكبائر، قال: وكانوا يجيبون: بأن التكفير مقبول بالتشكيك ويضربون لذلك مثلا برجلين اجتمعوا على قتل رجل ورفعا إلى ولي الأمر الذي عفى عن أحدهما بأول وهلة، وبقي مدة طويلة ثم عفى عن الآخر فقد حصل العفو عنهما معا، لكن لَا على التساوي في الزمان بل على التفاوت ولذلك هذا يكفر الصلاة الموصوفة بهذه الصفة

(33)

اجتناب الصغائر بالموازنة ويكفرها اجتناب الكبائر بأول وهلة من غير موازنة. قوله تعالى: (مُدْخَلًا كَرِيمًا). فما تحقق السؤال المتقدم في أن اجتناب الكبائر موجب لكمال المغفرة للصغائر وإن لم تكن معها تلك الصلاة الموصوفة بتلك الصفة. قوله تعالى: {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ ... (33)} فتدخل الجمادات. قوله تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ ... (34)} ابن عرفة: الظاهر أنه حكم فهو خبر في معنى الأمر مقرون بعلته فالفاء للتسبب، ولو كان خبر حقيقة للزم الخلف عليه في الخبر؛ لأن بعض النَّاس على العكس يكون النساء قوامات عليهم. قوله تعالى: (بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ). يؤخذ منهم أن المشركين في أمر تقدم الأفضل منهما عند التغاير، ففيه تقدم الأفضل في الأمر وفي الخلافة. قيل لابن عرفة: هذا معلوم من خارج لَا جماعة له هنا بل العقل يهدي إليه، فقال: هذا هو مذهب المعتزلة، وإنما علم تقديم الأفضل من جهة الشرع. قوله تعالى: (وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ). إما أن المعنى تعلمون نشوزهن وتحققونه، أو تخافون نشوزهن فنشزوا، وإما مجرد الخوف فليس بموجب لهجرانهن وضربهن إلا بعد وقوع ذلك. قوله تعالى: (فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا). أي من ضرب وهجران ونحوه. قوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا ... (35)} قال: إن المراد وإن علمتم وتحققتم ذلك، أو معنى وإن خفتم شقاق بينهما فشاقا [ ... ] على ذلك فحينئذ يحث [ ... ] وعبر بأن في (وَإِنْ خِفْتُمْ) لكراهة المشاقة

(36)

ومرجوحيتها، وعبر بأن في (إِنَّ يُرِيدَا إِصْلَاحًا) إشارة إلى أن الإصلاح ليس براجح مطلقا، بل قد يكون الفراق راجحا في بعض الأحوال، وإضافة الشقاق إما على معنى في مثل: يا سارق الليلة يجعل كان الليلة نفسها مسروقة مبالغة في السرقة. قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا). ابن عرفة: فائدة الوصف بـ خبير بعد عليم إشارة إلى علمه بخفيات الأمور خشية أن يظن أحد أنه إذا ضمر شيئا في باطنه وفعله مستخفيا مستترا أنه لَا يعلم به. قوله تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ... (36)} قال ابن عرفة: عادتهم يقولون: العبادة متأخرة عن التوحيد، والتوحيد من لوازمه نفي الشرك، والمقدم على المقدم مقدم فهلا قدم النهي عن الشرك على الأمر بالعبادة بل مقارن لها؛ لأنه أحد صورها فليس بمقدم ولا متأخر، فرده ابن عرفة بوجهين: الأول: بأن نفي الشرك أحد صور العبادة لَا متقدم عليها. الثاني: أن العبادة مفتقرة إلى النية، لأنها عمل وقد قال صلى الله عليه وعلى آله وسلم: "إنما الأعمال بالنيات" والتوحيد لَا يفتقر إلى نية، قال الفخر في المحصول إذ لو افتقر إلى النية للزم التسلسل. قوله تعالى: (وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا). قال ابن عرفة: (شَيْئًا) إما مصدر أو مفعول والظاهر أنه مصدر لتجانس قوله تعالى: (إِحْسَانًا) لأنه مصدر، قال ابن العربي: ويؤخذ من الآية منع سفر بنية الحج والتجارة معا، والوضوء للعبادة والنشاط والنظافة معا؛ لأنه تشريك. قوله تعالى: (وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا). قال ابن عرفة: الإحسان لفظ أعم فينتج المناط فيه، أنه إن أريد به الأمر الخارجي الضروري فهو واجب وإن أريد ما زاد عليه فمندوب، قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ) فهو زائد على العدل، قيل لابن عرفة: إذا دعته والدته إلى أمر ودعاه أبوه إلى نقيضه فلمن يطيع؟ قال: يرجح بين المفسدتين من

(41)

الأحسن لهما فيتركب أخف الضررين، فالذي يكون له عصيانه أشد ضررا عليه من عصيانه للآخر يتركه وإن استوى الضرر إن أطاع الأم والمراد بالوالدين الأب وإن علا، والأم فما فوقها كما قالوا في قوله تعالى: (وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ) أنه يتناول الأب وإن علا. قوله تعالى: (مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا). قال ابن عرفة: المختال هو المتكبر بالفعل، والفخور المتكبر بالقول أو بالفعل. قوله تعالى: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ ... (41)} قال: ويجاب بأنه على حذف الصفة تقديره (مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ) مرسَل إليهم بشهيد إلا أنه إن أريد أمة مرسلا إليهم فهو المطلوب، وإن أريد أمة بالإطلاق أعم من المرسَل إليهم، وغيرهم فيستلزم عليه الخلف في الخبر؛ لأن غير المرسَل إليهم ليس منهم شهيد. قوله تعالى: (وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا). ابن عرفة: هو عندي على حذف المعطوف، أي هؤلاء ولهم شهيدا. قوله تعالى: {يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ ... (42)} ... قال الفخر: العطف تأسيس إن قلنا: إن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة فيعاقبون على كفرهم، ثم على عصيانهم. قوله تعالى: (وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا). إما مستأنف أو داخل تحت التمني، فالمعنى أنهم كتموا الحديث، فقالوا: والله ما كنا مشركين فلما عوقبوا بالعذاب الأليم ودوا أنهم صدقوا وأقروا بذنبهم وإن يحادوا بدلا من ذلك؛ لأن تسوى بهم الأرض. قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى ... (43)} ولم يقل: لَا تصلوا؛ لأن النهي عن القرب أشد من النهي عن الصلاة، قال ابن العربي، وقال الشافعي: لَا تقربوا مواضع الصلاة فرد عليه الشامي بأن أهل اللغة ذكروا أن تقربوا بفتح الراء في الأفعال وبضمها في المواضع فيقال: لَا تقرب البيت ولا تقرب الصلاة، ورده ابن عرفة: بأن الفتح في الجميع والشافعي رضي الله عنه أعلم باللغة، كذا قال ابن التلمساني رحمه الله في المسألة السابعة من باب الأوامر. قوله تعالى: (حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ).

(44)

ولم يقل: حتى تعلموا ما تتكلمون؛ لأن القول يطلق على اللفظ المركب والمفرد فيتناول المفردات كلها، ابن عرفة: وأخذوا منهم جواز تكليف ما لَا يطاق؛ لأن السكران مكلف حالة السكر، وهو الشرب فنهي عن شرب الخمر إذا أراد الصلاة. الثاني: الفرق بين ابتداء التكليف وبين استمرار التكليف فإنما ذلك في النهي الابتدائي هو الذي يشترط فيه الإطاقة، وأما النهي المتمادي المستمر فلا يشترط الإطاقة إلا في ابتدائه لَا في استمراره، وقد مثله ابن التلمساني بنهر من على جبل عن الانحدار منه فهو قبل الشروع في الانحدار منهي عن ذلك؛ لأنه قادر عليه وعلى صده، فإذا حصل منحدرا وتوسط الجبل لم يستطع أن يحبس نفسه ولا أن يمنعه من النزول بوجه مع أن النهي عن ذلك مستمر عليه ومتماد. قال ابن عرفة: وتقدم مضارعة هذه الآية وقضية حمزة لما قال الأصوليون: من حفظ للكليات الخمس وآكدها حفظ العقول والآية تقتضي أن السكر عندهم إنما هو السكر، والفرق بين السكر أن الطافح الغائب العقل وبين من معه بقية من عقله. قوله تعالى: (وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ). ابن عرفة: هو عندي على حذف الموصوف أي وإن كنتم جنبا من مَنيٍّ أو على سفر، ويكون قوله تعالى: (أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُم مِنَ الْغَائِطِ) معطوف على الموصوف المقدر، أي وإن كنتم ذوي جنابة أو ذوي غائط أو ملامسة مرضى أو على سفر ولم تجدوا ماء فتيمموا ولا يكون فيه تقديم ولا تأخير، كما قال ابن يونس: بل فيها حذف المعطوف عليه الموصوف وأقيمت صفة مقامه وهي صفة الثاني فالتقدير: وإن كنتم جنبا (مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا) فالأول بيان لحالة حدته، قال ابن عرفة: وفقدان الماء إما حسي حقيقة، وإما معنوي مجازا فيجده ولا يجد من يناوله إياه، أو يجده ويمنعه منه خوف لصوص، أو فيجده في البئر ويخاف فوات الوقت إن استعمله. قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ ... (44)} إما الخطاب للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، أو لكل أحد على حدته. قوله تعالى: (يَشْتَرُونَ الضَّلَالَةَ). إما حال من (الَّذِينَ) فهي محصلة، أو من الضمير في (أُوتُوا) فهي مقدرة. قوله تعالى: (وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ).

(45)

قال ابن عرفة: السبيل يجوز عندي أن يكون حالا في (تَضِلُّوا) حالة كونهم في السبيل، وهو سبيل الحق وهذا أشد أن (تَضِلُّوا) حالة كونهم مستقرين في طريق قويم ويصح أن يكون طرفا، وقرئ (تضلون) بالتاء وبالياء، فعلى قراءتها بالياء يكون تأسيسا؛ لأنهم كفروا بضلالهم [وبإرادتهم إضلال غيرهم*]، وعلى قراءة [الياء*] فيكون تأكيدا بمعنى إرادتهم الدوام على ذلك. قوله تعالى: {وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا (45)} قال ابن عرفة: كلام أبي حيَّان في أن الفاعل ضمير عائد على مصدر (وَكَفَى) الاكتفاء بالله وأنه [ ... ]، ثم قال ابن عرفة: هذا غير صحيح؛ لأنا نقول: كفى القتال بالسيف والرمح وإن جعلته متعلقا بكفى يكون زيد مكتفيا وهو غير صحيح هنا؛ لأنه يكون الله تعالى مكتفيا وليس كذلك، قال أبو حيان: وهذا يحتاج إلى تأويل. ابن عرفة: إن أراد كفى أنها تدخل على الفاعل بقول: كفى بالله ولا تدخل على المفعول بوجه. قوله تعالى: {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ ... (46)} وفي العقود (مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ) والفرق أنا إذا فسرنا التحريف والتأويلات الباطلة فالمعنى هذا أنهم يذكرون التأويلات الفاسدة لتلك النصوص، وليس فيها بيان أنهم يحرفون تلك اللفظة من الكتاب، ومعنى ما في العقود أنهم كانوا يذكرون التأويلات الفاسدة وكانوا يحرفون اللفظ من الكتاب، فقوله: (يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ) إشارة إلى التأويل الباطل، و (مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ) إشارة إلى إخراجه من الكتب ابن عرفة: فإن قلت: يؤخذ منه منع نقل الحديث بالمعنى، فالجواب: أن هؤلاء إنما ذموا على قصدهم التخويف بدليل قوله تعالى: (عَنْ مَوَاضِعِهِ). قوله تعالى: (لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ). باعتبار المعنى يا قوم باعتبار اللفظ. قوله تعالى: (وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ). قال ابن عرفة: يؤخذ منه منع الدعاء على الإنسان بسوء الخاتمة بخلاف قوله تعالى: (رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ

(48)

الْأَلِيمَ) فإن تلك ظاهرها جواز الدعاء بذلك، وتقدم الجواب بقوله تعالى: (فَلا يُؤْمِنُوا) فإن أريد ربنا اطمس عليهم طمسا متصلا بالموت لَا يعقبه إيمان إلا عند المعاينة في محل لَا ينفعهم فيه الإيمان يؤخذ منها ذلة، وإن أريد (رَبَّنَا اطمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِم) فلا يؤمنوا إلى حين الموت قبل معاينة مقدماتها، أي حين يعاينوا رؤية العذاب فلا دليل فيها. قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ ... (48)} ابن عرفة: وهذا احتراس؛ لأنه لما قال: (وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا) أوهم أن لهم في ذلك كسبا وقدرة فاحترز بذلك بقوله: (وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ). قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ). قال ابن عطية: النَّاس على أربعة أقسام: قسم تائب مات على توبته فهو عند أهل السنة وجمهور فقهاء الأمة لاحق بالمؤمن المحسن إلا أن قانون المتكلمين أنه في المشيئة، قال ابن عرفة: في مثل هذا قالوا: كان الفقيه محمد أبو عبد الله البرجيني يقول: رقد ابن عطية هنا وهذا الموضع جدير بأن يقال فيه ذلك، إذ لم يقل أحد من المتكلمين أنه في المشيئة بل كلهم أجمعوا على أنه في الجنة إذا أتى بالتوبة مستوفاة الشروط من رد المظالم إلى أهلها، وغير ذلك من شروطها، وإنَّمَا الخلاف في توبته عند أهل السنة هل هي قطعية أو ظنية، وأجمعوا على أنه في الجنة. قيل لابن عرفة: وظاهر عموم الآية أن مرتكب الكبيرة في المشيئة فيعم قاتل العمد وغيره، قوله تعالى: (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا) نص في الخلود، ولكن أجمعوا أهل السنة أنه غير مخلد وينفي الكلام في دخوله النار ابتداء فظاهر هذه الآية أنه معروض على العفو عنه، ونص تلك الآية على أنه غير معروض العفو؛ لأن تلك خاصة، وهذه عامة والخاص يقدم على العام. قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ ... (49)} ابن عرفة: الاستفهام على سبيل التعجب من مدلوله وهو تزكيتهم أنفسهم فإن قلت: ظاهر منع قبول الخبر الذي يقتضي تفضيل الخبر فعادتهم يجيبون بأن ذلك مشروط بالعدالة فالعدالة تقتضي قبول خبره، والتفضيل إنما هو من غيره وهو المنقول عنه ذلك الخبر، فإن قلت: الإضراب هنا بل من غير المضرب عنه؛ لأن مذهب أهل السنة أن تزكيتهم لأنفسهم خلق الله تعالى، فالله تعالى هو الذي يزكيهم فكيف بهم

(50)

الإضراب على مذهبنا، قال: فالجواب أنه كان يمشي أما تصويره وخلقه كانت التزكية بفعل الله وإرادته وكل ما كان العمل الصالح ملزما للتزكية وكان بخلق الله وإرادته لزم أن تكون ملزومة، وهي التزكية بخلق الله وإرادته فالمضروب دعواهم التزكية، والمضروب به فعل ما يدل على التزكية ففرق بين التزكية بالدعوى الكاذبة، وبين التزكية بالأعمال الصالحة، فقيل لهم: إنما تحصل التزكية بالأعمال الصالحة التي هي بخلق الله تعالى لا بقولكم ودعواكم فالله يهدي من يشاء فيوفقه للعمل الصالح وعلى هذا يأتي قوله تعالى: (وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً) لَا ينقصون من ثواب عملهم شيئا ولا يزاد عليهم في إثم مخالفتهم بشيء، ومنهم من قال: المراد بالفتيل: الجوهر الفرد ليسلم من المفهوم أو ليس ثم ما هو أقل منه، ابن عرفة: ويجوز للإنسان أن يطلب من غيره ليعدله، وليس هو من تزكية نفسه. قوله تعالى: {كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ ... (50)} ... ابن عرفة: إن كان المعمول الجملة فالنظر معنوي بمعنى العلم؛ لأن الافتراء قول لَا يتعلق به النظر، وإن كان المراد: انظر إليهم كيف يفترون، فالنظر حسي بصري، ابن عرفة: معناه ينسبون إليه الكذب أو يقولون الكذب فهو مضمن معنى فعل آخر. قوله تعالى: {يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطاغُوتِ (51)} .. قال ابن عرفة: الظاهر أن الجبت الأصنام والطاغوت عبادتها. قوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا (52)} المراد به الدوام؛ لأن الوسط مضارع وهو متكرر في المقدمتين فتقريرهم ملعونون، وكل ملعون لله لم تجد له نصيرا فهم لن تجد لهم نصيرا، والمراد يظنون أن لهم نصيرا، ولم يقل: ناصرا؛ لأن هذا موضع لَا ينفع فيه إلا النصير. قوله تعالى: {أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ ... (53)} (أَمْ) منقطعة، والهمزة قال الزمخشري: لإنكار أن يكون لهم نصيب من الملك، فأنكر ثم قال: فإذا لَا يؤتون أي لو كان لهم نصيب من الملك فإذا لَا يؤتون مقدار نظير لفظ محلهم، ويجوز أن تكون الهمزة لإنكار أنهم قد أوتوا نصيبا من الملك، وكانوا أصحاب أموال وسيأتي وأنتم لَا تؤتون أحدهم فما تملكون شيئا. قال ابن عرفة: يظهر الفرق بين الوجهين على صعوبته، أنه في الأول تسلط الإنكار على الجملتين الأولى والثانية فأنكر عليهم أن لهم نصيب من الملك فأنكر عليهم محلهم.

(54)

قوله تعالى: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ ... (54)} ابن عرفة: هذا ترقٍّ في الذم؛ لأن الحسد أشد من البخل. قوله تعالى: (فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا). إشارة إلى أن هذا الذي حسدوهم لم يتفرد به المحسودون بل أعطينا مثله لغيرهم من الأمم السابقة، فالحسد فيه أشد قبحا من حسد من اختص بشيء، والحكمة إما الشريعة، وإما فهم الكتاب، والملك وإما إخلافه كما في الحديث ثم يقود ملكا. قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا ... (56)} تعجيل عليهم بكفرهم مع وجود الآيات الواضحة. قوله تعالى: (كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ). ابن عرفة: هذا تسلسل في الآثار وهو عند العلماء جائز باتفاق وبخلاف التسلسل في المتأثرات، وإنما عذبوا بتبديل الجلود، وفي الممكن إن كان تبقى جلودهم كذلك معذبة غير فانية تشبيها بحال الدنيا؛ لأن الانصهار في الدنيا إذا خرجت له دخله فهو يتألم منها ابتداء، ومهما نضجت يقل تألمه فإذا خرجت دخل آخر يزيد تألمه. قال الزمخشري: فإن قلت: كيف عذبت الجلود الثانية التي بدلت بها الأولى وهي لم تعص ولم تخالف، فأجيب: بأن المعذب الأرواح الكائنة في الجلود وغيرها، الزمخشري: بأن العذاب للجملة الحساسة وهي التي عصت، وأجيب أيضا بأن هذه الجلود مخلوقة من ذلك [الجلد*] [الأول الذي نضج*]. قال ابن عرفة: وهذا السؤال إنما يتأكد على مذهبه في أن ذلك أمر عقلي مع قاعدة التحسين والتقبيح العقليين، وهي بقول إنه شرعي فرد السؤال عندنا شرعا، وعنده عقلا وعبر بالذوق تشديدا عليهم وإشارة إلى أن هذا وإن عظم فسينالهم ما هو أعظم منه، بحيث يكون هذا بالنسبة إليه كالذوق الذي هو مبادئ الأمر. قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا). ابن عرفة: في اقتران العزة بالحكمة دليل على منع الخلق من القدرة على إدراك معرفة الله تعالى في جميع الأشياء أنهم لَا يستطيعون تاكيد ذلك بوجه. قوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ... (57)}

قال ابن عرفة: فيها سؤالان وهما لم قال: (إِنَّ الذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوفَ نُصلِيهِم) فأكده بإنَّ، ولم يؤكد هذا وقرن فعل (نُصلِيهِم) بـ سوف وقرن فعل يدخلهم بالسين؟. قال: والجواب عن الأول؛ لأن الخطاب بالآيتين المجموع وإذا خوطب الجميع بشيء فإنما يراعى في الخطاب من تعلق به مدلوله منهم فهو أحق بالمراعاة دون غيره، ولما كان الكافرون منكرين ذلك أكد خطابهم وكان المؤمنون غير مفكرين لما تعلق به منهم لم يؤكد خطابهم. والجواب عن الثاني: أما إن قلنا: إن السين وسوف مساويان فلا سؤال وإن قلنا: إن سوف أبلغ في التنفيس، فيجاب بحديث: "سبقت رحمتي غضبي"، فتأخير عذاب الكفار أكثر تراجعا من تأخير يعم المؤمنين، ولذلك قال في الكفار: (حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فتِحَت أبوَابُهَا) بغير واو؛ لأنهم يجدون جهنم مغلقة بالأبواب فيقفون على بابها ينتظرونها حتى تفتح لهم، وقال في المؤمنين: (حَتى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَت أَبوَابُهَا) لأنهم يجدونها مفتوحة الأبواب مهيئة لهم وعند وصولهم يدخلون. قوله تعالى: (مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ). [يحتمل أن يكون ابن عرفة: ومن المناسب في الآية أنهم في قسم الكفار على العذاب بالشيء اللازم لهم، وهو الظرف حتى علا] (جُلودهم) فدل على تعذيب ما علا ذلك، وهو نفوسهم من باب أحرى، وفي قسم المؤمنين كلي المحل العارض لهم غير الملازم وهو الجنة، فدل على تنعيم نفوسهم الملازمة لهم من باب أحرى. قوله تعالى: (لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا). ولم يقل: لهم أزواج فيها، فهل هو كقوله: مسموح لها منها عليها شواهد، فإِن قيل: إذا لم يكن في الجنة حر الشمس، فلم وصف بالظل الظليل، وأيضا يرى في الدنيا التي يدور الظل فيها ولا يصل إليها نور الشمس يكون هواؤها عليها فاسدا مؤذيا فما معنى وصفها بالظل الظليل؟ الجواب: أن بلاد العرب في غاية الحرارة والظل

(58)

عندهم من أسباب الراحة، فكان الظل كناية عن المبالغة العظيمة في الراحة وهذا مما يميل إليه الخاطر مع أنه مرجوح، والظاهر أنه ليس منه؛ لأن هنا مجرورين فقط. قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا ... (58)} .. قال ابن عرفة: يؤخذ منه أن من تعدى عليه أحد ثم ائتمنه على شيء فإنه لَا يجوز له أن يخونه، وفيه خلاف المشهور أنه يجب عليه أن يرد أمانته، وقيل: يجوز له أخذها، قلت: حكى ابن رشد في جامع بيانه: منع مالك من ذلك في المدونة وكرهه في رواية أشهب عنه، وأباحه ابن عبد الحكم، والرابع استحباب الأخذ وهو مذهب ابن الماجشون إن كان عليه دين، فإِن كان عليه لحر يأخذ الأقدر ما يجب له في المحاصة، وهو قول خامس في المسألة، ابن رشد وأظهرها إباحة الأخذ، ابن عرفة: واحتج المانعون بحديث: "أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك" على أن في صحة الحديث نظر، وأجيب بأنها ليست خيانة، وأجيب: عن هذه الآية بأن هذا ترد إليه الأمانة ليس من أهلها فللمؤتمن أن يجحدها وعورض بقوله تعالى: (فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ) ورد بأنه لَا يحل له جحدها وله أن يتعدى عليها ويأخذها من زيها جهارا أما اختلاسا على هذه الصفة فلا، وقال في كتاب الجهاد في الأسير: يؤتمن على حال أنه لَا يحل له أن يخون فيه، وإن ائتمن على نفسه، وقال سحنون: يجوز له أن يذهب، وقال: لَا يجوز له. قوله تعالى: (وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ). قال أبو حيان: هذا مثل قوله تعالى: (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتِ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهنَّ) فالعامل في المعطوف عليه من مفعول أو ظرف ومجرور. ورده ابن عرفة بأن (خَلَقَ) هنا عامل في المجرور وفي (مِنَ الأَرْضِ) وهنا العامل في أن (تُؤَدُّوا) يأمركم وليس العامل في (إِذَا) أن الأمر ليس هو وقت الحكم، فقال: إنما المعتبر الأمر فما العامل في (إِذَا) إلا جوابها، قال: والثاني عامل قيل: ليس المراد حقيقته فإن الحكم بالعدل يتناول البهائم، فقال ابن عرفة: هذا مذهب مالك؛ لأنه لَا يجب علينا الحكم في البهائم، فإذا رأى القاضي رجلا جوع عبده وجوع حماره فإنه يحكم عليه بإطعام عبده ولا يحكم عليه بإطعام حماره، بل يبدأ به إلى ذلك ولا يجبره عليه، قال ابن رشد: وعكس أبو يوسف فقال: يجبره على إطعام دابته، ولا يجبره على إطعام عبده؛ لأنه ينطق ويناظر عن نفسه بخلاف الدابة. قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا).

(59)

قال ابن عرفة: السمع والبصر صفتان متغايرتان لصفة العلم عندنا، قيل له: الصحيح عندنا المخالفة لَا التغاير، فقال: التغاير لفظي لَا معنوي. قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ ... (59)} .. إن قلت: لم كرر الفعل، فالجواب: لو لم يكرر لأوهم أنه إنما يجب عليه طاعته فيما أتى به عن الله فصار ما أتى به مجملا غير مبين أنه عن الله، فلا يلزم طاعته فيه بدليل أن أول الأمر إنما تلزم طاعتهم فيما يحكمون به مستندين للكتاب والسنة، وأما إن خالفوا الكتاب والسنة فلا تلزم طاعتهم، ابن عرفة: واختلفوا هل الطاعة موافقة الأمر أو امتثال الأمر، وهل بينهما فرق أم لَا؟ قيل له: الفرق بينهما فيمن يفعل العبادة بلا نية، فإن قلنا: موافقة الأمر فهو مطيع وإلا فلا، فقال: لما يوافق الأمر بوجه؛ لأنه إتمام أمر بفعلها مع النية بدليل حديث: "إنما الأعمال بالنيات" وإنما الفرق بينهما في العاجز عن فعل الطاعة، فإن فسرناها بامتثال الأمر فهو غير مطيع، وإن فسرناها بالموافقة فهو مطيع لكونه لم يخالف الأمر بوجه فإن قلت: ما أفاد قوله: (مِنْكُمْ)، قلنا: أفاد الأحرار؛ لأن النفوس تكره أن يتآمر عليها من هو في قرابتها وقبيلها ومن هو في سنها بخلاف ما لو تآمر عليها من هو من غير قبيلها. قوله تعالى: (فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ). عبر بـ إن دون إذا لكراهة الشيء والتنازع والخطاب بالتنازع لَا يصح أن يكون للمأمورين؛ لأنهم أمروا بطاعة الله ورسوله وأولي الأمر فلا يقع بينهم نزل إذا أطاعوا أولي الأمر، ولا يصح أن يكون للأمرين؛ لأن الخليفة لَا يتعدد وإنما يكون واحدا فقط إلا أنه يراد باعتبار ما وقع بينهم حسبما ذكروه في سبب نزول الآية وما جرى لعلي ومعاوية، أو يريد النزاع بين الجميع، إذا وقع النزاع بين المأمورين فإن كان أحدهما حاكما فيحكم، وإن لم يكن بينهما حاكم فليرفعا ذلك إلى حاكم. قوله تعالى: {وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا (60)} قال ابن الخطيب: فيها حجة للمعتزلة القائلين: بأن العبد يخلق أفعاله ويستقل بها، ابن عرفة: وما يطمع إلا فيمن هو قريب من المعصية، وأما من هو مستبعد عصيانه فلا يتشوف إليه ولا يوسوسه كما لَا يتشوف أحد لأن يصنع كرسيا من زجاج. قوله تعالى: {فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ ... (62)} ابن عرفة: الفاء للتسبيب، قال: وتقرير السببية عندي أن المنافقين طلب منهم الإيمان بالله ورسوله فيأتون إليه أعزة فلما كفروا سجل عليهم بأنهم ستنزل بهم بسبب

(63)

ذلك المصائب فيأتون إليه أذلة يحلفون ويعتذرون، وظاهر سبب الآية أن مجيئهم للحلف بعد المعصية فهو معطوف على إصابتهم، ابن عرفة: ويحتمل أن يكون قبلها ويكون معطوفا على قوله: (بمَا قَدَّمَتْ أَيدِيهِم) فتكون المصيبة بالمهم بسبب فعلهم السيئات المعبر عنها (بمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِم) وسبب كذبهم في قولهم: (إِنَّ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا). قوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ ... (63)} أفاد كمال الوعيد وأنهم مجازون على ذلك فيجازون على جميع ما في قلوبهم من الاعتقاد المناقض ومن عدم الاعتقاد. قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ ... (64)} قال ابن عرفة: الصواب أن معناه بأمر الله ويمتنع أن يفسر الإذن بالإرادة؛ لأنه يلزم عليه، أما الحلف في الخبر أو مذهب المعتزلة، لأن مذهبهم أن السعي غير مراد الله لأنه ما أراد إلا الطاعة، وأجيب: بأنه ليس المراد الطاعة بل معنى الآية ليطاع بإرادة فمن أراد طاعته أطاع الرسول، ومن أراد معصيته عصاه. قوله تعالى: (وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ). فائدته أن في استغفار الله مع معصيتهم الرسول لَا ينفع. قوله تعالى: {ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا ... (65)} فائدة العطف بثم أن الإنسان حالة الحكم لَا بد أن يجد في نفسه حرجا ما لكنه معفو عنه، وإنما الشدائد التمادي على ذلك، وأيضا فإن الحرج الجبلي معفو عنه، والمعتبر الحرج الذي يظهر أثره؛ لأن النفس تخرج من نفس الحكم تارة، وتخرج تارة من حكم فلان عليه مخرجه من نفس الحكم معفو عنه، وخرجه لأجل حكم النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم منهيا عنه؛ لأنه في مظنة التمادي عليه فلذلك عطفه بـ (ثم) قوله تعالى: (وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا). كان ابن عبد اللام يقول في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) أنه يكفي أن يقول الإنسان: صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم؛ لأنه المقصود الإخبار للغير حقيقة فهو إنشاء لَا إخبار فكان غيره يقول: لَا بد أن يزيد تسليما كما في الآية.

(66)

قوله تعالى: {أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا (66)} (أَن) نظرت إلى الجملة في نفسها وإنها جملية فهي بدل؛ لأن القتل أشد من الخروج من الديار، وإن نظرت إلى جوابها فهي ترق؛ لأن مفسدة العصيان بعدم امتثال الأمر بالخروج من الديار أشد من مفسدة العصيان بعدم امتثال الأمر بقتل النفس. قال ابن عرفة: واوها للترديد لَا للتفصيل؛ لأن التي للتفصيل شرطها أن يتقدمها كلام مجمل تفصله مثل: (وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا) فنسب القوم الجميع ثم فصله بأن بعضهم قالوا: (كونُوا هُودًا) وهم اليهود والبعض وهم النصارى، قالوا: كونوا نصارى، وهنا كتب الجميع أحد الأمرين. قوله تعالى: (مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ). الضمير عائد على المذكور أي ما فعلوا المذكور، وهو المكتوب ولا يصح عوده على أحد الشيئين؛ لأنه إذا كان الثابت أحد الشيئين فلا يصح رفع ذلك الثبوت إلا بنفي الشيئين معا كما قالوا: إن الموجبة الجزئية تناقضها السالبة الكلية. قوله تعالى: (مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ). لا يصح إلا أن يكون (إِلا) بمعنى لَا غير؛ لأن الضمير لَا يوصف ولا يوصف به فهو مثل قوله تعالى: (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا) فإن قلت: ما فائدته أيضا في قراءة رفع قليل، وفي قراءة نصبه، فما الفرق بينهما؟ في القراءة بحث فيها أبو حيان وأطال، والصواب أنها صفة لقوله (قَليل) فيحتاج إليها في قراءة الرفع، والمراد ما فعلموه إلا ناس قليلون موصوفون بكونهم منهم، إلا أن يجاب: بأن الفعل يكون قليلا في ذاته ويكون قليلا باعتبار فاعليه، فإما أن يكون الكل فعلوه من فعلا قليلا، أو فعله البعض واستوفوه ونسب القلة إليه لقلة فاعليه، قال أبو حيان: وقراءة النصب مخالفة لقراءة الرفع. قال ابن عرفة: إن أراد أنها مخالفة فليس كذلك؛ لأن معنى النصب أنهم فعلوه فعلا قليلا، فهل المراد أنهم الكل فعلوه فعلا قليلا، وأن القليل منهم فعلوه الفعل بالعلة لقلة فاعليه فترجع إلى قراءة الرفع بالمعنى، وإن أريد بها مغايرة لها فمسلم وفي [ ... ] قوله تعالى: {وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا (67)}

(71)

قال ابن عرفة: قالوا: إذا جواب وجزاء، وحكوا إن الجواب لازم لها وقد يجاء معه بـ قد ولا، ومثلوا كونها جزاء فقط بقوله تعالى: (قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ). لأن النعمة لَا تجازى بالضلال، ابن عرفة: ويحتمل أن يراد بالقتل القتل مجازا، أما الضلال قال: وقد تكون عندي جزاء فقط من غير جواب، ومثاله قوله تعالى: (وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لَا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إِلَّا قَلِيلًا). قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ ... (71)} ابن عرفة: كان بعضهم يقول: يؤخذ منها أنه ينبغي لكل من يريد أمرا أن يستحضر عواقبه وغوائله وما ينويه فيستعد لها قال: وإنما خذوا الحذر؛ لأن الحذر مختلف فكل واحد يأخذ حذرا يلائمه فهو بحسب الأمر المحذور منه [فلا يسافر*] مع جماعة قليلة والخطاب للمؤمنين من الصحابة بالمواجهة ولمن بعدهم، إما بقياس لَا فارق وإما بأنه خطاب للجميع، قال ابن العربي: وهذه الآية مخصوصة بقوله تعالى: (وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ)، فإن قلت: لم أعاد الفعل، وهلا قال: (انفِرُوا جَمِيعًا)، فالجواب: إن النفور مختلف بالجماعة المجتمعون الكثيرون يقل خوفهم، والجماعة المفترقون يعظم خوفهم والحرس هنا أشد، فلذلك أعاد الفعل قال: وتقدم الخلاف في المنافقين هل هم مخاطبون بفروع الشريعة أم لَا؟ والتحقيق أنهم مخاطبون بالفروع، فالمخاطبون ظاهرا وباطنا وإلا فهم مخاطبون فقط. قوله تعالى: {وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ ... (72)} .. التوكيد بإن؛ لأن هذا الفعل مما اتصف بالإيمان مستبعدا لوقوع فهو غريب عند المخاطب، قوله تعالى: (لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ)، ابن عرفة: فعل القسم إذا وقع في الصلة فالعائد إن كان ضمير الله لم يجز، فإن قدرته لمن أقسم بالله ليبطئن صح ذلك وإن قدرته لمن أقسم بالله ليبطئن لم يصح؛ لأن جملة القسم خلت من الضمير العائد على الموصول. قوله تعالى: {كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ ... (73)} .. ابن عرفة: هذه عندي متصلة بالأولىِ وكذلك كان بعضهم يقول تقديره (فَإِنْ أَصَابَتْكُم مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا) (كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ)، قال: وإنما أخره؛ لأن الشيء قد يؤتى به في غير موضعه لكونه أغفل في موضعه، ثم استدرك في غير موضعه تعظيما له واعتناء بذكره حتى كأنه لم يغفل بوجه.

(74)

قوله تعالى: {فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ ... (74)} قال ابن عطية: الخطاب للمؤمنين (يَشرُونَ) هنا بمعنى يبيعون، وقال الزمخشري: بمعنى يشترون ويبيعون والخطاب للمؤمنين والمنافقين، فالمؤمنون باعوا، والمنافقون اشتروا، ابن عرفة: يلزمه استعمال اللفظ المشترك في مفهوميه معا، والصواب عندي أنا غير هذا، وهو أنهم أعربوا الذين يشترون فاعلا، وأنا أعربه مفعولا ويجعل هذا الكلام مرتبطا بما قبله ومن تمام قوله تعالى: (وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ) أي هذا المنافق الذي يفعل هذا الفعل فليقاتل في سبيل الكفار الذين يشترون الحياة الدنيا بالآخرة. قوله تعالى: (فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا). قيل لابن عرفة: في لفظ التنفيس دليل فيمن يقول إن الشهيد لَا يدخل الجنة بنفس يوم موته بل حتى يوم القيامة، فقال ابن عرفة: التنفيس إنما هو في الأجر العظيم لَا في مطلق الأجر أي سنؤتيه يوم القيامة أجرا عظيما، قال الفخر: ومنها حجة المعتزلة القائلين: بأن العبد يخلق أفعاله، فقال ابن عرفة: هي حجة على الجبرية القائلين: بأن لا قدرة للعبد، ودليل لأهل السنة القائلين بالكسب، وذكر الطرفين القتل والغلب؛ لأن من قاتل ليقتل قتل، ومن قاتل ليأخذ المال أو ليغلب لم يقتل ولم يغلب. قوله تعالى: {وَالْمُسْتَضْعَفِينَ ... (75)} إما معطوف على اسم الجلالة، أو على سبيل الله والتقدير في سبيل الله وفي خلاص المستضعفين وفي أما للسبب، أو للنظر فيه مجازا. قوله تعالى: (رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ). ابن عرفة: هؤلاء المسلمون المدخلون لَا يحل لهم البقاء بأرض الكفار وهم داخلون في الآية لكن أمراء السوء أخرجوهم إلى البقاء تحت حكم الكافرين لما يخافون من ظلمهم فرأوا أن إقامتهم بأرض الكفر أحسن ليسلموا من الظلم. قوله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ... (76)} ابن عرفة: هذا خبر في معنى الأمر وإن كان حقيقة لزم عليه أحد الأمرين إما الخلف في الخبر؛ لأن بعض المؤمنين يقاتل ليأخذ الغنيمة ويقاتل للحمية، وإظهار القوة والشجاعة والانتقام من عدوه، وإما مذهب المعتزلة وهو أن من قاتل ولم يخلص النية في قتاله لله يكون غير مؤمن، فالصواب أنه خير في معنى الأمر وهذه الآية احتراز؛

(77)

لأن قبلها (فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ) فإنه لم يعين منهم، فيقولون المنافقون نحن هم. قوله تعالى: (إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا). ولم يقل: إن كيد أولياء الشيطان مع أنه جعلهم أولياءه والولي هو الناصر، فهم ينصرون النصير فما المناسب إلا سبب الضعف لَا الشيطان، ثم أجاب: إنه كقول هؤلاء أولياء هذا الملك بمعنى أنهم ينصرون طريقته ويحرمون حرمته فإذا ضعف سلطانه ضعف حرمتهم له. قوله تعالى: {وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ ... (77)} الصواب عندي أن الضمير في (قَالُوا) عائد على الفريق الذين يخشون النَّاس كخشية الله قالوا هذه المقالة. قوله تعالى: (إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ). قال بعضهم: فيها حجة للمعتزلة القائلين: بأن المقتول له أجلان. ورده ابن عرفة؛ لأنه لو كان كذلك لمات كل من حضر القتال؛ لأن بعضهم يموت وبعضهم يعيش. قوله تعالى: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ... (79)} قال ابن عرفة: إن كان الخطاب للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فالصواب أن الأولى موصولة، والثانية شرطية؛ لأن الشرط على سبيل الفرض والتقدير فلا تقتضي الوقوع بوجه، فالنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لم تصبه سيئة، ابن عطية: وهذه مناقضة لما قبلها، لأن قبلها (قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ)، ثم قال هنا: (مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ)، ثم أجاب: بأن الأول على سبيل الخلق والاختراع فالله هو الفاعل [ ... ]، والثانية باعتبار قاعدة الكسب وجواب ثان بأن الأول بالنظر إلى الحقيقة، والثاني بالنظر الألي إلى الأمور العاديات، فإن قلت: لم قال في الأول (قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ)، وقال هنا: (فَمِنَ اللَّهِ) ولم يقل: فمن عند الله، قلنا: لَا فالأول يشمل الخبر والنهي بأن اللفظ الأعم وهو عند، ولما كان الثاني خاصا بالحسنة نسبها إلى الله مباشرة.

(80)

قوله تعالى: (وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا). أما المعنى وكفى بالله عليما بصحة رسالتك، أو المراد وكفى بالله شهيدا على من آمن بك ومن لم يؤمن بك. قوله تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ ... (80)} فعكس صفتها. قوله تعالى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ ... (82)} الزمخشري: تدبير الأمر تأمله والنظر فيما يؤول إليه ثم استعمل في كل مؤول فمعنى تدبير القرآن أي تأمل معانيه ونظر ما فيه، ابن عرفة: ظاهره أنه قد ينظر في معانيه، وقد لَا ينظر وهو عندي لازم؛ لأن كل عاقل لَا يفعل أمرا حتى يتأمل عاقبته وهو العلة الغائية ولذلك قال الحكماء أول الفكرة آخر العمل. قيل لابن عرفة: يؤخذ منه وجوب النظر وأن التقليد غير كاف، قال: والتقليد لا يكون إلا بنظر؛ لأن الإنسان لَا يحل له أن يقلد إلا من تحقق معرفته ولذلك لَا يحصل إلا بالنظر، ابن عرفة: ويؤخذ من الآية وجوب المطرد التي يتوصل بها إلى النظر والقرآن وتدبر معانيه وهي النحو وأصول الفقه واللغة فيجوز قراءتها في المسجد؛ لأنها من مواد القرآن التي به وبالتدبر به بخلاف كتاب إقليدس، لأنه لَا تعلق له بالقرآن بوجه. قيل لابن عرفة: إن ابن الخطيب احتج بها على أنه لَا يرد في القرآن ما لَا يفهم أو لو كان فيه لما ذموا على عدم تدبيره، ابن عرفة: القرآن إما كل أو اسم جنس يصدق على القليل والكثير المراد يتدبرون فيه كله لَا في لفظة لفظة. قوله تعالى: (وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ). ابن عرفة: هذا شبة قياس الغير مركب من مقدمتين أحدهما منطوق بها، والأخرى مضمرة واضحة الدلالة، فلذلك حذفت والتقدير القرآن ليس من عند غير الله، وكل ما ليس من عند غير الله هو من عند الله بيان حقيقة الصغرى بما ذكر في الآية، وهو أنه (وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ) فهو من عند الله مطلقا، ابن عرفة: ووجدوا من وجدان الضالة، وإنما قال: وجدوا، ولم يقل: لأدركوا إشارة إلى أنه من غير تأمل ولا تفكر، فكل متصف يدركه بأول وهلة بخلاف لفظ الإدراك فإنه يشعر بأن المعنى بما حصل بعد تأمل ونظر.

(84)

قال الزمخشري فإن قلت: كيف يجمع بين قوله تعالى: (فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (93)، وبين قوله تعالى: (فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ)، ابن عرفة: وأجيب عن الأول إما بأنها مواطن نفي موطن كانت ثعبانا وهو في آخر الأمر، ومرة كالجان وذلك في أول الأمر والمثابة موطن واحد فشبهها بالثعبان في عظم جرمها وبالجان في سرعة حركتها، وعن الثاني: إما بأنها آية مواطن، وإما بأن المراد لتسألهم سؤال تقريع. قوله تعالى: {فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ ... (84)} قال ابن عرفة: الآية دالة على جواز تكليف ما لَا يطاق خلافا للمعتزلة إذ لو لم يكن جائزا عقلا لما احتيج إلى قوله تعالى: (لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ) لأن التكليف بفعل الغير مما لَا يطاق؛ لأن الإنسان إنما يطيق فعل نفسه أما فعل غيره فلا يطيقه فلا يحتاج إلى نفي التكليف به شرعا لأنه منفي عقلا. قوله تعالى: (وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا). هذه أفعل من يقتضي المشاركة بالفعل، فأما إن أريد الشدة المعلومة في أصول الدين فالشركة منتفية، وإن أريد الإشراك العادي المشاهد لنا فالشركة حاصلة تامة وتقدم البؤس من تقديم السبب على المسبب؛ لأنه إذا حصل البأس حصل النكال. قوله تعالى: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا ... (86)} .. قال أبو حيان: حملها أبو حنيفة على الهدية وهو أن الإنسان إما أن يرد الهدية بعينها، أو يرد ما هو أحسن منها، وإما رده مثلها سواء فإنه لم يردها بعينها، قال ابن العربي: وحكى القاضي عبد الوهاب أنه إذا علته جماعة فإن كان فيهم من يعرفه وجب عليه الرد لئلا يقع في نفوسهم منه عداوة، وإن لم يكن فيهم من يعرف فالرد سنة على الكفاية. قيل لابن عرفة: وحكى أيضا القاضي عبد الوهاب في التلقين وفي المعونة عن المذهب، أنه إذا قال البادئ سلام عليكم ورحمة الله وبركاته أن المراد أن يختصر، ويقول: وعليك، وأنكره ابن عرفة وقال: ظاهر كلام ابن رشد، والباجي، وغيرهما أن يرد عليه مثل ما قال سواء من غير اختصار. قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا). دليل على أن الأمر للوجوب. قوله تعالى: {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ ... (88)}

(89)

ابن عطية: الآية توبيخ للمؤمنين، ابن عرفة: هذه عبارة ثقيلة، والصواب أنها عتاب للمؤمنين. ابن عرفة: وأخذوا منها أصلين: الأول: ترجيح الاتفاق على الاختلاف وإنما الخلاف شر، فإذا تعارض حمل الأقوال على الاتفاق أو على الاختلاف نحملها على الاتفاق، وأجيب: بأن تلك في العقليات والاعتقادات، وأما الأمور الشرعية فلا ينتج هذا فيها بوجه؛ لأن هذا أمر اعتقادي عقلي ديني. الثاني: إذا تعارض الأصل والغالب فالغالب مقدم، والأصوليون يرجحون تقديم الأصل، وقد رجح مالك رحمه الله في مسائل منها قوله في الحمار [قُلْتُ: أَرَأَيْتَ الْحِمَارَ الْوَحْشِيَّ إذَا دَجَنَ وَصَارَ يُعْمَلُ عَلَيْهِ كَمَا يُعْمَلُ عَلَى الْأَهْلِيِّ؟ قَالَ: قَالَ مَالِكٌ: إذَا صَارَ بِهَذِهِ الْمَنْزِلَةِ فَلَا يُؤْكَلُ] الوحشي: إذا [إذَا دَجَنَ وَصَارَ*] (¬1) يحمل عليه أنه لَا يؤكل مراعاة للغالب، ولو راعى الأصل لجاز أكله وهنا كذلك؛ لأن من يقول بإيمان المنافقين راعى الأصل؛ لأنهم كانوا مؤمنين، ومن يقل بكفرهم راعى الغالب وهو ما ظهر من حالهم في عدم عزتهم وعدم قتالهم. قوله تعالى: (أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ). أي من الله ضلاله. قوله تعالى: (وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا). قال ابن عرفة: إن كانت وقتية أي ومن يضلل الله وقتا ما فهذا العموم يجب تخصيصه وإن كانت دائمة أي (وَمَنْ يُضلِلِ اللَّهُ) دائما فاللفظ باق على عمومه من غير تخصيص، فإن قلت: هلا قيل: فلا سبيل له فهو أعم وأبين، فالجواب أنها مسألة بحث فأسند إلى ما يناسب الوجدان المقتضي للبحث والتأمل. قوله تعالى: {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا ... (89)} قال ابن عرفة: إن كانت لو مصدرية فظاهر ذمهم على تمنيهم الكفر، وإن كانت شرطية فما تمنوه حق لازم فيه؛ لأنهم تمنوا الملازمة، والملازمة بحجة كقولك: وديته لو كفر زيد أن يدخل النار إلا أن يقال: إن التمني متسلط على فعل الشرط فقط وهو بعيد. قوله تعالى: (فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ). ¬

_ (¬1) تم جبر هذا السقط من (المدونة. 1/ 542).

(91)

ولم يقل: فلا يتولوهم؛ لأن النهي إنما هو عن الركون إليهم والطمأنينة لَا عن أوائل الأمر، قال ابن عربي: وفي الآية دليل لمن يقول إن الزنديق لَا تقبل توبته فرده ابن عرفة: بوجهين: الأول: قوله تعالى: (حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ) وما نص في توبتهم. الثاني: أن الآية في المرتدين؛ لأن هؤلاء مرتدون، وأجيب عن الأول بأن هجرة هؤلاء كانت قبل القدرة عليهم فصاروا كالزنديق إذا تاب قبل أن يقدروا عليه فإنه تقبل توبته. قوله تعالى: {سَتَجِدُونَ آخَرِينَ ... (91)} أبو حيان: السين للاستمرار. ابن [عرفة*] يريد أن هذا واقع منهم فيما مضى، وذموا عليه، فهي لتحقيق الوقوع كما في قوله تعالى: (سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ) قال: والصواب أن يجعلها على أصلها الحقيقي مستقبلة؛ لأن الوجدان لم يقع، وإنما الواقع كذبهم بهذه الصفة لَا العلم بكونهم على هذه الصفة فوجدانهم مستقبل عن آخرين فليس هم الأولون بوجه. قوله تعالى: (وَيَكُفوا أَيدِيَهُمْ). إن قلت: لَا فائدة فيه؛ لأن القائم بالسلم يستلزمه فهو أخص منه وثبوت الأخص يستلزم ثبوت الأعم، قلت: إنما هو منفي، ونفي الأخص أعم من نفي الأعم فما يلزم من نفي إلقاء السلم نفي الكف. قوله تعالى: (حَيْثُ ثَقِفتُمُوهُم). قال ابن عرفة: عام مخصوص بمكة لقوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: "وإنما أحلت لي ساعة من نهار ولم تحل لأحد قبلي". قوله تعالى: (سُلْطَانًا مُبِينًا). إما حجة، وإما قوة وقوله: (مُبِينًا) أي بين في نفسه، أو مبين لغيره، وكذلك الدليل بين الدعوى. قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً ... (92)}

قال أبو حيان: هذا نهي فرده في المختصر وقال: بل هو خبر حقيقة، وقال ابن عرفة: إن كان حكما فهو خبر في معنى النفي جاز على مذهب أهل السنة، وإن كان خبر حقيقة فهو مذهب المعتزلة؛ لأن المعتزلة يقولون: إن قاتل العمد كافر. قال الزمخشري: ويجوز أن يكون خطأ مفعولا من أجله أي ما ينبغي له أن يقتله لعلة من العلل ألا يلحقاه، وسكت عنه أبو حيان، وتعقبه ابن عرفة بأن ثبوته يؤدي إلى نفيه؛ لأن المفعول من أجله يستدعي القصد إليه، والقصد يصيره عمدا، قال ابن عرفة: ويؤخذ من الآية أنه إما أشكل علينا هل القتل خطأ أو عمدا يحمل على أنه عمد؛ لأنه إما يستثني الأقل من الأكثر، فدل على أن العمد أكثر، وقال مالك رحمه الله: إذا قال ولي الدم قتله عمدا، وقال القاتل بل خطأ، فالقول قول ولي الدم، وقال ابن رشد في الأسئلة: فيمن ضرب زوجته أو مثل بعبده أو أمته واختلفا فزعمت الزوجة، والأمة أنه عمد وزعم الزوج والسيد أنه خطأ أن فيه قولين، والصحيح أن القول قول الزوجة، فيطلق عليه والقول قول العبد والأمة فيعتقان عليه، وقال ابن الحاجب في كتاب الديات: إنه محمول على الخطأ. قوله تعالى: (وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً). التفسير بالماضي مناسب للسبب في نزول الآية فلذلك ينبغي أن يكون من موصوله بمعنى الذي. قيل لابن عرفة: وظاهر الآية أن الجهل بالصفة يستلزم الجهل بالموصوف في علمه قالوا: إن المعتزلة يلزمهم الكفر بنفيهم الصفة وبه فسروا هنا الخطأ؛ لأنه بأحد وجهين: إما بأن ضرب طائرا فيصادف رجلا أو يقصد كافرا، فيصادف مسلما لم يقصده أو يقصد رجلا بعينة يظنه كافرا فإِذا هو مسلم، وقاله مالك في كتاب الغصب: فيمن غصب عبدا فادعى هلاكه فغرم قيمته ثم وجد العبد على غير تلك الصفة، فإن علم منه أنه جحده رد له، وإلا غرم ما زادت صفته في قيمته على ما كان وقع له. قوله تعالى: (فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ). مطلق يعم العمياء والسليمة لكن تقيد بقوله تعالى: (وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ) إما بالنص أو بالقياس، فإن قلت: كيف صح التكفير بهذا، فأجاب الزمخشري: أنه لما أعدم نفسا مؤمنة وجب عليه أقرب وجوه الأمثال لتعويضها وما هو إلا أن [نزيد*] في الأحرار نفسا مؤمنة، وأجاب ابن العربي: بأن هذا ردع لهم لئلا يقع في ذنب أعظم منه فجعلت هذه الكفارة زاجرة له وقامعة عن التمادي

(93)

لما هو أعظم، قال أبو حيان: (وَتَحرِيرُ) مبتدأ، وخبره مقدم عليه أي فعليه تحرير رقبة، فرده ابن عرفة: بأن الدية ليست عليه إنما هي على من قتله، قال فينبغي لمن قدر هذا أن يقف على قوله: فتحرير رقبة ودية مسلمة، قال: والصواب أن يقدره، فالجواب: تحرير رقبة ودية مسلمة، قيل لابن عرفة وأجيب: في التحرير تحرير رقبة فقط، لأن في إعطائهم إعانة عليها، وفي المعاقد الرقبة والدية، قيل لابن عرفة: إن كان بعض العامل لم يحكم عليه، فهل يؤدي نصيبه من الدية من غير حكم أم لَا؟ فقال: أما في بلد القاضي أو نائبه فلا يؤدي شيئا حتى يحكم عليه به، وأما في غيره فإذا تحقق القتل رد نصيبه تطوعا، قيل له: ما فائدة قوله تعالى: (تَوبَةً مِنَ اللَّهِ) مع أنه خطأ وقد ورد: "رفع عن أمتي خطؤها ونسيانها" وأجاب بما قالوا: في قوله في المدونة في تارك الإقامة: إنه يستغفر الله فيستغفر الله تعالى مع أنها سنة، فقالوا: العمل استغفاره لما يكون قد أخل به من بعض الواجب، فعوقب عنه فإن تارك الإقامة حرم ثوابها فاستغفاره لذنب سابق لَا نفس الإقامة وكذلك هذا، فإن قلت: لم قدم أولا تحرير الرقبة على الدية، ثم أخره هاهنا، فالجواب: أن الأول مؤمن له فائدة ودية مؤمنين، والثاني كافر من قوم كفار يتوهم فيه سقوط الدية فلو أخرت لأدى إلى إهمالها، وعدم الوفاء بها لما حصل في النفوس من حقارة الكافر، وأنه لَا حرمة له فقدمت إشعارا بالاهتمام بها، وأنها لَا بد منها وهو الجواب المتقدم في قوله: (مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ) قال: أتى به فقدم الوصية في اللفظ مع أنها في الحكم الشرعي متأخرة عن الدين ثم أجاب بما سبق. قوله تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا ... (93)} قال ابن عرفة: إن تاب فلا خلاف أنه غير مخلد في النار، وقال أهل السنة: يدخلها ويطول مكثه فيها، ثم يخرج منها بالشفاعة وحملوا الخلود على طول الإقامة واحتجوا بقوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ) وأجيب: بأن ذلك عام وهذا خاص، والخاص مقدم على العام ورد بعضهم الأول بقوله تعالى: (وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ) فلو كان الخلود عبارة عن مطلق المكث للزم الخلف في الخبر، وأجاب ابن عرفة: بأن القرينة هناك بينت المراد وجهنم مبتدأ وجزاؤه خبره، لأنه أعم وقصد الله عليه إما صفة فعل بمعنى تعذيبه إياه ومعاقبته له أو صفة معنى راجعة لإرادة تعذيبه، قال: ولعنه إما بالقتل أو بسبب القتل. قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا ... (94)}

(95)

[ ... ] قوله تعالى: {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ ... (95)} ابن عرفة: هذا تخصيص لَا نسخ، ويؤخذ من قول عبد الله ابن أم مكتوم الآية مع نزول الآية بسبب ما قال، وإقراره على ذلك أن الجمع المحلى بالألف واللام يفيد العموم. قيل لابن عرفة: في هذا تأخير البيان عن وقت الحاجة، لأن الاستثناء لقوله تعالى: (غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ) إنما نزل بعد الأول، فقال ابن عرفة: كان ذلك في مجلس واحد، وقال مالك رحمه الله في المحرم: إذا لبس المخيط، ثم لبس مخيطا آخر، ثم آخر في [وقت واحد*] إنما عليه فدية واحدة؛ بخلاف ما لو لبس الثاني بعد الأول بزمان في وقت آخر فإن عليه فديتين، وكذلك قال: إذ [دَبَّرَ عَبْدًا*] ثم عبدا ثم عبدا في مجلس واحد أنهم يحاصون في الثلث، ولو دبر الأول ثم دبر الثاني في موطن آخر لكان الأول مبتدأ على الثاني، وقال ابن عرفة: وقال الفخر في قوله تعالى: (لا يَسْتَوِي أَصحَابُ النارِ وَأَصْحَابُ الْجَنةِ) إما حجة على أن المسلم لَا يقتل بالكافر، قال: احتج بها الشافعي ورده الفخر بأن التسوية أعم، والأعم لا إشعار له بالأخص، وأجاب سراج الدين الآمدي بأن نفي الأعم أخص من نفي الأخص، ابن عرفة: وكذلك نقول هنا: إن نفي المساواة بينهما لَا يقتضي التفضيل بل يحتمل التساوي، قال وقوله: (غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ) واستثنى من الحكم أو من لازم الحكم ونظيره أن يقول: لَا يستوي الرجل الصالح والرجل الطالح، ويقول: قام القوم إلا زيدا، فهل معاه أنه لم يقم أو أنه مسكوت عنه لم يتعرض له بشيء فيحتمل القيام وعدمه فكذلك (غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ) إن كان مستثنى من القاعدين فهو يحتمل، وإن كان مستثنى من المعنى وهو الحكم بالمرجوحية والذم اقتضاء عدم ذمهم، وإنه لا مرجوحية فيهم، قال: وتقديم الأموال على الأنفس ترق؛ لأن حفظ النفوس آكد من حفظ الأموال والمجاهدة بها أشد من المجاهدة بالمال، ولأن المجاهدة بالنفوس عامة في الغني والفقير بخلاف الجهاد بالمال. قوله تعالى: (وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ). يريد القاعدين غير أولي الضرر، وقوله تعالى: (دَرَجَاتٍ) يريد على القاعدين غير أولي الضرر. قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ... (97)}

(98)

قال ابن عطية: (تَوَفَّاهُمُ) يحتمل أن يكون ماضيا أو مستقبلا على معنى يتوفاهم بدليل قراءة يتوفاهم بالضم. ابن عرفة: إن قلنا: أن يتوفاهم مستقبل فهو أخص، وإن كان يتوفاهم ماضيا يمتنع أن يكون ظالمي حالا؛ لأن إضافته محضة. قوله تعالى: (مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ). ابن عرفة: إن قلنا: قسم الكفار منهم فنقول: [مأواهم*] و (جَهَنَّمُ*) خبره ليفيد الحصر، وإن قلنا: قسم العصاة فيكون (جَهَنَّمُ) مبتدأ، و (مَأوَاهُم) خبره، وأورد الزمخشري سؤالا في الولدان كيف احتج إلى إخراجهم مع أنهم غير مخاطبين، ثم أجاب بأن المراد المراهقون منهم. قيل لابن عرفة: هذا السؤال إنما يراد على مذهبه؛ لأنه يقول: إن تكليفهم ممتنع عقلا لفقدان العقل منهم والتمييز، ونحن نقول: إنما يقنع شرعا فنقول: هم مكلفون وإنما علمنا تكليفهم بهذه الآية وأنظارها ولولا هي لقلنا أنهم مكلفون، فقال ابن عرفة: أو يقول هذا التكليف من خطاب الوضع والأخبار فلآبائهم المكلفون بأن يهاجروا بأولادهم، فنقول: من هو مستضعف من الرجال أعظم ممن هاجر منهم وترك ولده إلا أن يكون ولدا مريضا فيكون من المستضعفين، فلا يكون على ولده كبير عيب، ولا ملالة في عدم هجرته ولذلك كره فذلك التزويج بدار الحرب، قيل: يترك ولده هنالك. قوله تعالى: {لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً ... (98)} قال ابن عرفة: الحيلة عندي معنوية السبيل حسي لأن الحيلة نكرة وتدبر نفس، والسبيل يرجع إلى الهروب والفرار بالفعل. قوله تعالى: {وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا ... (100)} مأخوذ من الرغام، وهو ورود الشيء خبرا من غير قصد ولا اختيار يستلزم ذلة وحقارة معناه، يجد في الأرض موضعا للجهاد وإذلال العدو. قوله تعالى: (ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ). فيه مطابقة. لأن لفظ يدركه يقتضي مجيء الموت فجاء مطابق. قوله تعالى: (فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ). لأنه أخر وقع من غير قصد ولا علم به بل أتى من غير شعور.

(102)

قوله تعالى: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ ... (102)} ابن عطية: قال جمهور الأمة: الآية خطاب للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم [وهو يتناول الأمراء بعده إلى يوم القيامة*]، وقال أبو يوسف، وإسماعيل بن عطية: الآية خاصة بالنبي صلى اله عليه وعلى آله وسلم بأن الاهتمام به لَا يعارضه شيء، ابن عرفة: فالمعنى عند أبي يوسف: وإذا كنت فيهم بذاتك وخصوصيتك، وعند الجمهور وإذا كتبت فيهم بشريعتك وسنتك، فقضاياه أنه ينتج مع صلاة الخوف في سفر المعصية، وظاهر حديث جابر العموم لقوله كما يفعل عسكر هؤلاء بأمرائهم فيفهم إن القضايا المعينة تعم، مع إنه لَا يعم هذا كله إلا على القول بأن الضمير جزؤه، وإما على القول بأنها كلية فمذهب الجمهور واضح ورده في الباب حديث عن سهل بن خيثمة اتفق عليه البخاري ومسلم، وحديث يزيد بن رومان انفرد به البخاري، وحديث جابر بن عبد اله انفرد به مسلم، والظاهر حديث سهل لاتفاق الصحابيين عليه، على ما قال ابن الصلاح من أن الأصح اتفق عليه الصحيحان مع أن ظاهر الآية لَا ينافيه. قال ابن عرفة: وتقدمنا في الآية ثلاثة أسئلة: الأول: لم قال: (كُنْتَ فِيهِم) مع أنه لو أسقط لاستقام المعنى، فكان يقول: وإذا أقمت الصلاة؟، قال: وعادتهم يجيبون بأن كان يقتضي الدوام ولاسيما أنها بلفظ المضارع والعموم في الأزمنة، يناسب العموم في الأشخاص فعموم اللفظ في الأزمنة قرينة في العموم بالأشخاص، فأفاد قوله هذه الرخصة التي في صلاة الخوف بجميع الأمة العموم. السؤال الثاني: لم قال (فِيهِم)، ولم يقل: معهم؟، وأجيب: بأن مع تقتضي تبعية الأول لما بعدها، والنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم متبوع لَا تابع، قال الله تعالى: (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ). السؤال الثالث: ما فائدة الإتيان بلفظ (لَهُمُ)، ولو قيل: فأقمت الصلاة لاستقام المعنى؟ فالجواب: أنه إشارة إلى ما قال الفقهاء: من أن الأمام يلزمه نية الإمامة في أربعة مواضع الجمع، والجمعة، والخوف، والاستخلاف في لفظ لهم إشعار بأنه سواء إقامتها لهم. قوله تعالى: (وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ).

إن قلت: لم أمر الطائفة الثانية بأخذ الحذر والأسلحة، وأمر الطائفة الأولى بأخذ الأسلحة فقط؛ لأن الطائفة الأولى تنصرف إلى الصلاة والعدو غافل عنها غير عالم بإشغالها عنه، فأمروا بأخذ السلاح فقط لكن يلتزمو الخشوع المأمور به في كل صلاة إذ لَا يصح تركه إلا لمعارض ولا معارض، والطائفة الثانية ما تصلي حتى يكون العدو عرف أنهم اشتغلوا عنه بالصلاة فأمروا بأخذ الحذر مع الأسلحة، ابن عرفة فإن قلت: الأمر بأخذ الحذر يستلزم الأمر بأخذ الأسلحة فهلا استغنى عنه به، فلم قال: (وَأَسْلِحَتَهُم)، فالجواب: إن جهاد العدو يستلزم ويستدعي أمرين كف أذاه لئلا يغلب وقتاله ليغلب فأمروا بأخذ الحذر على أنفسهم، فكف إذايته خوف أن يتغفلهم فيغلبهم، ثم بأن يشتغلوا به ويتسلحون له لكي يغلبوه فهما مقدمتان نتيجتهما واحدة وهي النصر على العدو بأن يتصدوا عليهم به وامتناعهم منه، فلا يغلبهم. قال الزمخشري: في أخذ الحذر معنوي، وأخذ الأسلحة حسي فكيف صح إطلاق الأخذ عليهما معا واقترانهما فيه، ثم أجاب بأنه لازم له قال: جعل الحذر آلة يستعملها الغازي فلذلك جمع بينه وبين الأسلحة وجعلا مأخوذين ونحوه، قوله تعالى: (وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ)، وهذه الآية ليست من ذلك القبيل؛ لأن أخذ الحذر مجاز، وأخذ الأسلحة حقيقة فإنما هي على حذف مضاف، أي وليأخذوا حذرهم وليحملوا أسلحتهم مثل: يا ليت زوجك قد غدا ... مستقلدا سيفا ورمحا أي: وحاملا رمحا، وأجاب ابن عرفة بأن استعماله في حقيقته ومجازه أمر ضروري لَا بد منه؛ لأن كل واحد مأمور في الجهاد بأخذ الحذر وحمل السلاح فمن ضرورياته الأمر أن يكف الأذى عن نفسه، وأن يقاتل فالمجاز لازم له وقصاراه أن ابن المنير يلزمه الإضمار ونحن يلزمنا المجاز فتعارض المجاز والإضمار، ومنها ثلاثة أقوال ثالثها قول رضاء الدين النيسابوري، والفخر في المحصول: إنهما سواء، وحكى ابن عطية: إن النقل اختلف عن أشهب في كيفية قضاء الركعة الثانية بكل خائفة، هل يقضيها الطائفتان في زمن واحد بعد سلام الإمام وهو نقل ابن عبد البر، وابن يونس عنه أو يقضيها بعضها الآخرة ثم ينصرف، ثم ثاني الأول فيقضيها؟ وهو نقل اللخمي عنه ابن عرفة: الأول مواطن لحديث الموطأ، والثاني لحديث جابر ويحتمل الجمع بينهما، بأن الأول إذا كان العدو في قبلتهم، والثاني إذا لم يكن في قبلتهم، ابن عرفة: وفي الأمر بأخذ الحذر إشعار بالعلة التي لأجلها شرعت صلاة الخوف، قيل له: قد

نص عليه في قوله تعالى: (إِنَّ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا) فقال: إنما تلك في قصر الصلاة في السفر لَا في الخوف، وقد قالوا: إن بين الآيتين في النزول عام كامل. قال الزمخشري: والضمير في أسلحتهم إما عائد على المصلين فيأخذوا ما لا يشغلهم عن الصلاة كالسيف والخنجر، وإما على غير المصلين فنقل عنه الطيبي عوده على المصلي فإن قلت: هلا قيل: لو تغفلون عن أسلحتكم وحذركم؛ لأنه هو الذي وقع الأمر به في الآية، قال: وتقدم الجواب بوجهين: الأول: أن الغفلة عن أحد الأمرين تكفي في حصول المطلوب. الثاني: أن هذا إشارة إلى جهلهم وبلادتهم في أنهم إنما يريدون الغفلة عن الأمر الحسي وهو السلاح المعنوي. قوله تعالى: (وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى) فيه الإتيان في الجواب بالمطلوب وزيادة، مثل حديث "هو الطهور ماؤه الحل ميتته"؛ لأن السبب الذي ذكروه عن عبد الرحمن بن عوف إنما هو في المرض فقط. قوله تعالى: (وَخُذُوا حِذْرَكُم) احتراز؛ لأنه لما رفع عنهم الجناح في حمل السلاح حالة المطر والمرض قد يتوهم أنهم يترخصون ويتركون الحذر ولا ينشغلون به فأخبره من ذلك وأمرهم بأخذ الحذر، بل الأمر هنا آكد؛ لأن الحذر من العدو حالة عدم السلاح أشد منه حالة حمل السلاح. قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا). قال الزمخشري: إن كان يقال: (وَخُذُوا حِذْرَكُم) إن كان العدو حريصا على قتالكم، أو يقال: (وَخُذُوا حِذْرَكُم) فإن الله أعد لكم أجرا عظيما، ثم أجاب بأن ذلك إشارة إلى ما حصل في قلب العدو من الرعب والإهانة في الدنيا أي بحالة خوف ومهانة وإذلال، بحيث لَا يخافون منهم بوجه وهذا بناء على العذاب، ثم سوى ابن عرفة، ويحتمل أن يكون أخرويا مثل ما قال الزمخشري: ويكون من باب الاستدلال

(103)

باللازم على الملزوم إن الله يعذبهم في الآخرة العذاب العظيم، وتعذيبه إياهم دليل على حربهم وكمال مشاقتهم لكم فخذوا حذركم منهم. قوله تعالى: {فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ ... (103)} قال ابن عرفة: القضاء في لفظ الشرع، يراد به نفس فعل العبادة، أما إذا لو قضاء وأكثر ما يطلق على الأداء في السنة حملة الشريعة بجعله قسيما للأول والمراد هنا فعل العبادة. قوله تعالى: (قِيَامًا وَقُعُودًا). كقولهم: ضربته الظهر والبطن، ابن عرفة: وفي الآية دليل على أن الصلاة لا تجرى بمجرد القصد والنية فقط، وهي صلاة من لَا يقع منه إلا غفلة؛ لأن الآية اشتملت على أصل فلا يجزئ المكلف في الصلاة ويخرجه من عهدتها وهو من فعلها على خفية، ومذهب أبي حنيفة هنا كمذهب أصبغ في عدم الماء والصعيد أنه يقضي ولا يصلي وعطف هذه المذكورات يدل على أنها في معنى شيء واحد، ولو كانت متداخلة لجاءت غير معطوفة. قوله تعالى: (فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ). الطمأنينة: سكون النفس من الألم سواء كان ألم مرض، أو ألم خوف من العدو وهذه حقيقتها اللغوية، قيل له: بأن الطمأنينة في العرف الأمن من العدو فإن جعلتها في اللغة عامة لزمك النقل والأصل عدمه، فقال: نقول إنها للقدر المشترك فاستعملت في العرف في أحد. قوله تعالى: (إِنَّ الصَّلَاةَ). كقولك: لَا أرى الموت يسبق الموت شيء. قوله تعالى: (كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ). دليل على أن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة، قيل له: إن أريد بقولك: (كِتَابَا مَوقُوتًا) أنه كتاب معروض فما قلته صحيح إن قلت: معناه مؤقتا محدودا فلا يسلم، ويقول: معنى مؤقته على غير وقت على الكافرين، فقال القائل: قائلان إما أنهم مخاطبون بها على ما هم عليه أو غير مخاطبين. قوله تعالى: {وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ ... (104)}

(107)

الظاهر أن المصدر مضاف للمفعول فهو آكد للطلب، أي: [لا تضعفوا*] في طلبكم القوم، فإنهم يخافون منكم كما تخافون منهم مع زيادة أنكم ترجون ثواب الآخرة وهم لا يرجونه. قوله تعالى: {وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ ... (107)} ابن عرفة: المجادلة مقاولة مقترنة بدليل، والمخاصمة مقاولة غير مقرونة بدليل. قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا). قيل له: المناسب أن الله لَا يحب من كان خائنا آثما فإن نفي الأخص لَا يستلزم نفي الأعم و (خَوَّانًا أَثِيمًا) أخص من خائن، ثم فقال: نصوا على أن لَا يحب مثل قولهم يا حبذا زيد العام وهذه للذم العام، فنفي أخص المحبة بأخص الخيانة والإثم لَا يلزم منه ثبوتها الإثم بل هو أيضا محبوب لكنه مذموم ذما دون ذلك فليس هو مذموما عاما كالأول، قلت: نظيره في سورة البقرة في قوله تعالى: (وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ)، وفي قوله تعالى: (وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ). قوله تعالى: {إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ ... (108)} قال ابن عرفة: هذا هل يتناول المباح أم لَا؟ قال: لَا يتناوله ويكون معنى الآية الذم أي يبيتون ما هو مذموم من القول. قال الزمخشري: وأطلق القول على ما في النفوس فهو مجاز فتعقبه. ابن عرفة: بأنه مصادم لمذهبه؛ لأنه ينكر الكلام النفسي فكيف يبينه ويجعله مجازا، قيل له: بل هو تحقيق لمذهبه؛ لأنه يسميه إرادة، فقال: تسميته فى الآية قولا مجازا. قوله تعالى: {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ... (110)} ابن عطية: بمعنى واحد كرر للمبالغة، الزمخشري: (يَعْمَلْ سُوءًا) قبيحا متعديا سواء غيره أو يظلم نفسه بمعصية خاصة به لَا يتعداه، وقيل: يعمل سوءًا بذنب دون الشرك أو يظلم نفسه بالإشراك، ابن عرفة: ويحتمل أن يكون يعمل سوءًا متناول المعصية القاصرة والمتعدية ويظلم نفسه خاصة بالمعصية القاصرة، ويكون من عطف الخاص على العام، قيل له: الغالب في ذلك إنما يكون حيث يكون في الخاص، يريد إشارتها على العام والعام هنا هو الذي فيه الخصوصية؛ لأن المعصية المتعدية للغير

(111)

أشد من المعصية القاصرة، وأجاب ابن عرفة بأن العطف أفاد التسوية في الاستغفار بين جمع معصيته مع ما انفرد بالمعصية الخاصة به القاصرة عليه، وإن الله غفور رحيم لهما معا والعطف بـ ثم إما للتراخي حقيقة فإِن كانت التوبة من الذنب على الفور، قلنا: ذلك في الأمر بها لَا في الإخبار عنها، فأفاد الخبر أنها مقبولة ولو تراخت على فعل المعصية أو ليكون لبعد من له المعصية ممن له الاستغفار. قوله تعالى: {وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ ... (111)} الكسب هنا هو نفس فعل المعصية بالإخبار، والكسب عند أهل أصول الدين في تفسيره اضطراب، فإن قلت: هذا مصادم لحديث "من سن في الإسلام سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة"، قلنا: عوقب الأول بإحداثه المعصية وإنما عوقب بفعله. قوله تعالى: {فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (112)} وصف الإثم بالمبين، ولم يصف به البهتان؛ لأن البهتان كله مبين بخلاف الإثم. قوله تعالى: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ ... (113)} الفضل راجع لصفة الإرادة، والرحمة لصفة الفعل ويحتمل أن يكونا بمعنى واحد. قوله تعالى: (لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ). ابن عطية: هذا يدل على أن اللفظ عام في غير أهل النازلة، وإلا فأهل التعصب [لبني أبيرق قد وقع همم وثبت*] فالمعنى: ولولا عصمة الله لك لكان في النَّاس من يشتغل بإضلالك ويجعله همه كما يقول هؤلاء، ابن عرفة: وتقدم لنا فيها معنى آخر وهو أن المراد: لهمت طائفة بإضلالك الهم الصادق الرافع معلقة وهؤلاء إنما هموا هما غير صادق إذ لَا يتم لهم غرض، قلت: قال تعالى: (وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا وَمَا نَقَمُوا) قال: والإضلال على قسمين: فالضلال في الظاهر كمن يأتي للقاضي ببينة يعلم إنها زور ويهدي له هدية فيقبل منهم شهادتهم ويحكم لهم، والإضلال في الباطن كمن يأتي ببينة هم في الظاهر ويزوروا كلاما ويفعل ما يريهم أنه على الحق فيحكم له القاضي بذلك ظانا أنه على الحق وهو على الباطل، فأما الأول فلا يدخل في هذه الآية وإنما المراد: ولولا عصمة الله لك لأضلك بعض النَّاس بتزويرهم الأمور وإتيانهم بها على صورة الحق فتحكم لهم بها وهي على الباطل لحديث: "إنما أمرت أن أحكم بالظاهر

(114)

والله متولي السرائر"، وحديث: "إذا أخطأ المجتهد فله أجر واحد وإن أصاب فله أجران". قيل لابن عرفة: إن ابن المسيب حمله على الضلال في الظاهر، قال: لأن العصمة تأباه على سبيل الفرض مثل: (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ)، فقال ابن عرفة: الصواب تفسيره بما كان يكثر وقوعه منه؛ لأنه مستحيل عليه تعمد الإضلال، ابن عرفة: ووقع الامتنان عنا بنفس النعمة وبالتذكير بها اختصاصا له بذلك وتشريفا له. قوله تعالى: (وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ). الكتاب: القرآن، والحكمة: فهمه والسنة. قوله تعالى: (وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ). هذا من أدل دليل على أفضلية العلم وبها احتج الغزالي رحمه الله على فضل العلم، وقال في سورة العلق: (عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ) فهذه أبلغ؛ لاقتضائها نفي الشيء ونفي الغالبية له، فقولك: لم يكن زيد يعلم كذا أبلغ من قول: لم يعلم زيد كذا، فأفاد هذا النهي اختصاصا بذلك، وأن علمه شيئا ليس من عادة البشر علمه. قوله تعالى: {لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ ... (114)} ابن عرفة: انظر هل الخير عند الشر وهو ما فيه مصلحة فيتناول المباح، أو هو ما لم يتضمن فيتناول المباح والظاهر الأول والقضية إن كانت في طُعمة فليس فيها حصر والكثير، إما أن يكون أريد بها المجموع عكس ما أريد بالقليل في قوله: مررت بأرض قل ما تنبت البقل، أو ليس في (نَجْوَاهُم) خيرا لوجد، وإمَّا أن يكون على بابه فلا ينحصر قضية طعمه بل يعمها وغيرها وخص الصدقة بالذكر حديث: "والصدقة برهان" وخص الإصلاح لرجوعه إلى درء المفاسد؛ لأنه من باب تغيير المنكر فهو

آكد من جلب المصالح، وفي الآية عطف العام على الخاص، والخاص على العام، قال أبو حيان: في قوله: (بَينَ النَّاسِ) يصح أن يكون معمولا لإصلاح فيكون متعلقا به، أو يكون صفة لإصلاح فيتعلق بمحذوف. قيل لابن عرفة: إنما يصح هذا لو كان المعنيان مختلفين، وأما مع اتفاق المعنى فالتعليق بالظاهر أولى، فلا يكون له موضع من الإعراب، فقال: بل معنى مختلف؛ لأنه إن كان معمولا يكون الإصلاح جزئيا، وإن كان صفة يكون الإصلاح كليا، ثم وصف جزئي، والكل سواء. قوله تعالى: (وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ). أورد الزمخشري سؤالا قال: الأمر بالإصلاح قولي فكيف قال: ومن يعني ذلك والقول غير الفعل، ثم أجاب بأمرين: إما أن الدال على الخير كفاعله، وإما أن فعل ذلك يشق على النفوس من الأمر به فلذلك رتب عليه الأجر العظيم، قال بعضهم: الإصلاح بين النَّاس حسن عملا هذه الآية، وبقوله تعالى: (وَالصلْحُ خَيرٌ) وكل خير مأمور له لقوله تعالى: (وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) وخير عام ضرورة أنه اسم جنس مقرون بالألف واللام ينتج أن الإصلاح بين النَّاس مأمور به فهذا من تركيب المخصوص، ورد بمنع الصغرى وهي قوله: (وَالصُّلْحُ خَيْرٌ) لأنها بمعنى أخير فلا يتحد الأوسط؛ لأن الأخير غير الخير، وأجيب بأن المغايرة بينهما لا تمنع صادقية الخير على الأخير فقد اندرج تحته كصادقية الأحسن على الحسن، فينتج أن الحسن مندوب إليه، وقال بعضهم: ضم قوله: (لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ) في قوله تعالى: (وَافْعَلُوا الْخَيرَ) مندوب لكون الصلح مندوب فضلا عن كونه جائزا، وقرره بأن قال: لو كان الصلح من لوازم الخير لكان مأموراً به والمقدم حق، فالتالي حق لبيان حقيقة المقدم. قوله تعالى: (لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ). فأوقف الخير على أحدهما، والصلح أحدهما فالخير موقوف عليه، ولا معنى لكونه؛ لأن ما له إلا هذا، والملازمة ظاهرة؛ لأن الخير مأمور به لقوله تعالى: (وَافْعَلُوا الْخَيْرَ) فهو عام والأمر بالشيء أمر بما يتوقف عليه ذلك الشيء، وأجيب بمنع ملازمة الصلح للخير قوله تعالى: (وَالصُّلْحُ خَيْرٌ) أحدهما قلت: لَا يلزم من كون أحدهما أن يكون لازما للخير جواز تحقيق الخير بدونه موقوفا على أحدهما وهو المعروف وصدقه.

(115)

قوله تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ ... إلى قوله (تَوَلَّى ... (115)} احتج بها الشافعي على أن الإجماع حجة ودليل قاطع؛ لأنه قرن اتباع غير سبيل المؤمنين [بمشاقة*] الرسول وهي حرام فدل أن اتباع (غَيرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ) حرام، أو لا يصح أن يقال: من زنا وأكل الحلوى فاجلدوه، قال ابن الحاجب: وأُجيب بأن الآية تحتمل متابعته، أو مناصرته والاقتداء به، والإيمان نصير دون الإنسان التمسك بالظاهر إنما يثبت بالإجماع بخلاف التمسك به في القياس، وقرره الأصبهاني بأن الآية ليست دليلا قاطعا في وجوبه متابعة الإجماع؛ لأن اتباع سبيل المؤمنين عام يتناول اتباعهم في متابعة الرسول واتباعها واتباعهم في نصرته والذب عنهم، واتباعهم في فرقة والذب عنه، واتباعهم بالاقتداء به، واتباعهم في الإيمان به، ودلالة العام على فرد من أفراده في المعنيين ليس بقطعي؛ لجواز تخصيصه وإخراج [تلك الفردية*]، وإذا لم يكن قطعيا وتمسك به في كون الإجماع حجة لزم الدور؛ لأن التمسك بالظاهر إنما يثبت بالإجماع، وأجاب الأصبهاني بأن الدور إنما يلزم أن لو لم يكن غير الإجماع دليلا على أن الظاهر حجة؛ لجواز نص قاطع أو استدلال قطعي على ذلك كقولنا: الظاهر مظنون، وكل مظنون يجب العمل به مطلقا؛ لأنه لو لم يعمل بواحد من النقيضين لزم دفعهما، فإن عمل بما لزم اجتماعهما، وإن عمل بالمرجوح لزم خلفه صريح العقل فبينهن الظن بالمدلول، وأورد الفخر في المعالم: على [إجماع*] الشافعي إيرادات، منها: القول بالموجب وهو دلالتها على تحريم اتباع المكلف غير سبيلهم، إما عند مشاقة الرسول لَا مطلقا، وإما بعد تبين الهداية فالوقوف على مسند إجماعهم، وإما اتباعه سبيلهم في الإيمان في فروعه، وإما مخالفة كل سبيله لَا بعضهم، وإما أن يراد سبيل المؤمنين إلى قيام الساعة فلا ينتج الإجماع في مسألة أبدا إذ لَا يعلم ما يقول فيها من يأتي بعد ما قال سلمان: الآية عامة لكنها مخصوصة بصلاح أجمعوا عليه إذ لَا يجب اتباعهم فيه، وأيضا سبيلهم طريقهم الفعلية [محمولة*] على القولية مجازا، وأيضا فلا يلزم من تحريم اتباع غير سبيل المؤمنين وجوب اتباع سبيلهم، أو فيهما واسطة وهو عدم اتباعهم، وإن سلمناه فمفهوم مخالفة من أضعف الدلالات وأيضا فلو دلت على وجوب اتباع سبيلهم عموما لدلت على اتباعهم في مسند علمهم لَا في نفس حكمهم، وأيضا فالمؤمنون عام يدخل فيهم الموجودون حين نزول الآية وإنفاقهم في زمن الرسول فليس بحجة وبعد موته لم يبق إلا بعض المؤمنين سلمنا، ولكن عادتهم اعتقاد قلبي يعم بعلمه، وأجاب ابن التلمساني عن هذه السؤالات بأجوبة طويلة انظرها في قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ) قال ابن عطية: إنها صفات كافر مات على كفره فهو مخلد في النار بإجماع، ومؤمن حسن لم

(116)

يذنب قط إلى أن مات يخلد في الجنة بإجماع، ومذنب مات تائب فأهل السنة وجمهور الفقهاء ألحقوه بالمؤمن، ومذنب مات قبل توبته، فقال أهل السنة: إنه في المشيئة، وقالت المرجئة: إنه في الجنة، وقالت المعتزلة: إن كان صاحب كبيرة أو صغيرة فهو مخلد في النار، قال أبو جعفر بن الزبير: قصد الأول بقوله تعالى: (وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا (116) .. لأن حملها بين (الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ) وهو كذب وافتراء، فقال: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغفِرُ أَن يُشرَكَ بِهِ) والافتراء من أخص صفاتهم مع الشرك، وعقب الثانية بقوله تعالى: (فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا) لأن قبلها (وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ) وقبلها: (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ)، ثم قال: (وَلَا تُجَادِل عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ) فتضمنت ذكر منافقي زمنه وما صدر عنهم من غير الكذب والافتراء فناسب تعقبها بالضلال البعيد. قوله تعالى: {إِنَّ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا ... (117)} لما تقدمها (وَمَنْ يُشرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ) توهم أن له في ذلك الضلال شبهة، فأفادت هذه الآية أنه لَا شبهة له يستند إليها نفي لدعواهم إناثا، ابن عرفة: وفي الآية سؤال وهو إن المحصور فيه ثانيا إن كان المحصور أولا ألزم التكرار عن قرب وإن كان غيره لزم، إما إبطال الحصر من أول إبطال أحدهما، وإلا باطل، وأجيب بوجوه: الأول: أنا نختار أنه غيره، لكن الدعاء ثانية شفقة، والأول: راجح المسبب على الدعاء. الثاني: أن الضمير في يدعون الأشخاص أمر غير الأولين. الثالث: أن الأول باعتبار ظاهر حاله ومادتي أمرهم. والرابع: باعتبار ظنه وما به وعاقبته. قال ابن عرفة: هذا كله مجاز، وإنما عادتهم أن المحمول يمكن تعدده وانفراد الموضوع بقول: ما رأيت إلا عالما، وما رأيت إلا قريبا فيصح تعدده كقولك: زيد قرشي عالمي وكذلك هكذا يقول: يدعوهم إناث وشيطان ومريد، فالموضوع بمفرد والمحمول متعدد والمحصول فيه محمول لَا موضوع. قوله تعالى: (شَيْطَانًا مَرِيدًا). ابن عطية: قال الجمهور: هو إبليس عليه اللعنة، وهو الصواب وقالت فرقة: هو الشيطان بكل صنف.

(120)

قوله تعالى: {يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ ... (120)} ابن عرفة: أي يقول لهم تمنوا علي، فإن تمنوا عليه شيئا يعدهم به، فالوعد هو تطميعهم لهم بأمر فلا يردوا طلبوه أم لَا؟ وهو أعم من قوله (يُمَنِّيهِمْ)؛ لأن الثاني أمر ملائم منفي. قوله تعالى: (وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا) ولم يقل وما يعدهم ويمنيهم؛ لأن نفي الأعم يستلزم نفي الأخص. قوله تعالى: {أُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ ... (121)} .. قال ابن عرفة: (مَأوَاهُم) مبتدأ و (جَهَنَّمُ) خبره؛ لأن المأوى منحصر في جهنم، أي لَا مأوى لهم إلا جهنم، فإن قلت: ما أفاد قوله (وَلَا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا) قلنا: فائدته أنه قد يتوهم أن يكون لهم في أثناء الإقامة فيها فتور عن العذاب وزمانه وأنهم يموتون فيها فيستريحون منه فنفي هذا التوهم بقوله (مَحِيصًا) فإن قلت: هلا قال: ولا محيص لهم عنها فهو أبلغ من نفي الوجدان، لأن نفي الشيء بالإطلاق أبلغ من نفي وجدانه، قلنا: إنما نفي الوجدان ليفيد أنهم يعذبون عذابا حسيا وعذابا معنويا بطلبهم المحيص وإشغالهم بذلك، ثم حرمانهم منه بعد تشوقهم إليه. قوله تعالى: {وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا ... (122)} .. أبو حيان: الأول مصدر مؤكد لنفسه، وهو الذي يفهم معناها قبله. قال ابن عرفة: مثل له على ألف درهم عرفا؛ لأنه مفهوم من قوله على، والثاني: مؤكد لغيره أي حق ذلك حقا. قوله تعالى: (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا) ابن عرفة: تقدم لنا في هذا التركيب أنه يقتضي نفي الأصدق ولا يقتضي نفي المساوي، وتقدم الجواب، قال: والقول أعم من الكلام، ونفي الأعم يستلزم نفي الأخص، قال أبو جعفر بن الزبير، وقال هنا: (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا) وقال قبله (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا) فإنه لما تقدم هنا وعد المؤمنين بالنعيم المقيم والثواب الجزيل عقبه بقوله (وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا) لم يكرر لفظ الوعد هروبا من الثقل، وأتى بما يناسب في اللفظ والمعنى وألحقه؛ لأن قيل: صدر ساكن الوسط كمال الوعد والحق كذلك، ولما تقدم قال: (اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُم إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ) وهذا اختبار وحديث عن البعث، قال (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا). قوله تعالى: {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ... (126)}

(127)

إما باعتبار الملك، أو باعتبار الخلق والاختراع، وقدم المجرور وهو خبر إما للحصر أو للتشريف، فإن كان باعتبار الملك فالحصر ظاهر، وإن كان باعتبار الخلق والاختراع فينكره المعتزلي. فيل لابن عرفة: وهل يدخل فيه الظرف وهو (السَّمَاوَاتِ) فقال: يدخل في قوله (وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا) وقال: هنا مبتدأ لما قيل بأحد وجهين: إما أنه لما تقدم فيها (وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ) فقد يتوهم منه اختصاص خلته إبراهيم لأجل اختصاصهم إياه بالخلة، فأفاد أن جميع الخلق ملك له على جهة الاختراع، وقال ابن المنير: إن نسبته الخلة لإبراهيم قد يتوهم منها أنه غير مملوك لله عز وجل، فأفاد هذا أنه مملوك له. الوجه الثاني: أنه راجع لقوله (وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ) فيقال: إذا يقال؛ لأن جميع الخلق ملك لله عز وجل. قوله تعالى: {وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ ... (127)} هو القدر الزائد على العدل، وهو أن تفضلوا بالزيادة على حظهم واكتفوا بهذا عن أن يقول: وما تفعلوا من شيء، وهو النقصان من العدل فإن الله به عليم، أو علمه بالخير يستلزم علمه بالشر كله، قال ابن الحاجب: فإن نقيض الخفي خفي، ونقيض الجلي جلي؛ لأن العلم بأحد المعنيين يستلزم بالآخر. قوله تعالى: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا ... (128)} هو الارتفاع منها بتطليقها، والإعراض عما لها مع القيام معها، قلت: إنما ينفي الجناح عن الرجل؛ لأنه الناشز المعرض، قلنا: والمرأة يتوهم أن عليها الجناح في إهمالها نفسها وبقائها مع زوجها حالة إعراضه عنها؛ لأن فيها في ذلك معرة بين أقرانها وقرابتها، فقد يتوهم أن ذلك منكر شرعا لما كان منكرا عادة، فقال: لَا جناح فيه. قوله تعالى: (وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ) لأنه هو الذي في الأنفس كما يقول: كُسِيَ زيد جُبة وأعطي عشرون درهما. قوله تعالى: {إِنَّ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا (133)} دليل على وجوب اتصافه على صفتي الإرادة والقدرة، وجه مناسبتها لما قبلها أنه لما تقدمها (وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا) وتضمنت وكيل على الأشياء كلها، جاءت هذه كالدليل عقبها في أنه القادر على الإعدام والإيجاد.

(135)

قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ ... (135)} وقال في سورة العقود (قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ) فراعى هنا لفظ (قَوَّامِينَ) فناسب اقترانه لقوله (بِالْقِسْطِ) وراعى هناك اسم الجلالة فقدمه لشرعه، وأجاب الزبير بأن آية النساء قبلها الأمر بالعدل، قال تعالى (وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ) فناسب تقديمه، وآية المائدة قبلها الأمر بالطهارة، ثم تذكير العبد بنعم الله عليه، ثم أمره بتقواه فناسب تقديم اسم الله. قوله تعالى: (إِنَّ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا). ابن عرفة: الظاهر أن الجواب محذوف، أي فهو مصدق أوامره إلى الله والله أولى به، فلا يقولوا هذا أغنى فلا يشهد، وهذا فقير فلا نشهد عليه بل أقيموا الشهادة لله بالقسط والعدل ولا تظلموا أحد. قوله تعالى: (فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا). قال أبو حيان: إما أن المعنى كراهية أن تعدلوا بين النساء فلا تطيعوا أنفسكم وأهواءكم كراهية العدل بين النساء، أو فلا تطيعوا أنفسكم إرادة أن لَا تعدلوا. ابن عرفة: فما قالوا هم في عين التعليل، وما قاله أبو حيان تعليل النهي. قال ابن عطية: احتج للحاكم أن يرشد الضعيف بما ينفعه ويشد عضده. قال ابن عرفة: حكى لنا القاضي ابن عبد السلام عن القاضي أبي عبد الله محمد ابن الخباز، أنه تحاكم عنده رجلان طويل وقصير، فظهر من القصير نباهة وحذق، ومن الطويل فتور ومكنة، فقال له القاضي أبو عبد الله محمد بن علي بن إبراهيم المعروف بابن الخباز: ما اسمك؟ فقال له الطويل: اسمي فارس، فقال له: يا فارس ما لك يغلبك هذا الفويرس. قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ... (136)} قال ابن عرفة: إما أن يريد بالأمر الثاني: الإيمان العقلية والشرعية، والظاهر أن يواد لوازمه الشرعية كالصلاة والزكاة والحج؛ لأنه لَا يلزم من الأمر الأول الأمر بها، فإن قلت: هلا قيل: ورسله بلفظ الجمع أخص وأعم فائدة؟ [أجيب بجوابين*] إما بأن الرسل لما كانت [مقاصدهم*] واحدة، فكلهم يدعون [إلى*] الإيمان بالله وتوحيده وما يجب له وما يستحيل عليه كانوا كالرسول الواحد، وإما بأن الرسول أعم من الرسل؛ كما قال

(137)

الزمخشري: في قوله تعالى: (قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي) أنه أعم من العظام. قال الزمخشري: فإن قلت: لم قال في الأول نزل، وفي الثاني أنزل؟ وأجاب بأن القرآن نزل منجما في عشرين سنة، وغيره من الكتب نزل دفعة واحدة. ابن عرفة: وعادتهم يردون عليه بقوله تعالى: (لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً)، وأجيب: بأن نزل ظاهر في النزول معرفا وهو الغالب عليه، وقد يختلف فيطلق أحيانا على إنزال في مرة واحدة لكن ذلك قليل، ولا يقر في معناه الأصلي وإطلاقه عليه. قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ... (137)} ابن عطية: قال قتادة، وأبو العالية في اليهود والنصارى: (آمَنُوا) اليهود بموسى والتوراة، ثم آمنوا النصارى بعيسى والإنجيل، (ثُمَّ كَفَرُوا) من النصارى بعيسى والإنجيل ثم كفروا، وضعفه ابن عطية، ووجه ابن عرفة بأحد وجهين: إما بأن ابن عطية محمله على أشخاص اليهود والنصارى، ونحن نحمله على مجموع الفريقين باعتبار الكل لَا الكلية، والمجموع من حيث هو، وأن بعضهم آمن ثم كفر ببعض الآخر وهم النصارى آمنوا ثم كفروا، وإما أن يجري على مقتضى حديث "كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه" فهم ولدوا مؤمنين ثم كفروا. قوله تعالى: (ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا). الكفر يزيد وينقص باعتبار متعلقه وطرقه، ولذلك قال تعالى (وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ) [فجمع*] الظلمات وأفرد النور. قوله تعالى: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ ... (140)}

(141)

قيل لابن عرفة: هل يجوز التمثيل بآيات القرآن؟ أما في مقام الوعظ والتذكير فجائز مثل (وَقُولوا لِلنَّاسِ حُسنًا)، (وَاسْتَعِينُوا بِالصبْرِ)، (وَاستَغْفِرُوا رَبَّكُم) وأما في غيره فممنوع كقول بعضهم، وقد سئل عن شيء فعله لم يفعله (وَمَا فَعَلتُهُ عَن أَمْرِي). قوله تعالى: {الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ ... (141)} ابن عرفة: المفعول محذوف تقديره: أما (الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ) الدوائر الراء زائدة، وأما الذين يتربصون به مستقبلات الأمور من خير أو شر وهو ظاهر سياق الآية، ولا يبعد أن يريد الجميع فيكون على نوعين فمن سمع منهم على المؤمنين خبرا يسوؤه فهو يتربص بهم دائرة السوء، ومن لم يسمع شيئا فإنه يتربص الأمر المستقبل على الإطلاق، وأسند الفتح إليه، ولم يسند إليه المصيبة مع أن الجميع من عند الله تسريفا للفتح واعتناء به. قوله تعالى: (أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ). ألم تكن لنا قدرة على أن ننصر المؤمنين عليكم فلو قاتلناكم معهم لانتصروا واستولوا عليكم فالمعنى: ألم نستول عليكم بقدرتنا على قتالكم الموجب لانتصار المؤمنين عليكم. قوله تعالى: (وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ). قال ابن عرفة: المناسب إليهم أن يقال: ونمنع المؤمنين منكم كما تقول: منعت الأسد من زيد، فلا تقل: منعت زيدا من الأسد. قيل لابن عرفة: ولم قال: ونمنع المؤمنين؟ لاحتمال أن يكون المؤمنون غالبين أو مغلوبين، وهذه العبارة أخص وأصرح من المعنى من غير احتمال، فقال ابن عرفة: لنا معنى هذا، ونكفكم من القتال عن المؤمنين، فالصواب أن يقال: ونكف المؤمنين عنكم باحتمال أن يكون من السبب المتعاكس فمن امتنع منك امتنعت منه. قوله تعالى: (فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَينَكُم يَوْمَ الْقِيَامَةِ). أي باعتبار ظهور الحكم وبروز متعلقه، وإلا فالحكم قديم أزلي. قوله تعالى: (وَلَن يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤمِنِينَ سَبِيلًا).

(142)

قوله تعالى: (لِلكَافِرِينَ) بأن الكافرين فاعل في المعنى، وشبه مفعول أعطى والفاعل هو المقدم في الرتبة مقدم في اللفظ، وهذا إذا كان باعتبار الفعل والوجود فيكون في الآخر فقط، وإلا فقد استولوا على المؤمنين في الدنيا في غزوة أحد وغيرها، وإن كان باعتبار الحكم الشرعي فهو في الدنيا والآخرة. قيل لابن عرفة: قد قال أشهب: إن الكافر إذا ملك المؤمن عتق عليه، ويكون ولاؤه له، أفترى له عليه سبيل عند أشهب؟. قوله تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ ... (142)} قال ابن عرفة: التأكيد بأن إنما يصح إذا كان المخاطب منكرا وطرأت عليه مخايل الإنكار، والتأكيد هنا مصروف إلى ظنهم أن خداعهم مؤثر ونافع لهم، وقوله (يُخَادِعُونَ) على حذف مضاف تقديره: يخادعون رسل الله ويخادعون أولياء الله، فإن أريد فالتشريف من جهة واحدة وهو التعبير باسم الله عن اسم رسول الله، وإن أريد الثاني فالتشريف من جهتين، لأنه تشريف لأولياء الله والتشريف لأوليائه تشريف لرسوله من باب أحرى. ابن عرفة: والمنافقون إن كانوا معلومين للمؤمنين كانت الآية تقبيحا لفعلهم وتحذيرا منه، وإن كانوا مجهولين فهي تقبيح لفعلهم فقط، ابن عطية: ومخادعتهم لأولياء الله فيظنونهم غير أولياء، أو لَا يقصد أحد من البشر مخادعة الله تعالى، فرده ابن عرفة: بما روى مسلم في صحيحه في كتاب ذكر المنافقين عن مجاهد عن ابن عمر عن ابن مسعود، قال " [اجْتَمَعَ عِنْدَ الْبَيْتِ ثَلَاثَةُ نَفَرٍ، قُرَشِيَّانِ وَثَقَفِيٌّ، أَوْ ثَقَفِيَّانِ وَقُرَشِيٌّ، قَلِيلٌ فِقْهُ قُلُوبِهِمْ، كَثِيرٌ شَحْمُ بُطُونِهِمْ، فَقَالَ أَحَدُهُمْ: أَتُرَوْنَ اللهَ يَسْمَعُ مَا نَقُولُ؟ وَقَالَ الْآخَرُ: يَسْمَعُ، إِنْ جَهَرْنَا، وَلَا يَسْمَعُ، إِنْ أَخْفَيْنَا وَقَالَ الْآخَرُ: إِنْ كَانَ يَسْمَعُ، إِذَا جَهَرْنَا، فَهُوَ يَسْمَعُ إِذَا أَخْفَيْنَا"، فَأَنْزَلَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ} *] الآية. قال ابن عرفة: وجرى بين شيخنا الفقيه أبي عبد الله محمد بن سليمان بن علي، وابن الصباغ في القضية اختلاف: هل المنافقون مخاطبون بفروع الشريعة أو لَا؟ ووقع بينهما في ذلك تنازع كثير منهم السلطان ابن الحسن، والتحقيق أن الخلاف في خطاب الكفار بالفروع إن كان باعتبار الباطن كما يقول الأصوليون من أنه راجع إلى تضعيف العذاب في الآخرة ففيه نظر، قلت: لَا نظر فيه لقوله تعالى: (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ). قوله تعالى: (يُرَاءُونَ النَّاسَ).

(143)

ابن عرفة: المرائي يظهر التجلد والاجتهاد في العبادة، فكيف يفهم أنه مراء وهو كسلان، ثم أجاب: بأنهم في ابتداء الصلاة كسالى، فإذا شرعوا فيها الاجتهاد والنشاط، قال ابن العربي: ومن صلى ليراه النَّاس فيقدمونه شاهدا فصلاته صحيحة. ابن عرفة: فعل العبادة لله مستتبعا للرياء فهي صحيحة، وإن فعلها لمجرد الرياء فقط فهي باطلة. قوله تعالى: {لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ ... (143)} أي لَا مع المؤمنين ولا مع المنافقين بأن المراد لَا هم مع المؤمنين في الحقيقية ولا هم مع الكافرين في ظاهر الأمر، قال: والإشارة الأولى إما للمؤمنين، وإما للكافرين. والثانية كذلك، وتقدم لنا في الميعاد ترجيح كون الأولى للكافرين والثانية للمؤمنين ليكون ختم عليهم بمنتهى الإيمان، ولو كانت الأولى للكافرين لكانوا ممن ختم عليهم بعدم الكفر فيحتمل أن يكونوا آمنوا في آخر أمرهم. قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ... (144)} الخطاب للمؤمنين وهو من يعمل مطلق الإيمان، والكافرين أولياء إما مع المؤمنين أو دونهم فوقع النهي عن الثاني دون الأول، لأنه أشد فرتب عليهم الوعيد الأشد، أو يجاب بأن الجزء الذي اتخذوهم فيه أولياء لا يشاركون فيه المؤمنين، فكانوا اختصوهم به واتخذوهم فيه دونهم كما تقدم في قوله تعالى: (ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ) مع أنهم لم يطلبوا الاستبدال بل يطلبون ذلك مع غيره، فتقدم الجواب بأنه عند الاستعمال ينقصون من أكلهم من الأول فكأنهم استبدلوا ذلك الجزء الذي نقصوه. قوله تعالى: (أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا). قال أبو حيان: السلطان هو الحجة، ويحتمل التذكير فالمعنى البرهان والثبات وهو مذكر، وإما لأن الحجة هي الدليل المستعمل الواقع في الوجود الخارجي، والبرهان هو الدليل الأعم من كونه استعمل أو لم يسعتمل به بل الاستعمال والتذكير فيه أولا؛ لأن لازم الأعم لازم الأخص. قال ابن عرفة: وفي الآية اللف والنشر بقوله (أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا) راجع لقوله (لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ)؟ وقوله (مُبِينًا) راجع لقوله (مِنْ دُونِ اللَّهِ) فمن اتخذتم أولياء

(145)

بالإطلاق ترتب لله عليه حجة مطلقا ومن اتخذهم من دون الله ترتب عليه حجة واضحة. قوله تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ ... (145)} قال ابن عرفة: الألف واللام إما للعهد فلا يتناول منافقي الجنس، وإما للجنس فتتناولهم، والظاهر عدم تناول اللفظ لهم؛ لأن أولئك معصيتهم أشد لمشاقتهم رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم واستهزائهم به. قوله تعالى: (وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا). هو موضع لَا ينفع فيه النصير فلذلك لم يقل: ولم يكن لهم نصير، قال الفخر: في مفهومها حجة لأهل السنة بإثبات الشفاعة للعصاة. قيل لابن عرفة: إنه مفهوم اللقب، فقال: بل مفهوم الصفة؛ لأن الضمير لهم عائد على المنافقين. قال تعالى (إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا ... (146) قال ابن عرفة: الحكم على المعنى المشتق من وصف إن كان باعتبار ذاته فالاستثناء منفصل، فإن كان باعتبار وصفه فهو منقطع. قوله تعالى: (مَعَ الْمُؤْمِنِينَ). الألف واللام للعهد، يريد المؤمنين إيمان أو أبناءهم، أو الصحابة أبا بكر وعمر الذين صمموا على الإيمان ودعوا إليه. قوله تعالى: (وَسَوفَ يُؤتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ). الألف واللام للجنس فيتناول أعلاهم ولو نالهم، وهو المعبر عنهم بكونهم معهم، قلت: وسألت الأستاذ القارئ أبا العباس أحمد بن مسعود البلنسي المعروف بابن الحاجة: كيف توقف على يؤت فقال (يُؤتِ) إلا البزي فإِنه يقف عليها بالياء. قوله تعالى: {مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ ... (147)} قال الزمخشري: والشكر سبب في الإيمان. قال ابن عرفة: هذا جار على مذهبه؛ لأنه يقول: شكر المؤمن واجب عقلا، والجواب عندنا أنه إنما قدم الشكر على الإيمان أنه يستلزم الإيمان بالفعل، ثم قال (وَآمَنْتُمْ) أي دمتم على الإيمان فشكرتم يستلزم تقدم إيمانهم ثم دوامهم عليه.

(148)

قوله تعالى: (وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا). إما منعما كما قال (لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ)، أو من باب المشاكلة مثل (وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ) عليما بمن آمن وشكر فيجازيه، ومن كفر فيعاقبه. قوله تعالى: {لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ ... (148)} قال ابن عرفة: المحبة في الشاهد ضد الكراهة، وهل هما على طرفي النقيض، أو لَا والظاهر أن بينهما واسطة فنفي المحبة يستلزم الكراهة، بل يبقى محتملا، وأما في الغالب فهما على طرفي النقيض، هذا باعتبار الدليل العقلي، وأما باعتبار الأمر الشرعي واللغوي فهو يقتضي ذم الجهر بالسوء من القول، والسوء إما الأمر المؤلم فقط، أو الأمر المؤلم المذموم، فإن كان الأول بالاستثناء فهو منفصل، وإن كان الثاني فهو منقطع؛ لأن انتصار المظلوم لنفسه مؤلم غير مذموم شرعا، ولا يدخل الغيبة في الآية؛ لأنها إن تحدث الإنسان بها مع النَّاس فهو خبر بالسوء، وإن تحدث بها مع نفسه فليست بغيبة. قوله تعالى: {إِنَّ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ ... (149)} ابن عرفة: هذا بدل؛ لأن إبداء الخير أعلى من إخفائه، وإخفاؤه أعلى من العفو عن السوء، فالإحسان في الظاهر لمن ظلمك أعلى، ثم الإحسان إليه، ثم العفو في السر عن الظلم. قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ... (150)} عبر عنهم بلفظ المضارع، ثم قال (وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ) فعبر بلفظ الماضي؛ لأن الإيمان مأمور مطلوب به فجعل كالواقع المحقق، والكفر منهي محنه فجعل كأنه لم يقع. قوله تعالى: (هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا). أي كفرا محققا يقينا لَا شك فيه بخلاف من وحد الله وجحد بعض الصفات كالمعتزلة، فإن في كفرهم نظر، أو لذلك اختلف العلماء فيهم. قوله تعالى: {أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ ... (152)} فمن أطاع في شيء وعصى في شيء لَا يحيط، ثم عصيانه ثواب ما أطاع فيه.

(153)

قيل لابن عرفة: قال هنا (سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ) فعبر بسوف وهي أبلغ في التنفيس من السين، وقال حد هذا (لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ)، ثم قال (أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا) فعبر بالسين، فأجيب بأن هذه فيمن حمل مطلق الإيمان بالله ورسوله أعم من أن يكون أطاع في الفروع أو عصى فناسب الإتيان بسوف المقتضي لكمال تراخي أجورهم، وهذا إشارة لمذهب أهل السنة القائلين بوجود إنفاذ الوعيد في طائفة من عصاة من المؤمنين وأنهم يعذبون قبل ذلك، والآية الأخرى فيمن حصل الإيمان وفروعه فناسب أنها خبر لما يقول على قرب الثواب الذي ينالهم في المستقبل. قوله تعالى: {يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ ... (153)} قال الزمخشري: روي أن كعب بن الأشرف [وفنحاص بن عازوراء*]، قالوا: يا رسول الله إن كنت صادقا فأتنا بكتاب من السماء جملة كما أتى به موسى فنزلت الآية، وقرأ ابن عامر وابن كثير (تُنْزِلَ) بالسكون، والباقون (تُنَزِّلَ). قال ابن عرفة: وقراءة التخفيف لَا تناسب السبب على ما تقدم للزمخشري في أنزل [ونزَّل*]. ابن عرفة: وتضمنت الآية أمرين: أحدهما: الإخبار بنعت اليهود. والثاني: كمال التسلية للنبي - صلى الله عليه وسلم - بقصهّ موسى معهم. قال ابن عطية: ولقد [حدثني أبي رضي الله عنه عن أبي عبد الله النحوي أنه كان يقول عند تدريس هذه المسألة: مثال العلم بالله حلق لحا المعتزلة*]. قال ابن عرفة: هذه خطابة وحاصله أن العلم بالله سبب في التشبيه، فكما أن علم الله حاصل مع اعتقاد نفي التشبيه والمماثل فكذلك الرؤية لَا يلزم منها التشبيه، وحاصله أنه دليل لَا يستقل نفسه بل باستحضار قواعد دقيقة وهو أن الرؤية لَا تستدعي الجهة والمكان خلافا للمعتزلة. قال ابن عرفة: وقوله (فقالوا) ليس بمعطوف على (سألُوا)؛ لأنه بيان له والأصل في الجملة المبنية أن يؤتى بها غير معطوفة فهو معطوف على فعل مقدر تقديره أخبروا، فقالوا: أرنا الله جهرة.

(154)

قوله تعالى: (ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ) ابن عطية: [لم يكن الذين صعقوا عند المضي للمناجاة ممن اتخذوا العجل*]. قال ابن عرفة: أراد أن الضمير عائد عليهم باعتبار النوع والصنف، أو باعتبار فعل هؤلاء، ورضي الآخرون بذلك. قوله تعالى: {وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ ... (154)} بنقض ميثاقهم. قوله تعالى: (وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا) أي لَا يقبل الحل شرعا. قوله تعالى: {وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ... (155)} قال ابن عرفة: إن قلت: قتل الأنبياء أبدا لا يكون إلا بغير حق؟ فما الفائدة في هذا؟ قلت: المراد بأنهم لو سئلوا لقالوا: قتلهم بغير حق. قوله تعالى: (فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا) إن كان القليل راجع إلى الأشخاص فهو على بابه؛ لإمكان التجزئة والتبعيض فيهم وإن رجع إلى الإيمان فهو بمعنى العدم مثل: مررت بأرض قل ما تنبت البقل، لأن الإيمان لَا يتجزأ ويحتمل أن يرجع إلى للجميع. قوله تعالى: {وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ ... (157)} قال ابن عرفة: إنما لم يقل: وقتلهم المسيح؛ لأنه لم يقتل، وإن قتله إذما هو بقولهم ودعواهم لكل منهم شيء. قوله تعالى: (رَسُولَ اللَّهِ) قال الزمخشري: قالوه على وجه الاستهزاء، ويجوز أن يكون موضع الذكر الحسي مكان ذكرهم القبيح رفعا لعيسى عليه الصلاة والسلام، وقال ابن عطية: هو إخبار مّن الله تعالى. قال ابن عرفة: فإِذا بنينا على أنه يجوز أن يكون من كلامهم فيؤخذ منه عندي أن الشاهد يحكم من حيث المحكوم عليه موصوفا بصفة أن شهادته بالحكم لا تستلزم شهادته بذلك، [ ... ] رجلا بالشريف أو بالفقيه، فإن كانت وقعت، فقال الفقيه أبو عبد الله محمد بن سلامة: إن ذلك يستلزم شهادة الشاهد بها، وقال القاضي ابن عبد

(159)

السلام: لَا يلزم أن يكون شاهدا بها، قال بعض الطلبة: ينبغي أن نفرق بين كون الوثيقة بخط الشاهد أو بخط غيره، فقال ابن عرفة: لَا فرق بينه وغيره. قوله تعالى: (وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ). قال ابن الخطيب: القول أنه شبه شخص واحد قتلوه سفسطة. ورده ابن عرفة بورود المعجزات على يدي الأنبياء، ومن جملتها الفاشية تشبيه أحد الشخصين في الآخر حتى كما يصير كأنه هو، قال ابن الخطيب: وادعى اليهود بالنقل المتواتر أنه قتل، فقال ابن عرفة: إنما ادعوا تواتر قتل ذات شبيهة بعيسى لَا قتل عيسى محققا، وهذا أحسن من جواب ابن الحاجب عنه بأن أصل التواتر عندهم باطل، وذكره ابن عطية. قال ابن عطية: وروي أن أولئك القاتلين لم يستحب عليهم أمر مع عيسى فصلبوا شخصا وأبعدوه عن النَّاس حتى تغير ولم تثبت له صفة ثم قربوا النَّاس منه. قال ابن عرفة: هذه الآية ترد لقوله (وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ) فدل على أن القاتلين شبه لهم لَا لغيرهم. قوله تعالى: (وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ). قال ابن عرفة: الشك مناقض الظن فلا يصح استثناؤه منه لَا منفصلا ولا متصلا، وأجيب: بأنه لما اختلف المؤمنون في الأمر شكوا ثم صاروا إلى الظن بأن بعضهم شك وبعضهم ظن، وإما بأنهم ظهرت لهم أمارات تفضي إلى الظن فلقصر إيمانهم لم يحصل لهم ظن، وإنَّمَا أنتجت لهم الشك، وإما أن يريد الشك اللغوي وهو مطلق التردد الأعم من التساوي والترجيح فلا ينافي الظن. قوله تعالى: {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ ... (159)} ابن عرفة: تضمنت الآية عقوبتهم على كفرهم بوجهين: الأول: تناقضهم في كفرهم به أولا ثم بما هم به حيث لَا ينفعهم الإيمان. الثاني: تقديمهم على ذلك في الدار الآخرة. الزمخشري: (لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ) تشبيه صفة لموصوف محذوف تقديره: (وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ). ابن عرفة: أي وإن فيهم أحد لَا يقول ليؤمنن به قبل موته؛ لأن جملة القسم لا يصح أن تقع وصفا لعدم احتمالها الصدق والكذب، وقال أبو حيان: قال المختصر

(160)

هذا لَا يصح، وقد ذكره سيبويه وأسند بقوله: إن أحدا لَا ينزل ذلك، وأجاب ابن عرفة بأن أحدا هنالك موصوف بالنفي، فكأنه منفي، وأما هنا فهما لفظان لفظة أحد ولفظة إلا أن إيجاب للنفي. قيل لابن عرفة: وهذا من العلم الباقي على عمومه مثل (وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)، فقال ابن عرفة: بل هو مخصوص بالمجانين منهم وغير المكلفين. قوله تعالى: (وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا). ابن عرفة: يوم إما متعلق بـ (لَيُؤمِنَنَّ) لكونه أقرب له في اللفظ، أو معمولا لـ شهيدا لكونه أقرب له في المعنى؛ لأن التقدير: يكون شهيدا عليهم يوم القيامة. قوله تعالى: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا ... (160)} التنكير إما للتقليل إن كانت الآية تخويفا وإنذارا، أو للتعظيم إن أريد التشنيع على أهل الكتاب والتقبيح لفعلهم. قوله تعالى: {وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ ... (161)} ابن عرفة: اختلف الأصوليون في قول الراوي نهى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم من كذا، هل يفيد التحريم أو الكراهة؟ وهذه الآية دالة على التحريم ووقعت هذه الآية في المدونة مغلوطا فيها، فقال في كتاب المأذون: وأكلهم الربا وهو الأخص من الأخذ، واحتج بها [الإِسْكَنْدَرَانِي*] في شرح التهذيب على أن المسلم إذا مات عنده اليهودي له مال، فإنه لَا يرث عنه لتعاملهم بالربا وهو محرم عليهم. قيل لابن عرفة: أجراه بعضهم كذلك في النصراني ومذهبنا جوازه. ابن عرفة: هو نص المدونة في كتاب الولاء. قوله تعالى: (وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ). إن قلت: هلا قيل هنا: وقد نهوا عنه كما قال في الربا؟ وأجيب: بأن أخذ الربا يكون برضى المأخوذ منه واختياره، وأكل المال بالباطل لَا يكون إلا غضبا أو نحوه من غير رضاه به، فمعلوم أنه منهي عنه؛ لأنه مما أجمعت الملل على تحريمه وتحريم الربا خفي فاحتيج إلى ذكر المنهي عنه. قوله تعالى: {لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ ... (162)}

(163)

ابن عرفة: لما تضمن الكلام السابق تقبيح فعل اليهود عقبه باستدراك فعل بعضهم وإخراجه عنهم، وبالغ في منهم بأمرين: أحدهما: لفظة الرسوخ في العلم يفيده إلا أن يريد المؤمنين من غيرهم محمد صلى الله عليه وسلم، وأجاب: بعض الطلبة بأنه عطف العام على الخاص. ورده ابن عرفة: بأنه لو كان كذلك عن عطف الموصوفات مع أن الزمخشرى جعله من باب عطف الصفات. قال ابن عرفة وإنما يجاب بأنه لَا يلزم من استلزام الأخص استلزام الأعم له. قوله تعالى: (وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ). ابن عرفة: كلام الزمخشري هنا أحسن من كلام ابن عطية فإنه أطيب في تخطيه قراءة (المقِيمِينَ) مع أن القراءة السبعية مجمعون عليها، وصوب قراءة (وَالْمُقِيمِونَ) مع شذوذها فوهم كلامه أن السمع غير متواتر. قوله تعالى: (وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ). إما تكرار، أو الأول في مؤمني اليهود، وهذا في المؤمنين بمحمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وإيمانهم باليوم الآخر يستلزم إيمان محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم بالوحي إلى من قبله مع أنه أشرف، والمشبه بالشيء لَا يقوى قوته، وأجاب ابن أبي حمزة عنهم؛ لأنه إنما يعلم من جهته، وأما العقل فيجوز خاصة ولا يوجبه بوجه. قوله تعالى: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ ... (163)} الآية، ذكرها البخاري في أول كتابه، وأورد شارحه أو شراحه سؤالا، كيف شبه الوحي للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بالوحي إلى من قبله مع أنه أشرف والمشبه بالشيء لَا يقوى قوته؟ وأجاب ابن أبي حمزة عنهم. قوله تعالى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا (164)} قال المازني في شرح البلقيني في أول كتاب الطهارة: الآية حجة على المعتزلة في قوله: إن الله لَا يكلم موسى مباشرة بل بواسطة، خلق له الكلام في السيرة. لأنه أكده بالمصدر، ورده ابن عبد السلام بأن التأكيد بالمصدر لإزالة الشك عن الحديث، لَا عن المحدث عنه فالكلام واقع حقيقة هل من الله أو غيره؟ نظر آخر وأجاب ابن عرفة بأن التأكيد بالمصدر وإن كان لإزالة الشك عن الحديث فلا بد فيه من مراعاة كونه واقعا من

(165)

فلان فهو لإزالة الشك عن حديث فلان، ولولا ذلك لما قال البيانيون في قول الشاعر [روح بن زنباع*]: بَكَى الخزُّ من روحٍ وَأنكر جلدَه ... وعجَّت عجيجًا من جذامَ المطارفِ إنه من ترشيح المجاز؛ لأن المطارف جمع مطرف، وهو ثوب مرقع من خلق له وجذام قبيلة روح. قوله تعالى: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ ... (165)} تعليل شرعي لَا فعلي؛ لأن بعثته جائزة عقلا وواقعة شرعا لقوله تعالى: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا) هذا هو مذهب أهل السنة. قوله تعالى: (بَعْدَ الرُّسُلِ). أعربه أبو حيان، والزمخشري إما نصبا للحجة أو حالا منها، وأبطله ابن عرفة: بأن الحجة ثابتة (بَعْدَ الرُّسُلِ)، وأما قبلهم أو معهم فليست ثابتة، فالصواب أنه متعلق بقوله (يَكُونَ) أي: (لِئَلَّا يَكُونَ) بعد الرسل للناس على الله حجة ثابتة مطلقا. قوله تعالى: {أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ ... (166)} ابن عرفة: يحتمل عندي أن يريد أنزله مع علمه، ويريد بالعلم المعلوم والمصدر مضاف للمفعول، والضمير عائد عليه، أي أنزله مصاحبا المعلومة أي تصاحب المعجزات والآيات الدالة على صحته وهدف نبوة الرسول، فهو إنزال القرآن وإنزال دليله وهو المعجزات معه. قوله تعالى: (وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ). احترازا؛ لأنه لما قال (لَكِنِ اللَّهُ يَشهَدُ)، ثم قال (وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ) توهم أن فيه تقوية لشهادتهم واعتقادات صحيحة. قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا ... (168)} دليل على أن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة. قوله تعالى: (لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ). نفي للقابلية على سبيل المبالغة، والمراد من مات منهم على الكفر لقوله تعالى: (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ).

(169)

قوله تعالى: {إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ ... (169)} من تأكيد الذم بما يشبه المدح، كقولهم: هو الكلبُ إلاَّ أنَّ فيه ملالةً ... وسوءَ مراعاةٍ وما ذاكَ في الكلبِ وفيه دليل لأهل السنة في أن الله يخلق الخير والشر. قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ ... (170)} قال ابن عطية: السورة مدنية فهو مما خوطب به جميع النَّاس بعد الهجرة، لأن الآية دعاء إلى الشرع، ولو كانت في أمر من أوامر الأحكام ونحوها لكانت (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا)، فرده ابن عرفة؛ لأن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة، قال: والجواب أن متعلق الخطاب إن كان جليا واضحا فإنه يخاطب به العموم، وإن كان خفيا أو قريبا من الخفي خوطب به الخصوص، ونظيره أن الشيخ إذا قرر للطلبة مسألة جلية فيقررها للجميع، وإن كانت صعبة فيخص بها بعض الطلبة، وقد هنا للتوقع. لأنهم كانوا يتوقعون مجيء الرسل. قوله تعالى: (بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ). دليل على أن بعثه الرسل محض تفضل من الله تعالى وليست بواجبة كما تقول المعتزلة. قوله تعالى: (وَإِنْ تَكفُرُوا). أي تدوموا على الكفر، فإن كفرتم قبل ظهور المعجزات غير معتبر وإنما يعتبر بعدها. قوله تعالى: {لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ ... (171)} يحتمل أن يريد به التعمق في الدين كمن يمتنع من أكل اللحم ويتقشف. قوله تعالى: (إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ). قال بعضهم: يؤخذ أن ابن الملاعنة نسب إلى أمه. قوله تعالى: (وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ) الآية. قال ابن عرفة: القرآن وكلام المفسرين اقتضى أنهم أرادوا تعدد الآلهة باعتبار الكمية المنفصلة وكلام الأصوليين على النصارى اقتضاء نفي الكمية المتصلة.

(172)

ابن عرفة: وكان الفقيه أبو سعيد الغبريني أخبرني أنه بحث مع النصارى في هذا وأنكر عليهم، فأخذوا طرف الإحرام وطووه على ثلاثة، ثم علوا فصار واحدا، فكذلك قالوا: هؤلاء الثلاثة في واحد، فإن قلت: لم قال (وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ) فمفهومه جواز قوله اثنان؟ فالجواب: أنه أوتي على سبيل دعواهم وهم ادعوا ثلاثة. قوله تعالى: (إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ). ابن عرفة: الاستدلال بهذه الآية على نفي الولد أبلغ من استدلاله على نفيه بقوله تعالى: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ) لأن هذه تضمنت نفي وجود الولد، ونفي القابلية أبلغ من نفي الوجود. قوله تعالى: (لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ). تضمنت الآية ثلاثة أمور دينية: أحدها: إثبات الوحدانية، والثانية: نفي الولد، والثالثة: إثبات الصفات ما تضمنه قوله (لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ) فإنه يقتضي الحياة والقدرة والعلم والإرادة، فاقتضت الآية أيضا إثبات الكلام فإن هذا من القرآن وهو كلام الله، أما القدرة فخلقه السماوات والأرض وتخصيص أحدهما بصفة دون الأخرى دليل على الإرادة وكون فاعلها عالما. قوله تعالى: {لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ ... (172)} قال ابن عطية: الاستنكاف هو التمنع من الشيء [بأنفة*] واستحضار العلم والتنزه، ومثاله: أن يضع طعاما لرجلين فيمتنعان من أكله، أحدهما لكونه لم يقو على أكله أو هو صائم، والآخر لكونه رأى مثل ذلك الطعام لَا يليق به وأن أكله منه لَا يليق في حقه، وإنما يليق به ما هو أحسن منه وأسيغ، فالاستنكاف أخص من الاستكبار والامتناع، ونفي الأخص لَا يستلزم نفي الأعم، فيرد السؤال لما جاء هكذا، ويجاب بأنه على وفق دعواهم إلا أن ابن عطية ذكر السبب في ذلك أنهم ادعوا رفع عيسى عن العبودية، أي لن يستنكف عيسى أن يكون عبدا لله، فقال: إنه لبس أن يكون عبدا لله، قالوا: بلى فنزلت الآية، قاله الزمخشري: فجعلوا فتنة العبودية له سببا له فأنكر عليهم، وقيل له: إذا كان نبيكم على شرف منزلته وعلى قدره لَا يأتي أن يكون عبد الله فكيف تقيمون أنتم ذلك عليه. قوله تعالى: (وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ).

(174)

قال ابن عطية، والزمخشري: وأخذوا منه أن الملائكة أفضل من سائر الأنبياء ومن عيسى. قال الزمخشري: لأن علم البيان يقتضي أنك إذا قلت: لن يفعل هذا زيد ولا عمرو أن يكون عمرو أفضل من زيد. قال ابن عرفة: وعادتهم يرددون عليه بأنه يلزم عليه أن يكون العطف تأكيدا مع التأسيس أولا؛ لأن نفي الصفة المرجوحة لَا يستلزم نفيها عن الفاصل بخلاف العكس، يقول: لَا يشرب الخمر صالح ولا طالح، قال ابن المنير: وهذا باعتبار الثواب في الدار الآخرة فقد تكون الملائكة في الدار الآخرة كما ورد أن إبراهيم ألقي في النار فلم يحترق، وروي أن جبريل حمل على جناحيه قوم لوط، فقال ابن عرفة، إنما التفضيل بينهم مطلقا في الدنيا والآخرة. قوله تعالى: (وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ). قال الذى يظهر أن الاستنكاف أخص من الاستكبار: فلا يلزم من حشر المستنكفين عن العبادة وتعذيبهم تعذيب المستكبرين، فلذلك كان العطف تأسيسا. قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ ... (174)} ابن عطية: البرهان هو الحجة البينة الواضحة التي تعطي اليقين التام. ابن عرفة: الدليل يطلق على الحجة المقيدة القطع، وعلى المقيدة الظن والبرهان الاصطلاح إنما هو الحجة القطعية المقيدة لليقين، وقد يطلق البرهان في اللغة على الدليل الأعم من إفادة القطع والظن والبرهان إنما يخاطب به الخواص الدليل خاطب به العوام وعليه قول الشاعر: [أقلد وجدي فليبرهن مقلدي ... فما أضيع البرهان عند المقلد*] وكان يمشي لنا أن الصواب غير ما قال ابن عطية: وهو أن يراد هنا بالبرهان الدليل الأعم من إعادة الظن أو للقطع لقوله (يَا أَيُّهَا النَّاسُ) هي خطاب للجميع فيتناول الخواص والعوام. ابن عرفة: هذا إن أريد بالبرهان القرآن، ويكون عطف النور عليه من باب عطف الصفات، فهو برهان ونور مبين.

(175)

قيل لابن عرفة: يلزم التكرار فقال: لفظ المجيء يحتمل أن يكون خاص فوق أو عن يمين أو عن شمال أو من أمام، فأفاد قوله (أَنْزَلْنَا) كون محبة من فوق، قال: ويحتمل عندي أن يكون على حذف مضاف، أي: قد جاءكم ذو برهان من ربكم وهو النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بالنور المبين القرآن، فلا يكون تكرارا بوجه، قال: وقوله (نُورًا مُبِينًا) إشارة إلى أن منفعة القرآن متعدية لغيره وليست قاصرة عليه فهو نور في نفسه مبين لغيره، قال: وفي الآية اللف والنشر والالتفات بالانتقال من الغيبة إلى التكلم لقوله (وَأَنْزَلْنَا) بعد أن قال (مِنْ رَبِّكُمْ). قوله تعالى: {وَاعْتَصَمُوا بِهِ ... (175)} .. الظاهر عود الضمير على القرآن لقوله فى حديث جابر في حجة الوداع "وقد تركت فيكم ما لَا تضلوا بعده إن اعتصمتم كتاب الله عز وجل". قوله تعالى: (فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ). قال ابن عرفة: الرحمة الجزاء على فعل الطاعة، والفضل والزيادة على ذلك، وقيل: الرحمة الإنقاذ من الشدائد والفضل والإنعام في غير شدة، وقيل: الرحمة: الثواب الدنيوي، والفضل: الثواب الأخروي، وقيل: غير هذا، والأولان هما الظاهران. قوله تعالى: {يَسْتَفْتُونَكَ ... (176)} قال ابن عرفة: الاستفتاء هو السؤال عما أنت جاهل به. قوله تعالى: (قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ). فيحتمل الماضي والحال. قوله تعالى: (إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ). قال ابن عرفة: (امْرُؤٌ) فاعل بفعل مقدر دل عليه هلك، قالوا: أو يكون (هَلَكَ) صفة لـ (امْرُؤٌ) وهو دال على الفعل المقدر، فرد بأنه ما يفسر إلا ما يصح به العمل، وإذا جعلت صفة لـ (امْرُؤٌ) ما يصح له العمل فيه، وأجيب: بأن المفسر السابق كما قالوا في المضمر أنه يفسره السابق دلالة الحال، ورد بأنه إذا كان المضمر هلك فلا فائدة في ذكر (هَلَكَ) الذي هو صفة، وأجيب بأن النعت عندهم يكون تأكيدا حجة واحدة وعشرة كاملة، و (إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ)، قال

أبو حيان: فالألف واللام للعهد، والثاني للتعيين وهو يشير إلى أنها للعهد في جنس أو شخص معين. قوله تعالى: (وَهُوَ يَرِثُهَا). ابن عرفة: هو من باب: عندي درهم ونصفه، وفيه وجهان: أن الضمير عائد باعتبار لفظه دون معناه وهو المسمى بالاستخدام، أو أنه على حذف مضاف أي ونصف ونحوه. قوله تعالى: (وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ). وكذلك هذه الآية إما أن يراد ومثله يرثها، يعود الضمير على لفظ الأخ دون معناه؛ لأن من مات كيف يرث؟ قلت: وحاصل جواب العقباني أنه قال: القضايا الشرطية لَا يشترط في جوابها الإفادة، وإنما يشترط الإبداء بجوابها، والجواب: (فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ)، فإن قلنا: ما فائدة قوله (اثنَتَينِ) بعد قوله (فَإِن كَانَتَا)؟ فأجاب أبو حيان عن الفارسي: بأنه أفاد اثنين بالإطلاق أعم من كونهما صغيرتين أو كبيرتين. ابن عرفة: وتقدم لنا الجواب عنه بالفرق بين ذكر المطلق لَا يفيد جواب الفارسي بعبارة أخرى فتأمله حاسر وبين ذكره مقيدا بالإطلاق فذكره لَا يقيد قابل بالتقييد بالصغير والكبير، والغني والفقير، ثم أخبر عن ذلك الضمير بلفظ التثنية المطلق لا تقيد بشيء فالمحكوم عليه أعني المخبر عنه مطلق قابل للتقييد، والمخبر به مطلق بعدم القبول للتقييد أي يقيد بالبقاء على الإطلاق، وفرق بين المطلق لَا يقيد وبين المطلق يقيد، قلت: ونحوه ذكره ابن التلمساني شارح المعالم الفقهية في المسألة الخامسة من الباب الأول. قوله تعالى: (يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا). قال أبو حيان: (أَن تَضِلُّوا) إما مفعول من أجله أي كراهة أن تضلوا، قال ابن العربي: وفيها إشكال وهو أنه يلزم عليه الخلف في الخبر لاقتضائها أن بيان ذلك حسب وقوع الإضلال، وقد نقل المفسرون أن عمر بن الخطاب جمع الصحابة رضوان الله عليهم، ثم أرادوا أن يقضى في الكلالة، فخرجت حبة فتفرقوا على غير شيء فقد وقع الضلال.

ورده ابن عرفة بإعراب (أن تضلوا) مفعولا به أي يبين لكم ضلالكم بين أعم وقوع الضلال منهم لعدم فهم الكلالة، وقد وقع ذلك وهو اختلافهم فيها، وأورد السهيلي أن الآية المتقدمة أول النساء وقع الإجماع فيها على أنها في الإخوة كلهم وهم لا يرثون إلا مع عدم الولد، واكتفى بها بلفظ الكلالة عن النص على نفي الولد، والوالد وهذه الآية اشترط فيها نفي الولد مع الأخت أيضا ترثه مع وجود البنت، فهلا كان الأمر بالعكس، ثم أجاب السهيلي بوجهين (¬1). ¬

_ (¬1) انتهى الكلام في السورة ولم يذكر الوجهين.

سورة المائدة

سُورَةُ الْمَائِدَةِ (العقود) قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ... (1)} قال ابن عرفة: كان بعضهم يقول: الوفاء هو الزيادة على الأمر الواجب، وهو الإتيان بالمطلوب وزيادة، والمراد هنا: الإتيان بالقدر الواجب فقط، والأمر للوجوب فكيف صح التكليف بإيجاب الزيادة عما كان التزمه، وأجيب: بأن ذلك فيما يتعدى [بفي*] فيقال: وفى الكيل ووفى الوزن، وأما حيث يتعدى [بالباء*] فإنما يراد به الإتيان بما كان التزمه فقط، فيقال: وفى بدينه ووفى بعهده، قلت: أو يجاب بأن ذلك وفَّى المشدد فهو المقتضي للزيادة لأجل المبالغة، وأما المخفف فهلا قال: ويدخل في هذا جميع العقود والطلاق إن كان معلقا مثل: إن دخلت الدار فأنت طالق، والوعد؛ لأنه من العقود، وكذلك بيع الخيار. قال الزمخشري: والعقد العهد الموثق فشبه بعقد الحبل، ونحوه قول الحطيئة: قَوْمٌ إذا عَقَدوا عَقْداً لَجارِهِمُ ... شَدُّوا العِناجَ وشَدُّوا فَوقَهُ الكَرَبا والعناج: حبل يربط في أسفل الدلو، والكرب: حبل يربط على العرفين وهما عودان مصلبان في فم الدلو. قوله تعالى: (أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ). قيل لابن عرفة: نقل بعضهم عن سيدي الشيخ الفقيه الصالح أبي محمد عبد الله المرجاني كان يقول: هنا فعل الطاعات سبب في تحليل الطيبات، كما أن المعاصي والمخالفات سبب في تحريم المحرمات، قال تعالى (فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ) قالوا: فالعقود سبب في تحليل هذه الأشياء، فقال ابن عرفة: إنما يصح هذا لو كان خيرا وليس كذلك، بل هو أمر بالوفاء يحتمل الامتثال وعدمه، وأكثر النَّاس عصاة لَا يمتثلونه، قلت: وذكرته لشيخنا أبي الحسن محمد بن أحمد المطرفي، فقال: إنما سمعت أنا عن المرجاني أنه كان ما نصه قوله (أُحِلَّتْ لَكُمْ) بعد قوله (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) تشديد وتشبيه على عدم المبالاة بالجاني في عقوبته على عدم الوفاء كأنه يقول: أما بهيمة الأنعام حلال لكم تسخرونها كيف شئتم وتعذبونها بالذبح والنحر متى شئتم من غير معصية منها لكم في أمر أو نهي، ولا يسمون بقتلها جائرين، وكل حكم فيها عدل، فإن كان هذا وصفكم مع أملاككم التي ملكناها لكم فكيف وصفنا معكم، وملكنا لهم [بالاختراع*] لَا بالتمليك، و (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) فإني لَا أبالي بعقوبة من خان ولا بثواب من أوفى وأنتم لتمام ما

(2)

تصنعونه بأملاككم ولا شعورها به قبل وقوعكم، ونحن من صفتنا الكرم حذرناكم من عقابنا قبل وقوعه واسيناكم بجميل [إحساننا*] على قيامكم بأحكامنا مع اتصافنا بالعدل، ولا استحقاق لكم علينا خلقنا من شئنا منكم للخير، وخلقنا من شئنا منكم للشر، وإياكم والعبث علينا في أحكامنا فيكم بها عدل، وإياكم وطلب التعليل وسوء الأدب (لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ)، انتهى. قيل لابن عرفة: كيف هذا التحليل؟ وهل كانت محرمة [أولًا*]؟ فقال إن قلت: إن الأشياء كانت على الحصر فظاهر، وإن قلنا إنها على الأرجح، فالسؤال وارد؛ لأنه لا فائدة فيه، قيل به: وكذلك إن كانت على الحصر؛ لأن هذه السورة مدنية من آخر ما نزل، وقد كانت هذه الأشياء حلال في أول الإسلام، فأجاب بوجهين: الأول: إشارة إلى ما كانت عليه الجاهلية من تحريم السائبة والوصيلة والبحيرة والحامي، فاقتضت هذه الآية تحليل ذلك كله للمسلمين. الثاني: في ذكر التحليل ليرتب عليه أشباه هذه الأمور المخرجة منه. قوله تعالى: (بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ). جعله الزمخشري من إضافة الأعم من وجه إلى وجه من وجه، مثل: عندي خاتم حديد، وكان بعضهم يقول: الصواب أنه من إضافة الأعم مطلقا إلى الأعم من وجه، والأول أجود من الثاني؛ لأن هذا قليل الوقوع بخلاف الأول. قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يَحكُمُ مَا يُرِيدُ). قال ابن عرفة: كان بعضهم يقول: هذه الآية دليل على إبطال العمل بالقياس؛ لأن الإرادة من شأنها التفريق بين المتماثلين، والجمع بين المختلفين، وإنما الذكر من خصائصها جواز ذلك لَا لزومه. قال ابن عرفة مرة أخرى: وانظر هل فيها دليل على أنه لَا يأمر إلا بما أراد؟ وأجيب: بأن المعنى أن الله يحكم ما يريد الحكم به لَا ما يريده في نفسه. قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ ... (2)} قال ابن عرفة: إن قلت: لم كرر النداء (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) وهلا اكتفى بالأول فيقال: [ولا تحلوا شعائر الله*]؟ فالجواب: أنه إذا قلت: قام زيد وعمرو توهم تبعية أحد الرجلين للآخر في القيام، فإذا أردت نفي هذا التوهم، قلت: قام زيد وعمرو فأفاد

استقلال كل واحد منهما بالفعل، واستغنائه به عن صاحبه من غير تبعية، فكرر النداء هنا اعتناء بهذا الحكم وتعظيما له. قوله تعالى: (لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ). ابن عرفة: إما أن يريد لَا تجعلوها حلالا، أو يريد لَا تفعلوا فيها ما يفعل في الحلال، فالأول يتناول من يفعلها مستحلا لها معتقدا لحليتها فهو كافر، والثاني يتناول عصاة المؤمنين، وفي مثله قال الشيوخ في قول مالك -رحمه الله- في المدونة في كتاب الفرائض: ولا أحب معارضة من يستحل الحرام أو من لَا يعرف الحلال من الحرام، قالوا: معناه من يفعل الحرام كونه حلال مثل سائر العصاة؛ لأنه يعتقد أنه حلال فإن ذلك كافر. ابن عرفة: قالوا: وهل في الآية اللف والنشر أم لَا على مذهب السكاكي ففيها النشر واللف بالانتقال عن الخطاب المعنوي (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) إلى الغيبة، بقوله (شَعَائِرَ اللَّهِ)، ولم يقل: شعائرنا، وإما على مذهب غيره فليس بلف ولا نشر، ووجه اللف والنشر فيها أن اسم الجلالة فيه تعظيم للشعائر وتفخيم لها بخلاف ما لو قال. شعائرنا. قوله تعالى: (وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ). قال ابن عرفة: اختلفوا فيمن حلف أنه يصوم الأشهر الحرم، فقيل: تجزئة صومها من عام واحد، وقيل: لَا يصومها إلا من عامين عملا بقوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم في حجة الوداع: "السنة اثنا عشر شهرا أربعة حرم: ذو القعدة، وذو الحجة، ومحرم، ورجب" انظر فبدأ بذي القعدة فدل على اعتبار كونها في سنتين. قوله تعالى: (وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ). إن أريد بالهدْي العموم؛ لأن منه ما يقلد وما لَا يقلد، فالإبل والبقر تقلد بلا خلاف، والغنم عندنا لَا تقلد، وعند غيرنا تقلد فيكون من عطف الخاص على العام،

وقيل: (الْقَلَائِدَ) ما يتقلد من الثياب من خرج من الحل برسم الحاج علامة على إحرامه، وقيل: ما يتقلد به من خرج من الحرم في حوائجه من ثياب الحرم. ابن عرفة: فإن قلت: كيف يتقلد بثياب الحرم وقد قال في الحديث في مكة: أنها حرام لَا يعضد شجرها ولا ينفر صيدها؟، فالجواب: أنه يتقلد بما نبت فيه من الريح لا بما ينبت بنفسه. قوله تعالى: (وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ). ابن عرفة: الألف واللام للعهد للبيت هو إما عهد سابق في الزمن، أو عهد معلوم بالسياق، وسميت حراما إما لحرمة بانيها، أو تعظيمه إياها، وإما لأنها في الحرم مع أن الحرم إنما سمي حرما لأجلها، قال: وعظم البيت هنا محصل قصد الحاج، وقال في الحديث: معظم "الحج عرفة" وهذه الآية اقتضت أن معظمه البيت الحرام، فأجاب بوجهين وباعتبارين: معرفة معظم الحج من ناحية أن له زمنا معينا يفوت بفواته، والبيت معظمه لأجل الطواف به دائما، [ولأجل أن من مرض في الحج يؤجله إلى أن يبرأ*]، ولأجل أنه يقصد في الحج والعمرة، فله عبادتان بخلاف عرفة. قوله تعالى: (يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا). وقال في سورة الفتح (تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا) وأجاب ابن عرفة: بأن تلك في الصحابة، وكانت عبادتهم لله تعالى لذاته ومجرد جلاله وعظمته، وهذه الآية خاصة في المؤمنين وعبادتهم في الأكثر إنما هي للثواب والنجاة من العقاب، فعبادتهم لابتغاء الفضل والرحمة من ربهم فناسب لفظ الرب، قال أبو حيان: و (يَبتَغُونَ) صفة لـ (آمِّينَ)، (البَيتَ) مفعول به، فأورد أن اسم الفاعل إذا وصف لَا يعمل، وأجيب بأن ذلك إذا وصف قبل العمل، وهنا إنما وصف بعد العمل. ابن عرفة: وقال بعضهم: إذا وصفه بعد العمل يتم عمله فيما قبل، ولا يصح عمله بعد ذلك في شيء آخر، قال أبو حيان: [**فرده المختصر مذهب الكسائي].

ابن عرفة: وله أن يجيب بأن يكون مراده أن يكون بالاختيار المختار فيفيد المذهب المختار، كذا فلا ينافي أن يكون ثم مذهب آخر غير مختار وهو مذهب الكسائي، أي وليس مراده أن اختيار النَّاس الكل في المسألة كذا. قوله تعالى: (وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَئَانُ قَوْمٍ) ابن عرفة: قال بعضهم: الشنآن هو المباينة الناشئة عن العداوة والبغضاء، والصواب أن اتصافه للفاعل بغض قوم إياكم؛ لأن المراد بغضكم قوم. قوله تعالى: (أَنْ صَدُّوكُمْ). قرئ بفتح أن وكسرها، قال بعضهم: أن بمعنى إذا. قوله تعالى: (أَنْ تَعْتَدُوا). والاعتداء إن فعل بمن ظلمه أكثر مما فعل هو به وهذا خلاف قول مالك. لأنه حمل قوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: "أد الأمانة لمن ائتمنك ولا تخن من خانك"؟ فقال: لَا يجوز لمن ظلمك بأخذك عشرة دنانير أن تأخذ أنت له عشرة دنانير فأخذ بظاهر الحديث، وقال غيره: الخيانة هي أخذه أكثر من ذلك، قيل له: فقوله تعالى: (فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ) فقال: ذلك على سبيل المقابلة، والاعتداء إنما هو التجاوز والزيادة على فعل المعتدي. قوله تعالى: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى). قال ابن عرفة: قال بعضهم: البر هو الحكم بامتثال المأمورات، والتقوى راجعة إلى اجتناب المنهيات. قيل لابن عرفة: هذا يقوم مقام (وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ)، فأجاب بعضهم بأنه بناء على القول بأن الأمر بالشيء ليس نهيا عن ضده.

(3)

وقال ابن عرفة: الإيضاح إلى هذا، وإنما الجواب أنه لَا يلزم من التعاون على البر والتقوى بترك التعاون على الإثم والعدوان، لأنا نجد بعض المرابطين يطيع في شيء ويعصي في شيء، فقد [يتعاونون*] على البر والتقوى، وعلى الإثم والعدوان. قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ ... (3)} قال ابن عرفة: هذا إما خبر، أو إنشاء، فإن أريد الحكم بثبوت ذلك في الأزلي فهو خبر، وإن أريد التكليف بتحريم ذلك فهو إنشاء، وقدمت (الْمَيْتَةُ) إما لكونها كانت محرمة عندهم وكانوا يجتنبونها. قوله تعالى: (وَالدَّمُ). يتناول المسفوح وغيره، فيتعارض المفهوم والعموم، وجعله ابن عرفة من تعارض المطلق والمقيد لكن الصحيح الأول؛ لأنه لو كان كذلك لاتفق على جواز الدم غير المسفوح، إذ لَا خلاف في رد المطلق إلى المقيد وهو هنا مختلف فيه فيرجع إلى المسألة المختلف فيها وهي تعارض المفهوم، فقلت: وقال ابن عرفة مرة أخرى: إن القاضي ابن [ ... ] جعله من تعارض الخاص والعام؛ لأن الدم هنا عام وفى العام خاص، ورده ابن عرفة، لأنه من تعارض العموم والمفهوم؛ لأن قوله (أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا) يدل بمفهوم الصفة على تحليل الدم غير المسفوح، قلت: وأجاب شيخنا أبو العباس أحمد بن إدريس بأن (مُحَرَّمًا)، من قوله تعالى: (قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ) نكرة في سياق النفي فهو عام، فيدل على أن جميع الأشياء حلال أخرج منها الدم المسفوح وبقي غير المسفوح حلالا بالنص لَا بالمفهوم لتعارض الخاص والعام، وردَّ ابن عرفة بأن هذا أيضا من باب دلالة المفهوم، وقد ذكر الأصوليون مفهوم الحصر، وهو عندهم أقوى من مفهوم الصفة، قال: وأيضا فينعكس الأمر في هذا؛ لأن دعواكم لَا أجد مقتضى تحليل كل فيبقى إلا ما استثني منه، وقوله ((حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ) يقتضي تحريم مفهوم الدم فتكون هذه الآية أخص من آية الأنعام فيلزم تحريم الدم كله، وهو خلاف مطلوبنا ومطلوبكم.

قوله تعالى: (وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ) قال ابن عرفة: شحمه محرم بالنص؛ لأن مالكا قال فيمن حلف ألا يأكل الشحم فإن أكله حنث، وإن حلف لَا يأكل الشحم فله أن يأكل الشحم ولا يحنث، قال: وهل يدخل فيه خنزير الماء أو لَا، فقال مالك: أنتم تسمونه خنزيرا، فقيل: كره التسمية، وقيل: حرمه لأجل التسمية، قال بعضهم: وسبب توقف مالك فيه تعارض عمومين: أحدهما: قوله تعالى: (أُحِلَّ لَكُم صَيدُ الْبَحرِ وَطَعَامُهُ) [فلما*] استثنى خنزيرا أولا، وقال هنا (وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ) فعم خنزير البر والبحر. قوله تعالى: (وَمَا أُهِلَّ لِغَيرِ اللَّهِ بِهِ). قيل لابن عرفة: هذه البقر تذبح في الفتن بين النَّاس، فقال: يجوز أكلها، وكذلك ما يذبح للجار، وأشار بعضهم إلى أن ابن رشد ذكره أظنه في الأسئلة، قيل: فما يذبح في المباهاة والافتخار ويكثرون منه كما يفعل أبو الفرزدق. لأن المؤرخين قالوا: إن غالبا أبا الفرزدق قد عاقر شحما من وسل الرياح فحضر الرياحي بعض إبله، ثم رفع يده، ولم يزل غالب الفرزدق ينحر إبله حتى أتى على آخرها ففضل بذلك على شحم، والفرزدق يكثر الفخر بهذا. قيل لابن عرفة: قد قال المؤرخون إن عليا بن أبي طالب -رضي الله عنه- نهى عن الأكل من تلك الإبل. قال ابن عرفة: ويؤكل ما يذبح؛ لأنهم يقصدون ذبحه، لو لم يقصدوه لاكتفوا بشق بطنه وخنقه.

قوله تعالى: (وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ) إن كان الأول فيما نفذت مقاتلته فقط فالاستثناء متصل، ويكون المراد أَن ما نفذت مقالته محكوم له بحكم الميت فلا يعتبر، فإنما استثني من غير منفوذ القاتل. قوله تعالى: (وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ). قال: كانت الأزلام ثلاث قداح في أحدها افعل، وفي الآخر لا تفعل، والثالث [مهمل*]، وقيل: سبعة منها أحكام [العرب*] وما يدور بين النَّاس من النوازل، وقيل: عشرة، سبعة منها خطوط لها [بعددها حظوظ*] يستقسمون بها [طلبا [للكسب والمغامرة] وثلاثة أفعال. قوله تعالى: (الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ). قال ابن عرفة: اليوم هنا محتمل لثلاثة معان، فالنحاة يريدون به زمن الحال الفاصل بين الماضي والمستقبل، ويحتجون بقول زهير: وأَعْلَمُ مَا في اليَوْمِ وَالأَمْسِ قَبْلَهُ ... وَلَكِنَّني عَنْ عِلمِ ما في غَدٍ عَمِ والمفسرون هنا حملوه على وجهين: إما النهار الفاصل بين أمس وغد، وإما زمن الحال أو ما قرب منه ماضيا كان أو مستقبلا، وهذا يتم هذا، وأما في قوله تعالى: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) فيتعين حمله على الزمن المتطاول الذي وقع ودام. قوله تعالى: (وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي). إما تأكيدا للأول، وإما مغايرا له، والمغايرة بينهما من وجهين: أحدهما: أنه ذكر إشعارا يكون إكمال الدين مجرد نعمة وتفضل من الله تعالى بمنه، رد على من يقول بوجوب مراعاة الأصلح للعبد. الثاني: أن الأول راجع للأمور الأخروية الدينية، وهذا راجع بأمور الدنيا باعتبار الفتوحات والنصرة على الأعداء وأخذ الغنائم. قوله تعالى: (وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا).

(4)

ابن عرفة: الرضا إما راجع للإرادة القديمة الأزلية، أو لصفة الفعل باعتبار الإبراز من العدم إلى الوجود، وقيل له: فقوله تعالى: (وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ)؛ فقال: المراد لَا يرضاه حكما شرعيا بل يرضاه في الأزل تعالى أن يكون في ملكه ما لَا يريد. قوله تعالى: (فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ). أي غير مائل لعذر من الأعذار ليس له، ابن عطية: وقرئ غير [متجنف] (1) وهي أبلغ في المعنى؛ لأن تشديد [العين] (2) تقتضي توغلا في المعنى ومبالغة وثبوت الحكمة. ابن عرفة: العكس هنا أولى؛ لأن مجانف منفي، ونفي الأعم أخص من نفي الأخص، ونقل عنه السفاقسي وسكت عنه، والعجب منه كيف لم يتعقبه على علمه بالأصول أوأما أبو حيان فلم تكن له مشاركة في الأصول. قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ ... (4)} قال ابن عرفة: الاستثناء في القرآن باعتبار الاستقراء هو استعلام حكم ما فيه خصومة، والسؤال استعلام حكم ما ليس فيه خصومة، واستشهد بقوله تعالى: [(وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ) *]. قوله تعالى: (أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ). رجح ابن عطية أن المراد بها الحلال سواء كان مستلذا أو لا. ابن عرفة: فيه نظر لاقتضائه أن المعنى أحل لكم الحلال فهو تحصيل الحاصل. قوله تعالى: (مُكَلِّبِينَ). الزمخشري: فالمعنى في تعليم الكلاب الغاية، قال بعض الطلبة: يلزم عليه المفهوم وهو أنه في التعليم لَا يصح الاصطياد بكلبه، وأجاب ابن عرفة: بأن بلوغ الغاية إنما يشترط في التعليم لَا في حكم الصيد بالكلب المعلم. قوله تعالى: (تُعَلِّمُونَهُنَّ). أعاد ضمير الجماعة على الجمع الذي للكثرة، فهلا قيل: تعلمونها، كما قال (مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ) ابن عرفة: تقدم لنا الجواب بأنه إشارة إلى أن التعليم لَا يمكن مع الكثرة، وإنَّمَا يمكن مع قلة الكلاب، أبو حيان: (مُكَلِّبِينَ)

_ (1) بالمطبوع: (مجتنف). والتصويب من تفسير ابن عطية، وهو الذي يقتضيه المعنى، فإن مجتنف لا تشديد فيها (2) بالمطبوع: (الغين). وهو خطأ ظاهر، فإن (متجنف) لا (غين) فيها. والتصويب من تفسير ابن عطية، والمراد (عين الكلمة) أي الحرف الثاني من (فعل)

حال، (تُعَلِّمُونَهُنَّ) حال ثانية، ومنعه أبو البقاء؛ لأن العامل واحد لَا يعمل في عملين حالين. السفاقسي: والصحيح جوازه، ومنعه أبو حيان، ولا يحسن أن يجعل حالا من الجوارح للفصل بينهما، (مُكَلِّبِينَ) وهي حال بغير الجوارح، وتعقبه السفاقسي بأن ابن عصفور أجاز تعدد الحال وتعددها جهة، ومثله بقولك: لقي زيد عَمراً مصعدا منحدرا، وأجازه ابن مالك إذا كان أول الحالين لثاني الاسمين لبقائه الفصل إلا أن يمنع مانع من جعل الأول للثاني ويؤمن اللبس فيجوز، كقول امرئ القيس: [خَرَجْتُ بها أَمشي تَجُرُّ وَرَاءَنا ... على أثَرَينا ذَيْلَ مِرْطٍ مُرَحَّلِ*] فتمشي أول الحالين وليس لما يليه نظير هذا. ابن عرفة: وكان بعضهم يقول: يحتمل تجر وجهين آخرين: أحدهما: أن يكون حالا من فاعل خرجت، ومن الضمير فيها، ويحتمل أن يكون حالا من أعلم من لم يبلغ الغاية في التعظيم فاعل خرجت أصل، والرابط بينهما الضمير في قوله: ورافعا. لأنه معمول لتجر فهو من تمامه، كأنه قال: خرجت بها جارة وراءنا، كقولك: قمت وزيد مكرم أخانا، أي حالة إكرام زيد أخانا. قوله تعالى: (فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ). قال الفخر: الأمر إما للوجوب أو للندب. ابن عرفة: تقدير كونه للوجوب أن يراد مطلق الامتناع لَا خصوصية الأكل؛ لأن تركه بعد اصطياده من باب إضاعة المال. قوله تعالى: (وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ). إما عند إرسال الجوارح لاصطياده، أو عند ذبحه إن أدركه حيا، أو عند الأكل منه. قوله تعالى: (سَرِيعُ الْحِسَابِ).

(5)

سرعته، إما قرب زمنه، أو قصر مدته وقلة [مكثه*]. قوله تعالى: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ ... (5)} .. تأكيد، قوله تعالى: (وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ) أخدُ من هنا ابن العربي جواز أكل المسلم من الدجاجة التي فك النصراني عنقها إذا طبخها لنفسه، وأطعمه منها لأنها من طعامه. ورده ابن عرفة: بأنه ليس من طعامهم الفعلي الوجودي بل طعامهم الذي أباحه شرعهم لهم، وهو إذا في شرعهم محرم عليهم. قوله تعالى: (وَطَعَامُكُم حِلٌّ لَهُم) قال ابن الحارث: وأما الكافر الكتابي البالغ المميز الذي لَا يستحل الميتة فإذا ذبح لنفسه ما يستحله فهو كالأولى وما لَا يستحله إن ثبت بشرع عليهم كذي الطير والمشهور التحريم. ابن عرفة: والشاذ قول ابن لبابة إنه جائز، وأخذه من الآية أنه من طعامنا وطعامنا حل لهم، وكل ما هو حلال لهم حلال لنا فينتج جواز أكلنا منه. قوله تعالى: (وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ). قال ابن عطية: الإحصان يطلق على أربعة معان: منها العفاف، والإسلام، والتزويج، والحرية، ويمتنع حمل الآية على الإسلام والتزويج، وتبقى محتملة للعفاف والحرية. ابن عرفة: فإن أريد العفاف يخرج من الآية جواز نكاح الأمة العفيفة، قيل له: إذا أريد به الإسلام يلزم التكرار، فإن معناه: والمسلمات من المؤمنات، فقال: من لبيان الجنس احترازا من المنافقين؛ لأن الإسلام راجع لأمور الطهارة والإيمان اعتقاد قلبي. قوله تعالى: (وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ). قيل لابن عرفة: ما أفاد قوله (مِنْ قَبْلِكُمْ)؟ فقال: أفاد الإشعار بأنهن كن في الكتب السالفة حلالا لنا لئلا يتوهم أنهن كن محرمات علينا ثم نسخ ذلك بهذه الآية.

ابن عرفة: قول ابن عطية يمتنع أن يراد المتزوجات؛ لأن ذات الزوج حرام، إن قلت: المسبية ومعها زوجها حلال، قلت: إن كانت ذمية فليست حلالا تملك اليمين، والآية إنما هي في تزويج المحصنات. قوله تعالى: (إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ). ابن عرفة: الصداق هل هو واجب بالعقد أو شرط في الدخول؟ قيل له: قد قال ابن رشد: إنه يحله وليس بعوض عن البضع؛ لأن المرأة تنال من الرجل مثلما ينال هو منها، فقال: قد قال مالك: النكاح أشبه شيء بالبيوع، وكذلك إذا أصدقها طعاما لم يحل لها بيعه قبل قبضه، قال: والصداق هل هو واجب بالعقد أو بالدخول؟ قال: والتحاكم في هذا إلى معنى الحلال هو قبل هو التحليل بالفعل، وبالقابلية والإمكان، ومثاله: أن من عقد على امرأة يقال له هي حلال، وإن لم يعقد عليها وكانت أجنبية عنه، يقال له: هي حلال لك، وإن رضع معها، يقال له: ليست حلالا لك أي بالقوة والقابلية، والأولان حلال بالفعل. وقوله تعالى: (أُجُورَهُنَّ). [دليل على أن الصداق لَا حد لأقلِّه*]، وقوله تعالى: [(مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ) أي مسلمين غير زانين بزنا ظاهر، (وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ) أي غير زانين بزنا خفي*]، [والخِدْن هي الزانية برجل تقتضم عليه، ويقتضم هو عليها]. قوله تعالى: (وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ) أي ومن كفر بفروع الإيمان فهو المناسب لما قبله. قوله تعالى: (فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ). جرى مجرى التغليظ والتشديد في العبادة، والمراد بذلك زوال الثواب الذي كان قابلا لأن يحصل له إذا حصل هذه الأمور ولاسيما على مذهبنا أن النكاح مندوب إليه، فهو لما حصل في الإسلام وهيئت له أسباب هذا الثواب بذكرها والأمر بها، فكأنه فعلها وكأنها حاصلة ثابتة، فأشبه قوله تعالى: (يُخرِجُهُمْ مِنَ الظلُمَاتِ إِلَى النورِ) ولم يكونوا في النور [قط*].

(6)

قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ ... (6)} ابن عرفة: فيها دليل على أن الكفار غير مخاطبين بفروع الشريعة، قال: ومعناه إذا أردتم القيام إلى الصلاة وهذا هو دلالة اللفظ بنحو الخطاب، وعلى هذا فالمراد بالقيام إليها نفس فعلها لَا التهيؤ لها فإن أريد التهيؤ لها لم يحتج إلى إضمار أردتم، وقيل: إذا قمتم محدثين، وقل: من النوم فيدل على تناول ذلك الأمر للحدث من باب أحرى. قال ابن عطية: وهذه الآية سبب في التيمم، ورده ابن عرفة: باحتمال أن يكون ما بعث أبي بكر لعائشة وضربه لها، وقوله لها: أقمت بالنبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - على غير ماء وليس عندم ماء لأجل الشرب ولأجل الوضوء، فقد يكون عندهم ماء يسير جدا. قيل لابن عرفة: قول فَقَالَ أُسَيْدِ بْنُ الحُضَيْرِ: مَا هِيَ بِأَوَّلِ بَرَكَتِكُمْ يَا آلَ أَبِي بَكْرٍ بعد نزول هذه الآية، دليل على أن السبب كان لأجل للتيمم. قوله تعالى: (بِرُءُوسِكُمْ). قال ابن جني - أنكر نحاة [أَكْثَرُ النُّحَاةِ يُنْكِرُونَ أن تكون*] (¬1) الباء للتبعيض، فإن قيل: ما معناها، إذا قلنا [هي للاستعانة*] الداخلة على الأدلة دخلت على الأيدي؟؛ ثم حذفت الأيدي وبقيت الباء دليلا على المحذوف فاتصلت بالمفعول، والتقدير: امسحوا بأيديكم رءوسكم، وقال بعضهم: الرأس الحد والممسوح الأيدي، وإنما يجب مسح قليل الأيدي بالرأس، وهو بعيد؛ لأنه يلزم عليه أن يكون في اليد فرضان الغسل والمسح، ويلزم أيضا الأيدي بعد الرأس من الفروض، وهو لدلالة لَا يقيد التصرف بها فرضا مستقلا. قوله تعالى: (وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا)، قال ابن عطية: الجنب مأخوذ من الجنب؛ لأنه [يمس*] جنبه جنب امرأته في ¬

_ (¬1) تم جبر هذا السقط، والخطأ في العبارة، من (البحر المحيط. 4/ 190).

(7)

الأغلب، ومن المجاورة والقرب، قال تعالى (وَالْجَارِ الْجُنُبِ)، ويحتمل أن يكون الجنب من البعد، ومنه [تجنب*] الشيَء إذا بعدت عنه، ورجح ابن عرفة هنا؛ لأنه يعم المحتلم والحائض والنفساء لإجماع العلماء على دخول الحائض في هذه الآية، فلو فسرناه بالقرب للزم فيه التخصيص، ولم يتناول شيئا من هذا، ابن عطية: ولذلك [رأى*] عمر بن للخطاب [وابن مسعود*]: أن الجنب لا يتيمم ألبتَّة [بل يدع*] (¬1) الصلاة حتى يجد الماء، قلنا: ومثله التلمساني في شرح الجلاب عن القاضي إسماعيل في كتاب الأحكام، ولم أره في كتب الفقه (أَوْ عَلَى سَفَرٍ) ولم يقل: أو مسافرين ليتناول من شرع في السفر ولم يبلغ مسافة السفر فإنه يقصر ويتيمم. قوله تعالى: (أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ). قال ابن رشد. الملامسة إنما تكون عن قصد؟ فلذلك يقال: تماس الحجران، ولا يقال: تلامس الحجران. ورده ابن عرفة بأن ذلك هو القصد إلى اللمس، وكلامنا هنا إلى القصد في اللذة فهو المشروط في الملامسة، قوله تعالى: (فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً). [مَن في يديه نجاسة] (¬2)، وعنده من الماء ما يكفيه لوضوئه أو لغسل النجاسة أنه لَا يجزئه التيمم؛ بل يتوضأ به. قيل لابن عرفة، لما كانت النجاسة في يديه استحقت ذلك الماء، فكأنه [فاقد*] للماء، فقال: ينبغي له أن لَا يتيمم حتى يغسل بذلك [الماء*] (¬3)؛ ليكون حينئذ المتيمم [فاقدا*] (¬4) للماء، وأما أن يتيمم قبل غسلها، ففيه نظر. قوله تعالى: (مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ) فيها دليل على إباحة التيمم للحاضر إذا خاف على نفسه من مس الماء من برد ونحوه؛ لأن فيه حرجا ومشقة. قوله تعالى: {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ ... (7)} ابن عرفة: أفرد النعمة وهي نعم متفاوتة. ¬

_ (¬1) تم جبر هذا السقط من (المحرر الوجيز. 2/ 164). (¬2) تم حذف هذه العبارة [يوجد أن] ليستقيم المعنى. والله أعلم. اهـ (مصحح نسخة الشاملة). (¬3) تم جبر السقط باجتهادٍ مني، وأسأل الله تعالى الصواب. اهـ (مصحح نسخة الشاملة). (¬4) تم جبر السقط باجتهادٍ مني، وأسأل الله تعالى الصواب. اهـ (مصحح نسخة الشاملة).

(8)

(وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ) فيه دليل على أن التيمم [يرفع الحدث*] على ما فسرناه من أن المراد [من*] التيمم زوال المانع [ ... ]. قوله تعالى: (وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ). ابن عرفة: أفرد النعمة وهي نعم متعددة؛ لعجز البعض عن الشكر على النعم بل عن النعمة الواحدة، فلا يستطيع أحد أن يؤدي الشكر على نعمه المتعددة، فالتكليف بالشكر على النعم تكليف بالمحال المتعذر عادة، أو المعنى المشتق. قوله تعالى: (وَاتَّقُوا اللَّهَ). على حذف مضاف تقديره: اتقوا عذاب الله، واتقوا حال ميثاق الله، أو نقض ميثاق الله، فإن قلت: ذكر النعمة مناسب لما سبق، من قوله تعالى: (مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ) فما مناسبته الميثاق، قلنا: إنما ذكره تنبيها للعبد أن يستحضر ما أخذه عليه النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم من التكاليف الشرعية أمرا ونهيا فيعمل بمقتضاها. قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ). ولم يقل: إن الله عالم، إما لكون هذا المعلوم فيما اختص به ولم يشاركه فيه أحد غيره، أو لعموم علمه وخصوص علمنا نحن. قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَئَانُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (8)} قال ابن عرفة: وقال في النساء (كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ)، وأجيب بأن هذه الآية المتقدم حقوق الله عز وجل، وهي اذكروا نعمة الله عليكم وميثاقه، والأمر بالتقوى، فناسب تقديم اسم الله تعالى، وهناك المتقدمات حقوق للآدميين كقوله تعالى: (وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا)، وقوله سبحانه وتعالى (وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ) فناسب البداية بالقسط. قال ابن عرفة: وتقدمنا نحن الجواب في ميعادنا أن هذه السلام بأن ابن التلمساني ذكر في شرح المعالم الدينية لما تكلم على النظر أن العلل أربعة: أحدها: العلة المادية، والعلة العادية، فالعلة المادية يعلل بها الأمر المحسوس الظاهر، والعادية

يعلل بها الأمر المعنوي، فالمادية يخاطب بها العوام، والعادية يخاطب بها الخواص وهذه هنا علة عادية، وهي أن يكون عدلهم لله؛ لأنها راجعة للنية، والنية أمر اعتقادي معنوي، فإن كانت هذه الآية نزلت بعد آية النساء فظاهر، وتقول: هي حينئذ خطاب للخواص، وإن كانت نزلت قبلها فيحتمل أن يكون الحاضرون حينئذ علماء فنزلت خطابا لهم، وأما تلك فهي خطاب للعوام بأن يكون حكمهم بالقسط فيبدأ فيها بالعلة المادية. قوله تعالى: (هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى). ابن عرفة: أقرب هنا بمعنى قريب بأنه لَا مشاركة بين العدل والجور في القرب للتقوى بوجهه ويؤخذ من الآية إذا تعارضت صفتان فترجح التي هي أعدل. قوله تعالى: (وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ). وقال مثله (إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ) هل هما بمعنى واحد أو بمعنيين. قال ابن عرفة: وتقدم لنا أنهما بمعنيين، فالأولى راجعة إلى علمه بالأمر الحالي، وهذه راجعة إلى علمه بالأمر الماضي؛ لأن خبيرا مشتق من الخبر، والخبر في الغالب إنما يكون عن الماضي لَا عن المستقبل بدليل إذا نظرنا ما سمع أحدنا من الأخبار فنجد أكثرنا يسمع منها المخبر عن ما مضى وخبر المستقبل يدل بالنسبة إلى الماضي، قيل له: ويتناول هذا المستقبل، لقوله (تَعْمَلُونَ) فقال: المستقبل إذا قدرنا وقوعه بما مضى منه وانقطع خبره وما بقي دائما حاليا فهو عام، قال ابن عرفة: وهذه الآية أبلغ من جهة أن مادة الخبر تقتضي الماضي، وقوله (بِمَا تَعْمَلُونَ) فمستقبل، فهو يتناول الماضي والمستقبل. وقوله تعالى: (عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ). إنما يتناول الحال فقط لكنه أبلغ من جهة تعلقه بالمعنى وهو ما في الصدور، وخبير بما تعملون إنما يتعلق بالأعمال المحسوسة الظاهرة، قيل لابن عرفة: قد قال الفخر: أن النية عمل واستثناء، من قوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم "إنما الأعمال بالنيات".

(9)

قال ابن عرفة: والخبر عند المحدثين والأصوليين مخالف للخبر عند النحويين [ ... ]. قوله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ... (9)} ابن عرفة: اختلفوا في الوعد على ثلاثة أقوال، فقيل: الوعد أعم يطلق على الخير والشر، وقيل: الإيعاد أعم والصحيح أن الوعد في الخير، والإيعاد في الشر. قوله تعالى: (مَغفِرَةٌ). ابن عرفة: فيه إشارة إلى أن وجود السيئات لَا تنافي ثبوت الحسنات، قيل له: إنما خالف المعتزلة في الكبائر، فقد يقال: أن المغفرة راجعة للصغائر، فقال: ألم أقل أن فيها حجة على المخالف وإبطالا لمذهبه، وإنما قلت: أنها دالة على أن مطلق السيئات لَا تنافي وجود الحسنات، ابن عرفة: فإِن قلت: لم قال (وَأَجْرٌ عَظِيمٌ) ولم يقل: مغفرة عظيمة؟ قال: فعادتهم يجيبون بأن ذلك إشارة إلى الحضّ على تكثير الأعمال الصالحة وتقليل السيئات، لأن كثرة الأجر والثواب يشعر بكثرة الحسنة، وتقليل المغفرة يشعر بقلة سبب متعلقها، ولو قيل: مغفرة عظيمة لأوهم كثرة الذنب المغفور بها. قوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا ... (10)} .. لما قال: (وَكَذَّبُوا)؛ لأن الكافر على قسمين: جاهل بالآيات، وكافر كفر بعد وضوح الآيات والمعجزات الدالة على صدق الرسول، كما أن العاصي في التعامل بالربا وأكل مال الغير على قسمين: فواحد يعلم أنه حرام ويقدم عليه، وآخر يجهل ذلك. قوله تعالى: (أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ) الإشارة بلفظ الخبر للتعظيم في بابه. قيل لابن عرفة: احتج بعضهم على المعتزلة في أن اسم الإشارة يقتضي الحصر، فدل على أن العاصي غير محله في النار؛ لأن المبتدأ منحصر في الخبر، فرده ابن عرفة بأن الخبر منها أعم من المبتدأ، ولفظ [الصحبة*] الصحيح عند المحدثين أنه لَا يصدق على من لازم صاحبه منهم أصحاب الجحيم الملازمين له فلا ينافي أن يكون غيرهم يدخل الجحيم ولا يدوم مكانه فيه.

(11)

قال ابن عرفة: وفي الآية حذف التقابل؛ لأنه ذكر في قسم المؤمنين الحكم بثواب عملهم، ولم يذكر ما به يقع الثواب، وذكر في قسم الكافرين ما به يقع العذاب، ولم يذكر الحكم بتعذيبهم فالتقدير: لهم مغفرة وأجر عظيم وهم أصحاب الجنة، والتقدير في الثاني: لهم عذاب أليم وهم أصحاب الجحيم. قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ ... (11)} قدم هنا المجرور على المفعول به، ثم قال (فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ) فقدم المفعول به على المجرور، فالجواب أن الآية خرجت مخرج التسلية للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم والامتنان على المؤمنين بأن الله تعالى لم يخذلهم ولم يمكن عدوهم منهم، وذكر مها جملتان: أحدهما محكية عن الكفار وهي مثبتة، فكان الأعم فيها تقديم الممنوع لَا تقديم الممنوع منه. قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ ... (12)} ابن عرفة: قالوا: وقعت قضية بني إسرائيل في القرآن مكررة مرتين وثلاثة، لوجهين: أحدهما: أنهم أهل كتاب فهم علماء وغيرهم بالنسبة إليهم عوام فكرر خطابهم؛ لأن خطاب العلماء يدخل في ضمنه العوام، قلت: واجتنابهم لأجل علمهم. الثاني: إذا علم من خالفهم أنه يعلم صحة دعواه أوقع ذلك في نفسه انفعالا وتأثرا وتأسفا وحزنا بخلاف إذا لم يعلم منه ذلك وجهله وهؤلاء علماء وكتابهم أشمل على صحة رسالة محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ومخالفتهم للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، والنصارى كانوا ببلد بعيد عنه. توقع في نفسه حزنا وتأسفا، فجاءت الآية تسلية له، فإن قلت: هلا خوطب بها النصارى؛ لأنهم أهل كتاب أيضا، قلنا: اليهود أقرب لمحل النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، والنصارى كانوا ببلد بعيد عنه. قوله تعالى: (مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ). أضيف الميثاق هنا إلى من هو عليه، وقال قبله (اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ) فأضاف الميثاق إلى من هو له.

قوله تعالى: (وَبَعَثْنَا). التفات وانتقال من الغيبة إلى المتكلم، وقوله تعالى: (وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا) قال ابن عطية: النقيب هو كبير القوم القائم بأمورهم، وقيل: هو الموالي عليهم، وقيل: هو الوالي عليهم من تحت السلطان الأعظم. ابن عرفة: وحكى لنا القاضي ابن عبد السلام أن الفقيه أبا القاسم ابن السيرافي لما ولي القضاء والتدريس على مدرسة الشماعين ودخلها جعل يسأل عن مجليها وألقابها، فقيل له: فيها الإمام، فقال الطلبة كلهم عدول من حضر منهم يوم قيل له وفيها الوفاد، قال: لَا حاجة إليه من أتى يشعل الفتيلة يشعل القنديل، قيل له: وفيها النقيب، فقال: إنما كانت النقباء في بني إسرائيل فهذا إسراف في الحبس، فأنكر ذلك عليه الطلبة وردوه بكلام ابن عطية هنا. قوله تعالى: (وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ). أي بعلمه وإحاطته وقدرته، وهذا وقع في القرآن في ثلاث آيات: إحداها هذه، والثانية: قوله تعالى في (طه) لموسى وهارون (قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى)، والثالثة: في المجادلة (مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ) إلى قوله تعالى: (هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ) هي في الآيتين الأولتين معية حفظ ونصر، وفي المجادلة معية إحاطة واطلاع على أعمالهم ليجازيهم عليها. ابن عرفة: واعتمد بعض النَّاس [ممن*] عليه حلية الفقراء، أن المعية بعلمه وذاته المنزهة عن [ ... ]، فأنكرت عليه التصريح بذلك للعوام، وإن كان صحيحا في نفسه، ومثلت له ذلك برجلين أعجميين أبكمين عاقلين يجتمعان في مجلس وهما في الحقيقة مفترقان، بخلاف رجلين صحيحين، فكل واحد منهما صحب الآخر بفهمه وعلمه، وإن كان بعيدا عنه، وقد تأول المقترح. قوله تعالى: (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ).

وقدم العلة هنا للاهتمام بها، كما قدمها في قوله تعالى: (عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ) فقوله (إِنِّي مَعَكُم) وعيد لهم ليكونوا على حذر من المعاصي. قوله تعالى: (وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي). أخر الإيمان في اللفظ، وهو مقدم على الصلاة والزكاة لهم أرسلت إليهم رسلا كثيرة فهو إشارة إلى أنكم لَا تنكروا رسالة رسول يأتي ينتج ما أنتم عليه من إيمان كان قبله. قوله تعالى: (وَعَزَّرْتُمُوهُمْ). التعزير من أسماء الأضداد، يطلق على التعظيم، وعلى التحقير، ومنه تعزير القاضي لأحد الخصمين. قوله تعالى: (وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا). قال: القرض حقيقة عرفية في المال، ويحتمل هنا حمله على حقيقته العرفية بأن يحمل على الصدقة بالمال أو عليها، أو على جميع الطاعات من الجهاد، والحج، وغير ذلك. قوله تعالى: (حَسَنًا). وصفه بالحسن إما باعتبار ذاته فهو حلال لَا خبث فيه، أو باعتبار سلامة صاحبه من الرياء، وكونه يفعله ليذكر بالصلاح والخير. قوله تعالى: (فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ). قال ابن عرفة: منهم من رجح كون من موصولة؛ لأن الجملة الجملية أصل للشرطية، ومنهم من رجح كونها شرطية؛ لأن الموصول يقتضي ثبوت الموضوع، والشرط لَا يدل على ثبوت المشروط، ولا على عدمه، قال الله تعالى (قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ) والمراد هنا الإبعاد عن الكفر لا ثبوته. قوله تعالى: (فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ).

(13)

قيل لابن عرفة: وكذلك من كفر قبل ذلك ضل عن مطلق السبيل لَا عن سواء السبيل؛ لأنه كفر قبل ظهور الدليل والمعجزات. قوله تعالى: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ ... (13)} ابن عرفة: ما زائدة للتأكيد، والزائد في القرآن كله لمعنى فهي نائبة مناب تكثير اللفظ أي فبنقضهم ميثاقهم. قوله تعالى: (لَعَنَّاهُمْ). قال الزمخشري: أي طردناهم وأخرجناهم من رحمتنا، وقيل: مسخناهم، وقيل: ضربنا عليهم الجزية. ابن عرفة: قوله: (مَسَخْنَاهُم) بأنه معنى يرجع إلى معنى الظرف ويكون المسخ في القرآن أي بسبب تعذيبهم في السبت، قال الله تعالى (فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ) وليس سببه نقضهم الميثاق. قوله تعالى: (قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ). ابن عرفة: فيها دليل لأهل الظاهر، وأجيب بأنا لَا نخرج اللفظ عن ظاهره إلا بدليل فلم يحرفه عن مواضعه، وإنما فيها رد على الباطنية، قالوا: وفيها رد على الصوفية الذين يحملون الألفاظ على خلاف غير ظاهرها، وأجيب بأنهم لَا يخرجونها عن الظاهر بالكلية بل يبقونها على ظاهرها ويريدون لها معنى آخر، يقولون: يحتمل أن يراد بها كذا، قالوا: وفيها دليل للمرجئة الذين أخذوا بظاهر حديث: من قال

(14)

لا إله إلا الله دخل الجنة قالوا: وفيها دليل القول بمنع نقل الحديث بالمعنى، وأجيب بأنا ننقله بالمعنى لدليل دال على ارتباط ذلك المعنى باللفظ فلم يحرفه عن مواضعه. قوله تعالى: (وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ). قال ابن عرفة: النسيان بمعنى الترك، وترك الشيء تارة يكون عمدا مع العلم، كقوله تعالى: (نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُم)، وتارة يكون عن الذهول عنه. قوله تعالى: (فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ). قال ابن عرفة: العفو عنده هو ذكر الذنب للمذنب مع عدم المؤاخذة به من أضل فالعطف تأسيس. قوله تعالى: {وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ... (14)} ابن عرفة: هذا إما معطوف علىِ قوله (مِنهُم) من قوله (خَائِنَةٍ مِنْهُمْ) فيكون من عطف المفردات، ومتعلق بـ (أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ) فيكون من عطف الجمل، وأتى بقوله (إِنَّا نَصَارَى) منسوبا إليهم توبيخا لهم وتنبيها على كذبهم في مقالته لاقتضائه نصرة دين الله وهم لم يفعلوا ذلك. ابن عرفة: والضمير في: (فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ) على أن العداوة لم تكن من أحدهم وإنما كانت من المجموع، والضمير في قوله تعالى: (وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ) كله. قوله تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا ... (15)} قال ابن عطية: الرسول إما موسى، أو محمد صلى الله عليهما وعلى آلهما وسلم. ابن عرفة: إن أريد به موسى فأهل الكتاب اليهود، وإن أريد به محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم فهم اليهود والنصارى.

(16)

قوله تعالى: (وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ). قال ابن المنير، وغيره: معناه أن الآيات التي أخبر بها قسمان فما يرجع منها إلى الأحكام بينه، أما وما يرجع إلى القصاص ونحوها أبقاه دون بيان، ولم يفضحهم فيه، فتعقبه ابن عرفة: بأنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم لم يترك شيئا من الوحي، وكل ما أنزل بلغه لنا ببينة، قال: وإنما المعنى أن الآيات التي أخفوها واقعا في كتبهم وبين بعضها، أما ولم يبين أنهم أخفوه وأنه في كتبهم، والمراد بالعفو عن كثير ترك فضيحتهم في ذلك، وليس المراد بالعفو عدم البيان إذ لَا يصح أن يقال فيما لم يبينه أنه عفا عن كثير. قوله تعالى: (قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ). قرينة دالة على أن الضمير في (يَعْفُو) عائد على النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم إذ لو كان عائدا على الله تعالى لقال: قد جاءكم منه نور وكتاب مبين. قال ابن عرفة: والنور إما للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، والكتاب المبين القرآن، وإما أن النور الكتاب، وقوله (وَكِتَابٌ مُبِينٌ) من عطف الصفات، فوصف الكتاب بكونه نورا وبكونه مبينا. ابن عرفة: وفي الآية على ما فسرته أنا اللف والنشر، فالنور راجع لقوله (يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ)، وقوله (وَكِتَابٌ مُبينٌ) راجع لقوله تعالى: (وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ)؛ لأن النور كاشف لما وراءه فكشفَ باعتبار معناه، وباعتبار محله، وكونه في كتبهم وأخفوه، وكونه كتابا مبينا إشارة إلى استبانة معناه فقط. قوله تعالى: {يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ ... (16)} ابن عرفة: المراد الهداية الأعمية وهي التمكن من الشيء، قال تعالى (إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا)، أو الهداية الأخصية فإن أريد الأخصية وهي الإرشاد إلى طريق الحق لزم تحصيل الحاصل؛ لأن تتبع الرضوان هذا فلا فائدة في هدايته، قال: وأجيب بكون المعنى أن من اهتدى للإيمان ببعض الرسل وعمل بما علم من شريعته، ثم أرسل إليه رسول آخر، فإن الله تعالى [ ... ] حصل عنده من العلم إلى الإيمان بهذا الرسول الثاني، وأن شريعته ناسخة لشريعة الرسول الذي كان قبله، فهي هداية أخصية مقولة بالتشكيك.

(17)

قيل لابن عرفة: كيف يفهم قوله تعالى: (يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ) مع أن الذي أرسل إليه الرسول الثاني بعد إيمانه بالأول لم يكن خبر إرسال الثاني في الظلمات، فقال: كان متمكنا لها وقائلا لها، وكان كفره بالثاني فكأنه حصل في الظلمات بناء على أن من ملك أن يملك يعد مالكا. قال ابن عرفة: فإِن قلت: هذا مشكل بما أجاب به الزمخشري، في قوله تعالى: في الأنعام (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ) قال: إنما أفرد النور وجمع الظلمات؛ لأن طرق الضلالة متعددة، وطريق الحق واحد، وهنا ينبغي تعدد طرق الحق، فأجاب ابن عرفة: بأن طرق الحق إن تعددت فهي موصلة لشيء واحد، وطرق الضلال إذا تعددت توصل إلى ضلالات متعددة؛ لأن أنواع الكفر متعددة كاليهود والنصارى والمجوس وغيرهم. قيل لابن عرفة: ما أفاد قوله تعالى: (وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) بعد قوله تعالى: (يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ) فأجاب بأن قواعد العقائد متعددة منها الإيمان بوجود الله تعالى، والإيمان بوحدانيته، وما يجب له وما يجوز له وما يستحيل في حقه، والإيمان ببعثه الرسل وكل ما جاءوا به، وبالمعاد والحشر والشر، فأفاد هذا الإيمان بالفروع، وأفاد الأول الإيمان بالصانع وبنفس رسالة الرسل. قوله تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ ... (17)} قال ابن عرفة: انظر إلى حيث مقالتهم كيف أتوا باللفظ الأبلغ من ثلاثة أوجه؛ لأن قولك: الخليفة أبو بكر أبلغ من قولك: أبو بكر الخليفة؛ لاقتضائه حصر الخلافة في أبي بكر. الثاني: البناء على الضمير. الثالث: التأكيد. قوله تعالى: (قُل فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيئًا). ابن عرفة: الفاء جواب شرط مقدر، أي إن كانوا ما قالوه حقا فمن ملك من الله شيئا، وهذا استدلال بمقدمة إما جملية، وإما شرطية فتقدير الجملية: كل قابل للهلاك غير الله والمسيح ابن مريم قابل للهلاك فليس بإله، وتقدير الشرطية: كله ما كان المسيح ابن مريم قابلا للهلاك كان غير إله فالمقدم حق فالثاني حق فالملازمة صحيحة. قوله تعالى: (وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا).

(18)

من عطف العام على الخاص، أي وأهل الأرض كلهم قابلون للإهلاك، والمسيح ابن مريم منهم فحكمه كحكمهم سواء. قوله تعالى: (وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ). كالدليل على الدليل أي الدليل على أن الله تعالى هو الملك القادر عليهم أنه ملك جميع من في السماوات ومن في الأرض. قوله تعالى: {نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ ... (18)} أي قالت اليهود: ونحن أبناء الله لَا غيرنا، وقالت النصارى: نحن أبناء الله لا غيرنا، فكل طائفة كذبت الأخرى في مقالتها، لأنهم أتوا بأداة الحصر وهي البناء على المضمر. قوله تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ ... (19)} ابن عرفة: اختلفوا هل خلا العصر من سمْعٍ أو لَا؟ حكاه ابن رشد والمازري من كتاب الجهاد، والآية دالة على أنه لم يخل من سمع، لقوله تعالى: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ) فلو خلا من سمع لما كانوا أهل الكتاب. قوله تعالى: (أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ). إن قلت: أول الآية مناقض لآخرها فأولها يقتضي أنهم أهل كتاب، فقد جاءهم البشير والنذير، فكيف يقال: إنه محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم جاءهم ليلا، يقولوا: ما جاءنا من بشير ولا نذير، قال: والجواب أنه إشارة إلى مغالطتهم، وأنهم لو لم يبعث إليهم محمدا صلى الله عليه وعلى آله وسلم لأنكروا بعث الرسل؛ لأن إنكار الإنسان لما هو غائب عنه لم يتوصل إليه بالسماع أشد وأقرب من [إنكاره*] لما هو حاضر بين عينيه، يشاهده ويراه في كل وقت. قوله تعالى: (وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).

(20)

أي قادر على إعادتكم وحشركم، أو قادر على تنعيم من بشر فاهتدى، وتعذيب من أنذر فتعنت ولم ينزجر. قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ ... (20)} زاد هنا (يَا قَومِ)، وفي سورة إبراهيم (وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ) فأسقط هنالك يا قوم. قال ابن عرفة: وسبب ذلك أن التكليف إن كان بأمر خفيف لم يقع فيه إطناب ولا تأكيد، وإن كان بأمر مشق أتى فيه بالنداء، كما إذا أراد الأب من ابنه أمرا مشقا، فإنه يقول له: يا ولدي، افعل كذا بخلاف ما إذا كلفه بأمر خفيف فإِنه لَا يناديه كذلك، قلت: وأجاب أبو جعفر بن الزبير بأنه اعتمد في الفائدة على تذكيرهم بأنواع النعم من جعل الأنبياء فيهم وجعلهم ملوكا، وإعطائهم ما لم يعط غيرهم، وكان ذلك تشريفا باعتناء الله بهم وتفضيلهم على من عاصرهم، فناسب نداء موسى لهم يا قوم فالإضافة إلى ضميرهم إشعارا بالقرب والمزية، ولما اقتصر في سورة إبراهيم على تذكيرهم فنجاتهم من آل فرعون، وما كان يتوهم فيمن ذبح ذكور أبنائهم، واستحيا بناتهم ولم يذكر منها شيء من هذا فناسب الاقتصار على خطاياهم دون النداء يا قوم. قوله تعالى: (وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ). قال ابن عرفة: إن أريد بالمؤتى الأنبياء فالعالمين عام في النَّاس كلهم، أي وأرسل إليكم من الأنبياء ما لم يرسله لأحد من العالمين، وإن أريد بالمؤتى المعجزات فالعالمين هم عالمون زمانهم؛ لأن معجزات نبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم أعظم من معجزات موسى، وأتى بقوله (يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ) قال ابن عرفة: أتى به غير معطوف لمغايرة هذه الجملة لما قبلها، فالأول خبر وتذكير بنعم الله عليهم، وهذه تكليف وأمر لهم، وتقدير هذه الأرض إما في الدنيا بكثرة خيراتها ونعيمها، وإما في الآخرة بكثرة ثواب الأعمال فيها؛ لأن فيها بيت المقدس. قوله تعالى: {التِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُم (21)} تحريض وحث على دخولها بمعنى أنكم لَا بد لكم من دخولها؛ لأن ذلك مقدر عليكم مكتوب في علم الله تعالى. قوله تعالى: (وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ) لما كانوا في مقام الامتنان بهذا فكانوا حاصلون فيه، فإن لم يمتثلوا صاروا كأنهم ارتدوا على أدبارهم.

(22)

قوله تعالى: {قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ ... (22)} ابن عرفة: انظر إلى شدة هلعهم وخوفهم وتكاسلهم وعدم وثوقهم بما وعدهم موسى من أنهم لو مضوا إليها [لدخلوها حتما، وظفروا*] بأهلها، فجعلوا المانع لهم من دخولها وجود مطلق قوم جبارين فيها فضلا عن أن يكون أهلها كلهم جبارين حتى عرض منها بالغوا في الامتناع من الدخول بنفيهم الدخول بكلمة لن [وجعلوا النفي مغيا*] بحتى المقتضية لدخول ما بعدها فيما قبلها، فإِن قلت: ما أفاد قوله تعالى: (فَإِن يَخْرُجُوا) مع أن مفهوم [الجملة الغائية*] تقتضيه؟ فالجواب: أنه أفاد تأكيدهم دخولهم لها بأن مع الجملة الاسمية المقتضية لكمال دخولهم لها بعد ذلك وثبوته ولزومه. قيل لابن عرفة: وأراد نفي ما يتوهم من دخول ما بعد حتى فيما قبلها، كما قلتم: أكلت السمكة حتى رأسها فيتوهم أنهم قصدوا نفي الدخول أبدا. قوله تعالى: {ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ ... (23)} ولم يقل: ادخلوا إشارة إلى الأمر بقتالهم حتى تهزمونهم فيلجأون إلى باب المدينة فيدخلون عليهم. قوله تعالى: {لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ ... (28)} قال الزمخشري: هلا اكتفى بجواب الشرط منفيا بلفظ المستقبل؛ كما أتى في الشرط مثبتا بلفظ الفعل، وأجاب بجواب لَا [ينهض*] وهو أن قال: إنما جاء هكذا ليفيد أنه لَا يفعل ما [يكتسب*] به هذا الوصف [الشنيع*]، ولذلك أكده باللام المؤكدة للنفي، وأجاب ابن عرفة بوجهين: الأول: أن الأمر الثابت الواقع لَا يندفع إلا بالأمر القوي البليغ، ونفي بسط اليد للقتل يتقرر ثبوته بأحد أمرين: أحدهما: نفي بسط اليد من أصل الكف، والمدافعة [ ... ] عن بسطها للقتل فنفاهما بالأمر الأبلغ ليثبت نقيضه، وهو قتل أخيه إياه. الوجه الثاني: أنه نفى بسط يده إليه ليقتله فلذلك نفاه بالاسم، ونفى بسط يده إليه ليكف عن نفسه ويدافعه إشعارا بأنه لَا يقتله. قوله تعالى: (إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ).

(30)

إنه تعريض لأخيه الاقاتل بأنه لَا يخاف الله. قوله تعالى: {فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ ... (30)} وقرئ فطاعت له نفسه فقراءة (طوعت) يقتضي أن نفسه سولت له القتل، وقراءة (طاعت) تقتضي أن القتل حمل نفسه على اقتحامه ودعاها إليه فانطاعت له. قوله تعالى: (فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ). أي صار، ابن عطية: أقيم بعض الزمان مقام كله، وخص الصباح به؛ لأنه أول النهار والانبعاث إلى الأمور ومظنة النشاط، ورده أبو حيان بأنهم جعلوا أضحى، وظل، وبات بمعنى صار وليس شيء منها بدأ النهار، فكما أجريت هذه مجرى صار كذلك أصبح لَا للعلة التي ذكر ابن عطية، وأجاب السفاقسي في كلام ابن عطية ما يدل على منع استعمال غيرها بمعنى صار بل ذكر توجيها حسنا لبقاء أصبح على معناها من الزمان من أنها يجوز لها إلى استعمالها في كله من باب استعمال جزء في الكل، وهو أحسن من استعمالها بمعنى صار، لأنه إخراج لها عن معناها بالكلية، ورده شيخنا ابن عرفة [باحتمال*] أن يكون من استعمال اللفظ المشترك في أحد مفهوماته] ولا خلاف في أنه حقيقة لَا مجازا، وقد صح استعماله أصبح بمعنى صار. قوله تعالى: {قَالَ يَا وَيْلَتَى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي ... (31)} الجمهور بنصب الفاء عطفا على قوله (أَن أَكُونَ) وقال الزمخشري: إنه منصوب على جواب الاستفهام، ورده أبو حيان بأن شرط ما ينتصب جوابا بعد الفاء بأن يستند منه مع ما هو جواب له شرط وخبر، كقوله تعالى: (فَهَل لَنَا مِن شُفَعَاءَ فَيَشفَعُوا لَنَا) أي أن يكون لنا شفعاء فيشفعوا لنا، ولو قلنا هنا: إن عجزت أن أكون مثل هذا الغراب أواري سوأة أخي لم يصح، وأجاب ابن عرفة بأن ما هو في سياق الاستفهام كالاستفهام، وما هو في سياق الشرط كالشرط، وإنما التقدير هنا: أن أكون مثل هذا الغراب أواري سوأة أخي. قوله تعالى: (فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ). قال أبو حيان: قبله جملة محذوفة أي: يواري سوأة أخيه فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ. ابن عرفة: كتب عليه قبلهم لَا حاجة إلى هذا الإضمار؛ لأن ندمه ليس هو على المواراة إنما هو على قتله أخاه وحمله إياه على عاتقه عاما كاملا وهربه حتى بعث الله إليه الغراب، فالمراد إزالة الندم؛ لأنها سبب فيه، وأجاب بعضهم بما قال الزمخشري

(33)

أنه ندم على تلمذة الغراب واتباعه إياه في تقليده له المواراة فيندم على المواراة الموجبة لتلمذة الغراب. قوله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ... (33)} قال ابن عرفة: أي يحاربون عباد الله فهو على حذف مضاف، أو يكون عبر باسم الله تعالى على عباده تشريفا لهم وتعظيما لهم؛ لأجل محاربتهم لهم فيكون مجازا فيتعارض المجاز والإضمار، وفيها ثلاثة أقوال ثالثها لرضي الدين النيسابوري: أنهما سواء، ابن رشد: محاربة الله ورسوله عصيانهما بإضاقة السبيل هو السعي في الأرض فسادا هو المراد بعينها، ولكنه كرر تخيير لفظه تأكيدا وتعجبا، كقوله تعالى: حكاية عن يعقوب عليه السلام (إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ) والبث والحزن شيء واحد، وكقول الشاعر: وهند أتى من دونها النأي والبعد المحاربة مع الرسول ممكنة، ومحاربة الله لَا تمكن؛ فيحمل على أولياء الله، فيكون [يحاربون*] [قولا*] على الحقيقة والمجاز معا، وهو ممتنع، وأجيب بأن المعنى يخافون أحكام الله ورسوله، ابن عبد السلام: المتقدمون يذكرون الخلاف بين العلماء هل لفظة (أو) فيها [للتخيير] [ولَا ينسبون*] إلى مذهب التخيير وهو كذلك إلا أنهم إذا ذكروا التخيير، يقولون: إن الإمام لم يعين بعض هذه العقوبات بمجرد الهوى، ولكن على قدر الجناية، فيخرج التخيير عن حقيقته فيعود (أو) للتفصيل لبعض الأقوال على [أن*] في الآية ليست في التخيير. قوله تعالى: (وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا). عطف تفسيري مثل (وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ) قال ابن رشد في المقدمات في تلك الآية: أي ويسعون في الأرض فسادا بالحرابة فهو عظف أعم على أخص له ومقيد له لَا أنه يفيد أن السارق يقتل، وأن الظالم يقتل، قال ابن العربي: ووقعت مسألة في محارب حارب قوما وقاتلهم على امرأة ليتمكن من الزنا بها، وأفتى العلماء أنه غير محارب، قال: وهو جهل عظيم بالله وبالمسلمين، كيف يقال: هذا غير محارب مع أن مفسدة الزنا أشد من مفسدة أخذ المال، ورده ابن عرفة: بأنه لو حاربهم لقتلهم فقط لعداوة بينه وبينهم لم يكن محاربا

(35)

بل يعاقب عقوبة غير المحارب، وكذلك من يعادي رجلا يلقاه في رفقة فيقاتلهم ليتمكن من عدوه فإِنه ليس بمحارب. قيل لابن عرفة: هذا في المعنى فلو كان من شأنه الوقف في الطرقات لمجرد القتل فقط دون أخذ المال فهل هذا محارب، قال: إنما الحرابة القتال لأخذ المال. قال ابن عرفة: وكان سارق في مدة الأمير أبي بكر سرق من رأس الطابية شيئا فصلبه السلطان معكوسا حتى مات. قوله تعالى: (ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا). قيل لابن عرفة: احتجوا بها على القول بالإحباط، قالوا: المحارب مجزءا ولا شيء من المسلمين بمجزءا فلا شيء من المحاربين بمسلم. قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ ... (35)} لما تضمن الكلام السابق النهي عن المحارب أتت هذه الآية مشعرة بأنكم لا تنصروا على اجتناب المحرمات فقط بل افعلوا أيضا مع ذلك الأمور التي أمرتم بها لتكون وسيلة عند الله تعالى. قوله تعالى: {لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ ... (36)} قال الزمخشري: يجوز أن يكون (وَمِثلَهُ) مفعولا معه، والعامل فيه ثبت الرافع؛ (¬1)، وتعقبه أبو حيان (¬2) بأن الضمير في (معه) إن عاد على (ما) [فهو تكرار*] أي مع ما في الأرض معه، وإن عاد على [(مثله) *] كان عيًّا من الكلام؛ لأن المعنى مثل ما في الأرض مع مثله، أي مصاحبا للمثل، فيكون مع مثله، وأجاب المختصر بأنه إذا صحب المثل لوجود ما في الأرض، فقد صحب ما في الأرض؛ لأن وجود الشيء نفسه، قلت: قال ابن القصار: ولو سلمنا أن وجود الشيء غيره فلا يضر؛ لأن المضاف إذا كان جزءا من المضاف إليه أو كجزئه عومل معاملته في الحكم كقوله: [وَتشرقُ بالقولِ الذي قَدْ ادَعْتهُ ... كما شَرِقَتْ صدر القَناةِ من الدَّمِ*] أبو حيان: وقوله: والعامل فيه ثبت الرافع؛ لأن وصلتها، [وهو*] مذهب المبرد فيما يقع بعد (لو)، وسيبويه يجعل [ما بعد لو*] مبتدأ، قلت: قال ابن القصار: المنقول عن سيبويه غير هذا [ ... ] ¬

_ (¬1) النص في الكشاف هكذا: "فإن قلت: لم وحد الراجع في قوله: (لِيَفْتَدُوا بِهِ) وقد ذكر شيئان؟ قلت: نحو قوله: فَإنِّى وَقَيَّارٌ بِهَا لَغَرِيبُ أو على إجراء الضمير مجرى اسم الإشارة، كأنه قيل: ليفتدوا بذلك. ويجوز أن يكون الواو في: (مِثْلَهُ) بمعنى «مع» فيتوحد المرجوع إليه. فإن قلت: فبم ينصب المفعول معه؟ قلت: بما يستدعيه «لو» من الفعل، لأن التقدير: لو ثبت أن لهم ما في الأرض". اهـ (الكشاف. 1/ 630). (¬2) النص في البحر المحيط هكذا: "وَإِنَّمَا يُوَحَّدُ الضَّمِيرُ لِأَنَّ حُكْمَ مَا قَبْلَ الْمَفْعُولِ مَعَهُ فِي الْخَبَرِ، وَالْحَالِ، وَعَوْدِ الضَّمِيرِ مُتَأَخِّرًا حُكْمُهُ مُتَقَدِّمًا، تَقُولُ: الْمَاءُ وَالْخَشَبَةُ اسْتَوَى، كَمَا تَقُولُ: الْمَاءُ اسْتَوَى وَالْخَشَبَةُ وَقَدْ أَجَازَ الْأَخْفَشِ فِي ذَلِكَ أَنْ يُعْطَى حُكْمَ الْمَعْطُوفِ فَتَقُولَ: الْمَاءُ مَعَ الْخَشَبَةِ اسْتَوَيَا، وَمَنَعَ ذَلِكَ ابْنُ كَيْسَانَ. وَقَوْلُ الزَّمَخْشَرِيِّ: تكون الواو في: ومثله، بِمَعْنَى مَعَ لَيْسَ بِشَيْءٍ، لِأَنَّهُ يَصِيرُ التَّقْدِيرُ مَعَ مِثْلِهِ مَعَهُ، أَيْ: مَعَ مِثْلِ مَا فِي الْأَرْضِ مَعَ مَا فِي الْأَرْضِ، إِنْ جَعَلْتَ الضَّمِيرَ فِي مَعَهُ عَائِدًا عَلَى مِثْلَهُ أَيْ: مَعَ مِثْلِهِ مَعَ ذَلِكَ الْمِثْلِ، فَيَكُونُ الْمَعْنَى مَعَ مِثْلَيْنِ. فَالتَّعْبِيرُ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى بِتِلْكَ الْعِبَارَةِ عَيٌّ، إِذِ الْكَلَامُ الْمُنْتَظِمُ أَنْ يَكُونَ التَّرْكِيبُ إِذَا أُرِيدَ ذَلِكَ الْمَعْنَى مَعَ مِثْلَيْهِ. وَقَوْلُ الزَّمَخْشَرِيُّ. فَإِنْ قُلْتَ إِلَى آخَرِ السُّؤَالِ، وَهَذَا السُّؤَالُ لَا يُرَدُّ، لِأَنَّا قَدْ بَيَّنَّا فَسَادَ أَنْ تَكُونَ الْوَاوُ وَاوَ مَعَ، وَعَلَى تَقْدِيرِ وُرُودِهِ فَهَذَا بِنَاءٌ مِنْهُ عَلَى أَنَّ الْوَاوَ إِذَا جَاءَتْ بَعْدَ لَوْ كَانَتْ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ عَلَى الْفَاعِلِيَّةِ، فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ عَلَى هَذَا: لَوْ ثَبَتَ كَيْنُونَةُ مَا فِي الْأَرْضِ مَعَ مِثْلِهِ لَهُمْ لِيَفْتَدُوا بِهِ، فَيَكُونُ الضَّمِيرُ عَائِدًا عَلَى مَا فَقَطْ. وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ هُوَ تَفْرِيعٌ مِنْهُ عَلَى مَذْهَبِ الْمُبَرِّدِ فِي أَنَّ أَنَّ بَعْدَ لَوْ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ عَلَى الْفَاعِلِيَّةِ، وَهُوَ مَذْهَبٌ مَرْجُوحٌ. وَمَذْهَبُ سيبويه إِنَّ أَنَّ بَعْدَ لَوْ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ عَلَى الِابْتِدَاءِ. وَالزَّمَخْشَرِيُّ لَا يَظْهَرُ مِنْ كَلَامِهِ فِي هَذَا الْكِتَابِ وَفِي تَصَانِيفِهِ أَنَّهُ وَقَفَ عَلَى مَذْهَبِ سِيبَوَيْهِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَعَلَى التَّفْرِيعِ عَلَى مَذْهَبِ الْمُبَرِّدِ لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ وَمِثْلَهُ مَفْعُولًا مَعَهُ، وَيَكُونُ الْعَامِلُ فِيهِ مَا ذَكَرَ مِنَ الْفِعْلِ، وَهُوَ ثَبَتَ بِوَسَاطَةِ الْوَاوِ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ وُجُودِ لَفْظِ مَعَهُ. وَعَلَى تَقْدِيرِ سُقُوطِهَا لَا يَصِحُّ، لِأَنَّ ثَبَتَ لَيْسَتْ رَافِعَةً لِمَا الْعَائِدِ عَلَيْهَا الضَّمِيرُ، وَإِنَّمَا هِيَ رَافِعَةٌ مَصْدَرًا مُنْسَبِكًا مِنْ أَنْ وَمَا بَعْدَهَا وَهُوَ كَوْنُ، إِذِ التَّقْدِيرُ: لَوْ كَوْنُ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا لَهُمْ وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ، وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلَى مَا دُونُ الْكَوْنِ. فَالرَّافِعُ لِلْفَاعِلِ غَيْرُ النَّاصِبِ لِلْمَفْعُولِ مَعَهُ، إِذْ لَوْ كَانَ إِيَّاهُ لَلَزِمَ مِنْ ذَلِكَ وُجُودُ الثُّبُوتِ مُصَاحِبًا لِلْمِثْلِ، وَالْمَعْنَى: عَلَى كَيْنُونَةِ مَا فِي الْأَرْضِ مُصَاحِبًا لِلْمِثْلِ، لَا عَلَى ثُبُوتِ ذَلِكَ مُصَاحِبًا لِلْمِثْلِ، وَهَذَا فِيهِ غُمُوضٌ، وَبَيَانُهُ، أَنَّكَ إِذَا قُلْتَ: يُعْجِبُنِي قِيَامُ زَيْدٍ وعمر، أَوْ جَعَلْتَ عَمْرًا مَفْعُولًا مَعَهُ، وَالْعَامِلُ فِيهِ يُعْجِبُنِي، لَزِمَ مِنْ ذَلِكَ أَنْ عَمْرًا لَمْ يَقُمْ، وَأَنَّهُ أَعْجَبَكَ الْقِيَامُ وَعَمْرٌو، وَإِنْ جَعَلْتَ الْعَامِلَ فِيهِ الْقِيَامَ كَانَ عَمْرٌو قَائِمًا، وَكَانَ الْإِعْجَابُ قَدْ تَعَلَّقَ بِالْقِيَامِ مُصَاحِبًا لِقِيَامِ عَمْرٍو. (فَإِنْ قُلْتَ): هَلَّا، كَانَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ مَفْعُولًا مَعَهُ، وَالْعَامِلُ فِيهِ هُوَ الْعَامِلُ فِي لَهُمْ، إِذِ الْمَعْنَى عَلَيْهِ. (قُلْتُ): لَا يَصِحُّ ذَلِكَ لِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ وُجُودِ مَعَهُ فِي الْجُمْلَةِ، وَعَلَى تَقْدِيرِ سُقُوطِهَا لَا يَصِحُّ لِأَنَّهُمْ نَصُّوا عَلَى أَنَّ قَوْلَكَ: هَذَا لَكَ وَأَبَاكَ مَمْنُوعٌ فِي الِاخْتِيَارِ. وَقَالَ سِيبَوَيْهِ: وَأَمَّا هَذَا لَكَ وَأَبَاكَ، فَقَبِيحٌ لِأَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ فِعْلًا وَلَا حَرْفًا فِيهِ مَعْنَى فِعْلٍ حَتَّى يَصِيرَ كَأَنَّهُ قَدْ تَكَلَّمَ بِالْفِعْلِ، فَأَفْصَحَ سِيبَوَيْهِ بِأَنَّ اسْمَ الْإِشَارَةِ وَحَرْفَ الْجَرِّ الْمُتَضَمِّنِ مَعْنَى الِاسْتِقْرَارِ لَا يَعْمَلَانِ فِي الْمَفْعُولِ مَعَهُ، وَلَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا يَجُوزُ أَنْ يَنْتَصِبَ الْمَفْعُولُ مَعَهُ لَخُيِّرَ بَيْنَ أَنْ يَنْسُبَ الْعَمَلَ لِاسْمِ الْإِشَارَةِ أَوْ لِحَرْفِ الْجَرِّ. وَقَدْ أَجَازَ بَعْضُ النَّحْوِيِّينَ أَنْ يَعْمَلَ فِي الْمَفْعُولِ مَعَهُ الظَّرْفُ وَحَرْفُ الْجَرِّ، فَعَلَى هَذَا الْمَذْهَبِ يَجُوزُ لَوْ كَانَتِ الْجُمْلَةُ خَالِيَةً مِنْ قَوْلِهِ: مَعَهُ، أَنْ يَكُونَ وَمِثْلَهُ مَفْعُولًا مَعَهُ عَلَى أَنَّ الْعَامِلَ فِيهِ هُوَ الْعَامِلُ فِي لَهُمْ". اهـ (البحر المحيط. 4/ 243، 244).

(45)

قوله تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (45)} ابن عرفة: مذهب أبي حنيفة أن الحر يقتل بالعبد، ويقتل العبد بالحر عملا بظاهر عموم هذه الآية، ومذهب مالك أن العبد يقتل بالحر ولا يقتل الحر بالعبد، لقوله تعالى: (الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى) لكن يرد علينا بأن ظاهر الآية أن الأنثى لَا تقتل بالذكرَ ولا العكس فيجيب بالحديث، فإِن قلت: لم خصت هذه الأمور دون اليد وغيرها من الأعضاء؟، قلنا: لشرفها بالنسبة إلى ربها، فإن قلت: لم أفردت هذه الألفاظ وجمعت الجروح؟، قلنا: ظنا لإمكان تعددها في الشخص الواحد بخلاف تلك. قوله تعالى: (وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ). قرئ بضم النون فأعربه الزمخشري عطفا على الضمير المرفوع في (بِالنفسِ) أي مأخوذة في النفس هي، والعين يكون بالعين حالا، ورده أبو حيان بأنه ضمير رفع متصل فلا يعطفه عليه إلا بعد تأكده، [والفصل*] مثل: [لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا*]، وقال الفارسي، وغيره: لَا وصل فيه ولم يعتبر (لَا)، وأجاب أبو حيان: والمختصر بأنها معتبرة، قلت: وزاد الشيخ أبو العباس أحمد بن محمد ابن القصار في التعقب أنه بعيد من جهة المعنى؛ لأنه يكون المعنى أن النفس مأخوذة هي والعين بالنفس فتكون العين مأخوذة بالنفس حالة كونها قصاصا في العين، ومنهم من يجعلها عطفا على التوهم، وهو أنه يتوهم حذف أن والنفس لمرفوع، ورده أبو حيان بأن العطف على التوهم مخصوص بالشعر، وأجاب الأستاذ أبو العباس ابن القصار، أنهم قالوا في قوله تعالى: (فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ) بجزم أكن عطفا على أصدق متوهما حذف الفاء وأنه مجزوم في جواب الغرض المضمر معها الشرط، قال ابن القصار: والصواب عندي غير هذا كله، وهو أن يكون (النَّفْسَ بِالنَّفْسِ) منصوب على المفعول، (وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ) معطوف عليه على سبيل الحكاية، ولم يحكِ الأول؛ لأنه مفرد في المعنىَ تقديره: كتبنا عليهم كون النفس بالنفس، والثاني جملة والحكاية كما تقول: قرأت براءة وقرأت الحمد لله رب العالمين، انتهى. ولما ذكر أبو حيان قراءة (وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ) بالرفع إذا اختلف فيه، فقيل: من عطف الجمل فهو على موضع أن، ورده بعدم المجرور، وأجاب ابن عرفة: بأن عطف الجمل لَا يقال فيه على الموضع؛ لأن ذلك جائز بقول: خرج عمرو وزيد قائم، قال: وقيل معطوف على الضمير المرفوع في (بِالنفسِ)، ورده بأنه ضمير متصل فالعطف عليه من غير تأكيد ولا طول لَا يجوز، بخلاف قوله تعالى:

(إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ) قال أبو حيان: وقول من قال: إن الفصل ولو بلا يجوز للعطف على الضمير المتصل، مستدلا بقوله تعالى: (مَا أَشْرَكنَا وَلَا آبَاؤُنَا) غير صحيح لَا يشترط الفصل إلا بين المعطوف عليه وبين حرف العطف، ولا في قوله (وَلَا آبَاؤُنَا) وأتت (لَا بين) حرف العطف والمعطوف. قال ابن عرفة: هذا لَا يصح؛ لأن سيبويه قد قال ويقول: زيد قام هو وعمرو لا يجوز العطف حتى يفصل بين المعطوف والمعطوف عليه، وكلامه يقتضي الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه لَا بينه وبين حرف العطف، وقد وجه السراج لسيبويه العطف إلا بعد التأكيد أو الطول بأن الضمير لشدة اتصاله بالفعل صار كالجزء منه فلم يكن ثم ما يعطف عليه، ولا يشترط الفعل إلا قبل المعطوف لَا قبل حرف العطف، فإن لَا قبل المعطوف بعد ذلك حاصلا لكنه فيه وجه آخر يمنعه، وهو أن يكون أخذ العين بالعين وما بعده مرتبا على قتل النفس بالنفس فإِنه معطوف على ضمير وما هو خبر عنه وليس كذلك، قلت: وقال ابن عرفة في الختمة الأولى: (الْعَينَ بالعَينِ) قيل: حال، ورد أبو حيان بأنها حال لازمة والحال من شرطها الانتقال، وأَجاز ابن عرفة بأن النحاة أجازوا ضربني زيدا قائما، وأكثر السويق ملتوتا، وكلاهما لازمة. قال ابن عرفة: وإنما رده عندي أنه يقتضي أن العين تبقى بالنفس؛ لأنك إذا قلت: قام زيد في الدار وعمرو، فالمعنى وعمرو في الدار وليس المعنى وعمرو في السوق. قوله تعالى: (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ). قلت: تقدم لابن عرفة فيها أن هذا أبلغ من أن لو قيل: من حكم بغير ما أنزل الله فإِن الآية تتناول من يحكم بالباطل وحكم بالحق، أو ترك الحكم وانظر هل المراد الحكم اللغوي فيتناول المعنى الظاهر عندي أن هذا الوعيد الخاص إنما هو للحاكم؛ لأنه يجبر الخصم على فعل ما حكم، والحكم به بخلاف المعنى. قيل لابن عرفة: فمن حكم بالقياس، فقال: هو مما أنزل الله؛ لأنه يستند إلى المتبوع وجاء في الحديث ما يقتضي العمل به، قال أبو جعفر بن الزبير: فيها سؤالان: الأول: قال في الأولى (فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ)، وفي الثانية (هُمُ الظَّالِمُونَ)، وفي الثالث (هُمُ الْفَاسِقُونَ). الثاني: كيف ورد الأخف بعد الأثقل، وآية الوعيد يقصد فيها الترقي من الأخف إلى الأثقل ثم نقل عن بعضهم أنه أجاب عن الأول بأنه لما تقدمها (فَلا تَخشَوُا النَّاسَ

(46)

وَاخشَونِ) وعدم خشية الله تقصير فيما يجب وجحد الواجب له فعقبه بقوله (هُمُ الْكَافِرُونَ)، والثانية قبلها (وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا) وهي حقوق متعلقة بالنفوس والوقوع فيها أظلم، قال: وأشار الزمخشري في [وجه*] الترتيب، بأن عددهم المرادون بهذه الأوصاف اليهود فالكافرون، والظالمون وصف لهم بالعتو في أمرهم حين ظلموا بالاستهانة وتمردوا، فالاستهانة شدة ظلمهم، وظلمهم المسبب عنها بعد كفرهم أشد من الكفر، ثم إن التمرد المعبر عنه في الآية بالمعنى الأشد من الاستهانة، لأن [التمرد*] يقتضي تعمد الفعل فهذا وجه الترقي في الوعيد، وأجاب [الفخر*] ابن الخطيب بأن الظلم في الآية الثانية واقع عن الكفر وزيادة الظلم فهو أشد من الكفر مجردا؛ لأن الأولى قبلها (فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا) فلم يتقدمها غير مجرد ظلمهم لأنفسهم، والثانية فيها ظلمهم لأنفسهم ولغيرهم لمخالفتهم في القصاص فكانت أشد، ثم عقبها بالفسق؛ لأن الحكم بغير ما أنزل الله قد يقع من غير الكافر فجعل الظلم والكفر خاصا باليهود، والفسق يعمهم مع غيرهم، وأجاب الزبير بأنها كلها في اليهود لكن الأول كفر، والثاني كفر وظلم فهو أشد لكن الظلم يقع على الصغيرة والكبيرة، والفسق لم يرد في القرآن واقعا على صغيرة ونظيره ثابت، فالفسق كفر وظلم وزيادة لَا يقع إلا على المتوغل في الكفر، وقد وصف به إبليس فهو أشد. قوله تعالى: {وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ... (46)} قال السهيلي: إنما [نعتت*] مريم في القرآن [بابنها بخلاف غيرها*]؛ لأن عادة العرب أن يجحدوا أسماء النساء الحرائر غيرة عليهن، ويعينون أسماء الإماء، وكان الكفار يعتقدون في مريم أنها زوجته، وأن عيسى [ولده*]، فعين اسمها رادا عليهم، ونسبها على أنها مملوكة لله عز وجل، فرده ابن عرفة بأن الأمة على نوعين: موطوءة، وغير موطوءة، قال: وإنما الجواب أنها [نعتت*] تشريفا لها. قوله تعالى: {وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ ... (47)} قال ابن عرفة: إن أريد الحكم حقيقة فيكون خطابا للخواص، وإن أريد العمل بذلك فيكون خطابا للعوام. قوله تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا ... (48)} قال ابن عرفة: يحتمل عندي أن يكون الشرعة الطريق، والمنهاج منهاجها ومقصدها الذي يوصل إليه. قوله تعالى: (فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ).

(49)

احتج بها ابن حزم على إبطال القياس، وأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم غير مجتهد لإمكان وجود النص عنده إذا طلبه قوله تعالى: (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ). أي: ليختبركم فيما آتاكم من الشريعة المنسوخة [فيعكفون عليها*]، ويعتقدون أنها غير منسوخة. قوله تعالى: (فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ). قال ابن عرفة: المعنى أن كل واحد منهم مكلف بأن سبق صاحبه إلى ذلك، والآخر كذلك، وهذا محال، فقال: السابق في الأمر أحدهما، وفي الظاهر كل واحد منهما يمكن أن يسبق صاحبه، فكلفا معا بما هو ممكن في الظاهر. قوله تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ ... (49)} قال ابن عرفة: كان بعضهم يقول معناها: لَا تتبع أهواءهم على البدلية لَا على المعية، أي لَا تتبع أهواء كل طائفة منهم بدلا من أهواء الأخرى. لأن أهواءهم جمع هوى وهو اسم جنس واسم الجنس لَا يجمع إلا اختلفت أنواعه، واتباع الهوى المختلفة غير المعينة جمع بين النقيضين فهو محال، والتكليف بالمحال محال إذ لا يجوز أن يقول لأحد: لَا تكرم زيدا ولا تجمع بين النقيضين؛ لأن ذلك محال. قوله تعالى: (وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ). قال ابن العربي: المراد عن كله، رواه ابن عرفة بأن الأمر بالحذر منهم عن الفتنة في البعض يستلزم الحذر عن الفتنة في الكل من باب أحرى. قوله تعالى: {وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا ... (53)} قرأ نافع وابن كثير بإثباتها والرفع، فالنصب عطف على أن يأتي حملا على المعنى، وإلا فلا يجوز عسى أنه إن يقول المؤمنون، وأجاب بأن الله يصيرهم قابلين ذلك ببصره وإظهاره إليه، فينبغي أن يجوز ذلك اعتمادا على المعنى. قال ابن عرفة: لَا يحتاج إلى تعقبه الأول وأن الذي يبطله أن الجملة المعطوفة ليس فيها مميز عائد على المبتدأ وهو أنه؛ لأنه أصله وأن يأتي خبره، ويقول: معطوف عليه عنده، ورده أيضا بأن هذا القول ليس بعد الإتيان بالفتح ولا يلزم هذا. لأن الواو لا ترتب، حتى حكى ابن يونس في كتابه الإجماع على ذلك. قوله تعالى: (أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ).

(54)

قال أهل علم البيان: الإشارة يؤتى بها للتحقير؛ كهذه الآية، ومثله (بَل فَعَلَهُ كَبيرُهُم هَذَا)، وكقوله: (فَصَكَّتْ وَجْهَهَا) [تقول وصكت صدرها بيمينها: ... أبعلي هذا بالرحى المتقاعس*] (¬1) يصف امرأة وهي رأت بعلها يخون وهي في جمع من النساء فاحتقرته، حكاها المبرد في الكامل]. قوله تعالى: (إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ). قلت لابن عرفة: هذا دليل على صحة قول النحاة: أن أصله أن زيدا قائم، ثم والله إن زيدا لقائم سماه الله جهد أيمانهم، وأشار إلى أنه الغاية في ذلك. قوله تعالى: {يُحِبُّهُمْ ... (54)} ليس المحبة الميل وإنما هي بمعنى صفة الإرادة أي من يذمهم الخير والرضا وصفة الفعل أن يفعل به الخير، وقال عياض في الإكمال أن محبوبه يصح أن يكون بمعنى الميل؛ لأنه من المخلوق. ابن عرفة: وكان بعضهم يرده بأنه لَا يمال إلا إلى كمال إليه، والجسم في حق الله تعالى محال. قوله تعالى: (وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ). قيل لابن عرفة: لم أفرد اللومة واللائم، والمناسب جمعهما؛ لأن نفي الأخص لا يستلزم نفي الأعم، فأجاب بمثل ما أجاب الزمخشري، في قوله تعالى: (وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ) أي معلمين الكلاب إشارة إلى [ضريهم*]، ومعرفتهم بالتعليم، وكذلك هذا إشارة إلى أنهم لَا يخافون لومة لائم الذي يعتبر لومته، وهو الذي له تمييز ومعرفة بحقائق الأمور ومواضع اللوم فيها. قوله تعالى: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا ... (55)} قال ابن عرفة: هذا عندي إشارة إلى الاستدلال بالقرآن ثم بالسنة ثم بالإجماع. قوله تعالى: {وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ (56)} قال ابن عرفة: كان بعضهم يقول: في هذا مقدمة مضمرة، ويجعله من القياس الشرطي الاقتراني، مثل قوله تعالى: (وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ) والتقدير: من يتول الله ورسوله فهو من حزب الله، وكل من هو من حزب الله غالب، ومن يتول الله ورسوله غالب وإن لم ¬

_ (¬1) تم جبر هذا السقط من (الكامل للمبرد. 1/ 34).

(64)

تقرره هكذا يكون مشكلا؛ لأن المرتب على هذه القضية الشرطية ثابت في نفس الأمر، وكل ما هو ثابت في نفس الأمر لَا يصح ترتيبه على القضية الشرطية، فلا تقول: إن قام زيد تطلع الشمس؛ لأنها تطلع سواء قام أو لم يقم، وكذلك (حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ) سواء تولى الله أحد ورسوله أو لم يتول؛ لأن حزب الله هم الغالبون مطلقا إلا في هذه الحالة. قوله تعالى: {وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا ... (64)} قال ابن عرفة: هذه الآية تدل على أن ارتباط الدليل بالمدلول مادي لَا عقلي، إذ لو كان عقليا لما تخلف. قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ ... (67)} ابن عرفة: ذكر الرب هنا مناسب على قاعدة أهل السنة في أن بعثة الرسل محض تفضل من الله تعالى. قوله تعالى: (وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ). فيه إشكال من ناحية أن الجواب غير الشرط، إذ لَا يجوز أن يقال: إن لم يقم زيد لم يقم زيد، وأجيب بأربعة أوجه، ذكر أبو حيان منها ثلاثة: الأول: أن المراد إن لم تبلغ الجميع وبلغت البعض فإنك لم تبلغ شيئا، ورده الرازي بأنه يلزم عليه الخلف؛ لأن المبلغ للبعض قد بلغ، وأجيب بأن المراد الحكم بالتبليغ لَا نفس التبليغ أي إن لم تبلغ الجميع، وتركت البعض فإنك محكوم عليك بأنك لم تبلغ شيئا. الجواب الثاني: أن المراد بذلك التعظيم والتفخيم، مثل: أنا أبو النجم وشعري شعري أي وشعري شعري المشهور للتعظيم، ابن عرفة: وكان بعضهم يتم تقريره هذا أحرى في التعظيم والتفخيم؛ لأن الجملة الابتدائية لَا تتركب من المحال بوجه، وجملة الشرط قد تركبت من المحال؛ لأن المحال قد يستلزم محالات مثل (لَو كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا) فإذا حصل الشرط بعينه جوابا انتفى توهم احتمال كون الشرط محالا، فأفادت إعادته تحقيق كون الشرط ثابتا ممكنا ليس بمحال، فإذا جاز إعادة المبتدأ بعينه، فأحرى أن يجوز إعادة الشرط بعينه. الجواب الثالث: أنه من إقامة السبب مقام سببه، أي فإن لم تفعل فليس لك ثواب؛ لأنك لم تبلغ شيئا، أي وإن بلغت البعض ولم تبلغ الجميع فليس لك ثواب في

(68)

تبليغ البعض، وهذا ينظر إلى قول مالك رحمه الله فيمن حلف أن يضرب عبده عشرة أسواط فضربه تسعة أنه يحنث وكأنه لم يضربه شيئا. الجواب الرابع: قال ابن عرفة: كان بعضهم يجيب بأن المراد بما أنزل الله القرآن؛ لأنه رأس المعجزة، ودليل عليها وما سواه من المعجزات كلها مستند إليه ومدلولات له. قوله تعالى: (وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ). أي: فإن لم تبلغ القرآن وبلغت ما سواه من المعجزات فلم تبلغ شيئا، وأخذوا من الآية صحة الدعاء بها؛ لأن المفسرين نصوا على أنه لم يكن معصوما قبل نزول هذه الآية، وعصم بعد نزولها مع إجماع النَّاس على أنه معصوم قبلها وبعدها، فدل على أن العصمة مقولة بالتشكيك، فالعصمة التي أعطي بنزول هذه الآية هي المنع من إذاية النَّاس له، والعصمة التي اختص بها مطلقا إنما هي أخص من هذه، فيصح الدعاء بها بالمعنى الثاني هو مطلق المنع، قالوا: والمراد بالنَّاس الكفار فهو عام مخصوص. ابن عرفة: لَا مانع من أن يراد به العموم فيمكن إذاية المسلمين له كأبي بكر وعمر لكن على سبيل الخطأ، كما يضرب أحدنا طائرا فتصادف الضربة زيدا فالمراد عصمته من الإذاية وغير المقصودة. قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ). قالوا: الألف واللام إما للجنس وهو عام مخصوص. قيل لابن عرفة: أو باق على عمومه بناء على أن العام في الأشخاص مطلق في الأزمنة والأحوال كخالد بن الوليد فإنه كان حينئذ كافرا ثم أسلم بعد ذلك، فقال: يلزمك تحصيل الحاصل إن الله لَا يهدي القوم الكافرين. قال ابن عرفة: أو تكون الألف واللام للعهد، والمراد بها من علم الله أنه لا يؤمن. قوله تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ ... (68)} قال ابن عرفة: كان بعضهم يقول: إن قلنا: إن العموم شرعا كالعموم جنسا لم يحتج إلى إضمار الصفة، وإن قلنا: إن العموم شرعا ليس كالعموم جنسا فلا بد من إضمار صفة تقديرها: لستم على شيء معتبر؛ لأنه شيء غير معتبر شرعا. قوله تعالى: (حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ).

(69)

قال ابن عرفة: نصوا على ما بعد حتى داخل فيما قبلها فيلزم أن لَا يكونوا على شيء إذا أقاموا التوراة، قال: لكن يجاب بأنه قصد المبالغة والإشعار بأنهم لَا ينتفي عنهم وصف كونهم ليسوا على شيء حتى يقيموا التوراة ويدعوا على ذلك، وأما في أول الأمر فلا. قوله تعالى: (طُغْيَانًا وَكُفْرًا). الطغيان التعنت والعصيان، والكفر العصيان بالاعتقاد. قوله تعالى: {فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (69)} فإن قلت: لم نفي الخوف بالاسم وهو التألم بسبب أمر واقع فيما مضى، والمناسب العكس. قال ابن عرفة: فالجواب أنه روعي في كل واحد منهما سببه فسبب الخوف مستقبل وهو متقدم عليه، فجعل ماضيا ثابتا واقعا فأتي فيه بلفظة الاسم المقتضي للثبوت، وسبب الخوف ماض وهو متأخر عنه فجعل مستقبلا لتأخره عن سببه فأتي فيه بلفظ المستقبل. قوله تعالى: {لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ ... (70)} قال ابن عرفة: وجه مناسبتها لما قبلها أنه لما تقدم لنا الأمر بالتبليغ واعتزال الكافرين وكانوا بعد ذلك لَا يطيعون عقبه بهذه الآية تسلية له صلى الله عليه وعلى آله وسلم في عدم طاعتهم له ببيان أن الأمم السالفة فعلوا كذلك مع أنبيائهم. قوله تعالى: (كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ). إن قلت: هلا قيل: كل رسول جاءهم؟ فالجواب أنه أعم؛ لأن كلما شرط والجزاء معاقب للشرط فيفيد تعجيل فعلهم ذلك ومبادرتهم له بنفس مجيء الرسل لهم، وأيضا فكلما منصوبة على الظرفية فيفيد عموم قولهم ذلك في كل زمان إلا أن مالكا جعل كلما عامة. قوله تعالى: (فَرِيقًا كَذَّبُوا). فسره المفسرون على أنهم كذبوا فريقا من الرسل وقتلوا فريقا منهم. ابن عرفة: وكان بعضهم يفسره على إضمار فعل أي جعلنا فريقا كذبوا وفريقا يقتلون، فيفيد أن بعضهم كذب الرسل وبعضهم قتلهم، ومفهومه أن البعض الآخر لم يكذب ولم يقتل، وهذا أنسب من الأول؛ لأن الذي قال المفسرون يقتضي أن جميعهم

(71)

عصوا الرسل إما بالتكذيب فقط أو بالقتل مع أن الثابت أن بعضهم أسلم وأطاع، وما قلناه نحن يقتضي أن بعضهم كذب، وبعضهم قتل، وبعضهم لم يكذب ولم يقتل، فإن قلت: لم كذبوا بلفظ الماضي، ويقتلون بلفظ المضارع مع أن الجميع واقع فيما مضى؟ فالجواب من وجوه: أحدها: قال ابن عرفة: عادتهم يجيبون بأن سبب التكذيب ماض، فعبر عنه بالفعل الماضي؛ لأن سبب التكذيب في المستقبل اعتبارا بسببه، وأجيب أيضا بأن القتل أمر فعل حربي، فأتي فيه بالمضارع تنزيلا للواقع منزلة [من*] أتى بالمحسوس للتصوير، والتكذيب به أمر اعتقادي غير [حربي*] فلذلك عبر عنه بالماضي. قوله تعالى: {وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ ... (71)} قال ابن عرفة: تكون بالرفع بأن مخففة من الثقيلة، وبان ناصبة وقراءة الرفع أبلغ؛ لأنه يكون مؤكدا بأن. قوله تعالى: (وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ). لما اشتملت على عصيان بعضهم بالتكذيب، وعصيان بعضهم بقتل الرسل وبث الوعيد على أشد الوصفين وهو القتل؛ لأن الإبصار أمر محسوس فيتعلق بالمحسوس بخلاف التكذيب فإنه أمر معنوي فالمناسب له صفة العلم. قوله تعالى: {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ ... (75)} قال ابن عرفة: الظاهر أن هذا داخل تحت الحصر، وأصله المسيح ابن مريم أمه صديقة فهو من عطف المفردات، ويحتمل أن يكون من عطف الجمل والظاهر حصرها في الصداقة. قال ابن عرفة: و (صِدِّيقَةٌ) مبالغة من الصدق أو من التصديق، ومنه سمي أبو بكر الصديق لتصديقه، وهذه الصفة لمريم رد على من قال إنها نبية. ابن عرفة: قال بعضهم: من جهة المعنى أنهم كانوا ينسبونها للنبي فبرأها ولدها بكلامه في المهد فظهر صدقها. قوله تعالى: (كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ). ابن عرفة: هذا استطراد؛ لأنهم إنما تكلموا في عيسى ونسبوه إلى الألوهية فلم يتكلموا في مريم بشيء، فإنه ذكره استطرادا وسبب ذكرها قيام عيسى عليها، أي كما

(76)

تعلمون احتياج مريم إلى الطعام، وأن ذلك موجب لحاجتها وافتقارها لحاجتها كذلك هو في عيسى عليه السلام. قوله تعالى: (انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ). هذا دليل على صحة ما يقولونه من أن ارتباط الدليل بالمدلول مادي؛ لَا عقلي، قال: ويجاب بأنه عقلي [فإنهم لم يعبروا*] على الوجه الذي منه يدل الدليل. قوله تعالى: {قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (76)} قدَمنا أن عند ابن عرفة في الختمة منها ثلاثة أسئلة: أولها: [قوله: أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ*] على تخصيص غيره [بالعبادة*]، وهم لم يخصوا الغير بها، لكن أشركوا غير الله معه في العبادة، فقالوا: إن الله ثالث ثلاثة، وتقدم الجواب بأن عبادتهم الأصنام لَا تقتضي تشريكا؛ لأن من شرط المعبود أن لَا تشرك معه غيره فليس في التشريك عبادة فلم يعبدوا الله وأيضا فإِنهم لما أشركوا في العبادة جعلوا لكل من المعبودين نصيبا منها قولك النصيب الذي لغير الله عبدوا فيه ذلك الغير من دون الله. السؤال الثاني: لم قال (لَا يَمْلِكُ لَكُم) ولو قال: لَا يملك ضرا ولا نفعا لكان أبلغ في النفي والعجز وتقدم الجواب بأنه إذا كان لَا ينتفع الخاص به المقرب إليه، فأحرى أن لَا ينتفع به البعيد عنه ولا يضره. ورده ابن عرفة: ليس من باب أحرى؛ لأن هؤلاء شركوا في العبادة، وغيرهم خصوا غير الله بالعبادة فما يلزم من كون غير الله لَا ينتفع من أشركه في العبادة مع الله لا ينفع من اختصه بالعبادة فليس من باب أحرى، وأجاب ابن عرفة من السؤال بأنه لو قال: ما يملك ضرا ولا نفعا لكانت سالبة كلية، والسالبة الكلية تناقضها السالبة الجزئية، فكان يكون مفهومه أن الله يملك النفع والضر؛ لأنه إذا كان غير الله لَا يملك ضرا ولا نفعا كان الله يملك ضرا ونفعا من قولنا: يملك ضرا ونفعا بمطلق؛ لأنه في سياق الثبوت، والمطلق يقيده بصورة فيقولون هم: نعم الله يملك ضرا ونافعا لغيرنا، وهم الذين خصوا غيره بالعبادة تجردت وأما نحن فلا؛ لأنه إذا كان ضرهم لأنك صدق أنه يملك ضرا ونفعا فأتى بلفظة لكم فيكون الكلام أبلغ ولا يبقى لهم فيه مقال؛ لأنه أفاد أن الله يملك لكم الضر والنفع، وغيره لَا يملك لكم ضرا ولا نفعا.

(77)

قيل لابن عرفة: على هذا يكون نقيضه أنه يملك لبعضهم النفع والضر لكلهم؛ لأنها موجبة جزئية، فقال: القرينة تدل على التساوي، أم لَا فلو قيل: بالفرق ولا يخالفون هم في هذا ثم ذكرته له مرة أخرى، فقال: الإنصاف أن هذا تكليف. السؤال الثالث: لم قال (وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) والمناسب هنا وصفه بالقدرة؛ لأن العلم والسمع إنما يناسبان من قصد التستر والاختفاء، وهؤلاء تعنتوا وتجوزوا، فما المناسب فيهم إلا العزة والانتقام والقدرة والمقدور، وتقدم الجواب بأنه من حذف التقابل، والتقدير: قل أتعبدون من دون الله ما لَا يملك لكم ضرا ولا نفعا ولا يسمع ولا يعلم، والله هو مالك الضر والنفع وهو السميع العليم. قوله تعالى: {قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا ... (77)} إما أنه على حذف قد أو الفاء في الأول فقط وهو الظاهر. قوله تعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ ... (78)} قال ابن عرفة: هذا دليل على مفهوم الآية. لأنهم أيضا ملعونون على لسان سليمان وغيرهما من الأنبياء. قوله تعالى: (ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ). قال ابن عرفة: هذه دليل على ما يقولون الأصوليون في تنقيح المناط وهو التعليل ببعض العلل دون بعض مع كون المتروك أظهر من المذكور [وأجلى*]، مثل: "لَا يقضي القاضي حين يقضي وهو غضبان"، فأخذوا منه أنه لَا يقضي عند شغل الخاطر وتشويشه إما [بنعاس*]، أو بجوع، أو شبع، أو خوف أو حزن، أو نحوه، وكذلك هذا إنما لعنوا لكفرهم بترك الموجب الأخص وعلل بأعمه وهو العصيان، كما ترك هنالك الأخص وهو الغضب وعلل بأعمه وهو التشويش، قال: وهذا دليل على أن العصيان يطلق على ترك المطلوب، لقوله (وَكَانُوا يَعتَدُونَ) فالاعتداء هو تجاوز الحدود ولا يلزم التكرار. قوله تعالى: {لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (79)} قال ابن عرفة: إن رجع إلى فعلهم المنكر فظاهر، وإن رجع إلى تركهم النهي عن المنكر تكون الآية دليل على أن الترك فعل، وإن ترك إلى الجميع فيكون غلب فيه جانب الفعل على جانب الترك. قوله تعالى: {تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا ... (80)}

(81)

قال ابن عرفة: موالاة القضاة والظلمة إن كانت لمجرد زيارتهم فهي حرام، وإن كان يزورهم لاستقاذ مظلوم ولمصلحة مظنونة فهو جائز، وقد كان يفعله سيدي أبو الحسن المنتصر، والزبير، والإمام، وكان سيدي أبو علي عمر الثوري، والشيخ الصالح أبو العباس أحمد بن عامر في المغرب يجتنبون ذلك. قوله تعالى: {وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ ... (81)} جعل الإيمان ملزوم لعدم اتخاذهم أولياء، فدل على أن موالاة الكافر كفر. قوله تعالى: {فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ ... (85)} قال ابن عرفة: فيها سؤال وهو أنه تقدمها (ونطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين)، فعبروا بلفظ الرب، فهلا قيل: فأثابهم ربهم؟ وأجيب بأنه إشارة إلى أن هذا الثواب إذا وقع من الله تعالى مع استحضار مقام التفضل والحنان والشفقة. قال ابن عرفة: وتقدمنا نحن الجواب بأن من حسن الاقتضاء أن يطلب الأجير أجره على سبيل التلطف، ويعتقد أنها تفضل من المستأجر ومن حسن القضاء بأن يعطي المستأجر الأجرة معتقدا أنها واجبة عليه، فالأول راجع لطريق الرجاء وطلب نيل الثواب فناسب التلطف بعبارة الرب، والثاني راجع للجزاء فهو إشارة إلى أن الله أوجب ذلك على نفسه شرعا ولا يجب عليه شيء، قال: وما هنا مصدرية أو موصولة بمعنى الذي، وكونها موصولة بمعنى الذي أقرب لمذهب أهل السنة، وإن جعلناها مصدرية كانت دليلا للمرجئة بأن مجرد النطق بالشهادتين كان في حصول الإيمان وفي دخول الجنة، وظاهر هذه الآية أن الجنات في الدنيا أشرف وأعلى من الدور التي لا جنات فيها؛ لأن الله أثابهم بالجنات فدل على أنها أفضل من الدور، وهل يكون للرجل الواحد جنات أو هو على التوزيع يحتمل. قوله تعالى: (خَالِدِينَ فِيهَا). لأن النعيم إنما هو بالخلود، ثم قال (أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ (205) ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ (206). قوله تعالى: (وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ).

(86)

إحسان فسره النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في حديث القدر، فقال: "أن تعبد الله كأنك تراه فإِن لم تكن تراه فإِنه يراك"، وفسره الله تعالى في أول سورة لقمان، فقال (هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ (3) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) .. فهو في الحديث أخص، قال: ويحتمل وجهين: أحدهما: أنه من إيقاع الظاهر موقع المضمر فيكون هم من المحسنين. الثاني: أنهم ليسوا من المحسنين لكن تفضل الله عليهم زيادة ما أثابهم به بأن أعطاهم جزاء المحسنين، ولذلك عبر في الأول بالثواب إشارة إلى التفضل، وفي الثاني إلى الجزاء إشارة إلى وجوبه أي أعطاهم الأجر الذي يستحق بالإحسان أي استحقه المحسنون بإحسانهم. قوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا ... (86)} ذكره هنا لأحد وجهين: إما ليكون تقسيما مستوفيا بذكر الفريقين، وإما بأنه إشارة إلى نعيمهم [بجلب*] الملائم ودفع المؤلم. قال ابن عرفة: فإن قلت: لم عبر في الأول بالخلود ولم يقل هنا: [خالدين فيها*]؟ فالجواب بوجهين: إما لأنه من الجزاء، فبين الثاني لدلالة الأول عليه [وإما] لبيان حال المتقين، والثواب [الذي*] أعد لهم، فناسب فيها الإطناب في حقهم، والاكتفاء في الفريق الآخر بمطلق ذكره من غير إطناب. قوله تعالى: {لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ ... (87)} ابن عرفة: فيه دليل على أن التنعم بالحلال أفضل من التقشف.

(89)

قوله تعالى: (وَلَا تَعْتَدُوا). ما لَا تبالغوا في التحريم والامتناع، بل أو لَا تبالغوا في الدوام على فعل ما نهيتم عنه من اللباس والمطاعم المحرمة شرعا. قوله تعالى: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ ... (89)} قال ابن عرفة: اليمين إن كانت في الماضي فهي على أربعة أقسام، فإن حلف على ما يتقنه وتبين له خلافه فهو لغو اليمين، وإن حلفه على ما يتيقن خلافه فهو غموس، ولو تبين أنها حق في نفس الأمر، وكذلك لو حلف على أمر مشكوك فيه عنده وإن حلف على مظنون فقولان، وعليه قال ابن الحاجب: قلت: والظاهر أن الظن كذلك وهما قولان منصوصان، وفسرت اللغو بأنه قول الرجل: لَا والله، ونعم والله. وأخذ به الشافعي رحمه الله وبعض البغداديين من مذهبنا، وإن حلف على مستقبل فإن كان محالا أو ممكنا والغالب عدم وقوعه، كقوله: بالذي لَا إله إلا هو ما تمطر السماء في هذا العام فهو غموس وإن كان ممكنا فهو كفر، وفيه خلاف. قال ابن عرفة: قال بعضهم: يؤخذ من الآية خلاف مذهب مالك رحمه الله من أن هزله في الطلاق أو النكاح لَا يلزم؛ لأن الآية على أنه لَا يؤاخذ المكلف إلا بما نطق به لسانه معتقدا له بقلبه فينبغي أنه لَا يلزم نكاح المهزل ولا طلاق المهزل قياسا على هذا، وأجيب بأنه مقيد، بقوله تعالى: (فِي أَيْمَانِكُمْ) فمفهومه أن اللغو في غير اليمين مأخوذ به، وقد قالوا في البيع: أن هزله جد فيعارض فيه المفهوم والعموم، فإن قلت: إن هنا مفهوم اللقب، ولم يقل به إلا الدقاق، قلت: بل مفهوم الصفة، لأن أيمان جمع يمين وهو مشتق، أو تقول: أن تلك ليست بأيمان. قال ابن عطية: وتشديد عقدتم مبالغة في تكثير أحد الأيمان. ورده ابن عرفة بأنه كذلك وهو في اليمين الواحدة، وهي لغو وغير لغو، وإنما تشديدها مبالغة في عقدها ليخرج اليمين المشكوك في انعقادها. قوله تعالى: (فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ). قيل لابن عرفة: ظاهر الآية أن اليمين يكفر خلاف مذهب مالك رحمه الله، وأجاب بوجهين: إما لأن الآية لَا تتناول إلا اللغو ولا تتناول الغموس بوجه، وبكون حكم الغموس معلوما من الحديث، أو يكون الضمير عائدا على بعض أفراد العام وقد ذكره بعضهم، أو يكون المراد كفارة حنثه، قال: ويؤخذ من الآية أن الاستثناء حل

(90)

اليمين وليس رفعا للكفارة؛ لأن كفارة مبتدأ وإطعام خبره، فأفاد حصر الكفارة في الثلاثة وغيرها ليس بكفارة. قوله تعالى: (إِطعَامُ). على حذف مضاف أي طعام إطعام عشرة مساكين، قيل له: فيؤخذ منه جواز إطعام أقل من عشرة طعام العشرة، فقال ابن عرفة: القضايا عند أهل المنطق أكثرها فعلية وجودية لَا تقديرية، والقضايا التقديرية قليلة. قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ ... (90)} ابن عرفة: الخمر من خامر العقل مطلقا، وقيل: الخمر من العينة والأنصاب إن قلنا: إنها الأصنام فيكون عطفها على الخمر دليلا على تحريم الخمر. قوله تعالى: (رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ). ظاهره أن كونها من عمل الشيطان موجب لتأثيم شاربه، أو ظاهر حديث أبي بكر رضي الله عنه: أقول هذا فإن يكن صوابا فمن الله وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان، ظاهره عدم الخطيئة فظاهره تأثيم المجتهد المحقق، وهو خلاف الإجماع، قال: والجواب بأن هذا من أبي بكر رضي الله عنه على جهة التواضع. قوله تعالى: (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ). الرجاء مصروف للمخاطب، وتارة يكون رجاء مطابقا حقيقيا تاما، وتارة لَا يكون كذلك، كقوله تعالى: (فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ) وهذا بحق الله لم يقع. قيل لابن عرفة: يظهر من الآية أنها رد على المعتزلة في أن العقل لَا يحسن ولا يقبح، وإنما التحسين والتقبيح للشرع؛ لأن الخمر والميسر كان عندهم حلالا أعني القليل من الخمر الذي لَا يسكر، فلو كان العقل يقتضي تحريمه لما كانوا في الجاهلية وفي أول الإسلام يشربون القليل منه، فقال: حلالا لمقتضى البراءة الأصلية، قيل له: بل يكون النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم علم بهم وسكت عنهم، وسكوته عنهم إقرار لهم على ذلك. قال ابن عرفة: وتقدم استشكالنا في حديث حمزة في أنهم شربوا الخمر حتى ثملوا، وقول حمزة: هل أنتم إلا عبيد لأبي مع أن الأمم متفقة على حفظ العقول، والجواب عقد بأن المحرم عند الجميع إنما هو الإسكار وقليله لَا يسكر، وكانوا

(93)

يشربون القليل منه، حتى فال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: "ما أسكر كثيره فقليله حرام". قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا ... (93)} قال ابن عطية، عن ابن عباس: سبب هذه الآية لما نزل تحريم الخمر، قال قوم من الصحابة: يا رسول الله، كيف بمن مات منا وهو يشربها؟ فنزلت. قال ابن عطية: فيها تقرير لهم عمن مات على القبلة الأولى التي كانت لبيت المقدس، فنزلت (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ) ابن عرفة: بل هذا أقرب وأنفع فإِنه راجع لدفع المؤلم وهو زوال الإثم عمن ارتكبه بشربه الخمر، وحكم القبلة راجع لعدم الحرمان من الثواب على استقبال بيت المقدس، لقوله تعالى: (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ) فيرجع إلى طيب الملائم. قال ابن عرفة: وأخذوا من الآية مع هذا السبب مطلبين: الأول: جواز ما لَا يطاق؛ لأن الصحابة توهموا عند نزول تحريم الخمر أنه كان شرعياً ما لم يرجع أنه لم يكن عالما تحريمها هو عين تكليف ما لَا يطاق. المطلب الثاني: وقوع تكليف ما لَا يطاق، بمفهوم قوله تعالى: (عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا) فدل على أن الكفار عليهم مع أنهم غير مكلفين بتحريمها مع أنه لَا يطيقه، قال: وأجابوا من الثاني بأن وقوع التكليف إنما هو فيما علم فيه التكليف، وأما الكفار فلم يعلم تكليفهم قبل نزول هذه، وبه قال: ونفي الجناح باعتبار ظاهر اللفظ لَا يدل على إباحة ذلك بل يحتمل الكراهة باعتبار سياق الآية ووقع الخطاب بذلك والتكليف يدل على الإباحة. قوله تعالى: (إِذَا مَا اتَّقَوْا). (إِذَا) إما بمعنى إذا أو حكاية حال ماضية. [قال ابن عطية: [وتأول*] هذه الآية قدامة بن مظعون من الصحابة وهو ممن هاجر إلى أرض الحبشة، إلى أن قال: قال الجارود: [لعمر*] (¬1) أقم على هذا كتاب الله. قال ابن عرفة: إن قلت حد الخمر ليس في كتاب الله، وإنما هو القياس على حد القذف وبالاجتهاد، وحسبما حكى الأصوليون عن سيدنا علي أنه قال: إذا شرب هذى ¬

_ (¬1) تم جبر هذا السقط من (المحرر الوجيز. 2/ 235).

(94)

وإذا هذى افترى [فأرى*] عليه حد الفرية، قال: فالجواب أن الأصوليين قالوا: الأدلة كلها راجعة إلى كتاب الله عز وجل ومقضيه عنه. قوله تعالى: {لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ ... (94)} تنكير شيء إما باعتبار تخفيف أمره وتقليل حكمه، وإما لكثرة أمجاده. قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ ... (95)} ابن عرفة: قالوا: هذا يتناول النهي عن القتل حالة الإحرام، وعن القتل في الحرم فهو من استعمال اللفظ المشترك في مفهوميه معا وجاز ذلك هنا؛ لأنه جمع فهو أخف من المفرد وليس هو من القدر المشترك، أو لَا اشتراك بين الحلال القاتل في الحرم، وبين المحرم القاتل في الحل. قال ابن عرفة: وليس المراد قتل الصيد بل النهي عن اصطياده وإن لم يقتله. قوله تعالى: (وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا). فيه ثلاثة أقوال مشهورها، وجوب الجزاء على من قتله متعمدا أو خطأ، وقال ابن عبد الحكم: إنما الجزاء على قاتله متعمدا، وفي خارج المذهب قول آخر بأن الجزاء على المخطئ الناجي فقط. قال ابن عرفة: والآية حجة لابن عبد الحكم، ووجه المشهور أن هذا مفهوم خرج مخرج الغالب فهو غير معتبر، أو يكون بمعنى، قوله (مُتَعَمِّدًا) قاصدا لقتله ناسيا كونه محرما وناسيا كونه في الحرم، وتأول ابن عطية قوله تعالى: (عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ) في الجاهلية من قتلكم الصيد في الحرم، ومن عاد الآن في الإسلام فإن كان مستحلا فينتقم الله منه في الآخرة ويحكم في ظاهر الحكم. قال) ابن عرفة: معناه منتهكا في الفعل؛ لأن الاعتقاد إذ لو كان كذلك لكان كافرا. قوله تعالى: {قِيَامًا لِلنَّاسِ ... (97)} أي قواما لأمر دينهم. قوله تعالى: {اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ... (98)} قال ابن عرفة: [كان ابن عبد السلام يقول في مثل هذا: أما إن ردت الشدة إلى العقاب الواقع بالفعل [فممنوع*] في الآية بحذف التقابل] أي اعلموا أن الله شديد عقابه وغضبه، وأنه غفور رحيم، فلا يكون في الآية حذف بوجه.

(99)

قال ابن عرفة: والترتيب في الآية مناسب. لأن الإنسان في الصحة يغلب جانب الخوف، وهذا الاحتضار والإشراف على الموت يغلب جانب الرجاء والطمع. قوله تعالى: {مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ ... (99)} هي اجتناب فلا يتصور أنها مواعدة منسوخة بآية السيف بل هي حال عمن شهد شهادة. قال ابن عرفة: فيه نظر؛ لأن الجهاد واجب على الرسول، قال الله تعالى (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ) فإن قلنا: إن الجهاد من التبليغ فلا تكون منسوخة، وإن قلنا: إنه ليس من التبليغ فالآية منسوخة، والأصل عدم النسخ. قوله تعالى: {قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ ... (100)} قال تقدمت مناقضتها. بقوله تعالى: (لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ). [دلت*] على أن الخبيث أقل من الطيب؛ لأن المميز من الشيء يكون أقل من ذلك الشيء، فتقدم الجواب بوجهين: الأول: أن [**لِيَمِيزَ] جملة [فعلية*]، وهذه شرطية. الثاني: أن الفرق بين التمييز والمميز فلا يلزم من قولك: ميزت الفول من الحمص، أن يكون الفول أقل من الحمص حتى يقول: أخرجت الفول من الحمص [فلفظ التمييز صادق*] على كل واحد منهما، قال: وكنت بحثت مع ابن عبد السلام فيها، وقلت له: هذه تدل على الترجيح بالكثرة في الشهادة؛ لأنهم اختلفوا إذا شهدته؛ [بأن*] يأمر وشهد عشرة عدول بضده، فالمشهور عندنا أن لَا فرق بين العشرة والعدلين وهما متكافئان، وفي المذهب قول آخر بالترجيح، فقوله تعالى: (وَلَو أَعجَبَكَ كَثرَةُ الْخَبِيثِ) يدل أن الكثرة لها اعتبار؛ بدليل أنها ما أسقطت هنا إلا الخبيث، قال: ثم وجدت ابن المنير ذكره بعينه، وكنت قلته من عندي ولم يوافقني عليه ابن عبد السلام بوجه. قوله تعالى: (فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ).

(103)

قال ابن عرفة: يحتمل أن يريد أولي العقول النافعة، وذلك قدر زائد على فعل التكليف، وهو الظاهر من كلام ابن عطية، فيكون في الآية وعظ وتذكير، ويحتمل أن يريد العقل التكليفي فقط من غير زيادة عليه. قوله تعالى: {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ ... (103)} لما تضمن الكلام السابق تقرير حال الجاهلية فيما سبق عقبه ببيان الإنكار عليهم في هذا فأتت هذه الآية احترازا. قال الزمخشري: البحيرة كانوا إذا أنتجت الناقة خمسة آخرها ذكر بحروا أذنيها أي شقوها. وقال ابن عطية: إذا أنتجت عشرة أبطن، قال: وعن ابن عباس إذا أنتجت خمس بطون، وعن مسروق إذا ولدت خمسا، أو سبعا، ولم [يقيده*] بأن آخرها ذكر. قال ابن عرفة: لَا يريد بقوله: خمسا أو سبعا، أنه قول واحد لَا تصل إلى السبع حتى تصير بالخمس بحيرة بل بمعنى أنهما قولان. قال ابن عرفة: والسائبة هي المعلق تسريحها على أمر، [كأن*] أن يقول إذا قدمت من [سفري*] وبرأت*] من مرضي فناقتي هذه سائبة. والوصيلة قال الزمخشري: إذا ولدت أنثى فهي لهم، وإن ولدت ذكرا فهي لآلهتهم، وإن ولدت ذكرا وأنثى قالوا: [وصلت أخاها*] فلم يذبحوا الذكر لآلهتهم. قال ابن عرفة: إذا ولدت الشاة ثلاثة بطون أو خمسا فإن كان آخرها جديا كان لآلهتهم، [وإن كانت عناقا استحيوها]، وإن كانت [جذيا*] وعناقا يستحيوهما، وقالوا: هذه العناق وصلت أخاها [فمنعته من] أن [يذبح*]. قال ابن عرفة: و (جعل) ليست بمعنى خلق؛ لأن الله تعالى خلق هذه الأشياء ولا [بمعنى*] صير؛ لأنها من [ ... ]، وحذف أحد المفعولين في ظننت اختصارا غير جائز، [فهي*] بمعنى شرع.

(104)

وقال أبو البقاء: بمعنى بينها؛ لأن حذف أحد مفعولي جعل اختيارا وإخوانه اختصارا جائز. واختار أبو حيان أنه محذوف اختصارا، وأنها بمعنى صير وقدر ما حصل الله من بحيرة مشروعا. ابن عرفة: والصواب أن يقول ما جعل الله من بحيرة قربة أو قربة منها، قال ابن عطية، وقال أبو حنيفة: لَا يجوز الأحباس والأوقاف قياسا على البحيرة والسائبة والفرق بين. قال ابن عرفة: قال في كتاب الوصايا: إذا قال عبدي يخدم فلانا حياته فمات فلان فاختلف فيه ابن القاسم وأشهب، فقال أشهب: يبطل الحبس ولا يرجع إلى ربه ووجه الاستدلال أنه أخرج المنفعة في نفسه فجعل عدم المنفعة لازما لعدم تلك الرقبة فينتج أن الحبس كذلك لَا يملك خلافا لابن القاسم. وفرق بعض الطلبة بين الحبس والسائبة والبحيرة، فإن الحبس ينتفع به المحبس عليه وهذه الأشياء لَا ينتفع بها أحد على منفعته فلذلك أبطله الشرع، ولأنه قياس في معارضة النص؛ لأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم حبس وحبس عمر وأمره النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم. قوله تعالى: (يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ). دليل على أنهم نسبوا ذلك إلى الله تعالى وكذبوا في ذلك. قال ابن التلمساني: لَا خلاف في كفر من كذب الله تعالى، واختلف في تكفير من كذب على الله. قال ابن عرفة: إن كذب على الله مستحلا فهو كافر بإجماع، وكذلك إن كذب فيما هو معلوم من الدين ضرورة، وإن كان غير مستحل فهو محل الخلاف. قوله تعالى: (وَأَكثَرُهُم لَا يَعْقِلُونَ). قال ابن عرفة: إن أريد العقل البالغ فكأنهم لَا يعقلون فالمراد كلهم، وإن أريد عقل التكليف فالمعنى أن بعضهم يدرك وجه التلبيس ولا يتبعه بل يتبع الخطأ وأكثرهم لغباوتهم جهلوا ذلك ولم يعلموه. قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا ... (104)}

(105)

قال ابن عرفة: استدل بها بعضهم على منع التقليد، قال: والتقليد في التوحيد منعه بعضهم وأجازه بعضهم، ومنهم من قال: إن التقليد إذا كان توسطا فهو مؤمن كإيمان العوام فإنه مستند إلى خلق الله تعالى للسماوات والأرض، وقال آخرون: المقلد في غير الإيمان مؤمن عند الله، قال: وإنما هو مؤمن في الظاهر فقط. وسمعت عن الفقيه المدرس أبي العباس أحمد بن عيسى الصحابي أنه كان يسأل العوام وبعض جهلة الأعراب فإِذا رآه أخطأ في بعض عقائد التوحيد، قال له: أنت كافر وقرر له العقيدة حتى سمعت أنه أباح لمن هذه حاله أن يرد مطلقته بالثلاث؛ لأنه طلقها في حال الكفر، وطلاق الكفر باطل، وكذلك نقل عن تلميذه عبد الرحمن أبي عيسى المدرس الآن ببجاية والله أعلم بصحة ذلك، وهذا خطأ صراح لَا يحل. قوله تعالى: (أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ). إن قلت: كيف هذا مع أن لولا ما تدخل على الأمر المستقبل وجوده، وإنما ينكر عليه اتباع آبائهم العالمين لَا الجاهلين؟، قال: فالجواب أنه من باب أحرى أي أنكر عليهم أولا تقليد من يعلم، ثم أنكر عليهم من باب أحرى تقليد من لَا يعلم. قوله تعالى: (لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا). قال ابن عرفة: كان بعضهم يقول: إن كان العقل غير العلم يكون تأسيسا، وإن كان العقل هو العلم، [فإن*] العقل بعض العلوم الضرورية فيكون [راجعا للعلم الأول*]، والعقل راجع للعلم المستفاد من التعلم، قيل له: يرجع الأول للعلم الضروري، والثاني للعلم النظري. قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ ... (105)} ابن عرفة: هذه الآية تدل على أن الكفار غير مخاطبين بفروع الشريعة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إن كان المنكر عاما فهو فرض عين، ويجب باعتبار الأشخاص فمن هو مقبول القول فيجب عليه ومن دونه يضعف الوجوب في حقه بقدر تفاوتها في قبول القول وهذا إن تحقق قبول قوله، وإن ظن فقولان بناء على أنه من باب المعلومات فلا يكفي فيه إلا العلم أو من باب العمليات فيكفي فيه غلبة الظن، والمسألة مذكورة في أصول الدين، وفي الفقه، وكذلك إن تحقق أنه نشأ عنه مفسدة فإنه يسقط عنه الوجوب ما لم يخش استحلال المكلف ذلك فإِنه يجب عليه التغيير، انظر ذلك وحققه. قوله تعالى: (فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ).

(107)

دليل على أن الترك فعل؛ لأنه لم يقدمها إلا ترك النهي عن المنكر. قوله تعالى: {فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا ... (107)} قال ابن عطية: (عُثِرَ) استعارة لما يوصل إلى علمه بعد عقابه علما اتفاقيا من غير قصد. ابن عرفة: ومنه العثور على الدقائق، ومنه العثرة وهي السقطة، وكان يتعقبه بقول إمام الحرمين في حد النظر الصحيح هو الذي يؤدي إلى العثور على الوجه الذي منه يدل الدليل وهو لَا يكون إلا عن نظر. وقوله (اسْتَحَقَّا إِثْمًا). المراد به الشاهدان، فإِما أن يكون معناه، استوجبا إثما، أي بأن يحقق أنهما اتصفا بالإثم، وإما أن معناه [اغتصبا*] مالا، فالأول: راجع لتحقيق اتفاقهما بذلك، والثاني: راجع لدعوى المدعي عليهما أنهما [اغتصبا*] مالا بشهادتهما، وكان الطلبة يسألون كيف يرتب الجواب على هذا؛ لأنه إذا حقق اتصاف الشاهدين بالإثم، أو تحقق اقتضائهما المال سقطت شهادتهما فلا يحتاج الخصم إلى [الحلف*] بوجه، فكيف صح أن يقول: فآخران يقومان مقامهما؟، وأجيب بأن هذا يطرد أن لو قيل: فإن استحقا إثما، والجواب أنهما استوجبا إثما، فكذلك يحلف الآخر لَا على التهمة. قوله تعالى: (يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا). جعله أبو حيان مصدر. ابن عرفة: ليس بمصدر حقيقة بل مشبه بالمصدر، مثل: ضربته ضرب الأمير ليس من فعل الضارب بل مشبه به فكذلك المعنى فآخران يقومان تشبيها بقيامهما. قوله تعالى: (لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا). قال ابن عرفة: انظر هل هذا مثل قولهم العسل أحلى من الخل؛ لأنهما إنما يحلفان أن شهادتهما هي الحق وأن الأخرى باطلة، أو أن شهادتهما حق ويحلفان كذلك؛ لأنه تقرر [إذا تعارضت بينتان أيهما أحق فإنه*] يقدم التي هي أجود وأرجح، والظاهر الأول.

(108)

قوله تعالى: {ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ ... (108)} قال ابن عرفة: أو هنا إما على بابها أو بمعنى الواو، فالمعنى أن شهدوا، وما إن كانت بمعنى الواو فهو من تقديم المسبب على سببه؛ أي: يخافوا فيأتوا بالشهادة على وجهها، وإن كانت على بابها فالمعنى: إما أن يشهدوا. قوله تعالى: (وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ). جعله ابن عطية عاما مخصوصا، وإن جعلناها حقيقة، وقلنا المراد حين فسقهم فيكون فيه تحصيل الحال. قال الزمخشري: لَا يهديهم في الآخرة إلى طريق الجنة، ففسرها على مذهبه؛ لأن الفاسق عنده في النار، وإما أن تقول المراد بالفاسق الكافر وتفسيرها بما قال. قوله تعالى: {يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ ... (109)} قيل: العامل في يوم ما تقدم من قوله (لَا يَهْدِي). ابن عطية: وهو ضعيف. ابن عرفة: لأنه حمل الهداية على معناها الشرعي العرفي وهو الهداية المستلزمة للثواب والعقاب، وذلك إنما هو في الدنيا لأن يجازى به في الآخرة. قيل له: إنما الهداية مجردة الإيمان، فقال: هي خلق الإيمان التكليفي والدار ليست بدار تكليف، وإن حملنا معنى الهداية على ما قال الزمخشري: [(لا يَهْدِي) أي لا يهديهم طريق الجنة يومئذ كما يفعل بغيرهم*]، فيصح أن يعمل في يوم، وقيل: العامل فيه اذكر. ابن عرفة: لكن إن عمل فيه يهدي يكون يوما ظرفا، وإن عمل فيه اذكر يكون مفعولا به، وقيل: العامل فيه اسمعوا. ابن عرفة: فهو على حذف مضاف، أي اسمعوا تلاوة يوم يجمع الله الرسل، واليوم في اللغة يراد به النهار والليل. قال مالك في كتاب الإيمان من المدونة: فإذا حلف لَا كلمت فلانا اليوم أي لا يكلمه في النهار ولا في الليل إلا أن ينوي النهار وحده. قال ابن عطية: وخص الرسل؛ لأنهم قادة الخلق وفي ضمن جمعهم جمع الخلائق، ابن عرفة: فجعل دلالته على جمع الخلائق دلالة أخرى وهي دلالة الالتزام

(110)

واستعمال اللفظ في الملزوم وحده مجاز بلا خلاف، وهي مدلوله وحده حقيقه ومجازه. وكان بعض المحققين يقول: إن استعمل في مدلوله ولازم مدلوله العقلي فهو حقيقة كدلالة لفظ العشرة على الزوجية حقيقة، ومن لوازمها الانقسام بمتساويين فهو لازم عقلي لَا ينفك، وكدلالة لفظ الإنسان على ذاته حقيقة ويستلزم عقلا التحيز والجهة، وأما اللازم الخارجي الذي قد يترك فليس بحقيقة وهذا منه. قوله تعالى: (قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ). نقل ابن عطية عن مجاهد أنهم يفزعون فزعا، فالفزع ثابت، والحزن به منفي فلا يبطل ما قاله ابن عطية. وقال ابن عباس: لَا علم لنا إلا [علما*]، أنت أعلم به. قال ابن عرفة: هذا سؤال [تقريع وسؤال التقريع*] يفهم منه تكليف امتثال الأمر [بالجواب] عما سئلوا، فكيف قالوا: (لَا عِلْمَ لَنَا) قال: والجواب أنهم غلبوا مقام التوحيد على مراعاة طلب الامتثال لما سئلوا عنه. [وحمله] الزمخشري على أن السؤال [توبيخ قومهم*] لَا عذابهم، والجواب [إظهارا*] للتشكي بحالهم معهم، فلا يرد عنه ما قلناه، وهذا يحتمل أن يكون قولا منه للرسل مباشرة، أو على لسان بعض ملائكته، [ولا يحملها*] الزمخشري على أنها سؤال، [فيكون تبكيتا لقوم، وثناء على آخرين*]. قال: واختار ابن هشام في شرح الإيضاح كون الإضافة للفعل، واستدل عليه بمواضع من كلام سيبويه، واختار ابن عصفور في مقربه كون الإضافة للجملة، والمصدر المفهوم من الفعل، والآية دلت على أن الرسول أخص من النبي. قوله تعالى: {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ ... (110)} قال أبو حيان: المنادى المفرد العلم إذا وصف بابن مضاف إلى علم أجاز الجمهور فتحه اتباعا لـ (ابْنَ). وأجاز الفراء تقدير الضمة والفتحة في المعتل فإن جعلت ابنا بدلا أو منادى لم يجز في المنادى العلم إلا للضم.

وقال بعضهم: يجوز في عيسى أن يكون محل رفع؛ لأنه منادى وصرفه غير مضاف، وأن يكون في محل نصب؛ لأنه في صفة الإضافة، ثم جعل ابن توكيدا، وما كان مثل هذا جاز فيه الوجهان، وأنشدوا: [يَا حَكَمَ بنَ الْمُنْذِرِ بْن الجارودُ ... أَنْت الجوادُ ابنُ الْجواد المحمودْ*] قال ابن عرفة: كذا أنشدها السابقون، وأنشد سيبويه شطرها الأول فقال: ابن ولاد ابن خروف تمامها ... فترادف الجود عليك موجود وأنشد ابن عصفور في مقربه. قال الكسائي: أنها إذا لم تكن فيه وألحقها بعد ذلك. ابن عرفة: أنشدها لما ذكر ابن إذا وقع بين علمين، وما جرى مجراهما أو بين اسمين متفقين في اللفظ، وإن لم يكن علمين يجوز اتباع المنادى لابن، قال: أنشد الفراء: [** يا غنم ابن غنم محبوسة ... فيها يقام وبعبق رحيق] قلت: وقال السفاقسي: [كلام أبي حيان هنا*] ليس بشيء. لأن ابن إذا جعل توكيدا اختل المعنى، وأظنه التبس عليهم باسم [علم*] هدى، وقد جعل أبو القاسم ابن الجمل باسم ابن زيد بن عمرو، ومثل باسم بني عدي وهو [ ... ] حال. ابن عرفة: ولأن يتم يمكن زيادته؛ لأنه أسقط لم يختل، قال: وكان بعضهم يفرق بين نسبة الابن إلى الأب وبين نسبته إلى الأم فإن نسبته إلى الأب غير لازمة شرعا كآدم وعيسى، وكذلك ولد الزنا ونسبته إلى الأم لازمة، وهنا إذا نسب إلى الأم فهو توكيد. قوله تعالى: (وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي). قال ابن عطية: الإذن هنا التمكين مع العلم بما يصنع ومن يقصد من دعاء النَّاس إلى الإيمان. وقال الزمخشري: بإذني أي بتسهيلي. ابن سلامة: هذا على مذهبه في أن العبد يخلق أفعاله. قوله تعالى: (فَتَنْفُخُ فِيهَا)

(111)

ابن عطية: هو النفخ المعلوم من البشر، وإنما جعل الله الأمر هكذا ليظهر تلبس عيسى بالمعجزة وصدورها عنه، وهذا كطرح موسى العصا، وكإيراد محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم [القرآن*]، وهذا أحد شروط [المعجزات*]. ابن عرفة: هذا اعتزال؛ لأنه شرط المعجزة التلبس بها وصدورها عن كسب فإذا صدرت عن غير كسب، وهي التي لم تتلبس بها كانشقاق القمر لم يكن معجزة فليس الأمر كذلك، قلت: وتأولوا كلامه بوجهين: الأول: أن يراد بالتلبس مطلق الملابسة وهو التحدث بالمعجزة وتسببه فيها إما بقول أو فعل ونحوهما. الثاني: قال وفي الآية عندي سؤال وهو أن عرف القرآن أن الشيء إن كان من بعض مقدور النبي لم يحتج إلى الإذن. وكان بعضهم يقول: الصواب العكس وجاءت الآية على العكس. قيل لابن عرفة: إنما يراد هذا على تفسير ابن عطية الإذن بالتمكين مع العلم، ولنا أن تفسيره بالإباحة؛ لأن التصوير منهي عنه شرعا ويكون احترازا من المنهي عنها، أو يفسر الإذن بالقدرة وردها إلى النفخ فإن النفخ أمر غريب، قلت: وقوله: وعرف القرآن إلى آخره، مثاله (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ)، وقوله تعالى: (لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ) وقوِله سبحانه (وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا). وقوله تعالى: (وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ ... (111) الوحي في اللغة الإلهام أو الأمر، ابن عرفة: فالأول ظاهر، وعلى الثاني يكون أمرهم على لسان عيسى، وأما بالدلائل الدالة على أن من أظهرت على يديه المعجزة فهو رسول صادق من عند الله. قوله تعالى: (قَالُوا آمَنَّا). دليل على جواز أنا نؤمن من غير استثناء إن قلنا إنه خبر، وإن كان إنشاء فلا دليل فيه. قوله تعالى: (وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ). دليل على أن مغايرة الإيمان والإسلام وإن كان تأكيدا، وأجيب بأن المغايرة حاصلة من أن الثاني بالاسم والأول بالفعل. قيل لابن عرفة: هذا إن قلنا: إن الإيمان يزيد وينقص، وإلا فلا مغايرة.

(112)

قوله تعالى: {هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ ... (112)} قرأ يستطيع بالتاء، أبو علي: يفهم إما بتقدير تستطيع بالتاء سؤال ربك، أو يستطيع أن ينزل ربك بدعائك، أبو حيان: فعل الله وإن كان سببه الدعاء فليس مقدور، السفاقسي: إن أراد حقيقة فمسلم ومجازا فممنوع إلا أن تقدير السؤال أحسن؛ لأن فيه إضمار فقط، وفي الثاني مجاز وإضمار، ابن عرفة: بل تعارض المجاز وحده مع الإضمار وحده. قوله تعالى: {نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا ... (113)} إرادة حقيقية أو بمعنى تقصد أن تأكل منها. قوله تعالى: (وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا). دليل على أن العقل في القلب وهو مذهب جمهور الفقهاء وأقل الفلاسفة، ومذهب أكثر الفلاسفة وأقل الفقهاء أن العقل في الدماغ. قال ابن رشد في المقدمات وغيره: فإن قلت: قد نص النَّاس على أن العلم النظري أشرف من العلم الضروري؛ لاشتماله على الاستدلال بالمقدمتين والنتيجة، وهذه الآية اقتضت أنهم أرادوا الانتقال من العلم النظري إلى العلم الضروري فكيف يصح ذلك، قال: والجواب أنهم أرادوا الانتقال من علم نظري دليله خفي إلى علم نظري دليله جلي واضح. قوله تعالى: (وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ). قال ابن عرفة: فيه عندي دليل على أن خبر التواتر في المسائل الاعتقادية يفيد العلم وهو المعروف عند الأصوليين خلافاً لبعض غلاة الفلاسفة هذا إن كان هذا خبر تواتر، وإن كان خبر آحاد وقلنا: أن شرع من قبلنا شرع لنا فيكون دليل على أن خبر الواحد يفيد العلم؛ لأنهم قالوا: ونكون عليها من الشاهدين لغيرنا أي: المخبرين لغيرنا فقد اعتقدوا أن ما يفيد الظن وهو خبر الواحد يصح العمل به في المسائل الاعتقادية القطعية العلمية فاعتقدوا أن غيرهم يقبل خبرهم ويعمل عليه، وليس هذا بشهادة وإنما هو خبر، وهذا كله إن قلنا: إن شرع من قبلنا شرع لنا، ففي الآية دليل إما على أن خبر التواتر يفيد العلم، أو خبر الواحد يفيد العمل به. قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ ... (116)}

(117)

قال ابن عرفة: إن كان هذا القول في الآخرة فهو توبيخ للكفار، وإن كان في الدنيا فهو استنطاق له لينطق بالتبرئة بمحضر الملائكة، والقول إما مباشرة أو على لسان ملك، وفرق البيانيون بين قولك: أنت قلت هذا القول، وبين قولك: قلت أنت هذا القول، فإذا دخل الاستفهام على الفعل يكون إنكارا للفعل، فإذا دخل على الاسم يكون إنكارا للنسبة أي لنسبة الفعل إلى من أسند إليه، فالمقالة هنا واقعة لكن الإنكار إنما تسلط على نسبتها إليه، فإن قلت: هم إنما اتخذوهما إلهين مع الله لَا من دونه، قلنا: القدر الذي عبدوهما فيه من دون الله، وأيضا فمقام الربوبية يقتضي الاختصاص بدليل التمانع بكونهم شركوا الغير مع الله يقتضي عبادتهم له من دونه وكأنهم لم يعبدوا الله أصلا. قوله تعالى: (قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ). قال ابن عرفة: نفى هنا الأخص ونفي الأخص لَا يستلزم نفي الأعم، لقوله (مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ) فلو حذف لي وقال: ما ليس بحق بالإطلاق لكان النفي أبلغ؛ لأنه يقول ما هو حق له، ألا ترى أن الشخص إذا قال: لَا أطلب ما ليس لي بحق يفهم أنه يطلب ما هو حق له؟ فلو قال: لَا أطلب ما ليس بحق بالإطلاق، والجواب أن الأمر في هذا كله مستو بينه وبين غيره فالأخص منهما مساو للأعم فيلزم من نفيه نفيه. قوله تعالى: (تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ). ابن عرفة: كان الشيخ أبو إسحاق إبراهيم السبيلي ذكر في الخطبة: النفس في الله فأنكرها عليه ابن مرزوق، فرد عليه بهذه الآية فسكت وسلم له. ابن عرفة: وهو خطأ؛ لأن هذا إنما هو على سبيل المشاكلة مثل (وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ). قوله تعالى: {مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ ... (117)} ابن عرفة: هذا الحصر تارة يكون لازما وتارة يكون غير لازم، يقول: ما قتل عمرو إلا الفلج، فإن خاطبت من يعتقد أن الموالي لَا يتجاسرون على قتل أشراف الأحرار ويجوز أن يكون غيره قتله، ولا يجوز أن يقتله غيره لما فيه من الجرأة والإقدام على عظائم الأمور دون من سواه كان الحصر تأكيدا، والخطاب هنا لله تعالى العالم بخفيات الأمور، فهلا قال لهم: ما أمرتني به دون أداة الحصر. قال ابن عرفة: وعادتهم يجيبون بما تقرر في علم المنطق من أنه لَا تناقض بين النقيضين الوقتيين ولا بين المطلقتين، ولا بين المطلقة والوقتية، كقولك: زيد قائم

(118)

الآن، ولو قال هنا: قلت لهم: ما أمرتني به ليحصل الجواب على قوله (أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ) فلما قال: (مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ) كانت دائمة والدائمة تناقض الوقتية والمطلقة فحينئذ يتم الجواب، قال السفاقسي: وقوله (أَنِ اعْبُدُوا) تفسير للجملة المتقدمة على إلا، فرده ابن عرفة بأن مقابل إلا منفي فيلزمه أن يكون أن اعبدوا الله منفي وهو باطل، أو لَا يفسر المنفي بالمثبت. وقال ابن المنير: قال أهل العربية: القول يأتي بعده الفعل المفسر له مقرونا بأن تارة وتارة غير مقرون به. وقال ابن عصفور: لَا يأتي بعده الفعل إلا غير مقرون بأن. قال الزمخشري: إن جعلناها مفسرة فلا بد من تفسير والمفسر إما قلت، أو أمرتني وكلاهما لَا وجه له، أما القول فيحكي بعده الجمل من غير أن توسط بينهما حرف النفي لَا بقول ما قلت لهم إلا أن اعبدوا الله، ولكن ما قلت لهم: إلا اعبدوا الله. قال ابن عرفة: بل إذا قلت: ما يكون تفسيرا بمتعلق القول المفهوم من قلت أي ما قلت لهم إلا قولا هو أن اعبدوا الله وإلا فقولا أو شيئا هو أن اعبدوا الله. قوله تعالى: {إِنَّ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ ... (118)} قال ابن عرفة: إن كنت أردت تعذيبهم فهم عبادك، وإن أردت المغفرة لهم، ولذا جاء بقول العزة؛ لأنها سبب المغفرة، فتقف عند قوله (وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ). قال الفخر الرازي: إن مصحف عبد الله إن تغفر لهم فإنك أنت الغفور الرحيم، سمعت شيخي ووالدي رضي الله عنه، يقول: العزيز الحكيم هنا أولى من الغفور الرحيم؛ لأن كونه غفورا رحيما نسبة الخلق الموجب للمغفرة والرحمة لكل محتاج، وأما العزة والحكمة فهما لَا يوجبان المغفرة فإن كونه عزيزا يقتضي بفعل ما يشاء ويحكم ما يريد فإنه لَا اعتراض لأحد، [فَإِذَا كَانَ عَزِيزًا *] متعاليا من جميع جهات الاستحقاق ثم حكم بالمغفرة [كان*] الكرم هاهنا أتم عما إذا كان كونه غفورا رحيما بسبب المغفرة والرحمة، [فَكَانَتْ عِبَارَتُهُ رَحِمَهُ اللَّه أَنْ يَقُولَ: عَزَّ عَنِ الْكُلِّ. ثُمَّ حَكَمَ بِالرَّحْمَةِ فَكَانَ هَذَا أَكْمَلَ *].

وقال قوم آخرون: لو قلت: فإِنك أنت الغفور الرحيم دل ذلك على أن [غرضه*] تفويض الأمر بالكلية إلى الله تعالى، وترك التعرض لهذا [ ... ] من جميع الوجوه، انتهى. قال ابن عطاء الله في لطائف المنى: إن الشيخ أبا العباس قال: إنما عدل عن قوله: فإِنك أنت الغفور الرحيم إلى قوله: العزيز الحكيم؛ لأنه لو قال: وإن تغفر لهم فإنك أنت الغفور الرحيم لكان شفاعة من عيسى عليه السلام لهم في المغفرة، ولا شفاعة في كافر؛ ولأنه عبد من دون الله فاستحيا من الشفاعة هذه وقد اعتذر عنه، انتهى. ابن عرفة: كان الفقيه حازم كاتب المستنصر أمير المؤمنين يرى الوقف على قوله تعالى: (وَإِن تَغفِرْ لَهُم) [ويبتدئ*] (فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) لاعتقاده أن (فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) مستأنف لَا جوابا لشرط، وقال: إنما يكون جوابا لو كان فإِنك أنت الغفور الرحيم. وكان ابن عبد السلام يستحسنه، قال: وما قالاه ليس بشيء ولا يصح الوقف إلا بعد الحكيم عندي؛ لأن (فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) هو الجواب، قال: وعندي في ذلك مسألة النحويين من أن حرف الشرط إذا دخل على المستقبل وجب ذكر جوابه بخلاف دخوله على الماضي فإنه يجوز حينئذ ذكره وحذفه، قلت: على الفقيه حازم أيضا من وجه آخر، وذلك؛ لأن حاصل ما يدعيه أن قوله (وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ) لَا يناسب (فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) والحق أنه مناسب مناسبة لطيفة تخفى على الأكثر، ولذلك قال علماء البيان في هذه الآية الكريمة أنها من خفي تشابه الأطراف، فإِن قلت: ما حقيقة تشابه الأطراف؟ قلت: هو أن يختم الكلام بما يناسب أوله في المعنى، فإن قلت: كيف ختم الكلام في هذه الآية الكريمة بما يناسب أوله في المعنى؟ قلت: قال القزويني في إيضاحه: إن العزيز هو الغالب من قولهم: من [عزَّ بزَّ*] أي من غلب [استلب*]، والغالب على الحقيقة هو ليس فوقه أحد يرد عليه حكمه، والحكيم هو الذي يضع الأشياء في محلها والله تعالى كذلك إلا أنه قد يخفي وجه الحكمة في بعض أفعاله يتوهم بعض الضعفاء أنه خارج عن الحكمة، وإذا فهمت معنى هذين الصفتين علمت أن الواجب ما عليه التلاوة، والمتصف بهذين الوصفين هو الذي

(119)

يغفر لمن يستحق العذاب على الحقيقة فصار الوصفان المذكوران يدلان على معنى لم يدل عليه الغفور الرحيم، فكأنه يقول: وإن تغفر لهم فإنك أنت الغفور الرحيم بأحد وجهين: إما بأن جواب الشرط الثاني محذوف له المعنى أي فإنك إن تغفر لهم فأنت الغفور الرحيم، وإن قلنا: بأن الشرطين في معنى شرط واحد مركب من جزأين وجوابهما بينهما مقدم في اللفظ مؤخر في المعنى، أي إن تغفر لهم أو تغفر لهم فهم عبادك، وأوردوا عليه أن الشرط لَا يحذف جوابه إلا إذا كان فعل الشرط ماضيا [وأما في*] المستقبل، فلا؛ لأنه يؤدي إلى منهيات العامل للعمل وقطعه عنه فيبطل الجواب الأول ويبقى الثاني. قوله تعالى: {قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ ... (119)} قال ابن عرفة: هنا مقامان: مقام التوحيد، ومقام التكليف لعيسى عليه الصلاة والسلام غلب مقام التوحيد واعتبره والأمور كلها فيه منسوبة، فلا فرق بين التعذيب ولا بين المغفرة؛ لأن الكل عبيده يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، ولا حسن ولا قبح باعتبار مقام التكليف من صدق في عمله وطاعته انتفع ومن خالفه عذب. ابن عرفة: وهو المراد بصدق الأعم أو الأخص الذي ذكره ابن التلمساني لما عرف الخبر بأنه الذي يحتمل الصدق والكذب، قال: فإن قلت: المراد هنا الأخص؛ لأن ثبوت الأخص يستلزم ثبوت الأعم ولا ينعكس. قال أبو حيان: وقرر صدقهم بالنصب وهو مفعول من أجله. ابن عرفة: شرط المفعول من أجله أن يكون فعلا لفاعل الفعل المعلل يستقيم على مذهب أهل السنة؛ لأن الأفعال كلها لله ويشكل على مذهب المعتزلة كالزمخشري وغيره، ولا يصح أن يراد الصدق في الآخرة إذ ليست بدار تكليف ولا في الدنيا؛ لأن المراد صدقهم في الآخرة فيما يجب به في قوله (وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ). وأجاب ابن عرفة بأن المراد استمرار الصدق، ونحو قول المنطقيين إن النتيجة ليست عين الكبرى ولا عين الصغرى وحدها ثم أجابوا عنها بأنها عينها، ورده ابن عرفة بأن الاستمرار في الآخرة وليست دار تكليف، وأجاب بأن المراد الاستمرار باعتبار تقدم سببه في الدنيا. * * *

سورة الأنعام

سُورَةُ الْأَنْعَامِ قال ابن عطية: السورة مكية إلا آيات ستة. قال ابن عرفة: كان ابن عبد السلام ينكر ما يفعله العوام من أنهم يقرأونها في مرة واحدة بناء على أنها منزلة دفعة واحدة، قال: لأن الذي في كتب التفسير وفي الحديث الصحيح أنها أنزلت في مكة إلا ست منها. قوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ ... (1)} أفرد الأرض إما لأنها واحدة، أو لأن المشاهد لنا منها أرض واحدة بخلاف السماوات. قوله تعالى: (وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ). جعل بمعنى صير، والظلمات إما أمر وجودي أو أمر عدمي بناء على أن العدم الإضافي جعلي فيصح أن يكون أثر القدرة أولا، وجمع الظلمات وأفرد النور إما لتشعب طرق الشرك وطريق الحق واحدة. قال بعضهم: ويؤخذ منها أن في التوحيد والاعتقاد النور. قوله تعالى: (ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا). العطف بـ ثم؛ لأن من ظهرت له الدلائل السمعية الظاهرة يبعد كفره مع وجودها. قوله تعالى: {ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ... (2)} قال ابن عرفة: الظاهر عندي أنه الأجل هو الأول هو الأجل المعتاد كقولهم في المفقود: أنه يعمر سبعين سنة، وقيل: ثمانين أو تسعين أو مائة وعشرين فهذا أجل مقتضى معتاد، والأجل المسمى عنده هو أجله الحقيقي الذي قدر له في اللوح المحفوظ، وكذلك أصحاب الصنائع كلها. قوله تعالى: (وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ). قال الزمخشري: فإن قلت: الكلام السائر أن يقال: عندي ثوب جديد ولي بعد كيس، قال: أوجب التقديم، قلت: أوجبه أن المعنى: وأي أجل مسمى عنده تعظيما لشأن الساعة فلما جرى فيه هذا المعنى وجب التقديم.

(3)

ابن عرفة: فإن قلت: الذي نص سيبويه وغيره على أن الأصل تقديم المبتدأ المسند إليه على المسند، قلنا: إما باعتبار حقيقة ذلك فهو الأصل، وإما باعتبار الكلام فالأكثر في كلامهم تقديم المسند فيقال: عندي ثوب جديد. قوله تعالى: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ ... (3)} ابن عرفة: احتج بها من يقول بالتجسيم، واحتج آخرون على منعه باستحالة حلول الجوهر الواحد والجسم الواحد في مكانين في زمن واحد، قيل لابن عرفة: لعله غير متناه فيحل في السماوات، وفي الأرض، يقال: جعل بعضه في هذه وبعضه في هذه، أو الآية اقتضت [ ... ] كله في الأرض [ ... ] وأنها لقوله تعالى: (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ) أي بعلمه وإحاطته. قوله تعالى: (يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ). هذه دليل على أن متعلق الحواس الخمس من قبيل المعلومات بعد تقرير أن صفة السمع مغايرة لصفة البصر. وقوله تعالى: (يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى) قيل: هو كلام النفس، وقال بعضهم: هو الكلام قبل كونه سرا. قوله تعالى: {وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (4)} قال الزمخشري: من الثانية للتبعيض. ابن عرفة: ويحتمل أن يكون لبيان الجنس تعظيما للآية وتنزيلا لها منزلة كل الآيات إشارة إلى أن كل آية في نفسها عظيمة تقوم مقام الآيات الكثيرة. قوله تعالى: (إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ). من شرط قيام الصفة بالموصوف عدم اتصافه بضدها وهم لما أتتهم الآية الثالثة على صدق الرسول المشروطة بالنظر أعرضوا عنها، ولم ينظروا فلو نظروا لآمنوا فشرط الإيمان النظر في الآية فاتصفوا بضد شرطها وهو الإعراض. قوله تعالى: {فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ ... (5)} ... إشارة إلى غوايتهم وشدة تعنتهم في مبادرتهم بالتكذيب بنفس المجيء من غير تأن ولا تأمل.

(6)

قوله تعالى: {مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ ... (6)} التمكين فيها هو جوزها جوزا يستلزم التصرف فيها بما شاء من أنواع التصرفات. قال الزمخشري: مكن لعاد وثمود وغيرهم في البسطة في الأجسام والسعة في الأموال واستظهار بأسباب الدنيا. قوله تعالى: {وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ ... (7)} قال ابن عطية: يشبه أن يكون سبب نزول هذه اقتراح عبد الله بن أبي أمية وتعنته إذ قال للنبي صلى اللَّه عليه وعلى آله وسلم: لا أومن لك حتى تصعد إلى السماء ثم تنزل بكتاب فيه من رب العزة إلى عبد الله بن أبي أمية، يأمرني بتصديقك. قال ابن عرفة: سبب في ما لَا يصح أن يقرر به مناسبتها لما قبلها بوجه، قال: وإنما سبب نزولها عندي أحد أمرين، إما لأنه لما تقدمها التنبيه على وعظهم وتخوفهم بأنه أرضيته وهو وجود أعم قبلهم تعنتوا وخالفوا فأهلكوا، ومع ذلك فلم يتعظوا بهم ولم ينفع ذلك فيهم عقبه ببيان أنهم لو نزل عليهم آية سماوية لما آمنوا، وإمَّا لأن الأول إخبار لهم عن قوم مضوا كانوا كفروا عقبه ببيان أنهم كما لم ينفع فيهم الإخبار عمن هلكوا بعد أن كفروا كذلك لَا ينفع فيهم الأمر الغريب المشاهد الذي لمسوه بأيديهم. قال ابن عرفة: والآية تدل على أن العلوم تتفاوت فالعلم المحسوس هو أقرب وهذا نظير ما قرروه من أن النظر يعرض له الغلط والاختلاف خلاف اللمس. قوله تعالى: (لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا). هذا من وضع الظاهر موضع المضمر، أي: لقالوا. قوله تعالى: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا ... (9)} قال ابن عرفة: هذا من القياس المقسم أي لو جعلناه ملكا لما آمنوا؛ لأنه إما أن يجعل ملكا على صورة الملائكة، أو ملكا على صورة رجل، فإن جعل على صورة الملائكة فلا يستطيعون النظر إليه وإن نظروا إليه هلكوا، وإن جعل ملكا في صورة رجل فإنهم يتشككون فيه ويدعون أنه غير رسول. قال ابن عرفة: وعادتهم يوردون أن هذا من ترتيب الشيء على نقيضه إذ لَا يقال: لو كان البحر متحركا لكان ساكنا؛ لأن اجتماعهما محال، قال: وأجيب بوجهين:

(11)

إما أنه من الترتيب على المحال والمحال قد يستلزم محالات، وإما أن ذلك في الأمر العقلي وهذا أمر جعلي شرعي فيصح كون النتيجة مناقضة للمقدم. قوله تعالى: (وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ). قال ابن عرفة: كان بعضهم يقول: انظر هل هذا مثل: ضربته ضربا، أو مثل: ضربته ضرب الأمير، قال: والجواب أنا إذا بنينا على مذهب المعتزلة في أن العبد يخلق أفعاله فهو مثل: ضربت ضرب الأمير، وكذلك إن بنينا على مذهب أهل السنة في [إثبات*] الكسب، وأما إن بنينا على مذهبه من [نفى الكسب*] وقال: لَا فاعل إلا الله فهو مثل: ضربته ضربا. قوله تعالى: {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا ... (11)} قلت: معناه إباحة السير للتجارة وغيرها في الأرض، وإيجاب النظر في آثار الهالكين، وعطف بـ ثم لتباعد ما بين الواجب والمباح. وقوله تعالى: (فَانْظُرُوا). جعل النظر مسببا عن السير لم يسيروا لأجل النظر فجعل السير عن النظر فيكون السير سببا ومسببا، وهذا تناقض، وأجاب ابن عرفة بأنه سبب بوجهين واعتبارين فالنظر سبب في السير بأن يكون هو [العلة الغائية*] فهو سبب ذهني، والسير سبب وجودي موصول إلى النظر. قوله تعالى: {فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (12)} الصواب أن يرجع إلى ما تقدم أي فهم لَا يؤمنون بالمعاد وبجميع ما سبق فلذلك كانوا خاسرين. قوله تعالى: {وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (13)} إما أن يراد نفس السكون وهو أكثر من نفس الحركة، إذ لَا حركة إلا وقبلها سكون، ولأن الحركة نفسها دالة على الحدوث وأن لها خالقا بخلاف السكون. قوله تعالى: (وَهُوَ السَّمِيعُ العَلِيمُ). لف ونشر. قوله تعالى: {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا ... (14)} هذا ما يفهمه إلا من قرأ أصول الدين وعلم أن الغيرين يطلقان على المثلين.

(15)

قوله تعالى: {قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15)} وفيه دليل على أن عظم المظروف يستلزم عظم الظرف، أبو حيان: هذه جملة شرطية فلا موضع لها كالاعتراض بالقسم. وقيل: هي في موضع نصب على الحال، أي قل: إني أخاف عاصيا ربي، وأبطله ابن عرفة: من جهة المعنى، قال: والصواب أن يقول: قل إني أخاف مفروضا عصياني (رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ). قال ابن عرفة: والآية دالة على صحة المقدمة الكبرى. وقول الفخر في المعالم: تارك المأمور به عاص، وكل عاص يستحق العذاب، فأفاد ترتيب العذاب العظيم على مطلق العصيان، وفيه رد على من يقول إن العصيان على تارك المندوب، لقوله تعالى: (عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ)، وفيه دليل على أن عظم المظروف يستلزم عظم الظرف، ولولا ذلك لما وصف اليوم بقوله (عَظِيم)، وفي لفظ الرب إشارة إلى شدة خوفه. لأنه إذا خاف من الله حالة استحضار رأفته ورحمته فأحرى أن يخاف منه حالة استحضار عزته وقهره. قوله تعالى: {مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ ... (16)} أبو حيان: مفعول يصرف محذوف اختصارا تقديره: أي شيء يصرف الله العذاب عنه. وجعل أبو علي المفعول المحذوف متميزا عائدا على العذاب، قال: وليس حذف الضمير بالسهل. قال ابن عرفة: لَا صعوبة فيه؛ لأنه إن رد الصعوبة بحذف المفعول فلا صعوبة فيه، وإن ردها بحذف الضمير العائد على من فليس بمحذوف بل هو المجرور بـ عن ومن يصرف عنه العذاب عنه. قوله تعالى: {فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ ... (17)} إن قلت: لم حصر كشف الضر في الله تعالى ولم يخص [غيره*] بالصرفية، قال: والجواب بما تقرر في علم أصول الدين أن [الموصوف*] بالشيء قادر على الاتصاف بنقيضه، فلما حصر كشف الصرفية؛ دل على أن غيره لَا يكشف الضر إذا لم يقدر على

(18)

كشف الضر، لم يقدر على نقيضه، وهو إيقاع الضر؛ لأن القادر على الشيء قادر على نقيضه، قيل له: أنا قادر على إدخال إصبعي في الخاتم، ولا يقدر على إخراجه، وقال: لم يقدر قط على إدخاله. قوله تعالى: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ ... (18)} ابن عرفة: الفوقية إما إشارة إلى قهره واستيلائه على العباد، أو بمعنى أنه فوق ما يظن من القهر والغلبة. قوله تعالى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ ... (20)} قال ابن عطية: قيل: الضمير عائد على التوحيد، وهو استشهاد في ذلك على مشركي كفار قريش بأهل الكتاب وهو منقطع عن الأول؛ لأنه يصح أن يستشهد بأهل الكتاب ويأتون في آية أخرى. ابن عطية: يصح ذلك لوجهين واعتبارين، والحسن ما شهدت به الأعداء، والمعرفة: قال الفخر: إنها راجعة إلى التصويرات، والعلم للتصديق، وأورد أن قولك: عرفت زيدا تصديق لَا تصور؛ لأنه حكم واجب بأن المراد المتعلق متعلق العلم محكوم به ومحكوم عليه؛ لكونه يتعدى إلى مفعولين، ومتعلق المعرفة محكوم عليه فقط، ورد بأن المراد تصور المحكوم به والمحكوم عليه وتصور النسبة التي بينهما. قوله تعالى: (يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ). ولم يقل: أولادهم؛ لأن محبة الإنسان ابنه أكثر من محبة ابنته، وموالاته لابنه أقوى من موالاته لابنته، فمعرفته بذكور بنيه أقوى من معرفته بإناثهم. قال ابن عرفة: ودلت الآية على أن الصفة تنزل منزلة العين فأخذوا منها مطلبين: الأول: أنها حجة للقول بجواز الغائب على الصفة إذا كانت تحيط به من جميع الوجوه. الثاني: جواز الاكتفاء في الشهادة بالصفة عن التعريف، قال: وأجيب بأن الصفة إنما تتنزل منزلة الموصوف إذا كانت صفة خاصة، وهي التي تجب بها قرينة تخصها، والقرينة هنا هي المعجزة التي أوتيها الرسول دليلا على صدقه. قوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا ... (21)}

(22)

قال ابن عرفة: هذه الآية رد على الجاحظ القائل بأن الكذب لَا يطلق إلا على من تعمد الإخبار بالشيء على خلاف ما هو به؛ لأنه إذا كان الكذب لَا يطلق إلا على من تعمد ذلك فما هو افتراء الكذب، وإذا جعل الكذب عاما في الأمرين، فنقول: افتراء الكذب هو التعمد على الشيء بخلافه، والكذب المطلق هو أن يجريه ناسيا فهذا كذب من غير افتراء. قال ابن عرفة: أجابوا عن الجاحظ بأن الكذب على قسمين كذب في أمر ظاهر لا نشك فيه فهذا افتراء وكذب في أمر يمكن أن يكون حقا أو باطلا فهذا كذب من غير افتراء، قال: وهذا اللفظ تأسيس؛ لأن الكذب على الله بمنزلة من تجرأ على متاع السلطان فتصرف فيه ويكون كلامه بمنزلة من لم يصدق بما أتى من السلطان من الخبر فالأول أقوى جرأة. قوله تعالى: (إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ). دليل على شدة شر الظالم وعلى شؤم عدم الفلاح؛ لأنه ختم على هؤلاء به وعلل عذابهم بذلك، أو بمعنى بل أو بمعنى الواو، قيل لابن عرفة: إن جعلنا أو بمعنى الواو يبقى من اتصف بأحد الأمرين فقط غير دليل في الآية، قال: وإن لم يجعلها بمعنى الواو ولم يعن الآية؛ لأن المتصف بالأمرين هذا أظلم ممن اتصف بأحدهما بلا شك فيبقى من اتصف بأحدهما بلا شك أظلم من جميع النَّاس بل أظلم من بعضهم فقط. قوله تعالى: {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا ... (22)} ابن عرفة: اختلف في العامل في يوم، فقيل: قوله (لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) وعبر بالشركاء إما لأن المراد ظلمهم. قوله تعالى: (شُرَكَاؤُكُمُ). سؤال توبيخ وتبكيت. ابن عرفة: وتقدم لنا في الآية سؤال وهو أن جوابها مخالف للسؤال لوقوع السؤال بالفعل مثبتا وهو (ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشرَكُوا)، والجواب بالاسم منفيا وهو (وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ (23) .. ، ولم يقل: ما أشركنا مع أن نفي الأخص لَا يستلزم نفي الأعم فلا يلزم منه نفي مطلق الإشراك عنهم، قال: وتقدم الجواب بأن المراد نفي الإشراك الأخص الموجب للخلود في النار، وهو الإشراك المتصل بالنار، وأما نفي مطلق الإشراك فلا لأن من أشرك وتاب من شركه لَا يعذب.

(24)

قوله تعالى: {انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ ... (24)} قال ابن عرفة: تقدمنا فيها سؤال، وهو أنهم كذبوا لأنفسهم لَا عليها لكونهم قصدوا به منفعة أنفسهم لَا مضرتها، قال: والجواب أن الكذب هو الإخبار بالشيء على خلاف ما هو به فهم أخبروا عن أنفسهم بغير ما اتصفوا به فهم كاذبون عليها، فإن قلت: هلا قيل: كذبوا وضل عنهم، وما أفاد زيادة قوله (أَنْفُسِهِم)، قلنا: فائدة التشنيع عليهم في أنفسهم؛ لأنهم كذبوا عمدا عدوانا؛ لأن الكذب على الأجنبي يوهم فيه النسيان والخطأ، وهؤلاء كذبوا على من هم عاملون حقيقة. ابن عطية: وقال كذبوا في أمر لم يقع إذ هو حكاية عن يوم القيامة، فوضع الماضي موضع المستقبل تحقيقا لوقوع الفعل، وإن كان في الدنيا فظاهر. ابن عطية: وأضاف الشرك إليهم؛ لأنه لَا شركة في الحقيقة بين الأصنام وبين شيء. قال ابن عرفة: وكان بعضهم يقول: إذا بنينا على الخلاف المذكور في الأصول في التقييد، بالحكم المشتمل على وصف مناسب إما أن يراعى فيه ذات الشيء، أو الوصف المناسب فإن روعي هنا ذات الشيء فهو سؤال عن الشركاء حقيقة وهم موجودون، وإن روعي هنا الوصف فليس ثم شركه ولا شركاء بوجه. قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (25)} قال الزمخشري: سبب نزولها أن أبا سفيان والوليد، والنضر، وعقبة، وشيبة، وأبا جهل استمعوا قراءة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فقالوا للنضر: يا أبا [قتيلة *] ما يقول محمد؟ قال: والذي جعلها [بيته*] يعني مكة ما أرى ما يقول محمد إلا أنه يحرك لسانه ويقول أساطير الأولين، فقال أبو سفيان: إني لا أراه إلا حقا، فقال أبو جهل: كلا فنزلت الآية، قال ابن عرفة: قول أبي سفيان إني لَا أراه إلا حقا محتمل أن يكون تصديقا كقول النضر، وهو الظاهر، أو لقول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وهو الظاهر لقول أبي جهل كلا، ابن عرفة: والآية إما حكاية حال ماضية للتصوير مثل (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً)، أو حال حقيقة؛ لأن ذلك وقع ولم يزل مشاهدا. قوله تعالى: (وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً). قرره الزمخشري على مذهبه.

(29)

قيل لابن عرفة: أكنة جمع قلة، وقلوبهم جمع كثرة، فكيف يسر القليل الكثير؟ فقال: استعمل جمع القلة هنا من أدائه الكثرة. قال ابن عرفة: وتقدمنا سؤال وهو أن السمع متقدم في الوجود على الفهم إذ لا يفهم الإنسان الشيء حتى يسمعه، فقدم في اللفظ ما هو متأخر في الوجود. قيل لابن عرفة: فقد يفهم من لَا يسمع وذلك من الكتب، فقال: الكتب من السمع إلا يرى أن الدلائل السمعية منها مسموع ومنها مكتوب، وكلها راجعة للسمع؛ لأن المكتوب يسمع قبل كتبه وحينئذ يكتب، وتقدم الجواب بما أجيب به في قوله تعالى: (فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ) من أن نفي الأعم يستلزم نفي الأخص، وثبوت الأخص يستلزم ثبوت الأعم ولا ينعكس، والمسموع أعم؛ لأن منه ما يفهم، ومنه ما لَا يفِهم، فلو قدم أولا لكان نفي الفهم عنه تأكيدا، فلما قيل (وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ) انتفى عنهم الفهم، وبقي السمع بلا فهم، فبقي ثانيا وكان تأسيسا، قلت: وأجاب بعضهم بأن المراد الفهم بقصد والسمع وصله، والمقصد أشرف من الوسيلة فقدر للاهتمام. قوله تعالى: (وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا). هذا زيادة في التشنيع عليهم بأنهم لَا يؤمنون إلا بالمسموع أو بالمرئي، وعبر بأن الدلالة على الشك وعدم الوقوع؛ لأن رؤيتهم لكل الآية لم تقع وإنما الواقع رؤيتهم لبعضها، قال ابن عرفة: وكل هذه كما ذكر النحويون أنها إن ارتفعت تقتضي العموم، وإن انتصبت لم تعم، ذكروه في قوله: قَدْ أصبحَتْ أمُّ الخِيارِ تَدَّعي ... عليَّ ذَنْباً كلُّه لم أَصْنعِ وقال السكاكي: من البيانين أنها إن دخلت على كلام منفي اقتضت العموم، وإن دخل المنفي عليها لم تقتضي العموم. قال ابن عرفة: والصحيح أيضا إن دخلت على أعم كانت كلية فلم تقتضى نحو كل حيوان، وإن دخلت على شخص كانت تقتضي العموم نحو: كل الرغيف أكلته. قوله تعالى: [(وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (29) *] قال الزمخشري: إما أنه من تمام الأول، ولو ردوا لقالوا: (مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا)، وإما أنه قولهم في الآخرة، فيرجع لقوله (وَإِنَّهُم لَكَاذِبُونَ). ابن عرفة: أو استئناف كلام أي واساهم هذا، فيرجع إلى قولهم في الدنيا.

(30)

قال ابن عرفة: والنَّاس على ثلاثة أقسام: قوله: يقول هذا بلسان مقاله والآخر يقول بلسان حاله وما الحياة الدنيا إلا لعب ولهو، وآخر لَا يقول شيئا، وحال النَّاس على ثلاثة أقسام: فالظالم المنهمك في ظلمه بأخذ أموال النَّاس ويفعل المحرمات شرعا مع علمه بتحريمها حاله كحال، من قال: (مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا) .. والزاهد في الدنيا المقبل على عبادة ربه والوقوت عند أمره ونهيه حاله كحال من قال: (وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ). والمتوسط الحال كمن لم ينطق. قوله تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ ... (30)} أتى بلفظ الرب مع أن المقام مقام عذاب وانتقام. قال ابن عرفة: فيجاب بما أجابوا في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ) بأن كرمه ورحمته يوحيان الغرور به فلا سبيل يضل عنه، فأجابوا ثم إن المراد: ما غرك بربك المنعم عليك بإرسال الرسل، وبيان الدلائل والمواعظ والزواجر بحيث لَا عذر لك في المخالفة وكذلك هنا. قوله تعالى: (أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ). إنما قاله لهم مباشرة وهو ظاهر الآية أو على لسان ملك وهو المناسب لحال المواددين. قوله تعالى: (فَذُوقُوا الْعَذَابَ). إلى شدة عذابهم؛ لأنه لما سمى هذا [عذابا *] دل على أن ما بعده أشد منه. قوله تعالى: (بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ). قيل لابن عرفة: احتج بها الفخر الخطيب على أن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة، فقال: هذا كفر أخص. قوله تعالى: {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً ... (31)} قال أبو حيان: الغاية هنا مجاز؛ لأن ما قبلها لَا ينقطع هنا عندها.

(32)

قال ابن عرفة: بل يقول: ينقطع ويكون من باب تأكيد الذم بما يشبه المدح كقوله: هو الكلبُ إلاَّ أنَّ فيه ملالةً ... وسوءَ مراعاةٍ وما ذاكَ في الكلبِ قوله تعالى: (يَا حَسْرَتَنَا). قلت: الحسرة اللائقة بهم فلذلك أضافوها إليهم. قوله تعالى: {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ ... (32)} اللعب: الاشتغال بما لَا يفيد بأمر عن أمر ملائم، ولذلك أكثر ما يطلق اللعب على فعل الأطفال واللهو على الرجال. قوله تعالى: (أَفَلا تَعْقِلُونَ). المراد عقل النجاة والفوز لَا عقل التكليف وفعل المجانين من غير قصد، وفعل العقلاء عن قصد وكسب وأعذار، كان الكسب الرأي وهو العلم بما في العمل من مصلحة أو مفسدة، فالفعل إن كانت فيه مصلحة لَا يشهد الشرع باعتبارها فهو لعب ولهو، فمن يأكل ليتقوى على الطاعة فهو مندوب إليه وله فيها الثواب، ومن يأكل لإقامة بدنه خاصة فهذا لمصلحة خاصة فهو سبب النهي، ومن يأكل لمجرد الالتذاذ فهذا يشبه، ووقع في القرآن اللعب مقدما على اللهو مرة، ومؤخرا عنه أخرى فهو دليل على التسوية بينهما في المفسدة. قوله تعالى: {فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ ... (33)} احتجوا لهذا القائل بأن الكذب إنما يطلق على من تعمد الإخبار بالشيء على خلاف ما هو به. وأجاب ابن عرفة: بأن هذا تكذيب لَا كذب، والتكذيب قد يكون فيما قد طابق وفيما وافق. قوله تعالى: {وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ... (34)} قال ابن عرفة: وجه مناسبتها لما قبلها عندي أن الإنسان إذا استحضر مقام التوحيد علم أن الأشياء كلها خلق الله تعالى وفعله واختراعه، قيل لابن عرفة: قد يحتج بها من يمنع النسخ في القرآن، فقال: النسخ بحقيقة؛ لأن المنسوخ لم يزل ثابتا في الذهن فلم ينسخ من جميع الوجوه، قيل له: فاليهود بدلوا وغيروا في التوراة، يقال: بدلوا ألفاظها، وأما معناها وهو الكلام القديم الأزلي فلم يقع فيه تبديل بوجه.

(35)

قوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى ... (35)} المراد الهداية بالفعل واعتزل [المهدوي*] هنا، فقال: لاضطرهم إلى الهداية فاهتدوا. قيل لابن عرفة: قال بعضهم: لو شاء الله لنصب لهم الدلائل المتوسطة ليظهر الحكمة في ذلك فيؤمن بعضهم ويكفر بعضهم فيقع الثواب والعقاب بسبب. قوله تعالى: (فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ). وقال لنوح: (إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ) فأورد المفسرون سؤالا من ناحية أن [الخطاب للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم*]، والمراد أمته، وإما أن نوحا خوطب بهذا السند وسببه، وإما لأن القريب المحبوب ليشدد عليه النهي أكثر ممن ليس كذلك كراهة أن يقع المحظور، قلت: ونحوه نقل القاضي عياض في مداركه عن بعضهم لمن عرف بالسهروردي المالكي فقيه بغداد، وأنشدوا: [لا تصيب*] الصديق قارعة التأنيب ... إلا من الصديق الرغيب وأخبر ابن عطية بأن الأمر الذي نهى عنه نبينا صلى الله عليه وعلى آله وسلم أكبر وأعظم من الذي نهى عنه نوح عليه السلام، فكان النهي في [الأمرين اللذين وقع النهي عنهما والعتاب فيهما*] بحسب تعلقه (¬1)، ابن عرفة: وعادتهم يجيبون بوجهين: أحدهما أن نوحا خوطب بهذا حيث لم يكن هنالك كفار بوجه؛ لأنه خوطب به بعد أن غرق الكفار، ولم يبق سوى هو وقومه، والنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم خوطب بذلك في محل الكفار. [ليعتبروا*] بهم، فشدد عليه في النهي لينزجر الكفار ويتعظوا. الثاني: أن هذا ينتج العكس سواء، فيعجل نهيه مقرونا بالتخويف، لقوله (إِنِّي أَعِظُكَ) هو أكثر من نهي النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، قلت: وكذا قال القاضي عياض في مداركه لما ذكر ما نقلنا عنه، ثم قال: والصحيح أن الآيتين بمعنى وانظر كتاب الشفاء لعياض. قوله تعالى: {إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى ... (36)} قال ابن عرفة: هذا يحتمل وجهين: ¬

_ (¬1) قال القاضي أبو محمد: والوجه القوي عندي في الآية هو أن ذلك لم يجئ بحسب النبيين، وإنما جاء بحسب الأمرين اللذين وقع النهي عنهما والعتاب فيهما، وبين أن الأمر الذي نهى عنه محمد صلى الله عليه وسلم أكبر قدرا وأخطر مواقعة من الأمر الذي واقعه نوح صلى الله عليه وسلم. اهـ (المحرر الوجيز. 2/ 288).

(37)

أحدهما: أن المراد الذين يسمعون السماع النافع. والثاني: أن يريد نفي السماع عنهم من أصل إشارة إلى أنهم لما لم ينفعهم السماع صاروا كأنهم لَا يسمعون شيئا. قوله تعالى: {وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ ... (37)} قال ابن عرفة: فيه سؤالان: الأول: أنهم طلبوا تنزيل آية فما جوابهم إلا أن يقال: إن الله يفعل ما يشاء؛ لأنهم لا ينكرون أن الله قادر على تنزيل آية، وإنما طلبوا أن ينزل الله على نبيه صلى الله عليه وعلى آله وسلم آية فهذا راجع للإرادة لَا للقدرة، فكيف أجيبوا بالقدرة، قال: والجواب أن القدرة تستلزم الإرادة له لَا قدرة إلا بإرادة، وإن أريد التعلق الصلاحي فليست مستلزمة لها. السؤال الثاني: أن الاسم إذا كرر فإنما يكون معرفا، كقوله تعالى: (كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا (15) فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ) والجواب أنه قصد هنا عدم المبالاة بكلامهم، فالمراد أن الله قادر على أن ينزل آية، فالإطلاق أعم من الآية التي طلبوا إنزالها أو غيرها، فإن قلت: النكرة في سياق الثبوت، فهلا قيل: إن الله قادر على تنزيل الآية، فالجواب أنهم طلبوا آية خاصة عظيمة. قوله تعالى: {إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ ... (38)} في الافتقار والخلق. قوله تعالى: (مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ). قال أبو البقاء: في موضع المصدر أي تفريطا، فيبطل القول بأن الكتاب يحتوي على شيء مثل: لَا يضركم كيدهم شيئا أي ضرا. واعترضه أبو حيان بأن النفي إذا تسلط على المصدر انتفى. وأجاب ابن عرفة بأنه رآها أن النفي دخل على الفعل المؤكد بالمصدر فنفاه، ونحن نقول: دخل على الذي قبل التأكيد ثم أكد بعد ذلك، وهو نفي أعم لَا نفي أخص. قوله تعالى: {صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ ... (39)} قال ابن عرفة: الصمم ظاهر والبكم إما لَا كلام لهم في الظاهر، وإن أريد النطق القولي فليس مبين، وإن أريد النطق القلبي فبين.

(40)

قوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ ... (40)} قال ابن عرفة: إن قلت: لم أعاد الفعل والأصل في المعطوفات المتفقة الألفاظ الاكتفاء بالأول، فيقال: أرأيتم إن أتاكم عذاب اللَّه أن الساعة، فأجاب بأنه إذا كان صدور الفعل الأول من فاعله أقوى بالمعنى من صدور الثاني عن فاعله أو العكس فيعاد لفظ الفعل الأول، وإن لم يكن بينهما تفاوت ولا اختلاف في إحداث الفعل فيكتفى بالأول، ولا شك أن إتيان عذاب الله مغاير لإتيان الساعة، قوله (إِنَّ كُنْتُمْ صَادِقِينَ). جوابه محذوف أي فبينوا ذلك أو قدموه على تكذيبكم أو كفركم. قوله تعالى: (أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ). قال: الساعة إما يوم القيامة أو موت كل إنسان، قال: وكان يجيء لنا فيها سؤال بياني، وهو أنه إذا عطفت جملة فعلية على جملة فعلية موافقة لها في اللفظ وفي المعنى فإنه يحذف الفعل الثاني اكتفاء بالأول، فتقول: قام زيد وعمرو فلم أعيد الفعل هنا في الجملة الثانية، قال: وتقدم الجواب بوجهين: أما إذا كان اللفظان متفاوتين في المعنى فيعاد الثاني إشعارا بالتفاوت، ولا شك أن إتيان العذاب أشد من إتيان الساعة، وإما إشعار لما بينهما من البعد فإنه إن أريد بالساعة القيامة، وبعذاب الله المحق والرزايا في الدنيا فيعقبها بعد كثير ومهلة تامة، وإن أريد بالساعة الموت فالمحن الدنيوية كثير منها متقدم ومنها متأخر إلى الموت فالبعد ظاهر. قيل لابن عرفة: وكيف يحسن أن يعاقب ذلك، بقوله تعالى: (أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ) سواء فسرنا الساعة بالقيامة أو الموت إذ لَا يكون الدعاء إلا في الدنيا، قال: قد قالوا (رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ) (وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ) قيل: هذا دعاء لَا يفيد، فقد قال: فيكشف ما تدعون إليه، قلت: ويمكن الجواب بأن يهلك بعضهم فيتعظ به من يبقى منهم ويدعوا. قوله تعالى: (إِنَّ كُنْتُمْ صَادِقِينَ). جوابه فدوموا على كفركم وإلا فتبينوا إلى ذلك. قوله تعالى: {فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ ... (41)}

(42)

قال ابن عرفة: قلت: علق هنا بالمشيئة، وقال في البقرة (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ) ولم يقل: إن شئت، قال: وتقدم الجواب بوجهين: الأول: أن تلك في المؤمنين، وهذه في الكفار. الثاني: إن ذاك السؤال تضرع وتذلل في الدنيا لتعجيل الإجابة المحققة التي لَا يرد فيها وهذا ليس كذلك، فناسب أن يكون معلقا على المشيئة. قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ ... (42)} هذا تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم. قوله تعالى: (فَأَخَذْنَاهُمْ). ابن عطية: أي فكذبوا فأخذناهم. ابن عرفة: ويحتمل أن لَا حذف فيها؛ لأن الكل عبيده يفعل فيهم ما شاء، هذا مذهب أهل السنة، قال تعالى: (لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ) قيل له: قلى قال: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا) فقال: هذا بلاء. قوله تعالى: (لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ). أي أخذناهم أخذا متراخيا معه الناظر لحالهم تضرعهم. قوله تعالى: {وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ ... (43)} إما راجع إلى نفس التضرع فهو ترك فيكون دليلا على أن الترك فعلا، لقوله تعالى: (وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ). قوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ ... (46)} .. ابن عرفة: وقال قبلها: (قُلْ أرَأَيْتَكُمْ) ووجهه أنه لما كانت الأولى مبدأ الخطاب بولغ في الخطاب فيها، والثانية: اكتفى فيها بالخطاب الأول فلم يحتج إلى المبالغة، والثانية: وقع الفصل بينها وبين الأول [وفيه شبه طول*]؛ فأعيدت الكاف فيها للخطاب، وقدم السمع إشارة إلى أنه أشرف لتعلقه بالغائب، والبصير لَا يرى إلا الحاضر. ابن عرفة: وعادتهم يقولون في هذه الآية دليل لمن يقول: إن العرض ينفى زمانين؛ لأن السمع والبصر صفتان ليس منهما الحدقة بل الصفة المتعلقة بهما عرضان، فالذي تعلق به الآخر إما موجود أو معدوم، فالمعدوم لَا يتعلق به أحد وإنما

(47)

يتعلق الآخر بالموجود، وهذا هو عين القول بأن العرض يبقى زمانين، قيل: معنى عدم الأخذ عدم الإيراد بعرض آخر، فقال: ليس هذا هو حقيقة الأخذ فيلزمك المجاز، والأصل حمل اللفظ على حقيقته. قوله تعالى: (وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُم). فيه سؤال وهو هلا قيل: أخذ الله سمعكم وأبصاركم وعقولكم، أو كما قال في البقرة (خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِم وَعَلَى سَمْعِهِم وَعَلَى أَبْصَارِهِم)؟ وأجيب بوجهين: الأول: أن العقل شرط في التكليف فلو أخذ العقل لسقط التكليف. الثاني: أن العقول بها تنافي العقوبة على السمع والبصر، ألا ترى أن في المدونة في جلد من يجن أحيانا ويفيق أحيانا أنه إنما يجلد حالة إفاقته من سكره، فإذا أخذ السمع والبصر بقي العقل يتألم بما فيه، ويذوق العقوبة ويعلم قدرها، وأما المجنون أخذ له لذلك عنده بوجه. قوله تعالى: (مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ). إشارة إلى أنكم كما تعلمون أن الله خالق كل شيء فاعلموا أن من تمام ذلك توحيده ونفي الشريك عنه. قوله تعالى: (انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ). إن أريد الصفة التي وقعت بها الشركة فالتصرف بمعنى [التقريع*]، وإن أريد أشخاص الآيات فالتصرف بمعنى التنكير والتكوين. قوله تعالى: (ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ). العطف بثم إشارة إلى أنهم بعد تأملهم وتأنيهم يبعدون عن الآيات. قوله تعالى: {هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ (47)} وقال في الحديث: "أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم إذا كثر الخبث"، فالجواب أن ذلك إهلاك بموت، وفي الآية إهلاك عقوبة. قوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (49)}

(50)

قال ابن عرفة: تقدم لنا فيها سؤال وهو أنهم كفار فعبر عن عذابهم بالمس وهو أوائل العذاب، فهلا قيل: محيط بهم العذاب؟ قال: وتقدم لنا الجواب بأنه يناله مقدمات العذاب بأعم وصف، وإن شئت أن تقول وصفهم بأخص وصف وهو التكذيب، والكفر اعتبارا بأعمه وهو الفسق، ومجرد الخروج عن طاعة الله، ورتب على ذكر الأعم مقدمات العذاب وعلله بالوصف الأعم وهو الفسق فيتناول ما فوقه من باب أحرى. وقال الزمخشري: جعل العذاب ماسا كأنه يفهم بهم ما يرى من الألم، ومنه قوله: ليست الأوامر إلا بعد مسّ. قال ابن عرفة: هذا خلاف ما قاله ابن رشد في المقدمات في الفرق بين الملامسة والمماسة، فقال: الملامسة لَا تكون إلا عن قصد بخلاف المماسة، فيقال: تماس الحجران، ولا يقال: تلامس الحجران، ابن عرفة: إلا أن يجاب بأن العذاب يعقل فيه الفاعلية، والحجر لَا يعقل فيه الفاعلية فلا يلامس الحجر الحجر، ويقال: تماس الحجران. قوله تعالى: {قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ ... (50) .. ابن عطية: سببها أن الكفار، قالوا (لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا (7) أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا)، (وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا (90)} أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ). قال ابن عرفة: عادتهم يقولون: هذا بسبب ماض، فهلا قال: ما قلت لكم خزائن الله؟، قال: وتقدم الجواب بأنه لو قال كذلك لما تناول النهي إلا القول اللفظي الماضي فقط، وقد ينفي الإنسان الشيء فيما مضى ويفهم من حاله أنه سيقوله في المستقبل، إذ دل الحال على أنه يقول ذلك لهم فيه فقد نفى، بقوله الصدق: لَا أقول لكم عندي كذا، فإن قلت: هلا قال لهم: ليست عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب فهو أقوى وأبلغ من نفي القول، أو لعلهم يتوهمون أن ذلك عنده وإنما دليل حالهم أنهم نسبوا إليه أنه ادعى أن ذلك في قدرته. قوله تعالى: (إِنَّ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ) وقد يحتج بها من ينفي القياس، فيجاب بأن القياس من الوحي، لقوله تعالى: (فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ) وقد يحتج بها من ينفي كونه

(51)

مجتهدا فيه، فيجاب بأن الاجتهاد من الوحي، لقوله تعالى: (لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا). قوله تعالى: {وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ ... (51)} ابن عرفة: الإنذار عام للجميع وتخصيصه [في هؤلاء*] إما لأنه إنذار خاص وهو الإنذار المؤثر النافع، أو لأن مفهومه عدم إنذار غيرهم فيعارض منطوق الآية الأخرى المتطابق لإنذار الجميع، أو بين المفهوم والإنذار لغير الخائنين من باب أحرى. ابن عرفة: وتقدم في قوله تعالى: (الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ) إما أنه راجع لملازمين فهم في كل زمان لَا يطمعون في الحياة إلى الوقت الذي بعده، وكذلك حري هاهنا، قال: وعبر بلفظ الرب تنبيها على أنهم إذا خافوا مولاهم مع استحضارهم ما عنده من الحنان والشفقة فأحرى أن يخافوا مع استحضارهم أنه عزيز ذو انتقام. قوله تعالى: (لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ). الولي هو الناصر مقيد بكونه قريبا، أو يكون بينه وبين وليه لحمة بوجه، والشفيع هو الناصر مطلقا قريبا كان أو أجنبيا وهو من عطف الأعم على الأخص. قوله تعالى: {وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ ... (52)} لما ذكر ابن عرفة اختلاف طريق المفسرين في سبب نزول الآية، وأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم كان يحكم أحيانا باجتهاده من غير وحي عملا بتقديم أرجح المصلحتين ودرء المفسدتين؛ لأنه لَا يرى إبعاد أولئك يوجب كفرهم لقوة إيمانهم، ويوجب إيمان كثير من صناديد قريش. قال أبو نعيم في الحلية: وكان سفيان الثوري يتحلى بهذه الصفة المذكورة في هذه الآية فيفضل في مجلسه الفقراء على الأغنياء، ابن عرفة: إنما دلت الآية على التسوية بين الأصلح والصالح، وبين الفقير الصالح والغني.

(53)

قال ابن عرفة: وشرفوا هؤلاء بأمرين بالنهي عن طردهم، وبالثناء عليهم لصلاتهم بالغدو والعشي، قال ابن الخطيب: وأخذ منها بعضهم كلمن قوله (فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ) حجة القول بإمكان الخطأ عليه صلى الله عليه وعلى آله وسلم في اجتهاده ووقوعه، وهو قول حكاه ابن الحاجب، ورده ابن عرفة بأنه هم بذلك ولم يفعله فعصمه الله من فعله فكيف يأخذ منه وقوع ذلك. قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ ... (53)} قال ابن عرفة: أكثر المفسرين على أن الكاف للتشبيه أي مثل طلب صناديد الكفار منك أن تطرد ضعفاء المؤمنين فتنا بعضهم ببعض طلبوا منك طرد المؤمنين، كما نقول: لأجل فتنة زيد لعمرو قتله. قوله تعالى: (أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا). قال ابن عطية: اللام للصيرورة. ابن عرفة: هذا إنما يقوله الفلاسفة الطبائعيون، ولا يقوله سني ولا معتزلي لاستلزامه نسبة الجهل إلى الله تعالى لمخالفته لقواعد أهل السنة من وجهين: من نسبة الجهل إلى الله تعالى، ومن تعليل أفعال الله تعالى ومخالفته لغير أهل السنة من نسبة الجهل إلى الله تعالى فقط. قوله تعالى: (أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ). قالوا: دخل النفي على الأخص فكان نفي أخص، فدخلت الهمزة عليه فأثبته على ما هو عليه فصار إثباتا لبعض. قوله تعالى: {فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ ... (54)} قال ابن عرفة: يحتمل أن يكون أمر بأن يقول لهم ذلك على أنه من عند نفسه تحية لهم، أو يقوله تبليغا عن الله تعالى، كما تقول لصاحبك: إذا رأيت فلانا فسلم عليه أي عني فبلغه سلامي، والظاهر الثاني لوجهين: لأن فيه تشريفا لهم وتعظيما، وأيضا فإن الأول مخالف للحكم الشرعي بأن الداخل هو المأمور بالسلام على المدخول عليه. قال ابن عرفة: وتقدمنا في ذلك قوله تعالى: (إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ) إن الرفع أبلغ من النصب لاقتضاء الاسم الثبوت بخلاف الفعل، قال السكاكي: فسلام إبراهيم صلى الله على نبينا محمد وعليه وعلى آلهما وسلم أبلغ من سلام الملائكة، وتقدم الجواب بأن الملائكة لما دخلوا

(55)

على إبراهيم وكان جاهلا بهم ففزع منهم حسبما قال (قَوْمٌ مُنْكَرُونَ)، فقالوا (سَلامًا) بلفظ المصدر المؤكد بفعل مقرر منسوب إليهم، أي قالوا: سلمنا سلاما فنطقوا بالسلام ونسبوا الفعل إلى أنفسهم مؤكدا بالمصدر لتحصل له الطمأنينة منهم، فلذلك أكده بالمصدر المقتضي لإزالة الشك عن الحديث من حيث نسبته للمحدث عنه ليزول عنه فزعه ويعتقد سلامته منهم، بخلاف ما لو قال: سلام لاحتمال أن يكون منسوبا لهم أولا فالنصب أبلغ. قوله تعالى: (كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ). قال إمام الحرمين في باب الصفات الصحيح جواز إطلاق النفس على الله تعالى واحتج بهذه الآية، والواجب قسمان: واجب لذاته، وواجب لعارض كالمعاد فإنه لذاته جائز وبإخبار الشرع واجب، وكذلك الرحمة واجبة بإيجاب الله تعالى لها. قوله تعالى: (ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ). ابن عرفة: التوبة بذاتها كافية في حصول المغفرة، فما أفاد قوله (وَأَصْلَحَ)؟، قال: وتقدم لنا الجواب بأن هذه توبة لغوية، ومجموع قوله (ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ) توبة إصلاحية، قيل له: ألفاظ الشرع إنما تحمل على حقائقها الشرعية، فقال: ليس بمعنى الاصطلاح اصطلاح الشارع، وإنما يعني اصطلاح جملة الشريعة. قوله تعالى: (فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ). إما تفسير الكتاب نفسه، أو تفسير لبعض جزئياته. قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ ... (55)} قال ابن عرفة: عادتهم يقولون: ما الفرق بين قولك: عليٌّ كالأسد، وقولك: كالأسد عليٌّ، وضربت زيدا في الدار، وفي الدار ضربت زيدا؟، الفرق بينهما إنما هو الاهتمام بالشيء والاعتناء به، فإن كان المقصود الأهم الاعتبار بالتشبيه العارض للذات، والذات معلومة للمخاطب لكن مخاطب به قريب المخبر عنه أو صديقه قدم المجرور، فيقال: كالأسد علي، وإن كان المقصود الأمران وهو التعريف بالذات بوصفها العارض وهو الشبه قدم المبتدأ، فيقال: عليٌّ كالأسد، وكذلك قولك: ضربت زيدا في الدار كان الأهم الإخبار بالضرب فقدم، وإن كان المقصود الإخبار بمحله، قلت: في الدار ضربت زيدا، والخطاب هنا للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، والآية هي الآية البينة الواضحة معلومة. قوله تعالى: (وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ).

(56)

في كلام الشاطبي هنا إشكال؛ لأنه قال: [وَإِنَّ بِفَتْحٍ ... *] البيت، وهذا البيت للتأنيث وأصحابه قرأوا (يستبين) بالياء والباقون بالتاء، لكن نافع منهم بتاء الخطاب لنصبه سبيل، وغيره بتاء التأنيث لكن [الشاطبي*] اعتبر اللفظ، ولفظ (تَسْتَبِينَ) في القراءتين واحد. قوله تعالى: {قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ... (56)} قال ابن عرفة: أتت هذه الجملة مفصولة غير معطوفة. لأن الأول خبر وهذه طلب. وقال المازري: الخلاف في قول الراوي نهى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم عن كذا هل يحمل على التحريم أم على الكراهة. قوله تعالى: (قُلْ لَا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ). جمعها إما لتفرقها واختلافها فمن لوازم اتباعها الجمع بين النقيضين وهو محال. قوله تعالى: (قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ). انظر ما أفاد هذا العطف، أجاب ابن عرفة: بأنه أفاد التنبيه على أنه متصف بأخص الهداية على سبيل الاحتراز خوف أن يتوهم أدناها؛ لأن قولك: زيد من المهتدين أخص من قولك زيد مهتد، فالأول أفاد مطلق نفي الضلال عنه، والثاني أفاد أيضا أنه بأخص الهداية فدخل النفي عليه فنفاه على حالته، بخلاف مها لو قال: ومها أهتديت؛ لأئه يكون داخلا في الأول لَا يفيد ما قلناه. قوله تعالى: {قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي ... (57)} قال ابن عرفة: تقرر في علم البيان أن الوصف الذي يتوهم حصوله بأنه إذا نفي عمن نسب إليه تارة يكون نفيه محصلا، وتارة يكون مفروضا مقدرا، فيقول لمن تَوَهّم أنك أسأت إليه: ما أسأت إليك إذا كان النفي مفروضا مقدرا إن قصد الاعتبار بالنفي عنه بعد النفي بجائز، لذلك النفي يقول: لو أسأت إلي عاقبتك لكني بذاك منك، هذا جائز يزيل الروع عن قلب المخاطب، وتارة يقول: لو أسأت عاقبتك ولا يذكر له جائزا، وهنا قال: (قُلْ لَا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا) أي: لو اتبعت أهواءكم لضللت وما اهتديت وما بجائز، فقال: ولكني على بينة من ربي وأنتم لستم كذلك. قوله تعالى: (وَكَذَّبْتُمْ بِهِ).

(58)

قال ابن عطية: الضمير عائد على بينة أو على البيان، أو على الرب، أو على القرآن، أو على النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم. ابن عرفة: والصواب عندي أن يعود على الكون أو على الاتصاف فيتناول الجميع، أو كذبتم بكوني على بينة وكذبتم باتصافي بذلك. قوله تعالى: (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ). أي باعتبار الأصالة والحقيقة، وإما باعتبار الظهور والوجود فهو له فليظهر على يديه، وأخذ الخوارج على علي بن أبي طالب رضي الله عنه بظاهر هذه الآية في قضية التحكيم. قوله تعالى: (يَقُصُّ الْحَقَّ). قال الزمخشري: يتبع الأمر والحكمة فاعتزل في قوله: والحكمة. قال ابن عرفة: ومن هنا كان بعضهم يقول: لَا يحل نظره إلا لمن شارك في أصول الدين مشاركة جيدة وقرئ (يقض الحق)، فأعربه الزمخشري إعرابين: أحدهما: أن الحق مصدر أي يقضي القضاء. والثاني: أنه مفعول فلا يصح صنعه هذا على مذهبنا وهو على مذهبنا ظاهر لا يحتاج إلى تأويل. قوله تعالى: (وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ). خير إما فعل أو افعل في هذا وهذا احتراز يرد به على الخوارج في قضية التحكيم في استدلالهم، بقوله تعالى: (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ) والجمع بين الآيتين، مما تقدم من أن ذلك باعتبار الحقيقة، وهذا باعتبار قوله تعالى: (قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ ... (58) .. ، أي: لو مكنت على عقوبتكم لفعلت من ذلك التعجيل فأعاجلكم غضبه عز وجل ولكني ليس ذلك إلي. قوله تعالى: (وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ). ولم يقل: أعلم بالمؤمنين مع أن الظالمين أكثر، وقد تقدم في قوله تعالى: (لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ)؛ لأن الأقل المخرج من الأكثر، فالجواب أن ذلك باعتبار الأمر الظاهر، وهذا باعتبار الباطن. قوله تعالى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ ... (59)}

(61)

يحتمل أن يكون مما أمر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بتبليغه، أي قل لهم (قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ)، وقل لهم (وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ) أو هو كلام ابتداء الكلام، فإن قيل: المفاتح يوهم السبب، والله عالم بالغيب من غير احتياج إلى سبب لذلك ولا إلى مفتاح، قلنا: هذا إشارة إلى وصوله إلى ما لَا يقدرون على التوصل إليه فهو تنزل معهم على ما يفهمونه، وقوله (لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ) دليل على أن الله عالم بالجزئيات كما يعلم بالكليات، ففيه رد على الحكماء بالجزئيات والطبائعيين، ورد على المنجمين وأجابوا هم بأن الغيب ما لم ينصب عليه دليل. قوله تعالى: (وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ). من عطف التسوية. قوله تعالى: (وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ). ابن عرفة: يحتمل أن يكون من التقسيم المستوي، ويحتمل أن يكون مثل: مطرنا السهل والجبل، وضربت الظهر والبطن بناء على أن الرطب واليابس هل بينهما واسطة أم لَا؟. قوله تعالى: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ ... (61)} قال ابن عطية: القاهر إن كان صفة فعل أي مظهر القدرة بالرياح والصواعق فيصح أن يجعل فوق نظر قاله؛ لأن هذه الأشياء تتنزل من فوق، وإن جعل صفة ذات من القدرة والاستيلاء كانت الفوقية معنوية. فرده ابن عرفة بأن ذلك إنما هو في القهر، وأما القاهر فهو صفة لله تعالى واسم من أسمائه فلا يصح تعلق الفوقية به على أنه حقيقة؛ لأنا إذا قلنا: زيد القائم فوق السطح فالسطح ظرف له وللقيام. وابن عطية أخذ الصفة مجردة عن الذات، فقيل له: عد المتكلمون في الأسماء القادر والقاهر، فعل القادر أعم؛ لأن فاعل الفعل تارة يكون محبا فيه، وتارة يفعله كارها له، وتارة يتوسط حاله، فالقدرة تشمل الثلاثة، والقهر يختص بفعله كارها له، والقادر إن كان معناه مظهر القدرة فهو صفة فعل حادث، وإن كان بمعنى القدرة فهو صفة معنى قوية. قوله تعالى: {قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ... (63)} هذا من الكلام الذي لَا يسمع سامعه إلا الواقعة، والآية محتملة لثلاثة معان:

(64)

أحدها: أن تكون مشتملة على وعظ مشعر بأن الله هو المستحق للعبادة فحقكم ألا تشركوا به أحدا. الثاني: أن يكون فيها التذكير بنعمته رفع المؤلم وغلب الملائم بما قبلها تخويف بأنه هو القاهر الضار، والتذكير بذلك على قسمين: تذكير باتصافه بذلك على الإطلاق، وتذكير باتصافه بذلك فيما يرجع إلى نفس المذكر، كذلك قولهم: إن زيدا شجاع فاضل عندي وأنقذك عن المهالك فالتذكير يعد أقوى من الأول. قوله تعالى: (تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً) هذا تقسيم بين الشيء ولهم عنهم؛ لأن التضرع ملزوم للاحتياج والتكرار والإلحاح مظنة للجهرية، فكأنه تدعونه جهرة وخفية، ولا يكون فيه الحذف من الأول لدلالة الثاني لئلا يكون تكرارا. قوله تعالى: {قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا ... (64)} إن عاد الضمير على المهلكة الشخصية النازلة منها يريد في البلد الفلاني في الوقت الفلاني فيكون، ومن كل كرب تأسيسا، وإن جعلناه على نوع البلايا والرزايا دون شخصها فيكون العطف تأكيدا. قوله تعالى: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ ... (65)} قال ابن عرفة: وصانهم عن إشراكهم بأمرين: أحدهما: (قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا)، أي: الله هو الذي أذهب منكم الآلام الواقعة بكم ثم خوفوا بأمر آخر وهو أن الله قادر على أن ينزل عليكم عذابا لَا تطيقونه. قوله تعالى: {وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ ... (66)} أي: كذبوا بما خوفهم من أنواع الهلاك ثم أتى بالفاعل ظاهرا، فإن قلت: هلا قال: وكذبوا به؟ قال ابن عرفة: فعادتهم يجيبون بأنه إشارة إلى أنهم مخالطون لك عالمون بما جئت عليه من الصدق والأمانة، ومع هذا فهم يكذبون لك. قوله تعالى: (قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ). إما أن المراد لست برافع عنكم ما نزل بكم من العذاب، أو لست مطالبا بمخالفتكم ومعاندتكم. قوله تعالى: {لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (67)}

(68)

أي لكل نبإٍ ثبوت وخبر صدق وقوع إشارة إلى أن جميع ما خوفهم وتوعدهم بوقوعه بهم في المستقبل فإنه يقع لَا محالة، وكل خبر صدق فهو واقع لَا محالة، والمراد لكل نبإٍ عن المستقبل، وأما الماضي فمعلوم. قوله تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا ... (68)} ابن عرفة: إنما قال: رأيت يصدق على كل من كان بعيدا منهم بحيث لَا يسمع كلامهم لكنهم علموا بالقرائن الحالية أنهم يخوضون في آيات الله تعالى، واشتملت الآية على مطلبين: الأول: رؤيتهم، والثاني: الجلوس معهم في قوله تعالى: (فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُم) والخطاب خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم، وعام فيه وفي كل مؤمن هذا في اللفظ، وأما في المعنى وهو عام في الجميع. قوله تعالى: (فِي آيَاتِنَا). الخوض في الآيات إما البحث فيها بالنظر والاستدلال، وإما الخوض فيها بالأمر الباطن وهو المراد هنا. قوله تعالى: (فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ). إن قلت: الإعراض عنهم مرتفع بأحد أمرين: إما بخوضهم في حديث آخر، وإما بسكوتهم فلم خصصه بالأول دون الثاني؟ فأجيب بوجهين: أحدهما: أن الاجتماع مظنة لعدم السكوت فعلل بما هو الأكثر الإيجاب. الثاني: أن السكوت لَا يؤمن منه الرجوع إلى الحديث الأول الذي كانوا فيه بخلاف ما إذا خرجوا إلى حديث آخر، فإِن ذلك قاطع على الرجوع إلى الأول. قوله تعالى: (وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ). قال أبو حيان: قرئ بالتشديد والتخفيف. قال بعضهم: هما بمعنى واحد فمن جعلها بمعنى واحد راعى المعنى، ومن خالف بينهما راعى اللفظ والمقدمة، والنسيان إن استلزم مفسدة بينة فهو من الشيطان وإلا فهو، وهذا من النفس عليه قول أبي بكر رضي الله عنه: أقول هذا فإن يكن صوابا فمن الله وإن يكن خطأ فهو مني ومن الشيطان. قوله تعالى: (فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى).

(69)

إما أن تكون هذه تذكير ووعظ للمؤمنين في عدم الجلوس معهم، أو تذكير ووعظ للكافرين. قوله تعالى: (مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ). قيل لابن عرفة: هذا عدول عن المضمر إلى الظاهر فهو يستحيل عليهم بوصف الظلم. ابن عرفة: ليس كذلك إنما عبر بالظلم إشارة إلى أن هذا النهي يتناول كل من اتصف بمطلق الظلم، فمن جلس مع المؤمنين يغتاب يتناوله هذا النهي. قوله تعالى: {وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ ... (69)} قال ابن عرفة: (مِن) الثانية زائدة، أي: ما عليهم شيء من حسابهم. قوله تعالى: (وَلَكِن ذِكرَى). إما تذكيرا للمؤمنين أو للكافرين، قال أبو حيان: ولا يصح رجوع القيد إلى الثاني وعطفه عليه. ابن عرفة: يصح إذا جعلنا الذكرى للكافرين، ويكون من في (مِن حِسَابِهِم) للسبب أي ولكن ذكر السبب حسابهم. قوله تعالى: {وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا ... (70)} ابن عرفة: هذا عندي راجع للذين يخوضون في آيات الله، فالمراد بذكرهم في هذه الحالة عدم المبالاة بما هم عليه وأنهم على أنفسهم. وقال الزمخشرى: معناه لَا تبال بتكذيب المشركين واستهزائهم فجعل ابتداء كلام لهم. وقال ابن عطية عن قتادة: إنها منسوخة بآية السيف، وعن مجاهد إنها تهديد ووعيد ولا نسخ فيها لتضمنها الخبر وهو التهديد. ابن عرفة: ليست منسوخة لَا لأصل كونها خبرا بل لكون التهديد لَا ينافي القتال. قال ابن عطية: و (دِينَهُم) هو المفعول الأول، و (لَعِبًا). هو المفعول الثاني. أبو حيان: الصواب العكس، ولم يبين وجهه بأن قال الجملة الابتدائية إذا نصبها الفعل ينظر المقصود الأهم فيها، والذي يكون المقصود منها يجعل مفعولا أولا

(71)

ويكون الثاني خبره بالتبعية [ ... ] [والفرض*]، فقولك: اتخذت زيدا رفيقا؛ إن كان المراد بقرينة، [إذا سافرت*]، وقلت: اتخذت زيدا رفيقا كان السفر إما [بالفرض*]؛ لكونه رفيقا، إذا كان كذلك، لَا أن مراده بقرينة مطلقا، وتارة يكون المقصود الأهم اتخاذ الرفيق زيدا، وكذلك ركبت فرسا وأعطيتها، تقول: أعطيت الفرس زيدا إلا إن قصدت إعطاءه [ ... ] [وأردت الامتنان*] عليه بفرس [تحبه*]، قلت: أعطيت زيدا الفرس؛ وهذا بياني لا يراعى فيه كون الأول فاعلا في المعنى كما يقول النحويون: وهؤلاء لم يكن مقصدهم اتخاذ اللعب واللهو بوجه وإنَّمَا مقصدهم التدين والإيمان فصيروه لعبا ولهوا، فالمفعول الأول هو دينهم وإضافته إليهم إشارة إلى أن دينهم اللائق. قوله تعالى: (وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ). ابن عرفة: هذه موصولة بمعنى الذي أو مصدرية، قال: كان بعض الشيوخ يرجح كونها مصدرية؛ لأن التعليل بالموصوف أولى من التعليل بالذات. قوله تعالى: (لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ). الولي أخص من الشفيع فجاء على الأخص؛ لأن نفي الأخص [بالكسب*] وشرابهم الحميم وتعذيبهم العقاب الأليم بالكفر، وأجاب بأنه في غاية المناسبة؛ لأن الإبسال هو الجنس المطلق فعلق بالكسب المطلق المتناول بجميع المعاصي من الكفر وما دونه، وشراب الحميم العذاب الأليم؛ عذابه أخص فعلل بعقاب أخص وهو الكفر؛ ففيه أن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة. قوله تعالى: {قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا ... (71)} قال ابن عرفة: هذا تلطف في العبارة؛ لأنهم لما أخبروا عنهم فعلوا فعلا قصدوا به تنقيص معبود النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بقوله تعالى: (وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا) رد عليهم بما يوجب تنقيص معبودهم، وهذا تقسيم ومعاندة بين الشيء ولازم ضده؛ لأنه ليس المعنى ندعو من دون الله ما لَا يحصل لنا نفعا ولا يدفع عنا ضرا. ابن عرفة: وانظر هل هنا من باب السلب والإيجاب مثل: الحائط لَا يبصر، أو من باب العدم والملكة مثل: زيد لَا يبصر؛ والظاهر الأول أتدعو من دون الله ما ليس

(72)

بقابل لأن ينفع ولا يضر، قيل: يلزمك المفهوم فيمن هو قابل لذلك من البهائم وغيرها على مذهب الآخرين ينفع ويضر، فقال: يكون في اللفظ من باب العدم والملكة. قوله تعالى: (وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا). قيل: فما فائدة قوله: (وَنُرَدُّ) ولم يقل: ونرجع مع أن نرجع مقصد قال تعالى (فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُم) قال: فائدة ذلك أن نرد لذاته يقتضي الانفعال سواء بني للمفعول أو للفاعل ونرجع لَا يقتضي الانفعال إلا إذا بني للمفعول فنرد أقوى في الانفعال. قوله تعالى: {وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَاتَّقُوهُ ... (72)} ابن عرفة: خصت بالذكر؛ لأنها أهم شرائع الإسلام، ولذلك قال عمر: لَا حظ في الإسلام لمن ترك الصلاة. ابن عرفة: قال: وإنما لم يقل: صلوا مع أنه أخص لوجهين: أحدهما: أن الصلاة لما كانت متكررة فهى مطلقة أن تترك فأفاد لفظ الإقامة المواظبة عليها وعدم الإخلال بشيء منها. الثاني: إنما يحتاج إلى شرائط وأركان من الطهارة وستر العورة وغير ذلك فأفاد لفظ الإقامة التوفية لجميع شرائطها وأركانها. ابن عرفة: (وَأَن أَقِيمُوا) إما من عطف المفردات أو من عطف الجمل؛ فهو إما معطوف على أمرنا أو معمول داخل تحت متعلق لفظ أمرنا. ابن عطية: ولا يصح عطفه على التسليم إذ لا يجوز عطف المبني على المعرب. فتعقبه أبو حيان بجواز قام زيد وهذا. وأجاب السفاقسي بأن المعطوف شريك المعطوف عليه ومن شرط المعطوف أن يجعل محل المعطوف عليه، وهذا لَا يجوز أن يقال وأمرنا لأن أقيموا، ورده ابن عرفة بأن أجازوا رُبَّ شاة ومخلتها مع أن رُبَّ لَا تدخل إلا على النكرات، أبو حيان وقال: المعطوف إن وحدها وفيه خلاف. ابن عرفة: كيف يعطف الحرف وحده، قال: فأجاب بعضهم: بأن مراده أن الحرف هو أن لكونها مصدرية فالمعطوف المصدر وحده فكأنها هي المعطوفة وحدها. قوله تعالى: (وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ).

(73)

قيل لابن عرفة: إنما خالف الكفار في الحشر من أصله، ولم يقل أحد منهم ممن أثبت الحشر أن غير الله فهو الذي يحشرهم، فأجيب بوجهين: الأول: الحصر لمطلق الربط مثل: [هما تفلا في فيَ من فمويهما ... على النابح العاوي أشد رجام*] قاله الزمخشري في (وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ). الثاني: أن الكفار لما عبدوا الأصنام كانت عبادتهم لها مستلزمة لاعتقادهم فيها حصول مجازاتها إياهم على ذلك من الثواب أو العقاب، والجزاء إنما هو في الدار الآخرة فكان إثبات الشر له في الحشر لغير الله من لازم فعلهم لَا من نفس فعلهم فلذلك احتيج لأداة الحصر. قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ ... (73)} ففي جمعه ضمنه أنه خلقكم، قال تعالى (لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ) فكذلك تعلمون أنكم إليه تحشرون فأتت الجملة الثانية دليلا على الأولى. قوله تعالى: (خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ). ابن عرفة: الباء للمصاحبة أي مصاحبة للجواز. الزمخشري يناسب أن يكون على مذهبه المسبب؛ لأنه يقول تعليل الأفعال ووجوب مراعاة الأصلح والخفاء في اللغة هو مقرر أمر مطابق للاعتقاد متفقد تقرره، وفي الاصطلاح كذلك بزيادة لمصلحة دينية فينبغي كفر الكافر على الأول حق وعلى الثاني باطل، وهو هنا باعتبار اللغة وقولنا تقرر أمر ليدخل الوجودي والعدمي كقولك دفع النقيضين حق. قوله تعالى: (قَوْلُهُ الْحَقُّ). المراد بالحق الصدق الثابت. قال الزمخشري: وقوله محتمل لأن يكون فاعلا بقوله (فَيَكُونُ). ورده ابن عرفة بأنه يلزم عليه حدوث القول لكنه جاز على مذهب الزمخشري، قال: وجاوبنا نحن إما أن المراد بقوله (فَيَكُونُ) ظهور ذلك أو المراد متعلق القول لا تفسير القول، قال: وتقدمنا معارضتها، بقوله تعالى: (يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا) ولم يقل: تبدلوا قول الله، ولم يقل هنا: علامة

(80)

الحق والقول أعم من الكلام، قال: وجوابه أن القول أعم باعتبار فهمنا لمفهوم الأعم فقدم الأعم ولازم الأخص يلزم الأخص باعتبار فهمنا. قوله تعالى: (وَلَهُ الْمُلْكُ). هذا من باب تكميل التكميل؛ لأن الأول أفاد أن قوله نافذ، والثاني أفاد أن فعل نافذ فصح أنه هو لَا إله غيره؛ لأن له الملك والملك يستلزم الملك فهو له الملك، وحقيقته التصرف في الشيء لَا نفس التصرف فيه؛ لأن له الملك في الأزل، ولا تصرف هنالك بالفعل فيه، والمراد: الملك المنفرد عن الدعوى وإلا فله الملك الآن وفي كل وقت لكنه معه دعوى المخلوق له. قال: وهو ملك خاص لَا يدعيه أحد. قال ابن عطية: وقرأ الحسن والأعمش: (عَالِم الْغَيبِ) بالخفض على النعت للمضمر الذي في له أو على البدل منه. ابن عرفة: انظر لهذا كان بعضهم يقول أن ابن عطية ضعيف في العربية أن الضمير لا ينعت ولا ينعت به، قلت له: قد قاله الزمخشري في آخر سورة العقود. قوله تعالى: {وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ ... (80)} قال ابن عرفة: تقدم لنا في مثل هذا أن الفاعل البادئ بالفعل واستشكلوا قوله تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ)، ثم قال (رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ) فدل على أن إبراهيم هو البادئ، وتقدير الجواب بأن إبراهيم بدأ بالمقاولة وهي الدعوى ونمرود بدأ بالمحاجة في تلك الدعوى والرد عليها، أو نقول: إن قوله: (إِذ قَالَ إِبْرَاهِيمُ) ظرف للمحاجة أي حاج إبراهيم حين قال إبراهيم: (رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ) فحاجه في ذلك الوقت فلا يلزم فيه تقدم كلام إبراهيم. قوله تعالى: (أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ). المتبادر للفهم إن كان يقال: وقد هداكم وأما هدايته فلا تصح المحاجة بها، والجواب أن المراد وقد هداني بالدلائل الظاهرة الواضحة البينة التي لَا تخفى على أحد، قال: وقد تقدم الخلاف في قراءة علم أصول الدين وقد يحتج بهذه الآية من يتبع قراءته، ويجاب بأن المحاجة في الله لمن هو محق جائزة، أعني أن المحاجة

(87)

لإظهار الحق وتكريمه عما يقدح في التوحيد جائزة، والمحاجة لمن هو مبطل وهي المؤديات إلى القدح في قواعد العقائد باطلة ممنوعة. قوله تعالى: {وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ ... (87)} أخذوا من عموم الضمير المضاف إلى الذرية أن الحال أب؛ لأنه يعود على جميع ما تقدم وذريتهم عيسى عليه الصلاة والسلام ولا ذرية له. قال ابن عرفة: والآية حجة لمالك في أن الرجل يعتق عليه عمود النسب والأخوة دون نبيهم فلاختصاصهم بالذكر في التشريف. قوله تعالى: {ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي ... (88)} قال ابن عرفة: المهدي يحتمل أن يكون اسما، وأن يكون مصدرا، والظاهر الأول؛ لأنه إذا كان مصدرا، [وعاد*] عليه الضمير في قوله تعالى: [(يَهْدِي) *] [ففيه*] إيهام التسلسل وهذه الآية احتراس؛ لأنه قد يتوهم أن الوصف في القرابة هو الذي حصل للذرية، والأخوة هنا للتشريف والاختصاص فاحترس من ذلك، بقوله (يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاءُ) هذا يتم أنه يجيء بتوفيق الله ومشيئته لَا بوصف القرابة. قوله تعالى: {قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى ... (91)} قال ابن عرفة: حكوا عن الفخر ابن الخطيب أن هذه الآية دليل على أن السالبة الكلية تناقضها الموجبة الجزئية. قوله تعالى: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ ... (92)} قال أبو حيان: هذه الآية تبطل قول ابن عصفور في النعت أنه يبدأ فيه بالمفرد ثم بالمجرور ثم بالجملة. وأجاب ابن عرفة: بأن يكون (مُبَارَكٌ) خبر مبتدأ تقديره أي فهو مبارك قال: وإنما الرد عليه بقوله تعالى: (فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ). قوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ ... (93)} ابن عرفة: هذا من عطف الخاص على العام؛ لأنه من افتراء الكذب.

(94)

وحكى ابن عطية عن سيدي عبد الله بن سعد بن أبي سرح أنه كان يكتب للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فلما نزلت (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَان مِنْ سُلالَةٍ مِن طِينٍ) إلى قوله (ثُمَّ أَنشَأنَاهُ خَلْقًا آخَرَ). فقال ابن سعد (فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ) فقال له النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: "اكتبها فهكذا نزلت، فقال عبد الله: أنا أصنع مثل القرآن" وارتد ولحق بدار الحرب ثم أسلم وحسن إسلامه وهذا توهم خطأ؛ لأن من قواعد علم البيان الإرصاد وهو أن يكون الكلام دالا على معنى الذي بعده وهذا أحد معجزات النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وأحد معجزات القرآن، فجعل هذا عبد الله بن سعد وتوهم أن ذلك من عنده. قال ابن عطية: وروي أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أملى عليه (وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) فبدلها هو (وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) فقال له النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: "ذلك هوى". قال ابن عرفة: هذا لَا يصح وعبد الله بن سعد هو الذي افتتح إفريقية في زمن عثمان بن عفان رضي الله عنه، وببركته المسلمون فيها إلى الآن. قوله تعالى: (وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ). هذا ممن افتري على الله الكذب فهو يوهم أن كلام الله غير معجز فصح عدم إمكان معارضته، ولو علم أنه معجز لافتقد العجز عن مصارحته. قوله تعالى: (بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ). قال: فعادتهم يجيبون بأنه لو قال: تقولون على الله الباطل لما تناول إلا من قال متعمدا متحققا أنه باطل ويبقى المتصف بالوهم والشك، أو من قاله غير مستند لدليل فهذا قال غير الحق، ولا يصدق أنه قال الباطل. قوله تعالى: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى ... (94)} قالوا: هذا القول من الملائكة لهم إما عند الموت أو يوم القيامة. ابن عرفة: قالوا: فإن قلت القسم إنما هو لمن ينكر أو ظهر عليه مخايل الإنكار؛ فأجيب التشبيه في الانفراد بالخلق لَا من جميع الوجوه.

(95)

قوله تعالى: (وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ). إسناد التحويل إليه مجاز. قوله تعالى: (وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ). نقل أبو حيان عن بعضهم: أن معكم حال من شفعاءكم، وألزمه أبو حيان المفهوم، وهو وجود شفعائهم لَا في حال كونهم معهم. وأجاب ابن عرفة: النفي إذا تسلط على مركب من جزأين قد يكون أحد جزئيه موجودا، وقد لَا يكون كذلك؛ لأنه مطلق في الأجزاء فقد تنتفي الأجزاء وقد لا تنتفي. قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى ... (95)} قال ابن عرفة: وجه التأكيد بإن مع أن المخاطب غير منكر ولا عليه مخايل الإنكار، ولكنه نافل من ذلك مشتغل بدنياه، فالتأكيد تشبيه له من فعلته فكأنه كالمنكر. قوله تعالى: (الْحَبِّ). القمح والشعير ونحوهما، (وَالنَّوَى) نوى التمر والخوخ ونحوهما. قوله تعالى: (يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ). قيل لابن عرفة: لم قال (فَالِقُ الْحَبِّ) بلفظ الاسم؛ فأجاب بأنه مخرج للتصوير والتعجيب، وإخراج الحي من الميت أغرب وأعجب من إخراج الميت من الحي، وفلق الحب والنوي إنما يكون تحت الأرض فهو غير مشاهد. فلذلك لم يؤت فيه بلفظ البقل؛ لأنه يقتضي التصوير والمشاهدة، كقوله تعالى: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً) قلت: وأجاب أبو جعفر الزبير بأن هذه الآية توسطت بين أسماء الفاعلين الواقعة إخبارا؛ لأن قبلها (إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى) وبعدها (فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا) فلذلك قال: (وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ). بلفظ الاسم، قال: وإنَّمَا قال: (يُخْرِجُ الْحَيَّ) بلفظ الفعل لما أجاب به الزمخشري من أنه أتي بيانا، لقوله تعالى: (فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى)؛ لأن فالق الحب اليابس بالنبات من جنس إخراج الحي من الميت. قوله تعالى: (ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ). قال ابن عرفة: أورد فيها سؤالا نحويا هو: أن المبتدأ لَا يكون إلا معلوما والخبر مجهولا لم يجز جعله في الجملة الأولى مبتدأ، قال: وأجيب بأنه معلوم من جهة ذاته

(96)

مجهول من جهة اتصافه بهذه الأمور، وهذا ينتهي عليه لكن يرد على هذا أنه لما أخبر عنه بهذه الأشياء صار معلوما من الجهتين، فلم تكن للجملة الثانية فائدة؛ فأجيب بأنها أفادت الحصر وهذا معلوم لمن قرأ علم المنطق؛ لأن القضايا على قسمين فمنها قضية تنعكس كنفسها وأخرى تنعكس فتقول كل حيوان متحرك بالإرادة وكل متحرك بالإرادة حيوان، وتقول: كل إنسان حيوان، وأن المتسبب بذلك هو الله تعالى لَا غير. قوله تعالى: {وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ... (96)} لما كان الحسبان يقع بهما والشمس راجعة للحسبان، الشمس والقمر للحساب القمري برؤية الأهلة. قوله تعالى: (ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ). قال ابن عرفة: إن قلت: هل قيل: ذلك خلق العزيز العليم كما قال (هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ) فالجواب أن التقدير بمعنى الإرادة، والإرادة فائدتها التخصيص، فلو قيل: ذلك خلق العزيز العليم لما أفاد تخصيصهم صفة دون صفة، وقيدت من بعض كلام أصحابنا في هذه الآية ما نصه: قال الزمخشري: يصح عطف الشمس على موضع والليل؛ لأن موضعه نصب، فإِن قلت: كيف صح عطفه عليه واسم الفاعل للمضي فلا يعمل، فأجاب بأنه إذا عمل لكونه دالا على معنى في الأزمنة المختلفة. قال أبو الحسن الطيبي: يعني أن في إضافته اعتبارين: أحدهما: أنها محضة باعتبار معنى المضي فيه وبهذا الاعتبار يقع صفة للمعرفة. وثانيها: أنها غير محضة باعتبار معنى الاستقبال فهذا الاعتبار يعمل فيما أضيف إليه، ونظيره قوله تعالى: (أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى) كان (أَيًّا). من حيث تضمنها معنى الشرط عاملة في تدعوا ومن جهة كون إنما متعلقا بـ تدعوا معمولا له. قال ابن القصار: وهذا في غاية الإشكال؛ لأن اعتبارين متضادين في حيز واحد في محل واحد غير مفعول وإضافة الشيء الواحد في خبر واحد لَا تكون متصلة؛ لأنها باعتبار المضي حقيقة وباعتبار الاستقبال غير حقيقة فكيف يلاحظ فيها اعتباران متضادان بخطاب (أَيًّا مَا تَدْعُوا). لأن المحل مختلف والعمل كذلك فأحد المحلين العاملين أي وعلة الجزم، والآخر تدعوا ومحله النصب وهنا المحل واحد وهو الإضافة، انتهى.

ورد الشيخ أبو حيان على الزمخشري بأن اسم الفاعل إذا لم يتقيد بزمان فلا يعمل وليس المجرور في محل، كقولك: أَلْقَيْتَ كَاسِبَهَمْ فِي [قَعْرٍ*] مَظْلَمَةٍ أجاب أبو إسحاق إبراهيم السفاقسي بأن مراد الزمخشري إنما هو بدلالته على الاستمرار في الأزمنة أبدا ومستقبلا؛ لأنه في كل آنٍ جاعل الليل سكنا إما حالا أو مستقبلا لعمل؛ لأنه بمعنى الحال والاستقبال. قال صاحبنا ابن القصار: والحق ما قاله أبو حيان؛ لأن مراد النحاة بقولهم اسم الفاعل إذا لم يقيد بالزمان لَا يعمل أي إذا لم يتقيد بزمان متعين إما حال أو مستقبل، فقول الزمخشري: أنه دال على جعل معتبر في الأزمنة المختلفة تقتضي غيرها اعتبره النحاة من كونه لا يعمل؛ لأنه قيد بزمان معين وهو نظير قول الحطيئة: أَلْقَيْتَ كَاسِبَهَمْ فِي [قَعْرٍ*] مَظْلَمَةٍ أي الذي من شأنهم أي يكسب لهم في الماضي والحال والاستقبال فهو أيضا لم يتعين بزمان معين إذ الكسب لابد أن يكون في زمان فالمراد غير دال على زمان معين فهو مراد الزمخشري بقوله: دال على عمل مستمر في الأزمنة المختلفة أي أنه مسلوب الدلالة على الزمان المعين، انتهى. ولما ذكر ابن القصار في شرح سر الخلاف في اسم الفاعل المتعدي لمفعولين إذا كان بمعنى المضي هو الناصب للمفعول الثاني، أو فعل مقدر دل عليه. الأول للسيرافي، قال: قلت لابن عصفور: لَا يوجد هذا في كلامهم أصلا، فاستشهد بقوله تعالى: (وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا) فقلت له: لعلها بمعنى خلق، و (سَكَنًا) حال، فقال: إنه كان من الليل سكنا لَا في حينه، فقلت له: هي حال مقدرة، فقال: يلزمك ادعاء كون الله تعالى موصوفا بهذه الصفة، وصفات الله تعالى توقيفية فلا يوصف إلا بما ورد أنه وصف به نفسه، فقلت: الذي يدل على وصفه يقدر أنه الآن كذلك قد قدره، فقال: لَا دليل لك إذ يمكن أن يكون خلقه أولا لهذا ثم جعله هكذا يعني الخلق، انتهى. قلت: قال ابن القصار: هذا البحث بناء على إنما جعل سكنا حالا من اسم الفاعل وهو غير جائز عند البصريين؛ لأنها تكون صفة جرت على غير من هي له، فيجب إبراز الضمير عند البصريين؛ لأن السكون من جهة الليل والمعنى جاعل الليل ذا سكون

(97)

أو سكونا فيه، وليس المعنى جاعل الليل مقدرا فيه السكون حتى يلزم منه وصف الله تعالى، المعنى جاعل الليل مقدرا فيه السكون ومقدرا اسم مفعول، فلا يلزم منه هذا بالنص لكن باللزوم من جهة أن الله هو الفاعل لكل شيء، قال: ونص النحويون في خبر المبتدأ والحال والصفة إنما يمتنع جريانها على غير من هي له وإنَّمَا يجب إبراز الضمير فيها مطلقا، والكوفيون يجوزونه إذا أمن اللبس، انتهى. قوله تعالى: {قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (97)} قال الزمخشري: خصص الأول (يَعْلَمُونَ)، والثاني (يَفْقَهُونَ)؛ لأن إنشاء الإنسان من نفس واحدة، ونظيره إلى حالات مختلفة ألطف وأدق صنعة وتدبيرا فناسب تخصيصه بالفقه المقتضي لاستعمال الفطنة وتدقيق النظر. ابن عرفة: وتقدمنا تقريره بوجهين: المعنى أن العلم راجع للتصور، والفقه راجع للتصديق فتناسب أن يعقب الأول بـ (يَعْلَمُونَ)؛ لأنه بدئ به فعقبه بما هو سابق على التصدق. قال: وعكس آخرون، فقالوا: العلم راجع لعلم الكلام وغيره من العلوم، وعلم الكلام إنما يتكلم فيه باليقين المحقق لَا بالظن، والفقه أحكامه كلها ظنية فيعلمون أبلغ من يفقهون. قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ ... (99)} ابن عرفة: وقع التذكير بآية سماوية، ثم تخلف أنفسهم، ثم تقوم أنفسهم. قوله تعالى: (فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ). هذا التفات، فإن قلت: ما فائدة الالتفات هنا في الانتقال من الغيبة إلى المتكلم، قلنا: فائدته أن هذا الباب أعجب وأغرب من الأول ففيه رد على [الطبائعيين*] إذ لو كانت هذه الأشياء أصل بالطبيعة لكان الشجر المسقي بالماء الحلو حلو أكله، والمسقي بالماء المالح مالحا أكله، قال تعالى (يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ) فأسند تعالى فعلها إليه إشارة إلى أنه خالق كل شيء. قوله تعالى: (فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا). لأن الجداول ما ينشق يخرج نباته أبيض، ثم يخرج من هذا الأبيض شيء أخضر وانظر نواة التمر كيف يخرج منها بالجمار. قوله تعالى: (نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا).

(100)

هذا زيادة وعظ وتذكير بهذه النعمة. قوله تعالى: (انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ). قال ابن عرفة: النظر للتمر فيه في فائدتان: وهي النظر فيه للذة الأكل في الدنيا، والاعتبار والاستدلال على أن له خالقا موجودا وهذا منفعة أخروية ويستوي فيه العظيم والحقير والمالك وغيره، فنظر الإنسان في ملك غيره ليعتبر والأولى قاعدة على المالك. قوله تعالى: {وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ ... (100)} .. قال: هذا يدل على أن أقل الجمع اثنان. وأجاب ابن عرفة بما قال ابن التلمساني في قوله [(بَنِينَ) *] خيار للرجال بالنكاح وهي إنما يتوجب لواحد. قوله تعالى: (بِغَيْرِ عِلْمٍ). قال ابن عرفة: إن قلت: ما أفاد قوله: (بِغَيْرِ عِلْمٍ) مع أن هذا ليس من قبيل المعلوم؛ لأنه محال؟، فالجواب بوجهين: الأول: أن هذا مما لَا يصح فيه إلا بعلم وليس هذا من الأمر الذي يتكلم فيه بالظن، والحدس. الثاني: التنبيه على أن ليس لهم في ذلك شبهة ولا مستند بل هو مجرد افتراء وجهالة. قوله تعالى: (سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى). ابن عرفة: قالوا: فإن قوله (وَتَعَالَى) نفي القابلية، فسبحان لنفي الواقع الموجود (وَتَعَالَى) لنفي القابلية، كقولك: حاش لزيد أن يفعل القبائح. قوله تعالى: (عَمَّا يَصِفُونَ). أتى فيه بلفظ المضارع مع أن ذلك ماض قد وقع، ابن عرفة: الجواب أن فيه تسلية للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وإعلام بأنهم ندموا على ذلك فلا يتأسف على كفرهم فإِن الله تعالى منزه عن ذلك لَا يضره شيء من فعلهم. قوله تعالى: {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ... (101)}

(102)

قال الزمخشري: هذه صفة مشبهة باسم الفاعل أي بديعة سماواته، مثل: حسن الوجه أي حسن وجهه، أو خبر لمبتدأ مضمر أي: هو بديع السماوات، كقولك: فلان ثبت العذر. ابن عرفة: قال صاحب مختصر العين: العذر هو الموضع الكثير الحجارة، وثبت العذر أي لَا نظير معنى أنه لَا يغلب في القتال والحروب أشار إلى أن موضع الأحجار موضع الزهو وعدم الثبات فلا يقدر فيه على متابعة العذر إلا الرجل النحرير الشجاع فهذا الرجل يثبت وكذلك هنا لَا نظير له في إبداعه. قوله تعالى: (أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ). استدل في الآية على نفي الولد إما بالبرهان العقلي أو بالخطابة أما البرهان فتقديره أنه مبتدع الشهوات إبداعا لَا نظير له، فدل على أنه الإله والإله موصوف بالكمال منزه عن النقائص، والولد مناف لذلك، وأما الخطابة: فلأن الولد من صفات الأجسام إذ لا ولد في الحقيقة إلا لمن له صاحبة وهو سبحانه منزه عن المجانس. قوله تعالى: (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ). قال ابن عطية: هذا اللفظ عام لكل ما يجوز أن يدخل تحته ولا يجوز أن يدخل تحته صفات الله تعالى وكلامه، فليس هو عموما عن مخصوص كما ذهب إليه قوم. لأن العموم المخصوص أن يتناول العام شيئا يخرجه التخصيص فهذا لم يتناوله قط، وإنما هو قولك: قتلت كل فارس وأثخنت كل خصيم فلم يدخل المتكلم بهذا بوجه. ابن عرفة: هذا خطا؛ لأنه فهم أنه داخل في متعلق لفظ خلق، ونحن نقول هو داخل في قوله: (كُلَّ شَيْءٍ)؛ لأن ذاته تعالى تدخل فيه إن قلنا إنها يصدق عليها لفظ شيء، وإسناد الخلق إلى ذاته قرينة في أنه عام مخصوص لَا يتناوله الذات ولا ما اتصف به. قوله تعالى: (وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ). قيل لابن عرفة: أن ابن دهمان قال في شرح الإرشاد: أن هذا عام مخصوص؛ لأنه تعالى لَا يعلم له صاحبة، ولا يعلم له شريك، فقال ابن عرفة: يريد أنه مخصوص بالمستحيل فهذا غير صحيح؛ لأن المستحيل لَا يطلق عليه لفظ شيء بوجه. قوله تعالى: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ... (102)}

(103)

أعاده بلفظ الاسم؛ لأنه أبلغ وليرتب عليه الأمر بالعبادة. قوله تعالى: (وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ). وعد ووعيد. قوله تعالى: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ ... (103)} إن قلت: الإدراك أخص من الرؤية فهي نفي للجواز ويتم على مذهبنا ومذهب المعتزلة، وإن قنا: إن الإدراك مساو للرؤية فهي نفي للوقوع عندنا في دار الدنيا على قول عائشة رضي الله عنها وغيرها خلافا لابن عباس - رضي الله عنه -. قال أثير الدين الأبهري في تأليفه في أصول الدين: لَا تدركه بالأبصار وإنما يدركه ذو الأبصار. قوله تعالى: {قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ ... (104)} قال ابن عرفة: هذا من إقامة السبب مقام مسببه أي قد جاءتكم الآية البينة التي ليست في البصائر، ولفظ الرب مناسب على مذهبنا؛ لأن بعثه الرسل محض بفضل من الله تعالى إذ لَا يجب عليه شيء، ولفظة (قَدْ) هنا مناسبة؛ لأن المؤمنين كانوا يتوقعون مجيء ذلك وتذكير العقل. قال أبو حيان: إما للفصل، وإما لأن التأنيث غير حقيقي. ابن عرفة: ويرجح الثاني بقوله تعالى: (هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ) إلا أن يقال: أن الإشارة للمتقدم لَا إلى ما بعده. قوله تعالى: (فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ). قال أبو حيان: (فَلِنَفْسِهِ) إما خبر عن مبتدأ مقدر أي إبصاره لنفسه، وإما متعلق بفعل مقدر أي فلنفسه أبصر، ورجح الأول ثلاثة أوجه: الأول: أنه على تضمن كلمتين مضاف ومضافا إليه، وعلى الثاني: تضمن كلمة واحدة وهي أبصر. الثاني: أن الفاء لَا تدخل في جواب الشرط إذا كان ماضيا إلا بشرطين: أحدهما: أن يكون مستفهما عنه والآخر وليس هنا. وأجاب ابن عرفة بأنهم زادوا شرطا ثالثا، وهو: أن يكون ماضيا، ومعنى قوله تعالى: (وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ ... (105)

(106)

قال الزمخشري: واللام للصيرورة. قال ابن عرفة: هذا يناسب مذهب المعتزلة؛ لأنهم يقولون: إن الله تعالى لَا يخلق الشر ولا أراده؟ لأنه قبيح فجعلها للصيرورة أي فعل ذلك ليؤمنوا، قال: أمرهم إلى الكفر. قال ابن عرفة: ولا يناسب أن يكون للصيرورة لَا عندنا ولا عند المعتزلة؛ لأن من لوازم لام الصيرورة الجهل بالعاقبة، والله تعالى عالم بكل شيء مستحيل عليه الجهل بالعاقبة. قوله تعالى: {اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ ... (106)} قال ابن عرفة: لما تقدم التنبيه على انقسام الأمة إلى قسمين: فمنهم قسم مكذب يقول: إن تلك الآية يسمعها من غيره ودرسها عليه، ومنهم: مؤمن مصدق لكل ما جاء به أنه من عند الله، أتى بهذا الأمر في معرض الرد على الفريق الأول إشارة إلى أن ذلك وحي من الله تعالى؛ لأنه يسمعه من غيره ودرسه عليه. قوله تعالى: (لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ). أمر بالتوحيد على سبيل التوحيد أو دليل على الأمر بالاتباع، أي إذا كان منفردا بالألوهية وجب عليك اتباعه فيما كلفك به، قالوا: وهذا دليل على عدم ورود النسخ في القرآن؛ لأنه أمر باتباع الوحي ناسخه ومنسوخه فيفيد الجمع بين النقيضين، وأجاب الآخرون بأنه أمر باتباع المنسوخ إلى وقت معين وباتباع النَّاسخ دائما. قوله تعالى: (وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ). ابن عرفة: ارض بفعلهم باعتبار الخلق والاختراع، واعلم أن الله تعالى قدره عليهم وأراده منهم وأقدرهم عليه، وإما باعتبار الحكم الشرعي فهو مأمور بقتالهم ونظيره تغيير المنكر واجب مع اعتقاد أن الله تعالى قدر المعصية وأرادها من فاعلها وأقدر عليها، قلت: وجرت هذه الآية في ميعاد الفقيه أبي القاسم الغبريني. قوله تعالى: (لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ). أن يكون حالا وأن يكون اعتراضا. فرده عليه الفقيه أبو زيد عبد الرحمن الحلواني بأن ابن أم قاسم نص في شرح ألفية ابن مالك على أن الجملة المنفية بـ لا لَا تأتي حالا إلا بالواو، وأن المضارع بالنفي لا

(107)

يستعمل بالواو إلا قياسا، فأجابه أبو العباس أحمد بن القصار عن قوله الأول بقول الشاعر: رب مهزولٍ سمين [عرضه*] ... وسمين [الجسم*] مهزول [الحسب*] أكسبته الورق البيض أباً ... ولقد كان وما يدعى لأب وأجاب عن قوله ولا تستعمل إلا قياسا بقول الشاعر: تفانى مصعب وبنو أبيه ... وكنت لا ينهنهني الوعيد أنشدها ابن عصفور في شرح مقربه. قوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا ... (107)} ابن عرفة: لو شاء الله عدم إشراكهم. قوله تعالى: (وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ). لأن الوصي أخص من الوكيل، ونفي الأخص لَا يستلزم نفي الأعم؛ لأنه إذا أطلق في الوصية عمت في كل شيء، وإذا أطلق في الوكالة لم تعم إلا على رأي الأندلسيين، والوصية من فعل غير المنوب؛ لأنها من فعل الأدب، والوكالة شيء من فعل المنوب عنه لَا من فعل الشخص نفسه فليس هذا تأكيدا وإنما هو تأسيس، قلت: وقال الفقيه الغبريني: لو قال قابل وصالح لأن تكون وكيلا عليهم، قال: ولا يكون تكرارا فحمل الحفيظ على الوكيل. ابن عرفة: وفيه تسلية للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، كما قال تعالى (لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ). قوله تعالى: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ... (108)} إبلاغ هذا إما راجع للعصاة وإما للمشركين، وظاهر الآية رجوعه للمشركين، لقوله تعالى: (فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ)، وأورد الزمخشري سؤالا سب الآلهة طاعة فكيف نهي عنه، وأجاب بأنها تستلزم مفسدة فكذلك شرع كتغيير المنكر إذا أدى إلى الوقوع في مفسدة. قال: وحضر الحسن ومحمد بن سيرين في جنازة فرأى محمد بن سيرين نساء فرجع، فقال الحسن: لو تركنا الطاعة لأجل المعصية لأسرع ذلك في ديننا. ابن عرفة: لأسرع في ديننا بالنقض والاختلال بالطاعة إن كان فعلها يقارن المعصية لم ينبغِ تركها، وإن فعلها يوجب نهي عنها ولم ينبغِ فعلها كما قالوا في حضور الوليمة.

(109)

قوله تعالى: (كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ). قال الفخر: فيها حجة لأهل السنة في قولهم: إن الله خالق الخير والشر، ابن عرفة: بل هي حجة للمعتزلة لقوله (عَمَلَهُمْ) فنسبة العمل إليهم، وإنما فيها حجة لأهل السنة من وجه آخر وهي قاعدة مراعاة الأصلح، بمعنى أن الله يجب عليه مراعاة الأصلح للعبد؛ لأن كفر الكافر ليس بأصلح شرعا. قوله تعالى: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ ... (109)} قال أبو حيان: الجهد بالفتح هو المشقة، وبالضم بلوغ الطاعة. ابن عرفة: المناسب العكس وعليه تدل الآية إلا أن يقولوا: يصح إيقاع أحدهما موقع الآخر، حسبما قال ابن قتيبة في (أدب الكاتب) وذكر أبو حيان في إعراب جهد أيمانهم وجوها، وزاد ابن عرفة أن يكون معنى المصدر محذوفا أي قسما جهد أيمانهم. قوله تعالى: (لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا). ذكرا المفسرون في سبب نزولها أن المشركين طلبوا من النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أن يصير لهم الصفاء ذهبا ويؤمنوا. وأورد ابن عرفة هنا سؤالا قال: أنه لو جاءتك آية على وفق تمنيهم لكانت معرفة، فكان يقال: (لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا) فلم نكرت؟، وأجيب بأنها نكرت تنكير تعظيم وتخصيص بالصفة أي آية مصرحة، كما قالوا في قوله تعالى: (وَالْفَجْرِ (1) وَلَيَالٍ عَشْرٍ). قوله تعالى: (وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ). قال ابن عرفة: الشعور: هو إدراك أوائل الشيء، فالشعور هو أوائل التصور ومبادئه فهو أعم من التصور الحقيقي والتصديق، فكذلك النفي؛ لأن نفي الأعم يستلزم نفي الأخص. قال ابن عرفة: وأشعر من أخوات ظننت، قلت: [رده*]، وقال: بل هو من أخوات [دريت*]، قلت: وفي صحاح الجوهري ما نصه أشعرته فشعر أي من أدريته فدرى، وأشعرته ألبسته الشعار، وأشعره فلان شرا: غشيه به، يقال: أشعره الحبُّ مرضا. وذكر أبو حيان في إعرابه وجوها: منها: أن لَا زائدة وأن بمعنى لعل،

(110)

ابن عرفة: والخطاب على هذا لم يجز بعدم إيمانهم فيكون في هذا عذر لهم. في طلبهم الآية المتقدمة. قوله تعالى: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ ... (110)} وقال في سورة الأحقاف (وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً) فقدم الأفئدة هنا على الأبصار وأخرها هناك في الأحقاف، قال: وعادتهم يجيبون أن السمع والبصر طريقان إلى القلب، وآية الأحقاف خرجت مخرج نفي الطرق والأسباب لقوله تعالى: (فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ) فاعتبرت فيه السببية، وهذه الآية خرجت مخرج إثبات المعنى الذي في القلب والإعدام بأن حصوله فيه إنما هو من الله تعالى لَا من غيره، فالله تعالى خلق في قلوبهم ضد الإيمان فلا يقابل غيره بوجه؛ لأن المقصود فيه الضد، فلا فائدة في الوسيلة أثر بوجه؛ لأن المقصود فيه الضد فلا فائدة في الوسيلة. قوله تعالى: (كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ). في هذا تنبيه على أن الإنسان ينبغي له أن يعتقد كمال التوحيد لله عز وجل، وأن لا فرق بين حالتهم قبل نزولها ولا بعد نزولها فدل على أن جميع ذلك بخلق الله تعالى وإرادته فلا يؤمنون بعد صيرورة الصفاء ذهبا كما لم يؤمنوا قبل ذلك، ومنهم من جعل الكاف للتعليل ويكون من المعاقبة بالذنب على الذنب. قوله تعالى: (وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ). هذا أيضا من المعاقبة من الذنب بذنب آخر وهو أشد من العقوبة بالفعل لاستلزامه العقوبة على الأول والثاني. قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ ... (111)} ابن عرفة: أخذا به؛ لأن قوله (وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ) يقتضي في غمة وحيرة، فقد يتوهم أن عدم إيمانهم بعد مجيء الآية التي طلبوا من النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لأجل شبهة تعرض لهم فيكون في غمة وحيرة بسببها، وإلا فقد حصل لهم العلم، فأفاد هذا أنهم يمتنعون لَا لأجل شبهة بل لكون الله تعالى أحيا لهم الأموات فكلموهم. قيل لابن عرفة: هذا إن أريد الكلام من الحجر والحمار وهو الحروف والأصوات لا كلام النفس.

(113)

قوله تعالى: {وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ ... (113)} هذا راجع إلى استماع الآية. قوله تعالى: (وَلِيَرْضَوْهُ). راجع إلى التصديق بها. قوله تعالى: (وَلِيَقْتَرِفُوا). راجع إلى العمل بمقتضاها. قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا ... (114)} هذا إما لعلة الحكم، كما تقول: أتزني وأنت شيخ، أتكذب وأنت ملك، أتتكبر وأنت عائل، والخطاب عام في المسلمين وأهل الكتاب. قوله تعالى: (فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ). فهي أخص، فإن قلت: هلا قيل فلا تكونن ممتريا؟، فالجواب أنه شبه ما قالوه في قوله تعالى: (وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) أي لو وقع منه [ظلم*] [كان كذلك*]. قوله تعالى: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا ... (115)} قال ابن عطية: تمت أي استمرت، وصحت في الأول وليس بتمام من نقص عارض لها في ذاتها. ابن عرفة: أو يكون من نقص يتوهمه متوهم؛ لأنه من نقص عارض لها في ذواتها، وقرئ كلمة بالإفراد. ابن عرفة: فالجمع؛ لأنها متعددة باعتبار متعلقها، والإفراد بكونها مفردة بالنوع، كذلك تقول: قرأت كلمة فلان يعني قصدته. قوله تعالى: (صِدْقًا وَعَدْلًا). قال الزمخشري، وابن عطية عن الطبري: إنهما على التمييز زاد ابن عطية إنها مصدر في موضع الحال، أبو حيان: حال من ربك أي حال كونها من ذي صدق أو حال من كلمات، أو مفعول من أجله، ورده ابن عرفة بأنه لَا يقال: ثم صدقها [فتمت*]

(116)

هي في نفسها والصدق من صفاتها بعد التمام، وقال: وصدقا راجعا للخبر وبعضها أخبار وبعضها أحكام. قوله تعالى: (لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ). قال ابن عرفة: فيه حجة لأهل السنة القائلين بأن الأمر ملزوم للإرادة فلا يأمر إلا بما يريد، فالكفار مأمورون بالإسلام وقد كفروا وكذلك العصاة، فقد وقع التبديل فكيف ينفي التبديل، قال ابن عرفة: هذه الآية خرجت مخرج التهييج والإلهاب (فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ) تهييج وإلهاب على الأمور العلية. قوله تعالى: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ... (116)} قال ابن عرفة: هذه الآيات خرجت مخرج التهييج على الأمور العملية، وعبر بأن الداخلة على المحال والمشكوك فيه دون إذا الداخلة على المحقق الوقوع أو الراجح الوقوع، ابن عرفة: وفي الآية حجة لمذهب أهل السنة القائلين بأن الأمر يشترط فيه الاستعلاء دون العلو؛ لأن الطاعة من موافقة الأمر، والآمرون هنا متصفون بالاستعلاء فقط؛ لأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أعلى منهم. ابن عرفة: وقد يجيبون بأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أعلى من الكفار في نفس الأمر باعتبارهم دعواهم أنهم أعلى. قال ابن عرفة: والأكثر يطلق باعتبار الكمية وباعتبار الصفة والكيفية ومثله إذا جعلت دنانير مغربية في جهة، ودنانير تونسية [هي*] أقل عددا من المغربية، وقلت لرجل أعط لفلان أكثر تلك الدنانير فإن حملت الأكثر على الكمية صح أن تعطيه من هذه ومن هذه عددا يكون أكثر من باقي مجموعها، وإن حملت على الكيفية إنما تعطيه الدنانير المغربية والكثرة هنا إنما هي باعتبار الكيفية وهم المشركون وكثرتهم إما باعتبار أن يكونوا رؤساء قومهم فهم أكثر باعتبار الشهرة والرفعة، كما قال تعالى (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا)، وإما باعتبار عددهم. قوله تعالى: (إِنَّ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ). أخذوا منه نفي العمل بخبر الواحد ونفي العمل بالقياس، وأجيب بأن المراد إلا الظن الذي دل على بطلانه. قوله تعالى: (وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ).

(117)

إن كان حالا من ضمير [لهم*] فيكون جوابا لمن استدل بها على إبطال الخبر بعمل الواحد والقياس، وإن لم يكن حالا منه، فيجاب عن ذلك بما قلناه. قوله تعالى: {هُوَ أَعْلَمُ ... (117)} ابن عرفة: هذا فعل من يقتضي المشاركة لكن باعتبار الحقيقة لَا مشاركة، وباعتبار القسم المشاركة حاصلة. قوله تعالى: (مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ) عبر هنا بالفعل، ثم قال (وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) فعبر بالاسم؛ لأنه لما كان الاهتداء مأمورا به مطلوبا تحصيله جعل كالأمر الثابت المحقق فعبر فيه بأخص أوصافه وهو الاسم الدال على ثبوته وتحققه، ولما كان الضلال منهيا عنه مطلوبا عدمه عبر فيه باللفظ الأعم الدال على المطلق على ضلال منه، فجعل على ما قالوا من استعمال الأعم في النفي؛ لأن نفيه يستلزم نفي الأخص في الثبوت؛ لأن ثبوته يستلزم ثبوت الأعم؛ لأنه إذا نهي عن مطلق ضلال فأحرى أن ينهي عن الحصة الثابت المحقق، وإذا أمر بالهداية الكاملة المحققة فأحرى أن يؤمر بما دونها. قوله تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ ... (118)} ذكره الزمخشري هنا للمشركين دليلا خطابيا وهو أنهم قالوا: أنتم تعبدون الله فحقكم أن تأكلوا الميتة؛ لأن أكلكم مما قتل الله أولى مما قتلتموه أنتم؛ لأن الشيء يشرف بفاعله فنزلت الآية، وهذا الأمر إما للإباحة والامتنان إن لم يعتبر فيه قيده، وإما للندب أو الوجوب إن اعتبرناه؛ لأن التسمية إما مندوب إليها أو واجبة، فإن جعلناه مأمورا بالأكل كما أمر بالتسمية، كان الأكل واجبا، أو مندوبا، فلا يحل له إذا ذبح شاة أن يتركها؛ لأنها من باب إضاعة المال، ونظيره قولك: [ادخل المسجد*] فإن [اعتبرت قيده*] كنت قد أمرته بالدخول والصلاة، وإن لم يعتبر القيد، [فقد*] أمرته بالدخول فقط. قوله تعالى: {وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ ... (119)}. . حمله ابن عطية بوجهين: أحدهما: أنه نهى عن ترك الأكل مما ذكر اسم الله عليه وفي ضمنه الأمر بالأكل مما ذكر اسم الله، بناء على أن النهي عن الشيء أمر بضده.

(120)

والثاني: أنه أمر بالتسمية بناء على أن الأمر بالشيء أمر بما لَا يتم ذلك الشيء إلا به كالأمر بالأكل مما ذكر اسم الله أمر بالتسمية عليه عند الذبح. قوله تعالى: (إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ). الاستثناء إما متصل أو منفصل، فإن كان متصلا فهو مستثنى من الضمير القائم مقام الفاعل في (حَرَّمَ عَلَيْكُمْ) على قراءة البناء للمفعول، أو في الضمير للمفعول به على قراءة البناء للفاعل .. قوله تعالى: (بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ). قال ابن عرفة: الفعل على الميتة أقسام فإن كان لمجرد هوى النفس من غير اتباع علم لم يجز، وإن كان لمجرد العلم من غير اتباع هوى فهو المطلوب المثاب عليه وإن كان لهما معا فإن كان الوارد على فعله هوى النفس فهو مأثوم بما فعل منها كالقاضي يحكم بالحق تشيعا فيه وإذا كان الوارد على فعله العلم فهو جائز. قوله تعالى: {وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ ... (120)} قالوا: ورود النهي عن الشيء بصيغة لَا تفعل أبلغ من وروده بصيغة اترك، فقولك: لَا تقم أبلغ من قولك: اترك القيام فما الحكمة في العدول عنها في هذه الآية، قال: وأجيب بأن ذلك إنما هو إذا لم يعقب لك الأمر بجزاء يقتضي تأكيده، وهنا عقب الأمر بجزاء، ولا شك أن ترتيب الجزاء على الفعل باعتبار الوجود الخارجي أظهر من أن يغفل ترتيبه على الترك. قوله تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ ... (121)} قال ابن عرفة: الآية دليل على أن الاسم غير المسمى؛ لأنه ما المراد هنا إلا الذكر اللفظي واختلفوا، فقال بعضهم: الآية إنما هي في الميتة وحجته أن المفسرين ذكروا في سبب نزولها أن الكفار قالوا: كيف تأكلون مما قتلتم ولا تأكلون مما قتله الله؟؛ فنزلت الآية ردا عليهم؛ فدل على أن المراد بما مات حتف أنفه لَا ما ذبح ولم يسم عليه. قوله تعالى: (وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ). قال ابن عرفة: القاعدة أن يأتوا به مفصولا لَا موصولا بحرف العطف، قال: والجواب أن الأول أتى للتعليل؛ لأن ذكره الوصف المناسب عقيب الحكم يشعر بكونه علة للحكم؛ فلذلك عطف عليه هذا ليفيد أن الحكم معلل بعلتين:

(122)

أحدهما: الترك وهي عدم التسمية، والأخرى منصوص عليها. قوله تعالى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ ... (122)} هذا إنكار للتسمية؛ فانظر هل هو من عكس التشبيه؛ لأنه تشبيه الحقير بالعظيم لا تشبيه العظيم بالحقير أو لَا؟. قوله تعالى: (كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ). إن قلت: هلا قيل كمن هو في الظلمات؟ قال: والجواب أن هذا أبلغ، لأن قولك: مثلك لَا يفعل أبلغ من قولك: أنت لَا تفعل هذا؛ لاقتضاء الأول نفي الفعل ونفي القابلية للفعل، والثاني إنما يقتضي نفي الفعل، وجمعت الظلمات لتشعب طرق الشرك وتعددها، وأفرد النور لَا في طريقة واحدة، قلت: لأنه إذا أنكر تشبيه أيما شيء في مطلق كالمخلد في الظلمات. قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا ... (123)} قال ابن عرفة: انظر هل المراد أكابرهم مجرمون فيكون من إضافة الصفة للموصوف، مثل دار الآخرة وجانب الكرسي؛ أي جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها فعلى الأول يكون ليس في كل قرية مجرمون إلا أكابرها، وعلى الثاني المجرمون منها أعم. ابن عرفة: والظاهر الأول تنعمهم وإترافهم وجاههم يحملهم على الإجرام والمعصية، قال تعالى (وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) قوله تعالى: (لِيَمْكُرُوا فِيهَا). قال ابن عطية: (لِيَمْكُرُوا) نصب بلام الصيرورة. قال ابن عرفة: هذا اعتزال؛ لأن المعتزلة يقولون: إن الله تعالى [يجب عليه مراعاة الأصْلح*]، يخصهم [به*] ليطيعوه. ابن عرفة: أي أن تكرار أن لام الصيرورة من لوازمها الجهل بالعاقبة، والله تعالى عالم بكل شيء؛ فلا يتم هذا التفسير لَا على مذهبنا ولا على مذهب المعتزلة. قوله تعالى: {لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ ... (124)}

(125)

قال ابن عرفة: حتى أبلغ في الغاية من إلى، قال: وهذا تهكم وإخبار بأن إيمانهم به محال؛ لأنهم إذا أوتوا مثل ما أوتي رسل الله فلم يؤمنوا بالرسل وإنما آمنوا بما أوتوا إلا بما جاء به الرسول؛ فكأنهم يقولون: لن نؤمن أبدا. قوله تعالى: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ ... (125)} قال ابن عرفة: المراد الغاية الأخصية لَا الأعمية المذكورة أي (إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا) والإسلام هنا بمعنى الإيمان إذا لوَ لم يكن بمعناه للزم عليه وجود الإيمان دون هداية، واللازم باطل فالملزوم مثله بيان والملازمة؛ إذ الآية دلت على أن [كلما وجدت إرادة الهداية وجد الإسلام*]، والإسلام راجع إلى الأعمال الصالحة، والإيمان راجع إلى الاعتقاد القلبي وهو مجرد التصديق فلو لم يكن هناك شيء لكانت الهداية مستلزمة لوجود الإسلام الذي هو من فعل الجوارح فيكون الإيمان وجد قبلها دون هداية. قال: والجواب أن الهداية مستلزمة لشرح الصدر للإسلام كأنها مستلزمة للإسلام يكون محصول الإيمان قبل الإسلام. قوله تعالى: (يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا). قال ابن عرفة: كان بعض الشيوخ يقول: إن الضيق راجع إلى أمر محسوس وهو أن المظروف فيه أكثر من الظرف حسا، والحرج راجع إلى أمر معنوي وهو نفي القابلية عن اتساع الظرف للمظروف إما بعدم خلق الهداية في القلب؛ وإما بخلق الضد فيه فلا يقبل الهداية، قال: وكان مثل الضيق الحسي بيت صغير أردت أن تدخل فيه جملا فلم يسعه، وكذلك دخول الجمل في سم الخياط فإنه يضيق عنه، ومثل الحرج المعنوي ببيت كبير يسع الجمل حسا، وعدم هدايته لَا يسمع بمعنى أنه لَا يستطيع يقاوم فيه؛ فكذلك قلب من أضله الله. قوله تعالى: (كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ). عبر هنا بالإيمان وهو أعم، وقال قبله (يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ) فأتى هذا كله على الأصل مثل استعمال الأخص وهو الأعم في الثبوت والأَعم في النفي، (فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ). قوله تعالى: {وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا ... (126)} الإشارة إلى مطلق حكم الله الأعم في إضلال من أضل الله وهداية من اهتدى.

(127)

وكان بعضهم يقول: إنه لف ونشر، فالصراط المستقيم لقوله تعالى: (وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا) أي هذا حكم العذر في عباده. قوله تعالى: (قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ). راجع لقوله (فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ) بأن التذكير راجع للاهتداء، وتفصيل الآيات يحتمل أن يكون ابتدائيا، ويحتمل أن يكون مسبوقا بإجمال، فإن كان التفصيل يستلزم تقدم الإجمال فيكون حجة لمن يقول من المبتدعة: إن العلوم كلها تذكيرية. وحكى الأصوليون الخلاف في البيان يقتضي تقدم الإجمال أم لا. قوله تعالى: {لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ ... (127)} إن كان تقديم المجرور لحصر الضمير عاما في المؤمنين طائعهم وعاصيهم؛ أي دار السلام والنجاة ليست إلا لهم لَا لغيرهم، وإن يكن للحصر فيكون الضمير عائدا على المؤمنين الطائعين فدار السلام لهم ولا بد أن يكون ذلك لغيرهم وهم العصاة من المؤمنين. قوله تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ... (128)} قيل: العامل فيه وليهم. ابن عرفة: فلابد من إضمار بما يعطف عليه، أي: وهو وليهم في الدنيا ويوم نحشرهم. قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا ... (129)} وتبعه في دخول النار، والاثنان راجعان للدنيا أحدهما: العبادة أيضا بعضهم ولي بعض في الكفر والظلم، والثاني عكسه لابن زيد أن يسلط بعضهم على بعض ويجعله وليا في القهر منتقما منه. ابن عرفة: فاسم الإشارة على الأول راجع لقوله تعالى: (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا)؛ لأنه أمر أخروي، وعلى الوجه الثاني والثالث يرجع لقوله تعالى: (فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ)، (وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ)؛ لأنه أمر دنيوي، والآية تدل على إطلاق البعض على الأكثر، فإن قلت: قد يكون نفي بعض ثالث مسكوت عنه كما تقدم في قوله تعالى: (وَأَقْبَلَ بَعْضُهُم عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ) قلنا: هنالك يمكن الجواب بهذا، وأما هنا فهذا تقسيم مستوي. قوله تعالى: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ ... (130)}

(131)

المعشر هم الجماعة، وتصدير الآية بها توطئة لما رتب عليها وبه يترجم تأويلها، بأن المراد بقوله (رُسُلٌ مِنْكُمْ) أنهم من الإنس فقط، كقوله (يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ) وهو إنما يخرج من البحر المالح. قوله تعالى: (قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا). ابن عطية: هذا إقرار منهم بالكفر. ابن عرفة: باعتبار شهادة كل واحد على نفسه، ويحتمل أن يكون شهادة حقيقية باعتبار شهادة كل واحد على غيره. قوله تعالى: {ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ ... (131)} ابن عطية: حملته على معنيين: أحدهما: أن الله تعالى لم يكن ليظلم القرى فيهلكهم دون أن يبعث إليهم رسولا يبين لهم الشرائع والأحكام وينذرهم والباء على هذا للسبب، ابن عطية: وهذا هو البين القوي. ابن عرفة: هذا المعنى لَا يهلك القرى بظلم منه لهم أو بظلم من بعضهم لبعض، ابن عرفة: والتأويل الأول لَا بشيء إلا على قواعد المعتزلة القائلين بوجوب بعثة الرسل عقلا، ونحن نقول: إنما يجب شرعا وهي محض تفضل من الله تعالى عز وجل، وفي الجائز أن يعذب الطائع وينعم العاصي وليس ذلك [ظلما*] بوجه؛ لأن الكل ملكه وهم يقولون: ذلك قبيح ويستحيل عليه فعله، ونحن نقول: الحسن ما حسنه الشرع، والقبيح ما قبحه، وحتى ابن عطية كان يبين هذا. قوله تعالى: {وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لَا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ ... (138)} قال ابن عرفة: ذكر ابن العربي هنا في الأحكام والقرافي وغيرهما أن هذه الآية احتج بها من أنكر الاستحسان، ووجه الدليل ما قاله أشهب في كتاب الخيار فيما إذا ورث قوم خيارا فاختلفوا فالقياس أن لهم ألا يأخذوا جميعا أو يردوا جميعا، والاستحسان إن لمن أراد منهم أن يأخذ نصيب الراد إن شاء يفرق بينه وبين القياس وما الفرق بينهما إلا أن القياس مستند إلى حكم شرعي معبر عنه مصرح به، والاستحسان مستند إلى شيء قليل.

(139)

ابن عرفة: بل الفرق بينهما أن القياس مستند إلى حكم شرعي معبر عنه مصرح، والاستحسان مستند إلى ذلك لكنه في خاطر المجتهد ولا يقدر على التعبير عنه، فقد خالف بينهما أشهب فجعلهما متباينتين وما قلتموه ليس بمخالفة. قوله تعالى: (وَأَنْعَامٌ لَا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا). قيل لابن عرفة: وهلا قيل: وأنعام يذبحونها لآلهتهم ويذكرون اسم آلهتهم عليها، فقال: ذموا على الوصف الأعم ليدل على الأخص من باب أحرى. قيل لابن عرفة: أول الآية حكاية من مقالتهم وآخرها خبر عنهم، لقوله تعالى: (هَذِهِ أَنْعَامٌ)، ثم قال (وَأَنْعَامٌ لَا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا) فقال: هذا التفات في الأخبار وهذا كثير شائع، وعنه قوله تعالى: (افْتِرَاءً عَلَيْهِ). قال ابن التلمساني في باب الفتح: اختلف في تكذيب من كذب على الله وأجمعوا على تكفير من كذب على الله تعالى. قوله تعالى: {وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا ... (139)} ابن عرفة: إن قلت: ما أفاد قوله تعالى: (وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا)، فالجواب أن الأول أفاد وجوده للذكور وبقي الأمر محتمل هو مباح للإناث أم لَا، كما قال مالك: واجب لك ولا يمنع أن تعطيه لغيرك هبة أو صدقة أو تبيعه له. قوله تعالى: (وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ). ابن عرفة: قد يقال: إن أول الآية مناقض لآخرها فأولها مقتضٍ خلوصه للذكور دون الإناث مطلقا، وآخرها يقتضي اشتراك الكل في الميتة منه شركة التساوي، لكن الجواب قوله تعالى: (سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ)، وقال تعالى (سَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ)، والجواب بأن الأول راجع للذوات وهذا حكم راجع لأوصاف الذوات؛ لأن الأول (وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ) (لَا يَطْعَمُهَا) فهذا راجع لذوات الأنعام، وقال هنا: (وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ) فهو وصف بالمحرمات، وفي حكمها لقوله (وَمُحَرَّمٌ) والتحريم وصف شرعي، وما في بطون وصف في المحرم، وهناك لم يقل: ومحرم إطعامها، وإنما قال: (لَا يَطعَمُهَا) فناسب الأول لفظ الافتراء، والثاني الوصف. قوله تعالى: {سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ ... (140)}

(142)

القتل قسمان: قتل مستند إلى شبهة، وقتل غير مستند إلى شبهة فهذا تغيير لاحتمال أن يظن أحد أنهم قبل ذلك مهتدين. قوله تعالى: {وَمِنَ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا ... (142)} (مِن) إما للتبعيض أو لبيان الجنس. قيل لابن عرفة: شرطها تقدم الجنس البين، قال؛ إن لم يتقدم لفظا فهو متقدم معنى، والحمولة: ما تحمل الأثقال من الإبل والبقر عند من عادتهم يحملون عليها. قال أبو حيان: واتفقوا، قال ابن عرفة: إنما يريد واتفقوا أنهم اتفقوا على دخولها هنا معها لَا على أنها تصدق عليها لغة. قال ابن عرفة: ويحتمل عندي أنه يريد بالحمولة ما يحمل المشقة عن الإنسان بتناول البقر وإلإبل؛ لأنها تحمل عليها مشقة الحرث، فلا يريد بالحمل الحسي بل يريد الحمل المعنوي، قال: وجعلها ابن عطية من عطف الموصوفات، والزمخشري من عطف الصفات. فعلى قول الزمخشري يرد السؤال؛ لأن القاعدة في الصفات أنها إن كانت متناقضات فالأصل بالواو، كقولك: زيد قائم وقاعد ولا يذكر بغير واو إلا على سبيل المجاز، وإن كانت غير متناقضة فالأصل إثباتها غير معطوفة، كقولك: زيد قائم ضاحك مثلا، وهذه الصفات غير متناقضة فلم جيء بها معطوفة؟، قال: وأجيب بأن الصفات لها اعتباران: اعتبار من حيث ذاتها، واعتبار من حيث نسبتها للموصوف بها؛ فمن حيث نسبتها للموصوف بها هي واحدة فتكون غير معطوفة، ومن حيث ذواتها هي متعددة مختلفة فتأتي معطوفة. قوله تعالى: (كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ). هذا الأمر للإنسان، وجعلها الفخر حجة للمعتزلة في أن الرزق لَا يطلق إلا على الحلال، وقرره ابن عرفة بالشكل المثالي وهو أن الرزق مأمور بأكله ولا شيء من الحرام مأمور بأكله فينتج لَا شيء من الحرام برزق، وزاده بأن ذلك إذا لم يكن للتبعيض، وإن جعلها للتبعيض لم تكن فيه دليل لهم. قوله تعالى: (وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ). قال ابن عرفة: الخطوة ما بين القدمين، والخطوة ما بين نقل القدم إلى القدم. قوله تعالى: (إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ).

(143)

هذا أخف من قوله تعالى: (إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا). قوله تعالى: {ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ ... (143)} قال ابن عرفة: الزوج هو الواحد باعتبار ما أضيف إليه، ولذلك كانت ثمانية أزواج وإلا أربعة خاصة، ومنه النقيضين داخلين، ولذلك [من سرق لرجل فردة فرق، ولم يكن عنده غيرها، فإنه يغرم له قيمتها مفردة، وإن سرق له فردة واحدة من فردتين فرق كانتا عنده فإنه يغرم له قيمتها باعتبار كونها مع أخرى؛ لأنه أفسده عليه وهو أكثر من قيمتها، وبه يفهم قول إمام الحرمين: الجوهران إذا تآلفا كانا جسمين، وهكذا آخرون؛ لأنه أطلق على كل واحد منهما أنه جسم. قوله تعالى: (قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ). كأنه يقول الذكرين حرم بالتعيين أم الأنثيين أم أحدهما من غير تعيين، والاستفهام للإنكار، قيل لابن عرفة: قال ابن خروف: إن (أم) المتصلة لَا يتقدمها الاستفهام الحقيقي، قال ابن عرفة: وأخذوا من الآية إبطال الحسي المشكل وأنه ليس في المأخوذ، [فالإنسان*] إما ذكر أو أنثى. قوله تعالى: (نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ). يرد عليه أن هذا إنشائي لَا خبري، والصدق والكذب من عوارض الخبر فقط، والجواب أنه خبر عما حكم به آباؤهم من تحريم السائبة والوصيلة والحام. قوله تعالى: {وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ ... (144)} قال ابن عرفة: وجه الترتيب في هذا بين الحمولة والفرش مراعاة كون استعمال الإنسان بالنقلة إلى الموضع الذي تعلق غرضه به أنهم عليه من اشتغاله بالأكل فترتيب الانتقال من موضع إلى موضع عن الأكل أولى من العكس، وجه الترتيب بين الضأن والمعز والإبل والبقر أن الضأن فيها منفعة الأكل ومنفعة الأكل عامة. وهي أعم على الإنسان من منفعة الحمل؛ ولأن الأجمل في الضحايا الضأن، ووجه تقديم الإبل والبقر أن الحمل عليها أكثر وأعم من البقر وهي أقوى على الحمل من البقر. قوله تعالى: (إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا). قال ابن عرفة: الوصية على الشيء أقوى من الأمر به. قوله تعالى: (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا).

(145)

أي لَا أظلم ممن كذب على الله كذبا لَا شبهة له فيه؛ فهذا هو الافتراء وله نظائر في القرآن، وتقدم لنا في الجمع مثلها أن ينتج مساواتها في الظلم إلا ما قام الدليل فيه على عدم المساواة. قوله تعالى: (لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ). كان بعض الشيوخ يقول: إنه لَا يتناول من يقضي بغير علم ومن يدرس بغير علم؛ لأنه يقتدى به في ذلك ويعمل عليه فينتج مفسدة عظيمة، قال: وأما العلم الديني فكان ابن عبد السلام يقول: هو جائز عقلا لكنه لم يقع بوجه، فما رأينا ولا سمعنا وليا صالحا لم يحضر ميعادا قط، ولا قرأ على شيخ صار فقيها بوجه، وإنَّمَا يخلق الله له العلم مسألة مخصوصة معينة فيتكلم فيها بالصواب إما أنه يعلم مسائل المدونة كلها من أولها إلى آخرها، ومسائل البخاري كلها، فهذا أمر جائز عقلا محال عادة لم يقع بوجه. قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ). إن كانت الألف واللام للعهد يبقى الذي علم دوام ظلمهم فهو عام، وإن كانت للجنس فهو مخصوص. قوله تعالى: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ ... (145)} قال ابن عرفة: هذا أمر قاض به بخلاف سائر الأمور، مثل (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ)، (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) فإنه أمر لَه ولسائر أمته بالتبعية له، وتقدم الكلام هو مأمور بتتابع الآية بكمالها، أو مأمور بقوله (لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا). إلى آخر الآية، وتقدم أن لَا لنفي المستقبل بالذات وقد ينفي الحال، وهي هنا لنفي الحال؛ لأن الوحي إليه ماض ولا يصح أن يريد ما أوحي إليه به في المستقبل؛ لأنه قد أوحي إليه بعد بتحريم أمر آخر ليست في هذه الآية، قالوا: وأخذوا من الآيتين مطلبين: أحدهما: أن الأشياء على الإباحة بدليل استثناء ما استثنى منها، والقاعدة أنه إنما يخرج القليل من الكثير ولا يخرج الكثير من القليل، وأجيب بأنه قيل بأنها للحصر، وذكرت المحرمات فكونه استثنى منها حالة الاضطرار. الأمر الثاني: الآية دالة على أن أحكامه صلى الله عليه وعلى آله وسلم كلها مسندة إلى الوحي لَا إلى الاجتهاد بوجه، وأجيب بأن الاجتهاد مستند أصله إلى الوحي.

(146)

ورده ابن عرفة؛ لأن ظاهر الآية استثناؤه في أحكامه إلى الوحي بالنص على كل حكم لَا بالاجتهاد، فإن قلت: ما أفاد قوله: (يَطعَمُهُ) مع أنه لو أسقط لم يختل المعنى. قال ابن عرفة: عادتهم يجيبون بأنه أفاد دخول ما يطعمه الوصي لولده من مال محجوره، وقوله: (عَلَى طَاعِمٍ) إنما يتناول أكله هو بنفسه، ورد بأن ذلك إنما يتجه لو قال: على طاعم يطعمه بالفم، وأجاب ابن عرفة: بأن طاعم [تعدَّى*] بنفسه، وأجاب ابن المنير بأنه أتى به ليدخل فيه المأكول والمشروب، قال تعالى (فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي)، ورده ابن عرفة: بأن ذلك مستفاد من لفظ طاعم، فإن قلت: ما أفاد قوله: (إلا أَنْ يَكُونَ). وأنت إنما تقول: أكرم الرجال إلا الجاهل، ولا تقول: إلا أن يكون جاهلا؟ قال: قلت: الجواب أن هذا فيمن اتصف بكون التناول، اتصف بكون الذبح، فهو حلال، أو اتصف بكون موته حتف أنفه، فهو حرام، فهو كون مختلف. قوله تعالى: (فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ). غير باغٍ في سفره ولا عاد في أكله في الميتة فوق الحاجة منها مقدار الحاجة فقط. قوله تعالى: {وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا ... (146)} ابن عرفة: إنما استثنى هذه الصعوبة تخليصه من اللحم والعظم لاختلاطه بهما. قوله تعالى: (وَإِنَّا لَصَادِقُونَ). قال ابن عرفة: المراد به النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، كقوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ) أي: وإنك لصادق إثباته على المعجزة لَا يصح نسبته إلى السمع؛ إذ لو صح ذلك للزم الدور أو التسلسل. قيل لابن عرفة: نص المقترح وابن التلمساني على أن الكلام النفسي لَا يقال في صدق ولا كذب، وفرق بين التصديق والصدق، وأنه لَا يلزم من الصدق التصديق بوجه. قوله تعالى: {فَإِنْ كَذَّبُوكَ ... (147)}

(148)

قال ابن عرفة: تكذيبهم له حق واقع، فإن عبر عنه بأن على جهة التلطف في العبارة؛ لأن في خطابه التكذيب المعبر عنه بما يدل على وقوعه حقيقة إيحاش وجفاء وغلظة، كما تقول لمن مات أخوه: إن أخاك شديد المرض فامض إليه. قوله تعالى: (ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ). ابن عرفة: منهم من قال الخطاب بذو أبلغ من اسم الفاعل، ومنهم من عكس فحجة الأولين قوله تعالى: (وَفَوْقَ كُل ذِي عِلْم عَلِيمٌ)، وقوله تعالى: (وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ) لأنه لو قيل: وفوق كل عالم عليم لم يكن فيه فائدة وإنَّمَا الفائدة في الإخبار بأن من يظن بلوغه النهي في الغاية في العلم فوقه من هو أعلم منه، وكذلك ليس المراد بمن اتصف بمطلق الإعسار إنما المراد من به اعتبار متحقق ثابت فهو الذي قال بإنظاره. وحمله الزمخشري على أنه ذو رحمة لمن أطاعه وعقابه لمن أجرم، وحمله ابن عطية إلى أنه إشارة إلى إمهاله لهم وعدم معاجلته لهم بالعقوبة، ثم أتى بقوله (وَلَا يُرَدُّ) احتراسا خشية أن يتوهم أنه يرحمهم دائما فأفاد أنه سيعاقبهم بعد إمهالهم. قوله تعالى: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا ... (148)} السين إما للتحقيق والاستقبال، والظاهر الأول؛ لأنهم قالوا ذلك في الآية، والآية تقديرها بإضمار مقدمة لابد من تقديره أي: سيقولون إشراكنا مراد الله تعالى فهو غير فهي عنه، وإشراكنا غير منهي عنه، وقرره الزمخشري بمنع الصغرى جريا على مذهبه في أن الله تعالى لم يرد القبائح، وتقديره على مذهب أهل السنة بمنع الكبرى، ورد التكذيب إليها فيعارض من الإقرار لكن دليلنا نحن أنه لو كان راجعا إلى منع الصغرى لقال: (كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ) بتخفيف الذال من (كَذَّبَ) وإنما التلاوة بتشديد الذال وهو تكذيب لَا كذب إشارة إلى أنهم قالوا: وكل مراد الله غير منهي عنه، وأخبر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بالنهي عن هذه الأشياء المحرمة على اليهود، وبالنهي عن الميتة، والدم المسفوح، ولحم الخنزير فكذبوه فيما أخبر به، وقالوا: كل مراد الله غير منهي عنه، وقال الله تعالى (بمِثْلِ) تكذيبهم يا محمد كذبت الأمم المتقدمة لأنبيائهم، فإن قلت: قد قرئ في الشاذ (كَذَبَ) بالتخفيف، قلنا: القراءة النادرة ليست معتبرة في الأمور الظنية فأحرى الاعتقادية. قوله تعالى: (حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا).

(149)

إما غاية للتكذيب، أو غاية للاحتمال على إضمار فأهملناهم حتى ذاقوا بأسنا. قوله تعالى: {فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (149)} ابن عرفة: أقل الجمع هنا إثباتا لآية جاءت تعجيزا لهم، وتعجيزهم بأن يطلب منهم الإتيان بشاهدين يعجزون عنهما أبلغ مما طلب منهم الإتيان بأكثر من الشاهدين فعجزوا عن ذلك. قيل له: إنما جمع الشهداء لتعدد أنواع المحرمات فلهم على كل محرم شاهدان، فقال: قد قال الزمخشري: فإِن قلت: لم أضاف الشهداء إليهم، ولم يقل: شهداءه بالإطلاق؟ فأجاب بأن المراد شهداؤكم المتعصبون لكم الذين هم من جهتكم، فرده ابن عرفة: بأنه لَا يلزم من عجزهم عن الشهداء المتعصبين لهم عجزهم عن الشهداء بالإطلاق. قيل له: يلزم ذلك من باب أحرى، فقال: إنما عادتهم يجيبون بأن المراد شهدائكم الذين تنفعكم شهادتهم، بخلاف ما لو قال: هم شهداء بالإطلاق؛ فإِن حرص الإنسان على طلب الشهادة لمن تنفعه شهادته أقوى من حرصه على شهادته لمن لَا تنفعه شهادته، من قوله (الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا ... (150) .. فقال: إما المراد الإتيان بلفظ خبر يفيد ذلك المعنى، قال: والآية دلت على تعجيزهم بالدليل العقلي وبالدليل السمعي وإمَّا بالشهادة أو بالخبر كلاهما كما في قوله: (هَلْ عِنْدَكُم مِنْ عِلْمٍ) راجع للدليل العقلي. وقوله (هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ) راجع للدليل السمعي على قسمين منه ما يستند للشهادة، ومنه ما يستند بخبر الواحد، فلم عجزوا بعلم الإتيان بالشهادة مع أنه أجدر من الإتيان بالخبر، ونفي الأخص لَا يستلزم نفي الأعم، والجواب أن هذا في مقام الخصومة بينه وبينهم، ومقام الخصومة إما طلب فيه الشهادة لَا الخبر، قيل له: وأيضا فمتعلق الخبر عام، ومتعلق الشهادة خاص فهذه شهادة تقوية، ومعناها الخبر الاصطلاحي لعموم متعلقها؛ لأنه تحريم عام في جميعهم، فقال: وكذلك إذا شهد على شخص أنه قال: كل مملوك أملكه حر فهو عام، فكذلك هلا قيل لهم: من يشهد لكم على الله على أنه حرم ذلك عليكم. قال: قلت: لم قال: (فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ)، فهلا قيل: فإن شهدوا فلا تقبل شهادتهم؛ لأنه نفي الشهادة معهم لَا يستلزم نفي قبولها، والجواب في عدم قبول الشهادة لأحد أمرين:

(151)

إما لفسق الشاهد، وإما لظنه أو تهمة كشهادة الولد لأبيه أو لأخيه. وقوله (فَلَا تَشْهَدْ مَعَهُمْ) وهو حاكم، والحاكم يقبل شهادة الشك إما لعلمه بعدالته أو بكونه عدله غيره عنده أو يعلم عدالته الحاكم بعلمه في التعديل والتجريح جائز، ولو قيل: فلا يقبل شهادتهم أمرين: أحدهما: فسقهم مع احتمال كونهم شهدوا بالحق، أو عدالتهم مع التهمة لمن يتهم العدل على الشهادة له، فلم قال: (فَلَا تَشْهَدْ مَعَهُمْ) أفاد عدم قبولها؛ لأن تعديل الحاكم الشاهد شهادة معه بدليل قوله: (مَعَهُم)، ولم يقل: فلا تشهد بالإطلاق. قوله تعالى: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ... (151)} قال ابن عرفة: المحرم إنما هو الإشراك لَا عدم الإشراك، فكان يقال: أن تشركوا، قال: وجوابه إما أن يكون مفسدة للمحرم فهي بدل من تلك الحجة؛ أي أتل عليكم أن لَا تشركوا بالله شيئا، وعبر عنه منفيا؛ لأن المراد عدم الإشراك فهو مكروه شرعا، وإما أن تكون ناهية معمولة المحرم ولا زائدة، قال: ويؤخذ من الآية أن دليل الوحدانية يصح إثباته بالسمع؛ لأن الآية نهي عن الشرك بالله. قال: وجوابه أنها خاصة بقريش، وقريش كانوا يتخذون شركاء ليقربوهم إلى الله، قيل له: أو يجاب بأن النهي لَا يدل على عدم وجود المنهي. عنه بل يدل على وجوده، كنهي العصاة عن شرب الخمر والشركاء غير موجودين في نفس الأمر بوجه، قال: وإنما قال: (عَلَيْكُم)، ولم يقل: حرم بالإطلاق مع أنه محرم على الجميع؛ لأن الخطاب وهم الذين كانوا عصوا بذلك وغيرهم لم يعص. وقوله (شَيْئًا). مصدر أو نعت لمصدر محذوف، وهو نهي أخص لَا نهي عن أخص فالمصدر دخل على الفعل فأكده؛ لأن النهي دخل على الفعل المؤكد. قوله تعالى: (وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا). قال ابن عرفة: هذا أبلغ من أن لو نهوا عن عصيان الوالدين؛ لأنه يقبل عدم العقوق وزيادة الأمر بالإحسان إليهم. قوله تعالى: (وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ).

(152)

وقال في سبحان (1) (وَلَا تَقْتُلُوا أَوَّلادَكُم خَشيَةَ إِمْلاقٍ) ووجهه أن الإملاق هنا موجود وهناك متوقع؛ فلما كان موجودا أو الإنسان قبل نزول البلاء به ينوي الخلاص من بغى عليه ويناضل عنه بنفسه، وبعد نزول البلاء إنما الأهم خلاص نفسه؛ كما ذكروا في قصة أصحاب الأخدود في المرأة التي ألقيت في النار أو في الماء أنها كانت ترفع ولدها على عنقها لئلا يناله [الماء*] والماء يعلو لصدرها حتى لا يصل الماء إلى ترائبها، فلذلك قال (نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ) فقدم ضمير المخاطبين، ودلت هذه الآية على حفظ الكليات الخمس التي اجتمعت الملل على حفظها. قوله تعالى: (لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ). لما كانت مفسدة هذه الأمور ضرورية مدركة بالبديهة يدركها كل أحد لَا تخفى عليه، قال: ولعلكم تعقلون بخلاف مفسدة ما بعدها؛ فإنها خفية لَا تدرك إلا بعد تأمل ونظر. قوله تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ ... (152)} بمبالغة، ولم ينه عن قرب القتل، فالجواب من وجهين: الأول: أن القتل له صائن؛ لأن كل أحد يصون نفسه منه ومال اليتيم لَا صائن له. الثاني: أن القتل لَا منفعة فيه للقاتل بل هو مجرد مفسدة تنشأ عن عدم خوف، وأخذ مال اليتيم مفسدة ينشأ عنها منفعة لأخذه في أكله والتلذذ به؛ فبولغ النهي عنه بلفظ القرب. قوله تعالى: (إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ). ليدخل خلط الوصي مال بمال يتيمه، فإنه جائز إذا كانت فيه منفعة لليتيم، وهي الحالة التي هي أحسن، ولو اتجر الوصي بمال اليتيم فربح فيه فالمذهب على أن الربح للوصي، وكذلك الناصب المذهب أن الربح له لَا لليتيم. قوله تعالى: (حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ). مذهبنا أنه إذا بلغ اليتيم فإن تحقق رشده أو سفهه عمل ذلك، وإن شك في أمره فهو محمول على الرشد حتى يتبين الثقة. قيل لابن عرفة: إن عندنا يتيم يقرأ في الكتاب وعليه وصي يوفي للمؤدب في أجرته ويزيد على القدر المعتاد، فقال ابن عرفة: إذا كان الوصي ذو مال فللمؤدب قبول تلك الزيادة.

_ (1) سبحان: يعني سورة الإسراء [قاله معد الكتاب للشاملة]

(153)

قوله تعالى: (وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ). فإن قلت: ما أفاد قوله تعالى: (بِالْقِسْطِ). قلنا: فائدته لو لم يذكر للزم عليه أن لَا يخرج من العهدة إلا بالزيادة الكثيرَة على الواجب، فلما قال (بِالْقِسْطِ) أفاد أن أول جزء زائد يخرجه عن عهدة الوفاء بالعدد الواجب؛ لأن ما لَا يتوصل إلى الواجب إلا به فهو واجب؛ كأخذ جزء من الرأس في غسل الوجه، والزيادة على المرفقين في غسل الذراعين، وصوم جزء من الليل في رمضان، فإن قلت: عبر في الكيل بالمصدر دون لفظ الآلة التي يقع بها الكيل، وعبر في الوزن باسم الآلة دون المصدر، هلا قيل: فأوفوا المكيال والميزان، أو يقال: أوفوا الكيل والوزن بالقسط؛ فما السر في ذلك؟ فعادتهم يجيبون بوجهين: الأول: أنه من حذف التقابل، أي وأوفوا الكيل والميزان بالقسط. والثاني: أن الخبث يقع في الكيل باعتبار الوجود الخارجي أكثر من الخبث في الوزن، والخبث في الميزان باعتبار الوجود الخارجي أكثر من المكيال؛ فالخبث أكثر وجودا يقع في الكيل لَا في المكيال وفي الميزان لَا في الوزن. قوله تعالى: (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا) ظاهره تكليف ما لَا يطاق غير واقع، وهذه تدل على عدم جوازه أم لا؛ الظاهر أنها دالة على اعتقاد جوازه إذ لو لم يكن جائزا لما احتيج إلى نفيه، وهل هو راجع للجزء الثاني أو للجميع، الظاهر رجوعه للجميع بأن الأحسنية في قرب مال اليتيم مقولة بالتشكيك ولها درجة، ثم أحسن من شيء في أول درجة الحسن، وأن التكليف إنما وقع في الدرجة الأولى في الأحسنية. قوله تعالى: (وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا). هذا في حفظ الأعراض وهو واجب، فهو راجع إلى عدم القرب بالقول. قوله تعالى: (وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا). إما أن المراد الوفاء بالأيمان وعدم الحنث فيها أو العهد هو الحكم (لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ). قوله تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ ... (153)} ابن عرفة: فيه قراءات:

(154)

فمن فتح الهمزة وشدد النون فمعناه: ولأن هذا صراطي مستقيما؛ أي اتبعوه لكونه مستقيما، هذا عطف جملة على جملة. قال بعضهم: ويحتمل أن يكون هناك مقدر. أي: لأن هذا صراطي مستقيما يتبع فاتبعوه، فلو أن الفاء عاطفة ما بعدها على فعل مقدر وهو أولى من الأول؛ لأنه علة لما بعده فلا يتقدم على الفاء، ابن عطية: وصف الله تعالى طريقا واحدة هو صراطا مستقيما طريق محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم وشرعه ونهايته الجنة، وتتشعب منه طرق في سلك المارة فحال من خرج إلى تلك الطرق ابعث به إلى النار. ابن عرفة: هذا كما تقدم في أول السورة، في قوله تعالى: (وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ) فقيل له: كيف تعمل في قوله تعالى: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا) طريق الحق متعددة، فقال: نعم ولكنها مآلها إلى شي واحد وهو التوحيد بالله والتصديق بأنبيائه، وطرق الباطل كل واحد منها مستقل بنفسه لا يؤول إلى شيء واحد؛ لأن قوما يعبدون النجوم، وآخرون يعبدون الأصنام، وآخرون يعبدون الربوبية. قوله تعالى: {لَعَلَّهُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (154)} دليل على أن المعاد مستفاد من السمع؛ لأن الإيمان هو التصديق، والتصديق على أنه مصدق به وهو الدليل السمعي الخبري لَا العقلي. قوله تعالى: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ ... (155)} قال ابن عرفة: لما تضمن الكلام السابق تفضيل بني إسرائيل بإرسال موسى إليهم، وتفضيل موسى بالكتاب المنزل عليه؛ عقبه ببيان تفضيل هذه الأمة بإرسال محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم إليهم وأنزل القرآن عليه، وظاهر كلام المفسرين أن الإشارة إلى جميع القرآن وليست الآية من آخر ما أنزل، فيكون كقول سيبويه: هذا باب كذا فهو إشارة إلى المستقبل المقدر الوجود، كقول الموثقين: هذا ما أصدق فلان. قوله تعالى: (فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا). يحتمل أن يرجع اتبعوه إلى امتثال أوامره، (وَاتَّقُوا) إلى اجتناب مناهيه، ويحتمل أن يكون الأمر بالاتباع عاما في امتثال أوامره واجتناب نواهيه، واتقوا راجعة إلى التحرز من عقاب الله عند عدم امتثال أمره ونهيه. قوله تعالى: {أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا ... (156)}

(157)

أي: أنزلنا القرآن عليكم لئلا تقولوا: أنزلنا الكتاب على موسى ولم ينزل علينا ولا قرأه علينا أحد من الطائفة المنزل عليهم بحيث نسمعه، والكتاب هنا واحد بالنوع فيتناول هنا اليهود والنصارى. قوله تعالى: {فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ ... (157)} القرآن بينة لكونه بإعجازه شاهدا على صدق الرسول فالرسول مدع له على دعواه، بينة وهدى؛ لأنه مرشد إلى الطريق الحق، ورحمة إشارة إلى أن بعثه الرسل وإنزال الكتاب محض تفضل من الله تعالى أن لَا يجب عليه شيء. قيل لابن عرفة: أو يريد البينة دليل التوحيد، وبالهدى الأحكام، وبالرحمة المواعظ والمذكرات على الثلاثة. قوله تعالى: (سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يَصْدِفُونَ). قال ابن عرفة: تقدمنا فيها سؤال أن التكذيب بالآية أعم من الصدف عنها؛ لأن المكذب بالآية قد يصدف وقد لَا يصدف، والمصدف هنا مكذب بها لَا محالة، وترتيب الجزاء على الأعم يستلزم ترتيبه على الأخص من باب أحرى، فهلا قيل: سنجزي الذين يكذبون بآياتنا سوء العذاب؟، قال: وعادتهم يجيبون بأن الصدق أعم وبيانه بامتثال إذا سألت عن القراءة على زيد، فتقول: إنه لَا يدري شيئا بوجه، فهذا التكذيب يستلزم الصدق بلا شك، وتارة تقول للسائل بالإجابة لك بالقراءة عليه: اترك ذلك واشتغل بما هو أهم عليك فأنت صدقته ولم تكذب بعلمه، ويحتمل أن يكون معتقدا علمه وكرهت قراءته عليه، ويحتمل أن يكون معتقدا أنه جاهل فظهر أن الصدق أعم من التكذيب. قيل لابن عرفة: بأن ذلك لو رتب على الأخص مطلق الجزاء فلا يرد السؤال إلا لو قيل: (سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا) وهنا إنما رتب على الأخص من العذاب، فقال: بل الأخص هو أخذ سوء العذاب لَا العذاب. قوله تعالى: {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا ... (158)} قرئ لَا تنفع. قال ابن عطية: وأنث الفعل؛ لأن فاعله مضاف إلى ضمير النفس وهي مؤنثة، ورده أبو حيان بأن ذلك إذا كان المضاف جزءا من المضاف إليه، كقولهم: ذهبت بعض أصابعه، قال: وإنما وجهه عندي أنه على تقدير لَا تنفع نفسا ثبوت إيمانها

ومنفعة إيمانها، وأجاب ابن القصار بأنه لما أضيف الفاعل إلى الضمير حصلت بينهما ملابسة بالإضافة فأنث الفعل لأجل ذلك، ونظير قول الشاعر، وقول الآخر: لما أتَى خبرُ الزبيرِ تواضعتْ ... سورُ المدينةِ والجبالُ الخشعُ وقوله: [إذا بعض السنين تعرقتنا*] فيصح تأنيث الفعل إذا كان فاعله المذكر مضافا إلى مؤنث بشرطين: أحدهما: أن يكون المضاف بعض المضاف إليه، أو كبعضه. والثاني: أن يصح إطلاق الثاني، والمراد الأول. قوله تعالى: (لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا). قال الزمخشري: (أَوْ كَسَبَتْ) عطف على (آمَنَتْ) والمعنى أن اشتراط الساعة إذا جاءت وهي آية ملجئة ذهب أوان التكليف عندنا فلم ينفع الإيمان غير متقدمة إيمانها غير كاسبة خيرا ولا بين النفس الكافرة إذا آمنت في غير وقت الإيمان. قال الطيبي عن صاحب الإنصاف: أراد الزمخشري الاستدلال على أن الكافر والعاصي في الخلق سواء حيث سوَّى بينهما في الآية في عدم الانتفاع إنما يستدرك أنه بعد ظهور الآية ولا يتم ذلك، فإن هذا في البلاغة يلقب في اللف والنشر وأصله: يوم تأتي بعض آيات ربك لَا ينفع نفسا لم تكن مؤمنة من قبل إيمانها بعد ولا نفس لم تكسب في إيمانها خيرا، قيل: ما تكسب من الخير بعد، ويظهر بذلك أنها لَا تخالف مذهب أهل الحق فلا ينفع بعد ظهور الآية اكتساب الخير وإن نفع الإيمان المتقدم، انتهى. قال ابن القصار: وما قاله تفسير بالمعنى وهو حق، وأما ما يقتضيه الإعراب على هذا التغيير فإنه والله أعلم حذف حرف العطف والمعطوف لدلالة ما بعده عليه، والتقدير لَا ينفع نفسا إيمانها أو كسبتها في إيمانها خيرا ما لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا، فيكون كما قال: من باب اللف والنشر، فعطف كسبتها على إيمانها الفاعل في ينفع، ثم حذف لدلالة قوله: (أَوْ كَسَبَتْ) وحذف حرف العطف والمعطوف جائز إذا فهم المعنى، قال: (وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ) أي: والبرد، ومنه قول العبيدي: فما أدري إذا [وجهت*] وجهاً ... أريد الخير [أيهما*] يليني

[أالخير*] الذي أنا أبتغيه ... [أم*] الشر الذي هو يبتغيني أي أريد الخير أو الشر. قال الطيبي، وقال ابن الحاجب: في الأمالي قيل: معنى الآية الإيمان نافع وإن لم يكن معه عمل صالح، ومعنى الآية لَا تنفع نفسا إيمانها ولا كسبها وهو العمل الصالح، (لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ) الآية. قال ابن القصار: هذا ما يقتضي أن قوله: (أَوْ كَسَبَتْ) معطوف على إيمانها فهو فاعل مثله وهذا مذهب كوفي. ذهبت طائفة من الكوفيين منهم: هشام، ومحمد بن يحيى إلى أن الجملة تكون فاعلا، فأجازوا [يعجبني يقوم زيد، ويسرني قيام عمرو*]، وظهر لي أقام زيد أم عمرو، واحتجوا بقوله تعالى: (ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ). قال الشاعر: [وما راعني إلّا يسير بشرطة*] ومنع من ذلك البصريون، وتأولوا الآية إذا الفاعل بدا مضمر تقديره: بدا لهم بدا، وليسجننه تفسيرا لذلك البداء المضمر وما قوله: وما راعني الأيسر بشرطه، فالتقدير عندهم الأيسر بشرطه فإن مع الفعل بتأويل المصدر فاعل راع، ابن عرفة: ثم حذفت أن فارتفع الفعل والدليل على حذف أن المصدرية وقعا مع الفعل قول الشاعر: أَلا أَيُّهَذَا الزَّاجِرِي أحْضُرُ الوَغَى ... وَأَن أشْهَدَ اللَّذَّاتِ هَلْ أَنْت مُخْلِدِي التقدير: إن أحضر بدليل عطف المنصوب عليه ويمكن تأويل الآية على هذا التقدير: لَا ينفع نفسا وإن اكتسبت في إيمانها خيرا فحذف إن، كما حذف في قوله: أحضر الوغا، ولا تحذف من الماضي كما حذفت في المستقبل حسبما أنشد عليه ابن عصفور في شرح الإيضاح: قَالَت أُمَامَة لما جِئْت زائرها ... هلا رميت بِبَعْض الأسهم السود لَا در دَرك إِنِّي قد رميتهم ... لَوْلَا حددت وَلَا عذرى لمحدود قال ابن عصفور: لولا جددت فحذف إن والمعنى يدل عليها أي لولا مدى أنشده في لولا أنها لَا تقع بعدها عند البصريين إلا المبتدأ، انتهى.

(159)

وقال أبو حيان: قوله تعالى: (أَو كَسَبَتْ) عطف على قوله (آمَنَتْ) والظاهر من الآية أن نفي سبق الإيمان فقط، وإما نفيه مع نفي كسبت الخبر، ومفهومه أنه يقع الإيمان السابق وحده أو سبق ومعه الخبر، انتهى. قال ابن القصار: معناه أنه إذا انتفى الإيمان السابق قبل ظهور الآية كان معناه الخبر أو لم يكن ينفي أيضا الإيمان الذي معه الخبر لَا ينفعها ما أحدثت منهما بعد ظهور الآية؛ أي من الإيمان المقارن للخير أو غير المقارن، أو من الإيمان المقارن للخير، وانظر كيف يفهم هذا من الآية فإن هذا التفسير بعيد من الأعراب جدا والذي يلتمس له، والله أعلم أنه لما جعل (أَو كسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا) معطوفا على (آمَنَتْ) الذي هو خبر، لقوله: (لَمْ تَكُنْ) فهو منفي مثله صار تقديره: أو لم تكن كسبت في إيمانها خيرا وهو من باب. عَلَى لَاحِبٍ لَا يَهْتَدِي بِمَنَارِهِ أي لَا يتأوله ولا يقع الهداية، ومنه: هذا يوم لَا ينادي وليده؛ أي لَا يحضر وليد فيناديه، فيكون التقدير: لم يكن لها إيمان فيقع بسببه كسب الخير، قال ابن القصار: والآية يجب تأويلها وإخراجها عن ظاهرها، لقوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: "من كان آخر قوله لَا إله إلا الله دخل الجنة". أما ما ورد من أحاديث الشفاعة التي كادت أن تبلغ مبلغ التواتر والعموم. قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ). قال الطيبي: قال الإمام ابن الخطيب يعني أن أشراط الساعة إذا ظهرت ذهب أوان التكليف عندها لَا ينفع الإيمان نفسا ما آمنت من قبل وما كسبت في إيمانها خيرا من قبل ذلك، قال ابن القصار: مراده لَا ينفع الإيمان نفسا لم تجمع بين أمرين لَا ينفعها إيمان بعد ذلك، ولو أراد توزيع الصنفين على شخصين للزمه مذهب المعتزلة. قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا ... (159)} قال ابن عرفة: أفاد قوله أنهم تنوعوا طوائف طوائف وهو أشنع ممن لو كان كل واحد منهم يتبع دينا؛ لأنهم في هذه الحالة اجتمعوا جماعة الضلال. قوله تعالى: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ ... (160)}

(161)

قال ابن عرفة: هذا على سبيل الفرض والتقدير لئلا يلزم عليه التسلسل. قوله تعالى: (وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ). لئلا يتوهم أن جزاء السيئة عشرة أمثالها. قوله تعالى: (وَهُمْ لَا يُظلَمُونَ). أما بالنسبة إلى السيئة فظاهر، وأما بالنسبة إلى الحسنة فجعل كأن الجزاء عليها بعشرة أمثالها واجب أوجبه الله تعالى على نفسه تفضلا، وكأنه واجب بالأصالة فالنقص منه ظلم فلذلك وهم لَا يظلمون. قوله تعالى: {دِينًا قِيَمًا ... (161)} يحتمل وجهين: أحدهما: أنه قائم دائم إلى قيام الساعة لَا ينسخه شيء من الأديان. الثاني: أن برهانه دائم والأدلة الدالة على حقيقته قائمة يوصف هو بوصف دليله ويجعل قائما. قوله تعالى: (مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ). أي المتمسك به إبراهيم، ولذلك قال الأثيري في كشف الحقائق لما تكلم في التوحيد: قال المليون المتمسكون بشريعة ما بالإطلاق. قوله تعالى: (وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ). إن قيل: يلزم عليه المفهوم، فهلا قيل: وما كان مشركا، فيجاب بأنه كما قيل (وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) والجواب كالجواب أي لو تصور في حقه إشراك لما كان إلا هكذا؛ لأن قليل الذنب من العظيم عظيم. قوله تعالى: {وَمَحْيَايَ ... (162)} فيه التقاء الساكنين على قراءة قالون، ومن وافقه في التقاء الساكنين وهو كثير في حروف المد واللين، وأما في غيرها فورد في إدغام أبي عمرو. وقال الشاطبي في قراءة البزي: [وَفي التَّوْبَةِ الْغَرَّاءِ قُلْ هَلْ تَرَبَّصُو. . . نَ عَنْهُ وَجَمْعُ السَّاكِنَيْنِ هُنَا انْجَلَى*] وجمع الساكنين هذا بخلاف، كذلك ذكروا في (مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ) على أحد الروايتين عن أبي عمرو. وقوله تعالى: (رَبِّ الْعَالَمِينَ).

(163)

ابن عرفة: هذا من المذهب وهو الإتيان بالحكم مقرونا بدليله؛ لأنه إذا كان رب العالمين والصلاة والنسك له لَا لغيره. قوله تعالى: {وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ ... (163)} فيه أن النهي عن الشيء غير الأمر بضده، بقوله (لَا شَرِيكَ لَهُ) فهو منهي عن الإشراك فسمي النهي عن الإشراك أمر بتركه، قيل له: هذا إذا كان مأمورا بهذا اللفظ، وهو أن يقول: (لَا شَرِيكَ لَهُ). قال ابن عرفة: وفيها أن المندوب غير مأمور به؛ لأن ظاهر الآية وجوب التبري من الشرك، ولو كان المندوب مأمورا به لما اقتضت الآية وجوب التبري من الشرك واللازم باطل، والملزوم مثله. قوله تعالى: (وَأَنَا أَوَّل الْمُسْلِمِينَ). الأولية إما حقيقة، وإما باعتبار الشرف، قيل له: إبراهيم هو الأول، فقال: الإسلام راجع للأحكام التكليفية وشريعة نبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم مخالفة لشريعة إبراهيم صلى الله على نبينا محمد وعليه وعلى آلهما وسلم. قيل له: قد قال (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا) فقال: إسلامه غير إسلام نبينا، وشرعه مخالف لشرعه. [ ... ] (¬1) قوله تعالى: {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا ... (164)} قال ابن عرفة: الغيران أعم من المخالفين ونفي الأعم يستلزم نفي الأخص. قوله تعالى: (وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ). يؤخذ من ظاهر الآية مرجوحية إطلاق لفظ أبغي على الله تعالى، ومرجوحية إطلاق لفظ الرب على غير الله تعالى، ولا يقال: رب الجنان ولا رب الدار؛ وقيل الأولى ملك الجنان ومالك الدار. قيل له: قد قال تعالى (قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ)، وقال النبي صَلى الله عليه وعلى آله وسلم: " [تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ، وَالدِّرْهَمِ*] " وهذا دليل على الجواز، فقال: إنما قلنا الأولى عدمه. ¬

_ (¬1) ما بين المعكوفين مكرر في الآية التالية. اهـ (مصحح نسخة الشاملة).

(165)

قوله تعالى: (وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ). لا تدخل فيه ذات الله ولا صفاته لئلا يلزم حدوثها. قوله تعالى: (وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا). أخذ منه ابن العربي أن بيع الفضولي لَا يصح وإن أجازه ربه. ابن عرفة: والمفعول محذوف أي ولا تكسب كل نفس سيئة إلا عليها. قوله تعالى: (وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى). فيكون الفاعل ضميرا عائدا على النفس وهو أحرى؛ لأن النفس الوازرة معلوم أنها لا تحمل؛ لأنها مثقلة، والنفس المثقلة لَا تحمل شيئا شرعا. لأن من أتى بضامن أو حميل إنما يقبل من حميل له ذمة خالية من الدين ولا يقبل منه حميل مديان بوجه، وأما هنا فلأن النفس المثقلة بالحمل لَا يستطيع أن يزاد عليها غيره. قيل لابن عرفة: ينكر عليك هذا، فيقال: قد التزمت الوازرة الحمل فهي قادرة على الزيادة وعلى الحمل، أو يقول: ولا تزر وازرة أو قابلة الوزر، قلت: الجواب بحديث "من سن في الإسلام سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة لَا ينقص من أوزارهم شيئا" فلو لم توازه لتوهم أن النفس لَا تحمل وزر غيرها هي التي لم تتسبب في فعل معصيته ولا حديث ظلما، فلما قال: (وَازِرَةٌ). أفاد أن النفس التي أحدثت المعصية فاتصفت بسببها بالوزر لَا لحمله. قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ ... (165)} يخلف بعضكم بعضا. قوله تعالى: (وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ). ابن عرفة: (بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ) في العلم ودونه في الدين، والآخر فوقه من الدين ودونه من المال إذا لم يكن أخذ في شيء. قوله تعالى: (لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ). ابن عطية: أي ليختبر الله تعالى الخلق فيرى المحسن من المسيء. ابن عرفة: هذا خطأ والصواب أن يقال كما عادة الزمخشري يقول في كل موضع يفعل بكم فعل المختبر. قوله تعالى: (إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ).

أكد المغفرة باللام ولم يؤكد بها سريع العقاب، لحديث: "سبقت رحمتي غضبي". قلت: قال القاضي أبو بكر بن العربي في شرح الأسماء الحسنى في الاسم الثالث والأربعين، وفي كتابه المسمى بقانون التأويل: كنا يوما بمجلس الكوفي في الثغر فتذاكرنا، فسئل الشيخ أبو بكر بن الفهري والطرطوسي عن الفرق بين قوله تعالى: (إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ) بغير لام، وفي الأعراف (لَسَرِيعُ الْعِقَابِ) باللام؟، فقال الطرطوسي: حكم اللام التأكيد، وآية الأنعام دخلت أمة محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم فيها في الخطاب وهي أمة مرحومة معصومة في الدنيا لَا تعاقب إلا في الآخرة فسقطت اللام، وآية الأعراف خوطب بها بنو إسرائيل وقد عجلت عقوبتهم في الدنيا بالمسخ والخسف فدخلت اللام المؤكدة للخبر. وأجاب أبو جعفر أحمد بن الزبير بأن آية الأنعام تقدمها (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ) وهو خطاب له صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ولأمته في الخبر بغير لام التأكيد لكونهم ليسوا بحملتهم ممن استحق عقابا، ومن عوقب من أهل القبلة فعقابه منقطع بفضل الله عز وجل، وآية الأعراف قبلها (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ) فهي لبني إسرائيل [مفصحة*] بكفرهم وعنادهم؛ فجاءت اللام مؤكدة للجنس المبين بعقابهم كلهم دائما وسوء ما لهم. * * *

سورة الأعراف

سُورَةُ الْأَعْرَافِ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم تسليما. قوله تعالى: {المص (1)} قال ابن عرفة: الظاهر أن هذه الحروف اسم للسورة، واختلف الأصوليون هل يرد في القرآن ما لَا يفهم أو لَا، والظاهر عدمه. قيل لابن عرفة: إن ابن الحاجب قال: هو بعيد، ولم يجعله من [ ... ] اعتبر الألفاظ؛ لأن الإنزال حقيقة إنما هو في الألفاظ المعبر بها عن الكلام القديم الأزلي بمطابقة الإعجاز؛ لأن المعجزة حادثة وعداه هنا بـ إلى اعتبارا بمنتهى الإنزال، وعداه في موضع آخر بـ على اعتبارا بمبدأ الإنزال، وعدَّاه بـ مِن لكونه من فوق إلى أسفل وهو على المحل المنزل عليه. قوله تعالى: {فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ ... (2)} أي ضيق؛ أي أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم إذا حفظ القرآن ما هو مأمور بتبليغه لأمته فإذا بلغه ولم يؤمنوا مع حرصه على إيمانهم، وتعلق قلبه بذلك يقع في قلبه لأجل ذلك غمَّ، لأجل أن تبليغه ذلك لهم لم ينفع فيهم. قوله تعالى: {وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا ... (4)} احتج به من قال: إن الفاء لَا تفيد الترتيب. وأجاب ابن عطية أن المراد بقوله تعالى: (أَهْلَكْنَاهَا) خذلان أهلها. ابن عرفة: وهذه عبارة اعتزالية، والصواب أن يقال: خلقنا في أهل الفسق والمخالفة فجاءها بأسنا. وأجاب ابن عصفور بـ أو، والمعنى أردنا إهلاكها فجاءها بأسنا. وقال الأستاذ أبو زكريا يحيى بن فرج العربي في تفسيره: وهذا الجواب فيه نظر من المتعلق التنجيزي؛ فمجيء البأس مقارن للإرادة فليس يعقبها، وإن أراد التعلق الصلاحي والإرادة القديمة فإن كان مجيء البأس بعقبها لزم عليه قدم العالم، وإن كان متأخرا عنها بمهلة لزم أن يكون بـ ثم، وأجيب بأن الإرادة قديمة مستمرة، وأنه إلى حين مجيء البأس فينقطع مجيء البأس بعقب آخر مدتها.

(6)

ورده ابن عرفة بأنك إذا قلت: قام زيد فأكرمته، فالإكرام لَا يلزم أن يكون بعد تمام القيام بل قد يكون قبل كماله. وأجاب أيضا ابن عصفور: بأن المراد أهلكنا هذا لَا من غير استقبال فجاءنا بأسنا فهلك هلاك استقبال. قيل لابن عرفة: في الآية تقديم وتأخير والتقدير أهلكنا بياتا وهم قائلون فجاءنا بأسنا بياتا يكون؛ والمراد أهلكناها في الدنيا وجاءها في الآخرة العذاب في الدارين، فقال آخر: الآية تدل على أنه في الدنيا، لقوله تعالى: (فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا إِلَّا أَنْ قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (5). قوله تعالى: (بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ). قال ابن عرفة: تقدمنا فيها سؤال وهو هلا قيل: فجاءهم بأسنا بياتا أو قيلولة فجاءها بأسنا بياتا وهم بائتون فما السر في ذلك؟ وما الفرق بين قولك: جاء زيد ضاحكاً، وبين قولك: جاء زيد وهو ضاحك؟ قال: وتقدم لنا الجواب بأن قولك: جاء زيد ضاحكا تقييد، وبأن قولك: جاء زيد وهو ضاحك حكم إسنادي، والوصف التقييدي راجع لقسم [التصور*]، والحكم الإسنادي راجع لقسم التصديق، ولا شك أن تأثير مجيء البأس في الليل أشد من تأثير مجيئه في القائلة، فلما كان مجيئه في الليل أشد عبر عنه بالتقييدي الراجع لبأس التصور؛ لأنه متصور بالبديهة، وعبر عن الآخر بالحكم الإسنادي التصديقي لما فيه من احتمال عدم التأثير. قوله تعالى: (أَوْ هُم قَائِلُونَ). قال ابن عرفة: الجملة إذا وقعت حالا فإن كان في صدرها ضمير اختلف هل يلزم الواو معها أم لَا؟؛ فنقول: جاء زيد يده على رأسه وإن لم يكن فيها ضمير فلا بد من الواو، ويقال: جاء زيد وعمرو ضاحكا، وعليه نزل سيبويه في قوله تعالى: (يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ) أنه حال، وعليه أورد الزمخشري هنا سؤالا، قال: لأي شيء. قوله تعالى: {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ ... (6)} وهذا سؤال توبيخ، وقوله (فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ) هذا استعلام. قوله تعالى: (وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ).

(7)

هذا سؤال شهادة، كقوله تعالى: (يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ). قوله تعالى: {فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ ... (7)} احتراس لأن قوله (فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ) إن ذلك سؤال استعلام فنفاه بهذا، ولذلك أكد الفعل بالنون الشديدة، وفيه رد على المعتزلة القائلين بأن الله عالم لَا يعلم. قوله تعالى: (وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ). إشارة إلى أنه علم متيقن شاهد. قوله تعالى: {وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ ... (8)} والوزن يحتمل معنيين: أحدهما: أن الوزن يومئذ يقع بالعدل والقسط. الثاني: أن وزن أعمال العباد يومئذ ثابت وأنه لَا شك فيه بحال، وعرف الحق إشارة إلى أنه الحق اليقين الواضح الذي لَا مراء فيه. قال: ونسب الثقل والخفة لكفة الحسنات، لقوله تعالى: (مَوَازِينُهُ) فإضافتها إليه على تقدير اللام، وكفة السيئات إنما هي موازين عليه، واختلفوا في ذلك، فقيل: إنه ميزان واحد، وقيل: لكل شخص ميزان أخذ بظاهر الآية، والصحيح الأول، وعندي أنه جمع في هذه الآية. قال الإمام فخر الدين في (إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا) جمع [القلب*] لاختلاف حالاته وتقلباته؛ فكذلك يقال هنا. قال ابن عرفة: ومفهوم أول الآية مناقض لمفهوم آخره، لأن مفهوم قوله تعالى: (فَمَنْ ثَقُلَتْ). يقتضي أن من تساوت كفات موازينه ليس بخاسر نفسه، قيل: بهن (¬1). ابن عرفة: [فالأنبياء*]، ومن لَا سيئة لهم بماذا توزن حسناته؟ قال: توضع حسناته في كفة ولا يوضع في الكفة الأخرى شيء، أو يوضع في الأخرى [ ... ] أو حجارة يوزن بها حسناته، فقال: الآية إنما تضمنت وزن الحسنات والسيئات، وقال هنا (فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) فعبر بجملة اسمية مقرونة بأداة الحصر وهي اسم الإشارة والبنائي المضمر، وتعريف الخبر دون ذكر علة هذا الحكم. ¬

_ (¬1) أجاب عن ذلك البسيلي بما نصه: "ونسب الثقل والخفة لكفة الحسنات. وهو معنى إضافة الموازين بتقدير اللام، لأن وزن السيئات عليه لا له. اهـ (التقييد الكبير للبسيلي)

(10)

وقال في الجملة: (فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُم)، فغير لفظ الفعل مع ذكر علة هذا الحكم. قال ابن عرفة: وجوابه أن المراد حصول الكلام الثابت اللازم؛ والمراد في الآخر حصول مطلق الخسران فيتناول العاصي والكافر وهي في سورة قد أفلح (فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُم فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ) فقال: تلك فيها قرينة أخرجت العاصي من اللفظ، وهنا نقول إنه داخل، قال: وإنما علل حصول الخسران لهم بالظلم ولم يعلل حصول الفلاح للآخرين بالطاعة إشارة إلى أن الثواب على الطاعة محض تفضل من الله عز وجل وحساب الآخرين وخسرانهم معلل بظلمهم إشارة إلى أن ذلك عدل من الله تعالى لأجل كسبهم السيئات. قوله تعالى: {وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ ... (10)} قال ابن عرفة: فائدة التقسيم تكون المخاطبين ظهرت عليهم مخائل الإنكار لأجل تماديهم على المعاصي وعدم تذكرهم واتعاظهم، وفيها سؤال وهو أن التمكين في الأرض أخص من وجود المعايش بأمة لكل أحد إذ لَا يستغني أحد عن القوت، والتمكين أخص مزيد في الأمراء والسلاطين، والامتنان الأهم أقوى وأعم فائدة فهلا قدم عليه، وأيضا فلأن المعايش أمر حاجي والتمكين في الأرض أمر تكميلي، فالأمر الحاجي أعم على التقوي من الأمر التكميلي، فالامتنان به أعظم منه، وأجيب بأنه قدم لأحد أمرين: أحدهما: أنه يدل على المعايش دلالتين باللزوم والمطابقة، وقد تقدم نظيره غير ما مرة في عطف الأعم على الأخص بخلاف الخاص على العام والعكس فيهما (فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ). الثاني: التمكين في الأرض لما كان خاصا بالبعض دون الكل وكانت المعايش أئمة صار نسبتها إليه نسبة الجزء إلى الكل والجزء قبل الكل فكذلك بدأ به في الآية. قوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ... (11)} الخلق راجع للقدرة والتصوير للإرادة وهي الكيفية الخاصة. (ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ). احتجوا به على أن إبليس من الملائكة.

(12)

وأجاب ابن عرفة: بأنه إذا كان في المجلس أشراف واتباع فأمر الأشراف يأمر كأنه يتأول الاتباع من باب أحرى بدلالة الالتزام لَا المطابقة، وكذلك هذا لما أمر الملائكة السجود لآدم على شرفهم فيتناول الأمر إبليس وإن كان إبليس ليس منهم من باب أحرى. قوله تعالى: {قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ ... (12)} هذا سؤال توبيخ لَا يستحق جوابا فظن إبليس أنه سؤال حقيقي. فأجاب عنه بمقدمتين حذف أحدهما لدلالة الكلام عليها والتقدير أنا خير، والفاضل لَا يسجد للمفضول فأنا لَا أسجد إما أنا خير منه فبينه بكونه خلق من نار وآدم من طين، وإما أن الفاضل لَا يسجد للمفضول، قيل: وجوابه أن هذا على قاعدة التحسين والتقبيح باطل وإنما يتم على مذهب المعتزلة، لكن جاء بموضع المقدمة الصغرى وموضع كونه خير من آدم، وإلا كان يقول الملائكة: نحن خير منه؛ لأنا خلقنا من نور. (قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا ... (13) ابن عرفة: أفاد الجنة فيكون باعتبار الوجود لَا باعتبار الحكم؛ لأنه قد وسوس فيها آدم، وإن أريد السماء فيكون باعتبار أي، فما يجوز لك أن تتكبر فيها. لأنه قد امتنع من السجود لآدم. قوله تعالى: (فَاخْرُجْ). إما تكرار للتأكيد، وإما تأسيس والأول هبوط حسي، وهذا خروج من حكم الاعتناء والمراعاة إلى حكم الصغار والإذلال والاحتقار. قوله تعالى: {فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16)} [الزمخشري: حكي عن طاوس*]: إبليس [أفقه*] بالتورية [من القدرية*]. قوله تعالى: {ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ ... (17)} قال ابن عرفة: إنما لم يقل: ومن فوقهم ومن تحتهم. لأن جهة الفوق منها الرحمة، وجهة التحتية داخلة في الإتيان من باب أحرى؛ لأنها محل إبليس. قال ابن العربي في سراج المريدين في الاسم الثامن والعشرين: حضرت يوما مجلس الإمام أبي منصور الشيرازي وعادته أن يرقى المنبر ويجيب عن كل سؤال، أو يصعد المنبر ويأخذ القارئ بالقراءة وترمى الرقاع بالأسئلة من كل جانب وتتناولها الأيدي حتى تصل إليه فيجعلها تحت ركبتيه؛ فإذا سمع القارئ أخذها واحدة واحدة،

(18)

وهذا يسأل عن كذا وجوابه كذا، فيأتي بأحسن الجواب، فكتبت له وأنا صغير: ما الحكمة في أن الله تعالى قال مخبرا عن إبليس (ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ) ولم يقل: من فوقهم ولا من تحتهم؟، فلما بلغ إليها، قال: يا حبيبي هكذا قد مكنه الله تعالى من أربع جهات تكون تسعمائة وتسعين إلى النار وواحدة إلى الجنة، فكيف لو جاء من الجهات كلها ما رأى أحد الجنة أبدا، ولكن إذا غشي من الجهات الأربعة غشيت الرحمة من فوقنا وثبتتنا السكينة من أقدامنا فنجونا، فعجبت من قوله: يا حبيبي إذ نادى مناداة الصبيان وهذا يسمونه الكلام على الخواطر. قوله تعالى: {قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا ... (18)} قال ابن عرفة: كان بعضهم يقول: إن كانت الذءامة والدحور أخص من الصغار فهو تأسيس، وإلا فالجواب بأن قوله بـ (إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ) مطلق يقتضي اتصافه بذلك وقياما. قوله تعالى: (مَذْءُومًا مَدْحُورًا). فإذا اتصافه بذلك في الحال، و (مَذْءُومًا) راجع لأمر حسي، (مَدْحُورًا) لأمر معنوي. قوله تعالى: (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ). معارض بقوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: "إنها تمتلئ حتى يضع الجبار فِيهَا قَدَمَهُ فَتَقُولُ: قَطْ قَطْ وَعِزَّتِكَ، وَيُزْوَى بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ". أخرجه مسلم، عن همام بن منبه، عن أبي هريرة، عنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وعن قتادة، عن أنس بن مالك، عنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وأجيب بأن القاضي عياض، قال: حكوا فيها تأويلات: أحدها: أن القدم عبارة عن السابق المتقدم حتى يضع فيها من قدم من أهل العذاب، قال تعالى (وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ) وقيل: القدم عبارة عن طائفة يخلقهم الله في الآخرة لها يسميهم قدما فلا تملأ إلا بهم، وقيل: المراد بالجبار السلطان أو أحد الجبابرة المتقدمين، وعلى رواية رجله يحتمل أن يريد الجماعة، يقال: رجل من جراد أي مثل جماعة منه، ويحتمل أن يريد بقوله تعالى: (لأَمْلأَنَّ) كثرة الداخلين لَا ملأها حقيقة. قوله تعالى: {لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا ... (20)}

(22)

قال الفخر: اللام للصيرورة. ابن عرفة: إن كان الإيراء معنويا فليست للصيرورة؛ لأنه غير مقصود قصد إبليس شيئا، ووجد خلافه. قوله تعالى: (إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ). فيها النظر إلى حالتي الإقبال والإدبار، وفيها إشارة إلى أنهما استشعرا حالة الموت إن أريد الخالدين بالإطلاق فيتناول الخلود في الجنة، فإن قلت: ظاهر الآية أن الملائكة أفضل من بني آدم، قلنا: باعتبار الوهم والاعتقاد لَا في نفس الأمر، فإِن قلت: هلا قيل: إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين، أو يقال: إلا أن تكونا من الملائكة أو من الخالدين؟ قلنا: لأجل رءوس الآي. قوله تعالى: {فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ ... (22)} الذوق هنا أوائل الإحساس بالشيء. قوله تعالى: (بَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا). الظاهر أنها كلية لَا كل والمراد: بدت لكل واحد منهما سوأة صاحبه، ويحتمل أن يريد بدت لكل واحد منهما سوأة نفسه. قوله تعالى: {قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ ... (25)} إن أريد مطلق الحياة فالمعنى فيها يدومون على الحياة أحياء، وإن أريد حياة خاصة فيكون الاستقبال على حاله. قوله تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا ... (26)} قد للتحقيق ويبعد كونها للتوقع. فإن قلت: الآية خرجت مخرج الامتنان عليهم، واللام للاختصاص أو للملك أو للتعليل أنسب من عطاء؛ لأن الامتنان عليهم أو لأجلهم أقوى بالمنزل عليهم، وأجيب بأنه إشارة إلى بعد المحل المنزل منه على المحل المنزل إليه، قال تعالى (وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ) لاقتضائه العلو والارتفاع التام، وهذه الآية يعدها ابن التلمساني في شرح المعالم الفقهية مجاز إيقاع السبب برفع المسبب، وقدره بأن أنزلنا موضوع موضع أعطينا لباسا؛ لأن إنزال المنازل في إعطاء اللباس فنزل أنزلنا منزلة أعطينا، وتكون سببا غائبا؛ لأن اللباس سبب في الماء بمعنى أنه باعث عليه، كما أن الاستمكان من الحر والبرد سبب في بناء البيت مع أنه متأخر عنه.

(26)

قوله تعالى: {يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ ... (26)} إشارة إلى وجوب ستر العورة دون ما سواها من البدن. قوله تعالى: (وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ). إشارة إلى أن من اللباس ما هو محرم كالحرير [وخزه*] واللباس منه مباح، ومنه ما هو مندوب إليه، واللباس الحسن في الأعياد والجمع، فإن أريد اللباس الواجب فخير فعل لأفعل، وإن أريد المندوب فخير أفعل من الخير ذلك خير من المباح. قوله تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ ... (27)} قال البيانيون: فائدة النداء الاهتمام بالمنادى وتعظيمه. قوله تعالى: (لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ). قال الجوهري: فتن إذا اختبر، وقال غيره: إذا امتحن، والفتنة من الشيطان فكيف نهي الإنسان عما ليس من فعله ولا في قدرته؟؛ فأجاب ابن عطية: من باب لألزمنك هاهنا؛ أي لَا تكن هنا فأراك أي لَا تتبعوا الشيطان فيفتنكم. ابن عرفة: وعادتهم يقولون: ليس مثله أن الرؤية مسببة عن الكون هناك والشيطان سبب في الاتباع، وأجيب بأن المعنى أي لَا تتبعوا هوى لنفسكم، وهوى النفس سبب في الوسوسة. لأنه إذا علم ميل النفس إلى الشهوات حمله ذلك على وسوستها على القدوم فيها، ويحتمل أن يكون من تكليف ما لَا يطاق على القول به؛ فنهى الإنسان عن فتنة الشيطان إياه. قوله تعالى: (كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم). قال أبو حيان: الكاف نعت لمصدر محذوف. قلت: قال ابن عرفة في الختمة الأخرى التي قبل هذه: ويحتمل أن يكون من حذف التعليل أي فتتبعوه فيفتنكم كما فتن أبويكم، فاتبعاه؛ فأخرجهما من الجنة، ونظيره (وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ). قوله تعالى: (يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا). قال أبو حيان: حكاية حال. قال ابن عرفة: هذا إن قلنا: إن الدوام ليس كالابتداء، وإن قلنا: إنه كالابتداء فنقول إن النزع دام فليس بحكاية، قال: بل إخبار عن حالتهم الوقتية الدائمة.

(28)

قوله تعالى: (لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِهِمَا). دل على عدم جواز نظر عورة زوجته؛ لأن الشيطان إنما يوسوس على فعل ما لا يجوز. قال تعالى (إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ). قرئ بالنصب. قال أبو حيان: على أنه مفعول معه. ورده ابن عرفة: بأن ابن السراج فرق بين واو العطف وواو المفعول معه باقتضاء واو العطف الشركة في الفعل دون واو المفعول معه، وواو المفعول معه لَا يقتضيه، نحو: جلست والسارية. والثاني: أن الأول في المفعول أو تابع وما بعده متبوع والشيطان متبوع لَا تابع، ولأنه يرانا كما نرى قبيله. قوله تعالى: {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا ... (28)} قال ابن عرفة: يحتمل أن يكون وجدنا عليها بالشخص، أو على الفاحشة بالإطلاق، وإن أريد على شخصها فالضمير عائد لفظا دون معنى من باب عندي درهم ونصف. قوله تعالى: (وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ). فيه سؤالان: الأول: هلا قيل: قل إن الله ما أمر بالفحشاء فيكون النفي مطابقا للأول لأن الأول معنى ولا يجيء فيه شبهة النسخ؛ لاحتمال أن يكون الله أمر بها في الماضي لَا يعيدها؛ أي ليس يقابل شرعا لأن يأمر بالفحشاء، ولا يجوز ذلك شرعا عليه عندنا وعقلا عند المعتزلة. السؤال الثاني: نفي الأمر لَا يفيد نفي الإباحة، والآية خرجت مخرج ذمهم في فعلهم ما هو محرم، فهلا قيل: إن الله لَا يبيح الفاحشة لأن نفي الأمر لَا يستلزم نفي الإباحة؟ وأجيب بأن قوله (بِالْفَحْشَاءِ) يفيد نفي الإباحة لأن لفظ الفحشاء إنما يطلق على المحرم. قيل لابن عرفة: أو يجاب بأن قوله: (يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ) بمعنى أوجبها علينا؛ فيرد بنقيضه وهو أنه لم يوجبها عليكم، وأورد الفخر سؤالا، قال: (لَا يَأْمُرُ

(29)

بِالْفَحْشَاءِ)، وهلا قال: لَا يأمر بالفاحشة فهو أبلغ في النفي؛ لأن نفي الواجد يستلزم نفي ما عداه. وأجاب ابن عرفة بأنه لو قال: إن الله لَا يأمر بالفاحشة لأفاد نفي فاحشة مستحقة، فلما قال: الفحشاء أفاد نفي القدر المشترك بين الفواحش كلها فيعم الجميع. قوله تعالى: (أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ). قال ابن عرفة: إن قلنا: إن الحاصل للمقلد علم فلا دليل، وإن قلنا: إنه ليس بعلم فيكون دليلا لمن ينفي التقليد، فإن المقلد قال على الله ما لَا يعلم، ويدخل فيه من يفتي في مسألة الحدس وإن صادف الحق وهو بحيث لو سئل عن سنده لتوقف. قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ ... (29)} معطوف على قوله (بِالْقِسْطِ)، أي: أن أمر أن تقسطوا وتقيموا وجوهكم فأمر بالمصلحة القاصرة والمتعدية فالمتعدية على القسط، والقاصرة ما بعدها. قوله تعالى: (كَمَا بَدَأَكُمْ). الظاهر أن الكاف للتعليل مثل: (وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيكَ) أي: لأجل بدايتكم تعودون؛ فالعود للانتفاع والحساب. قوله تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ ... (31)} قال: في القرآن ثلاثة ألفاظ: منها (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا)، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ)، (يَا بَنِي آدَمَ)، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا). أخصها بذكر الحكم في المشتق، و (يَا أَيُّهَا النَّاسُ) يليها، و (يَا بَنِي آدَمَ) أعمها [ ... ] ببني آدم؛ لأن الخطاب بها على وفق المراد؛ لأن النفوس تتشوق للزينة. قوله تعالى: (خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ). قال ابن العربي: منهم من قال إن الآية عامة في كل مسجد فلا يصح أن يكون سبب نزولها أن قريشا كانت تطوف عراة. ابن عرفة: خصوص السبب لَا يمنع من عموم الحكم وهذا منافيه على أن المراد بالمسجد ذو البناء الخاص مثل شكل مساجد، ولنا أن نقول: المراد به مواضع السجود فقط فلا يحتاج إلى ما قال. قال ابن العربي: والصحيح أن ستر العورة مستجد.

(32)

ابن عرفة: بل هو واجب أو سنة، ولو كان تعداديا، لقلنا: أراد المستحب السنة. قال ابن عرفة: والظاهر عندنا أن الأمر هنا للندب؛ لأن خارج من ذلك لأنه أمر بالزينة لَا بستر العورة؛ لكنه يستلزم الستر من باب أحرى، قال: وقول القائل: خذ زينتك أبلغ من قوله: تزين، وإضافة الزينة إشارة إلى أن كل واحد منا يأخذ زينته اللائقة بحاله. قوله تعالى: (وَلَا تُسْرِفُوا). قال ابن عرفة: تقدم لنا أن الاستثناء لإخراج الصالح، أو يكون لإخراج الدخول، ومنه ابن التلمساني باستثناء ما زاد على العشرة على وجه البدل من جموع القلة واستشكله الشيوخ؛ والصواب تمثيله بما قاله هو في مواضع أخر، وهو أن الاستثناء من النكرة المطلقة، كقولك: أكرم رجلا من بني تميم إلا زيدا. قال ابن عرفة: وكذلك التقييدات تكون داخلة، وتكون صالحة للدخول، كقولك: أكرم النَّاس ولا تسرف، وأكرم بنيك ولا تسرف، فالأول: صالح، والثاني: داخل؛ لأن الأمر بإكرام [البنين*] مظنة الإسراف؛ لما في النفس من الشفقة عليهم، وأما هنا فالأكل محبوب للنفس بالطبع فإذا أمر به تأكد وكأنه مظنة للإسراف في الزائد على الشبع إذ لم يتوق النفس الشهوة فإنه محرم، وإن شبع الإنسان ولم تزل شهوته في الطعام فالظاهر أن أكله مكروه وليس بحرام بدليل أن الواحد يأكل الطعام ويشتهي الفواكه ويأكل منها. قوله تعالى: (وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) النهي للتحريم، كقولهم: لَا حبذا زيد فإنه للذم والذم على فعل الشيء دليل على تحريمه. قوله تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ ... (32)} قال ابن عرفة: الخطابات في القرآن على ثلاثة أنواع: فمنها ما هو صريح العموم، مثل (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ)، ومنها ما هو صريح الخصوص بالنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، مثل (قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ)، ومنها ما هو محتمل كهذه الآية. قوله تعالى: (الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ). إن أريد التي خلق الله لعباده فلا يكون فيه دليل لمن يقول: إن الأشياء على الحصر، وإن أريد التي شرع لعباده فيكون دليلا على أن الأشياء على الحصر.

(33)

قوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ ... (33)} الحصر إما بحسب السياق أو على ظاهره. لأن الآية مكية، وقد حرم بعد ذلك أمور أخر، قيل: إن أريد به التحريم فظاهر، وإن أريد الحكم في الأزل فكلها محرمات، فكان لفظ حرم خبر عن ماضي فلا يتناول ما بعد ذلك. قال ابن عطية: الفواحش ما فحش وشنع فهو إشارة إلى ما نص الشارع على تحريمه. ابن عرفة: فالمعنى عنده إنما حرم ربي المحرمات. وصوابه أن نقول كلما نهى الشارع عنه، فيكون المراد إنما حرم ربي ما نهى عنه بناء على أن المكروه ليس منهيا عنه. قوله تعالى: (مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ). ابن عرفة: المراد عندي بما ظهر ما دليله قوي، نص علي وعليه ما ذكر الأصوليون في القياس استعمال العين في العين، وما بطن ما استفيد بالقياس والنظر. ومنه قول الأصوليين: استعمال الجنس في الجنس: فالأول: دليل ظاهر، والثاني: قلت: ذكره ابن التلمساني في باب القياس في المسألة الثالثة منه، وحمله المفسرون الظهور والخفاء بالنسبة إلى الفاعل وفعله، وقالوا: في الآية عطف العام على الخاص، وعطف الخاص على العام، والإثم أعم من الفواحش؛ لأنه يشمل الصغائر والكبائر بخلاف الفواحش، والبغي أخص من الإثم. قوله تعالى: (بِغَيْرِ الحَقِّ). ليس بتأكيد؛ لأن السيد إذا بغى على عبده فضربه فهو باغ بالحق. قوله تعالى: (وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا). راجع إلى الدليل العقلي. (وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ). راجع إلى الدليل السمعي النقلي.

(34)

قوله تعالى: {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (34)} استشكل أبو حيان ترتيب يستقدمون جوابا للشرط بأنه أمر بديهي ظاهر؛ وتقديره أنهما شرطان وجوابان حسبما تقرر في المنطق أن الشرطية تتعدد بتعدد تاليها، وأجاب بأن الشرط أمر تقديري وليس بوجودي فيصح ترتيبه عليه بهذا الاعتبار. قال: أو يجاب بأن العطف للتسوية، أي كما تعلمون أنتم لَا يستقدمون عليه؛ كذلك فاعلموا أنهم لَا يستأخرون عنه. قوله تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ ... (35)} قيل: المراد ببني آدم هذه الأمة، والرسل النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم. وجمعه لاختلاف حالاته، كما قال الشاعر: أنشده [الآبذي] في شرح الجزء عليه: [فقلت اجعلي ضوء الفراقد كلّها ... يمينا ومهوى النّسر من عن شمالك*] فإن قلت: إتيان الرسل محقق فهلا عبر بـ إذا؟، قال: فعادتهم يجيبون بأنه إشارة إلى مذهب أهل السنة في أصل بعثه الرسل أنها محض تفضل من الله تعالى، فإن ذلك ممكن جائز وليس بواجب وزيادة فأشار إلى وقوع ذلك وتحققه. قوله تعالى: (فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ). التقوى راجعه إلى اجتناب المنهيات والاصطلاح لامتثال المأمورات، ومن موصول الأجواب الأشرطية؛ لأنها لَا تقتضي وقوع الشيء لَا إمكان وقوعه. قوله تعالى: (فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ). إن قلت: لم نفى الخوف بالاسم، والحزن بالفعل؟ فأجاب ابن عرفة بوجهين: الأول: متعلق الحزن ماض، ومتعلق الخوف مستقبل والأمور المستقبلة أكثر من الأمور الماضية فأشبهت غير المتناهي ألا ترى أن الإنسان يخاف العذاب في الدنيا وفي الآخرة، وأمر الآخرة غير متناه لأنه بدخول الجنة يذهب عنه الخوف دائما. الثاني: أن سبب الخوف يمكن دفعه والتحرز منه؛ لأن متعلقه مستقبل، وسبب الحزن لَا يمكن رفعه والماضي لَا يرتفع. قوله تعالى: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا ... (37)} قال ابن عرفة: هذه الآية إذا كانت في النزول متصلة بما قبلها فالفاء للاستئناف، وعلى الأول في الآية التفات بالخروج من التكلم إلى الغيبة؛ وهذا إن أريد

أنه أظلم منِ غيره على سبيل العموم فيكون مخصوصا، بقوله (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ). قال ابن عرفة: وكان بعضهم يرد على الجاحظ بهذه الآية، في قوله: إن الكذب إنما يطلق على من تعمده؛ فدلت الآية على أن من أخبر بالشيء على خلاف ما هو عليه ناسيا فهو كذب، وإن كان عامدا فهو افتراء وأجيب بالفرق بين مطلق الكذب وافتراء الكذب؛ وهو أن من أخبر بمجيء زيد وهو معتقد أنه لم يجئ وصادف في نفس الأمر أنه جاء فليس مفتر بالكذب ولا يسمى كاذبا بوجه؛ كمن حلف عليه بالطلاق أنه قد جاء معتقدا أنه لم يجئ وقد صادف أنه جاء. قوله تعالى: (أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ). يحتمل أن يرجع إليهم بمعنى أنهم تارة يقولون على الله ما لم يقله، فيقولون: حرم علينا السائبة والوصيلة والحام، وتارة ينسبون إليه ما هو منزه عنه؛ كجعلهم له شريكا، ونسبتهم إليه الولد؛ فهذا افتراء الكذب، ذكره الفخر. وتارة يكذبون بالآيات والمعجزات الظاهرة على يد رسوله وهذا تكذيب، ويحتملِ أن تكون الآية خرجت مخرج الإنصاف، كقوله تعالى: (وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) فالمعنى: قل لهم يا محمد إن كنت أنا مفتريا على الله فلا أَظلم مني، وإن كنت صادقا وأنتم تكذبون بي فلا أظلم. قوله تعالى: (أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ). قالوا: المراد بذلك الأصنام. ابن عرفة: وكان بعضهم يقول: يحتمل أن يريد به كل ما يشتمل عن الطاعات من الشهوات والأمور الدنيوية، كما قال تعالى (أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا). وقال تعالى (وَضَلَّ عَنْهُم مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ). إشارة إلى أن أعمالهم الدنيوية تذهب عنهم فلا يجدون لها أثرا بخلاف الأعمال الصالحة. قوله تعالى: (وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِم). إن أريد شهادة بعضهم على بعض فهذه شهادة حقيقية، وإن أريد واحد منهم يشهد على نفسه فهو إقرار وليس بشهادة لاستلزامه العقوبة.

(38)

قوله تعالى: {لِكُلٍّ ضِعْفٌ ... (38)} كيف نفهم مع حديث: "من سن في الإسلام [سنة*] سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة". وأجاب ابن عرفة بأحد وجهين: إما أن يراد لكل ضعف ما في اعتقادكم، أو ضعف ما يتوهمون. قوله تعالى: {فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ ... (39)} الفاء إما للتسبيب فهو معطوف على قوله (لِكُلٍّ ضِعْفٌ)، أو على مقدر؛ أي [مَا دُعَاؤُكُمُ اللَّهَ بِأَنَّا أَضْلَلْنَاكُمْ وَسُؤَالُكُمْ مَا سَأَلْتُمْ *] (¬1) [فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ*]. قال ابن عرفة: على التقديرين مسألة كانت تقدمت لنا فيما إذا قال عمرو: إن زيدا زنا، فيقول خالد: وسرق، فإن كان معطوفا على كلام عمرو لم يلزمه شيء، وإن كان معطوفا على مقدر؛ أي زنا وسرق لزمه حد القذف. قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا ... (40)} قال: الظاهر أن التكذيب أعم من الاستكبار؛ لأن المكذب قد يكون مستكبرا وقد لا يكون. قوله تعالى: (وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ). دليل على أن الجنة في السماء. قوله تعالى: (حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ). ولم يقل: دخول الجنة مع أنه أجلى وأبين تشديدا عليهم في العذاب؛ لأن الرجاء يتعلق بما هو معيبا بزمان، ولو كانت عائبة لَا يمكن كأنه يتطرق إمكانها، فإذا تعلق الرجاء بها على استحالتها عادة، ولم يقع ذلك؛ كان ذلك أشد على الراجي في حينه حسه مطعمه، وإنما قال: يلج الجمل، ولم يقل: الفيل وهو أكبر. لأن العرب إنما يعرفون الجمل. قوله تعالى: {لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ ... (41)} ¬

_ (¬1) العبارة بها اضطراب وسقط، تم جبره، وتصويبه من (البحر المحيط. 5/ 50).

(42)

عبر بـ لهم على جهة التهكم بهم فهو إليهم لَا لهم، والمهاد إنما يطلق في الأمر الملائم للحال الموصوفة؛ فإن كانت حالا حسنة فهو دليل على شدة حسنها، وإن كانت قبيحة فهو دليل على شدة قبحها. وقال تعالى في سورة (لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ) فقدم هنا لفظة فوق وأخر هاهنا، وأجيب بأنه هنالك روعي فيه لفظ المهاد. والمهاد غالبا يقتضي المكان الذي يمتهد عليه فهو تحت والظلال من تحت، فعذاب الله تلك أشد؛ لأنها نار تحت المهاد. قوله تعالى: (وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ). المشبه بالشيء لَا يقوى قوته فدل على أن عذاب هؤلاء أشد من عذاب الظالمين. قوله تعالى: {لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا (42)} [دليل*] على أن القادر على الشيء يطاق وسعه بلا شك. قوله تعالى: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ ... (43)} دليل على صحة القول بأن العرض يبقى زمانين؛ لأن الفعل معنى من المعاني ولا عرض ولا ينزع إلا ما هو قابل للبقاء. فرد عليه ابن عرفة النزع بمعنى الإعدام، والمراد نزع نوع الغل مطلقا لَا شخصه، قال: هذا مجاز والأمثل حقيقة، قيل له: لَا بد في الآية من المجاز. لأنهم أجمعوا على أن العرض لَا يقوم بنفسه، وإذا حملت النزع على حقيقته يلزمك مخالفة الإجماع فلا بد من حمله على معنى الإعدام، فقال: هذا الذي أجمعوا عليه تحمل الآية عليه وتبقى على حقيقتها فيما اختلفوا فيه، قيل له: إنما حملناها على الإعدام زال المعنى الذي قلتم. قال: والآية دلت على أن كل صدر فيه الغل فهو أمر جلي لَا يقع فيه التكليف. وإنما التكليف بأسنا به؛ ولذلك يقال: ما علا عبد من حسد فواحد يخفيه وآخر يفشيه. قوله تعالى: [(أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) *]. إسقاط الفاء هنا، وأثبتها الفاء في قوله (فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ)؛ لأن الإنسان إذا وجد شيئا قد يصدق به، وقد يبقى على شك، وإذا خوف من شيء يستقر في نفسه الخوف منه ويسرع إليه الهلع والفزع،

(46)

فثبوت الخوف للنفس أقوى من ثبوت الرجاء لما توعد به، فأدخلت الفاء هناك تحققا لوقوع الموعود به ولم تدخل هنا لثبوته في النفوس. قال: [ويحتمل أن يكون في الآية حذف التقابل؛ أي من اتقى وأصلح (فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (13) [أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ)، وَلاَ خَوْفَ عَلَيهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ (أي لا حزن عليهم) وَالَّذينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُوْلئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ، وعليهم الخوف وهم يحزنون*] (¬1) قوله تعالى: {لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ (46)} قال ابن عرفة: لما كانت حسناتهم مساوية لسيئاتهم فلم يبق لهم سبب إلا الرجاء في دخول الجنة، والرجاء إنما يكون فيما قدم الإنسان سببا فهو خير الطمع لَا في خير الرجاء. قوله تعالى: {وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ ... (47)} بناؤه للمفعول دون الفاعل لأن المعرفة إليه مستقرة للنفس دائما، وإنما يقضي حين الاختيار. قوله تعالى: (رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ). ولم يقل: من القوم الظالمين؛ لأن كونه معهم أعم بنفيه يستلزم نفي الأخص أعني الكفر عنهم. قوله تعالى: {لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (49)} فأتاه بالاسم ونفى الحزن بالفعل؛ لأن متعلق الخوف مستقبل، ومتعلق الحزن ماض والأمور المستقبلة غير متناهية، والأمور الماضية متناهية لانقطاعها. قوله تعالى: {أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ ... (50)} يدخل فيه الماء وغيره. قوله تعالى: (حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ). ليس المراد التحريم الشرعي؛ لأنها ليست دار تكليف؛ فيتعين أن المراد به المنع؛ أي منع الكافرين منها. قوله تعالى: {الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا ... (51)} ¬

_ (¬1) في العبارة سقط واضطراب، تم جبره وتصويبه من (تفسير سورة البقرة لابن عرفة. 1/ 106).

(53)

الأمر الباطل إن قصد به [الاشتغال مطلقا*] فهو لهو، وإلا فلعب؛ كما يلعب الشطرنج، ولا يقصد به [التلهي*]. قوله تعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ ... (53)} يحتمل أن يكون إشارة إلى تكذيبهم وأنهم ليس حالتهم حالة من ينتظر المال والعاقبة، وهذا يشمل الشاك للتوهم. قوله تعالى: (فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا). إما للتوزيع، وإما لأنه مقام لَا يشفع فيه إلا الشفعاء لَا الشفيع الواحد. قوله تعالى: {إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (55)} يحتمل أن يكون تهييجا وحقا للمظلوم في أن يدعو على الظالم لأن دعاه في مظنة الاستجابة والقبول فإن الله لَا يحب المعتدين. قوله تعالى: {بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ... (56)} تشنيع على من يفعل ذلك. قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ ... (57)} قال: لما تقدمها الأمر بالدعاء والنهي عن الإفساد في الأرض عقبه ببيان الدليل والبرهان على أن الله تعالى هو الفاعل المختار الذي لَا إله غيره، أو يكون إشارة إلى أن الدنيا سبب في الرحمة كما أن الريح الطيب سبب في الرحمة. قوله تعالى: (سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ). ولم يقل: أرضٍ ميت، والضرر إنما هو لعمار الأرض لَا للأرض. قوله تعالى: {وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ ... (58)} يحتمل أن يكون مثالا لحال الدعاء فمنه ما يكون من صادق مقال ما منع فهذا يخرج نباته بإذن ربه إشارة إلى قرب الاستجابة، ومنه ما يكون من خبيث غير متصف في مكانه يتذلل ولا خشوع فهذا لَا تحصل له إجابة ولا برجاء؛ فإن قلت: لم قال: (وَالْبَلَدُ) فعبر بالاسم، فقال (وَالَّذِي خَبُثَ) فعبر بالفعل؟ قلت: لأن متعلق الذم على الأعم يستلزم تطبيقه على الأخص فإِذا ثبت الذم على مطلق الخبث فأحرى ما

(59)

فرقه، ولا يثبت المدح إلا على أخص الوصف تخصيصا على الاتصاف، قلت: وأورد ابن عرفة: قبل هذا سؤالين: أحدهما: هذا وأجاب عنه بأن الخبر نص على أن الفعل إنما يطلق على من تناوله الفعل طبعا وغريزة، فمساواة الاسم بهذا الاعتبار في معناه لمعنى الخبيث. السؤال الثاني: أتى في الثاني بأداة الحصر دون الأول، وأجاب بأن الحصر راجع إما للمشبه أو المشبه به. فإِن الأرض الخبيثة قد تنبت الطيب قليلا؛ فالمراد للمشبه مما لا تنبت إلا خبيثا بالكفر نوع واحد كله مذموم، ولما كان المسلمون نوعين: منهم من أسلم أولا ولم يعاند؛ كأبي بكر، وعلي بن أبي طالب - رضي الله عنهما - والإسلام يجبُّ ما قبله، ومنهم بعد ما أذى النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - وعاند وكفر، فلم يؤت فيه بالحصر ليعم اللفظ هذين؛ بخلاف الكفر فإِنه نوع واحد كله مذموم، والخبيث في النبات له حالات زمن خروجه، وزمن تمامه، وزمن يبسه؛ فلو قيل: يخرج لكثر التوهم أنه إذا صار إلى حالة التمام يحسن حاله؛ فأتى بالحصر تنبيها على أنه يخرج خروجا لَا يعقبه حسن. قوله تعالى: {فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ... (59)} .. ، وفي آية أخرى (فَقَالَ يَا قَوْمِ) محذوف الياء. قوله تعالى: {يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلَالَةٌ ... (61)} قال ابن عرفة: ابتدأ بلفظة (يَا قَوْمِ) على سبيل الترحم عليهم والتلطف في العبارة استجلابا لهم. قال الزمخشري: فإِن قلت: قال: (لَيسَ بِي ضَلالَة) فأفرد، ولم يقل: ليس بي ضلال، كما قال تعالى (إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ). قال: قلت: الضلالة أخص من الضلال، كما لو قيل: لك تمر فتقول ما لي تمرة. ورده ابن عرفة بأن نفي الأخص لَا يستلزم نفي الأعم إلا أن يكون تجوز في الأخص وأراد به التعليل القليل، ويرد عليه المثال الذي ذكره. قوله تعالى: (وَلَكِنِّي رَسُولٌ). قيل: إن ما بعد لكن هنا مخالف لما قبلها لأن ما قبلها منفي وما بعدها مثبت، ومتعلق النفي غير متعلق الإثبات، وقيل: موافق؛ لأن نفي الضلالة يستلزم ثبوت

(63)

الرسالة، والصواب أنه مضاد لما قبلها؛ لأنه لَا يشرط الموافقة والمضادة إلا في الفعل الذي دخل عليه النفي لَا في معنى النفي، ألا ترى أنهم مثلوا التضاد، بقوله؛ ما قام زيد ولكن قعد عمرو. قوله تعالى: {أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ ... (63)} قال الزمخشري: معطوف على مقدر؛ أي أكذبتم وعجبتم. ابن عرِفة: هو أنه أنكرتم وعجبتم لأن التكذيب يأتي بعده في قوله تعالى: (فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْنَاهُ). قوله تعالى: (عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ). أي: تعلمون صدقه ولا تنكرونه. لأنه من جنسكم. قوله تعالى: {فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْنَاهُ ... (64)} عطفه بالفاء وفي الآية الأخرى بالواو، إما لطول مكث نوح، وإما أنه قال لهم قولا لم يحتج إلى ذكره، أو لم يقل لهم شيئا. قوله تعالى: {إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ ... (66)} التنكير للتعظيم. قوله تعالى: {لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ ... (67)} التنكير للتقليل. قوله تعالى: {وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ (68)} عبر هنا بالاسم، وقال في نوح: (وَأَنْصَحُ) فعبر بالفعل؛ لأن نوحا أول رسول بعث في الأرض [فلم يتقدمه رسل*]، أما هود عليه السلام فتقدمه رسل بعثوا إلى قومهم وأهلك من كفر بهم؛ فعاقبة أمر قوم نوح عليه الصلاة السلام وسائر أمرهم مسندة بها إلى نوح عليه السلام خاصة، وكذلك قال: (وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ) وعاقبة أمر قوم هود مسندة إلى علمه في علم قومه بما جرى إلى من سبقهم من الأمم مع قومهم لما خالفوهم. قوله تعالى: {أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ... (69)} قال ابن عرفة: يحسن أن يقدر هنا أكذبتم وعجبتم، الآية، لم يذكر هنا بعد التكذيب.

(70)

قوله تعالى: (وَاذْكُرُوا إِذ جَعَلَكُم خُلَفَاءَ). قال الزمخشري: إنه مفعول. ابن عرفة: أو ظرف تقديره واذكروا حالكم إذ جعلكم. قوله تعالى: {قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ ... (70)} ولم يقولوا: أرسلت إلينا؛ لأنهم ينكرون رسالته فهو احتراس منهم؛ ونظيره قوله تعالى: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ) برفع أساطير، وقال في المؤمنين (وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا). قوله تعالى: (وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا). أتوا به مع أنه داخل في الأول إما تشنيعا منهم عليه، أو إشارة إلى مسندهم في عبادتهم وفيه دليل على عدم التقليد في الأمر الباطل. قوله تعالى: {قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ ... (71)} أتى بلفظ الرب، كما في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ) تنبيها على أنه المنعم عليهم فلا يحل لهم عصيانه، والرجس والغضب بمعنى [وهما*] حسيان؛ فالرجس راجع لعذاب الدنيا؛ والغضب لعذاب الآخرة، ويكون الرجس حسيا راجع للعذاب النازل بهم، والغضب معنويا إلى إرادة الله تعالى ذلك بهم في الأزل؛ فيه استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه. قوله تعالى: (أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا). قال ابن عرفة: في إما للسببية؛ أي ما يسبب فيكون مجازا أو على حقيقتها وهنالك مضاف مقدر؛ أي في حال أسماء فيتعارض المجاز، والإضمار فيه خلاف. قوله تعالى: (سَمَّيْتُمُوهَا). إن قلنا: إن الاسم هو المسمى، فظاهر، وإن قلنا: إنه غيره، وأن الاسم هو التسمية فلابد أن يكون على هذا تقدير حذف المجاز، أي: سميتم. قوله تعالى: (أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُم). مع أن الذي سماها إنما هو آباؤهم هم الذين سموا الوصيلة والبحيرة والسائبة والحام.

(74)

وأجاب ابن عرفة بأن ذلك إنما هو في أسماء الأعلام، وهنا إنما المراد الصفات وهم سموا الأصنام آلهة معبودة كما فعل آباؤهم فيما ليس لهم فيه دليل بخلاف عوام المسلمين؛ فإنهم مقلدون الأهل الذين إمامهم أبو المعالي، والشيخ أبو الحسن الأشعري، ولهما على التوحيد أدلة ظاهرة. قوله تعالى: {تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا ... (74)} ولم يقل: من جبالها؛ لأن الجبال ليست من الأرض. قوله تعالى: (مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ). أي: من دليل فيستفاد منها ذم التقليد، وأجيب بأنهم في محل المجادلة والمخاصمة؛ والمجادل لَا بد له من دليل، بخلاف المقلد فإِنه لَا يجادل. قوله تعالى: (وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا). أي: آخرهم؛ فدل على قطع أولهم من باب أحرى. قوله تعالى: (وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ). قال الزمخشري: إن قلت: ما فائدة قوله تعالى: (كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا)؟ فأجاب بأنه تعويض بمن آمن بهم؛ أي ولم يكذبوا، مثل: من آمن بهم. وأجاب ابن عرفة بثلاثة أوجه: يتناول الآية من لم يحرم بالكذب ولكنه بقي شاكا فهو أيضا غير مؤمن، وإن كان غير مكذب. الثاني: أن التكذيب يتناول من كذب الرسل وهو مؤمن بالله موحد، وهؤلاء كانوا مشركين بالله، حسبما (قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا) فأفاد قوله تعالى: (وَمَا كَانُوا مُؤمِنِينَ) أنهم كذبوا الرسل ولم يؤمنوا بالله. الثالث: أن المراد ولم يكونوا قابلين إلى الإيمان فأخر عنهم العذاب حتى آمنوا به؛ لأن قوله: وما كان زيد ليؤمن يدل على نفي قبوله، فدلت الآية بمفهومها على أن من كذب وكان قابلا إلى الإيمان لم يقطع دابره. قوله تعالى: {فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (78)} فجمع الديار مع الصيحة وأفردها مع الرجفة. قال ابن عرفة: تقدمها الجواب بأن الصيحة إنما تنال قلوبهم [فتحدث*] فيها تقطعا، والرجفة تنال أبدانهم، [وأماكنهم فتزلزل*] الأرض، وهي مسببة؛ فما كانت تنال إلا قلوبهم

(80)

خاصة. لأنها لَا تسمع ولا تعقل، وجمع الديار فهي تنال كل واحد في داره على حدته، ولما كانت الرجفة راجعة لأبدانهم وأماكنهم فتزلزل وتخرب حتى تصير كأنها دار واحدة بعد موت، واختلاطها أفرد الديار. قلت: ونقل ابن عبد السلام إلى أنه أجاب بأن الرجفة عقوبة أرضية؛ فنسبت الديار إليها نسبة واحدة، والصيحة عقوبة سماوية فتخص كل دار على حدتها. وأجاب صاحب درة التنزيل بأن الآية التي جمعت فيها الديار، وذكر فيها نجاة النبي وقومه، ولا شك أنهم كانوا يجتمعون لأجله ليسمعوا قوله، ويختبروا أحواله، فلما ذهب المعنى الذي لأجله كانوا يجتمعون فرقوا في البلاد، فناسب جمع الديار، والآية التي أفردت فيها الرجفة لم يذكر فيها نجاة النبي صلى الله عليه وسلم، وإذا لم يزل النبي بين أظهرهم لم يزالوا مجتمعين، فكأنهم في دار واحدة، وعذابهم في ذلك عذاب واحد. قوله تعالى: {وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ ... (80)} قال الزمخشري: وأرسلنا و (إِذ). ظرف لـ أرسلنا، أي واذكر لوطا، أو بدل بمعنى واذكر وقت قال لقومه. قال ابن عرفة: يريد أنه ظرف كان منسوبا، واذكر مفعولا إن كان بدلا من لوطا. وأورد الطيبي كونه بدلا بأنه يقتضي بأن القول وقع حين الإرسال مع قبله بلا شك، وأجاب بأن وقت القول خير من يوم أو شهر أو عام، وذلك اليوم أو الشهر لجمع الإرسال والقول، قلت: فاعتبر هنا الكل وجعل وقت الإرسال لاجتماعها في وقت آخر يجمع الوقتين، كما أعيد الضمير في قوله (لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا) على العشية لاجتماعها في يوم واحد يجمعها. قال ابن عرفة: ويحتمل أن يقال: ليس المراد ابتداء الإرسال فقط؛ لأنه حين القول يسمى مرسلا وقبله وبعده؛ فهو حين يرسل أي دائم الإرسال، قال: لكن يرد على هذا أن قوله: (وَأَرسَلْنَا). هل هو حقيقة في أول أزمنة الإرسال مجاز فيما بعدها أو حقيقة في الجمع؟ وإذا قلنا: إنه مجاز فيكون المجاز فيه من حيث جعلنا لفظ أرسل متناولا زمن القول وما بعده. وما قال الطيبي: مجاز من حيث جعل زمان القول ظرفا له، والرسالة لاجتماعها في زمن يشتمل عليها؛ فيتعارض المجاز في الفعل وهو إذ. وقال الأصوليون وغيرهم: إن المجاز في الأسماء أكثر.

(81)

قوله تعالى: (مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ). قال الزمخشري: هذه جملة مستأنفة. قال الطيبي: أراد أن هذا ابتداء كلام وليس المراد حقيقة الاستئناف. ابن عرفة: لأن الاستئناف عند البيانيين هو الواقع جوابا لسؤال مقدر ويبعد أن يكون حالا؛ لأنه تعبير للكلام جملة واحدة، وجعله جملة أبلغ في التأكيد والإطناب. قوله تعالى: (مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ). قال الزمخشري: من الأولى زائدة لتأكيد النفي، والثانية للتبيين. قال الطيبي: والثاني بدل من الأول، ورده ابن عرفة. بأن (مِنْ أَحَدٍ) فاعل لـ سبقكم و (مِنَ الْعَالَمِينَ) لَا يصح أن يكون فاعلا؛ لأنه لتبيين نكرة، ولا يكون الاسم الواقع بعد النفي في موضع الفاعل إلا إذا كان نكرة قد دخلت عليه من نحو ما جاء من رجل، أو من أحد. قال بعض الطلبة: ما قاله أيضا باطل من جهة أن المعنى ما سبقكم بها بعض العالمين؛ فدل بالمفهوم أن فريقا آخر من العالمين سبقهم بها إلا أن يجعل البعض عاما. وأجاب ابن عرفة بأن المنطقيين، قالوا: إن السالبة الجزئية لها ثلاثة صور: ليس بعض، وبعض ليس، وليس كل، وفرقوا بين بعض ليس وليس بعض. بأن ليس بعض على نوعين: فنقول: ليس بعض إلا ليس عالما؛ فيكون خصوصا حقيقة، وتقول: ليس بعض [الأشياء*] بحجم فيكون خصوصية عاما؛ فانظر هل هذا مما خصوصه عموما أم لَا؟ والظاهر أن خصوصه باق على حقيقته فيلزم المفهوم فلا يصح ما قاله الطيبي. قوله تعالى: {لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً ... (81)} الزمخشري: مفعول من أجله أو حال. ابن عرفة: هو عندي بعد الفريضة فيجري فيه الأوجه الثلاثة، إما مصدر للأول، أو نعت لمصدر من لفظ الأول، أو مصدر لفعل مقدر من لفظه بعد الفرق بين كونه مفعولا من أجله وكونه حالا، فالفرق بين كل شيء علة كاملة، وبين كونه صفة الفاعل، كما يفرق بين الصاحب الغريب وبين من يمتثل أمرك، تقول: فلان يضجر السفهاء، وفلان يمتثل أمر السفهاء؛ فالذم بهذا الثاني أشد؛ فجعله مفعولا من أجله أبلغ من الذم، معناه أنتم ممتثلون أمر شهوتكم وطابعون عليها.

(85)

قوله تعالى: (بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ). الإضراب للانتقال من الذم، وأخص الأوصاف إلى الذم بأعيانها وهو أبلغ؛ لأن الشاهد بأنه رأى فلان في وقت كذا يشرب الخمر قد يعرض لخبره التكذيب لشاهد آخر يشهد بأنه رآه في ذلك الوقت بعية غير شارب الخمر، والشاهد بأن فلانا فاسق أو شارب خمر بالإطلاق؛ خبره أقرب إلى الصحة. قوله تعالى: {فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ ... (85)} إن قلت: لم عبر في الأول بالمصدر وفي الثاني بالاسم؟ فالجواب بثلاثة أوجه: الأول: أنه من حذف التقابل؛ أي أوفوا الكيل بالمكيال والوزن بالميزان. الثاني: أن البخس الغالب أن يكون في الكيل والميزان لَا في الوزن. الثالث: أن الوفاء من جهة المكيال أن يفعل في الكيل لَا في المكيال والوفاء من جهة الميزان أن يكون فيه لَا في الوزن. قوله تعالى: (وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ). أخذ منه بعض الموثقين أن من أحدث حفرة بإزاء دار فإِنه يمنع ولو لم يضر بها لأنه يبخس من ثمنها. قوله تعالى: (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ). إن كان شرطا في الأمر دل على أن الكفار غير مخاطبين. قوله تعالى: {وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ ... (86)} إن قلت: لَا يلزم من النهي من الكل النهي عن البعض، قلت: قد تقدم أن ليس كل من أسرار الجزئية السابقة، و (إِنْ) دلالتها على سبيل الحكم من الكل مطابقة، وعن البعض التزام، فإِن قلت: لأي شيء عدل عن الأمثل؟ قلت للتشنيع عليهم، وأنهم كانوا يقعدون بكل صراط يوعدون؛ (وَتَصُدُّونَ): أي توعدون من لَا حكم لكم عليه ولا سلطان، وتصدون من ينقاد لكم [ويطيع*] أمركم، وتبتغون عوجا لمن يطالبكم بالدليل، وتعلمون أن له نظرا واعتبارا وتأملا، وهو إشارة إلى اختلاف حالهم باعتبار من يصدونه ممن لَا علم عنده ولا فطنة يكتفون فيه بالصد والتوعد، ومن له بعض ممارسة يظهرون له اعوجاجا؛ فاصبروا على أن الخطاب للفريقين يكون وعدا للمؤمنين ووعيدا للكافرين، وتكون صيغة أفعل حينئذ مشتركة بين التهديد والإشارة. قوله تعالى: {أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا ... (88)}

(92)

قال: أو هنا للتخيير بين إخراجهم من القرية أو عودهم إلى دين الكفر. قوله تعالى: (أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ). ولم يقل: مكرهين. لأن الإكراه أعم إذ قد لَا يكون المكره كارها بل راضيا، وهذا قال في الزاني فكره أنه يحد، وهذا مثل ما قال اللخمي في طلاق المكره: أنه يجب عليه أن ينوي أنه لم يطلق، فدل على أنه يكون غير كاره. قوله تعالى: {الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَانُوا هُمُ الْخَاسِرِينَ (92)} ابن عرفة: هذا يسمى قلب النكتة؛ لأنهم قالوا: (لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ)، فإن قلت: ما جواب القسم؟ قلت: إنكم لخاسرون سد مسد الجوابين. وتعقبه أبو حيان وتعقبه غير صحيح؛ لجواز أن يكون مراد الزمخشري سد مسدهما أن الشرط وجوابه في موضع جواب القسم. قوله تعالى: {فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ (93)} المراد به الكفر الأخص وهو تكذيبه في تبليغه ونصحه. قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا ... (94)} تقدم أن الرسول أخص من النبي، وهو المأمور بالتبليغ، والنبي ينزل عليه لكنه لم يؤمر بتبليغ ما ينزل عليه، ووقع في كلام الغزالي: أن الرسول أعم من النبي؛ ذكره في بداية الهداية وصرح به ابن عطية هنا وهو خطأ. قوله تعالى: (إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا). حال إلا منتقمين منهم. قوله تعالى: (لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ). الرجاء بلعل مصروف للمنزل إليه؛ أي ليحصل لنبيهم المرسل إليهم. قوله تعالى: {فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (95)} قال ابن عرفة: هذا تأسيس لأن الأخذ بغتة هو الأخذ على غرة وغفلة من غير أن يتيقن لهم علم بالأخذ والشعور وهو مبادئ العلوم، فأفاد أنهم لم يتقدم لهم علم بذلك ولا مبادئ العلم به، فأخذوا من غير علم لهم بالشيء، ولم يقل: بما كانوا يكذبون؛ لأن الكسب أعم، ولتناول الآية سبب تكذيبهم وما نشأ عنه؛ لأن الكسب مشتمل على التكذيب وغيره لأنه يتناول عمل النفس وعمل الجوارح.

(97)

قوله تعالى: {أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ (97)} قال ابن عرفة: تكلم الطيبي هنا كلاما. قال ابن عرفة: لم خصص الإتيان بهذين الزمنين دون غيرهما؟ ثم أجاب بأنه من باب قولهم: ضربته الظهر والبطن، ومطرنا السهل والجبل؛ فعبر بالبيات عن زمن سكونهم، وبالضحى عن زمن اجتماعهم فيه؛ لأن أول ظهورهم وبعده يتفرقون في أشغالهم، قلت له: ولم قال: (وَهُم نَائِمُونَ).؟ فأخبر بالاسم، وقال: (وَهُمْ يَلْعَبُونَ). فأخبر بالفعل، فأجاب بأن الاسم يقتضي الثبوت؛ والنائم ساكن، والفعل يقتضي التجدد؛ واللعب حركة تتجدد شيئا فشيئا. قوله تعالى: {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ ... (99)} قال الزمخشري: هذا إشعار لأخذ العبد من حيث لَا يشعر. قال ابن عرفة: الأمر يقتضي أن عنده مضاف إلى الفاعل. وقال ابن عطية: أمنوا عقوبة مكر الله فراجع للأول وموافق له. ابن عرفة: ويحتمل عندي أن يكون غيره بأن الإنسان يتذكر حلول البأس والعقوبة في الدنيا، وتارة ينعم عليه في الدنيا فيتذكر الإملاء هنا، قال تعالى (إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا) فقوله: (مَكرَ اللَّهِ) إشارة إلى الإمهال؛ فإن من أنعم على شخص وأمهله وأقره فقد مكر به، فإن قلت: لم قال (فَلا يَأمَنُ مَكرَ اللَّهِ)، ولم يقل: فلا يأمن بأسنا؟ فالجواب: أن المكر خسران وحلول البأس بهم غير متيقن؛ منهم من أمنه ليس كمن أمن المكر والإمهال، قلت: ولأن المكر راجع إلى العقوبة الآخرة وعذابها لَا ينقطع والمكر في الدنيا فمن أمن المكر فهو الخاسر حقيقة. قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ ... (100)} الزمخشري فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أنه معطوف على مدلول معنى (أَوَلَمْ يَهْدِ) أي: [يغفلون*] عن الهداية [ونطبع*] على قلوبهم، أو معطوف على (يَرِثُونَ).

(101)

ورده ابن عرفة لأنه [يلزم عليه الفصل بين الصلة*] بأجنبي، وهو قوله تعالى: (لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ) قيل: له اعتراض فيصح كقولك: ذلك الذي [ ... ] ملكا والحق يدفع بتعداد الباطل، فقال: انظر هل فيها معنى التشديد أم لَا؟. قال الزمخشري: ولا يصح عطفه على (أَصَبْنَاهُمْ). على أن يكون نطبع ماضيا في المعنى الأول، ونفيها إيجاب، وإيجابها نفي فيلزم أن يكون الطبع غير واقع، قال: وأجاب صاحب الانتصاف بأن الكفر قسمان: قسم حالي، وكفر دائم، والطبع عبارة عن الكفر الدائم الذي قدر لصاحبه بالممات عليه وهو لأمنهم من آمن؛ فالمراد في حقه الكفر الحالي، وأن الله لم يصبهم فيما سلف بذنوبهم ولا طبع ما آمن منهم أحد. ورده الطيبي بأن سياق الآية أنهم أهلكوا بدليل توبيخهم وذمهم. قال ابن عرفة: وهذا لَا ينهض، وإنما الجواب أن الآية [سيقت*] للتوبيخ والوعيد والإنسان ما يخوف ويزجر إلا بما هو مكروه له إذ لَا يحسن أن يقول للنصراني: إن لم تفعل كذلك نسقيك الخمر أو نطعمك الخنزير؛ لأنه يقول هو مرادي، ولا يقول له إذا ادعى عليه أنه يؤمن على ذلك ويفرح [ ... ]. وقال لي بعض الطلبة: وتقدم أن المقدم إن كان أخص من التالي لاستثناء نقيض التالي أنتج عين المقدم، واستثناء عين المقدم ينتج عين التالي، نحو: لو كان هذا إنسانا لكان حيوانا لكنه ليس بحيوان فليس بإنسان، أو يقال: لكنه إنسان فهو حيوان وإن كانا متساويين أنتج أربع مطالب فاستثناء عين المقدم أو نقيضه، نحو: كلما كانت الشمس طالعة فإِن النهار موجودا. قوله تعالى: (فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ). الزواجر والمواعظ الواقعة على ألسنة الرسل إليهم. قوله تعالى: {تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا ... (101)} قال الزمخشري: يصح أن تكون (الْقُرَى) خبرا، و (نَقُصُّ عَلَيكَ) حالا، أو تكون (الْقُرَى) نعتا، و (نَقُصُّ) خبرا، أو تكون (الْقُرَى) خبرا، و (نَقُصُّ) خبرا بعد خبر، قلت: لَا يصح الأول؛ لأن الحال لَا يأتي إلا بعد تمام الكلام وهو هنا لم تحصل الفائدة إلا بها، فقال: خبر المبتدأ لَا يتم إلا بصفته، والحال من صفته على

(102)

أن منهم من منع اشتراط ذلك مستدلا بأنه لم يتم إلا بالحال وإلا يلزم عليه الكفر ورد بعضهم، الثالث: بأن الكلام لَا يستقل إلا بالخبر الأول. وأجاب الطيبي: بأنه يستقل بالمجموع لكن لَا يتم هذا إلا على اشتراط ابن عصفور كون الخبرين في معنى خبر واجد، نحو: هذا حلو حامض، ولا يأتي هنا. قال ابن عرفة: بل يصح هنا، ونقول: التقدير تلك الأمور المخبر عنها وعن أنبائها. قوله تعالى: {وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ (102)} قلت: هذا في اللام الفارقة، وإنما تدخل على خبر إن؛ وهنا دخلت على خبر المبتدأ وهو خبر من خبر إن. قوله تعالى: (تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ). فإِن قلت: لم أتى بالجملة الثانية معطوفة مع أنها مفسرة للأولى؟ قلت: لأن القصص لم تقع بكل الأشياء بل ببعضها، فالعطف دال ومؤذن بمعطوف عليه لم يذكر. قوله تعالى: (كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ). إما أن تكون بمعنى الصائرين إلى الكفر، كما قال الزمخشري: قوله تعالى: (لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ) تحصيل الحاصل، أو على حاله، ويراد بالطبع طبع خاص. قوله تعالى: قيل هذا (وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ). ولم يقل: لَا يعقلون؟؛ لأن المراد هنا السمع النافع لَا مطلق السمع. قوله تعالى: {ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى ... (103)} .. لم يأت لفظ (بعثنا) إلا مقيدا بقوله تعالى: (بَعدِهِم) وذلك للتبيين أن المبعوث من جنس الرسل (فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ) ولم يقل: الظالمين. ليشملهم وغيرهم ممن تقدم ذكره. قوله تعالى: {حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ ... (105)} قال الزمخشري: في القراءة المشهورة إشكال ولا يخلو من وجوه: أحدها: أن يكون مما [لأمن الإلباس*]، كقوله: [وَتَشْقَى*] الرّماحَ بالضيّاطِرَةِ الحُمر ...................... أي [وَتَشْقَى*] بالضياطرة الحمر بالرماح

(106)

الثاني: أن ما لزمك فقد لزمته فلما كان من الحق حقيقا عليه كان هو حقيقا على قول الحق لازما له. ورده ابن عرفة بالواجب [المخير*]؛ إذ لو كان كذلك لما وجد في الدنيا واجب [مخير*] أصلا. قوله تعالى: (فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ). ولم يقل: فابعث معي؛ لأن أرسل قد وجد منه رسول ومرسل ولم يشتق من بعث شيء. قوله تعالى: {إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (106)} دليل على خبثه؛ حيث أتى بـ إن المقتضية للشك وصيرورة ما دخل عليه في خبر المحال بخلاف إذا لأن وقوعه عنده غير محقق، وتنكير آية للتعليل أو للعموم، فإن قلت: لم قال: (إِنْ كُنْتَ)، ولم يقل: إن جئت؟ قلت: هذا أبلغ في النفي؛ لأنه أعم، وقد تقرر أن قولك: ليس هذا بحيوان، أبلغ من قولك: ليس هذا بإنسان، فإن قلت: لم قال: (مِنَ الصَّادِقِينَ) مع أنه أخص من قوله: إن كنت صادقا؟ قلت: الجواب كالجواب في قوله تعالى: (وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ) أو عام، أما إذا علقنا (إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ)، بقوله: (فَأْتِ) كان فيه ما يدل على أن الصدق يكون في الأقوال والأفعال، إلا أن يكون قوله: (إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) أي: في دعوى الرسالة في يجيئك بالآية، والظاهر أن موسى عليه الصلاة السلام أتى بالمطلوب وزيادة؛ لأنه إنما طلب منه آية واحدة وفيه أن الشيء يستدل عليه بدليلين. قوله تعالى: {فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ (107)} تقدم لابن عرفة فيها ما نصه: أي ظاهر قاله الزمخشري. وقال الفخر: إنه إشارة إلى مذهب أهل السنة. لأنهم يقولون: إن الأجسام متساوية في الحقيقة فلا فرق بين الحمار والإنسان؛ لأن كلا منهما جسم متحيز عندهم، فيجوز عندهم أن يرد الله تعالى الحمار إنسانا أو ثعبانا حقيقة. وقال المعتزلة والحكماء: إن الأجسام متباينة، ونسبة أحدهما إلى الآخر كنسبة الجوهر إلى العرض؛ إذ لَا يصح عندهم صيرورة الجوهر عرضا ولا العكس، قالوا: فكذلك الأجسام؛ فلا يجوز عندهم أن تصير العصا ثعبانا، وأيضا فهي تخييلات، فقوله: (مُبِين). إن التشكيك على قسمين: تشكيك في الأمور الضرورية، وتشكيك في النظريات فإنه تشكيك في الأمور البديهة لَا يصح لأنه إبطال لما علم ثبوته

(108)

بالضرورية، فيكون الإتيان بقوله (مُبينٌ) ليدل على أن قول الملأ من قوم فرعون (إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ). من باب إنكار العلوم البديهية، (فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ). يعلم كل أحد له نظر وبصيرة أنه لَا يكون من فعل الساحر. قوله تعالى: {وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ (108)} أي: لمن ينظر إليها ويتناقلها؛ لأن من لَا ينظر ولا يتأمل في الشيء قد تظنه بحمرة أو بسواد؛ ألا ترى أن البصر يغلط في السراب فيظنه ماء. قوله تعالى: {قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ ... (111)} نقل أبو حيان أن (وَأَخَاهُ) مفعول معه، ورده بأنه يلزم عليه أن يكون موسى تابعا لهارون. قال بعضهم: هو المناسب لهذه المادة؛ لأن إرجاء هارون أخف من إرجاء موسى، والله أعلم. قوله تعالى: {يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ (112)} هذا أبلغ، من لو قيل: يأتوك بكل سحَّار عليم؛ لأنهم إذا أتوا بالساحر فأحرى أن يأتوا بالسحار؛ لأنه يلزم من أمرهم بالإتيان بالسحار بخلاف العكس، ووقع التأكيد في قولهم (إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ). حسب التصور والتصديق، فالتصور بأن واللام، والتصديق بعليم، وكان بعضهم يقول في قول الشاطبي: [وَعى نَفَرٌ أَرْجِئْهُ ... *] البيت .. أنه يوهم أن قراءة الباقين بالهمز غير ساكن، وجوابه: أن القراءة دخلت عليه الياء وهو الهمز. قوله تعالى: {إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ (113)} ابن عرفة: هذا قاله إنسان منهم لموسى ولفرعون؛ فلموسى من حيث إتيانهم بـ إن دون إذا إشارة إلى أنهم ليسوا على وثوق من [غلبهم لموسى *]، وإنصافهم لفرعون من حيث التأكيد بالضمير وتعريف الخبر منه فما يأخذون منه الأجر إلا إذا غلبوا غلبة بينة. قوله تعالى: {إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ (115)} الظاهر أنها مانعة خلو. قوله تعالى: {قَالَ أَلْقُوا ... (116)}

(117)

(قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ) صيغة أفعل هنا للتحقير، وانظر قولهم (إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ) فإنه يقتضي إظهار القوة منهم، وقولهم: (إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ) يقتضي الاستبداد والضعف؛ فيحتمل أن يكون حالهم تغيرت أو أن وقت المبادرة محل إظهار القوة. قوله تعالى: (وَاسْتَرْهَبُوهُمْ). إن قلت: المناسب الفاء؛ لأن الاسترهاب سبب عن سحر أعين النَّاس، قلت: إنما يفتقر إلى الفاء فيها سببية غير ظاهرة. قال ابن عرفة: وفي قولهم: (وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ) أي: [لن نترك موسى يبتدئ بالإلقاء]، [ولما فهم*] (¬1) ذلك عنهم موسى، قال لهم ألقوا، قال: وانظر هل القضية مانعة الجمع أو مانعة الخلو، والظاهر أنها مانعة الخلو فلا يخلو المخلي على أن يلقي هو قبلهم أو يلقون هم قبله، ويحتمل أن يقع منهم الإلقاء جميعا في زمن واحد. قوله تعالى: {فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (117)} يحتمل أن يكون من الموحَى وإخبار عن حال العصا. قوله تعالى: (مَا يَأفِكُونَ). أي ما أفكوا، كقوله تعالى: (أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً) للتصويرِ، أو على بابه إن جعلنا فإذا هي من تمام الموحَى، كقوله تعالى: في الآية الأخرى (وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا). قوله تعالى: {رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ (122)} هذا يدل على أن الإضافة [يعتبر*] فيها حال المضاف إليه، وإلا لما تخلصوا من الدعوى. لأن فرعون قد يقول: أنا رب موسى وهارون؛ فالمعنى ذلك الرب الذي يدعيه موسى وهارون ربا. قوله تعالى: {آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ ... (123)} قيل: إنه لم يقع إذن منه لهم قبل ولا بعد، فهذا يدل على أن مثل قولك: كان كذا قبل كذا لا يقتضي وقوع الثاني، ولذلك كان ابن عبد السلام ينتقد على الطاعنين في قوله: ويؤمر الجنب بالوضوء قبل الغسل، فإِن أخره بعد ذلك أجزأه؛ وهذا يقتضي أنه لا يتوضأ قبل الغسل إذ لَا فائدة في الوضوء بعد الغسل، ونظيره قوله تعالى: (لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي). ¬

_ (¬1) قال الزمخشري: "وقولهم وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ فيه ما يدل على رغبتهم في أن يلقوا قبله من تأكيد ضميرهم المتصل بالمنفصل وتعريف الخبر، أو تعريف الخبر وإقحام الفصل، وقد سوّغ لهم موسى ما تراغبوا فيه ازدراء لشأنهم، وقلة مبالاة بهم، وثقة بما كان بصدده من التأييد السماوي، وأنّ المعجزة لن يغلبها سحر أبداً". اهـ (الكشاف. 2/ 140).

(126)

قوله تعالى: {لَمَّا جَاءَتْنَا ... (126)} ولم يقل: لما ظهرت لنا؛ لأن مجيئها لهم لم يستلزم ظهورها لهم لأجل مجيئها إليهم مع أنها جاءت لهم ولغيرهم؛ لكن تخصيص نسبة مجيئها إليهم على أن المراد مجيء وقع لهم وإفادة وظهور. قوله تعالى: {وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ ... (127)} يؤخذ منه عدم التعزية في النساء، كما قال عمر بن عبد العزيز في كتاب الجنائز: لأن ظاهر الآية أن إحياءهم عذاب ونقمة؛ يدل عليه أن موتهن رحمة ونعمة؛ ورد بأن إحيائهن دون رجال عذاب، كما أن إحياء الرجال دون النساء عذاب. قوله تعالى: {قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا ... (129)} جعله ابن عطية ضجرا منهم، وجعله الزمخشري طرديا، فكأنهم يقولون: مجيئك لنا وصف طردي، لم يفدنا شيئا، وهذا كفر. ابن عرفة: والصواب غير هذا، وهو أنهم قصدوا الاعتراف باتصافهم بالصبر مطلقا، ومساواة حالهم في ذلك قبل مجيئهم كحالهم بعد مجيئه، وأخبروا أن شأنهم وديدنهم الصبر. قوله تعالى: {لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (130)} كان بعضهم يقول: يؤخذ من هذا أن المصائب والآلام النازلة بالإنسان نعمة ورحمة في حقه لأن نالها التذكير وهو يصبر على مرارته فيعقبه صحة وعافية. قوله تعالى: {فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ ... (131)} قال ابن عرفة: أتي في الحسنة بإذا وعرفها وجعل فعلها ماضيا بلفظ جاء، وأتى في السيئة بإن وذكره ونكرها وجعل فعلها مستقبلا، فقال تعالى (وَإِنْ تُصِبْهُمْ) إشارة إلى أنهم لَا يعتبرون إلا الحسنة الثابتة المحققة وأنهم يتطيرون بأدنى سيئة وأقلها ولو لم تكن محققة. قوله تعالى: {وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ ... (132)} قال ابن عرفة: لفظة ما لَا يقتضي التكرار بذاتها. قال ابن مالك: قوله تعالى: (ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ) هذا ما توصل منهم بذلك، أو طلبوا منه أن يدعو متوسلا لربه بما عهد عنده [وأقسموا] بذلك على [أن*] يؤمنوا

(133)

له، قلت: فعلى هذا الأخير توقف ضدهما تجيء وجئتك؛ فأنت طالق أنه لَا يتكرر عليه الطلاق ولكنها قد تستعمل التكرار هذه الآية. قال: والآية في المعجزة الخارقة للعادة وأطلقوا عليها آية باعتبار اعتقاد موسى فيها وهي ليست عندهم آية. قوله تعالى: {آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ ... (133)} ذكروا في إسناده وجهين متعاقبين ولا مانع لاجتماعهما. قوله تعالى: (وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ). أي: كانوا على إجرامهم واستكبارهم. قوله تعالى: {وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ ... (134)} عبر بلفظ (وَقَعَ) إشارة إلى ثقل الأمر النازل بهم وشدته. قال ابن عطية: والظاهر أن المراد بالرجز العذاب [ ... ]. ما قاله أبو حيان في قوله تعالى: (فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ) من أن لما تقتضي تعلق ما دخلت بأوائل الأمر فقط [ ... ] [بالرجز آحاد ما عذبوا به لَا مجموعه فيراد به أولا ما نزل بهم من ذلك]. قوله تعالى: (ادْعُ لَنَا رَبَّكَ). ابن عرفة: فعلى الأول: يتعلق بقالوا، وعلى الثاني: (ادع) فتكون المسألة من باب الأعمال، وعلى الثالث: يتعلق بمقدر؛ أي علقوا بما عدد عنده. قوله تعالى: (وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ). لقوله: (وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ) [ولو وافقتم في الحكم لما أتوا بقولهم: (مَعَكَ)]. قوله تعالى: {فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ (135)} قالوا: الكشف متعلق بالأجل؛ أي: كشفناه مغيا كشفه بغاية إذا بلغوها [هلكوا].

(136)

وقال ابن عرفة: يحتمل أن يتعلق إلى أجل، بقوله: (الرِّجْزَ) أي: كشفنا عنهم الرجز المغيا بغاية فيكون المراد بذلك ما في نفس الأمر. قوله تعالى: {فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ ... (136)} أي: فأردنا الانتقام منهم فأغرقناهم؛ والمراد انتقمنا منهم بأنواع العذاب المتقدمة فأغرقناهم بعد ذلك في اليم، أو يكون العطف تفسيريا، كما قال ابن رشد في المقدمات في قوله تعالى: (أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ) فإِن تذكر الإنسان ما أنعم الله وما أعد له من الحسنات وما يناله من السيئة فإنه ينزجر عما هو عليه من المعاصي. قوله تعالى: {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا ... (137)} سماه ميراثا ولم يسمه إعطاء؛ لأنهم قالوه بعد موت القبط وكذلك هو الميراث، ولأنهم نالوه بغير سبب لهم ولا للقبط، فيه خلاف الإعطاء فإنهم ينالون ما أخذ بسبب وما أخذ من غير سبب. قال ابن عرفة: إذا قلنا: فلان ضعيف؛ فهو ضعيف في نفسه، وإذا قلت: فلان متضعف؛ فهو محتقر أعم من أن يكون في نفسه ضعيفا أو قويا، واحتقر؛ لأنه ليس له قرابة ولا أصدقاء يحمونه. قوله تعالى: (وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ). يقتضي ذهاب كل ما صنعوا وعدم بقائه. قوله تعالى: (وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا) يقتضي البقاء، قلت: يحتمل أدط يكون المعنى دمرنا كل ما صنع من استخدام بني إسرائيل واستضعافهم. قوله تعالى: (وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى). فيه رد على ابن التلمساني في قوله في أول شرح المعالم الفقهية: إن لفظ التمام يشعر بالتركيب، ولأن كلمة الله غير مركبة؛ إذ ليس بحرف ولا صوت، وأجيب بأن المراد العبارة عن الكلمة لَا معنى الكلمة باللفظ؛ والمعنى غير مركب، وأورد عليه أنه تقدم في قولهم (قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا). وتقدم لابن عطية أنه على سبيل التضجر، فأين الصبر هنا؟ وأجاب ابن عرفة بوجهين:

إما أن ذلك في أول أمرهم ثم صبروا، وإما أن التضجر من عوامهم والصبر من خواصهم فببركة صبرهم غفر لعوامهم، وصار الجميع كأنهم صبروا، وحكم العوام لحكمهم. وتقدم لابن عرفة مرة أخرى قوله تعالى: (وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ) يحتمل أن يكون من كلام الله؟ يعني داخلا في الأمر فيكون من جملة الموحى به، ويحتمل أن يكون خبرا عما وقع في الوجود؛ أي: فألقاها فإِذا هي تلقف، والظاهر الأول لقوله تعالى: في سورة طه (وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا). قوله تعالى: {فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (118)} مع أن وقع الحق يقتضي ما عداه، فالجواب: أن المراد وقع الشعور بالحق والشعور بالحق لَا يستلزم بطلان ما عداه بل قد يكون ما سواه مرجوحا غير باطل [ ... ] فيكون الواقع هو الراجح، لقوله تعالى: (رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ (122). احتراس؛ لأن فرعون كان يقول: هو ربهم. قوله تعالى: (قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ). دليل على أن من قال: جاء زيد قبل عمرو أنه لَا يلزم منه مجيء عمرو لعله لم يجيء البتة؛ لأن فرعون لم يأذن لهم أولا ولا آخرا. قوله تعالى: (وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا) [ ... ]. قوله تعالى: (رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا). المجاز إما في: (أَفْرِغْ)، أو في (صَبْرًا)، المعنى إما هيئ لنا صبرا، أو أفرغ علينا صبرا ما. قوله تعالى: (أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ). قال ابن عرفة: اللام للصيرورة، وهو المناسب لمقالتهم؛ فالمعنى أتذرهم [ليصلحوا*]، قال: أمرتهم [بالفساد*] في الأرض.

(138)

قوله تعالى: {وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ ... (138)} أي جوزنا. قال أبو حيان: وهو من باب فاعل بمعنى فعل. لأن أصل فعل إنما يقتضي تكليف الفعل؛ وصعوبته تارة بكون النسبة إلى الفاعل وهو مستحيل هنا، وتارة يكون بالنسبة إلى المفعول، وهو المراد هنا. قوله تعالى: (فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ). قال ابن عرفة: ما الفائدة في قوله: (لَهُم).؟ قال: عادتهم يجيبون بأنه زيادة تشنيع وتنبيه على جهلهم وغوايتهم في عبادتهم ما هو ملك لهم عليهم أشد، ويؤخذ من الآية أن [تغيير*] المنكر خاص بمن أرسل إليه المغير؛ لأن موسى عليه الصلاة والسلام لم يغير على القوة بالآخرين وهم الكنعانيون. قال الزمخشري: وعن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - أن يهوديا قال له: اختلفتم بعد نبيكم قبل أن يجف ماؤه، قال: وأنتم قلتم: اجعل لنا إلها ولم تجف أقدامكم من اليم. قال ابن عرفة: جدلي وهو من باب مقابلة الفاسد بالفاسد فلا ينتج غرضا بوجه؛ إذ لَا تبطل حجة الخصم لكنهم لغوايتهم يكفي فيه هذا الجواب، قال: والجواب البرهاني الحقيقي أن يقال: جادلتم أنتم بالباطل وكفرتم ونحن إنما قصدنا الحوطة على ديننا فكذلك اختلفنا فيمن يكون إماما بعد نبينا حوطة على ديننا. قوله تعالى: {إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ ... (139)} قال ابن عرفة: دلت الآية على إبطال فعلهم وهلاكه بالمطابقة، وعلى إبطال الفعل وهلاكه باللزوم؛ لأنه إذا دمر فعلهم فقد دمرهم. قوله تعالى: {أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا ... (140)} أعاد لفظة قال مع أنه من كلام موسى لما بين المقالتين من البون والاختلاف، فالأول راجع إلى الاستدلال على بطلانه، قال: واستدل على بطلانه بالخطابة لأنهم عوام يكفي فيهم الاستدلال بمجرد تفضيلهم على العالمين؛ ولذلك لم يستدل على ذلك بدلالة التمانع التي هي عقلية. قوله تعالى: {وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً ... (142)} إن قلت: لم عبر بالليالي دون الأيام.

الثاني: أن المتصوفة قالوا: الوصال الجيد أربعون يوما فناسب هذا الإخبار بوقوع الليالي التي هي محل الفطر فيها، قال: وهذا إن صح أنه صامها. قال الفخر: إن قلت: لَا فائدة لقوله (فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً)؛ لأن ما قبلها ينفى عنه؛ فالجواب: أن العشرة لَا تحتمل أن تكون من الثلاثين، أي: أتممنا الثلاثين بعشرة، فالكلام محتمل هنا كملت الثلاثون بعشر من جنسها أو من غير جنسها، فقال: قال: أتممنا احتمل كون العشرة داخلة في الثلاثين. الجواب الثاني: أن العشر يحتمل أن تكون ساعات، وهذا لَا يصح؛ لأن تمييز العدد لَا يحذف إلا لدليل. الجواب الثالث: أن معنى قوله (فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ) فثبت ووقع واستقر؛ فهو إشارة إلى أن موسى فعله ووفاء به؛ لأن الكلام كان محتملا هل وفاء بالعهد أم لَا؟. قوله تعالى: (وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي). قال ابن عرفة: يؤخذ من الآية جواز الوكالة إن قلنا: إن شرع من قبلنا شرع لنا، كما قالوا في قوله تعالى: (إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ). قال ابن الخطيب: لَا يصح أن يكون الاستثناء به في النبوة. وقال ابن عرفة: بل يصح عقلا وشرعا؛ لأن مذهب مالك - رحمه الله - جواز توكيل أحد الوصيين لشريكه في الإيصاء بأن يجعل ما بيده تحت يد شريكه، قال: ويؤخذ من الآية انعقاد الوكالة بقوله: كن وكيلي وهي دائرة بين أمرين: فقال في المدونة: زوجني ابنتك بكذا، فقال: قد فعلت، فقال: لَا أرضى أنه يلزمه النكاح ولا مقال له، وكذلك إذا قالت له: بما يعني بكذا، فقال: قد فعلت، فقالت: لَا أرضى أنه يلزمها الخلع ولا مقال لها، فوجه الأول أن [هزل*] النكاح جد. الثاني: أنها دخلت في عهدة الطلاق، وقال: إذا قال له: بعني سلعتك، فقال: قد فعلت فقال: لَا أرضى أنه يلزمه ويحلف على ذلك. ذكرها في كتاب بيع الغرر من التهذيب؛ [فانظر هل له حق الوكالة بالبيع أو النكاح*]. قوله تعالى: (وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ). ابن عرفة: يؤخذ أن الأمر بالشيء ليس نهيا عن ضده، وإلا كان يكون. قوله تعالى: (وَلَا تَتَّبِعْ).

(143)

تأكيد، قال: وأجيب بأن (أَصْلِحْ) مطلق؛ فإن الأمر لَا يقتضي التكرار فيصدق بصورة، والنهي يقتضي الانتهاء دائما، فإِن قلت: هلا قال: وأصلح وأنه من المفسدين عن الإفساد فإنه هو المقصود في هذا المقام؟، فالجواب: أنه اكتفى عنه بقوله: (وَأَصْلِحْ) لأنه من جملة الإصلاح، وليس المراد الاتباع الاصطلاحي، وهو أن يفعل فعل المتبوع لأجل أنه فعله ونهاه عن اتباع سبيله مطلقا. قوله تعالى: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا ... (143)} أي: للوقت الذي وعد به. قوله تعالى: (وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ). أي: أزال الحجب المانعة من سماع الكلام القديم الأزلي فسمعه، أو خلق له سمعا هو ولهذا أدركه الكلام القديم. قوله تعالى: (قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ). إن قلت: النظر هو الرؤية؛ فكيف قال أرني أنظر إليك؟ قلت: أجيب بالنظر مطاوع، وأرني هو الفعل الأول، كقولك: أخرجني لمخرج، وأدخلني لمدخل. قوله تعالى: (جَعَلَهُ دَكًّا). قال الفقيه أبو القاسم بن أحمد الغبريني: أخذ بعضهم من هذا أن جميع الأفعال لله تعالى، ورده بأن هذا جبل جماد ولا يكون منه فعل؛ فلذلك أسند الفعل معه، بدليل قوله تعالى: (وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا) فأسند الفعل لموسى، وأجاب الغبريني: بأن خرَّ مطاوع، يقول آخر: صير وهو في الثلاثي مقيس ويجوز كيف ما كان أخرجته فخرج، وإذا كان كذلك فالفعل لله. وتحامل الزمخشري هنا وأساء الأدب على أهل السنة وأنكر الرؤية، ثم قال: ولا يغرنك تسترهم بالبلكفة فإنها من منصوبات [أشياخهم *]، والقول: ما قال بعض العدلية فيهم: [لجماعة سموا هواهم سنّة ... وجماعة حمر لعمري موكفه قد شبّهوه بخلقه وتخوّفوا ... شنع الورى فتستّروا بالبلكفه*] أي: تستروا بقولهم بلا كيف. قال الطيبي: فأجابه بعض أهل السنة بقوله: [عجبًا*] لقوم ظالمين تلقبوا بالعدل ما فيهم لعمري معرفة قد جاءهم من حيث لَا يدرونه تعطيل ذات الله مع نفي الصفة.

قال: وأجاب صاحب الانتصاف وهو ناصر الدين بن المنير: [وجماعة كفروا برؤية ربهم ... حقاً ووعد الله ما لن يخلفه وتلقبوا عدلية قلنا أجل ... عدلوا بربهم فحسبهمو سفه وتلقبوا الناجين كلا إنهم ... إن لم يكونوا في لظى فعلى شفه*]. وأجاب الشيخ أبو علي عمر بن محمد بن مطيل السكوني الأصولي: [سميت جهلا صدر أمة أحمد ... وذوي البصائر بالحمير الموكفة وزعمت أن قد شبهوه بخلقه ... وتخونوا فتستروا بالبلكفة ونطق الكتاب وأنت تنطق بالهوى ... فهو في الْهُويبك في المهاوي المتلفة أترى الكليم أتى بجهل ما أتى ... وأتى شيوخك ما أتوا عن معرفة*]. وأجاب القاضي الفقيه أبو علي بن عبد الرفيع، بقوله: جورية وتلقبت عدلية ... وعن الصواب عدولها للسفسفة نفوا الصفات وعطلوا وتمجسوا ... ويكابرون وشأنهم خلق السفه*]. وأجاب الفقيه أبو عبد الله محمد بن أحمد بن محمد بن مرزوق [وجماعة عرفت لعمري بالسفه ... وتمسكت بضلال أهل الفلسفة عدلت عن النهج القويم فلقبت ... عدلية وعدولها عن معرفة ضلت وقالت لن يرى رب الورى ... يوم الجزاء فألزمت نفي الصفة وكم من زلة زلت وكم ... من مذهب ذهبت به في متلفة وكذلك أسلمت الأمور لنفسها ... هيهات تنقذ نفسها من متلفة كيف السبيل لصرفهم عن غيهم ... والعدل هل يمنع صرفهم والمعرفة*]. وأجاب شيخنا العالم أبو عبد الله محمد بن محمد بن عرفة [لحثالة سموا عماهم معْدَلا ... وحثالة حُمُرٌ لكي وقفه قد شبهوه بالمحال فعطلوا ... وتستروا بالذات عن نفي الصفة الحثالة ما لَا خبر فيه، وعماهم في الدنيا؛ لمخالفتهم الحق، وفي الآخرة لأنهم لَا يرونه على مذهبهم الفاسد، وحمر جمع حمار، [وقوله "لكي وقفه" أي وقفت لتكوى، بخلاف الحمار الموكي*]، [وقوله: "قد شبهوه بالمحال"؛ لأن نفي الرؤية عنهم، يستلزم كونه محالا، لأن كل موجود يجوز أن يرى*]. قال ابن عرفة: والنظر [عين*] الرؤية فالنظر تحديق الحدقة ونحو المنظور [ ... ] لا تقول: نظرت فلم أره، والرؤية إنما تصدق عند المشاهدة، فالمعنى مكني عن الرؤية لا نظر قارئ، والمعتزلة ينكرونه في الدنيا عقلا ونحن نجيزها في الدارين [لكن نقول: لا تقع إلا في الآخرة*]، ووجه الجواز عند المتقدمين كإمام الحرمين أن كل موجود فرؤيته ممكنة لذاته، ولا يستلزم عليه ما قال المعتزلة من أن الرؤية تقتضي كون المرئي في مكان والله تعالى يستحيل عليه المكان؛ فإِن ذلك من لوازم المرئي لَا من لوازم الرؤية وهذا أن المرئي لَا يكون إلا في مكان؛ لأن المكان من ضرورياته لَا في زمن الرؤية، ولا في غيره؛ فلهذا كان المرئي لَا يرى إلا في مكان فالله تعالى يستحيل عليه

(144)

المكان؛ فالرؤية جائزة في حقه، ووجهه عند المتأخرين أن الشرع أخبر بأنه لَا يرى في الدنيا، ويرى في الآخرة. وقوله تعالى: (لَنْ تَرَانِي). استدل به الزمخشري مطلقا؛ لأن (لن) عنده للنفي الدائم، ونحن نقول: لنفي غير دائم. قوله تعالى: (فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ). فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي دليلِ على الرؤية ممكنة؛ لأن استقرار الجبل في مكان [ممكن عقلا*]، وقد علق عليه (فَسَوْفَ تَرَانِي) فدل على مكان الرؤية إذ لَا يصح تعلق المستحيل على الممكن، فلا تقول: إن جئتني فأنا أجمع بين النقيضين. قوله تعالى: (فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا). ابن عرفة: المعتزلة ينفون الرؤية ويشترطون البينة وهي البلة والرطوبة المزاجية وكان الجهلة تظن أن البينة هي الشكل الخاص؛ فإِما أن يكون خلق في الجبل حياة وإدراكا؛ فلما ناله التجلي صار دكا أو صيره الله تعالى حينئذ دكا. قوله تعالى: {إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي ... (144)} المراد ناس زمانه، واصطفاه عليهم بالمجموع، وإلا فقد أرسل إليهم أنبياء كثيرين. وكان بعضهم يقول: يؤخذ من الآية أن الكلام يتعلق بنفسه؛ لأن جملة الكلام الذي اصطفاه ربه. قوله تعالى: (إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ). قيل له: هذا إن ثبت أنه قاله لموسى عليه السلام مباشرة، فقال: هو ظاهر الآية. قوله تعالى: (فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ). ظاهر الآية ينتج تحصيل الحاصل. فإن الاصطفاء والكلام قد أوتيهما وأخذهما فكيف يقول: خذ ما آتيتك؟ قالوا: والجواب من وجهين: إما بالتجوز في لفظ خذ؛ فيكون بمعنى اقنع بما آتيتك ولا تطلب أكثر منه، وإما أن تكون آتيتك ماضيا بمعنى المستقبل أي: ما يأتيك من الوحي. قوله تعالى: {وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ ... (145)}

كان بعضهم يستشكله؛ لأن كل نقيض العموم، ومن نقيض التبعيض، والجمع بينهما جمع بين الضدين وهو محال عقلا وشرعا، ويجاب بأن العموم في الأجناس والتبعيض في الأنواع، أو العموم في الأنواع والتبعيض في أشخاص الأنواع ومن يعرف التفريق بين الجنس والنوع لَا يفهم هذا. قوله تعالى: (مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ). أخذوا منه أنه ينبغي للرسول أن يقدم الموعظة والتذكير على التكليف بالشرائع والأحكام. قالوا: وفي الآية رد على ما قاله مالك رحمه الله في العتبية: من أنه يكره أن يكتب القرآن في الأجزاء، وقال: نجمعه وأنتم تفرقونه. فقد نزلت التوراة مفرقة في الألواح، فإن قلت: هذا استدلال بقول الله فهو ممنوع عند الأصوليين، قلنا: قد استدل به مالك في قياسه حد اللواطة على حد الزنا. قوله تعالى: (فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ). أي: بعزيمة واجتهاد. قوله تعالى: (وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا). تقدم استشكالا قبل هذا، وأنه يلزم عليه في الخبر؛ لأن معناه: أن يأمرهم يأخذوا بأحسنها، وقد أمرهم ولم يعطه جميعهم بل بعضهم. وتقدم جواب ثان لابن عصفور في شرح الجمل الكبير في باب ما يتحرم من الجوابات، في قوله تعالى: (قُل لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلَاةَ) أجاب عنه بأن لفظ العباد لَا يتناول إلا الصالحين الممتثلين للأمر. ورده ابن الصائغ بأن هذا خاص بتلك الآية فقط فلا يتم له في غيرها، قال: وإنَّمَا الجواب بأن في الآية حذفا، أي: قل لهم يقيموا الصلاة أو يعاقبوا، وكذلك هنا التقدير وأمر قومك. يأخذوا بأحسنها أو يعاقبوا. قلت: وأجاب بعضهم بأنه في معنى الآية، فقوله (وَأْمُرْ قَوْمَكَ) بمعنى قل لقومك، وقوله (يَأْخُذُوا) بمعنى خذوا؛ أي: قل لقومك يأخذوا بأحسنها. قال ابن عرفة: وقوله (يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا). تقدم استشكال مثله في قوله تعالى: (أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا) إنه يلزم بالمفهوم ألا يتقبل عنهم [ما*] هو دونه في الحسن؛

(146)

فإن كان حسنا وتقدم الجواب عنه بأن المباح يصدق عليهما أنه حسن فيكون الأحسن هو المندوب وما فوقه فهو المتقبل، وكذلك إنما كلفوا بالمندوب لَا بالمباح. قوله تعالى: (سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ). يحتمل أن يريد يوم القيامة. قوله تعالى: {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ ... (146)} أي: سأخلق في قلوبهم شيئا يمنعهم من الإيمان بها، متخذا مذهب أهل السنة ومذهب المعتزلة؛ سأمنعهم الألطاف والأسباب المحصلة للإيمان بها. قال: وهو على سبيل التحذير لهم والتخويف، قال: والتحذير بذكر ما يتوقع منها أبلغ وأقرب لمكان التحصين، كما نقول: لَا تمش هذه الطريق فإنها مخوفة، وتقول لآخر: لَا تمش من هذه الطريق فإن مشيت منها تجد فيها طريقين؛ أحدهما وهي اليسرى مخلوقة فهذا أقرب للتخويف من الأول، وكذلك هذا لما أمر؛ وقيل له: (وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا) أتى عندنا على سبيل التحذير لقومه من سبيل هؤلاء؛ لأنه لما قيل له: وأمر قومك تعلق قلبه بإيمان جميعهم، فقيل له: فيهم من لَا يؤمن بك فلا تتهالك عليهم وكن على بصيرة من ذلك. قوله تعالى: (عَنْ آيَاتِيَ). قال ابن عطية: أي: عن الإيمان بالوحي وما في الكتب المنزلة. قوله تعالى: (الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ). قال ابن عرفة: التكبر في الأرض قسمان: تكبر بالحق، وقد يكون واجبا أو مباحا كمن يكون إذلالك له لم يوجب أن يحملك على ارتكاب معصية من شرب الخمر أو الزنا وتكبر بغير الحق. وقال الزمخشري: سأصرف عن الطعن في آياتي. فقال الطيبي: إنما قال عن الطعن؛ لأن مذهبه أن اللَّه لَا يخلق الشر؛ ولذلك تأول بالطعن. وأورد عليه ابن المنير أن الطعن في الآيات محال عقلا لَا يقع بوجه، والصرف يقضي إمكان وقوعه فعلا وهو غير ممكن بوجه.

(148)

قيل لابن عرفة: إن أراد الطعن اللازم المؤثر في نفس الأمر فمسلم، ولكن نقول: نحن إنما أراد الطعن بمعنى الشبهة واقفا غير مصروف حسبما ذكر الفخر كثيرا منه في نهاية [المحصول*]، وقد وعد الله بصرفه فيلزم عليه [الخلف*] في الخبر؛ فلا بد أن يراد الطعن التام فيبقى السؤال واردا، قال: وظهر لي أن المراد سأصرفهم عن نيلهم طمعهم في الطعن في آيات اللَّه تعالى، ونيلهم طمعهم في ذلك ممكن باعتبار اعتقادهم، كما يطمع الإنسان أن ينزع ولا يصرح شيئا فصرفوا عن نيلهم ذلك الطمع الذي اعتقدوا فيه القدرة على الطعن في الآيات، وجعل المفسرون هذه المعطوفات تأكيدا وظهر لي أنها تأسيس: فالأول: [الصرف عن الآيات بها تصديقا*]. والثاني: [تصورا*]، وهو قوله تعالى: (وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا) أي: لا يتصورون طريق الإيمان بها؛ فهذا الصرف عن تصور طريق الإيمان بها. والثالث: [الصرف عن*] الإيمان بها تقليدا. قوله تعالى: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا). في ظاهره تعليل الشيء بنفسه، وقد ذكر الأصوليون أن العلة غير المعلول؛ إلا أن يقال: المراد بهذه الآيات المعجزات، والأول الآيات المنزلة على الرسل. قوله تعالى: {وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى ... (148)} [قال أبو حيان: أصله [اأتخذ*]. قال ابن عرفة: أصله [اأتخذ*]؛ لأنه من أخذ فأبدلت الهمزة تاء وأدغمت التاء في التاء ولفظ القوم يدخل فيهم هارون، فإن قلنا: إن أشراف النَّاس لَا يدخلون في مسمى القوم، فنقول: هو عام باق عمومه، وإن قلنا: إنهم يدخلون فيكون عاما مخصوصا بهارون. قوله تعالى: (مِنْ بَعْدِهِ). دليل على مبادرتهم بذلك في أول أزمنة البعدية. قوله تعالى: (مِنْ حُلِيِّهِمْ). الإضافة إما بمعنى الملك، أو إضافة ملابسة، فهو مملوك لهم، إما تنقلا بمعنى أنهم [أخذوه حكما في غنيمة*] القتال، أو ورثوه عنهم، وإما ملابسة لأنهم لما استعاروه من [القبط*] صار كأنه لهم، والاتخاذ إما [فعلي أو معنوي*]، فإن كان فعليا [فما فعله غير*]

(150)

السامري، فإنه هو الذي صنعه ونسب فعله إلى جميعهم؛ إما لأن السامري منهم فهو من مجاز تسمية الكل باسم البعض على جهة التقليب، وإما أنهم رضوا بفعله فهو من باب استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه، وإما معنوي ونسبة الكل إليهم حقيقة لأنهم انخذوه إلها .. قوله تعالى: (جَسَدًا). قالوا: أفاد الوصف به أنه لَا روح فيه، وقيل: إثارة إلى أنه لَا رأس له. ورده ابن عرفة بقوله تعالى: (وَمَا جَعَلنَاهُم جَسَدًا لَا يَأكُلُونَ الطعَامَ) قال: وعندي أنه أفاد التبكيت عليهم من أنهم عبدوا من لَا يستحق العبودية؛ لأن الإله منزه عن الجسمية والتحيز. قوله تعالى: (أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا). ابن عرفة: أخذوا منه إثبات صفة الكلام لله تعالى. قوله تعالى: (وَلَا يَهْدِيهِم سَبِيلًا). يتضمن العلم والقدرة والإرادة، وكان بعضهم يستشكل الآية، ويقول: ظاهرها أن وجود الكلام وهداية السبيل علامة على الألوهية، وهذا المعنى ثابت في الرسل فيلزم أن كل واحد منهم إلها. وأجيب بأنه استدلال بنفي الإلزام على نفي الملزوم، ولأن من لوازم الإله أن يكون متكلما هاديا السبيل، فإذا انتفى هذا اللازم من الشيء انتفى عنه ملزومه وهو الألوهية؛ فيلزم من نفي اللازم نفي الملزوم ولا يلزم من ثبوته ثبوته. قال ابن عرفة: وعادتهم يجيبون بأن الآية دلت على أن عدم الكلام نفي الملزوم وهو عدم الكلام وعدم الهداية؛ لأنه إذا انتقى عدم الألوهية ثبتت الألوهية؛ فكل من ثبتت له الألوهية ثبت له الكلام والهداية، ولا يلزم من نفي الملزوم نفي اللازم؛ لأنه لا يلزم من نفي عدم الكلام نفي عدم الألوهية؛ أي: لَا يلزم من ثبوث الكلام ثبوت الألوهية. قوله تعالى: {وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا ... (150)} قال ابن عرفة: عادتهم يوردون في هذه الآية استشكالين: أحدهما: أن حكم الحاكم من باب تغيير المنكر حسبما ذكره الشيخ عز الدين، فيقال: الحاكم إذا عرض له طريقان قريبة وبعيدة أنه ينبغي له أن يسلك القريبة ويترك

البعيدة؛ لأن حكم الحاكم من باب تغيير المنكر واجب على الفور، وتقدم حديث: "لَا يقضي القاضي حين يقضي وهو غضبان"، وقد صدرت هذه المقالة من موسى عليه السلام حالة غضبه وهو تغيير منكر، قال: وأجيب بوجهين: أحدهما: الأول: أن ذلك في غير النبي، وأما النبي فهو معصوم، والخطأ والتجاوز في حكمه فلا يؤثر فيه الغضب حسبما ذكر نحوه عياض في آخر الأجوبة عن حديث الزبير في شراج الحرة حين غضب النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وقال: " [اسْقِ يَا زُبَيْرُ، ثُمَّ احْبِسِ المَاءَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَى الجَدْرِ*]. الثاني: أن حكم الحاكم أخص من تغيير المنكر؛ لأن حكم الحاكم لَا يقع إلا ممن هو معين لذلك، وتغيير المنكر يقع في سائر النَّاس؛ كما يلزم من اشتراط السلامة من الغضب والشواكل في حكم الحاكم اشتراطه في تغيير المنكر على هذا؛ فيعم ذلك جميع النَّاس من الفسقة وغيرهم. الإشكال الثاني: أن الإنكار إن وقع على أمر محرم فيكون راجعا لذاته، وإن وقع على أمر جائز فهو إما لقوته أو لمحله. والإنكار وقع عليهم في نفس معبودهم وهو العجل. وقوله (أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ) فزعم أن الإنكار وقع على الاستعجال دون الشيء المستعمل؛ ألا ترى أن الإنسان لو جهل في رمضان فأفطر على مباح قبل مغيب الشمس لحسن أن يقول: لما تعجلت الفطر قبل الغروب، ولو شرب الخمر أو أكل الخنزير لما حسن أن يقول له ذلك، قيل: إنما ينكر عليه نفس الفعل ولا ينكر عليه الزمان بوجه. قال: والجواب أن تحمل الآية على غير ما قاله المفسرون في الاستعجال وهو أن الناظر قد يظهر له شبهة فيستعجل عليها من غير إعادة نظر ولا تأمل؛ ولذلك يقولون في الشعر: هذا شعر جبلي أي: معاود لها ولا ظهرت له شبهة؛ فبادروا إلى اتباعه والعمل بها بأول وهلة، ولو أعادوا النظر لظهر لهم فيها الحال؛ فمعنى الآية عندي: أعجلتم من أمر ربكم أي: تعديتم عنه وخرجتم عنه وخالفتموه، ويكون المراد بأمر ربكم توحيده وعبادته. قوله تعالى: (وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ).

(151)

قال ابن الخطيب: يؤخذ منه جواز إلقاء المصحف؛ فرده ابن عرفة بأن موسى عليه السلام إنما ألقاها اضطرار كي يتأتى له الأخذ برأس أخيه؛ فجره إليه لأنها كانت في يده. قوله تعالى: (وَأَخَذَ بِرَأسِ أَخِيهِ). قال ابن عرفة: يؤخذ منه ومن قوله في سورة طه: (يَبْنَؤُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي) إن الأذنين ليسا من الرأس؛ لأن موسى عليه الصلاة السلام إنما أخذ بأحد أذنيه، ابن عرفة: وهذا لو قام الدليل على أن موسى امتثل لقول هارون له (لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي). ولعله لم يمتثل أمره ولم يسمع منه، قيل لابن عرفة: هذه معصية فكيف وقع فيها هارون وموسى معصوم؟ وتقديره أن موسى عليه الصلاة والسلام غضب عليه وأدبه بالقول والفعل، والتأديب يقتضي التأثيم وهما من خواص ترك الواجب، والنبي معصوم من الوقوع في ذلك، وقد تقرر في مسألة ترك الوتر أن التأديب يقع على ترك المندوب، فقد قال أصبغ: يؤدب تاركه وهارون قد غير عليهم أولا، فقد قال في طه (وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي) فما عاتبه موسى عليه الصلاة والسلام إلا على الدوام على التغيير. قوله تعالى: (قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا). قال ابن عرفة، عن سيبويه: في (ابْنَ أُمَّ) [ابن أم ثلاث لغات: ابْنَ أُمِّي، وابن أمَّ، وابْنَ إِمِّ*]، قال: سمعتها من الخليل، قال ابن عرفة: هذه عندي الصحيحة لكون سيبويه لم يذكر غيرها. قوله تعالى: (فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ). قال ابن عرفة: هذا نفي أعم، ولو قال: من القوم الظالمين لكان نفي أخص، قلت: قال لي بعض النَّاس: ابن عبد السلام كان ينشد قول الشاعر: يقول العاذلون تَسلَّ عنها ... وداوِ غليل قلبك بالسُّلوِّ وكيف ولمحة منها اختلاسا ... ألذُّ من الشماتة بالعدوِّ قوله تعالى: {قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ ... (151)}

(153)

قال ابن عرفة: قدم المغفرة على الرحمة مع أن الرحمة سبب في المغفرة، فأجابوا بأنه يعتبر تقديم الرحمة باللزوم وتأخيرها بالمطابقة؛ فيفيد الدعاء بها مرتين. قوله تعالى: (وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ). إن أريد الرحمة الحقيقية في نفس الأمر فلا اشتراك فيها بوجه، وإن أريد الرحمة باعتبار الظاهر فيعقل فيها الاشتراك. قوله تعالى: {وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِهَا وَآمَنُوا ... (153)} قال ابن عرفة: تقدم لنا فيها تمسك للمعتزلة بأن السيئات لفظ عام يتناول الكفر وسائر المعاصي، فقوله تعالى: (تَابُوا). راجع إلى التوبة مما سوى الكفر، وقوله تعالى: (وَآمَنُوا). راجع إلى التوبة مما سوى الكفر من المعاصي فكان تأسيسا، وعلى مذهب أهل السنة يكون تأكيدا، قال: وأجيب بأن الشيء في نفسه ليس هو كغيره، فقوله (وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ). متصفون بالإيمان مع السيئات، وقوله (ثُمَّ تَابُوا). أي: تابوا مع تحصيلهم الإيمان، وقوله (وَآمَنُوا). أي: آمنوا إيمانا خالصا لَا يشوبه عمل سيئ بوجه، فلذلك كرره، قال: وتقدمنا سؤال وهو لأي شيء لم يقل: والذين أساءوا، كما قال تعالى (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا) أو كان يقول: من عمل صالحا فلنفسه ومن عمل سيئا فعليها، قال: وتقدم الجواب بأن التقبيح تارة يرجع إلى المفعول، كما تقول: تأكل مال اليتيم ظلما، وتارة يرجع إلى الفعل، كما تقول: كيف تأكل بشمالك. وتقبيح المفعول يستلزم تقبيح الفعل ولا ينعكس، فقوله تعالى: (وَمَن أَسَاءَ فَعَلَيهَا). تعيين الأعم فيتناول الأخص من باب أحرى لأنه إذا كان عليها مطلق إساءة فأحرى ما فوقها، وهنا عبر بالأخص فيستلزم الأعم لأنه إذا كان غفورا رحيما لمن مات بعد اتصافه بأخص القبيح؛ فأحرى أن يغفر لمن تاب بعد اتصافه بما دونه في القبيح. قوله تعالى: (ثُمَّ تَابُوا مِن بَعدِهَا). قلت: وتقدم لنا في الختمة الأخرى أن العطف هنا [بـ (ثُمَّ) *] لأجل أن من تاب [فإن اقتراته*] بالمعصية أخف ممن تاب بعدما تمالأ عليها وأصر عليها؛ فأتى بـ ثم ليفيد أن توبة هذا الثاني مقبولة فأحرى الأول، وقوله (مِن بَعدِهَا). أتى به رفعا للمجاز؛ لأنه يحتمل أن يكون تابوا بعدما عملوا [أو سعوا وهموا بفعلها*]. قوله تعالى: (مِن بَعْدِهَا).

(154)

إن قلت: ما فائدته؟ قلنا: أفاد اتصافهم بأخص المغفرة، كقولك: فلان [يَتَنَفَّل*] إذا عسعس الليل؛ فإنه أخص من قولك: فلان [يَتَنَفَّل*]. قوله تعالى: {وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ ... (154)} مع أنه أخص، قال: وعادتهم يجيبون بأنه [احتراس خشية أن يتوهم أنه تعليل بالمخل*]؛ لأن هذه لما كانت ألواحا نزلت من السماء من الجنة، قد يتوهم أن الهدى والرحمة فيها أنفسها، فقيل (وَفِي نُسْخَتِهَا) ليفيد أن الرحمة والهدى في المكتوب منها، [وفي النسخ منها، لا فيها أنفسها لذاتها*]. قوله تعالى: (أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا). ليس باستفهام عن الإهلاك؛ لأنه قد وقع، والواقع لَا يسئل عنه؛ وإنَّمَا هو استفهام عن الجواز الحكمي؛ معناه: أيجوز في حكمك أن [تهلك*] البريء بما فعل العاصي، وهذا جائز عند أهل السنة فإنه يجوز عندهم أن يعذب الله الطائع ويعذب العاصي، وأفعال الله غير معللة وكلها بالنسبة إليه حسن. قوله تعالى: (فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا). الرحمة سبب في المغفرة؛ فهلا قدمت عليها، وأجيب: بأن المراد تكرير الدعاء بها لتكون [المغفرة*] متقدمة ومتأخرة. قوله تعالى: (وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ). إن اعتبرنا ما في نفس الأمر فلا مشاركة، وباعتبار الظاهر هي أفعل، من قوله تعالى: (وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً ... (156) .. لَا يصح أن يكون الكتب حقيقة لأنه إن كان قديما امتنع لقوله (فِي هَذِهِ الدُّنْيَا).، وإن كان حادثا امتنع لقوله (وَفِي الآخِرَةِ). فالمراد بالكتب إما ثبوت ذلك، أو الحكم بثبوته. قوله تعالى: (قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ). اختلفوا هل اتصل موسى بمطلوبه أم لا. قوله تعالى: (وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ). قال ابن عرفة: إنما كرر الموصول؛ لأن هذه الأمور اعتقادية راجعة للتوحيد، والأولى أمور عقلية؛ فكررها لما بين العمل والاعتقاد من التفاوت.

(157)

قول تعالى (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ ... (157) .. قال - ابن عرفة: النبي هو اختصاص الله لبعض خلقه بالوحي على لسان الملك؛ فإن أمر بالتبليغ فهو رسول، فالرسول أخص من النبي، وقيل: هما سواء، ونقل الإمام الغزالي، وابن العربي في بعض تعاليقه قولان: بأن النبي أخص ووجهه؛ بأنك تقول: فلان رسول فلان، ولا تقول: فلان نبي، وجاءت هذه الآية على العكس؛ لأن ثبوت الأخص يستلزم ثبوت الأعم، فما السر في تقديم الرسول على النبي؟ وأجيب: بأن اتباعه من حيث كونه مرسلا لَا يلزم منه اتباعه من حيث كونه نبيا فقط، ولا يلزم منه اتباعه من حيث كونه أميا فقط فكان العطف ترقيا في المدح، فهو من باب الانتقال من الدليل الأوضح إلى الدليل الواضح، ثم إلى الدليل الخفي، - فالإيمان به من حيث كونه رسولا يستلزم الإيمان به من حيث كونه نبيا فقط، والإيمان به من حيث كونه نبيا فقط لا يستلزم الإيمان به من حيث كونه أميا فقط، والمراد هنا الاتباع الاصطلاحي؛ وهو أن يفعل مثل ما فعل المتبوع لأجل أنه فعله، وهذا على سبيل التوزيع؛ لأن الذي يجدونه عندهم في التوراة هم اليهود، وأهل الإنجيل هم النصارى. قوله تعالى: (يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ). قد يقال: فيه دليل على أن الأمر بالشيء ليس نهيا عن ضده، لقوله تعالى: (وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ). قوله تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا ... (158)} قال ابن عرفة: كثيرا ما يقع هذا في القرآن فهو مأمور بأن يقول: يا أيها النَّاس، ويسقط لفظ قل، ولكنه هنا مأمور بتبليغ الجميع آيات القرآن، هو مأمور بتبليغها للناس، وكان بعضهم يقول: اختصاص بعضها بلفظ قل نبه على أنه أمران: يقول ذلك ليكون إبراء لساحته وأقلع لنفي التوهم عنه و (النَّاسُ).، قيل: يشمل الجن والإنس، وقيل: خاص بالإنس، والفرق بين هذا وبين رسالة نوح بوجهين: أحدهما: أن رسالة نوح كانت للإنس فقط. الثاني: أنها كانت لأهل زمانه فقط؛ وهذه عامة إلى قيام الساعة. قوله تعالى: (الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ). قال الزمخشري: قيل: هي الكلمة التي تكون عند عيسى وجميع خلقه وهي كن. قال ابن عرفة: هذا غير جار على مذهبه؛ لأنه ينفي الكلام، ولذلك قالوا: إنه ضعيف في أصول الدين.

(159)

قوله تعالى: {وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (159)} قال ابن عرفة: يحتمل أن يهدون غيرهم وبه يعدلون في القسم أو العكس، أو يرجع الأول للأمور الاعتقادية، والثاني للأعمال؛ فيحتمل أن يكون من العدل، أو من العدول، قال: الذين هم بربهم يعدلون، ولذلك كان رجل دلال في سوق الكتبيين يسمى عدلان، وكان ابن عبد السلام يمزح معه: أنت عدلك عن الحق إلى الباطل أو العكس، وإما لأن الحق يصدق على ما في الاعتقاد، وإن كان في نفس الأمر، قال: وعادتهم يوردون سؤالا مذكورا في نفس الائتلاف وهو لم قال (وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ). وهلا قال: من أمة موسى قوم، فإن الأمة أكثر من القوم والقوم أقل، وعادتهم يجيبون بأن [لفظ الأمة يشعر بالاجتماع*] واتحاد الكلمة أكثر مما يشعر به لفظ قوم، ولذلك يجمع على أمم، ولذلك قال: "ستفترق هذه الأمة على اثنتين وسبعين فرقة"؛ والافتراق دليل على ما تقدم الاجتماع. قوله تعالى: {أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ ... (160)} قال: معطوف على محذوف؛ أي: فضرب فانبجست قيل له: قال ابن عصفور إن المحذوف ضرب والفاء المتصلة بـ انبجست، وأما الفاء الملفوظ بها فهي داخلة على ضرب مقدر بين الفاء وبين انبجست، فقال: ليتأتى له ما يعطفه عليه مثل (وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ) .. قال الزمخشري: فإن قلت: ما فائدة هذا الحذف؟ فأجاب: بأنه إشعار بسرعة الانبجاس بنفس الأمر حتى كأنه سابق على الضرب، قال ابن عرفة: ويذكر فيه جوابا آخر لبعض المتقدمين؛ وهو أنه مشبهة على إسناد الكائنات إلى الله تعالى، وأن الضرب إنما هو سبب عادي، والانبجاس عنده لَا به. قوله تعالى: {وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ ... (161)} قال ابن عطية: العامل في إذ فعل مقدر تقديره: واذكر إذا قيل لهم، قال ابن عرفة: فعلى هذا يكون إذ مفعولا به، والصواب أن يقدر أن يكون ظرفا، لأن وقت القول لهم متقدم الأمر والسكن، قال: وقد ذكر الوجهان في غير ما وضع إذ هي منصرفة، فالجواب أن يقدر بها فعل يعمل فيها على أنها ظرف تقديره: أنعمنا عليهم، إذ قيل لهم: اسكنوا، قال: والدخول أعم من السكن فهو من التعبير بالأعم مطلقا، أو بالأعم من وجه دون وجه فيستلزم الأخص، وعبر في البقرة بالدخول، لقوله: (رَغَدًا) والرغد يستلزم دوام الإقامة؛ واستغنى عنها بلفظ اسكنوا.

(162)

قال ابن عرفة: (وَكُلُوا). إن قلنا: أن أصل الأشياء على الحصر فيكون الأمر في كلوا على الإباحة، وإن قلنا: أن أصل الأشياء على الإباحة فيكون الأمر به الامتنان. قوله تعالى: (وَقُولُوا حِطَّةٌ). أخذوا منها مع آية البقرة أن الواو لَا تفيد الترتيب، وأجاب ابن التلمساني: بأنا إذا قلنا: أن المراد بقوله (حِطَّةٌ). كلمة التوحيد فيكونوا أمروا بأن يقولوها قبل الدخول وبعده، قال ابن عرفة: وكذلك إذا لم يكن المراد بها كلمة التوحيد، فأجيب بأنها إن كانت كلمة التوحيد فيكون دوامها ضروريا وغيرها ليس بضروري. قوله تعالى: (سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ). هو هنا بإسقاط الواو، وفي البقرة بالواو، وقال البيانيون: إن كان الفعل الثاني قريبا من معنى الأول جدا وبعيدا منه جدا أو دخلت الواو بينهما، وإن كانت منافاته له في حيز التوسط حذف الواو وهناك عبر بالدخول، وهو أعم من السكنى فقد ثبت لهم المعنى الأخص فحذفت الواو. قوله تعالى: {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا ... (162)} ابن عطية: يدل معناه غير اللفظ دون أن يذهب بجميعه، وأبدل إذا ذهب به وجاء بلفظ آخر، فرد عليه أبو حيان، بقوله تعالى: (عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ)، وبقوله (فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ)، وبقوله (عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا) قال ابن عرفة: هذا يقتضي كله تبديل الذات، وإنما حقه أن يرد عليه، بقوله تعالى: (ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ) فإن التبديل هناك تغيير بعض اللفظ دون أن يذهب بالمعنى، قيل له: بنو إسرائيل غيروا اللفظ كله والمعنى لأنهم أمروا أن يقولوا حطة فدخلوا يزحفون على استاههم وقالوا: حبة في شعيرة. قوله تعالى: {وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ ... (163)} قال ابن عرفة: هذا مخالف لما يقول المنطقيون والنحويون من أن الطلب من الأعلى للأدنى يسمى أمرا، أو عكسه يسمى مسألة؛ فكان يقول على هذا: أو أمرهم بأن يخبروك بخبر القرية التي كانت حاضرة البحر. قوله تعالى: (حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ).

(165)

ليست إضافة ملك ولا استحقاق؛ لأنهم لَا يملكون الحيتان ولا يستحقونها في السبت، والظاهر إضافة ملابسة. قوله تعالى: (وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ). ابن عرفة: عبر في الأول بالاسم، وفي هذا بالفعل، وهلا قال: وغير يوم سبتهم لا تأتيهم؟ قال ابن عرفة: وأجيب بوجهين؛ الأول: أن الجملة الأولى مثبتة وهذه منفية، والفعل أعم من الاسم، وثبوت الأخص يستلزم ثبوت الأعم، ونفي الأعم يستلزم نفي الأخص. الثاني: أن قوله (وَيَومَ لَا يَسْبِتُونَ). يشعر باشتغالهم بالأعمال؛ أي: ويوم اشتغالهم وإقبالهم على العمل الذي من جملته الاصطياد لَا تأتيهم؛ بخلاف ما لو قيل: ويوم غير سبتهم فإنه لَا يشعر بذلك. قوله تعالى: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ ... (165)} قال ابن عرفة: عبر في (يَنْهَوْنَ). بالفعل المضارع، وفي (ظَلَمُوا). بالماضي؛ لأنهما متلازمان؛ فالنهي إنما هو لمن ظلم. قال: والجواب ظلموا لأنه أخص، وينهون أعم لأنه مضارع محتمل للحال والاستقبال، فناسب استعمال الأخص في العذاب ليدل على أنهم إنما عذبوا بما صدر منهم، واستعمال الأخف في الإنجاء ليدل على إنجاء من اتصف بما فوق ذلك من باب أحرى. قوله تعالى: {فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ ... (166)} أتت هذه كالتفسير لما قبلها، وأن هذا هو العذاب الذي عذبوا به في الدنيا. قوله تعالى: (خَاسِئِينَ). إشارة إلى عذاب يوم القيامة. قوله تعالى: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ ... (167)} فسره ابن عطية بأربعة أمور: إما [أعلم، وإما قال، وإما أمر، تألَّى*]

(168)

وقال الزمخشري: [عزم ربك*]، وتقدم النقد على مسلم في مقدمة كتابه، وظننت حين سألني أن لو عزم الله لي عليه؟ قال المازري: هناك لَا يظن أن لو عزم الله عليه لأراده الله تعالى منهم عزما، فالحاصل أن نسبة العزم إلى الله تعالى لَا تصح، قال المازري: إنما أراد لو سهل لي سبيل العزم؛ أو خلق لي قوة عليه. قال عياض: قالت أم سلمة في كتاب الجنائز: ثم عزم الله لي فقتلتها، وأصل العزم القوة ويكون بمعنى الصبر وتوطين النفس؛ وحملها على الشيء والمعنى متقارب، ومنه قوله تعالى: (فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ). قال ابن عرفة: والصواب عندي في قوله تعالى: (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ). أن معناه زاد مواعد ذلك. قوله تعالى: {وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَمًا ... (168)} قال ابن عرفة: عبر بالتقطيع دون التفريق؛ لأن لفظ التقطيع أصرح وأشفع لاقتضائه تفريقا بعد كمال اتصال، فإن قلت: لم قال: أمما، وتقطيعهم آحاد مفترقين أنحى وأبلغ من تقطيعهم؟ فالجواب: أن هذا أبلغ في كمال الإعجاز؛ لأن كونهم أمما يقتضي الطمع في وقوع القلب، ولكنهم بعجزهم في هذه الحالة أبلغ وأدل على كمال العجز. قوله تعالى: (وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ). قال ابن عطية: إما أن المراد ومنهم غير الصالحين أي: من الكفار، وإما أن المراد ومنهم من اتصف بما دون الصلاح. قوله تعالى: {وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ ... (169)} .. ابن عرفة: هذا على سبيل الاحتراس لما استغفروا وتابوا؛ اقتضى ذلك عدم رجوعهم إلى العصيان، ومن تاب عن المعصية يبعد رجوعه إليها كمن زنا بامرأة جميلة فإنه لَا يسترجع زناه بعد ذلك بامرأة جميلة الصورة، وكذلك من تاب عن سرقة دينار إذا وجدها بعد ذلك، وهؤلاء لو قيل في حقهم، ويقولون: سيغفر لنا قوله استغفارهم من ذلك الذنب، وأنهم لم يرجعوا إلى مثل الذنب الذي استغفروا منه بل إلى ما هو أخف إلى النفس منه، فقيل: لا يأتيهم من حيث لو آتاهم عرض مثله لأخذوه. قوله تعالى: (أَلَمْ يُؤخَذ عَلَيهِم مِيثَاقُ الْكِتَابِ). إما تقرير لأخذ الميثاق عليهم وإنكار لما ادعوه من عدم أخذ الميثاق عليهم.

(172)

قوله تعالى: (أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ). قال ابن عرفة: تقدم فيها سؤال وهو أنه قد رد المدح في حقهم بما اتصفوا به من فعل وقول، فقال: يأخذون عرض هذا الأدنى، ويقولون: سيغفر لنا، وأكد تقرير الذم بالفعل بتكراره، لقوله (وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ). ثم لما انتقل لمقام الرد عليهم ذكر فيه تقبيح قولهم دون فعلهم وهو: (أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ)، قال: وأجيب بوجهين: الأول: أن القول يستلزم الفعل وهو سبب فيه، فاكتفى بالسبب عن مسبه. الثاني: قوله (وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ). وتلك الجملة هي معمولة لقوله (وَدَرَسُوا مَا فِيهِ). أيضا أن الدار الآخرة خير ولم يعملوا بها بل عملوا بنقيضها، وهذا هو الفعل وهو أخذهم عرض الدنيا ونبذهم عرض الآخرة. قوله تعالى: (وَدَرَسُوا مَا فِيهِ). ولم يقل ودرسوه إشارة إلى أنهم حفظوه، ولو قال: ودرسوه لكانوا حفظوا لفظه ولم يتدبروا معناه. قوله تعالى: (وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ). وذلك أنهم مأثورون بأن يتصفوا بالجودة والطاعة وعدم المخاِلفة؛ فاتصفوا بالعصيان ورجاء المغفرة؛ لقوله تعالى: (يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا). قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ ... (172)} ورد في الحديث الصحيِح أن الله تعالى لما خلق آدم أخرج ذريته من ظهره كالذر فاستعهدهم على أنفسهم (ألَسْتُ بِرَبَكُم قَالُوا بَلَى). فهذه الآية اقتضت الإخراج من بني آدم، والحديث اقتضى أن الإخراج من ظهر آدم لَا من ظهر ذريته، والجمع بينهما بأن المخرج من المخرج من الشيء مخرج من الشيء، فإذا خرجت سلعة من الصندوق فيها دنانير، قلت: أخرجت هذه الدنانير من الصندوق، والآية اقتضت إخراج ذرية بني آدم، وزاد الحديث بإخراج الوسط وهم بنو آدم من ظهره وإشهادهم على أنفسهم. قوله تعالى: (وَأَشْهَدَهُم).

(173)

إما اشهد بعضهم على بعض، أو أشهد كل واحد على نفسه. قوله تعالى: (قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ). أي: حملناكم ذلك لئلا يقولوا يوم القيامة (إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ) قوله تعالى: {أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ ... (173)} ابن عرفة: فيه دليل على أن التقليد غير كاف في الأمور الاعتقادية. قوله تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا ... (175)} ابن عرفة: انظر هل ذكر المتلو أم لَا؛ فيحتمل أنه ذكر المتلو وأن هنالك مضمر تقديره: الذي آتيناه آياتنا انسلخ منها، ابن عرفة: ولم يقل: انقطع عنها لأن الانسلاخ أبلغ كانسلاخ الجلد من الجسد فلا يرجع إليه أصلا بخلاف الانقطاع. قوله تعالى: (فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ). أتبعه أي: ساواه؛ بخلاف أتبعه فإنه من رواية متبع له ولا يراه. قوله تعالى: {وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ (177)} احتراس لأنه لما تكرر ذمهم في الآية بوصف التكذيب، وأنهم صدوا غيرهم؛ احترس من ذلك بأن حال تكذيبهم راجع عليهم. قوله تعالى: {مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي ... (178)} قال ابن عرفة: الهداية قسمان: فالهداية الأعمية هي مجرد الإلهام والإعلام بطريق الحق. والأخصية هي الإعلام بها، والحمل على سلوكها بالفعل، كما يقول الشخص: هذه طريق الحق وهذه طريق الباطل، وتارة يقول له: هذه طريق الحق فاسلكها وتجعله سالكا فيها بالفعل، فالأعمية هي قوله تعالى: (إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا)، والأخصية (وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيم)، وبقي هنا أخصية قوله تعالى: (وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ). عبر في الأولى بالملزوم وهي الهداية، وفي الثاني باللازم وهو الخسران؛ ففيه حذف التقابل. أي: من يهدي الله فهو المهتدي الراجح، ومن يضلل فهو الضال الخاسر، وأولئك هم الخاسرون، فإِن قلت: لم أفرد المعتدي وجمع الضال. وجوابه عند النحويين: أنه جاء على الأصل في معلولة لفظ

(179)

من أولا ومعناها ثانيا، وعند البيانيين: أن المهتدي أقل من الضال فناسب منه الإفراد، وأتى في الأول بالضمير الدال على القرب، وفي الثاني باسم الإشارة الدال على البعد. قوله تعالى: {لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا ... (179)} يؤخذ منه أن البصر أشرف من القلب فهو ترق، أو يقال: أن هذه الحواس كلها خدمة القلب؛ فالقلب أشرفها. قوله تعالى: (بَلْ هُمْ أَضَلُّ). قال ابن عطية: فيها الشهوة ولا عقل لها، فليس لها منع يمنعها عن شهوتها والإنس والجن فيهم الشهوة، والعقل المانع من اتباعها، فالعصاة منهم أضل إذ لم يمنعهم عقلهم من شهوتهم. قيل لابن عرفة: كان القاضي ابن حيدرة يأخذ من هذه الآية أن بني آدم أفضل من الملائكة؛ لهم العقل ولا شهوة فيهم؛ فليس لهم داعٍ يدعوهم إلى المعصية، وبنو آدم فيهم الشهوة التي تحضهم على المعصية، فإِذا أطاعوا الله وتركوا شهواتهم كانوا أفضل من الملائكة. قوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا ... (180)} المراد إما المسميات أو التسميات على الخلاف في ذلك، والفاء في قوله (فَادْعُوهُ بِهَا). إما للتعدية؛ والمراد فتوسلوا إليه بها، وقال: وحديث الترمذي تعيين الأسماء الحسنى حسن لكن تلقته الأمة بالقبول فكان كالتصحيح له، وليس في التصحيح تعيينها، وإنما قال في الصحيح: "إن لله تسعة وتسعين اسما" من غير تعيين، [لكن ذكر المتكلمون*] أن من أسمائه واجب الوجود، ولم يرد ذلك في الحديث وجوزوا إطلاقه. قوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (182)}

(183)

هو الإنعام عليهم بنعمة استدراجا لهم في المعاصي. قوله تعالى: {وَأُمْلِي لَهُمْ ... (183)} هو عدم مؤاخذتهم بالذنب في الحال وتأخيرهم إلى أجل مسمى، فإن قلت: عبر في (سَنَسْتَدْرِجُهُمْ). بالنون الدالة على المتكلم ومعه غيره، وفي (أُمْلِي لَهُم). بهمزة المتكلم وحده، فأجيب بوجوه؛ الأول: قال ابن عرفة: المشاهد في الدنيا أن إعطاء النعم في الملوك أكثر من الحلم والصفح والعفو عن [المجرم؛ فلا نجد منهم من يعفو عن المجرم*] إلا القليل بحيث يعد عدًّا كمعاوية ونحوه، ونجد الكثير منهم يعطي العطاء الجزيل فلما كان الإنعام أكثر ناسب أن يعبر عنه بالنون التي للمتكلم ومعه غيره، وكانت هنا للعظمة فقط. الثاني: أن الاستدراج نعم دنيوية والإملاء تأخير إلى أن يعذبوا عذابا أخرويا. الثالث: أن الاستدراج فعل يستدعي فاعلا فناسب نون العظمة والإملاء ترك وتأخير وعدم مؤاخذة، والعدم لَا يتعلق به القدرة فناسب همزة المتكلم وحده. قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (184)} قال ابن عرفة: وتقدم المبالغة في النفي بأربعة أوجه: الأول: إدخال لفظه من، الثاني: إفراد لفظة جنة فهو أعم من لو قيل: جنون، الثالث: بلفظ صاحب المضاف إليهم فهو إشارة إلى أنهم غافلون به وهو بين أظهرهم قديما وحديثا. قوله تعالى: (إنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ). الحصر بحسب السياق؛ أي: هذين لمن كذب وخالف وطعن فيه بالجنون. قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ... (185)} قال القرافي: الملك راجع للأمر الظاهر، والملكوت راجع للأمر الباطن، وهو ظاهر كلام البيضاوي؛ لقوله في خطبة كتابه الطوالع المطلع بشواهد الملك وغياهب الملكوت، فالملك ما تعلق بظواهر الملك الأمر، والملكوت ما تعلق بخفياتها. وقال ابن عرفة: بل الفرق بينهما أن المخلوقات إن نظرناها باعتبار ذواتها فقط فهو نظر في ملك، وإن نظرناها من جهة افتقارها إلى موجد أوجدها فهذا نظر في ملكوت؛ فيستدل به على وحدانية الصانع وقدرته وإرادته وغير ذلك، فإن قلت: لم قرن الأول بالتفكر والثاني بالنظر؟، فالجواب: أن الأول ماض فناسب التفكر كما يتفكر الإنسان شيئا نسيه، والثاني حالي فناسب النظر.

(186)

وقال بعض الطلبة: إن الأول معنوي وهو الجنون، والثاني حسي، قال: وعطف هذه المذكورات ترق لأن الأول خاص بمن نسب النبي صلى الله عليه وسلم إلى الجنون والثاني عام في النَّاس أجمعين بالنظر في ملكوت السماوات والأرض ليهتدوا إلى توحيد الله وعبادته، والثاني بمن حصل الإيمان بالله لأنه مأمور بطاعة الله خشية أن يموت قبل استيفاء ما كلفه به من العبادة، قال: وجمع السماوات وأفرد الأرض؛ لأن دليل تعدد السماوات ظاهر مدرك بالرصد والهندسة، ودليل تعدد الأرض خفي لا تدركه إلا من جهة السمع. قوله تعالى: (قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ). قال: الفرق بين قرب، واقترب أن القرب يقتضي مقاربة الشيء مع كون ذلك الشيء طالبا للمقاربة، فكان أجلهم يطلبهم ويستدعي أن يقرب منهم، وهذا مبالغة في طلبه لهم وقربه منهم. ابن عرفة: وقال هنا (أَوَلَمْ يَنْظُرُوا). لأنه موضع المستقبل، وقال قبلها (أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا) لأن متعلقه ماض بحيث بعد. قوله تعالى: {مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ ... (186)} قال ابن عرفة: لم يفصل هذه الجملة عما قبلها بالواو، إما لكمال المباينة بينهما أو لكمال المقاربة بينهما في المعنى، ولو كانتا في مقام التوسط لفصلا بالواو، وهذه الآية احتج بها أهل السنة على المعتزلة في أن الضلالة خلق الله تعالى؛ لأن ما المراد هنا إلا الإضلال بالفعل، وقد يجيب الآخرون بما أجابه سراج الدين الإمام الفخر: حيث استدل على وقوع النسخ في القرآن، بقوله تعالى: (مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا) فقال السراج: ولقائل أن يقول: ملزومية الشيء للشيء لَا تدل على وقوعه ولا على إمكان وقوعه، فأجاب شمس الدين الجزري: بأن تلك الآية سيقت مساق المدح، والمدح إنما يكون بالواقع لَا بالمنكر، يجيب أهل السنة بمثل هذا الجواب؛ لأن سياق الآية دل على أنها جاءت في معرض المدح، قال: ولا بد فيها من تقييد السنة، ولا يصح بقاؤها على الإطلاق، فإن أريد فلا هادي له بالإطلاق تكون حينئذ حينية؛ أي من يضلل الله حين إضلاله فلا هادي أو فلا هادي له وقت إضلاله، وإن لم تكن مطلقة فالمعنى فلا هادي له غير الله ولا ينفي عنه نفي الهداية مطلقا؛ لأنه فريضة في وقت، والمراد من يضله عند الخاتمة فلا هادي له، وهذه القضية تعكس عكس النقيض؛ أي من له هاد فلا مضل له. قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا ... (187)}

هذا دليل على أن الأمور الاعتقادية لَا يصح أن يكتفي فيها بغلبة الظن بوجه؛ لقوله تعالى: (قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي) فالمحصول إنما هو العلم فدل على أن الظن يشاركه فيه الغير، قال: ويجيب الآخرون بأن السؤال في الآية إنما وقع عن علمها؛ أعني عما يفيد علمها لَا عما يحصل طلبها، فلذلك أجابوا بإسناد علمها الله تعالى، قيل له: قد ذكر السهيلي أنها تعلم بأوائل السور فأسقط مدتها منها بعد أن جمع حروف، وأسقط المكرر منها، وذكر نحوه ابن إسحاق في السير عن اليهود، وذكره السكوكي وأسنده حديثا، فقال ابن عرفة: هذا كله غير صحيح. قوله تعالى: (ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ). الثقل فيها لأحد وجهين: إما لشدة أمرهما بأن النفس تنفر منها، إذ لَا يعلم أنها تخلد في النار أو في الجنة، وإما لنقل الدلائل والطرق إلى العلم بتوقيتها، فليس ثم دليل موصل إلى ذلك بوجه بخلاف غيرها. قوله تعالى: (لَا تَأتِيكُم إِلَّا بَغْتَةً). حكم على الغائب بحكم المخاطب مع أن الإتيان إنما هو لذرية المخاطبين النافين لآخر الزمان؛ فغلب المخاطب الحاضر. قوله تعالى: (يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا). قال ابن عرفة: فصلت هذه الجملة عما قبلها لكمال مفارقتها لها في المعنى. قال الزمخشري: فإِن قلت: لم كرر (يَسْأَلُونَكَ)، و (إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ) قلت: للتأكيد لما جاء بزيادة كأنك حفي عنها، وعلى هذا تقرير العلماء الحذاق في كتبهم لَا يخلو المكرر من فائدة زيادة، قال ابن عرفة: وكان يمشي لنا نحن أنها ليست مكررة، وأن الأول سؤال من العوام، والثاني سؤال من الخواص على أن فيه تفكيك الضمائر لكنه مغتفر وهو أولى من التكرار، ومما يؤيد هذا ويستأنس به بعض تأنيس العقيب الأول، بقوله (قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي)، والعقيب الثاني، بقوله (إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ) فالعوام بجهلهم قوبلوا بلفظ الرب المستضيء للإحسان والرحمة والحنان، والعلماء قوبلوا باللفظ المستضيء للحلال والقهر والغلبة. قوله تعالى: (كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا). هل معناه شبيه بالحقير عنها، أو أنه مشبه بالحفي عنها إيمانهم يعتقدون شبهه بالحفي، أو أنه في نفس الأمر شبيه بالحفي، والظاهر الأول.

(188)

قوله تعالى: (وَلَكِنَّ أكثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ). إن أريد أنهم لَا يعلمون وثبتها؛ فالأكثر بمعنى الكل، وإن أريد لَا يعلمون خفيات ولا يعلمون دقائق المعلومات؛ فالأكثر على بابه لأن الخواص من الأنبياء والعلماء يعلمون ذلك. قوله تعالى: {قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ ... (188)} قال ابن عرفة: هذا أبلغ من لو قيل: لَا أملك نفعا ولا ضرا بالإطلاق؛ لو كان كذلك لأمكن تخصيصهم بالغير، فيقال: إنه يملك النفع والضر لنفسه ولا يملك لغيره، فلما قال: (لَا أَمْلِكُ لِنَفسِي) دل باللزوم على أنه لَا يملك ذلك لغيره من باب أحرى، والمراد بالضر هنا دفعه لَا جلبه؛ لأن لَا أملك جلب نفع ولا دفع ضرر، والمنفي هنا الملك الفعلي. قيل لابن عرفة: فالقابلية، قال: القابلية العرضية منافية والذاتية ثابتة. قوله تعالى: (إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ). إن أريد الملك الأعم من الاستقلالي والكسبي فالاستثناء متصل، وإن أريد الملك الاستقلالي فقط فالاستثناء منفصل؛ لأن الذي يملك عندنا هو الكسبي ولا يملك إلا بقدرة الله تعالى وخلق الداعي عليه له. قوله تعالى: (لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ). فسر بوجهين. أحدهما: لتحررك في قتالهم واستكثرت من الخير فكنت غالبا وما مسني السوء، ولم أكن مغلوبا قط. الثاني: لاستكثرت بالتجر في المال والربح فكنت رابحا وما مسني السوء؛ أي وما كنت خاسرا في تجارتي قط. ووجد مناسبتها لما قبلها أنهم لما سألوا عن الساعة، قال: هذا أمر مغيب، ولا طريق لي إلى العلم بالمغيبات؛ لأني لو كنت أعلم عواقب الأمور لجزت منها في أحوالي كلها. قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ... (189)} الخطاب لقريش، وقيل: المراد بالنفس آدم أو قصي بن كلاب [وعبَّر*] في الأول بـ خلق، وفي الثاني بـ[جعل*] لأن الخلق في اللغة هو التقدير. قال الشاعر:

(190)

ولأَنْتَ تَفْري ما خَلَقْتَ وبَعْ ... ضُ القومِ يَخْلُقُ ثم لاَ يَفْري والأول: مستند إلى جماعة فناسب الخلق؛ لأنه قدرهم على صفات عظيمة مختلفة، وأوصاف منوعة. والثاني: يتعلق بشيء واحد وهو حواء. قوله تعالى: (وَجَعَلَ مِنْهَا زَوجَهَا). إن أريد به آدم فهو على ظاهره، وإن أريد به قصي بن كلاب فالمعنى: وجعل من أمثالها زوجها، وكلام الزمخشري هنا حسن، وكلام ابن عطية فيه تسامح، وكذلك حكاية وسوسة الشيطان فإنها من الخرائف الباطلة. قوله تعالى: (لِيَسْكُنَ إِلَيهَا). اختلفوا فيما الأولى في النكاح، هل النكاح القرابات أو الأجانب؟، واستحسن الإمام الغزالي نكاح الأجانب فإن الولد منها يكون أكمل حلية وأحسن؛ لأن الشهوة إلى الأجنبية أشد من الشهوة إلى القريبة، والآية حجة لترجيح نكاح القرابات، لقوله تعالى: (وَجَعَلَ مِنْهَا) وعلله، بقوله (لِيَسْكنَ إِلَيهَا). قوله تعالى: {فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا ... (190)} ابن عرفة: قالوا: إذا تقدم الاسم النكرة فأعيد ذكره، فإنما يعاد معرفا بالألف واللام، كقوله تعالى: (كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا (15) فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ)، وكذلك قال سيدنا عمر - رضي الله عنه - في قوله تعالى: (مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا) لن يغلب عسر يسرين؛ لأنه إنما أعيد العسر معرفا كان شيئا واحدا، فيرد السؤال هنا لم أعيد هنا نكرة؟ قال: وتقدم الجواب بأن ذلك إذا كان في كلام واحد، وهنا في كلامين لقائلين. قوله تعالى: (جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا). قال ابن عرفة: اختلفوا في لفظ شرك هل يحمل على النصف فيقتضي التساوي، أو على ما هو أعم، وهذه الآية حجة لمن يحمله على المعنى الأعم، ومسألة كتاب القرض في المدونة دليل على أنه عنده أعم لأنه جعله فاسدا، فقال: وإن أقرضت على أن له شركاء في المال لم يسمه كان على قراض مثله إن عمل، وقال غيره: له النصف.

(191)

وقال في كتاب السلم الثالث: وإن ابتاع رجلان عبدا فسألهما رجل أن يشركاه فالعبد بينهم ثلاثا، فهذه تدل على التساوي، وفرق بأن لفظ اشتركا يقتضي التسوية، ولفظ شرك مرادف للتصريف والنصيب مجهول، قال ابن عرفة: وحكى لي الفقيه الأعدل ابن العباس أحمد بن سليمان البرمكي، قال: كنت أتلو القرآن في زاوية بجامع الزيتونة بإزاء سيدي سليمان الزيات؛ فمرت به هذه الآية فوقع في النفس إشكال في فهمها بالنسبة إلى آدم، فقال لي سيدي سليمان: في الحال لم يحتمل الشرك آدم وإنما ذلك منسوب لذريته فعددتها له كرامة ومكاشفة. قوله تعالى: {أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (191)} قيل: الضمير عائد على الأصنام، وأجراهم مجرى من يعقل لمعاملتهم إياه معاملة من يعقل، قيل: على المشركين. ابن عرفة: فعلى الأول يكون وهم يخلقون علة مانعة من الإشراك؛ أي المشركون أصناما مخلوقين مفتقرين إلى موجود أوجدهم، والإله من شرطه ألا يكون مفتقرا لغيره، وعلى الثاني يكون دليلا للتوحيد راجعا لدلالة التمانع، أي أتشركون أصناما لَا تخلق شيئا، والغرض إن هؤلاء الكفار في ذواتهم مخلوقين فمن الخالق لهم ليس هو أحد إلا الله تعالى وقال في هذه الآية: إيماء لتكفير بعض غلاة المعتزلة في قولهم: إن العبد يخلق أفعاله فسموا ذلك خلقا. قوله تعالى: {وَلَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا ... (192)} لا يلزم من عدم القدرة على نصرة الغير أن لَا يقدر على النصرة لنفسه. قوله تعالى: {لَا يَتَّبِعُوكُمْ ... (193)} أي لَا يجيبوكم. قوله تعالى: (سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ). فإن قلت: لم عبر في الأول بالفعل وفي الثاني بالاسم؟ فأجاب بأنه يفيد بأنهم صامتون دائما على الدعاء إليهم. قال ابن عرفة: وعادتهم يجيبون بما ذكر المنطقيون في العكوسات من أنه إذا لم يستلزم الأخص أمرا لم يستلزم الأعم، وإذا ثبت استلزام الأخص أمرا لم يلزم منه ثبوت استلزام الأعم له بوجه، فكما انتفى لزوم العلم للإنسان انتفى لزومه للحيوان،

(201)

ولا يلزم من ثبوته للإنسان ثبوته للحيوان، وكذلك هذا إذا ثبت أن مطلق الدعاء لمطلق الصمت، وهو الأعم في عدم الإجابة من باب أحرى. قيل لابن عرفة: ينتفي أخص الدعاء، فقال: ما ثبت عنهم أنهم كانوا يدعونهم، عرفة إلا بمطلق الدعاء لَا بأخصه. قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا ... (201)} هذه دليل لسيبويه في مسألة كنت أظن العقرب أشد لسعة من الزنبور فإذا هو هي. قوله تعالى: {إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي ... (203)} يؤخذ منها أنه - صلى الله عليه وسلم - لَا يحكم بالاجتهاد، وأن أحكامه كلها مستندة للوحي. قوله تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا ... (204)} حكى الفخر في الأصول الخلاف في القرآن هل هو اسم جنس يصدق على القليل والكثير، أو اسم كل، وتظهر ثمرة الخلاف في قوله تعالى: (إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ (78) لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (79) .. قال: وهذه الآية دليل علَى أنه اسم جنس؛ لاتفاقهم على أن من سمع أنه من القرآن يؤمر بالإنصات يتناول القارئ بعينه؛ لأنا نجد بعض الصناع يعمل صنعة وهو يقرأ ويأمر وينهى في قراءاته، قال: كان ذلك خفيفا فهو مفتقر وإلا لم يجز، قال: والإنصات متقدم على الاستماع وسبب فيه فهلا قدم عليه في الآية. قال: وعادتهم يجيبون لأن الاعتناء بطلب فعل ما لم يكن فعل أقوى من الاعتناء لطلب المداومة على فعل ما كان واقفا؛ لأن هذا أخف على النفوس من الأول، ومجرد الإنصات شأن الإنسان، والاستماع هو استحضار الذهن لسماع القرآن فلم يكن هذا مفعولا، قيل بوجه، قيل لابن عرفة: هذا إن سلمنا أن الإنصات والصمت بمعنى واحد، ولنا أن نقول: الإنصات هو القصد إلى الصمت لَا مجرد الصمت، فقال: لا بل هما بمعنى واحد. قوله تعالى: (لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ). لفظ الآية يدل على أن الإنصات والاستماع مطلوبان طلبا لَا ينتهي إلى الوجوب، ومفهومهما يدل على أنهما واجبان، وإذا لم ينصتوا لم يرحموا، وترتيب الثواب على

(205)

الفعل لَا يدل على وجوب، وترتيب الذم على تركه يدل على وجوبه وإذا لم يرحموا عذبوا. قوله تعالى: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً ... (205)} قال ابن عرفة: قالوا: تناقض الشاطبي في قوله: [وَلاَ عَمَلٌ أَنْجَى لَهُ مِنْ عَذَابِهِ. . . غَدَاةَ الْجَزَا مِنْ ذِكْرِهِ مُتَقَبَّلَا*] مع قوله وَمَا أَفْضَلُ الأَعْمَالِ إِلاَّ افْتِتَاحُهُ. . . مَعَ الْخَتْمِ حِلاًّ وَارْتِحاَلاً مُوَصَّلَا فدل قوله ولا عمل إنجاء له على أن ذكر الله هو أفضل الأعمال، وأفضل الأعمال قال: والجواب أن مجرد الذكر هنا قبل الأعمال، ودل البيت الثاني أن الافتتاح بالقرآن هو أفضل الأعمال، وأفضل من القراءة، ومجموع الافتتاح بالقراءة بها أفضل من الذكر. قوله تعالى: (بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ). إشارة إلى استحضار الإنسان حالتي الإيجاد والإعدام إنما هو حالة القيام من القيام؛ فكأنه تغير من موت إلى حياة فالأصل حالة التغيير من حاله إلى الموت. قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ (206)} تنبيه على إمكان القدرة على الذكر دائما فإن الذي أقدر الملائكة على المداومة على الذكر من غير فتور قادر على أن يقدرك على المداومة عليه من غير فتور. * * *

سورة الأنفال

سُورَةُ الْأَنْفَالِ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قال الزمخشري: مدنية، وقال ابن عطية: إلا قوله (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ) ابن عرفة: وذكروا في سبب نزولها أنها نزلت لأجل خروجه صلى الله عليه وعلى آله وسلم من مكة مهاجرا إلى المدينة فمن رأى أن اسم الهجرة إنما يصدق عليه بعد استقراره في المكان الذي هاجر إليه جعلها مكية، ومن رأى أنه حين خروجه من مكة يسمى مهاجرا جعلها مدنية؛ لأن المدني هو ما نزل بعد الهجرة، والمكي ما نزل قبل الهجرة. [قال ابن عطية: أسند الطبري عن سعد بن أبي وقاص، قال: لما كان يوم بدر وقتل أخو عبيد قتلت [سعيد*] ابن العاصي وأخذت سيفه، [فطلبته*] من رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، قال: ليس ذلك إلي فاطرحه في [القبض*]، قال ابن عرفة: [القبض*] للغنيمة مثل الحمول للتمر، وهو [**المخل] الذي توضع فيه الغنائم. ابن عرفة: وسمي ثقلا لأنه عن غير عوض فأشبه النافلة، قال أبو حيان: قرئ (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ (1) .. بإسقاط عن وبإثباتها؛ فعلى الأول يكون سؤالها بمعنى طلبتم أخذها، وعلى الثاني [يكون*] يسألون عن حكمها. قال ابن عرفة: فالمسئول عنه إن كان ذاتا تعدى الفعل إليه بنفسه، وإن كان معنى تعدى إليه بحرف الجر، ابن عرفة: قال بعضهم: وعرف الأقران أيضا أنه إن كان المسئول عنه معنى، فإن كان ناشئا عن اختلاف تعدي الفعل إليه بعن، وإن لم يكن ناشئا عن اختلاف تعدى إليه الفعل بنفسه، كقوله (يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ) قلت: والسؤال هنا نشأ عن اختلاف، لقوله تعالى: (فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ) وقال شيخنا أيضا: المعدى بعن يكون إلى الحسي وإلى المعنوي، وقال تعالى (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا) (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ المَحِيضِ قُل هُوَ أذًى)، (وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَينِ)، (وًيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ)، (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ)، (يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا). قوله تعالى: (قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ).

(2)

والأصل أن يقال: قل هي لله وللرسول، كما قال تعالى (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُل هُوَ أَذًى) لكنه أعيد الظاهر هنا، والمعنى حكمها لله والرسول فحكمها لله باعتبار أصل الشريعة؛ لأنه يحكم ما يريد ويفعل ما يشاء، والرسول باعتبار التبليغ لأنه هو المبلغ [عن*] الله، فإن قلت: السؤال عن إعطائها فكيف طابق الجواب، قلنا؛ هو [بمنزلة*] من سأل رجلا أن يعطيه العبد الفلاني، فيقول له: كيف نعطيك وهو شركة بيني وبين فلان؟. قوله تعالى: (فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ). البين من أسماء الأضداد يطلق على الاجتماع وعلى الافتراق. قوله تعالى: (وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ). ابن عرفة: وعادتهم يوردون سؤالا وهو: لما أتى بالرسول أولا معرفا بالألف واللام وثانيا مضافا إلى الضمير بما ليس فيه، وعادتهم يجيبون بأن الحكم لَا يستدعي الإضافة، والطاعة الامتثال فناسب إضافة الرسول، كما تقول: امتثلت أمر رسول الخليفة فإن ذكره معين على الامتثال ومسبب فيه؛ لأنه يفيد التهييج على الطاعة من حيث كونه من عند الله فهو أبلغ من كونه مضافا، وأما في الأول فإنه أتى به لمجرد الإخبار فلم يفتقر إلى إضافة. قوله تعالى: (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ). إما أن يراد به مطلق الإيمان فيكون من خطاب التهييج والإلهاب مثل: إن كنت ولدي فبرني، وإما أن يراد بالإيمان الكامل فيكون الشرط على بابه. قوله تعالى: {إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ ... (2)} وقال تعالى (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ)، وقال تعالى (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ) والجمع بين هذه الآيات. قوله تعالى: (ذِكْرِ اللَّهِ). منه يحدث الطمأنينة واللين، وأسند الوجل هنا للقلب، وقال تعالى (مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى)، وقال تعالى (كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ)، وقال تعالى (إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ

أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا) فأسنده إلى الفؤاد، فإما أن يقول أن الفؤاد يجمع أعم الجميع، أو المراد به القلب، أو المراد هنا بالقلب باطنه وهناك ظاهره وباطنه، فكذلك عبر عنه بالفؤاد، وقال تعالى فى آخر سورة النور (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ) قال ابن عرفة: فعادتهم يوردون فيها سؤالين؛ الأول: كيف الجمع بينها وبين هذه الآية؟، وهل هما متساويتان أم لَا في والجواب: أن المراد: إنما المؤمنون الكاملون الإيمان، ووصف الكمال يحتمل تناوبهما فيه ويحتمل التفاوت. السؤال الثاني: لم خص الإيمان هنا بمن اتصف بالوجل؛ ولم يقل: إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله؟ قال: وعادتهم يجيبون بأن الوصف المجرد هنا معنى راجع للقلوب وهو أمر باطن فلذلك أسنده إلى الوجل، والوصف هنا ظاهر حسي؛ فلذلك علقه بالإيمان القولي الظاهر وهو النطق باللسان لأن ما بعده أمر ظاهر وهو الاستئذان. قوله تعالى: (زَادَتْهُمْ إِيمَانًا). ابن عرفة: الإيمان إن أريد به مجرد التصديق والاعتقاد القلبي؛ فهذا لا يزيد ولا ينقص، وإن أريد الإيمان باعتبار فعل العمل البدني فهذا يزيد وينقص، واختلفوا في تقرير زيادته فمنهم من جعله يزيد باعتبار المتعلقات مثل أن يكلف بشيء فيؤتى به، ثم يكلف بآخر فيؤتى به، ومنهم من جعله يزيد باعتبار كثرة الأعمال الصالحة، ومنهم من جعله يزيد بكثرة الأدلة وزيادة باعتبار الأدلة إنما تفعل عند من يجعل العلوم متفاوتة، وأما من يقول: إنها لَا تتفاوت فيمنع الزيادة، قال: والنقص فيه إنما يعقل باعتبار الأدلة وقلتها، وأما باعتبار المتعلقات فلا يعقل فيه النقص؛ لأن من لَا يؤمن ببعض التكاليف هو كافر؛ اللهم لو كان ذلك قبل البلوغ، فكلف بأمرين أمر بأخذهما دون الآخر فهذا يعقل. قوله تعالى: (وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ). عبر هنا بلفظ الرب المقتضي للرحمة والحنان والشفقة، وعبر في الأول، بقوله (إذَا ذُكِرَ اللَّهُ) لما عقبه بالخوف والوجل، فإن قلت: لم قال (وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ) و (زَادَتْهُمْ إِيمَانًا) فعبر فيهما بلفظ الماضي، وقال (يتوَكلُونَ) فعبر بالمستقبل؟ قلنا: الماضي يقتضي التحقيق والحصول؛ فناسب الأولين؛ لأنه أبلغ في المدح إشارة إلى سرعة الحصول، وعبر في الثالث بالمستقبل إشارة إلى التجرد والتصوير، كقوله

(3)

تعالى: (أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً) ولا يقال: يؤخذ من الآية أن الذكر أفضل من التلاوة لأجل تقديمه لجواز أن يكون العطف في الآية من باب الترقي. قوله تعالى: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3)} احتج بها الفخر للمعتزلة في قولهم: إن الرزق إنما يطلق على الحلال؛ لأن الآية خرجت مخرج الثناء على المؤمنين، ولا يصح الثناء إلا بإنفاق المال الحلال، ورده ابن عرفة: بقوله: (وَمِمَّا) وهي للتبعيض، فهم أنفقوا بعض الرزق وذلك البعض هو الحلال. قوله تعالى: {لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ ... (4)} الجمع إما للتوزيع، أو يكون لكل واحد درجات. قوله تعالى: {كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (6)} لا يبعد أن يؤخذ منها أن الموت أمر وجودي، وفيه دليل على أن الوجود مصحح للرؤية وإلا لزم منه التشبيه بالمحال؛ هذا إن كان مفعول ينظرون ضميرا محذوفا عائدا على الموت، وإن لم يكن كذلك لم يؤخذ منه ما ذكر. قوله تعالى: {وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ ... (7)} قلت: هذا تحصيل الحاصل إذ الحق لَا يحق قبل إحقاقه بمعنى إظهاره؛ أي يظهر الحق ويظهر الباطل؛ أي يظهر إبطاله. قوله تعالى: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ (9)} قال ابن عرفة: ما الفائدة في إمدادهم بالملائكة مع أن الله قادر على نصرتهم من غير إمداد، قال: فمنهم من أجاب بأنه إشارة إلى ترجيح اتخاذ الأسباب واعتبار الأمور العادية، وأن الإنسان إذا رأى عدوا لَا قدرة له عليه لم ينبغ له أن يقدم على قتاله حتى يكون معه من يعضده عليه، إلا أن تدعوه الضرورة إلى ذلك، ومنهم من قال: ليظهر امتنان الله تعالى على نبيه، وقيل: إن ذلك خشية أن لو اقتصروا عليهم من غير إمداد بالملائكة لتوهم شأن المسلمين ومن فيه نجدة أن ذلك بمجرد قدرتهم في ذواتهم، ولذلك حكى الزمخشري تلك الحكاية هنا، وإنما عبر بالاسم في قوله (مُمِدُّكُم) إشارة إلى ثبوت الإمداد وتحققه.

(10)

قوله تعالى: (مُرْدِفِينَ). أي يردف بعضهم بعضا، وبهذا يجاب عن المعارضة بينها، وبين قوله تعالى: في آل عمران (يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ). قوله تعالى: {وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (10)} احتراس خشية أن يتوهموا أن النصر بالملائكة، فأفاد أن هذه أمور عادية، والنصر عندها لَا بها. قوله تعالى: {وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ (11)} ولم يقل: أقدامكم. قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ ... (13)} قال ابن عرفة: يؤخذ منها جواز تعليل الحكم الواحد بعلتين. لأن سياق الكلام يدل على أن هذا الحكم المذكور معلل بالحكم؛ لأن ذلك الحكم عقب المناسب يشعر بالغلبة، والعلة الثانية قوله (ذَلِكَ بِأَنَّهُم). قوله تعالى: (وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ). أدغم في سورة الحشر وأظهر هنا فأجاب صاحب المثل السائر: بأنه زاد هنا (وَرَسُولَهُ) فبالغ بالعطف فناسب المبالغة [بالتضعيف*]، وهناك حذف ورسوله، قال ابن عرفة رحمه الله: ووجه الإدغام إن تأولت منه الحركات لازمة جاز الأمران، مثل هذا فإن أصله يشاقق؛ فمن نظر إلى أنه يكسر إذا التقى مع ساكن جاء فيه توالي الحركات في بعض الأحوال فيدغم، ومن نظر إلى أن أحد الحرفين ساكن والكسر عارض، فلا يعتد به أظهر ولم يدغم. والإدغام لغة أهل الحجاز، وليس عندهم إلا الإدغام، وبنو تميم يجيزون الأمرين. قوله تعالى: (فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ). قال أبو حيان: هنا ضمير مستتر لَا بد منه، أي شديد العقاب له، ورده ابن عرفة بأنه اعتقد أنه خبر مَن، وتقرر في باب الأفعال أن خبرها إنما هو فعل الشرط، فالرابط إنما هو الضمير في يشاقق، قيل لابن عرفة: إنما قدره؛ لأن المعنى يقتضي أن المراد شديد العقاب له، فقال: لم يعتبر هو هذا.

(14)

قال ابن عرفة: واستدل الأصوليون بهذه الآية على أن الإجماع حجة. قوله تعالى: {فَذُوقُوهُ ... (14)} إذا كان هذا ذواقا فما بالك بما فوقه من العذاب، والدليل على ذلك قوله تعالى: (وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ). قوله تعالى: {فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ (15)} ولم يقل: أدباركم إشارة إلى أن الإنسان كلف بفعل نفسه وبفعل غيره فهو أبلغ؛ لأنه إذا ولى هو دبره كان ذلك سببا لتولي غيره، فصح نفيه عن فعل غيره بهذا المعنى، فينبغي له إذا رأى غيره ولى دبره أن لَا يولى هو بل يقف ويقاتل ويناضل عمن ولى دبره ليرجع ويقاتل، فما حكاه ابن عطية هنا لَا يناسب، وغزوة القادسية وغزوة مؤتة إنما ولوا فيها لقلة النَّاس حينئذ، ولم يكن لهم قدرة على المقاتلة فلهم عذر حينئذ، وإذا ولَّى أحد متحيزا إلى فئة مقاتلة لَا شيء عليه، وإن ولى إلى فئة واقفة غير مقاتلة فهو [مذموم*]. قوله تعالى: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى ... (17)} قال ابن عرفة: عادتهم يقولون لأي شيء لم يقل فلم تقتلوهم إذ قتلتموهم ولكن الله قتلهم، كما قال (وَمَا رَمَيتَ إِذْ رَمَيتَ) قال: والجواب أنه إنما خصص الثاني تشريفا للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في إسناد الرمي إليه، وأما القتل هنا فهو مستتر لغيره، قال: ونظير إسناد الفعل لغير الله تعالى أن القاضي إذا رأى رجلا قتل آخر بأن استحضر مقام التوحيد لم يوجب عليه قصاصا؛ لأن الأشياء كلها بخلق الله وقدرته، وإن استحضر مقام التكليف واعتبر الأسباب العادية أوجب عليه القصاص أو الدية، قال: ومعنى الآية وما رميت الرمي المؤثر إذ رميت الرمي العادي ولكن الله رمى الرمي المؤثر، وإن لم يفهم كذلك لزم التناقض لتوارد النفي والإثبات على شيء واحد في حالة واحدة. قوله تعالى: {إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ ... (19)} ابن عرفة: الصواب في الآية أنها خطاب للكافرين. قال الزمخشري: على سبيل التهكم بهم، أي إن تطلبوا الفتح فقد جاءكم ما طلبتم؛ لأنهم دعوا الله؛ فقالوا: إن كان محمد على الحق فانصره وإن كنا على حق فانصرنا.

(20)

قال ابن عرفة: لأن الآية تكون على وتيرة واحدة؛ أي: وإن تنتهوا عما أنتم عليه، وعلى التأويل الآخر وهو أنها خطاب للمؤمنين يختلف التقدير؛ فيكون المراد: إن تطلبوا الحكم بينكم وبين الكفار فقد جاءكم الفتح، وإن تنتهوا عن المشاجرة والمخاصمة في أمر الغنائم فهو خير لكم، فمتعلق الفعل الثاني على هذا غير متعلق الفعل الأول ويؤيده أيضا قوله (وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ). قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ ... (20)} دليل على أن الإيمان غير الطاعة. قوله تعالى: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (21)} الظاهر أيضا في المنافقين، ويحتمل أن يراد بها اليهود؛ لقوله تعالى: (قَالُوا سَمِعنَا وَعَصَينَا) والمراد السماع النافع. قوله تعالى: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (22)} هذه الآية رد بها ابن هشام على كون الخبر أعم من المبتدأ؛ لأن الصم البكم أخص من شر الدواب على الصم البكم العمي، وعلى البكم العمي. قوله تعالى: {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23)} إن قلت: من شرط المقدمين في علم المنطق أن يصدقا في النتيجة وهي هنا كاذبة؛ لأنها تنتج: لو علم الله فيهم خيرا لتولوا وهم معرضون، قال ابن عرفة: والجواب بأن القياس عند الأصوليين على ثلاثة أقسام: افتراضي، وشرطي، واستثنائي، مثل الاستثنائي: لو كان هذا إنسانا حيوانا لكنه ليس بحيوان فليس إنسانا، أو لكنه حيوان فهو إنسان؛ لأنه ينتج نقيض المقدم أو عينه وهو في الآية قياس اقتراني أن سور الكبرى فيه إن كان كليا أنتج، وإن كان مهملا لم ينتج مثال الأول لو كان هذا إنسانا لكان حيوانا، وكلما كان حيوانا كان جسما ينتج كلما كان إنسانا جسما، والمهمل هل هو مثل هذه الآية؛ لأن المهمل في قوة الجزية فلا ينتج فلا يرد علينا ما أورده فيها، قلت: وأجاب ابن عرفة وغيره: بأن الإسماع مختلف، فالإسماع الأول: بمعنى الإجابة، والثاني: بمعنى إفهام القول المأخوذ من السماع، وأيضا فشرط إنتاج الشكل الثاني في المنطق قول المقدمة الثالثة كلية، وأما إن كانت جزئية فلا يجتمعان. قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ ... (24)}

(27)

كان بعضهم يقول: يحتمل رجوع الخيانة هنا إلى أمرين: خيانة فيما هو حق الله كقتل الحرابة فإنه حق لله لَا يجوز فيه العفو. وخيانة فيما هو حق لآدمي كقتل القصاص فإنه يجوز فيه العفو، ويحتمل رجوعها إلى ثلاثة أمور: خيانة في حق الله الراجع للاعتقاد القطعي العقلي القلبي؛ كقول المعتزلة: إن العبد يستقل بفعله. خيانة في حق الله الراجع للاعتقاد الظني كاعتقاد صحة المعاد. وخيانة فيما هو حق الآدمي مستفاد من الشرع. ابن عرفة: كقتل القصاص، والخيانة يتعدى إلى المخون بنفسه، وإلى المخون فيه بحرف الجر، كقوله: خان زيد عمرو في ماله، فإن قلت: فلم عدى الفعل أولا للمخون له وثانيا للمخون فيه؟؛ لأنه قال (لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ (27) .. فعداه للمخون، ثم قال (وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ) فعداه للمخون فيه بنفسه، فما السر في ذلك؟ قال: والجواب أن الأول لما كان حقا لله كان كالمستعظم فيه ذا الحق فذكر ذو الحق وهو المخون دون المخون فيه، ولما كان الثاني حقا للآدمي كان الاستعظام فيه أوقع في النفوس من استعظام صاحب الحق؛ لأن حرمة المال ومحبته أوقع في النفوس من محبة صاحبه، أو تقول في الأول لما كان المخون له أعظم مما فيه الخيانة وأشرف كان ذكره أبلغ في النفس بخلاف الثاني، أو يجاب بأنه على حذف مضاف؛ أي وتخونوا ذوي أماناتكم. قوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ ... (28)} قال ابن عرفة: قدم المال على البنين وهو عرف القرآن في غير ما موضع، ولم يرد ما يخالفه في سورة آل عمران في قوله تعالى: (مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ) ابن عرفة: وكان بعض الشيوخ يحكي أنه رأى بعض أهل السواد يمشي بأولاد كثيرين بعضهم يحمله على عنقه، وبعضهم بين يديه، وبعضهم يمشي معه، ويقول: ارحموا من خالف كتاب الله عن ذلك، فقال: الله يقول (الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ) فقدم المال على البنين، وخالفت أنا نصه فقدمت البنين على المال. قال ابن عرفة: وأخذوا من هذه الآية تفضيل الفقير الصابر على الغني الشاكر؛ لأن المال سبب في الفتنة. قوله تعالى: [(وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ) *].

(29)

لأن المال زينة الحياة الدنيا التي هي زائلة منفصلة والآخرة فيها الثواب الباقي. قوله تعالى: {إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا ... (29)} دليل على أن التقوى أخص من الإيمان خلافا لقول الإمام مالك رحمه الله في المتعة، ويجيب الآخرون بأن المراد: تدوموا على إيمانكم. قوله تعالى: (وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ). راجع إلى [الستر*]؛ ولذلك سمي الحراث كافرا، والمغفرة راجعة إلى عدم المؤاخذة [بالذنب فقط*]، فإن جعلنا العاصي متقيا لاجتنابه الكبائر كان داخلا في هذه الآية، وإن قلنا: إن التقوى إنما على التوبة من الذنوب لم يدخل فيها العاصي. قوله تعالى: {وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ ... (32)} قال ابن عرفة: يدعى الباطل تارة يدعيه من غير تسمية، وتارة يدعيه على صفة، فهؤلاء اعتقدوا أنه باطل ودعوا على أنفسهم إن كان حقا. قوله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ ... (33)} قال ابن عرفة: نفى الأول بالاسم، والثاني بالفعل، قال: فعادتهم يجيبون بأنه لما كان الاسم أبلغ من الفعل كان أخص منه، ونفي الأخص أعم من نفي الأعم، ونفي الأعم أخص من نفي الأعم، مثل: ليس في الدار إنسان وليس فيها حيوان؛ فنفى الأول بلفظ الفعل فكان نفيا أخص؛ لأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فهم بوجوده فهم موجب لدفع العذاب عنهم مجرد فعلهم وكسبهم وهو الاستغفار فكان أضعف فعبر فيه بالنفي الأعم فهو دون النفي الأول، فإن قلت: أول الآية اقتضى نفي العذاب عنهم، وآخرها اقتضى صحة وقوع العذاب بهم، فالجواب: أن الأول اقتضى نفي عذاب الاستئصال عنهم، والثاني: ثبوت مطلق العذاب المهلك. قوله تعالى: {فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (35)} إن قلت: هو من باب تعليل الحكم لعلتين: أحدهما: وصف الكفر، والآخر: صلاتهم عند البيت مكاء وتصدية، فالأولى منصوصة، والثانية موحى إليها لأن ذكر الحلم عقب الوصف المناسب يشعر بأنه علة له، وأيضا فإن الفاء للسبب. قوله تعالى: {لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ ... (37)}

(38)

قال: ما وجه الجمع بين هذه الآية، وبين قوله تعالى: (قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ) فإن هذه الآية تقتضي أن الخبيث أكثر من الطيب؛ لأن الأَقل مخرج من الأكثر، والأخرى بالعكس. فالجواب أن تلك شرطية على سبيل الفرض والتقدير، فلا يلزم منها الوقوع وهذه جملة [فعلية*]، ويؤخذ من الآية في باب التعديل والتجريح فيمن [دلت*] حاله أنه محمول على العدالة، خلاف مذهب مالك. قوله تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ ... (38)} قال الزمخشري: الحربي إذا أسلم لم يبق عليه تباعة، وأما الذمي فلا يلزمه قضاء حقوق الله تعالى وتبقى عليه حقوق الآدميين. قال ابن عرفة: هذا مذهب أبي حنيفة؛ لأن الزمخشري حنفي المذهب. وقال ابن العربي: إن الحربي إذا أسلم حفظت عنه الحقوق كلها إلا حد القذف، قال أشهب: وحد السرقة، قال ابن عرفة: وهذا غير صحيح والذي في المدونة أنه يسقط عنه الحدود كلها وهي مشكلة في المدونة؛ لأنه قال: سقط عنه حد القذف كما لا يطالب بالقتل، وتقدمنا مفارفتها للقتل بأنه إذا قذف وقتل فإنه يحد للقذف ثم يقتل فلم يجعل القتل مستلزما حد القذف، وتقدم الجواب بأنه إنما سقط عنه حد القذف وحد القتل يقتضي الآية؛ لأن سقوط القتل يستلزم سقوط ما دونه من باب أحرى؛ ولأن حصوله يستلزم حصول غيره. قوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ ... (41)} ابن عرفة: يؤخذ منها من لوازم العلم العمل؛ لأنه المقصود في الآية لأنه إذا انتفى الملزوم فليس المراد علم ذلك على العلم به، فلولا أن العلم بالشيء يستلزم العمل به لما صح الاكتفاء به عنه، ويلزم من عدم العمل به عدم العلم به، ويلزم من نفي اللازم نفي الملزوم، وهل المراد العلم حقيقة أو المراد اعتقاد ذلك علما أو ظنا؟ قال: إما بالنسبة إلى الصحابة فهو علم حقيقة، وإما بالنسبة إلى من بعدهم فتقرر الخلاف في دلالة القرآن هل هي قطعية أو ظنية، والظاهر أنه علم حقيقة لما تقرر من أن أهل أصول الدين يحتجون بآية القرآن في المطالب العلمية، فلولا أنه يفيد العلم لما صح احتجاجهم بذلك، والغنيمة ما أخذ بمجادلة وتكتسب من غير بيع ولا شراء، وقيل: ما أوجف عليه بالخيل والركاب، والعطف في الآية تدل، وقوله: (مَا

(43)

[غَنِمْتُمْ) الظاهر في أن (مَا) شرطية فتعم*] كل غنيمة تأتي بعدها ولو كانت موصولة لما تناولت إلا ما نص قبلها فقط. قوله تعالى: (وَالْمَسَاكِينِ). إن الفقير هو المسكين، وأشد منه حاجة ليدخل في الآية من باب أحرى، ولو كان العكس أضعف منه لخرج الفقير من الآية. قوله تعالى: (وَابْنِ السَّبِيلِ). هو الملازم للسبيل، وهو المسافر، [إذا قدم على بلد هو فيها فقير ويكون في بلده غنيا، فإن كان فقيرا في بلده فهو (مسكين) *]. قوله تعالى: (يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ). كان في غزوة أحد وغزوة بدر وغيرهما، فقال: الألف واللام للعهد، فالمراد الجمعان الخاصين، وذكر الزمخشري حديثا فيه "إنما بنو هاشم وبنو المطلب شيء واحد" بالشين المعجمة، وذكر ابن دقيق العيد في الإلمام [بالسين المهملة*]، والشيء في اللغة: المثل؛ أي مثل واحد، والمراد هما متساويان. قوله تعالى: {إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا ... (43)} ابن عرفة: وأنهم قليلين في العدد أو في القوة والنجدة. قوله تعالى: (لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ). إن قلت: التنازع والاختلاف سبب في القتل فهلا قدم عليه، فأجيب بأن القتل المراد به الجبن الطبيعي والهلع والخوف الحاصل في النفس، وهو سابق على التنازع، وإنما تتمة السؤال أن لو أريد القتل باعتبار الفعل وهو الكف عن المقاتلة لَا لخوف في النفس، قيل: لعدم الناصر والمعين. قوله تعالى: {وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا ... (44)} ابن عرفة: في ظاهر الآية تناقض؛ لأن تقليل الكفار في أعين المسلمين نعمة على المسلمين، وسبب في هجومهم على الكفار وغلبهم لهم، ورؤية الكفار للمسلمين قليلين منافية لذلك؛ لأنها أيضا سبب في شدة الكفار وغلبتهم للمسلمين فيلزم التناقض، قال: وأجيب بأن تقليل كل فريق في أعين الفريق الآخر موجب لاجتماع الفريقين للحرب والقتال فيقع ما وعد الله به وأراده من نصرة المسلمين، وتقليل أحد

(45)

الفريقين في عين صاحبه دون الآخر موجب لهروب الفريق القليل من الكثير فلا يقع الاجتماع للحرب بوجه، وإنما جاء التناقض من جعل القليل موجب للغلبة؛ بل هو موجب للاجتماع الموجب للغلبة، قال: وعبر في الأول بالاسم وهو قوله تعالى: (فِي أَعْيُنِكُم قَلِيلًا) وقال في الثاني (وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ) فعبر عن تقليل المسلمين بالفعل، [وهنا*] إشارة أن تقليل [الكفار*] مستمر ثابت ليدوموا على القتال، ولا يدركهم هلع ولا قتل، وتقليل المسلمين في أعين الكفار [إنما يكون في أول الأمر؛ فإِذا التقى الجمعان ونشأ الحرب فإهم يرونهم حينئذٍ كثيرين فينهزموا*] ويدركهم الرعب والخوف. قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (45)} قال ابن عرفة: الذكر مأمور به مطلقا، وهذا المحل مخصوص بكثرته؛ لقوله (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) لأن الطاعة مأمور بها مطلقا، ولا يؤخذ من الآية أن الأمر لا يقتضي التكرار، ولما احتيج إلى قوله (كَثِيرًا) لأن الكثرة أخص من مطلق التكرار. قوله تعالى: {وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ ... (46)} قال ابن عرفة: جعل التنازع سبب في القتل، وقال قبلها: (وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ) وتقدم الجواب بأن القتل أمر نفي جلي طبيعي وهو الخبر، والتنازع أمر فعلي ظاهر وهو المقابلة؛ فالفشل سبب في التنازع هنالك وأصابنا فالفشل ناشئ عن التنازع، وأنهم إما تنازعوا أو اختلفوا يقع الانهزام من طائفة منهم فيقع الفشل بالأخرى بقتلها. قوله تعالى: {وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ ... (48)} ابن عرفة: التحسين هو حالة ذاتية توجب الميل إلى الشيء لذاته، والتزيين حالة عرضية توجب الميل إلى الشيء؛ لأن التزيين يزول والتحسين ثابت، تقول: أعجبني حسن الجارية وأعجبتني زينتها؛ فحسنها بإجمالها، وزينتها جمال ثيابها وحليها. قوله تعالى: (وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ).

(49)

ابن عرفة: صفة حيث لم يأت بالنفي الأبلغ، فلم يقل: أنتم تغلبون عدوكم ليلا يكذب في مقالته، فأتى كلام متوسط ليكون أدعى إلى القبول، فقال (لَا غَالِبَ لَكُمُ) فهو يحتمل لأن يغلبوا عدوهم أو لَا؛ فيغلبونه ولا يغلبهم. وقوله تعالى: (مِنَ النَّاسِ) إشارة أنه فهم أن الملائكة قد يعينون المسلمين عليهم فينغلبونهم أن يكون رأى الملائكة أو لم يرهم. قوله تعالى: {وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ ... (49)} هم الكافرون. قوله تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ ... (50)} اختلفوا في فاعل يتوفى، فقيل: الملائكة، وقيل: هو الله، وقيل: الملائكة مبتدأ. ابن عرفة: والظاهر الأول لوجهين؛ أحدهما: أنه قرئ [ترى بالتاء*] والفاعل فيها الملائكة، وإحدى القرائتين [تُفَسِّرُ*] الأخرى. الثاني: أن في إسناد توفيهم إلى الله تعظيم لهم، فإسناده إلى الملائكة أولى [لتحقير*] الكافرين؛ فإذا كان الفاعل الملائكة، فقد يقال: كان الأولى تقدير على المفعول؛ لأنه الأصل، ولأنه الأشرف، فيجاب بأنه إنما قدم لأنه الأهم بالذكر. قوله تعالى: (يَضرِبُونَ وُجُوهَهُم وَأَدْبَارَهُمْ). هذا مثل: ضربته الظهر والبطن، ومطرنا السهل والجبل إشارة إلى العموم. قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ ... (53)} قال ابن عرفة: عادتهم يقولون: ما أفاد قوله تعالى: (أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ)؟ قال: وعادتهم يجيبون بأنه إشارة إلى تلك النعمة محض تفضل من الله تعالى [وليست*] جزاء بوجه فإذا لم يغير ما تفضل به عليهم من النعم، فأحرى إذا كانت نعمة عن سبب، ولذلك قال: لم يكن ليدل على نفي القابلية إن لم يفعل وليس هو قابلا لأن يفعل ذلك. قوله تعالى: {كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ ... (54)}

(55)

إن قلت: لم خص آل فرعون بالذكر دون غيرهم؟ قلنا: تسلية للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم؛ لأنهم كانوا كثيرا ما يؤذون موسى عليه الصلاة والسلام فهم أشد أذية من قريش لرسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ومن غيرهم. قوله تعالى: (فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ). فيه أن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة، بقوله تعالى: (بِذُنُوبِهِمْ) وفي ذلك أربعة أقوال: قيل: إنهم مخاطبون بالفروع، وقيل: لَا، وقيل: [مخاطبون فيما عدا الجهاد*]، وقيل: [الْفَرْقُ بَيْنَ النَّوَاهِي، فَهُمْ مُخَاطَبُونَ بِهَا دُونَ الْأَوَامِرِ*] (¬1). قوله تعالى: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ ... (55)} هذا مثل ما تقدم عن ابن هشام في أن شرط الجزاء أن يكون أعم من المبتدأ. قوله تعالى: {فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ ... (57)} أي فرق بهم وأبعدهم عن مقاتلتك من خلفهم، والمراد: وأبعدهم مسافتك ومخالفتك، فالإبعاد إما حسي وعليه جملة المفسرين، أو معنوي فإن كان الأولى دليل على أن قتل الأسارى هو المطلوب، وإن كان الثاني كان بارز في تخيير في الوجوه الخمسة، إما الأمر، وإما القتل، والمن والاسترقاق، أو ضرب الجزية. قوله تعالى: (لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ). إشارة إلى تقدم الأدلة الدالة على الإيمان فكأن الإيمان كان حاصلا، قلت: وقيد بعضهم عن ابن عرفة هنا ما نصه قوله تعالى: (فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ) ليعذبهم من خلفهم عن مسافتك ومقاتلتك، قال: فعلى هذا القسم هذه الآية تخصيص لما ورد من التخيير بين القتل والأسر والفداء والمن وغير ذلك، فما يراد صلاحا وسدادا أو يتعين القتل في حق هؤلاء؛ لأنه هو البعد عن مقاتلته من سواهم، وقيل: معناه فأبعدهم عن الكفر وعدم الإيمان بك فلا تخصيص على هذه، ويكون التخيير بين ما تقدم باقيا، ويكون أمر الفعل الأصلح، فإن قلت: أن لَا تدخل إلا على غير المحقق؛ فهلا قيل: فإذا تثقفنّهم؛ لأنه محقق الوقوع، ابن عرفة: فعادتهم يجيبون بأن تأكيد الفعل بالنون الشديدة اعتناء عن ذلك وغيره؛ كالمحقق لأنه المشكوك فيه لَا يؤكد وأيضا فترتيب الأمر بالتشديد عليه بغيره محقق الوقوع، قلت: وأجاب بعض الطلبة إنما هو الغلبة لا النفاق لأنهم في الممكن أن يمتربوا ويؤخذوا. قوله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ ... (60)} ¬

_ (¬1) قال القرافي في الفروق: "فِي كَوْنِ الْكُفَّارِ مُخَاطَبِينَ بِفُرُوعِ الشَّرِيعَةِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ مُخَاطَبُونَ، لَيْسُوا مُخَاطَبِينَ، الْفَرْقُ بَيْنَ النَّوَاهِي فَهُمْ مُخَاطَبُونَ بِهَا دُونَ الْأَوَامِرِ فَلَا يُخَاطَبُونَ بِهَا وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُمْ مُخَاطَبُونَ بِالْإِيمَانِ وَبِقَوَاعِدِ الدِّينِ وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي الْفُرُوعِ". اهـ (الفروق. 1/ 218).

(67)

ابن عرفة: هذا تسمية احتراس لأنه قد تقدم، قوله (وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا) فقد يتوهم أن ضعفهم وعدم قوتهم يوجب عدم الاستعداد لهم. قوله تعالى: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى ... (67)} ابن عرفة: ما ذكره ابن عطية وغيره عن أبي بكر وعمر ينبغي حمله على وجهين؛ أحدهما: أن الخطأ في الجهاد ملزوم للتأثم، الثاني: ما ذكره ابن الحاجب من أنه قد تعرض له صلى الله عليه وعلى آله وسلم الخطأ في اجتهاده ولكنه لا يقر. وقال الفخر في المحصول: الأكثرون على منع ذلك في حقه وهو الصحيح؛ لأن المعصية تمنع منه، وهذا كله إذا قلنا: إن كل مجتهد مصيب، قال: واحتجوا بهذه الآية على أن المصيب واحد؛ فدلت على أن عمر هو المصيب في اجتهاده، وأجاب الآخرون بأن أبا بكر أقره النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم على ما فعله فهر مصيب بإقراره له، وفرق بعضهم بين الحكم بالفداء، وبين أخذ الفداء. فأبو بكر حكم [بالفداء*] وغيره من الصحابة أخذه فوقع العتب على من أخذ الفداء؛ لأنه عرض دنيوي فأخذوه لمجرد ذلك فقط، وأبو بكر إنما حكم بالفداء لمصلحة الآخرة؛ وهو رجاء إسلامهم. قوله تعالى: (مَا كَانَ لِنَبِيٍّ). أبلغ من قول القائل: لَا يفعل النبي كذا ولا يفعل كذا؛ لاقتضائه نفي القابلية للفعل. قوله تعالى: (وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ). راجع للأمر الباطن وهو اختيار الفداء لأنه جائز في نفس الأمر، لقوله (فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا ... (69) .. راجع للأمر الظاهر وهو التوبيخ على أخذ الفداء، ثم بعد ذلك نسخ بالجواز. قوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (72)} [أخَّرُ*] (وَجَاهَدُوا مَعَكُم) وقال تعالى قبلها: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ) فذكر بأموالهم وأنفسهم الأولى دون الثانية. ابن عرفة: فقدم الجواب بوجهين؛ الأول: أنه حذف من الثاني لدلالة الأول عليه إذ الآية الأولى في الميراث، قلت: فيها حذف المال لتناول جهاد الغني والفقير. قوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ... (73)}

(75)

ابن عرفة: يؤخذ منه أن الكفر علة واحدة، وفيه قولان. قوله تعالى: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ ... (75)} هذه الآية منسوخة عند مالك وأصحابه، والله تعالى أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب وصلى الله على مولانا وسيدنا محمد وعلى آله الطيبين وسلم. * * *

سورة التوبة

سُورَةُ التَّوْبَةِ (بَرَاءَة) تكلم ابن رشد في البيان على ترك البسملة من أولها في أوائل الجامع الأول وذكروا وجوه في سبب إسقاط التسمية من أولها، من ذلك قول ابن عباس: سألت عليا عن ذلك، فقال: لأن بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ أمان، وهذه السورة نزلت بالسيف ونبذ العهد وليس فيها أمان، قلت: وهذا هو الذي اختار الشاطبي في قوله [وَمَهْمَا تَصِلْهَا أَوْ بَدَأْتَ بَرَاءَةً ... لِتَنْزِيْلِهاَ بالسَّيْفِ لَسْتَ مُبَسْمِلَا*]. ابن هشام المصري: هذا البيت من المشكل وبيانه أن (مَهْمَا) في كلامه لَا يجوز أن يكون مفعولا لـ تصل؛ لاستيفائه مفعوله، ولا مبتدأ لعدم [الرابط*]، فإن قيل: [قدر مهما واقعة*] على براءة؛ [فيكون*] ضمير [تصلها راجعا*] إلى براءة، وحينئذ فهي مبتدأ، أو مفعول لمحذوف يفسره تصل، قلنا: اسم الشرط عام، وبراءة اسم خاص، [فضميرها*] كذلك فلا يرجع إلى العام، وبالوجه الذي بطل به ابتدائية مهما، بطل كونها [مشتغلا عنها*] العامل بالضمير، وهذه بخلافها في قوله: "ومهما تصلها مع أواخر سورة" فإنها هناك واقعة على البسملة التي في أول كل سورة فهي عامة، [فيصح*] فيها الابتداء [أو*] النصب بفعل يفسره تصل أي: [وأي*] بسملة [تصل*] تصلها، والظرفية بمعنى، وأي وقت تصل البسملة على القول بجواز ظرفيتها، [وأما هُنَا فَيتَعَيَّن*] كونها ظرفا لـ تصل بتقدير، وأي وقت تصل براءة أو مفعولا به [حذف عَامله*]، أي ومهما [تفعل*] ويكون تصل [وبدأت*] بدل تفصيل من ذلك الفعل، وأما ضمير تصلها؛ فلك أن [تعيده*] على اسم مظهر قبله محذوف، أي ومهما [تفعل*] في براءة تصلها أو بدأت بها، وحذف بها وَلما [خَفِي*] الْمَعْنى بِحَذْف [مرجع*] الضمير ذكر براءة بيانا له إما على أنها بدل منه، أو على إضمار، أعني، ولك أن [تعيده*] على ما بعده، وهو براءة، إما على [أنه*] بدل منه، مثل: رأيته زيدا؛ [فمفعول*] بدأت [محذوف*]، وإما على أن الْفِعْلَيْنِ تنازعاها، فأعمل الثاني [متسعا فيه بِإِسْقَاط الْبَاء*]، [وأضمر*] الفضلة في الأول على حد قوله: إِذا كنت ترضيه ويرضيك صَاحب ... [جهازا*] فَكُن [فِي الْغَيْب*] أحفظ [للود*] الزمخشري؛ سأل ابن عباس عثمان رضي الله عنهما عن ترك التسمية أول هذه، فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم إذا نزلت عليه السورة أو الآية، قال: " [اجعلوها في الموضع الذي يذكر فيه كذا وكذا، وتوفى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يبين لنا أين نضعها، وكانت قصتها شبيهة بقصتها، «2» فلذلك قرنت بينهما، وكانتا تدعيان القرينتين*]. الطيبي: غير أنه غير مطابق للسؤال [فيجاب*] عن بيان عدم تصدير السورة بالبسملة، وأجاب من موقع السورة مع أختها، ويمكن أن يقال إن السؤال كان عن شيئين؛ فأولها ترى في السؤال على أحدها وفي الجواب عن الآخر يدل عليه ما روى الإمام أحمد بن حنبل في مسنده، والترمذي وأبو داود في سننهما، عن ابن عباس، قال: [قُلْتُ

(1)

لِعُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ: مَا حَمَلَكُمْ عَلَى أَنْ عَمَدْتُمْ إِلَى الْأَنْفَالِ وَهِيَ مِنَ الْمَثَانِي، وَإِلَى بَرَاءَةٌ، وَهِيَ مِنَ الْمِئِينَ، فَقَرَنْتُمْ بَيْنَهُمَا، وَلَمْ تَكْتُبُوا - قَالَ ابْنُ جَعْفَرٍ: بَيْنَهُمَا - سَطْرًا: بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وَوَضَعْتُمُوهَا فِي السَّبْعِ الطِّوَالِ، مَا حَمَلَكُمْ عَلَى ذَلِكَ؟ قَالَ عُثْمَانُ: إِنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ مِمَّا يَأْتِي عَلَيْهِ الزَّمَانُ يُنْزَلُ عَلَيْهِ مِنَ السُّوَرِ ذَوَاتِ الْعَدَدِ، وَكَانَ إِذَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ الشَّيْءُ يَدْعُو بَعْضَ مَنْ يَكْتُبُ عِنْدَهُ يَقُولُ: "ضَعُوا هَذَا فِي السُّورَةِ الَّتِي يُذْكَرُ فِيهَا كَذَا وَكَذَا" وَيُنْزَلُ عَلَيْهِ الْآيَاتُ، فَيَقُولُ: "ضَعُوا هَذِهِ الْآيَاتِ فِي السُّورَةِ الَّتِي يُذْكَرُ فِيهَا كَذَا وَكَذَا" وَيُنْزَلُ عَلَيْهِ الْآيَةُ، فَيَقُولُ: ضَعُوا هَذِهِ الْآيَةَ فِي السُّورَةِ الَّتِي يُذْكَرُ فِيهَا كَذَا وَكَذَا"، وَكَانَتِ الْأَنْفَالُ مِنْ أَوَائِلِ مَا أُنْزِلَ بِالْمَدِينَةِ، وَبَرَاءَةٌ مِنْ آخِرِ الْقُرْآنِ، فَكَانَتْ قِصَّتُهَا شَبِيهًة بِقِصَّتِهَا، فَقُبِضَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يُبَيِّنْ لَنَا أَنَّهَا مِنْهَا، وَظَنَنْتُ أَنَّهَا مِنْهَا، فَمِنْ ثَمَّ قَرَنْتُ بَيْنَهُمَا، وَلَمْ أَكْتُبْ بَيْنَهُمَا سَطْرًا: بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. قَالَ ابْنُ جَعْفَرٍ: وَوَضَعْتُهَا فِي السَّبْعِ الطُّوَلِ*]. قلت: في الحديث دليل ظاهر على بيان ترتيب الآي والسور. الزمخشري: وعن أبي وهب: إنما توهموا ذلك لأن في الأنفال ذكر اليهود وفي براءة نبذ اليهود، الطيبي: الأول إشارة إلى قوله (وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا)، والثاني: ما ذكره في آية السيف. (1) الزمخشري: فإن قلت: لم علقت البراءة بالله ورسوله والمعاهدة بالمسلمين. الطيبي: كان المناسب ترتيب المعاهدة والبراءة كليهما إما إلى المؤمنين معا، أو إلى ذاته عز وجل معا، قال: ما سبب [الترتيب*]، [ولماذا*] [خص*] البراءة بالله ورسوله مع أن المعاهدة مع المسلمين، وحق البراءة أن تنسب إلى المعاهدة؛ لأن الله تعالى أذن في المعاهدة فكأنه خاص وبريء، وأجاب الزمخشري بأن ذلك إعلام بحسب الوقوع وترتيب الوجوه، أذن الله لرسوله والمؤمنين أولا بالمعاهدة فعاهدوا ثم لما نقض المشركون العهد خبره الله إعلاما آخر، وقال: اعلموا أن الله ووسوله بريء منهم فتبرأوا منهم أنتم أيضا، ويمكن أن يقال: المعاهدة لم تكن إلا بإذن الله وإباحته، فلما نبذ المشركون العهد نسب الله تعالى البراءة إلى نفسه وضم معه ذكر الرسول غضبا عليهم وتهديدا شديدا فيطلق عليه قول الزمخشري أولا أذن الله، وثانيا: أوجب الله النية]، وقال صاحب الانتصاف (¬1): فيه شيء وذلك أنه لا يستند العهد إلى الله تعالى في مقام توهم فيه شائبة النقص إجلالا وتعظيما لكبريائه، ألا ترى وصية رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم لأمير السرايا، فإذا نزلت [بحصن فطلبوا*] النزول على حكم الله ¬

_ (¬1) هكذا نص ابن المنير - رحمه الله -: "وراء ما ذكره سر آخر هو المرعي، والله أعلم. وذلك أن نسبة العهد إلى الله ورسوله في مقام نسب إليه النبذ من المشركين، لا تحسن شرعا. ألا ترى إلى وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمراء السرايا حيث يقول لهم: وإذا نزلت بحصن فطلبوا النزول على حكم الله فأنزلهم على حكمك، فإنك لا تدرى أصادفت حكم الله فيهم أولا؟ وإن طلبوا ذمة الله فأنزلهم على ذمتك، فلأن تخفر ذمتك خير من أن تخفر ذمة الله. فانظر إلى أمره عليه الصلاة والسلام بتوقير ذمة الله مخافة أن تخفر وإن كان لم يحصل بعد ذلك الأمر المتوقع، فتوقير عهد الله وقد تحقق من المشركين النكث، وقد تبرأ من الله ورسوله بأن لا ينسب العهد المنبوذ إلى الله أحرى وأجدر، فلذلك نسب العهد إلى المسلمين دون البراءة منه، والله أعلم» " اهـ (الانتصاف. 2/ 242).

(2)

تعالى، فأنزلهم على حكمك، فإنك لَا تدري [أصادفت حكم الله فيهم أولا؟ *]، وإن طلبوا ذمة الله فأنزلهم على ذمتك، [فلأن تخفر ذمتك خير من أن تخفر ذمة الله*]، فتوقير عهد الله واجب، وقد تحقق من المشركين النكث، وتبرأ الله ورسوله منه، فأحرى أن لَا ينسب العهد [المنبوذ*] إلى الله تعالى. الزمخشري: قال علي يوم النحر، قال: أمرت بأربع: أن لَا يقرب هذا البيت بعد هذا العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان، ولا يدخل الجنة إلا [كل*] نفس مؤمنة، وأن يتم إلى كل ذي عهد عهده. الطيبي: قوله: أمرت بأربع؛ أي أن أنادي بأربع، فإن قلت: ما فائدة النداء بقوله: ولا يدخل الجنة إلا كل نفس مؤمنة، قلت: الإعلام بأن المشرك لَا يقبل منه بعد هذا غير الإيمان، لقوله تعالى: (فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ) إلى قوله (سَبِيلَهُم) وهو من باب [لا أرينك هاهنا*]؛ يعني أمرت بأن يتصفوا بما [يستحقوا*] به أن يكون أهلا إذ لَا يقبل منهم سواه]. قوله تعالى: {فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ ... (2)} إما أن يكون في الكلام حذف أي فقيل لهم: سيحوا، وهذا التفات خرج من الغيبة إلى الحضور وجعل الفرد في هذه الأربعة الأشهر المذكورة مناهي الأشهر الحرم المعلومة وليس كذلك. قوله تعالى: {وَأَذَانٌ ... (3)} عبر بالأذان دون الإعلام لما في الآذان من الاستغفار برفع الصوت. الزمخشري: ارتفاعه كارتفاع براءة ولا وجه لقول من قال: معطوف على براءة، كما يقال: عمرو معطوف على زيد، في قولك: زيد قائم وعمرو قاعد. الطيبي: ولقائل أن يقول: لم لَا يجوز أن يعطف على (براءة) على أن يكون من عطف الخبر على الخبر؛ لكن الأحسن كونه من عطف الجمل لئلا [تخلو*] من الحصر [بين*] جمل كثيرة أجنبية، ويفوت التطابق بين المبتدأ والخبر تأنيثا وتذكيرا. الزمخشري: فإن قلت: أي فرق بين معنى الجملة الأولى والثانية، قلت: تلك إخبار ثبوت البراءة وهذه إخبار بوجوب الإعلام بما ثبت، فإن قلت: لم علقت البراءة بالذين عاهدوا من المشركين وعلق الأذان بالنَّاس؟ قلت: لأن البراءة مختصة بالمعاهدين والناكثين منهم، وأما الأذان فعام بجميع النَّاس من عاهد ومن لم يعاهد،

ومن نكث من المعاهدين ومن لم ينكث، وجعل الفخر البراءة الأولى بمعنى البراءة من العهد، والثانية في قوله: (بَرِيء) نقيض الموالاة، قال: ويدل على هذا الفرق أنه في الأولى بريء إليهم وفي الثانية منهم. الزمخشري: حذفت الفاء التي هي صلة الأذان تخفيفا؛ يعني أن التقدير: فإِن الله بريء، قال: وقرئ إن بالكسر لأن الأذان في معنى القول، ورسوله عطف على المنوي [في*] (بريء)، أو على محل إن المكسورة. ابن هشام المصري: العطف على المحل له عند المحققين ثلاثة شروط: إمكان ظهور ذلك المحل في الفصيح، فلا يجوز: مررت بزيد وعمرو خلافا لابن جني؛ لأنه لَا يجوز مررت زيدا، وأما تمرون الديار فضرورة، وأجاب الفارسي في قوله تعالى: (وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ) أن يكون عطفا على محل هذه. الشرط الثاني: أن يكون الموضع بحق الأصالة فلا يجوز في ضارب زيدا وأخيه لأن الوصف المستوفي لشروط العمل، الأصل إعماله وأجازه البغداديون. الشرط الثالث: وجوز المجوز أي الطالب بذلك المحل على هذا يمتنع مسائل منها أن زيدا قائم وعمرو إذا قدر معطوفا على المحل لَا مبتدأ؛ لأن الطالب لرفع زيد هو الابتداء الذي هو التجرد، وقد جاء بدخول أن وأجاز هذا بعض البصريين؛ لأنهم لم يشترطوا المجوز، وأجازه الكوفيون ولم يشترطوا المجوز. قال: ومن الغريب قول أبي حيان إن من شرط العطف على الموضع أن يكون المعطوف عليه لفظ وموضع، فجعل صورة المسألة شرطا، ثم إنه أسقط الشرط الأول الذي ذكرنا، انتهى. أبو البقاء: لَا يجوز عطف (وَرَسُولُهُ) على موضع أن المفتوحة؛ لأنها بتأويل المفسرة. ونقل الطيبي، عن ابن الحاجب، أنه قال: النحاة يطلقون هذا، وليس بصحيح، قيل: هي قسمان، فإن كانت في تأويل الجملة صح العطف: كعلمت أن زيدا قائم وعمرو بالرفع؛ لأنه في تقدير أن زيد قائم وعمرو؛ بدليل أنك إذا قلت: علمت أن زيدا لقائم بكسر أن تدل على أنها في تأويل الجملة. وإما يمتنع العطف في مثل: عجبت من أنك قائم إذ لَا يصح تقديره بالجملة، انتهى. قوله إنها في معنى إن المكسورة إن أراد بها في تأولها لجريان المسند والمسند

(5)

إليه في صلتها، فمسلم، [ويمتنع العطف*] (¬1) إذ لَا موضع لها إلا النصب لكونها مفعولا لعلمت، وإذ أراد أنها في تأويل المكسورة بمعنى أنها جملة فلا نسلمه هي في معنى المفرد، وأما تنظيره بعلمت إذا علقت عن أن لدخول اللام في خبرها، فليست مثل المفتوحة؛ لأن هذه الجملة لَا عمل لعلمت فيها، قال: وقال ابن الحاجب في غير هذا الموضع: إنما لم تعطف على المفتوحة لفظا، ومعنى لأنها واسمها وخبرها بتأويل خبر واحد؛ فلو قدرت أنها في حكم العدم [**لأحكمت بموضع] بخلاف المكسورة لأنها لا تغير المعنى، فجاز تقدير عدمها؛ لكونها للتأكيد المحض؛ كما جاز تقدير عدم الباء المؤكدة في قوله: فلسنا بالجبال ولا الحديد. قوله تعالى: (وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ). الزمخشري: عن التوبة، أو تبتم عن التولي والإعراض عن الإسلام والوفاء، قلت: فعلى هذا التفسير الثاني يدل على أن الدوام كالإيتاء. قوله تعالى: {حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ ... (5)} فيه دليل على أن العام في الأشخاص غير عام في الأمكنة. قوله تعالى: (كُلَّ مَرْصَدٍ). الزمخشري: انتصابه على الظرف. الطيبي على الانتصاف، ويحتمل أن يكون المرصد مصدر؛ لأن اسم الزمان والمكان والمصدر من فعله واحد، (وَاقْعُدُوا) في معنى ارصدوا، وتقرب الظرفية قوله (حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُم) ليطابق الظرفية في المكانين. قوله تعالى: (فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ). الفخر: احتج بها الشافعي على قتل تارك الصلاة، قال: لأنه تعالى أباح دماء الكفار مطلقا، ثم حرمها عند مجموع هذه الثلاثة: وهي التوبة عن الكفر، وإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة؛ فعندما يحصل هذا المجموع وجبت أن يبقى [إِبَاحَةُ*] الدم على الأصل، فإن قيل: يحتمل أن يكون المراد [الْإِقْرَارَ بِهِمَا وَاعْتِقَادَ وُجُوبِهِمَا*] ويدل عليه أن [الزَّكَاةِ لَا يُقْتَلُ*]؟ فالجواب أن هذا عدول [عن*] الظاهر، وأما في تارك [الزَّكَاةِ*] فقد دخله التخصيص، فإن قيل: حمل الكلام على التخصيص؛ [أَوْلَى*] من حمله على اعتقاد وجوب الصلاة والزكاة؟ قلنا: لأنه ثبت في أصول الفقه مهما وقع التعارض بين المجاز [والتَّخْصِيصِ*] فإن [التَّخْصِيصَ أَوْلَى بِالْحَمْلِ*]، انتهى. ¬

_ (¬1) في الكتاب المطبوع هكذا: "ويمتنع عرفة العطف" بزيادة كلمة "عرفة" وهي إما زائدة أو مصحفة. والله أعلم.

(6)

فمن حمله على اعتقاد قلنا: وأصل هذا الاستدلال يتقرر على ما تقرر في علم المنطق من أن المقدمة الشرطية لَا تتعدد بتعدد مقدمها، هنا مثله بتأصله، وقد يقال: إن هذا الاستدلال إنما ينتج أنه لَا يخلى سبيلهم، وذلك أعم من القتل، وما ذكره معه في أول الآية ولم يذكر في الآية الصوم والحج، فمع كونها من آخر ما أنزل، وكان الحج فذكر هو لأن المذكور أهمها. قوله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ ... (6)} الزمخشري: (أَحَدٌ) مرتفع بفعل الشرط مضمرا يفسره الظاهر؛ تقديره: وإن استجارك أحد. الفخر: (¬1) فَإِنْ قِيلَ: لَمَّا كَانَ التَّقْدِيرُ مَا ذَكَرْتُمْ فَمَا الْحِكْمَةُ فِي تَرْكِ هَذَا التَّرْتِيبِ الْحَقِيقِيِّ؟، قلنا: الحكمة فيه ما ذكر سيبويه وهو أنهم يقدمون الأهم، ولما كان ظاهر الدليل يقتضي إباحة دم كل واحد من المشركين، فقدم ذكره ليدل على مزيد العناية لصون دمه عن الإهدار، وفي الآية دليل على أن التقليد [غَيْرُ كَافٍ فِي الدِّينِ*]، وأنه لَا بد من النظر والاستدلال؛ لأنه لو كان التقليد كافيا لوجب أن لَا [يُمْهَلَ*]؛ بل يقال إِمَّا أَنْ تُؤْمِنَ، وَإِمَّا أَنْ [نَقْتُلَكَ*]، وليس في الآية ما يدل على مقدار هذه المسألة المهملة، ويرجع في ذلك إلى العرف بحسب حال الشخص، والمذكور في الآية كونه طالبا لسماع الدلائل، والجواب عن الشبهات؛ والدليل عليه أنه تعالى علل وجوب تلك [الإجارة*] بكونه غير عالم، والمعنى [فَمَتَى ظَهَرَ عَلَى الْمُشْرِكِ عَلَامَاتُ كَوْنِهِ طَالِبًا*] للعلم مسترشدا للحق، وكل من حصلت فيه هذه العلة وجبت [إجارته*]، وليس في الآية ما يدل، هل المراد سماعه جميع القرآن أو بعضه؟ والظاهر ما يحصل لديه العلم غالبا، والحربي إذا دخل دار الإسلام كان [معصوما*] مع ماله إلا أن يدخل مستجيرا لغرض شرعي أو لتجارة أو رسولا أو ليأخذ ماله بدار الإسلام، وكما له أمان فأمان ماله أمان له، وانظر كلام مكي في الهداية في هذا الوجه حيث تكلم على إضافة كلام الله فهو مشكل؛ لأنه قال: إضافة [تخصيص*] بمعنى القيام به ليست إضافة ملك لملك ولا خلق لخالق، ولا إضافة تشريف؛ بل بمعنى إرادته غير متعدية عنه؛ فافهمه. قوله بمعنى إرادته؛ أي بمعنى إضافة الإرادة إليه في كونها غير متعدية عنه لا كما تقوله المعتزلة أنه تعالى خلق الكلام في السجود، هذا تقدير كلامه وبيانه على مذهب أهل السنة، وانظر ما ذكر أبو حيان من لزوم تقدير الضمير بعد حتى هو غير لازم بل القدر الفعل، ونص كلامه: حتى متعلقه بـ (أَجِرْهُ) ولا يصح تعلقها بـ (اسْتَجَارَكَ) على أنه من باب الشارع؛ لأنه لو أعمل الأول لَا ضمير في الثاني، وحتى لا يجر المضمر وعند من يجر بها يصح كونه من باب الشارع، انتهى. ¬

_ (¬1) النص في مفاتيح الغيب هكذا: "اعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ التَّقْلِيدَ غَيْرُ كَافٍ فِي الدِّينِ وَأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ التَّقْلِيدُ كَافِيًا، لَوَجَبَ أَنْ لَا يُمْهَلَ هَذَا الْكَافِرُ، بَلْ يُقَالُ لَهُ إِمَّا أَنْ تُؤْمِنَ، وَإِمَّا أَنْ نَقْتُلَكَ فَلَمَّا لَمْ يُقَلْ لَهُ ذَلِكَ، بَلْ أَمْهَلْنَاهُ وَأَزَلْنَا الْخَوْفَ عَنْهُ وَوَجَبَ عَلَيْنَا أَنْ نُبْلِغَهُ مَأْمَنَهُ عَلِمْنَا أَنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا كَانَ لِأَجْلِ أَنَّ التَّقْلِيدَ فِي الدِّينِ غَيْرُ كَافٍ، بَلْ لَا بُدَّ مِنَ الْحُجَّةِ وَالدَّلِيلِ فَأَمْهَلْنَاهُ وَأَخَّرْنَاهُ لِيَحْصُلَ لَهُ مُهْلَةُ النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ. إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: لَيْسَ فِي الْآيَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مِقْدَارَ هَذِهِ الْمُهْلَةِ كَمْ يَكُونُ وَلَعَلَّهُ لَا يُعْرَفُ مِقْدَارُهُ إِلَّا بِالْعُرْفِ، فَمَتَى ظَهَرَ عَلَى الْمُشْرِكِ عَلَامَاتُ كَوْنِهِ طَالِبًا لِلْحَقِّ بَاحِثًا عَنْ وَجْهِ الِاسْتِدْلَالِ أُمْهِلَ وَتُرِكَ وَمَتَّى ظَهَرَ عَلَيْهِ كَوْنُهُ مُعْرِضًا عَنِ الْحَقِّ دَافِعًا لِلزَّمَانِ بِالْأَكَاذِيبِ لَمْ يُلْتَفَتْ إِلَيْهِ واللَّه أَعْلَمُ." اهـ (مفاتيح الغيب. 15/ 530 ـ 531).

(7)

وتنظر هل معنى الآية: وإن أحد من المشركين استجارك لكي يسمع كلام الله فأجره، والمعنى: استجارك لما هو أهم من ذلك. قوله تعالى: {فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ ... (7)} يترجح كون ما مصدرية بوجهين؛ أحدهما: الدلالة على اتصال الأمر بالاستقامة لهم في جميع مدة استقامتهم لنا. الثاني: أن الأصل في القضايا [الحملية*] لَا الشرطية. قوله تعالى: {فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ (12)} يؤخذ منها أن دين الكافر لَا يلزمه خلافا للمغيرة حكاه ابن رشد، وهذه الجملة اعتراضية بين قوله (فَقَاتِلُوا) وبين قوله (لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ). قوله تعالى: {أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ ... (13)} ابن عرفة: إن أريد إخراجه من مكة، فيكون في الآية تقديم وتأخير؛ لأن نكثهم إيمانهم بعد ذلك، وإن أريد من المدينة، فالآية على ترتيبها، وإنما لم يقل وهموا بإخراج رسولهم؛ لأنهم خالفوه من حيث كونه رسولا، فخالفوا الرسول [بالنكران وهو أشد*]. قوله تعالى: (وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ). ولم يقل: وهموا بإخراج الرسول، الفرق الحاصل بين الجملتين؛ لأن الجملتين الأولتين ترجعان إلى تكذيبهم بالرسول، والثانية: راجعة إلى قتالهم للمؤمنين، فهذه الثانية تحريض للمؤمنين على قتالهم، فإن قلت: ما أفاد قوله (أَوَّل مَرَّةٍ)، ولفظ البدء يقتضي الأولية، قال: فالجواب أن البداية تقتضي الكمية المنفصلة، لقولك: إذا كان بين بني تميم وبني قيس غير حروب، فتقول: بنو تميم هم البادئون بالقتال في الحرب الأول. قوله تعالى: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ ... (14)} هذا صريح في مذهب أهل السنة القائلين بأن أفعال العباد كلها مخلوقة لله عز وجل، ولما تقدم الأمر بالقتل بلفظ العرض والتحضيض عقبه بصيغة الأمر بالقتال ضربا، أو ذكر الأمر بالقتال ليرتب عليه الوعد بالنصرة عليهم في قوله (يُعَذِّبْهُمُ)، فإن قلت: ما أفاد قوله تعالى: (وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ) بعد قوله (يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ)؟ قلت: لأنهم إذا عذبوا بأيديهم قد يساومهم فلا يغلبوا أو لَا يغلبوا.

(15)

قوله تعالى: {وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ ... (15)} يؤخذ منها أن العرض يبقى زمانين؛ لأن ذهاب الشيء يمكن ألا تعد حصوله فهو إذ استلزم لزمنين زمن الحصول وزمن الإذهاب، فإن قلت: لم أسند الغيظ إلى القلوب والشفاء للصدور، قلت: لما كان الغيظ سبب الحسد أو نحوه وهو مذموم شرعا وطبعا أسنده إلى محله وهو القلب خاصة تتغير عنه، ولما كان الشفاء محبوبا شرعا وطبعا أسنده إلى جميع الصدر وتخفيفا عليه، والشفاء أمر ملائم والغيظ أمر مؤلم، فسلك في الآية مسلك الترقي، قلت: ونظرة قوله تعالى: (رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا) أسند الزيغ للقلوب والهداية لجميع الذات، وتقدم الكلام عليه. قوله تعالى: (وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ). في الآية رد على المعتزلة القائلين بوجوب مراعاة الأصلح للعبد. قوله تعالى: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ ... (17)} يؤخذ منها أن الكافر لَا تقبل صدقته على المسجد. قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ ... (24)} إلى (أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ) فيه سؤال وهو أنهم توعدوا على تفضيل محبة هؤلاء على محبة الله، فهلا توعدوا على التسوية بينهما فهو أبلغ، ويفيد التوعد على التوهم من باب أحرى، فأجيب بأن محبة الله تعالى ليس بينهما وبين محبة غيره مساواة بخلاف من سواه؛ فإنه قد يستوفي المحبة فيهم، وبيانه أن الإنسان إن رجح الجهاد فقد أحب الله، وإن رجح القعود وترك الصلاة فقد أحب غير الله، فلهذا قيد بصنيعة المحل. قوله تعالى: {فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ ... (25)} قال الزمخشري: إن قلت: لم عطف (وَيَوْمَ حُنَيْنٍ) وهو ظرف مجرور على منصوب على المجرور، وأجيب بثلاثة أوجه: الأول: قال [ابن عرفة*]: لَا يجوز أن يقول: جلست في الدار ويوم الجمعة؛ لأن العطف يقتضي المغايرة ولا [مغايرة بين الجلوس*] في الدار، والجلوس يوم الجمعة لاحتمال الجلوس في الدار كان يوم الجمعة، واستشكله أبو حيان وقال: في العربية يجوز عطف ظرف الزمان على ظرف المكان. قوله تعالى: (إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ).

(28)

بدل من (يوم حنين) وهو [**قيد للأخير فهل يرجع للأول أم لَا على الخلاف في الاستثناء إذا تعقب مجملا]. قوله تعالى: (اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنَا قَلِيلًا). قلت لابن عرفة: اشتروا من الاشتراء، فقال: المراد هنا المسمَّون. قوله تعالى: (سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ). (ما) يكون متعديا نحو: ساء ما فعله فلان ويكون قاصرا [و (سَاءَ) بمعنى بئس*]، فالمراد [بئس*] العمل ما كانوا يعملون؛ لأنها تجري [مجرى نعم وبئس*]، قال ابن عرفة: إن هذا من التنزيل؛ لأن اشتروا واضحة، قيل: إن القاضي عبد السلام قال في قوله تعالى: (وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ) إنه من باب إضافة الموصوف إلى الصفة، قال: وذكر الفخر اتفاق النحاة على أنه لَا يجوز إضافة الموصوف إلى صفته، قال: وفي هذا نظر. قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ ... (28)} إلى قوله تعالى: (وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ) أخذ برد المازري في كتاب التجارة بأن من الحرب أن المسلمين إذا نزلت بهم شدة فإنه لَا يجوز لأحدهم أن يدخل دار الكفر لشراء الطعام، وفرق ابن عرفة: بأن حرمة المسجد أقوى من حرمة المسلم. قوله تعالى: {وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ ... (29)} من باب الخاص، عطف الخاص على العام، وإن كانوا يدينون أعم من يحرمون؛ لأن نفي الأعم أخص، قال: وفي قوله تعالى: (وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ) دليل على أن الأمر بالشيء نهي عن ضده. قوله تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ ... (31)} أي جعلناه ترقيا فيؤخذ منه تقديم الأصلح من باب الأمانة على الأعلم وإن جعلناه تدليا فيؤخذ منه تقديم الأعلم. قوله تعالى: (وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا). الوصف بواحد إشارة إلى نفي الكمية المتصلة، والوصف بلا إله إلا الله لنفي الكمية المنفصلة.

(32)

قوله تعالى: (ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ). فائدة قوله (بِأَفْوَاهِهِمْ) إما التنبيه على أنه لم يقولوه في أنفسهم فقط؛ بل صرحوا به بألسنتهم، وإما التنبيه على [تفاهة*] عقولهم، وأنه قول [لَا دليل عليه*]، وإما أن يراد بالقول المذهب، أي دينهم بأفواههم، وإما أنه [تبكيت لهم وتوبيخ لهم*]؛ لأن الفم أشرف الأعضاء، فاستعاره فيما لَا يليق به [**وصحح جعل الأعرف وهو قولهم لأنه أعم من المبتدأ، ولا يضاف للمبتدأ فيه]. قوله تعالى: {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ ... (32)} فأجاب الزبير بأن الاثنين جواب من قول الكافرين المشتمل هنا على ست كلمات، وهناك على ثلاث كلمات؛ لأن قبل هذه (وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ) وقيل تلك (فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ) فناسب التطويل هنا زيادة (وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا) وبإظهار أن في قوله (أنْ يُطْفِئُوا) وناسب الاختصار هناك، وقلت: وأيضا فإنه لما عبر هناك بالفعل المقتضي للتجدد وأتى معه بأداة الحصر واستغنى هنا عن ذلك لكونه عبر بلفظ الاسم المقتضي للثبوت واللزوم. قوله تعالى (فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ (35) .. انظر هذه الآية مع ما في الحديث من أن النار لا ينال محل السجود، ويجاب بأن لَا تعارض بين العام والخاص. قوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (36)} فإن قلت: ما أفاد زيادة (وَاعْلَمُوا)؟ وهلا قيل: والله مع المتقين؟ فالجواب: إما بأنه تنبيه للعاقل فيحضر ذمته، وإما بأن المراد اعلموا ذلك بالدليل والبرهان إشارة إلى وضوح الدلائل الدالة عليه، وإمَّا أنه تأكيد في الإخبار. قوله تعالى: {زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ .. (37)} .. عادة بعضهم يفرق بين في وعلى؛ بأن في تقتضي تكميل الكمية من جنسها، وعلى تقتضي الزيادة عليها مطلقا فقد يكون من غير الجنسين، ومثاله: إذا وجدت سلعة وقضت على عشرة دنانير فردت فيها إلى أن بلغت عشرين ورقمت العشرين، قلت: زدت في ثمنها لأن الزيادة هنا من الثمن؛ فإن الزيادة هنا ليست من الثمن، فدل هنا على أن النسيء كفر، لقوله: ولم يقل على الكفر. قوله تعالى: (يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا). على معنى يضل به الذين كفروا واتباعهم؛ فالذين كفروا إما فاعل أو مفعول.

ابن عرفة: فيه إشكال لأن ابن عصفور نص على أنه إذا كان حذف شيء من الكلام يصيره دائر بين معنيين متناقضين لم يجز الحذف، كقولك: رغبت زيدا فلا يدرى أرغبت عنه أم رغبت فيه، وأجيب بأن المراد الإخبار عنهم بكونهم ضالين في أنفسهم سواء ضلوا غيره أو ضلوا في أنفسهم فقط. قوله تعالى: (يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا). من باب عندي درهم ونصفه، فإن النسيء المحلل غير المحرم، ومنه قول النابغة: قَالَت: أَلا لَيْتَما هَذَا الْحمامُ لنا ... إِلَى حمامتنا [أَو*] نِصْفُهُ فَقَدِ وفي الآية إشكال لأنهم ذموا على التحليل والتحريم معا، قدمهم على تحريم ما أحل الله حسن، وذمهم على تحليل ما أحل الله قبيح، الحمد لله وقع الكلام بين ابن عرفة والطبري رحمهما الله تعالى بمحضر جماعة من فضلاء الطلبة في مدرسة ابن اللباد هذا حسي، وبمحضره على قوله تعالى: (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتقِينَ) قال ابن عرفة: لم قال: (وَاعْلَمُوا)؟ ولو قال: فإن الله ليحصل المقصود، فأجابه الخولاني بأنه تأكيد في الإخبار وتثبيت، فقال ابن عرفة: خبر الصادق لَا يحتاج إلى تأكيد؛ لأنه [مقبول*] بأول وهلة، وإنما الجواب: أنه تنبيه للغافل استحضارا له منه، ونقل عن الخولاني: أنه إنما الجواب بأن الدلائل على ذلك واضحة؛ فكأنه قال: اعلموا بالدليل لا بالتقليد ولم يرضه. ابن عرفة: وقال: إنما الجواب اعلموه دائما. قوله تعالى: (إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ). كلمة (إِنَّمَا) لَا يؤتى بها في كلام يستدعي الزيادة على المقصود فيؤتى بها للحصر، ولو قيل: النسيء زيادة في الكفر ليحصل المقصود من الرد عليهم إذ لا يصف له أحد مع كونه زيادة في الكفر شيء آخر، ولا يقول: إنه مع ذلك زيادة في غيره. قوله تعالى: (يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا). قرأ حفص وحمزة والكسائي [(يُضَلُّ) *]، وقرأ الحسن (يُضِلُّ) على معنى يضل الله به الذين كفروا أتباعهم، فالذين كفروا إما فاعل أو مفعول، قال ابن عرفة: فيرد عليه إشكال وهو أن ابن عصفور، وغيره، قالوا: إذا كان حذف شيء من الكلام يصيره احتمال معنيين متناقضين فإنه لَا يجوز الحذف لما فيه من الإخلال بالفائدة المقصودة

منه، نحو: رغبت زيدا، إذ لَا يدري هل المراد رغبت عن زيد أو رغبت في زيد، وهنا على أن الذين كفروا فاعل فهم مضلون، وعلى أنه مفعول فهم مضلون غيرهم، وذلك مناقض، وإجابة الخولاني بأن المقصود منهم بأنهم في أنفسهم ضالون سواء كانوا مضلين غيرهم إن كان الضلال واقعا بهم. قال ابن عرفة: معلوم الفرق بين من وقع به الضلال وبين من وقع منه، كما أنه معلوم الفرق بين الجاني والمجني عليه أيضا؟ نقلته من خط شيخنا التلاوي رحمه الله. قوله تعالى: (وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ). قوله تعالى: (ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ). قال ابن عطية: إنما قال: (بِأَفْوَاهِهِمْ)؛ لأن القول يكون في النفس، وفي الأفواه؛ [فارغا، وهم قالوه بالأفواه*]، أو يكون تأكيدا (¬1)، وقال الزمخشري: إشارة إلى سخافة مقالتهم، وأنه قول لا يعضده برهان كما هو الأحفظ لَا معنى له، ووجه بأن المراد بالقول المذهب، كقولهم قول أبي حنيفة؛ أي مذهبه كان قبل ذلك مذهبهم ودينهم بأفواههم لَا بقلوبهم، قلت لشيخنا: أو تقول إن الفم من أشرف الأعضاء بمن لا ينبغي أن يستعمل إلا فيما يليق، ولهذا يقال: إن البلاء موكل بالمنطق فذكر الفم على معنى التبكيت عليهم والتوبيخ لهم وذلك مبتدأ وقولهم خبر، قلت: كيف صح جعل الأعرف خبرا؟ فأجاب أن القاعدة بأن الخبر يكون أعم من المبتدأ أو القول أعم من اسم الإشارة، قلت له: ويعضدك أيضا الخبر فإن المبتدأ ينحصر في الخبر، فالمقصود حصر المشار إليه في مقالتهم، قال: فإِن قلت: كيف أفرد اسم الإشارة اثنان؟ فأجاب بأنه أفرده على معنى المذكور، أو على تنزيله منزلة المضمر وتقدم الزمخشري بنحوه، في قوله تعالى: (عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ). قوله تعالى: (وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ). قلت: آخر الآية كالمناقض لأولها، فإنه أفرد أول الآية عنهم، أنهم قالوا: المسيح ابن الله، والابن تابع للأب، وذلك يقتضي نفي كونهم سووا بينه وبين الله في العبادة فرضا على أن يكونوا عدوه من دونه، وآخرها يقتضي عبادتهم إياه من دونه، وأجاب بوجهين: الأول: أن ما المراد بقوله: (مِنْ دُونِ) مخصصة بالعبادة لا المساواة وإنَّمَا المراد أنهم مشابهون لمن عبد المسيح من دون الله؛ لأن من حق المعبود أن يشرك معه غيره. ¬

_ (¬1) النص في المحرر الوجيز هكذا: "وقوله (بِأَفْواهِهِمْ) يتضمن معنيين: أحدهما إلزامهم المقالة والتأكيد في ذلك كما قال (يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ) [البقرة: 79]، وكقوله (وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ) [الأنعام: 38]، والمعنى الثاني في قوله (بِأَفْواهِهِمْ) أي هو ساذج لا حجة عليه ولا برهان غاية بيانه أن يقال بالأفواه قولا مجردا نفس دعوى". اهـ (المحرر الوجيز. 3/ 24).

الثاني: أن يقول: التقدير واتخذوا المسيح ابن الله ربا، ولا يقدر من دون الله [ ... ]. قوله تعالى: (إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ). كان العرب يسمون المحرم صفر ويسمون الربيع بصفر. قال ابن عطية: لتجيء السنة ثلاثة عشر شهرا. قال الفخر: يريد الحساب الذي بين الشمس والقمر وليس ذلك في كل سنة بل في بعض السنين. وقال ابن عرفة: ليس مراده هذا وإنما أراد أنهم إنما سموا صفر بالمحرم وعدوا منه اثني عشر شهرا سموا المحرم الحقيقي بذي الحجة وينسون في العدد، ويجعلون المحرم في الثانية ربيع الأول، وفي الثالثة ربيع الآخر، وفي الرابعة جمادي فيبقى الشهر الذي أنفدوا منه زيادة في كل سنة وثلاثة عشر. قوله تعالى: (يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا). على قراءة (يَضلُّ به الذين كفروا) بفتح الياء وضمها لَا يصح أن يكون الفاعل الذين لأنه معنى يضل، والذين مفعول، وإما على قراءة يضل بضم الياء وكسر الضاد، وله ثلاثة أوجه: إما يضل الله به الذين كفروا، أو يضل الشيطان به الذين كفروا، أو يضل به الذين كفروا فأنعتهم وهو أقواها؛ لأنه لم يجز ذكر الله ولا ذكر الشيطان. قوله تعالى: (يُحِلُّونَهُ عَامًا). في موضع الحال. قال الخولاني: أصل الحال أن يكون بالمفرد ليكون لفظها موافقا لمعناه في النصب فلم أتى بها هنا جملة، فقال ابن عرفة: لاقتضاء الفعل التجدد بخلاف الاسم. قوله تعالى: (فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ). قال ابن عرفة: فيه سؤالان؛ الأول: لم كرر الجملة؟ فهلا قال: فيحلوه؟ السؤال الثاني: لم حذف، قلت: وقد ذكرهما في [ ... ] فانظرهما.

قوله تعالى: (زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ). انظر لم حذف الفاعل؟ قال بعضهم: للتحقير، فرد عليه بأنه لَا يحذف إلا إذا كان المفعول عظيما فيحذف تحقيرا له أن يذكر معه، لقولك: طعن عمرو، والمفعول هنا حقير. وقال ابن عرفة: حذف العلم به، فرد عليه الخولاني بأن المفسريين اختلفوا في المزين، فقيل: هو الله، وقيل: هو الشيطان [ ... ] انظر ابن عطية، قلت: إن كان المزين هو الله فالحذف للتعظيم، وإن كان الشيطان فالحذف للتحقير لأنه غير معظم. قوله تعالى: (سُوءُ أَعْمَالِهِمْ). قال: هو عندي من باب الصفة إلى الموصوف؛ لأن السوء من صفة الأعمال وهو عندهم ضعيف، والكثير الجائز إضافة الموصوف إلى صفته كصلاة الأولى، ونقله [ ... ]. قلت: وذكر الشيخ النووي الصالح في شرح مسلم في كتاب فضائل الصحابة حديث جرير بن عبد الله أن مذهب [ ... ]، وأجاز ذلك الكوفيون، فأجابه ابن عرفة: بأن عنهما عموم وخصوص من وجه دون وجه، فالشيء يطلق على الأعمال وغيرها؛ كما أن الأعمال منها السيئ والقبيح، قلت: وما قال عندي غير صحيح لجواز مررت برجل حسن الوجه، وهو باب متصور من أبواب [العربية*] فتأمله. قوله تعالى: (يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا). [**إن جعلنا المعنى السيئ بمعنى النسيء]، فظاهر وإلا فقول بفعله، [والنسيء مصدر*]. والزمخشري وأبو حيان يشكلان، فإنهما ذكرا ثلاث قراءات، [الجمهور (النسيء) بالمد، وَوَرْشٌ (النَّسِيُّ)، وبتخفيف النسي كالنَّهيِ*] (¬1). قال ابن عرفة: وهي والأول سواء، ولا فرق بينهما. قوله تعالى: (مَا). ما ظرف [والعمل في جميعه؛ لأنه محدود]. قوله تعالى: (لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ). ¬

_ (¬1) النص في الكشاف هكذا: "والنسيء مصدر نسأه إذا أخره. يقال نسأه نسأ ونساء ونسيئاً، كقولك: مسه مساً ومساساً ومسيساً. وقرئ بهنّ جميعا. وقرئ النسى، بوزن الندى. والنسى بوزن النهى، وهما تخفيف النسيء والنسيء". اهـ (الكشاف. 2/ 270). والنص في البحر المحيط هكذا: "وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: النسيء مهموز عَلَى وَزْنِ فَعِيلٍ. وَقَرَأَ الزُّهْرِيُّ وَحُمَيْدٌ وَأَبُو جَعْفَرَ وَوَرْشٌ عَنْ نَافِعٍ وَالْحَلْوَانِيُّ: النَّسِيُّ بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ مِنْ غَيْرِ هَمْزٍ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ سَهَّلَ الْهَمْزَةَ بِإِبْدَالِهَا يَاءً، وَأَدْغَمَ الْيَاءَ فِيهَا، كَمَا فَعَلُوا فِي نَبِيءٍ وَخَطِيئَةٍ فَقَالُوا: نَبِيٌّ وَخَطِّيَّةٌ بِالْإِبْدَالِ وَالْإِدْغَامِ. وَفِي كِتَابِ اللَّوَامِحِ قَرَأَ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ وَالزُّهْرِيُّ. وَقَرَأَ السُّلَمِيُّ وَطَلْحَةُ وَالْأَشْهَبُ وشبل: النسء بإسكان السين. وَالْأَشْهَبُ: النَّسِيُّ بِالْيَاءِ مِنْ غَيْرِ هَمْزٍ مِثْلُ النَّدِيُّ. وَقَرَأَ مُجَاهِدٌ: النَّسُوءُ عَلَى وَزْنِ فَعُولٍ بِفَتْحِ الْفَاءِ، وَهُوَ التَّأْخِيرُ.". اهـ (البحر المحيط. 5/ 416، 417). وقال ابن عطية: "وقرأ جمهور الناس والسبعة «النسيء» كما تقدم، وقرأ ابن كثير فيما روي عنه وقوم معه في الشاذ «النسيّ» بشد الياء، وقرأ فيما روى عنه جعفر بن محمد والزهري «النسيء»، وقرأ أيضا فيما روي عنه «النسء» على وزن النسع وقرأت فرقة «النسي». فأما «النسيء» بالمد والهمز فقال أبو علي هو مصدر مثل النذير والنكير وعذير الحي ولا يجوز أن يكون فعيلا بمعنى مفعول لأنه يكون المعنى إنما المؤخر زيادة والمؤخر الشهر ولا يكون الشهر زيادة في الكفر". اهـ (المحرر الوجيز. 3/ 32).

(38)

ابن عرفة: هو من باب مطاوعة الفعل من التواطؤ مفاعلة، ولَا يكون إلا بين اثنين والبراءة هنا [مفعولة لَا مفاعلة*]، بقوله تعالى: (فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ) ولم يقل: فيحرموا ما أحل الله، قلت له: لأن إحلال المحرم راجع للإيمان بالفعل، والترك المحرم راجع للترك، واختلف في الترك فهل هو فعل أم لا. قال الفخر: لَا يحسن أن يقال: من زنا وأكل الحلوى فاجلدوه؛ لأن تعليق الحكم على الوصف المناسب لَا يوجب ذما، [ولم يختلفوا*] إلا في تحليل المحرم، فلم قال: [يحرمونه عاما*]؟ فالجواب أنهم ذموا على مخالفتهم حكم الله تعالى واستنباطهم حكما لأنفسهم من تحليل المحرم، وأوقع الظاهر موقع المضمر [نعيا*] عليهم ومبالغة في ذمهم. قوله تعالى: (زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ). حذف الفاعل إما تحقيرا له إن كان المزين الشيطان، أو تعظيما؛ أو كان المزين الله. قال ابن القصار: أو حذف للاهتمام حسبما ذكر البيانيون أنه إذا كان المقصود بالذات المفعولة يختص بالفاعل من اللفظ، ويكتفى بذكر المفعول إشارة إلى أنه هو الله. قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ... (38)} قال الزمخشري: وكانت غزوة تبوك سنة عشر. وابن عطية: سنة تسع، والصحيح ما قال ابن عطية، وانظر ما قيد على حاشية ابن بشير في أول الجهاد. وقال الزمخشري: حذف الفاعل من قيل لكم تحقيرا للمفعول أن يذكروا معه، وقال ابن عطية: للتغليظ عليهم. وقال الفخر: وهل حذف قصدا لعموم النهي للمؤمنين إلى يوم القيامة. قوله تعالى: (اثَّاقَلْتُمْ). قال ابن عرفة: أصله تثاقلتم، قال ابن عرفة: فأدغمت التاء في الثاء واجتنبت الهمزة وصلة إلى النطق بالساكن.

قال أبو حيان: اثاقلتم في موضع الحال أي تتثاقلون إذا قيل لكم، وقال أبو البقاء: في موضع نصب أو خفض كالفعل الذي حذفت منه، إن مذهب سيبويه أن يكون في موضع نصب، والخليل في موضع جر؛ قاله ابن الصائغ، [والآبذي*]، وغيره، لقوله (إِلَى الأرْضِ) قال الزمخشري: قيل: المراد به الحقيقة أي ملتم إلى الإقامة بأرضكم، وقيل: المجاز أي ملتم إلى الدنيا وشهواتها. قال ابن عرفة: تعلق الأول بكون الألف واللام للعهد، وعلى الثاني للحقيقة الماهية. وقوله تعالى: (مِنَ الآخِرَةِ) قال أبو حيان: من بمعنى بدل؛ فهو في موضع نصب على الحال، ورده ابن عرفة: بأنه إن جعلها بمعنى بدل فلا يقرر لفظ السؤال معا ويكون المجرور متعلقا بالظاهر، قال: ومن هنا سببية وهو على حذف مضاف أي سبب ترك الآخرة، قلت: إلا لابتداء الغاية، فقال: ليس ثم ينتهي إليه وهو على حذف مضاف، والمراد بالذكر. قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ). يؤخذ منها أن وصف الإيمان لَا ينتفي مع الكبائر [ ... ]، ومنها أن صيغة افعلْ للوجوب، والأصل عدم القرائن، قيل لابن عرفة: وفيها أن الأمر يقتضي الفور، ورد بأن بيان ذلك مستفاد من مادة (انفروا)، وأجيب بأنه إن أريد أن المادة تدل على الفور [**فيما بين أحرى] [ ... ] فمسلم ولا يدل، وإن أريد فيما بين الفعل وسببه فممنوع. الزمخشري: غزوة تبوك سنة [عشر*]، ابن عطية: سنة تسع، ابن عرفة: هو الصحيح. الزمخشري: وحذف الفاعل من قبل تحقير للمفعول أن يذكر معه ابن عطية تعظيما عليهم، الفخر: قصد العموم النهي إلى قيام الساعة (فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ) مخالف لقوله تعالى في سورة الرعد (وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ)، وقوله تعالى: (وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ)

(40)

قال: والجواب بأن ذلك بالنظر إلى الحال، وهذا بالنظر إلى الحال. قوله تعالى: {إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ ... (40)} تكلم ابن عطية هنا في التوكل والمال، وحكى فيه عن والده وغيره كلاما كثيرا، وقال القاضي عياض في المدارك لما عرف بيحيى بن يحيى الليثي صاحب مالك: قال قوم ليحيى: يا أبا محمد، لو توكلنا على الله حق توكله لأتانا بالرزق إلى بيوتنا كما يأتي الطير، فقال: والله لما كان يأتي عيسى ابن مريم عليهما السلام البقل البري حيث هو جالس حتى يخرج إلى الصحراء يلتمسه. وقيل ليحيى: إن من مضى كان يتمنى الفقر، فأنكر ذلك، وقال: لَا ينبغي لمن يعقل أن يتمنى ما تعوذ منه النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، قال: وكان يحيى يلبس الوشي الرفيع -يريد القطن- من المال العظيم في الأعياد والدخول على الأمراء، وانظر ما قيدت في سورة النساء في قوله تعالى: (وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ) قال ابن عرفة: وفي الآية ثلاثة أسئلة، قال: الأول: [إِذْ أَخْرَجَهُ*] بلفظ الماضي، (إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ) بلفظ المستقبل مع أنه أيضا ماض؟ وجوابه أن الإخراج فعل الكفار فناسب فيه الانقطاع؛ فالقول من النبي صلى الله عليه وسلم فناسب لفظ المضارع المقتضي الدوام لأنها حكاية حال ماضية. الثاني: قال (لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا) ونصوا على أن المصيبة إن كانت ماضية التأسف عليها حزن، وإن كانت مستقبلة فالتفجع منها خوف، والتحسر في الآية إنما هو في أمر مستقبل متوقع لما ورد في الحديث عن أبي بكر، أنه قال: لو نظر أحدهم إلى قدميه، ولم يكن وقع شيء، فهلا قال له: لَا تخف إن الله معنا؟ قال: وجوابه أن هذا الكلام حالة الاستيلاء عليها والإحاطة بها؛ فمتعلق الحزن واقع، ولأنه إذا نهي عن التكليف على أمر واقع محقق فأحرى أن ينهي عن التقبيح من أمر مستقبل ممكن أن لا يقع، وأن لَا يقع فالنهي عن الحزن يستلزم النهي عن الخوف من باب أحرى، وأجاب بعضهم بأن الحزن متعلق بالغير، والخوف فيما يرجع للنفس، قال تعالى (وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ) وكان أبو بكر إنما حزن على النبي صلى الله عليه وسلم لَا على نفسه. السؤال الثالث: أن الأمثل تقدم العلة على المعلول، وقال هنا: لَا تحزن الله معنا فقدم المعلول عليه، وجوابه أن المخاطب هنا أبو بكر وهو مصدق لنبينا صلى الله عليه

(42)

وعلى آله وسلم في جميع إخباراته، ولا يحتاج إلى هذا الأخذ من يرتاب فيما يخبر به؛ فيحتاج إلى تقديم إذ هي الأهم المقصود. قوله تعالى: {يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ ... (42)} الزمخشري: إما بدل من سيحلفون أو حال، أبو حيان: يمتنع البدل؛ لأن الهلاك غير الحلف، قلت: قال صاحبنا أبو العباس أحمد بن القصار: وهو بدل اشتمال؛ لأن حلفهم للمؤمنين سبب في إهلاكهم، فالحلف يشتمل على الإهلاك بناء على الأول مشتمل على الثاني، والله أعلم. قوله تعالى: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ (43)} ابن عرفة: عبر في الأول بالفعل وهو صدقوا، وفي الكاذبين بالاسم إشارة التحقق والتنقيل وإن أدنى وصف في الصدق في ذلك كاف؛ فجعل الحق متوقفا على يتبين أعم الصدق، لأن صدقوا أعم من الصادقين، [وجعل المبطل متوقفا*] على أخص الكذب، ولذلك في الأول التبيين، وفي الثاني العلم، والأول أعم للمعنى الذي قررناه، وأيضا فالآية وردت بالذات إنكار على المنافقين وذما لفعلهم، فناسب الإخبار عن صفتهم الذميمة مما يقتضي الثبوت، قلت: وتقدم لنا عند ابن عرفة في الختمة الأخرى في هذه أن ابن مالك قال: من الفصاحة أن يؤتى بجملتين مع جملتين متناسبتين، كقولك (إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى (118) وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى (119). وقد علق التبيين بالصدق والعلم بالكذب فما السر في ذلك؟ قال: وجوابه أن التبيين إنما يكون فيما يظهر للوجود، والعلم يتعلق بالوجود والمعدوم، والصدق أمر وجودي، والكذب أمر عدمي؛ لأنه عبارة عن عدم مطابقة الخبر للمخبر عنه، فكذلك القدر المتعلق بالموجود والمعدوم. قوله تعالى: {أَنْ يُجَاهِدُوا ... (44)} يحتمل أمرين متناقضين: إما أن يراد لَا يستأذنونك في القعود وكراهة أن يجاهدوا، أو لَا يستأذنونك في أن يجاهدوا. قوله تعالى: {وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً ... (46)} ابن عرفة: فيها دليل لمالك القائل لاعتبار العادات ومراعاتها إذ بها تقرر الملازمة بين إرادة الخروج والإعداد، ففيها دليل على أن اعتبار العادة الفعلية وفيها قولان: لأن العادة جارية لمن يريد الخروج [يهيئ*] أسبابه. قوله تعالى: (وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ).

استشكل الزمخشري من ناحية أن لكن شرط الاستدراك لها معادة ما بعدها لما قبلها وهو هنا موافق، وأجاب بأن المعنى ما خرجوا ولكن تثبطوا [لكراهة انبعاثهم*]، ورده أبو حيان بأن التمكن أوقعت فيه بين متفقين في المعنى، وأجاب المختص بأن ما أحسن إلى أعم من كونه أشار إلى الأعم لَا إشعار له بالأخص المعني، وقول ابن عرفة: صحة الاستدراك في الآية بأنه استدراك نقيض الثاني، قال: والمعنى ما أرادوا الخروج [اختيارا*] ولكن ما أرادوه اضطرارا؛ مثل [ما قام زيد اختيارا؛ بل ما قام اضطرارا*]، فقد وقعت، لكن بين مختلفين. وأخذ [المسيلي*] في التذكرة من هذه الآية أن الأمر لَا يستلزم الإرادة. ابن عرفة: ويجاب بوجهين: الأول: أن المكروه إنما هو انبعاثهم اللاحق لهم، وهو الانبعاث الذي لَا تصحبه بقلب مخلص، بل يخرجون بأجسادهم دون قلوبهم، والمراد الخروج بنية [الطاعة*]. الثاني: أن الكراهة إن كانت صفة [منع*]، فالأخذ صحيح، وإن كانت صفة فعل فلا يتم له ذلك؛ لأن المراد أن الله تعالى أمرهم بالخروج وأراد ذلك ومنعهم منه، هكذا [يقول*] المعتزلة. قوله تعالى: (قِيلَ). هذا (وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُم) فقال ابن عرفة: هذا كلام ابن عطية، ثم قال: محصول كلامه هنا ثلاث حقائق مختلفة: والارتياب: هو إتيان الحكم المتردد فيه. والشك: هو الوقف من غير حكم. والتردد هو الحكم أولا والانتقال عنه للآخر ثم الرجوع إلى الأول. وقال الفخر في المحصول: حكم الذهن بأمر على أمر إما مع الجزم أو بدونه، والجزم إما مطابق أو لَا، والمطابق إما لموجب أو لَا، والموجب إما حسي أو عقلي أو هما، والجزم المطابق الذي [يوجبه هو العلوم الحسية والذي يوجبه*] عقلي إن كفي به جزاء القضية، ولم يحتج إلى وسط هو البديهي وإلا فهو النظر، والجزم المطابق الذي

(48)

يوجب حسي وعقلي، إما حسي السمع والعقل وهي العلوم والتوابع، أو غير حسي السمع والعقل وهي العلوم التجريبية، والجزم المطابق الذي لَا موجب له هو التقليد، وإما غير مطابق مطلق وهو الجهل المركب والخالي عن الجزم مستوي الطرفين راجحة ظن ومرجوحة وهم، انتهى. قال القرافي: جعل الشك به قسما من أقسام الحكم؛ لأنه قسم الحكم إلى جزم وغير جزم، وقسم غير الجزم إلى الشك وغيره مع أن الشك ليس فيه حكما أصلا، وأجيب بوجهين: الأول: قال الأصفهاني: الوهم حالهم وكذلك الشك [ ... ]. الظان حاكم فيلزم معه وجود الوهم وحكمه بالطرف الآخر حكما بوجه. الجواب الثاني: قال الفراء في إنما الثواب إن التقسيم قد يقع في الاسم مطلقا كتقسيم الحيوان إلى الناطق والبهيمي، وتقسيم الناطق إلى المؤمن والكافر فيلزم صدقه على المؤمن، وقد يقع في الأعم من وجه دون وجه؛ كتقسيم الحيوان إلى الأبيض والأسود، وتقسيم الأبيض إلى الحيوان والخبز واللبن؛ فالتقسيم أعم ليس الخبز واللبن بحيوان، وملتزم الأعم لَا يرد عليه ما يرد على الأخص كمن التزم أنه قتل حيوانا فإِنا لَا نلزمه القصاص لاحتمال كونه قتل [ ... ]، وهنا كذلك لَا يلزم التقسيم أصدق على أقسامه؛ لأنه لما التزم الأعم، فأورد الأصفهاني في هذا سؤالا ثم أجاب بعد كلام طويل بأن التقسيم في الأعم مطلق فلا بد من كونه مشتركا بين جائز الأقسام وإلا لم يصح القسمة. قوله تعالى: {لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ ... (48)} ابن عرفة: لما تقدمها (لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا) وهو تسلية له صلى الله عليه وسلم بأمر لم يكن أن لو كيف كان يكون عقب بأمر واقع شاهد لأن التسلية بالواقع أقوى منها بالمقدرة فهر تقرير لما قرر وقوعه، قيل في قوله تعالى: (لَوْ خَرَجُوا) هذا شأنهم وقد سبق لهم فعل مثله، قال: وفي فهمهم الآية إشكال، وهو أن القاعدة أن ما بعد الغاية مخالف لما قبلها؛ فيوهم ظاهر الآية أنهم لما جاء

(49)

الحق ظهر أمر الله تابوا ورجعوا عن ابتغاء الفتنة، والفرض أنهم لم يزالوا منافقين، قال: وأجيب بوجهين: الأول: إذا قلنا كانوا أولا يبغون الفتنة ويقاتلون ويضرون المؤمنين بفعل على أكثر الإسلام وضعف الكفر، صاروا يضرونهم بإيقاع الفتنة بينهم فقط لَا بنصرة الكفار عليهم فالغاية بينة، ورده ابن عرفة لَا ينتفي السؤال لأن أول الآية (لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا). الجواب الثاني: أن الآية راجعة إلى الأخير فقط لأن ابتغائهم الفتنة لم يزل واقعا منهم وتقلبهم الأمور وتجمعهم على المؤمنين انقطع يظهرون الحق فلم يقدروا عليه، قلت: وتقدم لابن عرفة في الختمة الأولى أن في الآية أسئلة: الأول: أنه قال قبلها (يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ) وهذا (لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ) فعبر أولا بالأصل وهنا بالمطاوع، قال سيبويه: يقال عممته فانعم وغممته فاغتم، فمطاوعة الفعل وافتعل فانتفى مطاوعة نفي فالسر في ذلك؟ فالجواب أن ابتغى أخص من كسرته؛ لأن كسرته محتمل لأن يكون الكسر أولا؛ إذ لَا يدل إلا على محاولتك الانكسار فقط على أنه انكسر؛ فعبر بالإبغاء في الأولى، وبالأخص بالثاني ليكون بيانا عقيب إجمال. السؤال الثاني: لم أفرد الفتنة وجمع الأمور، والمناسب كان العكس؛ لأن الفتنة مصدر محدود بالتاء الدالة على الواحدة، والأمر جنس فيه وعلى القليل والكثير، والجواب أن الأمر أسباب للفتنة، والفتنة [غيرٌ*] عنها والأصل اتحاد المسبب وتفرد سببه لا العكس، كما يستدل على مسألة بأوله جملة، ولا يرمى طائران بحجر واحد. السؤال الثالث: لم عبر [بـ حتى*] المقتضية لدخول ما قبلها فيما بعدها، وهلا كانت الغاية بإلى لأنهم بنفس ظهور أمر الله ارتفع تغطيتهم الأمور، فقال: إشارة إلى ذواتهم على ذلك عند ظهوره بآدمي الأمر وأنهم لم يرتجعوا حتى ظهر صنع أمر الله. قوله تعالى: {أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا ... (49)} ابن عرفة: هو عندي من باب قلب النكتة؛ وهو أن يستدل الخصم بدليل فيأخذ خصمه بذلك الدليل، ويستدل على نقض مدعاه، كقوله تعالى: (لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ). قوله تعالى: {إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ ... (50)}

(52)

ذكر الحسنة والمصيبة تقليلا إشارة إلى تأثرهم لأدنى شيء من ذلك، ولذلك عبر بإن دون إذا؛ إشارة لها ولم تكن محققة، وقدم الحسنة لأن فعبر [ ... ]. الحسنة حصلت لعدوه أشد من فرحته لمصيبة نزلت به؛ لأن رفع المؤلم آكد من جلب الملائم، فإن قلت: لم جعل الحسنة موجبة لوصف واحد، والمصيبة لوصفين؟ قلنا: لأن الإنسان إذا علم بحسنة نالت عدوه فإنه يتألم لذلك ويخفيه، وإذا علم بمصيبة نالت عدوه فإنه يفرح لذلك ويظهر للناس تشفيا فيه، فإن قلت: أصل الحال أن يكون تقريره، فهلا قال: وتولوا فرحين، قلنا: إشارة إلى ملازمة فرحهم كقولهم: من أوله إلى آخره؛ لأن جاء زيد ضاحكا أبلغ من جاء زيد ضحك. قوله تعالى: {قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ ... (52)} إن قلت: لم أتى في الأول بأداة الحصر دون الثاني، فالجواب: أن الحصر في الأول وإن لم يؤت به في الثاني؛ لأن حالهم غير منحصر في أن يصيبهم العذاب، إذ قد يقولوا: فلا يصيبهم العذاب بوجه، فإن قلت: لم عدل من صريح النفي إلي مجازه المستفاد من الاستفهام؟ قلنا: لأن الاستفهام يقتضي الموافقة، إذ لَا يقول: هل زيد إلا قائم إلا من يعلم أنه يوافقك، فإن قلت: لم وصف حالتي المؤمنين [بالحسنيين، وعين*] حالتي حال المنافقين ولم يصفهما بالسوأتين؟ فالجواب: أن المنافقين كانوا يزعمون أن موت أحد المؤمنين ليس بحسن، وكذلك ظفرهم بالمؤمنين، فعبر عن هذين الوصفين الأخيرين بالحسنيين، ولما كان [نفس*] الوصفين الأخيرين [غير*] قبيحين عند المنافقين لم يحتج إلى وصفها [بالقبيحين*] اكتفاء بنفيهما. قوله تعالى: (قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ). قلت: في الآية ستة أسئلة: السؤال الأول: لم يعطفه بالواو وهو من تمام قوله تعالى: (قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا)؟ وجوابه: أنك إذا قلت: إن جاءك زيد فأعطه درهما، أو أكرمه اقتضى الجمع والإفراد، وهنا لو عطف بالواو لتوهم أنه يخرج من عهدته بأن يقول: هم أشد الشيئين فقط.

(53)

السؤال الثاني: (هل) استفهام فيه معنى النفي، فلم عدل من صريح النفي وحقيقته إلى مجازه؟ وجوابه: أن الاستفهام يقتضي أن المستفهم موافق. ألا ترى أنه لَا يجاب بنعم ولا بلا، فلا تقول: [هل زيد إلا قائم إلا من تعلم*] أنه يوافقك [فإِن لم يوافقك*]، قلت: ما زيد إلا قائم، والمنافقون يوافقون على أنهم ما يتربصون بهم إلا لأحد أمرين. السؤال الثالث: لم أتى في الأول أداة الحصر ولم يأت بها في الثاني، فقال: ونحن نتربص بكم من غير حصر؟ وجوابه: أن المنافقين لما كانوا يتربصون واحدا من ثلاثة؛ إما الظفر بهم، أو الموت مجاهدين، أو الموت من غير ثواب؛ [احتيج*] للحصر، والمؤمنون يتربصون بالمنافقين المذكورين في الآية، وأمر ثان [هو*] أن يسلموا فيحسن حالهم، لم يؤت بالحصر لأجل هذا. السؤال الرابع: [لم وصف حالتي المؤمنين بالحسنيين*]، [وعين حالتي حال المنافقين ولم يصفهما بالسوأتين*]. وجوابه: أن المنافقين لما كانوا يزعمون أن الظفر بالمؤمنين أو موت أحدهم ليس بحسن، عبر عنهما بالحسنيين، ولما كانا نفس الوصفين الأخيرين لم يحتج إلى [التعبير*] عنه بوصف القبح اكتفاء بنفيهما. السؤال الخامس: الحسن تأنيث أحسن وهو يقتضي التفضيل وأنها أحسن العواقب والأخرى لذلك فكيف يتصور الجمع بينهما؟ وجوابه: أن الحسن والحسنى مستويان أو أحدهما أفضل وهو الموت مجاهدا، يفضل الآخر على ما سواه. قوله تعالى: {أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ ... (53)} إن قلت: لا يلزم من نفي القبول نفي الإجزاء، فالجواب: أن من لوازم الإجزاء رجاء القبول، فإذا انتفى القبول انتفى رجاؤه، فانتفى الإجزاء لضرورة أنه يلزم من نفي اللازم [نفي الملزوم*]، هذا إن قلنا: إن الإجزاء مغاير للقبول، وإن قلنا: إنهما متساويان فالسؤال [لم عبر بقوله تعالى*]: (لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ) ولم يقل: [لَوَلَّوْا وَهُمْ يَجْمَحُونَ إليه*] مع أنهم لم يتقدم لهم استقرار فيه؛ لأن الأول أبلغ من حيث إن مضي الإنسان لما تقدم له [فيه*] استقرار أسرع منه لما لم يتقدم له منه استقرار فيها.

(55)

قوله تعالى: {فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ... (55)} وقال تعالى بعدها [(إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ) *]؟. قال ابن الخطيب: اللام هنا بمعنى (أَنْ)، فلا يصح أن تكون لام [كي*] لئلا يلزم عليه مذهب المعتزلة في أن [أفعاله تعالى*] معللة، وأنه إنما يفعل للغرض، قلت: أبطله الأستاذ أبو العباس ابن القصار بأنه لم يذكر أحد من النحاة كون اللام بمعنى إن، قال: والصواب إن كان يقول أنها زائدة، كما زيدت في قوله: أريد لأنسى ذكرها فكأنما ... تمثل لي ليلى بكل سبيلِ قال: لكن يرد عليه أنها ناصبة بإضمار (أن) بعدها؛ [فلما بينت*] عن (أن) ضعف كونها زائدة إلا أن يجاب بأن هذا الموضع ما يصح فيه إظهار (أن) أو إضمارها. قوله تعالى: (وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ). ابن عرفة: قال في التي قبلها (لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ) فجعل الفسق علة في عدم القبول، وإن جعله هنا مانعا من القبول، وجوابه أن الفاء فيما يحتاج إلى دليل؛ لأن الأصل العدم، وهناك نفي القبول فعلله بعلة واحدة وهي الفسق وهنا أثبته؛ لأن المنع إنما يكون لما ثبت ولأن القبول في اللفظ مثبت، لقوله (أَن تُقْبَلَ) فاستدل عليه بثلاثة أدلة، ولأن المنع من وجود المفسدة أقوى من العلة في عدمها؛ لأن المانع دافع لها بعد أن كانت في مادة الثبوت، ولهذا استدل ثلاثة أمور، وهي: الكفر، والكسل في الصلاة، وكراهة النفقة، قلت له: وفي الآية أسئلة: الأول: ما فائدة الحصر؟ فقال: احتمال كون المانع من القبول قصدهم، والنفقة الرياء والسمعة مع كفرهم وكسلهم في الصلاة. الثاني: لم عدل عن المفعول الصريح إلى الجملة وهي (أَنْ تُقْبَلَ). الثالث: لم أخر النفقات عن المجرور؟ الرابع: أن القبول أخص من الإجزاء، ونفي الأعم يستلزم نفي الأخص ولا ينعكس، فهلا قيل: وما منعهم أن يجزيهم. الخامس: ما يصنع إلا ما هو في طاقته وقبول نفقتهم ليس من كسبهم، فقال: سنته من كسبهم، وهذا السؤال إنما يرد إذا جعلنا فاعل منعهم ضمير عائد على الله،

(60)

و (أَنَّهُمْ كَفَرُوا) مفعولا من أجله، قلنا: لو جعلنا أنهم كفروا هو الفاعل فلا سؤال؛ لأن كفرهم من فعلهم. السادس: لم عبر عن كفرهم بالماضي [ ... ] كسالى بالمستقبل؟. السابع: لم أتى بالحال في (وَهُم كُسَالَى)، و (وَهُمْ كَارِهُونَ) جملة وأصلها أن تكون مفردة [ ... ] لَا يأتون الصلاة إلا كسالى ولا ينفقون إلا كارهون. الثامن: لم أعاد حرف الجر، فقال (كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ) [ ... ]. قوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ ... (60)} قال ابن عرفة: كان الفقيه أبو قاسم الغبريني يفتي في [ ... ] أنه يصح أن ينبني به السور. قوله تعالى: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ... (63)} قال ابن عرفة: يؤخذ منه أن [مَن*] يخالف الإجماع كافر، كما قالوا في (وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى). قوله تعالى: {لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ ... (66)} يؤخذ منه أن شاهد الزور إن تاب وحسن حاله لَا تقبل له شهادة؛ لأن هؤلاء [عُيِّرُوا بكفرهم بعد إيمانهم*] ولم تقبل لهم معذرة، وهذا بناء على تفسير المعذرة [بالتوبة*]. قوله تعالى: (إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ). قال ابن عرفة: تقدمنا فيها إشكال من ناحية أن [القضية*] الشرطية المتصلة يلزمها منفصلة مانعة الجمع من غير مقدمها ونقيض تاليها ومانعة [الخلو*] من نقيض مقدمها، وعين تاليها متعاكسين علمها هكذا ذكر الخونجي في [الجمل*] نحو: كلما كانت الشمس طالعة كان النهار موجوداً فيلزمها؛ وهي إما أن تكون الشمس

(67)

طالعة، وإما أن لَا يكون النهار موجودا فيجيء هنا المنفصلة إما أن يعفو عن طائفة منكم، وإما أن لَا يعذب طائفة، وهذان ليسا بنقيضين فلا يمنع اجتماعهما وكان [الآبذي*] وبعض الطلبة أجابني بأن ذلك إنما هو في القضايا العقلية، وأما القضايا الشرعية فليست كذلك، ويكون اللزوم هنا إيقافيا لَا عقليا، مثل: كلما كان الإنسان ناطقا كان الحمار ناهقا، قال: وأجاب الحقيقي بما قال الزمخشري من أن وجه اللزوم بينهما مختلف؛ فلزوم العفو عن الأولى لهدايتهم، والعدل في الثانية ملزوم الطائفة الأولى عن الثانية، قلت: قال الزمخشري: إن يُعف عن طائفة منكم بتوبتهم تُعذب طائفة بإصرارهم على النفاق. قوله تعالى: (بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ). يؤخذ منه تعليل الحكم الواحد بعلتين منتقلتين؛ لأن سياق الآية أنهم عللوا بوصف النفاق؛ لأن ذكر الوصف المناسب عقيب الحكم يشعر بكونه علة له، ثم عللوا بالإحرام. قوله تعالى: {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ ... (67)} قال ابن عرفة: كان بعض الطلبة يرد بها على من قال: أن اقتلوا المشركين مخصوص بالنساء والصبيان، قال: لأن هذه دالة على عدم دخول النساء في جمع المذكر السالم، العطف المنافقات على المنافقين والعطف يقتضي المغايرة. قوله تعالى: (بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ). يحتمل أن يرى بعض الرجال من الرجال، وبعض النساء من بعض النساء، أو بعض المجموع من المجموع، والله تعالى أعلم. قوله تعالى: (يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ). فيه أن النهي عن المعروف منكر. قوله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ ... (68)} لما تقدمها (نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُم) يقتضي عدم الرحمة فقط، وعدم الرحمة لا يستلزم العذاب عنها ببيان أنهم مع ذلك معذبون، فإن قلت هلا قيل: والكافرون والكافرات، كما قال (الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ)؟ فالجواب: أنه لما كان المقصود بالذم المنافقين بولغ في وصفهم ما لم يبالغ في الكافرين. قوله تعالى: (هِيَ حَسْبُهُمْ).

(69)

أي كافيتهم. لأن فيها من العذاب الشديد ما فيه كفاية، وينالهم مع ذلك ما هو أشد وهو العذاب المقيم القائم. قوله تعالى: {كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ ... (69)} إلى قوله (وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا) الزمخشري: إن قلنا: هلا قال: خضتم فخاضوا، كما قال (فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ)؟ وأجاب بوجهين قرره ابن عرفة بكلام الشيخ عز الدين؛ وهو أن الشارع إنما رتب الزواجر على ما تميل إليه النفس من المعاصي، وأما ما تنفر النفس عنه فلا يحتاج فيه إلى زاجر فإنه رتب الحد على شرب الخمر ولم يرتبه على شرب البول مع أن كلاهما نجس محرم، ولا شك أن التمتع بالملابس والمطاعم والمشارب أغلب وأكثر من الخوض في الكلام، فلذلك أطنب فيه [قصدًا*] للتيقن منه ما لم يطنب في الآخر. ابن عرفة: وأجاب بعضهم بأنه حذف من الثاني لدلالة الأول عليه. قال: وتقدمنا جواب ثالث، وهو أن التمتع له أثر فيما وقع به الذم لأن التمتع بالإنفاق مع كثرة المال وكثرة الولد أشد وأقوى منه قلتهما؛ فكذلك فيه [فوجه*] الذم هنا أنهم جعلوا حالهم في كثرة الإنفاق مع قلة المال وقلة الولد كحال أولئك في إنفاقهم مع كثرة ولدهم؛ بخلاف الخوض فإنه لَا أثر له في الوصف المذكور في الآية يستوي فيه قليل المال والولد مع كثير المال والولد. قوله تعالى: {أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ ... (70)} ابن عرفة: أخذوا عنه أحد ثلاثة أمور: إما أن خبر التواتر [يفيد*] العلم أو الظن، أو أن خبر الواحد يجب العمل به لأن هذا الخبر إن كان مستفادا بالتواتر أفاد العلم؛ [ذم*] هؤلاء على عدم العمل به، فلولا أنه يفيد العلم أو الظن [لما ذموا*] على عدم العمل به، وإن قلتم: إنه خبر واحد فينتج وجوب العمل به أي فعلتم به كفعل هؤلاء بك وقد [ ... ]. العذاب فلا تأمنوا من نزول العذاب بكم، قال: وفي الآية تمسك لصحة العمل بالقياس كما أخبره الخبر، من قوله تعالى: (فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ). قوله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ ... (72)}

(73)

ابن عرفة: [كان الطلبة*] يقولون: هذه الآية إما حجة مرضية [**ولا يعتزله] [فإن*] كان المراد الإيمان مجرد التصديق كانت حجة، وحبذا القائلين بأن كلمة التوحيد كافية في دخول الجنة، وإن كان المراد الإيمان مع العمل الصالح، كانت حجة للمعتزلة القائلين بأن العاصي مخلد في النار. قال: وأجيب بأن الألف واللام في المؤمنين للعهد فالمراد المؤمنون المتقدم ذكرهم، في قوله تعالى: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ) إلى آخر الآية فهم المتصفون بهذه الصفات. قوله تعالى: {وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ ... (73)} الصواب: جعل مبتدأ الأخير لأن المأوى أعم، وجهنم أخص فيفيد الحصر أي [لا مأوى لهم إلا جهنم*]، وإن كان العكس لم يفد الحصر. قوله تعالى: {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ ... (74)} حكى ابن عطية هنا مقالين، قيل: إنها نزلت في [الجلاس بن سويد. ابن عرفة] [ ... ].، وقيل: في عبد الله بن أبي ابن سلول، فالحالف إما إنما هو رجل واحد فكيف [ ... ] الضمير في الآية، وأجاب ابن عرفة بوجهين: أنه [ ... ] واتباعهم من المنافقين [راجعون [ ... ] وراضون بيمينه]. الثاني: سمعه اعتبارا بخلاف اليمين فيكون حلف إيمانا، كما قال الفخر في (إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَت قُلُوبُكُمَا) أنه جميعه لاختلاف حالات القلب، وأسند عليه [الآبذي*] في شرح الجزولية، فقلت: [ ... ] الفراقد كلها يمينا، ويهوي النجم من غير شمالك، ابن عرفة وكلمة الكفر عندي من باب الأعمال لاحتمال كونها بما قالوا، أو لقوله (وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ) وجعل الشك في الكفر كفر؛ لأن الجلاس إنما قال: إن كان قول محمد حقا لنحن شر من حميرنا هذه. قوله تعالى: (وَمَا نَقَمُوا).

(78)

أي وما أنكروا وما عابوا (إِلَّا أَن أَغنَاهُمُ اللَّهُ) والضمير عائد على المنافقين. ابن عرفة: وهو من تأكيد المدح بما يشبه الذم، كقوله: ولا عيبَ فيهم غيرَ أنَّ سيوفَهم ... بهنَّ فلولٌ من قراعِ الكتائبِ ويحتمل أن من تأكيد الذم بما يشبه المدح، كقوله: هو الكلبُ إلاَّ أنَّ فيه ملالةً ... وسوءَ مراعاةٍ وما ذاكَ في الكلبِ لكن هذا يحتاج إلى إضمار وعامة. قوله تعالى: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ ... (78)} ابن عرفة: السر والنجوى فيهما عموم وخصوص من وجه، فالسر مختص بحديث النفس، والنجوى مختص بحديث الجهر ويشتركان فيما يحدث به الإنسان بينه وبين آخر بحيث لَا يسمعهما غيرهما. قوله تعالى: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ ... (80)} وقرره المفسرون بمساواة الاستغفار وعدمه، وعادتهم يقررونه بأنه جعل الاستغفار حالة كونه مأمورا مساويا للاستغفار لهم حالة كونه منهيا عنه؛ أي الأمر به مساو [للنهي*] في عدم الفائدة وهو أقوى، ومساواة الاستغفار [للعدم*]؛ لأن الأمر والنهي ضدان، والأمر بالاستغفار لمن لَا يقع فيه الاستغفار مساو للنهي عن الاستغفار. قوله تعالى: {فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ ... (81)} ابن عرفة: عادتهم يفرقون بين الفرح والسرور بأن غالب عرف القرآن، الفرح يطلق على الأمر الملائم الذي ما له [إلا*] السوء، قال تعالى (لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ)، (حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أخَذنَاهُم بَغْتَةً)، (ذَلِكُم بمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيرِ الْحَقِّ وَبمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ)، فَرد عليه بقوله تعالى: (وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِ) قال: وما قال المخلفون باسم المفعول مع أن التخلف ما وقع منهم فهم الفاعلون له إشارة إلى أن صيغة الأفعال أبلغ من صيغة الفاعلية، وأيضا ففيه

(83)

تنبيه على استغناء النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم والمؤمنين عنهم [ ... ]. وعدم احتياجهم إليهم حتى كأنهم يخلفونهم بأنفسهم. قوله تعالى: (وَكَرِهُوا). إن جاء هذا ليس بتكرار لأن الفرح بالشيء لَا يستلزم كراهة ضده؛ بل قد يكرهه وقد لَا يكرهه، هذا إن قلنا: إن نقيض المستحيل ليس بمكروه. قوله تعالى: (فِي سَبِيلِ اللَّهِ). إشارة إلى أنهم كفروا بالله ورسوله، فالكفر بالرسول في قوله (بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ)، والكفر بالله في قوله (رَسُولِ اللَّهِ) ولم يقل: مع رسوله فهم كرهوا الجهاد للإيمان بالرسول وبالإيمان بالله. قوله تعالى: {فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ ... (83)} ابن عرفة: رجوعه من غزوة تبوك تحقيق الوقوع، فهلا عبر عنه بـ إذا، وأجيب بوجهين: أحدهما: أن الشرط مركب من جملتين؛ أحدهما: قوله (فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ) استئذانهم له غير محقق. الثاني: أن المحقق إنما هو الرجوع إلى بلده، وأما رجوعه إلى طائفة منهم فمعنى محقق؛ لأن المرجوع إليهم هم المنافقون الذين [يخلفون*] لغير عذر إشارة إلى أن الرجوع إليهم يوهم أن الحاجة إليهم داعية، وأنه مضطر إلى الاستعانة بهم؛ فعبر بإن إشارة إلى أن لم يرجع إليهم وإنه إنما رجع إلى بلده فالرجوع إليهم غير واقع. قوله تعالى: (فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ). ولم يقل: فاستأذنوك في الخروج؛ لأن الكلام يحتمل [ ... ] بها أن يكون مرغوبا فيه، أو مرغوبا عنه، فيحتمل أن يكون مرغوبا فيه أو مرغوبا عنه، فيحتمل أن يكون قصدهم الإقامة. ابن عرفة: وعادتهم يقولون لأي شيء أتى بالفعلين الأولين بصيغة الخبر وهما لم يخرجوا ولم يقاتلوا، وأتى في الثالث بصيغة الأمر، فهلا قيل: لن يخرجوا [ولن*] يقاتلوا معي عدوا فقعدوا مع الخالفين، أو يقال: لَا تخرجوا معي أبدا، ولا تقاتلوا معي عدوا فقعدوا مع الخالفين.

(84)

ابن عرفة: والجواب أنه أتى في الأولين بلفظ الخبر تحقيقا لوقوع متعلقهما؛ بخلاف ما لو كانا بلفظ النهي. وأتى في الثالث بلفظ الأمر المقتضي للذم والسخرية والاستهزاء، كقولك لمن يقصد السخرية به: اقعد مع النساء؟ فهذا أبلغ في الذم من قولك: أنت تقعد مع النساء. قوله تعالى: (إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ). ولم يقل: إنكم قعدتم ليتناول من خرج منهم راضيا بقعود من قعد منهم. قوله تعالى: {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا ... (84)} أخذوا منها وجوب الصلاة على المؤمنين من ناحية مفهوم الصفة، في قوله (مِنْهُم)؛ ولأن الأمر بالشيء نهي عن ضده، والعكس، قيل لابن عرفة: والآية حجة للقول الذي حكى ابن الحاجب في مختصره: الأصل من أنه صلى الله عليه وسلم يجوز عليه الخطأ في اجتهاده، ولكن لَا يقر عليه، فقال ابن عرفة: ليس كذلك؛ لأنه إن لم يكن صلى عليهم فلا كلام، وإن كان صلى عليهم فنقول: هذا تجديد حكم في المنافقين وللمنافق أحكام كانت تجدد شيئا بعد شيء. قوله تعالى: (وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ). أخذوا منه جواز زيارة القبور كما أخذوا من الأول وجوب الصلاة على المؤمنين، وأجيب بأن المقام على القبر يصدق بالحضور وقت الدفن. قال أبو جعفر ابن الزبير: وإنما قال هنا: (وَلَا تُعجِبكَ)، وقال في التي قبلها: (فَلا تُعْجِبكَ)؛ لأن الآية المتقدمة عليها (وَمَا مَنَعَهُم أَن تُقْبَلَ مِنْهُم نَفَقَاتُهُم) وهي كلها جملة خبرية منفية، فكان هذا النهي سببا عنها فناسب عطفها بالفاء؛ [لأن*] فيه معنى الشرط والجزاء؛ أي إذا كانت هذه حالهم فلا [تغتر*] بما لديهم من المال والولد، وهذه الآية تقدمها جمل طلبية لَا قبلها (وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا) فناسب عطف النهي على النهي بالواو المقتضية للجمع من غير ترتيب، ولذلك زيدت بها في الآية المتقدمة لما كان فيها معنى الشرط والجزاء المقتضي للتأكيد والإطناب، ولذلك قال فيها (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذبَهُم) باللام التي هي أصرح في تعجيل، وإذا أظهرت فيها معنى [التراخي*] حسبما نص على ذلك سيبويه في الجواب بالفاء من كتابه، ولذلك قال هناك (فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا) فأكد بزيادة لفظ الحياة لتجري الآية على وتيرة واحدة. قوله تعالى: {رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ ... (87)}

(91)

ابن عرفة: الطبع سبب في رضاهم بالتخلف، فهلا قدم عليه، قلت: يجاب بأنه إشارة إلى دوام ذلك [والعبرة*] بالخاتمة. قوله تعالى: {إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ ... (91)} إن الحرج أخص من السبيل؛ فلذلك استعمله في الثبوت، واستعمل السبيل في [النفي*]؛ لأن الحرج هو نيلهم الألم الحسي، والسبيل يعم الألم الحسي والمعنوي، [**ومر عليهم ونائلتهم بالكلام فقط]. قوله تعالى: {تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا ... (92)} ابن عرفة: العين لها جمعان: قلة، وكثرة، وذكر المفسرون أن هؤلاء [البكاءون*] ستة كعيونهم اثنا عشر فهو يجمع جمع كثرة لَا قلة، قال تعالى (وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا) فلم جمعهم جمع قلة، وأجاب بأن المراد ذواتهم لَا تقر عيونهم؛ لأن الحزن إنما ألحق ذواتهم. قوله تعالى: (أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ). ابن عرفة: هلا قيل: ألا يجدوا عندك ما تحملهم عليه ليكون آخر الآية مطابقا، وأجاب بأن ما [يدفعدهم*] إلا التفقه، فكانوا أولا طائعين فيها من [ ... ]. قوله تعالى: {إِنَّمَا السَّبِيلُ ... (93)} ابن عطية: (إِنَّمَا) هنا ليست للحصر، وقال السفاقسي: بل هي للحصر ولم يبين ذلك، ابن عرفة: وجهه معرف بالألف واللام العهدية فهو السبيل المخصوص المتقدم الذكر وهو [ما لك عليهم سبيل آخر*]. قوله تعالى: {يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ ... (94)} [عبر هنا بـ[(إِذَا)] وقبلها، [فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ*]، فعبر بـ (إِنْ)، والجواب أن الفاعل في الأول هو الأول، والرجوع مستند إلى الطائفة، فقد يقال: إن الله تعالى رده إلى الطائفة اضطرارا لتستمد بهم وتستعين على أغراضه، وهذا مشكوك في وقوعه بل هو غير واقع ألبتَّة، فلذلك عبر بإن والرجوع هنا فاعله ضمير المؤمنين، ولا شك أن رجوعهم في الظاهر هو إليهم، أي إلى وطنهم ومحلهم، وهذا أمر واقع. قوله تعالى: (قُلْ لَا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ). أتى بالاعتذار منهيا منه بالإيمان مخبرا عنه لَا منهيا؛ إشارة إلى تحقق وقوع عدم الإيمان بهم.

(95)

قوله تعالى: (وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ). الرؤية إما بمعنى العلم أو [أنها على*] بابها فإن كانت بمعنى العلم فإما أن تكون السين للتحقيق لَا الاستقبال، وإما أن يقال: مراد التعلق [التنجيزي لَا الصلاحي؛ لأنه قديم والتنجيزي*] حادث؛ فتكون الرؤية بمعنى الظهور، أي سيظهر لكم ما علمه الله من أعمالكم، وإن كانت الرؤية على بابها بصرية فتكون الآية حجة لأهل السنة، فإِن الوجود مصحح للرؤية؛ لأن العمل معنى من المعاني فيه تعلقت الرؤية بالمعنى. قوله تعالى: {سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ ... (95)} ثم قال (يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ) ابن عرفة: يحتمل أن يريد تكرير الحلف منهم؛ فيحلفون أولا طلبا للإعراض، وثانيا طلبا للرضى، ويحتمل أن يكون الحلف الأول لَا من اتباعهم؛ لأنهم في منزلة من يخاف العقوية فيحلفون قصدا للإعراض وطلبا للمسالمة فقط، والثاني من رؤسائهم؛ لأنهم في منزلة من لَا يخاف العقوبة فيحلف قصدا لرضاء المؤمنين عنه. قوله (لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ ... (96) ... بفتح الضاد مع أنه مضارع، وقال (رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ) بضم الضاد مع أنه ماض، فهلا كان العكس؛ فالجواب أن رضوا من رضي فأصله رضيوا؛ [فاستثقلت الضمة على الياء، ونقلت إلى الضاد وحذفت الياء لالتقاء الساكنين*]. وأما قوله: (فَإِنْ تَرْضَوْا) فأصله فإن ترضوا عنهم؛ لأنه من رضي يرضى فحذفت الألف لالتقاء الساكنين، وهي ما قبلها مفتوح دليلا عليها. قوله تعالى: {مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَمًا ... (98)} يحتمل أن يريد من يتخذ [مأخذه منكم فينفقه مغرما؛ لأن المؤمنين كانوا يعطونهم المال طلبا لاستيلائهم، ويحتمل أن يريد [(مَنْ يَتَّخِذُ) *] ما يعطيه [للجهاد*] والغزو مغرما، وهو الظاهر. قوله تعالى: {وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ... (99)} ابن عرفة: إيمانه باليوم الآخر دليل على إيمانه بالرسول من باب أحرى؛ لأن الدار الآخرة إنما علمت من الرسول. قوله تعالى: (قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ).

(100)

ثم قال (أَلَا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ) فجمعها أولا اعتبارا بحالات الإعطاء، وأفردها لأنها اعتبار بما عند الله تعالى؛ لأنها صدقة واحدة من شخص واحد. قوله تعالى: (سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ). إن أريد بالرحمة الجنة فالسين على بابها، وإن أريد نفس الرحمة فالسين للتحقيق، وهو إشارة إلى أنه لَا يجب على الله شيء، وأن التعميم والثواب اللاحق لهم بالصدقة، إنما هو محض لفضل من الله تعالى. قوله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ ... (100)} ابن عطية: قرأها عمر برفع الأنصار، فرد عليه زيد وقال: إنما هي بالخفض، فأرسل عمر إلى أُبي فوافق زيدا، فقال عمر: ما كنا نظن إلا أنا رفعنا رفعة لم يبلغها أحد؛ [إشارة إلى السبق*] لم يختص في الخفض بهم بل شاركهم فيها الأنصار، كان المراد الأولون من الجميع. ابن عرفة: وكان تقدم لنا الرد عليه بأنه ليس المراد الأولين من هؤلاء؛ بل المراد الأولون من مجموع المهاجرين والأنصار، وإذا قيل: من هم الأولون من المجموع؟ قيل: المهاجرون فقط، كقولك: أكرم الصلحاء من بني فلان وبني فلان. قوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً ... (103)} ابن عرفة: لفظ الأموال مخصوص؛ لأنه يخرج منه ما لَا زكاة فيه [كالثياب والرباع ونحوه*]؛ قاله ابن عطية. ابن عرفة: بل هو محتمل فلا يحتاج إلى تخصيصه لدخول (مِن) عليه التي هو للتبعيض، فالأخذ من بعض الأموال لَا من كلها، قيل لابن عرفة: بل هو عام؛ لأنه جمع مضاف إلى مضمر، والمضمر كله لَا كل؛ أي خذ من أموال كل واحد منهم، فيأخذ بعض مال كل واحد منهم حسبما نص عليه الأصوليون في هذه الآية، وقالوا: يحتمل أنها تكون عامة أو مجملة، فقال ابن عرفة: الظاهر فيها الإجمال، وأن الأموال جمعت على التوزيع؛ فالمأخوذ بعض مال هذا وبعض مال هذا؛ لأن المأخوذ بعض أموال كل واحد. قوله تعالى: (تُطَهِّرُهُمْ) أي من الذنوب. قوله تعالى: (وَتُزَكِّيهِمْ). أي تحصل لهم الأوصاف الجميلة.

(104)

قوله تعالى: (وَصَلِّ عَلَيْهِمْ). فيه جواز الصلاة على غير الأنبياء، وقد يقال: لَا يلزم من إباحة ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم إباحته لغيره. قوله تعالى: (وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ). أي سميع لأقوالكم عالم بسرائركم، فيعلم المنافق والمؤمن. قوله تعالى: {وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (104)} وصف الرحمة إشارة إلى أنه لَا ينتفع بالصدقة بوجه، وإن أخذه لها ليس حقيقة؛ بل هو على سبيل الرحمة بعباده في رجوع منفعتها إليهم. قوله تعالى: {لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا ... (108)} ابن عرفة: التأكيد بقوله (أَبَدًا) يؤخذ منه أن النهي لَا يقتضي التكرار. ابن عرفة: وكان بعضهم هذا جار على ما قرره أهل العلم المعقول من أن الموجبة الجزئية تناقضها السالبة الكلية؛ لأنهم على ما قال المفسرون طلبوا منه صلى الله عليه وسلم أن يأتي لمسجدهم فيصلي لهم صلاة واحدة، فنهاه الله تعالى أن يصلي فيه دائما، وعليها في سورة الأنعام (إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ) فقد أتوا بالسالبة الكلية، وأجيبوا برفعها بالموجبة الجزئية. قوله تعالى: (مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ). جزء من اليوم فهي زمان، لذلك أضمروا مضافا لذلك، تقديره: من تأسيس أول يوم. قوله تعالى: (أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ). ابن عرفة: أخذوا منها أن صلاة النافلة في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم أولى منها في البيوت، خلافا لمالك فإنه كرهها إلا للغرباء؛ فإنه استحقها للغرباء وهذا خشية الوقوع في الرياء، والمراد بالمؤسَّس على التقوى مسجده صلى الله عليه وسلم على أحد التفسيرين، ووجه الدليل من الآية أن [المفاضلة*] بين مسجد النبي صلى الله عليه وسلم ومسجد الضرار لَا يصح؛ إذ ليس فيه حق بوجه بل هو باطل؛ فلم يبق أن يراد إلا أن الصلاة في مسجده أحق من الصلاة عنده، فتتناول النفل في البيوت. قوله تعالى: (فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا).

(111)

ابن عرفة: كان بعضهم يقول: إنما قال (يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا) ولم يقل: فيه رجال يتطهرون؛ لأن محبة التصديق تصديق وإن لم يحصل التطهر لعذر منه مانع؛ إذ يحب بعضهم التطهر ويمنعه منه عذر فالآية فيها تخفيف الرحمة من الله تعالى في الثناء على من هذه حالا. قوله تعالى: (فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ). قال ابن عرفة: رؤية الله لعملهم مجاز، ورؤية الرسول والمؤمنون له حقيقة، قال: وقرره بوجهين: أحدهما: أن رؤية الله تعالى ليس المراد نفسها؛ وإنما المراد الجزاء على العمل بالثواب الجزيل والعقاب الشديد؛ بخلاف رؤية الرسول فإنه لَا يجازيهم بل يرى أعمالهم فقط، ومنهم من قرره بأن رؤية الله تعالى سابقة متقدمة إذًا فالاستقبال فيها غير حقيقي. بل السين للتحقيق لَا للاستقبال؛ بخلاف رؤية الرسول فإِنها حادثة فالاستقبال فيها حقيقة؛ واحتج بها الفخر على أن الوجود مصحح للرؤية لأن العمل معنوي. قوله تعالى: (وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ). ابن عرفة: هذه القضية ليست مانعة لخلو المنع الإصلاحي وإنما هي مانعة الجمع، وأما الخلو من الأمرين فلا. قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ ... (111)} قدم هنا الأنفس على الأموال، وقال فيها: يجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم فقدم الأموال، قال: وأجيب بوجهين: الأول: أن الجهاد بالمال أخف على النفوس من الجهاد بالنفس، فسلك في الآية المتقدمة مسلك الترقي فيها، وأما هنا فلما ذكر اسم الجلالة قوبل بأشرف الأمور وأعزها وهي النفوس. الثاني: أن كل أحد عنده نفس يجاهد فيها، وليس كل أحد عنده المال بل الأغلب كان في حقهم عدم الوجدان فبدأ بما هو الأغلب. قوله تعالى: (وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا). قال الزمخشري: وعد ثابت قد أثبته في التوراة والإنجيل*، كما أثبته في القرآن. ابن عرفة: إن إرادته وعد صدق لَا يصح الخلاف فيه فما قاله حق؛ فإن أراد به أصل التفضيل، فهو بقوله: إنه واجب على قاعدته عقلا، ونحن نقول: إنه واجب

(114)

بإيجاب الله تعالى على جهة التفضل والإحسان لَا في مقابلة العمل إذ لَا يجب على الله شيء. قوله تعالى: (وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ). هذا مثل: (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا) فيقتضي نفي الأفضل ونفي المساوي. قوله تعالى: {وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ ... (114)} ابن عرفة: يؤخذ منه فائدتان أصوليتان. أحدهما: العمل بالقياس؛ لأنها اقتضت نفي ما يتوهم من القياس. الثاني: إذ هداهم بطلان القياس لقيام الفارق. قوله تعالى (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ ... (115) ... أي ما كان الله ليحكم بإضلال قوم ضلوا بعد الهداية حتى يبين لهم ما يتقون؛ فإن ضلوا قبل البيان فإنه لا يحكم بإضلالهم شرعا، والزمخشري يقول: عقلا، فإن قلت: ما أفاد قوله (بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ) وهل مفهومه مفهوم مخالفة أو موافقة، لكن قد يقال: إن الهداية هي بعثة الرسل. قال تعالى (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا)، فإِن فهمت الهداية على ظاهر لم يكن مفهوم مخالفة؛ لأن من ضل بعد الهداية قد بينت له الطرق والدلائل. قوله تعالى: [(إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) *]. احتراس خشية أن يتوهم أن تأخر البيان لكون العلم لم يكن حاصلا فأخر حتى حصل العلم به. قوله تعالى: {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ ... (117)} المراد: إما خلق الله في قلبه التوبة، أو قبل منه التوبة، وجعل ابن عطية قوله تعالى: (ثُمَّ تَابَ عَلَيهِم) تأكيدا، والصواب أنه تأسيس، والأول راجع لخلق التوبة في قلوبهم، والثاني راجع لقبولها منهم. قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ... (118)} ابن عرفة: عادتهم [يقولون*] الغاية من شرطها مخالفة ما بعدها لما قبلها، وقد فسروا التخلف بوجهين: إما التخلف عن العذر، أو إما عن قبول عذرهم، وإن حملنا

التخلف على عدم قبول العذر، فحالة التخلف هي حالة ضيق الأرض عليهم بما رحبت، فما الفائدة في كونه معناها. قوله تعالى: (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ). ابن عرفة: وقع هنا في كلام ابن عطية [لفطتان*] متقدمتان؛ إحداهما: أنه قال: هذا اللفظ يقتضي التأنيث، ومنع الاستغفار للمشركين مع ألا ييأس من إيمانهم ابن عرفة، وهذا فيه أدب على الأنبياء. والثانية: أنه نقل عن الجمهور نزولها في أبي طالب، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "لأستغفرن لك ما لم أنه عنك"، ثم قال: والآية على هذا ناسخة لفعل النبي صلى الله عليه وسلم. ابن عرفة: وهذا عند الأصوليين ليس بنسخ؛ لأن الحكم الشرعي إذا كان منفيا بغاية ومعلقا على أمر فغُيِّر فإنه لَا يسمى نسخا. ابن عرفة: وكان [ ... ]. تقدمنا في معناها غير هذا، وهو أن هذا كله بناء على أن الاستغفار فيما مضى فيكون لوما للنبي صلى الله عليه وسلم وعتبا لمن سواه من المؤمنين على ما فعلوه من الاستغفار لآبائهم، ويحتمل أن يراد به الدوام على ذلك في المستقبل، وأقروا على الماضي كما كانت الأحكام تتجدد شيئا بعد شيء، وفرق بين العلم بكونهم أصحاب الجحيم وبين غير العلم بذلك؛ لأنهم أولا علموا ذلك بأنفسهم، والآن تبين العلم بذلك؛ لأنهم أولا علموا ذلك بأنفسهم، والآن تبين لهم ذلك فحققوه وتيقنوه، واتضح عندهم صحة ما عملوه من موافاتهم على الكفر.

(120)

قوله تعالى: (وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ). ابن عرفة: يؤخذ منها صحة العمل بالقياس أنه حكم شرعي، ويؤخذ منه إبطال القياس بوجود الفارق. أما الأول: فلأن الآية الثانية ذكرت جوابا عن سؤال مقدر؛ وهو أن المؤمنين يقولون: نستغفر لآبائنا قياسا على استغفار إبراهيم لأبيه؛ فرد عليهم ذلك بذكر الفارق، فلولا أن القياس معمول به ما صح ذكره، وإبداء الفارق، قال: وعداه بعن دون اللام المقتضية للعلة؛ لأن العلة في الاستغفار ليست هي الموعدة؛ بل هي دخول الموعدة والجنة، والموعدة سبب لَا علة، فكذلك عداه بعن المقتضية للتجاوز عن الموعدة والتخلص منه. قوله تعالى: {مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ ... (120)} ابن عرفة: المجرور متعلق بمحذوف؛ أي ما صح لأهل المدينة، والتخلف إن لم يصدق إلا على القادر فليست مخصوصة، وإن صدق على القادر وغيره فهي مخصوصة بقوله تعالى: (لَيسَ عَلَى الأَعمَى حَرَجٌ) الآية. قوله تعالى: (وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ). تأسيس لأن الأولى اقتضت حضورهم أعم من أن يقاتلوا أولا، وهذه اقتضت المقاتلة. قوله تعالى: (إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ). هذه عكس ما يقول الأصوليون من أن الكلام على ترك الفعل يستلزم وجوبه، والمدح عليه لَا يقتضي وجوبه، فلو قيل هاهنا: ولا ينالون من عدو نيلا، إلا كتب لهم النجاة من النار، والتخلص من العذاب لاقتضى وجوب هذه الأمور، وأجيب بالفرق بين كون الثناء والمدح يقتضي الوجوب، وبين كونه لَا ينافي الوجوب. قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ). دليل على أن فاعل هذا أبلغ درجة المحسنين. قوله تعالى: {لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (121)} وقوله تعالى: (أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا) قال ابن عرفة: عادتهم يستشكلونها لاقتضائها أن الجزاء على الأحسن لَا على

(127)

الحسن، فإِن قلت: إن المباح يصدق عليه أنه حسن فيزول السؤال؛ لأن الجزاء إنما هو على المندوب أو الواجب، أو يقال: إن الله يجزيهم بما فعلوا جزاء أحسن أفعالهم إكراما لهم وإحسانا لذميم لذمهم. قوله تعالى: {وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ ... (127)} قال ابن عرفة: كان بعضهم يقول: يحتمل أن يكون هذا تقسيما أو تعميما؛ فإن كان تقسيما فيكون إما باعتبار أحوالهم وأنهم في حالة أخرى عند نزول سورة أخرى، ينظر بعضهم إلى بعض، وإن كان تعميما فهو إشارة إلى أنهم في كل سورة لينذر منهم هذا فبعضهم يقول: أيكم زادته هذه إيمانا، وبعضهم ينظر إلى بعض، إما من الخجل فيطلب الانسلاخ خوف الفضيحة بالذنب الذي عمل، وأنه يسخر فينظر لصاحبه على سبيل السخرية والاستهزاء كما يفعل مردة الطلبة عند تكلم بعضهم بالخطأ في العلم فيسخر به أو يتغامز عليه. قوله تعالى: (صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ). ابن عطية: أسند الطبري هنا حديثا عن ابن عباس، أنه قال: "لَا تقولوا انصرفنا من الصلاة، فإن قوما انصرفوا فصرف الله قلوبهم، ولكن قولوا قضينا الصلاة". ابن عرفة: يؤخذ من هذا أن للأسماء اللغوية أثرا في التسمية في المعنى يجب اعتباره، ولذلك نقلوا في كتاب السلم عن عمر أنه كره تسمية، سلما قال: ويسمى تلفا؛ لأن السلم مشتق من الإسلام. قوله تعالى: (صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ). ابن عرفة: تقدم فيها سؤال، وهو أن السبب مخالف لمسببه، و (صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ) معناه عن الاهتداء بعدم الفقه، فكأنه يقول: صرفوا عن الاهتداء لعدم أهليتهم، وأجيب بوجهين: إما أن المراد بالفقه التدبر. أي صرفوا عن العلم بعدم تدبرهم وتفقههم [وبسوء*] نظرهم، وإما أن المراد أنهم غير قابلين للعلم، أي صرفوا عن الاهتداء لعدم قبولهم له، فإن قلت: سوءاتهما إنما هو عن رؤية المسلمين لجميعهم، فهلا قالوا: هل يرانا من أحد؟ فالجواب أنهم قالوا لأصحابهم إن ظهر لك منا الضحك والاستهزاء، فكذلك يكون ظهر للمؤمنين؛ لأنهم يرونا لرؤيتكم؛ بخلاف ما لو قال: هل يرانا من أحد. قوله تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ ... (128)}

الخطاب لبني آدم أو لسائر العالم؛ فإن كان لسائر العالم دخل فيه الجن والإنس والملائكة، وكان بعضهم يقول: قراءة [(مِنْ أَنْفَسِكُم) *] تدل على الخطاب لبني آدم فيخرج الجن والملائكة. قوله تعالى: (رَءُوفٌ رَحِيمٌ). لأنه مأمور بجهاد الكفار وقتالهم فهو رءوف بالمؤمنين رحيم، والرحمة أخص؛ لأن الرأفة هي مجرد رقة القلب أعم من أن يكون معها رحمة، وإلا فقد يرأف على الشخص ولا يرحمه إنسي؛ بخلاف إيصال الرحمة إليه فإنها تستلزم الرأفة؛ فلذلك بدأ بالرأفة قبل الرحمة.

سورة يونس

سُورَةُ يُونُسَ - عَلَيهِ السَّلَامُ - قوله تعالى: {الر ... (1)} .. قال الزمخشري: تقرير للحروف عن طريق التحدي بسببها. ابن عرفة: أراد أن دليل النبوة التعجيز بالآيات وتركيب حروفها؛ كالصانع النجار فإنه ليس من شرطه حسن الخشب بل حسن هيئتها في الصنع وشكلها، وكذلك الصلآل ليس من شرط صنعته طينة الطفل بل حسن العمل، وكذلك هنا إشارة إلى أن هذه الآيات أنزلت بحروف معهودة لكم تتكلمون بها إلا أن صيغة تركيبها يعجز كون التحدي بصفة التركيب لَا بالمادة. قوله تعالى: (تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ). قال ابن عطية: قيل: المحكم، وقال الزجاج: هو محكم، وهو صفة موصوف بصفة الله تعالى فهو محكم. ابن عطية: فرجعت إلى قول واحد. ابن عرفة: لم يفهم عنه مراده وإنما أراد ما قال الزمخشري من أنه من باب إسناد الشيء إلى غير فاعله، كقولهم: ليل قائم ونهار صائم، يوصف القرآن بصفة من هو كلامه كما وصف الليل والنهار بصفة يعتد فيها. قوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ... (3)} حكى ابن سينا في تأليفه الخلاف هل الأرضين سبع أو لَا؟ والاختيار هو أنها سبع، وقال المازري في المعلم: سألت عنها شيخنا عبد الحميد، فقال: إنها سبع لحديث: " [مَنِ اقْتَطَعَ شِبْرًا مِنَ الْأَرْضِ ظُلْمًا، طَوَّقَهُ اللهُ إِيَّاهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ سَبْعِ أَرَضِينَ*] "، ولقوله تعالى: (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ) وتأول ابن رشد هذه الآية في البيان والتحصيل في مسألة سعيد بن المسيب من كتاب الصرف بأنه لا يلزم من لفظ المثل أن يكون قدرها، وبدليل حديث: "إذا سمعتم النداء فقولوا مثل ما يقول المؤذن"، ومع أنه لَا يحاكيه في الحيعلة والحوقلة؛ بل يقول: لَا حول ولا قوة إلا بالله.

(4)

قوله تعالى: (إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ). ابن عرفة: [يؤخذ منها الاستدلال*] على وجوده بالإمكان، وهو المناسب في الآية؛ لأنه أظهر والإمكان أغمض، قال: فإن قلت: الفائدة أن الخبر أعم من المبتدأ، كقولك: الإنسان حيوان، وجاء هذا على العكس؛ فيلزم أن يكون كقولك: الحيوان إنسان وهذا لَا يصح، قال: والجواب أن الرب كما لَا يؤخذ منه إلا واحدا كالإله، ومن يعرف المنطق لم يفهم هذا، فيصح الإخبار عنه [بالواجب*] وهو الله. قوله تعالى: (فَاعْبُدُوهُ). قال: قد يتمسك به من يقول بوجود شكر المنعم عليه؛ لأن الفاء تقتضي التثبت. قوله تعالى: {إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا ... (4)} يحتمل أن يريد بالرجوع ما ذكروه في الروح من أنها إذا قبضت يصعد بها إلى السماء حتى توقف بين يدي الجبار، جل وعلا ثم ترجع روح المؤمن إلى الموضع الذي فيه جسده، وترجع روح الكافر إلى سجين، ويحتمل ما ذكره المفسرون. قوله تعالى: (وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا). معناه لأنه صدق ولا يلزم عليه مذهب المعتزلة في أن الله تعالى لم يخلق الشر ولا أراده. قوله تعالى: (إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ). قرأ أنه بالفتح، فقيل: هو فاعل حقا، كقوله (وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ)، وقيل: مفعول فعله رباعي. أي أحق أنه يبدأ الخلق. وقال ابن عطية: أنه بدل من وعد، ابن عرفة: أي بدل اشتمال، ابن عرفة: فيرد عليه أن الوعد إنما يكون بأمر مستقبل، وبدأ الخلق ماض فلا يتعلق به الوعد، قال: وعادتهم يجيبون بوجهين: الأول: أن المراد بالوعد الكلام القديم الأزلي والإبداء والإعادة مستقلان عنه.

(5)

الثاني: أن المراد بالوعد مجموع الإبداء والإعادة؛ لأن في كل واحد منهما نظر، والمجموع مستقل، كما قالوا في حد القياس: أنه حمل معلوم في إثبات حكم السماء وتقف عنهما، فأورد عليه أنه يلزم منه أن يكون حكم الأصل ثابتا بالقياس، وأجابوا بأن المراد ثبوت المجموع لَا ثبوت كل واحد. وقال ابن عرفة مرة أخرى على هذا يكون الوعد تعلق بأمرين الإبداء والإعادة فمتعلقة بالإعادة ظاهر، وأما تعلقه بالإبداء ففيه نظر؛ لأن الوعد إنما يتعلق بالمستقبل، والجواب إما بأن الوعد قد حصل في الأولى فهو متقدم على الإبداء، وإما بأنه باعتبار المجموع فيكون تعلق بالمجموع من حيث كونه مجموعا. قوله تعالى: (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ). ابن عرفة: يحتمل أن يكون من باب حذف الفاعل فذكر في الثاني ما يقع به الجزاء، وحذف كيفه كدلالة الأول ما يقع به الجزاء لدلالة الثاني عليه، وذكر كيفه، والتقدير ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصَّالِحَاتِ بالقسط الثواب الجزيل، والذين كفروا بالقسط يجزيهم ولهم شراب من حميم وعذاب أليم. وقوله: (بِالْقِسْطِ) يحتمل أن يرجع إلى عملهم أو إلى أجزاء عملهم. وقوله: (وَعَذَابٌ أَلِيمٌ) من باب عطف العام على الخاص، وكان بعضهم يقول: [إنما أتى به*] كذلك؛ لأن الشراب أمر وجودي محسوس، والعذاب أمر معنوي، والوجودي لَا يدخل تحت المعنوي فهما مختلفان. قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا ... (5)} قال ابن عطية: النور أضعف من الضياء فكيف صح إسناده إلى الله تعالى في قوله تعالى: (اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) وفي الحديث "نورٌ أنَّى أراه" لما سئل هل رأى ربه أم لَا؟ وأجاب بأن الضياء عام يتعلق بكل شيء، والنور خاص ببعض دون بعض، ولذلك وجدنا نور السراج يشرق على موضع دون موضع، فلو نسب [الضياء*] إلى الله تعالى لكان الإيمان اضطراريا، فلأن يكون كل واحد مؤمنا إيمانا ضروريا لظهور الأشياء تأكيد بعضه بهيئة، فلذلك أسند النور إليه تنبيها على أنه تارة يظهر دلائل على وجوده ووحدانيته، وصفات كماله لقوم، وتارة يخفي عن آخرين.

(7)

ابن عطية: وهو [أضلنا*]، قيل لابن عرفة: يرد علي أنه إن أريد مطلق الضياء ومطلق النور فهما متساويان، فكما قلتم: إن النور يتعلق بشيء دون شيء، فكذلك الضياء وإن كان ذلك مضافا فيقال ضياء كذا ونور كذا، فهو مجتنب ما يضاف إليه. ابن عرفة: إنما لَا ينافي مطلق الضياء ومطلق النور، ويقول: إنه في اللغة يعم الضياء ويخص النور. قوله تعالى: (وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ). ابن عطية: أعاد الضمير على القمر وحده فهو من إطلاق المفرد على الاثنين. ابن عرفة: وعادتهم يقولون: إنما خص التقدير بالقمر دون الشمس فإن منازلها تعلم بالفصول علما ضروريا ظاهرا؛ لأن سيره في المنازل ظاهر معلوم [يدرك كل أحد ببصره*]؛ حتى البهائم ألا ترى أن كل أحد يعلم دخول الصيف والربيع والشتاء حتى أن الغرنوق يذهب [ ... ] ولا يبقى منه شيئا، والبلائع يأتينا في أول يوم من الربيع وكل حيوان يدرك [ ... ]. فضله [ ... ] القمر، فإن سيره في المنازل لَا يدركه إلا الخواص فكذلك أعاد الضمير عليه وحده دون [ ... ]، وقيل لابن عرفة: الخطاب إنما هو للعرب، والعرب إنما [يحسبون*] بالقمري لَا بالشمسي، فقال: قد تقدم؛ لأن ابن عبد السلام في شرح ابن الحاجب في كتاب الزكاة فيما إذا أخرج الزكاة بالقمري وخالف الشمسي، فكان بينهما أيام هل يعتد بها أو لَا يعتد بها، وتقدم لنا في تأليفنا الرد عليه. قوله تعالى: (لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ). قدم العدد لأنه هو المتقدم في الوضع بوضع أولا العدد؛ ثم يقع عليه الحساب بعد ذلك. قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا). ابن عرفة: إن أريد بذلك فعل المعاصي فالرجاء بمعنى الخوف، وإن أريد به عدم فعل الطاعة، فالرجاء على بابه، وفسره الفخر بالطمع وهما بمعنى واحد. قوله تعالى: {وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا ... (7)}

(8)

أي رضوا بها حال كونهم مطمئنين إليها؛ فيكونوا ثلاثة أقسام: منهم من لم يرض ومنهم تراضى بالدنيا واطمأن، ومنهم من غفل عن الآية فيتناول هذا الوعيد هؤلاء الثلاثة والأولان راجعان لعدم الاهتداء بالدلائل العقلية، والثالث راجع لعدم الاهتداء بالدليل الشرعي. قوله تعالى: {أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ ... (8)} الصواب جعل النار مبتدأ ومأواهم خبر ليفيد حصر النار في مأواهم؛ فيكون حجة لأهل السنة على المعتزلة وتكون الآية في الكافرين. قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ ... (13)} ابن عرفة: يؤخذ منها العمل بالقياس لأنه به يحصل التخويف؛ فيأخذ أيضا منها القياس على أفعال الله فتكون حجة لمالك في حكمه في الرجم في اللواط قياسا على الرجم في الزنا. قوله تعالى: {لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (14)} قلنا: يؤخذ منه أن الوجود مصحح للرؤية. قوله تعالى (وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ ... (15) .. ابن عرفة: لما تضمن الكلام السابق أن الأمم السالفة أهلكوا بسبب عصيانهم عقبه بعبارات [قال*] هؤلاء لذلك عدل فأنت تغيره؛ لأن القادر عليه قادر على غيره، وإن كان من عند الله [فرده إليه وبدله*] بقرآن آخر، وهذا يدل على أن الدل بمعنى بدل، وكذلك سورة الكهف (فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا) لقراءة ابن كثير يبدلهما بالتخفيف والباقون بالتشديد. قوله تعالى: (إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ). دليل على نفي القياس والاجتهاد، وأجاب بأن ذلك من الوحي. قوله تعالى: (إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ). دليل على أن تارك المندوب لَا يسمى عاصيا؛ [لأن*] العذاب العظيم على العصيان.

(19)

خلافا لما حكى المازري في العلم في كتاب النكاح عن بعض البغداديين في حديث: " [وَمَنْ لَمْ يَأْتِ الدَّعْوَةَ , فَقَدْ عَصَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ*] ". قوله تعالى: {وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا ... (19)} ابن عرفة: إن قلت: لم قال في سورة البقرة (كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً) بغير أداة حصر، وقال: هنا (وما كان النَّاس إلا أمة واحدة) بأداة الحصر. فالجواب: أن آية البقرة خرجت مخرج ذكر بعث النبيين فلم يحتج، وبالحصر كونهم أمة واحدة، وهذه الآية خرجت لبيان اختلاف الأمم بعد اتفاقهم، واحتج فيها إلى حصر كونهم أمة واحدة. ابن عرفة: وتقدمنا فيها آية يؤخذ منها أن الإجماع حجة لَا يجوز مخالفته؛ لأنها اقتضت ذم الاختلاف بعد الاتفاق، ولا معنى مخالفة الإجماع إلا هذا، وقوله: قبل هذا (قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي)، قال بعض الطلبة: لَا يبعد أن يؤخذ منها جواز النسخ في القرآن؛ لأن مفهوم قوله: (مِنْ تِلْقَاءِ) يعني أن ذلك جائز من عند الله عز وجل. قوله تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ ... (26)} ابن عرفة: يحتمل أن يريد الإحسان الأعم وهو مطلق الطاعة مع الإيمان، والأخص وهو ما في الحديث: "أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك". وسياق الآية يدل على أنه الأخص. قوله تعالى: (أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ).

(28)

يؤخذ منه أن الصحابة لَا تستلزم الرؤية؛ لأن اسم الفاعل حقيقة في الحال، وهم حينئذ لم يروه وإنما يرونها في المستقبل. قوله تعالى: {وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ (28)} مناقض لقوله تعالى: (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ)، وأجاب ابن عرفة: بأن المراد: ما كنتم إيانا تعبدون عبادة مرضية لنا. قوله تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ ... (31)} يحتمل أن يكون خطابا للنبي صلى الله عليه رسلم، أو خطابا للجميع، فأمر كل واحد بأن يقول ذلك، قال: ولما تقدمها إنذار المشركين بما لحقهم من العذاب عقوبة على فعلهم القبيح، عقبه ببيان البرهان الدال على إبطال [معتقدهم*]. قال: وهذا يحتمل أن يكون كلا أو كلية؛ فيتناول ثلاثة أمور: الرزق الخاص بالسماء، والرزق الخاص بالأرض، والرزق المشترك بينهما وهو النبات فإِنه من المطر بعد تغذيه بالتراب. قوله تعالى: (أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ). بدأ أولا بالأمر الجلي الواضح لكل أحدث لأن كل أحد يحتاج إلى الغذاء، ولا يستطيع الصبر على الجوع بوجه فيظهر له الافتقار إليه بالبديهية في كل زمان بخلاف السمع والأبصار، فإِن دوامها غالب، وطرق الإعراض عنها قليلة ليس في كل زمان ولا لكل النَّاس بل لبعضهم فقط؛ فالافتقار إلى الغوث، ثم إن إخراج الحي من الميت أخفى فلا يدركه كل أحد، ثم تدبير الأمور وإرادتها أخفى من الجميع، ولذلك خالف فيها المعتزلة والقدرية. ابن عرفة: وأفرد السمع وجمع الأبصار لوجهين: لفظي، ومعنوي؛ أما اللفظي؛ فلأن السمع مصدر يقع على القليل والكثير من جنسه، والبصر اسم غير مصدري. وأما المعنوي؛ فلأن السمع يدرك به الإنسان الصوت من الجهات الست، والبصر لا يدرك به إلا ما يقابله فقط، ولذلك قدم؛ لأنه أشرف، وهذا دليل على أن العرض لا يبقى زمنين، وأنه في كل زمن يقدم البصر ويمده بأبصار جديدة كإعدام لون الثوب فسيقولون الله؛ لأنه لم يخالف في ذلك أحد، كما قال (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ). قوله تعالى: {قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ ... (35)}

(36)

ابن عرفة: عدا الأول بإلى، والثاني باللام؛ لأن إلى للغاية تقتضي أنها ما قبلها عندها ومخالفته لما بعد، واللام للملك فالله تعالى يملك الحق ويمنحه ويعطفه ويخلقه في قلوبهم، فهدى له كله، والشركاء لَا يملكون شيئا، فعلى تقدير أن تكون لهم الهداية إنما يعدون الطريقة ولمبادئه ومقدماته فقط، قيل لابن عرفة: يبطل هذا بقوله (أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ) فقال: هذا تنبيه بالأدنى على الأعلى؛ لأن الشركاء لَا يهدون لحق بوجه، فمعناه إذا كان الذي يهدي لمقدمات الحق وأوائله أحق بالاتباع ممن لَا يستطيع شيئا بوجه، فأحرى أن لَا يكون الذي منح الحق كله، ويعطفه ويخلقه في قلوبكم أحق بالاتباع. قوله تعالى: {إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا ... (36)} مصدر مولد للفعل المنفي فهو نفي أخص ولا نفي أخص. قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ). ولم يقل: بما يعملون؛ والعمل أبلغ ألا ترى أنهم قالوا في حديث الأعمال بالنيات يستثنى منه النية، وهي القصد إلى النظر، والنظر قبلوا النية عملا. وأجيب بأنه إشارة إلى تعنتهم وأن حقهم إظهار الحق وفعله. قوله تعالى: {قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ ... (38)} ابن عطية: هي دليل لمن يقول بالصرفة. ابن عرفة: ومعنى الصرفة أن تقول دليل كرامتي أني أقوم من هناك إلى هنا وتعجزون أنتم عن ذلك، فحاصله أن تعجزهم عن شيء هو من مقدورهم. وعين الصرفة مثل أن يقول: دليل كرامتي استطاعتي؛ أثبتها المعتزلة، ونفاها أهل السنة. قوله تعالى: {بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ ... (39)} الزمخشري: أي بل سارعوا إلى التكذيب بالقرآن وفاجئوه في بديهة السماع قبل أن يفقهوه. قوله تعالى: (وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ). معناه أنه غير قابل لأن يكون مفترى، وأن يفترى مقدر بالمصدر؛ أي كان ذا افتراء، وما كان افتراء بمعنى مفترى، مثل: قتلته صبرا أي مصبورا، مثل: قال ابن عرفة: وتقدمنا فيها سؤال وهو أن ظاهر الآية أنه لم يكن مفترى على غير الله تعالى،

وفرق بين قولك: هذا افتراء على فلان، أو هذا افتراء من غير فلان، فمعنى الآية أنه افتراء على الله، أي ليس المعنى أنه افتراء غير الله؛ فإِذا كان المعنى ما كان لأن يفتريه غير الله فمفهومه أن غير الله نقوله من غير افتراء، وهذا ممكن، وإنما المعنى ما كان لأن يفتري من غير أمر الله فمفهومه أنه يكون مفترى بأمر الله، وهذا المفهوم غير موجود لاستلزامه التناقض؛ لأنه من حيث كونه مفترى فهو لذنب على الله فكيف يكون بأمر الله. فيكون كما قالوا في قوله تعالى: (وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا). قوله تعالى: (وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ). ابن عرفة: التفضيل إما راجع للكتب السابقة؛ فيرجع التصديق إلى ما أخبر به من الأمور المستقبلة كأشراط الساعة وغيرها، وإما أن يراد بالتفضيل أنه معجزة تتضمن الأحكام الاعتقادية فتوافق الكتب السالفة في أحكامها الاعتقادية لَا الشرعية؛ لأن الشرائع مختلفة وأحكام الاعتقاد متحدة. قوله تعالى: (لَا رَيبَ فِيهِ). أي عند من أنصف ونظر النظر السديد فأدرك أنه لَا ريب فيه. قال أبو حيان: والاستدراك هنا في لكن على أصلها؛ لأنها بين متناقضين. ابن عرفة: فإن قلت: بل هي بين متماثلين؛ لأنه إذا لم يكن مفترًى فهو مصدق لما بين يديه، فالجواب: أن الثناء باعتبار نفس الفعلين لَا بين الجملتين، كقولك: ما تحرك زيد لكن سكن. قوله تعالى: (قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ). وفي البقرة (مِن مِثلِهِ) فالمثلية هنا راجعة للقرآن، وهناك للشخص الآتي. قال ابن عطية: السورة مأخوذة من سورة النبأ وهي في القرآن القطعة التي لها مبتدأ وبها ختم ابن عرفة، وكذلك الكلمة؛ والصواب: أنها القطعة التي لَا يصدق اسمها إلا على جملتها، ابن عرفة: والإعجاز في الكتب السالفة وقع بجملة كل كتاب منها، والإعجاز في القرآن وقع بكل آية منه. ابن عرفة: وذكر ابن عطية هنا أن الإعجاز وقع بالكلام القديم الأزلي وهو باطل؛ لأن المعجزة من شروطها الحدوث. فكيف يقول: وقع الإعجاز بالمعاني من الغيب

لما مضى، ولما يستقبل؛ لأنه معلوم أنهم لَا يقدرون على ذلك، وكذلك قال الشاطبي في قوله تعالى: (وَيَقُولُونَ لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ) [**ومن يقل بعلوم الغيب]، قلت: وأثبته [ ... ]، لأنه فرق بين تكليف ما لَا يطاق وبين الإعجاز بتكليف ما لَا يطاق؛ فلم يعجزوا أصلا بالإتيان بمثل الكلام القديم الأزلي؛ لأنه ليس في قدرتهم ذلك بوجه؛ ولأن المعجزة من [شرطها*] الحدوث، فلو علله بكون المعجزة من شرطها الحدوث لصح له ذلك. فكلام الشاطبي مثل كلام ابن عطية هنا؛ لأن الشاطبي فهم أن المراد فأتوا بكلام قديم أزلي من عند الله، كما أتى القرآن من عنده فأبطله الشاطبي بأنه من تكليف ما لا يطاق. قال ابن عرفة: وهو ضعيف؛ لأن تكليف ما لَا يطاق عادة عندنا جائز، فكيف يبطله؟! فإنه من تكليف ما لَا يطاق، وفرق بين التكليف بالحال وبين إلزام الحال. قوله تعالى: (بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ). الزمخشري: بل سارعوا إلى التكذيب بالقرآن، وفاجئوه في بداهة السماع قبل أن يفقهوه ويعلموا [كنه*] أمره، وذلك لفرط نفورهم مما يخالف دينهم وخروجهم عن دين آبائهم كالناشئ على التقلد من الحشوية. قيل لابن عرفة: الحشوية هم الحنابلة، والزمخشري حنفي. ابن عرفة: الحشوية عندهم المخالفون لمذهبه، وعندنا هم المجسمة القائلون بالجثة والمكان، قلت: وفي تلبيس إبليس [لابن الجوزي*] الحشوية طائفة من المرجئة [قالوا بوجوب*] النافلة كالفريضة (¬1)، وانظر ما قيدت في سورة النمل في قوله تعالى: (قَالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا) ابن عرفة: وتكذيب الإنسان بما لم يعلم أشد؛ فنجا من تكذيبه بما علم، قدمهم أولا على التكذيب بما علموا ثم أضرب عنه بكونهم كذبوا به قبل العلم به، قال: وكان بعضهم يأخذ من الآية مطلبين أحدهما: أنه لَا يجوز لأحد أن ينكر علما من العلوم فلا يكذب به من يعلمه. الثاني: إذا بحث ذاك فلا يرد عليه حتى يكرر كلامه ليعلم منه أنه فهمه، وحينئذ يقبل منه الجواب عنه؛ لأن الرد عليه تكذيب له وإبطال. قوله تعالى: (وَلَمَّا يَأتِهِم تَأوِيلُهُ) أي لم يعلموه من حيث ليكمله لرجل لم يقرأ علم الفلسفة ولكن يعلم خاصيته؛ وهو أن من خصائصه نسبة التأثير لغير الله عز وجل ¬

_ (¬1) النص في التلبيس هكذا: "وانقسمت المرجئة اثنتي عشرة فرقة التاركية قالوا ليس لله عز وجل على خلقه فريضة سوى الإيمان به فمن آمن به وعرفه فليفعل ما شاء والسائبية قالوا إن الله تعالى سيب خلقه ليعملوا ما شاءوا والراجية قالوا لا نسمي الطائع طائعا ولا العاصي عاصيا لأنا لا ندري ما له عند الله والشاكية قالوا إن الطاعات ليست من الإيمان والبيهسية قالوا الإيمان علم ومن لا يعلم الحق من الباطل والحلال من الحرام فهو كافر والمنقوصية قالوا الإيمان لا يزيد ولا ينقص والمستثنية نفوا الاستثناء في الإيمان والمشبهة يقولون لله بصر كبصري ويد كيدي والحشوية جعلوا حكم الأحاديث كلها واحدا فعندهم إن تارك النفل كتارك الفرض والظاهرية وهم الذين نفوا القياس والبدعية أول من ابتدع الأحداث في هذه الأمة. اهـ (تلبيس إبليس. 31).

(42)

فيكذب به من أجل هذا، وقيل إن معناه: ولم يطلعوا على عاقبه، ومثاله (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ ... (42) .. ابن عرفة: إن قلت: ما السر في جمع ضمير المستمعين وإفراد ضمير الناظر؟ فالجواب: أن الاستماع يقع من الجهات الأربع، والنظر إنما يكون من جهة الأمام فقط، فخلقت العجائب مع كلامه، فيها كل من دار به لَا ينظر إلى أفعاله إلا من هو قبالته، فالسامعون لكلامه أكثر من الناظرين فنقله فكذلك جمعهم. فإن قلت: لم أفرد السمع وجمع الأبصار مع أن متعلق السمع أكثر؟ فقال: لأن السمع مصدر يقع على القليل والكثير من جنسه فلا يجمع، والبصر اسم [الجارجة*] التي يبصر بها فصح جمعه. قوله تعالى: (أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ). قال ابن عرفة: هذا استفهام على سبيل الإنكار فهو في معنى النهي، كقولك (فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ) قال: ولو إنما تدخل على ما تستبعد وقوعه، أو تستقرب؛ كقولك: أكرم السائل ولو أتاك على فرس؛ لأن إكرامه إذا أتى على فرس مستبعد، ونفي إسماع غير العقلاء أظهروا بين مما نفي سماع الصم العقلاء، فكيف أدخل عليه لو؛ فإنما كان يقال: أفأنت تسمع من يعقل ولو كان أصم فيكون ظاهرا؟ وأجيب بوجهين: الأول: أنه تنبيه على حرص النبي صلى الله عليه وسلم على إسماعهم وإيمانهم. الثاني: أن لو إنما دخلت في الكلام المثبت غير المنفي، ودخل الاستفهام بعد ذلك على الجملة فهو نفي أخص لَا نفي أعم، فأصله أنت تسمع ولو كانوا لَا يعقلون، فدخل الاستفهام عليه فنفى الجملة، كقولك: ما ضربت زيدا ضربا، فنفيت الفعل المولد. لأنك أكدت الفعل المنفي، كقولك: أفأنت تقوم ولو كنت مقعدا، أنكرت قيامه في هذه الحالة كما نفيت الضرب المولد، وكذلك تقول: أفأنت تكرم زيدا وإن أساء إليك، أنكرت إكرامه في هذه الحالة فأنكر هنا إسماع الصم في حالة عدم العقل. قوله تعالى: {وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ ... (46)} انظر ما الفرق بين هذه، وبين قوله في سورة القتال (فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا) عطف الثاني هناك بـ إما وعطفه هنا بـ أو، قال: وأجيب بأن إما [للتفصيل*]؛ فتدخل بين المتغايرين وإن لم يكونا متناقضين، وأو لأخذ الشيئين أو الأشياء فتدخل بين النقيضين، ولا شك أن المن والفداء يجتمعان

(47)

فيمن على أشخاص ويفدي أشخاصا، فدخلت إما [لتفصيل*] حال هؤلاء من حال هؤلاء ورؤيته بعض الذي وعد لَا يجتمع مع وفاته بل تناقضها فحسنت فيه أوقف له ثم الله شهيد على ما يفعلون، وإما أن يريد في الآخرة فتكون حكاية حال ماضيه، أو يريد شهيد في الدنيا على ما يفعلون فيها؛ لأن الآخرة ليس فيها فعل بوجه يوجد إذ ليست دار تكليف. وجعل أبو حيان جواب الشرط الأول مقدرا؛ أي: وإمَّا نرينك بعض الذي نعدهم، فذلك يعارض ابن عرفة؛ لأن قوله (فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ) إنما يجيء جوابا عن الثاني. ابن عرفة: وهذا لَا يلزم، ونظيره قوله تعالى: (وَلَوْلَا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ) لأن عذاب النار ثابت لهم مطلقا سواء كتب عليهم الجلاء، أو لم يكتب. قوله تعالى: {قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (47)} إن أريد لَا يظلمون في القضاء فيكون تأكيد، وإن أريد لَا يظلمون مطلقا فيكون تأسيسا. قوله تعالى: {قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلَا نَفْعًا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ ... (49)} وقال في الأعراف (قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ) ابن عرفة: لما تقدم ذلك (يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ) ناسب تعقيبها بقوله (وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ) ولما تقدم هذه (وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ) بقوله (لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ) قلت: ولهذا أجاب ابن الزبير عن تقدم النفع هناك على الضرر، وتأخيره هنا، فقال: لما تقدم آية الأعراف سؤالهم عن الساعة، وتكرر في قوله (كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا) أي عالم بها، وظاهر سياق الآية أنهم كانوا يظنون عليه بها، والعلم بالشيء يقع لصاحبه؛ قدم فيها نفي النفع، ولما تقدم لهذه طلبهم تعجيل العذاب، بقولهم (مَتَى هَذَا الْوَعْدُ) استهزاء وتكذيب قدم فيها نفي الضر. قوله تعالى: {قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ ... (53)} ابن عرفة: يؤخذ منه جواز حلف الشاهد على شهادته، قاله بعضهم وهو يفيد قوله (أَلَا إِن لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ ... (55) .. قال: وجه مناسبتها لما قبلها أنه لما تقدمها (وَلَو أَنَّ

(57)

لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الْأَرْضِ لَافْتَدَتْ بِهِ) فقد يتوهم أنه تعالى مفتقر إلى أخذ الفداء؛ فنفى ذلك بقوله (أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ) الآية. قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ ... (57)} نقل ابن عرفة هنا كلام الزمخشري وابن عطية، ثم قال: ويحتمل عندي أن يكون المراد بالموعظة المعجزة، وبالشفاء الإيمان، وبالهدى فروعه، وكانت هدى؛ لأنها موصلة للسعادة، وبالرحمة حفظ الأموال والنفوس، وهي عامة بجميع المؤمنين، ووقع العطف على الترتيب والتأخير كما هو في الوجود الخارجي. قوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا ... (59)} يحتمل أن يكون من باب إطلاق السبب على المسبب؛ فيكون الرزق حقيقة في الطعام وأطلق عليه اسم الإنزال، ويحتمل العكس فيكون الرزق مجازا في الماء، والإنزال حقيقة، ولا دليل في الآية على أن الأشياء على الحظر والإباحة. وقوله (مِنْ رِزْقٍ) قال أبو حيان: للتبعيض أو لابتداء الغاية، قلت: بل لبيان الجنس، ولا يصح التبعيض؛ لأن رزقا مطلق إذ هو في سياق الثبوت فيصدق بصورة وبعض رزق واحد لَا يعينه ليس برزق، فإن قلت: إنه رزق، قلت: أقول لفظ البعض يتناوله، فإذا بعضته لم يكن جزاء رزقا. قوله تعالى: {وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ ... (60)} قال أبو حيان: العامل في يوم ظن، قلت: هو المفعول الأول، والثاني: محذوفا. قوله تعالى: (وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ). وقال: في سبأ (وَقَلِيل مِنْ عِبَادِيَ الشكُورُ) فينفي الشكر الخاص عن القليل، وهل الكثير هو الأكثر أم لَا؟ قال ابن عرفة الكثير هو الأكثر. قلت: بل هو لقوله تعالى: (قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) نِصْفَهُ)، فسمى النصف قليلا؛ فإذا كان قليلا فليس هو كثير فالكثير أنه إنما يصدق على ما فوق النصف، وكذلك الأكثر. قوله تعالى: (قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا).

ابن عرفة: يؤخذ منها بأن الأصل في الأشياء الإباحة؛ لأن الذم إنما ترتب على نفس التقسيم من غير اعتبار شيئين من الأقسام. قوله تعالى: (وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الْأَرْضِ لَافْتَدَتْ بِهِ). إشارة إلى ذم الاتصاف بأدنى الظلمة. قوله تعالى: (وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ). الزمخشري: ما الفائدة في إسرارها؟ وأجاب بأنهم لشدة ما نالهم من الهول لا يقدرون على إظهار الندامة، ورُد بأن مذهبه أن القادر على شيء قادر على ضده، وأجاب ابن عرفة: بأن ذلك عقلا، وهذا أمر عادي فقط. قوله تعالى: (وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ). القضاء بالقسط كان تأكيدا، وإن أريد لَا يظلمون مطلقا كان تأسيسا. قوله تعالى: (أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ). هذا احتراس؛ لأنه لما تقدمها (وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الْأَرْضِ لَافْتَدَتْ بِهِ) أوهم أن المفتدى منه ينتفع بذلك الفداء فنص هنا على أن الفداء به كله ملكة فلا حَاجة له في شيء من ذلك. قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ). قال ابن عرفة: كان بعضهم يقول: الموعظة هي المعجزة، والشفاء لما في الصدور هي دليلها، والإيمان بها والهدى هو الأحكام والشرائع التي بيانها، والرحمة حفظ الأموال والنفوس بالإيمان، كما في الحديث: " [أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، فَإِذَا قَالُوا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ، وَأَمْوَالَهُمْ إِلَّا بِحَقِّهَا، وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللهِ*] ".

(61)

قوله تعالى: (وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ). إشارة إلى أن كذبهم غير مسند إلى ظن ظنوه أو توهم توهموه بل هو مجرد عند وافتراء، أو يكون المعنى: أنهم كذبوا على الله وظنوا أنهم لَا يؤاخذون بذلك إلى يوم القيامة. قوله تعالى: {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ ... (61)} إلى قوله (إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا) يؤخذ منه أن الله تعالى عالم بالجزئيات كعلمه بالكليات. قوله تعالى: (إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ). ابن عرفة: هذا كقولك: أتعصي والله يراك. لأنه أزجر له من أن تنهاه عن العصيان، وإلا فرؤية الله تعالى سابقة قديمة، وتعليقها [بحالة*] العصيان تنفيرا للعاصي عن فعله. قيل لابن عرفة الرؤية لَا تتعلق بالمعدوم على تقدير وجوده. وقال الفخر: قوله تعالى: (شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ) إن قلت: فيه إيهام، فالجواب أن الشهادة أخص من العلم، فلا يلزم من نفيها نفيه. ابن عرفة: فيه نظر لبقاء السؤال في القدر الزائد، فإن قلت: الشهادة بمعنى البصر تتعلق بالمعدوم على أنه موجود، والعدم يتعلق به لَا على أنه موجود. قال بعضهم: قد يجاب بأن الفرق بين العلم والشهادة إنما هو في التسمية فقط، فقيل: الوجود يسمى علما وبعده شهادة واستبعده ابن عرفة. قوله تعالى: (وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ). فيها دليل لمن يقول بنفي الجوهر الفرد عند مثبته، فقوله تعالى: (وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ) يقتضي القيامة. قوله تعالى: (إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ). من باب تأكيد المدح بما يشبه الذم، وإن جعلنا الاستثناء متصلا لأنه يوهم أنه يعزب مع أنه معلوم له.

(62)

قوله تعالى: {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62)} على فوات محبوبهم، أو لَا يخافون لأن تفوتهم الجنة، ولا يتعلق عزمهم إلا بطاعة الله لَا يطمعون في جنة، ولا يخافون فواتها، ولا يحزنون على نقص لذاتهم في الدنيا. قوله تعالى: {لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ... (64)} بعصمة دمائهم وأموالهم إلا بحقها، وفي الآخرة بالنجاة من النار. قوله تعالى: {أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ ... (66)} عبر بمن [ ... ]. إما تغليبا للعاقل، أو لأن العاقل أشرف، فإذا ملكه فأحرى أن يملك غيره، فهو تنبيه على الأعلى بالأدنى، أو لأن ملكه لغير العاقل مقدم التنبيه عليه، بقوله (أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ) فإن قلت: لم كررت مَن في هذه الآية ولم يكررها في التي قبلها؟ فالجواب: أنه لما كانت أعم من التي قبلها أغنى ذلك العموم من تكرارها. قوله تعالى: (وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ). ابن عرفة: هذه سالبة كلية، والسالبة الكلية، قال المنطقيون: إنها تكذب [**إذا فكيف هم]؟ هذا مع أنهم جعلوا لله شريكا، فكان بعضهم يقول: هؤلاء شركاء في اعتقادهم وليسوا شركاء في نفس الأمر. قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا ... (67)} من باب حذف التقابل؛ أي جعل لكم الليل مظلما لتسكنوا فيه، والنهار مبصرا لتبصروا فيه. قوله تعالى: (لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ). عبر بالسمع لأنه أشرف وأعم من البصر، والعرب يؤرخون بالليالي [ ... ].

(68)

كذا [ ... ]. الأسبق في الأيكة وفي التاريخ؛ فلذلك قال (لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ) ولم يقل يبصرون؛ لأن الليل محل السماع فقط. قوله تعالى: {قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا ... (68)} ابن عرفة: هذا أخف من أن لو قالوا: ولد الله ولدا. قوله تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ ... (71)} ابن عرفة: إما تسلية له صلى الله عليه وسلم بكون قوم نوح كفروا به [وضايقوه*] مضايقة شديدة، وإما تخويفا لقريش أن ينزل بهم ما نزل بقوم نوح. قوله تعالى: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ ... (79)} فأحرى أن يطلب السحَّار. قوله تعالى: {قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ ... (81)} قيل: ما موصولة مبتدأ والسحر خبر، أو العكس؛ لأن الموصولات في رتبة فاعل مؤخر بالألف واللام فقد تساويا؛ لكن الخبر لَا يكون إلا متاويا للمبتدأ، وأعم منه والسحر يصدق على ما جاءوا به وعلى غيره، فهو أعم لأن ما جاءوا به ليس إلا سحرا إن الله سيبطله. قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ). السين للتحقيق أو للاستقبال، قيل له: بل لهما معا، فقال: يلزم عليه استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه؛ لأن كونها للتحقيق مجاز، وكونها للاستقبال حقيقة. قوله تعالى: (لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ). ولم يقل: يبطل عملهم، فالجواب: أن ما أتوا به باطل، والباطل قد ينصلح فأخبر عنه أنه يبطل ولا ينصلح. قوله تعالى: {وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ ... (82)} أي يظهره.

(88)

قوله تعالى (بِكَلِمَاتِهِ) يحتمل معنيين: إما أن المراد بوعده أي الحق الثابت في نفس الأمر بوعده وهو يضرهم على الكفار، وتعجيزه لهم يظهره الآن، ويحتمل أن يكون بكلمته؛ أي بقوله (كُنْ فَيَكُونُ)، وقوله (بِكَلِمَاتِهِ) يحتمل أن يتعلق بحق أو بالحق، لكن قال الزمخشري في قوله تعالى: (ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ) هل يتعلق (مِنَ الْأَرْضِ) بـ (دَعْوَةً) أو بـ (دَعَاكُمْ)؟ قال [إذا جاء نهر الله*] بطل [نهر*] معقل، وكذلك هنا. قال ابن عرفة: يحتمل أن يقال ذلك، إنما ذلك إذا اتخذ معنى التعلق فيهما، وهو هنا مختلف؛ لأن معناه في الأول: ويظهر الحق بكلمته الحق الثابت في نفس الأمر، ومعناه الثاني: ويظهر الله الحق المصاحب لكلماته أو نحوه. قوله تعالى: (وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ). لو بمعنى إن، وليست مثل: أكرم السائل ولو أتاك على فرس؛ لأن تلك دخلت على ما يتوهم نفيه؛ لأنه إذا أتى على فرس لم يكرم، وكذلك (وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ) وهنا إذا كره المجرمون فإظهار الحق ثابت ولا يتوهم نفيه. والجواب أن المراد الإخبار بجهلهم وغباوتهم، وأنهم في مقام يظن الظان بهم لو كرهوا ظهور الحق لم يظهر. قوله تعالى: {آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ... (88)} من عطف الخاص على العام. قوله تعالى: (رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ). يؤخذ منها جواز الدعاء على الكافر بالموت على الكفر، وأجيب باحتمال أن يكون أوحى إليه أنهم لَا يؤمنون؛ هذا إن كان (فَلا يُؤمِنُوا) منصوبا بالجواب، قوله (اطْمِسْ) يحتمل أن يعطف على قوله (لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ) فلا يكون فيه دليل. قوله تعالى: {أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ ... (90)} يؤخذ منه جواز التقليد في العقائد؛ لقوله [(آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ) *]: يدل على أنه لو قال هذه الكلمة قبل ذلك لَا ينتفع بها. قوله تعالى: {فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ ... (94)}

(102)

ابن عرفة: كان بعضهم يقول: معناه فإن كنت في شك من كيفية مما أنزلنا إليك من اختلافهم؛ لأنه أنزل إليه الآية التي قبلها، وهي (فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جَاءَهُمُ الْعِلْمُ) أي فإن وقع عندك شك في كيفية اختلاف الأمم السالفة، (فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ) يخبروك بكيفية اختلافهم، ابن عرفة: ويؤخذ من الآية أحد أمرين: إما أن خبر التوراة يفيد العلم، ولنا جواز العمل بخبر الواحد؛ لأن المسؤلين إما بالغون عدد التواتر أو لا. قوله تعالى: (فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ). ابن عرفة: الافتراء أخص من الشك؛ لأن الشك هو التردد في أمر دليل قابل للظهور والخفاء، والافتراء هو التردد في أمر دليله ظاهر قوي لَا يخفى على أحد، ويؤيد ذلك قوله (لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ). قوله تعالى: {فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ ... (102)} إما أن يراد فهل يقصدون في الانتظار بكم إلا مثل ما حل بالأمم السالفة، أو يراد فهل حالهم في الانتظار لما يحل بهم إلا حال الأمم السالفة فهذا انتظار عن غير قصد. قوله تعالى: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ ... (107)} ابن عرفة: عادتهم يقولون: لم عبر في الأول بالمس وفي الثاني بالإرادة؟ فعادتهم يجيبون بأن المس أبلغ من إرادة المس، فقصد في الأول تعليق الشرط بأقوى الأمور؛ لأنه لَا يفتقر إلى الشفيع والمكاشف إلا [عند*] عظائم الأمور، وسرائرها وأما [الخير*] فقصد فيه التنبيه على أنه إذا وقع بك قليله، فلا راد لفضله، واسع كثير يأتي بأكثر منه [ولا راد له*]. قوله تعالى: {فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ ... (108)} يؤخذ منها منع الوصية بالحج مع أن مالكا أجازها ومنع الاستئجار على الحج في الحياة. قوله تعالى: (وَاتَبعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ). يؤخذ منه أنه - صلى الله عليه وسلم - ليس بمجتهد، قلت: وتقدم لابن عرفة فيها في الختمة الأخرى بما نصه قوله (وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ) أي يظهره، قوله (بكَلِمَاتِهِ) يحتمل معنيين: إما بوعده بالنصر عليهم فيظهرهم الآن، وإما بقوله (كُنْ فَيَكُونُ) قوله (قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا

أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ) إما أن الرزق حقيقة في الطعام وأطلق عليه الإنزال من مجاز إطلاق اسم السبب على سببه أو العكس؛ فالإنزال حقيقة في الماء وإطلاق الرزق على الماء مجاز، قوله (وَلَكِنَّ أَكثَرَهُم لَا يَشكرُونَ) نفى عن الكثير مطلق الشكر، وقال في سورة سبأ (وَقَلِيلٌ مِن عِبَادِيَ الشكُورُ) فأثبت للقليل أخص الشكر؛ فدل بالمفهوم على نفيه عن الكثير وإثبات مطلق الشكر له، فهل الكثير هو الأكثر أم لَا؟ فيه نظر. * * *

سورة هود

سُورَةُ هُودٍ - عَلَيهِ السَّلَامُ - قوله تعالى: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ ... (1)} أشار الزمخشري إلى أن في الآية الطباق واللف والنشر؛ أما الطباق فبين أحكام الآية وتفصيلها، فإن قلت: ليس أحدهما ضد الآخر، قلنا: أحدهما ليس نسب مع ضد الآخر، وأما اللف والنشر ففي (حَكِيمٍ خَبِيرٍ). قوله تعالى: {نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ (2)} قدم النذارة بوجهين. أحدهما: إن وقع المؤلم آكد من طلب الملائم. الثاني: أن النذارة لمن خالف، والبشارة لمن امتثل، وحالهم ابتداء إنما هي الكفر والمخالفة. قوله تعالى: {وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ ... (3)} إذا قلت: ما أفاد عطف التوبة على الاستغفار، قلت: الاستغفار الندم على فعل المعاصي وطلب سترها فقط، والتوبة كذلك مع زيادة العزم على ألا يعود، فإن قلت: كيف يفهم يمتع المؤمن متاعا حسنا مع ما ورد أن "الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر وراحته"، فالجواب: إما بأن ما ناله كل فريق منهما في الدنيا بالنسبة إلى ما يناله في الآخرة ليس بشيء. الثاني: أن [يمتع*] المؤمن موصوف بكونه حسنا بخلاف الكافر. قوله تعالى: {فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ ... (14)} ابن عرفة: الصواب في معناه أنتم تقولون إنه مفترًى فاعلموا أن الله أنزله عالماً [ ... ].

(15)

(فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) قيل: أي منقادون، وقيل: أي مخلصون. ابن عرفة: وهو أصوب لأنهم كانوا منقادين غير أن عبادتهم لله [أشركوا*] فيها غيره معه، فطلب منهم إخلاصه لله عز وجل. قوله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا ... (15)} ابن عطية: عن قتادة، والضحاك هي خاصة بالكفار، وعن مجاهد هي عامة فيهم، وفي أهل الرياء من المسلمين، قال: فعلى الأول معناه يتعمدها ويقصدها ولا يقصد به، وعلى الثاني معناه يجمعها [ويفضلها*] ويؤثرها على الآخرة. قوله تعالى: {لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ ... (16)} هو في الأول على ظاهره، وفي الثاني عام باق على عمومه ويكون ليس لهم في الآخرة إلا النار مجاز فيتعارض فيه المجاز والتخصيص، وكان بعضهم يقول: معنى قوله (لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ) أي ليس لأعمالهم جزاء بوجه؛ لأنها أعمال خالطها الرياء فليس لها ثواب بوجه، كقولك: ليس لفلان عندي إلا السيف، وأنه لا تعاقبه، وإنما تقصد عندك أنك لَا تعظم شيء بوجه. قوله تعالى: (وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ). قال ابن عرفة: هذا تأسيس وليس بتأكيد، فقوله (وَحَبِطَ) إشارة إلى ما هو صحيح باعتبار أصله، وعرض له ما أوجب فساده. وقوله (وَبَاطِلٌ) إشارة إلى ما هو فاسد من أصله، فكذلك أتى بلفظ الاسم، والأول بالفعل هذا كعمل الكافر وعمل المسلم المرائي؛ فمن قوله (أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ ... (17) .. والشرعي هو ما دل عليه كتاب موسى. قوله تعالى: (وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ). إن قلت: ما أفاد قوله (مِنَ الْأَحْزَابِ)؟ فالجواب أن فيه [تبكيتا*] على صناديد الكفار كأبي جهل ونحوه، واختار ابن عرفة في (أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ) أنها عامة في جميع المؤمنين من الأمم كلهم، فقيل: فكيف يفعل في قوم نوح مع قوله (وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى) فقال: يتلوه شاهد منه هو النبي عليه السلام، ومن قبله عائد على الشاهد لَا على من كان على بينة. قوله تعالى: (فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ).

(18)

ابن عرفة: يؤخذ منها بأن الشك ليس هو أول الواجبات بل أولها النظر؛ لأنه في الآية منهي عنه، فلو كان واجبا لما صح النهي عنه يقول: الواجب غير منهي عنه فليس بواجب، وأجيب بأن ذلك في الشك المطلق، وهو في الآية مقيد بشيء خاص. قوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى ... (18)} مع قوله (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ) متناقض والجمع بينهما بوجهين: إما بتساويهما، وإما بأن أحدهما عام مخصوص. قوله تعالى: (أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ). [لم يقل*] (على الله)، مع أنه المناسب في الآية، فالجواب أن عصيان المحسن إليك أشد وأشنع من عصيان العادل فيك، [فالعرض*] على من أسأت إليه، وهو يحسن إليك أشد بأسا من العرض على من أسأت إليه وهو يعدل فيك. قوله تعالى: {وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا ... (19)} فسر ابن عرفة بوجهين: إما ويبغون العوج فيها، أو ويبغون العوج لغيرهم؛ وهو إبعاده عنها، وقال ابن عطية (وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا) أي يطلبون الوصول إليها بطريق وهو قولهم (مَا نَعْبُدُهُم إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى). قوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ ... (21)} أي خسروا نجاة أنفسهم وهذا مثل ما قالوا في قوله تعالى: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ) إلى قوله (ثُمَّ أنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ) فيه الإنباء بما يأتي، أو التهكم بما يأتي؛ لأنه يأتي بلفظ يستدل به على ما يأتي بعده؛ فلذلك قال عبد الله بن سعد بن أبي سرح (فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ) قيل له: كذا [نزلت*] فارتد عن الإسلام ثم أسلم [وحسن*] إسلامه. قوله تعالى: (وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ). تأسيس والمراد أن الإنسان في الدنيا إذا نالته مشقة فإنه تأتيه أصحابه وأقاربه فيسألونه ويصبرونه، ويأخذون بقلبه، وهؤلاء في الآخرة يذهب عنهم جميع من كانوا يعتقدون أنه ينفعهم. قوله تعالى: {وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ ... (23)}

(34)

هذا تنبيه بالأدنى على الأعلى؛ لأنهم إذا تضرعوا إليه مع استحضارهم رحمته ورأفته عليهم فأحرى مع استحضارهم قهره وعذابه، قيل لابن عرفة: ذكر في فريق الكافرين لازم الجزاء، وذكر هنا نفس الجزاء، فقال في الأول (أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا) ولم يقل (أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُم فِيهَا خَالِدُونَ)، ولم يقل في الثاني (أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) فأجيب بوجهين: الأول: أن في الآية حذف المقابل؛ أي وهم أصحاب النار، وفي الثاني (أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) وهم المفلحون. الثاني: أن مقام التخويف يكتفى فيه. قوله تعالى: {وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ ... (34)} احتج هنا المقترح لأهل السنة في أن الله تعالى يخلق الخير والشر ويريدهما، وأجيب بما قال ابن الأثير من أن ملازمة الشيء للشيء لَا تدل على وقوعه ولا على إمكان وقوعه حسبما تقدم في قوله تعالى: (مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا)، وتقدم الرد عليه بأن سياق الآية يدل على ذلك لأنها سيقت للمدح؛ وذلك دليل على الوقوع ولذلك هذه سيقت للذم فتدل على الوقوع، وأجاب بعض الطلبة بأن الشرط الثاني جواب للشرط الأول، والتقدير إن كان الله يريد أن يغويكم فلا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم، ونصحه وعدم نصحه واقع فوقوع الجواب يدل على وقوع الشرط، ورد ابن عرفة بأن الشرط ملزوم وجوابه لازم، ولا يلزم من وقوع اللازم وقوع ملزومه بوجه؛ بل يقع وقد لَا يقع. قوله تعالى: {وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا ... (37)} جمع الأعين، وقال في طه (وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَينِي) فأفرد الجواب أن الفلك هنا حفظ لنوح ولقومه، فلذلك جمع الأعين والحفظ في طه لموسى فقط. قوله تعالى: {وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا ... (41)} الضمير عائد على نوح أو على الله وما قبله يدل على أنه لله تعالى، لقوله (قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا) ويكون التفاتا بالخروج من التكلم إلى الغيبة، وما بعده يدل على أنه لنوح لقوله (إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ)، فإن قلت: المناسب هنا وصف القهر والغلبة، قلنا: وصف الرحمة أنسب لأنه نسب نوحا إلى عمل السفينة لينجو فيها هو وقومه. قوله تعالى: {وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ (42)}

(43)

ولم يقل: مع المغرقين إشارة إلى أن من له عقل وهمه ينبغي أن يكون تحفظه على صون نفسه؛ لأن حفظ الأديان له من حفظ النفوس، وذكر هنا الزمخشري وابن عطية أن هذا الولد لم يكن ابن رشد، وإنما كان ابن زنا، قال ابن عرفة: وعادتهم ينكرون هذا فإن الأنبياء معصومون من أن ينسبوا لأنفسهم ما ليس لهم، قال: والدليل على ذلك قوله في سورة التحريم (فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا) فدل على أنه طلب نجاة زوجته من العذاب، فلم يسعف بمطلبه، فهو بريء من ذلك، ولو كان له في ذلك من ذلك ذنب لما كان في [وسعه*] أن يطلب نجاتها من العذاب. قوله تعالى: {سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ ... (43)} قال ابن عرفة: هذا على أسلوب المنطق من أن [الموجبة*] الجزئية ترتفع بالسالبة الكلية، قال: ويعصمني إنما هو بمعنى يحفظني، وإن [**جعلنا بمعنى] فيرد فيه إشكال وهو أن المتبادر للفهم إن كان يقال [**بمنع العاصم؛ لأنه هو الذي يتضرر بالماء، ويتسبب فيما يمنع العاصم أن يضره]. قوله تعالى: (لَا عَاصِمَ الْيَومَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ). استثناء إما منفصل أو متصل؛ فإن كان المراد لَا معصوم؛ أي لأن العصمة [ ... ]. قوله تعالى: (إِلَّا مَنْ رَحِمَ). [لا عاصم اليوم من الطوفان إلا من رحم الله*] (¬1)، وإما أن المراد إلا الراحم، والراحم هو الله تعالى لَا غيره، وجعله ابن عطية مستثنى من المفهوم فهو، كما يقول الزمخشري: مستثنى من أعم الأعم؛ لأن نفي العاصم يستلزم نفي المعصوم باستثناء المرحوم من رحم لازم لَا بها، وقيل: إنه استثناء منقطع، قال: وعادة الطلبة يقولون: جاء الحكم في زيادة لفظ اليوم مع أن العاصم من أمر الله منفي مطلقا، قال: فمفهومه أنه موجود في غير ذلك اليوم، قال: وأجيب بأنه مفهوم موافقة؛ لأن الإنسان ما يطلب على العاصم والمنجي إلا عند نزول الشدائد به والمصائب، أما إذا كان بمنجاة منا فلا يطلب عليه بوجه فإذا انتفى العاصم حالة الحرص على طلبه والحاجة إليه فأحرى أن ينتفي حالة عدم الحرص على طلبه والبحث عنه. قوله تعالى: {وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ ... (44)} ¬

_ (¬1) العبارة في المطبوع غير مفهومة، ونصها "أي ذو لبن وذو تمر" والمثبت من الكشاف. اهـ

(45)

والماء فيها الجلال في إيضاح بيانه، ابن عرفة: وعادتهم يوردون فيها سؤالا وهو أن العادة المألوفة في الأراضي أن الإنسان يشتغل أولا بدفع الماء الوارد عليها قبل اشتغاله بزوال ما حصل فيها، وجاءت الآية على العكس، وأجيب بوجهين: أحدهما: أن الماء كان يطلع من الأرض مثلما ينزل من السماء فهو أكثر لأن الأرض فيها ما فيها وما في السماء. الثاني: أن المقصود حصول استقرار السفينة فكان الأهم البداء بالأرض التي تستقر فيها إذا بلغت ماءها، قال: وكان بعضهم يقول إن في الآية اللف والنشر، فقوله (وَغِيضَ الْمَاءُ) راجع لقوله (وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي). قوله تعالى: {فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي ... (45)} ابن عرفة: هذا السؤال بعد وقوع ما وقع إنما هو ليبين له فهم ما وقع عنده فيه وهمٌ وإشكال، وأورد الزمخشري هنا سؤالا، قال: كيف عطف هذا بالفاء مع أن الجملة الثانية في معنى الأولى؛ فالمناسب فيها الوصل لَا الفصل؟ وأجاب بأن المعنى أراد النداء (فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي) فهو من عطف المسبب على السببية ولو أراد النداء نفسه؛ لجاز بغير عطف كقوله (إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا (3) قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا) ابن عرفة: وكان بعضهم يقول في هذا بإن كان النفع بالنداء راجعا للمنادي فإِنه لَا يؤتى فيه بحرف العطف ولا بلفظ قال، كقوله تعالى: (فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا)، وإن كان النفع راجعا للمنادي؛ فإن لم يَكن فيه بعد وغرابة فإنه يؤتى فيه بقال دون حرف العطف، كقوله (إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا (3) قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي) إذ لَا غرابة في تضرع المخلوق للخالق، وإن كان فيه بعد وغرابة فإنه يؤتى فيه بقال مع حرف العطف، فهذه الآية إشعار بأن هناك مقدر؛ أي ناداه وخشع له وأظهر الذلة والافتقار (فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي). قوله تعالى: (إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي). [على*] معنى مقدمتين، أي وكل أهلي ناج بوعدك الحق الصدق فإنني ناج، قال: وكان بعضهم يقول: في الآية حجة للمعتزلة القائلين بأن الأمر يستلزم الإرادة؛ لأن قبلها (قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ) ففهم نوح عليه السلام من أمره له بحمل أهله وعده له بسلامة من يحمله معه، فدل ذلك على أن الأمر يستلزم الإرادة إذ لو لم يستلزمها لما قال نوح (وَعْدَكَ الْحَقُّ) وأجيب بأنه إنما فهمه من القرائن

(46)

الحالية لَا من لفظ الأمر، وأخطأ ابن عطية هنا في أمرين؛ أحدهما أنه قال: وقرأ بعضهم (46) [(إنهُ عَمِلَ غَيرَ صَالِحٍ) *] وهي قراءة الكسائي: [وروت*] هذه القراءة أم سَلمة وعائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وضعفها الطبري وطعن في الحديث؛ لأنه من طريق شهر بن حوشب، قال ابن عرفة: فتح الميم غير متواترة وهذا خطأ، الثاني: قوله في ولد نوح [إنه ليس*] يؤكده، وأن امرأته خائنة فيه، وأخطأ أبو حيان وقال: قرأ حمزة والكسائي (تَسْأَلَنِّ) بالنون والياء وليس [كذلك*]. إنما قرآ بالنون لا غير*] (¬1). قوله تعالى: (إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ) وقال في سورة الأنعام (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ) وتكلم عليها ابن عطية هناك، وتقدم لنا نحن الكلام عليها بما فيه كفاية. قوله تعالى: {قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ ... (47)} ابن عرفة: كان بعضهم يقول: معناه أن أسألك ما ليس لي به علم بإباحة السؤال عنه، ولا يسأل الإنسان إلا عن ما ليس له به علم، وقال (إِنِّي أَعُوذُ بِكَ) بلفظ المستقبل، وكذلك في سورة قد أفلح (وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ)، وقال في سورة الدخان (وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ) بلفظ الماضي، فكان بعضهم يقول: حكمة ذلك أنه إن كان المستعيذ تقدمت منه حالة منافية لحالة الاستعاذة؛ فيؤتى بفعل الاستبعاد مستقبلا، ونوح عليه السلام تقدم عنه السؤال، وموسى عليه السلام ينتهي عنه سؤال. قوله تعالى: (حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ). قال أكثر النحويين على أن حتى حرف غاية، وأن الغاية لازمة لها مطلقا، وقال ابن خروف في شرح سيبويه، قوله تعالى: (مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ) الزوج يطلق على الذكر وحده وعلى الأنثى وحدها، لقوله تعالى: (ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ)، ولو كان إنما يطلق على مجموع الزوجين لقال أربعة أزواج، وقدم الحيوان غير العاقل على الأهل؛ لأنه أقل لهم قدرة على القيام بأنفسهم بخلاف غير العاقل. ¬

_ (¬1) في نسبة هذا الكلام إلى أبي حيان نظر. وهذا نص في البحر المحيط هكذا: "وَقَرَأَ الصَّاحِبَانِ: تَسْأَلَنِّ بِتَشْدِيدِ النُّونِ مَكْسُورَةً، وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ وَشَيْبَةُ وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ كَذَلِكَ، إِلَّا أَنَّهُمْ أثبتوا الياء بَعْدَ النُّونِ، وَابْنُ كَثِيرٍ بِتَشْدِيدِهَا مَفْتُوحَةً وَهِيَ قِرَاءَةُ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ: تَسَالْنِي مِنْ غَيْرِ هَمْزٍ، مِنْ سَالَ يَسَالُ، وَهُمَا يَتَسَاوَلَانِ، وَهِيَ لُغَةٌ سَائِرَةٌ. وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ بِالْهَمْزِ وَإِسْكَانِ اللَّامِ وَكَسْرِ النُّونِ وَتَخْفِيفِهَا، وَأَثْبَتَ الْيَاءَ فِي الْوَصْلِ وَرْشٌ وَأَبُو عَمْرٍو، وَحَذَفَهَا الْبَاقُونَ". اهـ (البحر المحيط. 6/ 162).

(52)

قوله تعالى: (إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ). نص ابن عصفور على أنه لَا يجوز استثناء المجهول، فلا يقول: قام القوم إلا رجال، وأجيب بأن من سبق عليه القول مجهول الذات، معلوم الوصف، كما نقول: قام القوم إلا الغفلاء. قوله تعالى: (وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا). ابن عرفة: على مقتضى تركيب هذه الآية يكون قول القائل: بسم الله عند أكله مريدا به آكل بسم الله أبلغ من قوله: بسم الله يريد به أبدأ بسم الله؛ لأنه في الأول ناله بركة التسمية في جميع الطعام، وكذلك اقتضت [أن اسم الله*] مصاحب لها في [الطعام*] من أوله إلى آخره. قوله تعالى: {وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ ... (52)} قال ابن عطية: الاستغفار طلب [طلب المغفرة، وقد يكون ذلك باللسان، وقد يكون بإنابة القلب وطلب الاسترشاد والحرص على وجود المحجة الواضحة]، وهذه أحواله يمكن أن تقع من الكافرين، فكأنه قال لهم: اطلبوا غفران الله بالإنابة، وطلب الدليل في [نبوتي*] ثم توبوا بالإيمان من [كفركم*]، ثم تكلم ابن عطية بكلام كثير، ورده ابن عرفة: بأن التوبة من الكفر لَا يحتاج فيها إلى الندم على الكفر بوجه مغفور له كلما سلف فيه؛ لأن الإسلام يجبُّ ما قبله؛ بخلاف التوبة من المعاصي فإنها مظنونة فلا بد فيها من الندم على ما فات. قوله تعالى: {فَكِيدُونِي جَمِيعًا ... (55)} قال ابن عرفة: كان بعضهم يأخذ منه أنه أعم بالمعجزة؛ لأنه أمرهم بأن يكيدوه فلم يقدروا مع أن الجماعة إذا اجتمعوا على الواحد يغلبونه من غير كيد فأحرى مع الكيد. قوله تعالى: {مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا ... (56)} قال ابن عرفة: هذا من العام الباقي على عمومه، قيل له: إن الناموس والنحلة وغيرهما لَا ناصية لها، فقال: ناصية كل شيء بجنسه، أو ليس المراد حقيقة الناصية بل المراد القدرة على الأشياء والاستيلاء عليها. قوله تعالى: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ ... (57)}

(59)

أورد الزمخشري هنا أن الجزاء متأخر عن الشرط مع أن التولي متقدم في الآية على التبليغ، وأجاب بأن المراد: فإن تولوا فلا حرج لأني قد أبلغتكم، قال ابن عرفة: وعادتهم يجيبون بوجهين: الأول: أن ذلك إنما هو في الأمر البسيط والتبليغ مركب [فالتبليغ*] متقدم على التولي أو بعده؛ فإن قلتم: إنه [منفي*] قبله فلا فائدة لنفيه بعده، وإن قلتم: إنه مثبت قبل التولي خالفتم الإجماع إذ هو منفي عنه بالإجماع فلا يزال السؤال واردا. قوله تعالى: {وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (59)} قال ابن عرفة: دخلت كل على جبار، ولم يقل: اتبعوا كل أمر جبار عنيد، هذا هو الصواب؛ لأن المراد أنهم اتبعوه فيما فيه مخالفة للشرع فلم يتبعوا كل أمره. قوله تعالى: {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا ... (61)} ثم قال (فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ) عطف استغفروه بالفاء، والتوبة بـ ثم؛ لأن الاستغفار طلب ودعاء، والطلب لما يحتاج فيه الإنسان إلى تردد لَا إلى تأمل، والتوبة فعل، والفعل لَا يقدم عليه الإنسان إلا بعد تأمل وتدبر. قوله تعالى: (إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ). ابن عرفة: إن قلت كان الأصل أن يقول: أرأيتم إن كنت على بينة من ربي فيستحيل رجوعي عنها لأن من فهم المقدمتين والنتيجة حصل له علم ضروري بمعلوم يستحيل زواله عقلا، فالجواب أن الدليل البرهاني لَا يجادل به العوام؛ فأتاهم بما يفهمونه وهو الدليل الخطابي. قوله تعالى: {أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا ... (62)} أخذوا منها أن الأمر بالشيء نهي عن ضده، قال: لأنه قال لهم: اعبدوا الله، فأجابوه بأنه نهاهم عن عبادة غيره إنكارا عليه، وأجيب بأن النهي راجع لقوله (مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ). قوله تعالى: {قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي ... (63)} هذا الخطاب على سبيل التلطف؛ لأنه لو قال لهم: إنك على بينة من ربي لعائد وإن لم يرجعوا لقوله، وخاطبهم بـ[إن*] المقتضية للشك؛ لأنهم خاطبوه أيضا مخاطبة الشاك من ثلاثة أوجه:

(69)

أحدها: خطابهم له بلفظ الرجاء، والثاني: قد المقتضية للتوقع مع الماضي دون التحقيق، فقالوا: (قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا)، والثالث: قولهم (وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ) ابن عرفة: الريب أخص من الشك فلذلك وصف به، قلت: وانظر ما تقدم في براءة في قوله تعالى: (وَارْتَابَت قُلُوبُهُمْ). قوله تعالى: (فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ). إما أن المراد غير خسارة تنالكم وعدم إيمانكم بلحوق العذاب بكم، والإهلاك وصل فيَّ بالغمِّ اللاحق لي بسبب كفركم، أو يراد الجميع؛ أي خسارة لي ولكم. قوله تعالى: {قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ ... (69)} قال ابن عرفة: قالوا [سلام الملائكة بليغ من جهة المصدر*]، وسلام إبراهيم بليغ من جهة إتيانه معبرا عنه بالاسم دون الفعل، والاسم يقتضي الثبوت واللزوم، ولذلك قال الشاعر: [لَا يأْلَفُ الدرْهَمُ المَضْرُوبُ صُرّتَنا ... لكنِ يمُرُّ عَليها وَهْوَ مُنْطَلِقُ*] وكان بعضهم يقول: إنما إلى سلام الملائكة بالفعل، وسلام إبراهيم بالاسم من ناحية أن سلام الأشرف بعيد على المشروف فما يتوهم عدم وقوعه بالفعل المقتضي للوقوع والتجرد، وسلام المشروف على الأشرف لَا يستغرق وقوعه، وإنما يتوهم فيه عدم الدوام بحصوله ثابت في الذهن؛ وإنما المتوهم انقطاعه وعدم دوامه فعبر عنه بالاسم المقتضي للثبوت واللزوم دائما، وقيل لابن عرفة: هذا على القول بأن الملائكة أشرف من الأنبياء، فقال: وإذ قلنا إن الأنبياء أشرف؛ فسلام الملائكة مما يستغرب؛ لأنه من سلام الجنس على غير جنسه، أما الرد فلا يستغرب، وانظر ما تقدم في أول سورة الفاتحة، وفي سورة الأنعام قوله (فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ). قوله تعالى: (وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا). قال ابن عرفة: جرت عادة المفسرين في القرآن إما تسلية للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، أو لتخويف الكفار وزجرهم لما جرى لمن قبلهم. قوله تعالى: (مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ). إشارة إلى كمال افتقارهم؛ لأن الإله هو المفتقر إليه، وقولكم له (لَكُم) إشارة إلى عدم استقلالهم، وكمال احتياجهم إليه. قوله تعالى: (أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ).

قال الزمخشري: أنشأ آباءكم. وقال الفخر: أنشأنا من المني، والمني من الدم، والدم من الأغذية، والأغذية من النبات، والنبات من الأرض. قال ابن عرفة: وهذا أحسن ولا يحتاج فيه إلى إضمار. قوله تعالى: (وَاسْتَعْمَرَكُمْ). إما بمعنى أنه أعمركم، وإما من العمر أي أبقاكم فيها، أو جعلكم معمرين غيركم أي [**قصور الجنة]، ورده بأنه ليس في هذا نعمة، والآية خرجت مخرج الامتنان. قوله تعالى: (فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ). عطف استغفروه بالفاء للسبب؛ أي استغفروه بسبب هذه النعم، وعطف توبوا بـ ثم لأن الاستغفار دعاء وطلب والتوبة فعل، والإنسان ما يحتاج في المطلب إلى تروٍّ، وأما الفعل ولاسيما التوبة فإِنه لَا يقدم عليها حتى يتروى ويفكر. قوله تعالى: (مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا). قلت لابن عرفة: إن كان المراد به الزمن القريب من الحال فلا فائدة، فيدفع قوله (قَدْ كُنْتَ)، وإن أراد البعيد فذلك مناقض لمعنى قد، فقال: أتى به ليفيد أنه في الحال غير مرجو. قوله تعالى: (أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ). قال ابن عرفة: وذلك أن الإنسان إذا حصلت له [ ... ] يستحيل له [العلم الضروري*] الذي يستحيل زواله عقلا؛ بخلاف غير هذا، فإن الإنسان قد يكون يشرب الخمر ثم يتركه، ويكون يزني ثم يتوب، وصالح عليه السلام قال (إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ) قول يقال: كان الأصل أن يقول: إن كنت على بينة من ربي فيستحيل رجوعي عن ذلك؛ لأنه من الأمر الضروري الذي يستحيل زواله، فأجاب ابن عرفة: بأن الدليل البرهاني لَا يخاطب به العوام، فأتى بالدليل الخطابي، لأنه هو الذي يفهمونه. قوله تعالى: (لَكُم آيَةً). قال: آية حال، والحال من شرطها عند ابن عصفور الانتقال، وهذه ليست إلا آية، فأجاب بوجهين:

الأول: أن ابن هشام في شرح [الإيضاح*]. نص على عدم اشتراط الانتقال فيها. والثاني: أنها مثل خلق الله [زيدا أزرق]؛ لأن الناقة من حيث هي يمكن أن تكون آية، [أو لا*]. قوله تعالى: (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ). راجع لقوله تعالى: (وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ). قوله تعالى: (الْعَزِيزُ). راجع لقوله (وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ) لأن الخزي يستلزم الإذلال والإهانة وذلك ضد العز، وعبر بالديار هنا لأن الصيحة صوت عام ليخص كل واحد في خزيه على حدته والرجفة حركة يقال بجميعهم، ولا يتخلف بل هي في حقهم واحدة. قوله تعالى: (كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا). شبه حالهم بعد الهلاك بحالهم قبل وجودهم، والوصف الجامع بينهم هو قوله تعالى: [(أَلَا بُعْدًا لِثَمُودَ) *] قال أبو طالب في القوت: إن البعد من الله أشد من العقوبة بعذابه، واستدل بأن قصة صالح وقصة هود محتجا بهما، فقيل: ألا بعدا لعاد قوم هود ألا بعدا لثمود. قوله تعالى: (وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا) قيل: الظاهر أن اللام جواب قسم، وظاهر كلام الفخر أنها لام الابتداء، وهو غير صحيح؛ لأنها مع قد. قوله تعالى: (رُسُلُنَا). قال [الفخر: الصحيح أنهم ثلاثة لأنه المتعين*]، قال ابن عرفة: بل الصحيح أنهم اثنان؛ لأن أصل الجمع على أحد القولين؛ اثنان فهو يفيد الاثنين على كل مأول. قوله تعالى: (قَالُوا سَلَامًا). قال السكاكي وغيره من البيانيين: سلام إبراهيم أبلغ لأنه بالاسم والآخر بالفعل، فرده ابن عرفة بأن سلام الملائكة مؤكد بالمصدر فهو أبلغ؛ فصار كقوله تعالى: (وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا)، وأجيب بأن المصدر إنما يؤكد

(81)

الفعل المتقدم، والفعل يقتضي التجدد فأكده وبقي على ما هو عليه من اقتضائه التجدد، ورده ابن عرفة بأن قام زيد قياماً أبلغ من زيد قائم، قلت: وهنا ذكر أبو المطرف ابن عمير كلام السكاكي وهو أن الفعل يقتضي التجدد، والإخبار بالاسم يقتضي الثبوت، قال: هذا الرأي غريب ولا مستند له بعلمه إلا أن يكون قد سمع أن في مقولة أن يفعل وأن لَا يفعل، هذا المعنى من التجدد بحسب هذا الفعل القسيم للأسماء فذهب في غير طريق، ثم قال بعد كلام طويل: إن الثبوت صفة لَا بد لها من محل ومحلها السلام إذ هو الثابت، فهذا السلام إن كان المراد به المنطوق به المسموع بالصوت والحروف فقد تساوت السلامات في الحدوث؛ بل سلام الملائكة أسبق، وإن أراد به الكلام النفسي فقد تساوى أيضا في الشعور بدونها أن الإعراب هنالك، وإنما الإعراب للألفاظ المسموعة والمكتوبة، قال ابن عرفة: وهذا كلام في غاية الضعف، وعليه كان الفقيه أبو الطيب الفزاري: قال لي: لو مكني جمع نسخ ابن عميرة كلها لأحرقتها، وتعقبه عليه في قوله: إن الإخبار بالاسم يقتضي الثبوت غير صحيح. قال الزمخشري: ذكره في قوله هذه السورة (ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ)، فانظر تجده فيه مستوفى، وذكر أيضا الزمخشري نحوه في أول سورة إبراهيم في قوله تعالى: (وَوَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَاب شَدِيدٍ)، وذكره أيضا الزمخشري في سورة الفاتحة في قوله (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ). قوله تعالى: (فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ). قلت له: لَا يصح أن يكون ما موصولة بمعنى الذي؛ لأنكم قلتم: إن المراد هنا إبراهيم فلا يصح أن يقع إلا بها ما لَا يعقل، فإِن قلتم: المراد بها العجل فأين العائد، فإِن قلتم: العائد الذي في لبث، قلت: اللبث من صفة إبراهيم لَا من صفة العجل. قوله تعالى: {وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ ... (81)} قرأ بالرفع والنصب، قال أبو عبد الله: ولو قرئ: ولا يلتفتُ برفع الفعل لصح رفع امرأتك ولكنه نهي؛ فلو استثنيت منه المرأة للزم إباحة الالتفات إليها فيفسد معنى الآية، قال ابن عطية: هذا مردود فإنه مستثنى من (أَحَدٌ) رُفعت التاء أو جزمت، وأجاب ابن عرفة: بأنه على قراءة الجزم يكون نهيا عن الالتفات؛ فيدل على إباحة ضده؛ بخلاف الرفع فإِنه نفي ونفي الشيء لَا يدل على ثبوت ما عداه بوجه.

(87)

قوله تعالى: {قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا ... (87)} ابن عرفة: في الآية دليل على أن الأمر بالشيء نهي عن ضده؛ لأن الصادر من شعيب عليه السلام هو الأمر بعبادة الله سبحانه، فأجابوه بقولهم (أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا) فلو لم يكن الأمر بالشيء نهيا عن ضده لكان قولهم غير مطابق. قوله تعالى: {وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا ... (94)} قال ابن عرفة: [إن قيل لأي شيء جاءت هذه الآية بالفاء في قصة هود عليه السلام*]؟ قالوا: قيل: لما [سيقت*] هذه الآية عقب ذكر الوعد، ناب الإتيان بالفاء المقتضية للتعقيب والإيجاز بخلاف الأخرى، وقال بعضهم: لما كان الوعد سببا في الإتيان بالموعود ناسب الإتيان بالفاء المقتضية للتسبب، وأما الآية الأخرى وهي آية هود عليه السلام فليس فيها ذكر الوعيد فجاءت على الأصل، والله أعلم. قوله تعالى: {وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ (109)} قال ابن عرفة غير منقوص تأسيس لَا تأكيد؛ لأن قولك: أوفيت زيدا حقه محتمل أن يكون أوفيته إياه منقوصا أو غير منقوص. قوله تعالى: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ ... (112)} الكاف إما للتعليل أو للسببية على أن ما موصولة والعائد محذوف؛ أي كما أمرت به، كقول الشاعر: نُصَلِّي لِلَّذي صَلَّتْ قُرَيْشٌ ... وَنَعْبُدُهُ وَإِنْ جَحَدَ العُمُومُ أي صلت قريش له، وعلى الأول تكون مصدرية، انتهى ما تقدم لابن عرفة فيها، وفي هذه الختمة قلت: وقدمت عنه في الختمة الأخرى أن ما مصدرية. قوله تعالى: (استَغفِرُوا رَبَّكُم). أضاف الرب إليهم، ثم قال (إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ) فأضافه إلى نفسه؛ لأن الأول طلب فناسب إضافته إلى وصف الربوبية المقتضي لرأفة المطلوب وضآلته على الطالب، ولا يقتضي حصول المطلوب، والثانية خبرية تقتضي حصول المخبر به؛ لأنها سبقته وحصول الرحمة من الله خاصة لشعيب، ولم يحصل منه لقومه؛ فلذلك أضاف الرب إليه فقط. قوله تعالى: (إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ).

قلت لابن عرفة: هلا قال إن مولاي بما تعملون محيط؛ لأنه لفظ يدل على القهر؟ فقال: من نصرك على عدوك فقد رحمك برحمته لشعيب. قوله تعالى: (هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ). قالوا: المراد جميع بنات آدم، وقيل: المراد بنات لوط عليه السلام؛ فأورد على هذا أنه لم يكن له غير ابنتين فقط، وقد قال: (وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ) فكيف يعطي ابنتيه للجميع؟ فأجاب ابن عرفة بأن كلام لوط مع الأشراف الحاكمين على قومه، [ولم يخاطب بقوله*] (هَؤُلاءِ بَنَاتِي). قوله تعالى: [(فَأَسْرِ). قرئ [فاسر*] من [سرى*]، و (فأسر) من [أَسْرى*]، فقيل: ما الحكمة في قوله: (بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ) دون في والسري لَا يكون إلا بالليل؟، فقال: ظاهر لفظ السري أنه في أول أزمنة الليل، فقال: يقطع من الليل ليفيد التوسعة، فإِنه لو سرى قبل انقضاء آخر أزمنة الليل لعد متمهلا. قوله تعالى: (وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ). قرئ بالرفع بدل من أحد، قال ابن عطية: بل يلزم على القراءتين معا. قال ابن عرفة: وهذا عندي غير صحيح؛ لأنه على قراءة الجزم يكون نهيا عن الالتفات والنهي عن الشيء يقتضي الإذن في ضده، بخلاف ما لو قرئ بالرفع فإِنه يكون خبرا منفيا، ونفي الشيء لَا يقتضي ما عداه، قال: إنه مثل قولهم: لَا لنهي لوط أي لَا تدع أحد منهم يلتفت، وحينئذ يصح الاستثناء ولا سؤال. قوله تعالى: (وَاسْتَغفِرُوا رَبَّكُم ثُمَّ تُوبُوا إِلَيهِ). قال: لم أضاف الرب إليهم أولا ثم إليه ثانيا؟، فالجواب: أن الجملة طلبية فهو طلب منهم الاستغفار فناسب وصف الربوبية المقتضية للحنان والرأفة على طلب ذلك، والطلب لَا يقتضي حصول الجملة، والجملة الثانية خبرية تقتضي حصول المخبر به لأنها مثبتة [ ... ] لهم من الله رأفة ولا حنان فناسب إضافة الرب إليه في الخبر، وإضافته إليهم في الطلب [ ... ] لَا يقتضي حصول المطلوب؛ لأن الإنسان لا يطلب إلا ما لم يكن له حالا وقد يطلب ولا يحصل له شيء.

(102)

قوله تعالى: (أَعَزُّ عَلَيْكُم مِنَ اللَّهِ). قلت: [دليل*] على تفضيلهم رهطه عليه وهو بعيد. [ ... ] العزة مطلقا، كقولهم (وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا) فهلا وبخهم على سلبهم عنه مطلق [العزة*] لا على سلب الأفضلية في العزة مطلقا. قوله تعالى: (ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى). أي من أنباء أهل القرى، قيل: إنه من حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه، والبناء أخص من الجر، والجر الذي فيه غرابة، فقال المشاهد: هي القرى لأن أهلها دبروا وانعدموا. قوله تعالى: (مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ). قال أبو البقاء: ومنها حصيد، قال ابن عرفة: لم احتاج إلى تقدير ومنها؛ فجعله من عطف الجمل، وهلا عطفه على قائم لكون المعنى أن منها قائم وحصيد فيبقى البعض الآخر غير مخبر عنه بشيء، قوله تعالى: (مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى) ولم يقل: من أنباء أهل القرى؛ لانعدامهم والشاهد إنما هي محالهم. قوله تعالى: (فَمَا أَغْنَت عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ). يؤخذ منه أنه ينبغي للإنسان أن يستحضر في جميع أحواله وحي الله. قوله (وَمَا زَادُوهُم غَيرَ تَتْبِيبٍ) من تأكيد الذم بما يشبه المدح، قيل: هو الكلبُ إلاَّ أنَّ فيه ملالةً ... وسوءَ مراعاةٍ وما ذاكَ في الكلبِ قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ ... (102)} شبه إهلاكه كل القرى الظالمة بإهلاكه هذه القرى، فهو شبيه الكلي بالجزئي لا يشبه الشيء نفسه. قوله (زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (106) .. الزمخشري: الزفير إخراج النفس، والشهيق رده، قال الشاعر يصف حمارا: بعيدُ مَدَى التَّطْرِيبِ أوّلُ صَوْتِهِ ... زفيرٌ ويتلوه شهيقٌ محشرج

(118)

ابن عرفة: لأن الحمار في أول نهاقه ينتج ألقاب القديم تصح عند رفع النفس. قوله تعالى: (إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ). قيل: متصل، وقيل: منفصل، وقيل: ليس باستثناء، والقائلون بالاتصال اختلفوا، فقيل: أنه مستثنى من الأزمنة، والمراد أن أهل الشقاوة خالدون في جهنم أبدا إلا في بعض الأزمنة التي شاء وهذا يتناول الكافر [والعاصي*]، خرج الكافر بالإجماع؛ لأن العاصي هذا على مذهب أهل السنة في أن العاصي غير مخلد في النار، وقيل المراد به التي صح وهو ما بين الوجودين، وقيل: المراد زمن الحشر، وهذا لَا يصح؛ لأن زمن الحشر لَا يدخل في المستثنى منه؛ لأن المستثنى منه إنما يتناول زمن الخلود في النار فما بعده، وقال الزمخشري: المراد به الانتقال من العذاب بالنار إلى العذاب بالزمهرير ورد الزمخشري على أهل السنة بقوله تعالى: (عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ) وقال في مقابله (إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ) فمعناه أنه يفعل بأهل النار ما يريد من العقاب كما يعطي لأهل الجنة عطاء الذي لَا انقطاع له، وأجاب ابن عرفة: بأنه جعل المراد الاستثناء الأول زمان الزمهرير فقد بأن انقطاع العذاب بالنار عنهم، وأن الخلود فيها غير محمول على ظاهره. قال [الزمخشري: وما ظنك بقوم [نبذوا*] كتاب الله لما روي لهم بعض [النوابت*] عن عمرو بن العاص "ليأتي على جهنم يوم تصفق فيه أبوابها ليس فيها أحد"]، ابن عرفة، عن الجوهري: [النوابت*] هم [مِنَ الأَحداثِ: الأَغْمارُ*] من الذين، قال: والحديث حملته أهل السنة على الطبقة العليا من جهنم؛ وهي طبقة عصاة المسلمين، ونقل الطيبي، عن ابن الجوزي: أن هذا الحديث موضوع. ابن عرفة: وهذا عبد الله بن عمرو هو الذي جرت المداولة بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم في الصوم؛ لأنه كان صواما قواما، وكان مخلفا على غزوة حنين، يقول: والله ما ضربت فيها بسيف ولا طعنت فيها برمح، وقول [الزمخشري: ما كان لابن عمرو في سيفيه ومقالته بهما علي بن أبي طالب ما شغله عن سوق هذا الحديث]، يحتمل أنه يريد بسيفيه لسانه وسيفه، أو رمحه وسيفه، والأول أظهر لمصاحبة [ ... ] الزمخشري هنا على من تقدم وتأخر وأساء الأدب وعبد الله بن عمرو من الصحابة لا ينفي أن يكلم فيه [ ... ] بخير. قوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً ... (118)}

(119)

أي لو شاء أن يجعلهم لجعلهم، فالأول راجع للإرادة، والثاني لإظهار متعلقها، ولما تقدمها (فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ) وهو [تخليط] لَا يقال: غالب إلا على [ ... ] التفجع على المقول له، عقبه بهذا إشارة إلى أن الفعل الخير والشر فلولا أردنا ذلك منهم لوقع. قوله تعالى: {وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ ... (119)} قال ابن عرفة: لَا يقال إنها دالة على عدم وقوع الإجماع لأنا نقول: الاختلاف الذي اقتضت أنه لَا يزال هو في الاعتقاد فمع بعض الأنبياء الشخص الواحد فقط، والإجماع هو اتفاق بعض العصر على الحكم به. قوله (إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ) يدل على وقوع الإجماع؛ لأن المستثنى هم المتقون على كلمة التوحيد. قوله تعالى: (وَلِذَلِكَ خَلَقَهُم). قال ابن عطية: اللام للصيرورة، أي خلقهم ليصير أمرهم إلى ذلك وإن لم يقصد بهم الاختلاف، ابن عرفة: هذا اعتزال؛ ولهذا كان ابن عبد السلام يحذر منه ويقول إنه يضعفه في أصول الدين، فنقل أمورا عن الرماني وهو معتزلي فيعتزل من حيث لا يشعر، والحق أن الله تعالى أراد الخير والشر. قوله تعالى: (وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ). ابن عرفة: يرد هنا على ابن التلمساني في تعقبة قول الفخر باللفظ، إما أن يعتبر بالنسبة إلى تمام مسماه، وهو المطابقة بأن التمام يشعر بالتركيب لاستحالة التركيب في كلمة اللَّه، فما معناه إلا الفراغ والاقتضاء، لحديث: "هو العلم وفرع ديننا فيما كان وفيما يكون". قوله تعالى: {نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ ... (120)} أي قلبك، واختلفوا في العقل هل محله الدماغ أو محله القلب؟ قلت: قال ابن رشد في المقدمات في آخر كتاب الجراحات: ذهب مالك إلى أن محله القلب وهو مذهب المتكلمين من أهل السنة، وذهب ابن الماجشون إلى أن محله الرأس وهو مذهب أبي حنيفة وأهل الاعتزال.

(121)

ابن عرفة: وثمرة الخلاف لو أوضح رجل موضحة ذهب بها عقله فعلى القول أن محلها الدماغ تكون فيه دية موضحة خاصة، وعلى القول بأن محله القلب يكون عليه ديتان؛ لأن مالكا قال: في العقل الدية. قوله تعالى: (وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ). ابن عرفة: الذكرى سبب في الموعظة إذ لَا يتعظ الإنسان حتى يتذكر، والأصل تقديم السبب، فالجواب: أن الوعظ للنبي صلى الله عليه وسلم، والذكرى للمؤمنين فاختلف بالمتعلق. قوله تعالى: {وَقُلْ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ ... (121)} إن قلت كيف يخاطب من لَا يؤمن في المستقبل وهو لَا يعلم ذاته؛ لأن قلنا: يخاطبه باعتبار وصفه، فيقول لهم: من يكثر منكم فليعمل على مكانته من النار، وقدم العمل إذ هو سبب في الانتظار. لأنه يعمل وينتظر عاقبة أمره في عمله من خير أو شر. قوله تعالى: {وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ ... (123)} [فيها رد على المنجمين*]؛ لأن الغيب هو ما لم ينصب عليه دليل وهم يسندون فيها أحكامهم إلى الدليل، وقال ابن رشد في المقدمات: إن معرفة الكسوفات لا يستثنى منها، وكذلك معرفة الأهلة وليست من الغيب في شيء، يؤخذ من الآية أن الولي لَا يطلع على الغيب، وما يخبر به إنما هو ظن كما أخبر أويس القرني ابن عمران، أو كان نقلا عن مالك كما يخبر كثير ممن رأى الخضر، ونقل الزمخشري هنا حديثا في فضل سورة هود، ابن عرفة: وقال [ابن الجوزي في الموضوعات*]: إن هذه الأحاديث التي في فضائل السور موضوعة والصحيح منها ما نقل في البخاري ومسلم، وكذا قال ابن الصلاح في علوم الحديث، وقال صاحب المنير والتونسي: إنها منتهية إلى رجل سماه [ ... ]، نفسه أنه وصفها، وكذا قال الحاكم.

سورة يوسف

سُورَةُ يُوسُفَ - عَلَيهِ السَّلَامُ - قوله تعالى: {تِلْكَ آيَاتُ ... (1)} الزمخشري: تلك الآيات التي أنزلت عليه في هذه السورة. الطيبي: سورة يوسف عليه السلام إشارة إلى أن (تِلْكَ) مبتدأ والمشار إليه ما [في*] ذهن المخاطب. قال ابن الحاجب: المشار إليه لَا يشترط أن يكون موجودا حاضرا؛ بل يكفي أن يكون موجود هنا. (لَمِنَ الْغَافِلِينَ (3) الزمخشري: من الجاهلين به. الطيبي: هذه كبيرة منه توهم أن الغافل عن الشيء هو الجاهل به، ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم ممن يطلق عليه اسم الجاهل ويخاطب به أبدا. قال القاضي: (لمن الغافلين) عن هذه القصة لم يخطر ببالك ولم يفزع سمعك قط؛ وهو تعليل لكونه موحى. قلت: ويمكن أن يقال: إن الشيء إذا كان بديعا وفيه نوع غرابة إذا وقف عليه، قيل للمخاطب: كنت عن هذا غافلا؛ أي كان يجب عليك أن تفتش عنه وأن تستوفي في تحصيله. الراغب: الغَفْلَةُ سهو [يعتري*] الإنسان من قلة التحفظ [واليقظ*]، [وأرض غُفْلٌ: لا منار بها*]، وإغفال الكتاب]؛ أي تركه غير معجم، قوله تعالى (وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا) أي جعلناه غافلا عن الحقائق وتركناه غير مكتوب فيه الإيمان، كما قال تعالى (أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ)، وحديث الكريم ابن الكريم الذي ذكره الزمخشري، رواه البخاري، ومسلم، والترمذي، عن أبي هريرة. (أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ ... (4) الطيبي: كان من حق الظاهر تقديم الشمس والقمر على الكوكب بعد إخراجهما من الجنس تقديما للفاضل على المفضول؛ كقوله تعالى (وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ) لكن خولف هذا الاعتبار بتأخيرهما قصدا؛

أي تغايرهما مطلقا بإخراجهما من الجنس رأسا بحيث لَا مناسبة بينهما؛ فيقدم الفاضل على المفضول. فإن قلت: ما نحن بصدده ليس من قبيل (وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ)؛ لأنه من عطف الخاص على العام لأنهما داخلان في الملائكة بخلافه هنا. قلت: يكفى في الشبه إخراجهما من جنس الكواكب وجعلهما مغايرين لها بالعطف. فإِن قلت: لم لم يقل: إني رأيت الكواكب والشمس والقمر ليوازي تلك الآيات؟ قلت: القصد الأول في تلك الآية ذكر جبريل وميكائيل، كما دل عليه بسبب النزول، وذكر الملائكة، [للترقية والتمهيد*] بخلافه هنا؛ فسلك به مسلكا علم منه المقصود وأدمج التفضيل والاختصاص، وفيه أمثال؛ قال: إن الآخرة مع تلك البينة ما سلب عليهم نور الولاية والنبوة. والزمخشري: ويجوز أن تكون الواو بمعنى مع. قال صاحب التقريب: وفيه نظر لاتفاقهم على أن عمرا في: ضربت زيدا وعمرا ليس مفعولا معه. ويجاب أن المعنى ليس أنه مفعول معه؛ فإن سؤاله لم أخر الشمس والقمر؟ ومعناه كيف أخرهما وموضعهما التقديم؟ وأجاب بجوابين: أحدهما: فيه التزام التأخير لإفادة المبالغة في التغاير. وثانيهما: أن الواو لَا توجب الترتيب لأن مقتضاها الجمعية؛ لأنها بمعنى مع؛ كأنه قيل: رأيت الشمس والقمر والكواكب دفعة واحدة. يؤيده قوله في تفسير قوله تعالى (لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ) وإنما وجد الراجع في به؛ لأن الواو بمعنى مع فيتوحد المرجوع إليه. وقوله بعد ذلك (يَخْلُ لَكُمْ ... (9) إما مجرور بإضمار أن والواو بمعنى مع؛ كقوله تعالى (وَتَكْتُمُونَ الحَقَّ).

قال شارح المبادئ: نزل على الجمع المطلق، ودلالتها على الجمع أقوى من دلالتها على العطف؛ فإِنها قد تعدى من معنى العطف ولا تعدى من معنى الجمع. فإِن واو القسم وواو الحال بمعنى مع لَا تقيد العطف وتفيد الجمع لأنها في القسم نائبة عن التاء والباء للإلصاق، والحال مصاحبة لذي الحال، والواو في المختلفين بمنزلة التثنية، والجمع في المتفقين، وتلخيص الجواب يرجع إلى ما قال في سورة النمل. فإِن قلت: ما الفرق بين هذا؛ أي بين تلك آيات القرآن وكتاب مبين، وبين قوله: تلك آيات الكتاب وقرآن مبين؟ قلت: لَا فرق بينهما إلا ما بين المعطوف والمعطوف عليه من التقديم والتأخير؛ وذلك على ضربين: ضرب جار مجرى التثنية لَا يترجح جانب عن جانب، وضرب فيه يترجح. والأول نحو قوله تعالى (وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا). والثاني نحو قوله تعالى (شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ). ونقل عن تلميذ ابن الحاجب، أنه قال: ظاهر كلام الزمخشري لَا يشترط في المفعول معه مصاحبة الفاعل، والحد المذكور في الكافية لَا يمنع من مصاحبة المفعول. ونقل المالكي عن سيبويه، أنه قال: بعد تمثيله بما صنعت وأباك، ولو تركت الناقة وفصيلها لرضعها؛ فالفصيل مفعول معه، والأب كذلك. وقال المالكي أيضا: ويترجح العطف إن كان بلا تكلف ولا مانع ولا موهن؛ فإِن خفت به فوات ما يضر فواته رجح النصب على المعية، كذلك هنا رجحنا المعية على العطف؛ لتوخي حصول الأفضلية؛ ليرجع معنى الآية إلى معنى قوله تعالى (مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ). (سَاجِدِينَ). الزجاج: إذا جعل الله غير المميز كالمميز؛ كذلك تكون أفعالنا وأنباؤنا. وأما ساجدين فحقيقته فعل كل من يعقل؛ فإِذا وصف به غيرهم فقد دخل في المميزين وجاز الإخبار عنه كالإخبار عنهم.

(6)

(وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ ... (6) يحتمل كون الكاف للتعليل. أي ولأجل رؤياك ذلك يجتبك ربك. وقال ابن العريف: إن الكات إنما ترد لتعليل مع ما. (وَيُعَلِّمُكَ). قول ابن بزيزة: هو داخل في التشبيه؛ يرد بأنه؛ إما أن يشبه بالاحتمال، وبالرؤية؛ والأول باطل لأن العطف يقتضي المغايرة؛ فلا يصح أن يكون التقدير: وكاجتبائك يجتبيك بتعلم تأويل الأحاديث، والثاني باطل لأنه إنما يشبه الأخفى بالأجلى والرؤية هنا أخفى وأدون رتبة من النبوة؛ فهو العكس سواء، فالظاهر أنه استئناف كلام. (مِنْ تَأوِيلِ الأَحَادِيثِ). من ليست لبيان الجنس لأن مفسرها ما بعدها، والتي لبيان الجنس إنما يكون مفسرها قبلها؛ كقوله (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ) والمراد بالتأويل التفسير؛ وهي عبارة المتقدمين، وأما المتأخرين فيريدون بالتأويل حمل اللفظ على غير ظاهره. الطيبي: التأويل من الأول؛ وهو الرجوع إلى الأصل، ومنه الموصل للموضع الذي يرجع إليه، وذلك هو رد الشيء إلى الغاية المرادة منه علما كان أو فعلا؛ ففي العلم، قوله تعالى (وَمَا يَعلَمُ تَأوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ). وفي الفعل قول الشاعر: وللقوي قبل يوم البين تأويل وقوله تعالى (هَل يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأوِيلَهُ يَومَ يَأتي تَأوِيلُهُ) أي بيانه الذي هو غايته المقصودة منه. الزمخشري: الأحاديث جمع للحديث وليس بجمع أحدوثة. الطيبي: وقال في موضع آخر: الأحاديث تكون جمعا للحديث، ومنه أحاديث الرسول، ويكون جمع للأحدوثة التي هي مثل الأضحوكة، والأعجوبة، وهي ما يتحدث به النَّاس تلهيا وتعجبا، وقد يظن أنه تناقض لأنه في المفصل، وقد يجيء الجمع مبينا على غير واحده المستعمل، وذلك نحو: أراهط، وأباطيل، وأحاديث. قال الفراء: يرى أن واحد الأحاديث أحدوثة؛ ثم جعلوه جمعا للحديث.

(8)

وقال علم الدين السخاوي في شرح المفصل: كأنهم جمعوا حديثا على أحدوثة، ثم جمعوا الجمع على أحاديث؛ كقطيع، وأقطعة، وأقاطيع؛ فعلى هذا يصح أن يقال: هو مبني على واحدة المستعمل، ورؤياه تدل على تشتت أمره أولا، ثم يجمع الله من شتاته بعد دهر طويل، وذلك أن سجود إخوته مع بعضهم إياه وحسدهم أمر بعيد، وسجود أبويه له أبعد وذلك لَا يحصل إلا بعد ضربات الدهر، وشتات الأمر، وتقلبات الأحوال. (عَلَى أَبَوَيْكَ). قال اللخمي: اختلف في قوله تعالى (وَلَا تَنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ) هل تدخل زوجة الجد وأبيه بالنص فهو حقيقة مشتركة أو بالقياس، أو بالإجماع. (عَلِيمٌ حَكِيمٌ). الفخر: (عَلِيمٌ) إشارة لقوله (عَلِيمٌ) انتهى؛ فيكون معنى (حَكِيمٌ) أنه عليم بالوقت الذي يرسل فيه الرسول باعتبار الزمان، وباعتبار عمره، ولمن يرسله. (لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (8) الزمخشري: أي في ذهاب عن طريق الصواب في ذلك. الطيبي: يعني أن نسبة الضلال إلى أبيهم إن كان مطلق يوهم سوء أدب؛ فهو مقيد [بقرينة*] الأحوال؛ كقوله تعالى (وَمَا كَانُوا مُهتَدِينَ)، أي في التجارة، وقوله تعالى (فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا) أي رشدا في طريق التجارة. (وَجْهُ أَبِيكُمْ ... (9) أضاف الأب إلى المخاطبين، وقال أمور: أولا (أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا). فأضافه إلى المتكلمين جميعهم، والجواب: أنهم أولا أخبروا أنه أبو جميعهم، فأضافوا الأب إلى المتكلم ومعه غيره، فعبروا بـ أبانا عنهم وعن يوسف وأخيه، ثم لما قالوا (يَخْلُ لَكُم وَجْهُ أَبِيكُم)، أضافوه إلى المخاطب؛ لأنهم إذا أذهبوا يوسف صار يعقوب أبا لهم فقط، وهو خطاب للحاضرين. (قَوْمًا صَالِحِينَ).

(10)

إذا وذكر قوم أنهم إذا تابوا يكونون كقومهم في ابتداء أمرهم صالحون، لم تصدر منهم معصية؛ لأن التوبة تجب ما قبلها. (قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ ... (10) لم يقل: قال بعضهم إشارة إلى أنه لم يقل إلا واحد منهم، ولفظ بعض يصدق على الواحد وعلى أكثر منه. الزمخشري: (الْجُبِّ) البئر، [لم تطو*] لأن الأرض تجب جبا. الطيبي: يعني أنما سمي البئر غير المطوي جبا إذ ليس فيه غير جب الأرض؛ فإِنه لم يطو بعد الأساس طوي البناء باللبن، والبئر بالحجارة، وهو الطوي، والإطواء. (مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا ... (11) لك خبر ما، ولا تأمنا حال، كقولك ما لك ضاحكا، ما لك باكيا. الطيبي: قال صاحب التفسير كلهم، قرأ [(مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا) *] بإدغام النون الأولى في الثانية، وإشمامها بالضم، وحقيقة الإشمام في ذلك أن يشار بالحركة إلى النون لا بالعضو إليها، فيكون ذلك أخفاء لَا إدغاما صحيحا؛ لأن الحركة لَا تسكن رأسا بل يضعف الصوت، فيفصل بين المدغم والمدغم فيه، لذلك هذا قول عامة، وهو الصواب لتأكيد دلالته وصحته في القياس. وقال الجعبري: شارح القصيدة في قوله: وتأمننا للكل يخفي مفصلا، وقوله: وإدغام من إشمامها لبعض عنهم يريد بقوله إخفاء الحركة اختلاسها، ومعنى مفصلا؛ فصل إحدى النونين عن الأخرى وهي حقيقة الإظهار، وهذا معنى قول أبي علي الفارسي: ويجوز أن يبين ولا يدغم، ويخفي الحركة، وهو أن يختلسها، ومفهوم إطلاق السبب إلى أن كلا من النقلة رووه عن السبعة، وليس كذلك لإطباق العراقيين على خلافه، وقوله: التشديد من غير حركة النون، وبهذا قطع ابن مجاهد في قوله: وكلهم قرأ تأمنا بفتح الميم، وضم النون وإدغام النون الأولى في الثانية، والإشارة إلى إعراب النون المدغمة بالضم ونبه بقوله: وضم النون على أن الفعل مرفوع ليفهم علة الأسماء. (وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ). تمويه وتورية، أي وإنا لأجله لناصحون أنفسنا، وهذا لأنهم أنبياء يستحيل عليهم الكذب.

(13)

(لَيَحْزُنُنِي ... (13) قيل: متعلق الحزن ماض، والخوف مستقبل، فكيف يفهم هنا، أجيب بوجهين: الأول: أن يحزنني مستقبل، وذهابهم به كذلك، فمعناه إن قدرت وجود ذهابكم به فالحزن مبني موجود بلا شك، لوقوع موجبه، (وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ)، إن قدرت ذهابكم به ولا يحزن عليه، لأني لَا أدري لعله يسلم لام الابتداء الداخلة على خبري تخلصه للحال، قيل في ذلك قولان والصحيح أنها للاستقبال، وإن كان ابن مالك في التسهيل جعلها من المخلصات للحال فقد صح غيره أنها للاستقبال الثاني؛ أن الحزن واقع منه، لأنه لما آتوه عصبة واجتمعوا وتظافروا على طلبه الذهاب به علم يعقوب أنه لَا بد له من إسعافهم بمطلوبهم، فكان موجب الحزن، وهو الذهاب واقعا في الوجود، فوقع الحزن لأجل ذلك بخلاف سبب الخوف، وهو أكل الذئب إياه. (وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (15) الزمخشري: متعلق بـ (أَوْحَينَا)، لَا غير. الطيبي: أي قراءة النون يعني أوحينا إلى يوسف هذا التهديد والوعيد في حقهم، والحال أنهم لَا يشعرون بهذا الوحي، لأن إنباء الله إياهم لَا يجتمع مع عدم شعورهم به بخلاف إنباء يوسف، لأنه حصل مع عدم شعورهم، وفيه نظر بجواز أن يتعلق بقوله (لَتُنَبِّئَنَّهُمْ)، وأن يريد بأنباء الله أيضا جزاء فعلهم لهم وهم لَا يشعرون بذلك، والظاهر أن هذا الإنباء هو قوله (هَلْ عَلِمْتُم مَا فَعَلتُم بِيُوسُفَ). (عِشَاءً ... (16) الزمخشري: رواه ابن جني [عُشى*] العين والقصر. الطيبي: قال ابن جني: رواه عيسى بن ميمون، فيكون عشوا من البكاء، وطريق ذلك أنه جمع عاش وكان قياسه عشاة كعاش وعشاة؛ إلا أنه حذف الهاء تخفيفا، وهو يريدها، وفيه ضعف؛ لأنه قدر ما يكون هي ذلك اليوم لَا يعشو منه الإنسان، ويجوز أن يكون جمع عشوة أي ظلاما، وجمعه لتفرق أجزائه. (بِدَمٍ ... (18) قال المفسرون: أن يعقوب لوث وجهه بذلك الدم. فإِن قلت: كيف فعل هذا والدم نجس؟ قلت: ملاقاة النجس إنما هي مكروهة، وهذا محل حزن وذهول.

(19)

(فَصَبْرٌ جَمِيلٌ). لما ذكر ابن عصفور ما يلزم فيه حذف المبتدأ وما يلزم فيه حذف الخبر، قال: وقسم يجوز فيه الأمران، وهو ما عدا ذلك، ومثله هذه الآية. وقال ابن هشام في شرح "الإيضاح"، وابن مالك: لَا خلاف أن المصدر المنصوب على إضمار الفعل المتروك إظهاره، إذا ارتفع على الابتداء، يجب حذف خبره، وإذا ارتفع على الخبر يجب حذف مبتدئه كقوله: شكى إلي جملي طول السُّرى ... صبرا جميلا فكلنا مبتلى على رواية من رواه صبر جميل بالرفع، وهذا خلاف ورجح بعضهم الأول؛ لأنه على الثاني يكون مجرد دعوى، وكان الشيخ ابنِ عبد السلام يرجح الأول أيضا؛ لأن الثاني يخالف قوله بعد هذا (يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُف)، فليس صبره صبرا جميلا. (وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ). على سبب وصفكم وهو الصبر. (بِضَاعَةً ... (19) الزمخشري: نصب على الحالة، أي أخفوه متاعا للتجارة. الطيبي: كذا عن أبي البقاء، قال صاحب "الفرائد": ويمكن أن يضمن (وَأَسَرُّوهُ) معنى جعلوه، أي جعلوه ميسرين، فهو مفعول ثان. قال ابن الحاجب: يحتمل أن يكون مفعولا من أجله، أي كتموه لأجل تحصيل المال فيه، لأنه كان على حال تقتضي التجارة، وكتمانه خوفا من أن تمتد الأطماع من غيرهم، ولا يجوز أن يكون تمييز الماوردي إليه من أن الإسرار كان للبضاعة لَا له، وهو خلاف المعنى، وليس هو من باب عشرين درهما، ولا من باب حسن زيد وجها الراغب البضاعة قطعة وافرة من المال، يعني للتجارة، يقال: بضع بضاعة وابتضعها، والبضع بالكسر المقتطع من العشرة. (وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ (20) الطيبي: قال صاحب "الفرائد": يمكن أن نقول تقديره، وكانوا من الزاهدين فيه، (مِنَ الزَّاهِدِينَ)، من قبيل الإضمار على شريطة التفسير، وقلت: الظاهر أنه ليس منه؛ لأنه ليس بمشتغل عنه بل لضمير، وإن الأصل كانوا من الزاهدين فيه على أن فيه ليس صلته؛ بل متعلق بجملة محذوفة على السؤال، كقوله تعالى (هَيْتَ

(21)

لَكَ)، كأنه لما قيل: كانوا من الزاهدين لم يعلم في أي شيء اتجه لسائل أن يقول في أي شيء زهدوا، فقيل: زهدوا فيه، وهو من قول الزجاج فيه ليس بصلة الزاهدين؛ المعنى وكانوا من الزاهدين؛ ثم بين في أي شيء زهدوا؛ فإنه قال: زهدوا فيه وهذا في الظروف جائز، وإمَّا في المعقولات؛ فلا يجوز فيها؛ لَا يجوز كنت زيدا من الضاربين؛ لأن زيدا من صلة الضاربين، فلا يتقدم الوصول صلته. وذهب ابن الحاجب إلى الجواز قائلا في قوله تعالى: (إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ)، الظاهر أن لكما في مثل هذا ونحوه، متعلق بالناصحين؛ لأن المعنى عليه، فإن [اللام*] إنما جيء بها لتخصيص معنى النصح بالمخاطبين، وإنَّمَا قرأ الأكثرون من هذا لأن صلة الموصول لَا تعمل فيما قبل الموصول، والفرق عندنا أن الألف واللام لما كانت صورتها صورة الحرف المنزل جزءا من الكلمة صارت كغيرها من الأجزاء التي لَا يمنع التقدم، ولذا لم يوصل بجملة اسمية لتعذر ذلك فيها، وهذا واضح فلا حاجة إلى التعسف. (أَكْرِمِي مَثْوَاهُ ... (21) الفخر: هذا تعظيم؛ لأن المشارقة عادتهم يقولون: السلام على المقام العلي، تنزيها بالاسم المكتوب إليه أن يذكر، وتعظيما له، وكذلك هذا لأن مثواه موضع إقامته. (أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا). إن قلت: اتخاذهم إياه ولدا محقق، فكيف فيه معنى الترجي، قلت: إنما يتخذونه ولدا إذا ظهر) لهم نجابته ومنفعته. (وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ). الطيبي: الضمير إما لله عز وجل، فالجملة تذييل، أي لَا أحد فوقه فيفعل ما شاء لا [رادَّ*] لما أراده، وهذا صريح في مذهب أهل السنة، ولكن أهل الاعتزال لَا يعلمون، وأما ليوسف فيكون تتميما لما دبره الله فيه، أن العاقبة له ومعنى مغلوبية الأمر على التمثيل فإن المغلوب تذلل للغالب فيتصرف فيه من غير مانع. (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ ... (22) اختلفوا في حد بلوغ الأشد، فقيل: ثلاثون، [وقيل*] ستة وثلاثون، وقيل: عشرون، ويدل على أنه ستة وثلاثون، قوله تعالى: (حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً)، لأن العطف يقتضي المغايرة، واتفق الأطباء على أن بدن

(23)

الآدمي لَا يزال فيه النمو والزيادة إلى أن يبلغ ستة وثلاثين سنة، لكنه نمو خفي لَا يظهر وأما النمو الظاهر فحده عند ابن سينا عشرون سنة خلافا للفارابي. ابن عطية: وقيل: كان في الأسبوع الخامس وهو ثلاثة وثلاثون، لأن الأسبوع الرابع هو ثمانية وعشرون لاجتماعها في ضرب أربعة في سبعة، والخامس هو خمسة وثلاثون. (وَرَاوَدَتْهُ ... (23) الطيبي: عن الراغب: الرَّوْدُ: التردد في طلب الشيء برفق، يقال: [رَادَ وارْتَادَ، ومنه:*] [الرَّائِدُ، لطالب الكلإ*]، وباعتبار الرفق، قيل: [رَادَتِ الإبلُ*] في مشيها تَرُودُ رَوَدَاناً [ومنه بني المرْوَدُ*] والإرادة منقولة [من رَادَ يَرُودُ*]، إذا سعى في طلب شيء، وتارة يستعمل في [المبدإ*]، وهو نزوع النفس إلى الشيء، وتارة في المنتهى، وأنه تعالى يتعالى عن معنى النزوع فمعنى أراد الله كذا، [حكم فيه*] أنه كذا، وليس بكذا، وقد يراد بها معنى الأمر نحو أريد منك كذا؛ أي آمرك بكذا نحو تعالى (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ)، والمراودة أن تنازع غيرك في الإرادة فتريد غير ما يريده، أو يريد غير ما تريده. الزمخشري: خادعته في نفسه أي فعل ما يفعل المخادع لصاحبه، الطيبي: قال صاحب "الفرائد": مراده تضمين راودت معنى خادعت، لأن في المخادعة معنى التبعيد، وهو متعد بعن، كأنه قال: بالتضمين، لأن التضمين هو أن يضمن فعل معنى فعل، ويعدي تعديته مع إرادة معناها، فلا بد من ذكرهما في التفسير معا. قال الزمخشري في الكهف: الغرض في هذا الأسلوب إعطاء مجموع معنيين، وذلك أقوى من إعطاء معنى واحد، وأما التعدي فإن خدع ورد في الأساس على استعمالات شتى، وليس فيها تعدية بعن، وأما هذا فليس على حقيقته، لقوله: فعلت ما يفعل المخادع بصاحبه، لأنه وارد على التشبيه، وتمثيل حاله أيضا ما أتى به في هذا التركيب بلفظ المراودة، وقد مر أن شرحه أن يذكر معنى المضمن فيه، وذكر في الأساس أيضا راود رودانا جاء وذهب، وما لي أراك ترود منذ اليوم، وذكر في قسم المجاز، وراوده عن نفسه، خادعه عنها ثم مجموع التمثيل كناية عن التمحيل لمدافعته إياها. (وَلَقَدْ هَمَّتْ ... (24)

قال صاحب "المرشد": أن وقف عند قوله (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ)، ثم يبتدئ (وَهَمَّ بِهَا)، ليفرق بين ما كان منها وما كان منه، كان صالحا ليعلمَ أن المرأة همت على صفة، ويوسف على صفة أخرى. وقال بعضهم: معناه اشتهته، واشتهاها، لأن الشهوة قد تجري مجرى الهم في سعة اللغة، واحتج بقولهم هذا أهم الأشياء إلي، أي أشهاها، وهذا أحسن الوجوه، قال صاحب "الفرائد": لولا مقدم بالطبع على الجواب؛ لأنه هو الذي يوجب الجواب، والموجب مقدم بالطبع على الموجب بالضرورة؛ فتقديمه عليه إخراج له من الأصل، والإخراج من الأصل لَا يجوز إلا لموجب راجح على ما يوجب الإبقاء على الأصل، وهو كونه أنهم بالذكر منه، ولما كان الاهتمام بذكره بعد لولا؛ لأنه هو الذي يقتضي ذكره ويوجبه، لم يوجد الموجب الراجح لتقديمه فوجب تأخيره عملا بالموجب السالم عن المعارض، هذا اختيار الإمام في تفسيره. وأورد الزمخشري سؤالا، الطيبي حاصله لم علقت أولا بالجملة الثانية، ولم يعلق بالجملتين معاً؛ لأن الهم لَا يتعلق بالذوات، وإنما يتعلق بالمعاني كالمخالطة والمعانقة والملامسة والمباشرة ونحوها، وهذا المعنى فما لَا يحصل إلا من الجانبين، فينتزع من مجموع قوله تعالى (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ) بها معنى المخالطة ثم يقيدهم يوسف، وقال الآخرون أنها معلومة بالسياق، فالسياق يبين المحرم وهو نكاحهن واختلفوا هل كان حينئذ نبيا أو لَا؟ فعلى تقدير كونه نبيا لَا يجوز صدور هذا منه لأنه نبي معصوم فلابد من تأويله، وأحسن التأويلات ما قاله الزمخشري وهو إما حضور ذلك بالبال أو مروره به كمن رأى البرق الخاطف ثم يذهل عنه يريد في الحال، وإما أن هم بمعنى قارب الفعل ولم يخطر بباله شيء، وقال ابن عطية: إن هذا من الصغائر المستهلة، ابن عرفة، وهذا خطأ لأنهم أجمعوا أن الأشياء المباحة في حق الأنبياء أن ذكرت على معنى النقيض، قيل: قابلها وإن ذكرت على معنى التسلية أدب قائلها وهذا كمن يقول إنه صلى الله عليه وسلم رعى الغنم، وقال الفخر: [وَهَمَّ بِهَا] أي وهم بطريقها وبمدافعتها بالأمر الخفي، أو بما لَا يصح توجب فيه [ضعفا*]، لأنه لَا يجوز أن يقول هممت بقتل زيد، وهم هؤلاء وأنت تريد وهمَّ هو بقتلي، قال: أردت وهم هو بالعفو عني لم يجز حذف ذلك، وقال [ابن زيتون*]: وهم بها أي [ ... ]. ابن عرفة: [وهذا*] كله لَا يصح منه شيء، وأطنب الزمخشري هنا في الرد على الحشوية وغيرهم لأنه [معتزلي*] ومن قواعدهم التحسين والتقبيح فصدور الصغائر من النبي قبيح عندهم عقلا، وعندنا جائز عقلا لَا شرعا؛ لأن الشرع أخبر بعدم وقوع ذلك

(25)

فهذه الآية قوية في الرد عليهم. وقال الفخر: في غير هذا الموضع اختلفوا هل يصح صدور المعصية من العالم أم لَا؟ واحتج من منع صدورها منه بأن الفعل متوقف على القدرة والإرادة والداعي، وقالوا: في أصول الدين أن الداعي هو العالم بما في الفعل من مصلحة أو مفسدة كالمكلف لَا بد له من مرجح يترجح به عنده الفعل أو عدمه وهو الداعي، قال المعصية عنده راجعة للفعل فهو جاهل أعماه الشيطان وأشغل فكره حتى ظهر له أن مصلحة المعصية أرجح وإن كانت عنده مرجوحة فهو عالم فيستحيل صدور المعصية منه حينئذ، ابن عرفة: وفي الآية سؤال وهو أن همها هي بمعمول من قوله (وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ). فلم احتيج إلى أن القسم عليه، ويؤكد السؤال على ما قال الزمخشري: من أنه يحسن الوقف عليه (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ) لأن همها هي به دائم لَا ينقطع إلا إضرارا من غير اختيارها [وهمه هو بها خطر بباله*] مرة ثم زال [فهو مباين لهمها*]، والجواب: عن السؤال من وجوه، الأول: لما كان نبيا معصوما [ومن حاله هذه يجب أن لا يظن بباله معصية الله تعالى*] فقد يقال إنها يستبعد منه الموافقة على ذلك فلا تهم بذلك، فكذلك أقسم على همها به، الثاني: أنها أنزلته منزلة الولد [بقول*] العزيز لها (عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا)، ورده ابن عرفة: بأنه من قول العزيز لَا من قولها. قوله تعالى: (لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ). اختلف فيه المفسرون عامله يرجع لثلاثة أحوال: إما أنه رأى البرهان بالقول، أو بالفعل، أو بالفكر وهو أنها سترت الصنم منه فتذكر هو وخاف من رؤية الله له. قوله تعالى: {وَاسْتَبَقَا الْبَابَ ... (25)} قال الزمخشري: أفرد الباب هنا لأن المراد الباب البراني، ابن عرفة: إنما أفرده هنا وجمعه في قوله: (وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ) لوجهين الأول أن قوله: (وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ) اختياري وهو من مختار تعلق الجميع ليتمكن من غرضه [ ... ] نعت، وأما قوله (وَاسْتَبَقَا الْبَابَ) فخروج يوسف اضطرارا والمضطر يتشبث بأدنى سبب فأفرد الباب إشارة إلى أن يوسف أراد أن [يهرب منها*] بأول ما تلقاه من الأبواب خوف أنه إن فر إلى غيره لحقته ولم يقصد الخروج للعزيز لأنه لم يعلم أنه عند الباب ولكنها اضطرته ولحقته حتى خرج من باب إلى باب إلى أن فتح الباب البراني فوجد العزيز هناك مصادفة، الجواب الثاني: أنه أتى به مفردا لأنه أبلغ كقول الزمخشري في (وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي) أن عموم المفرد المحلى بالألف واللام أقوى من عموم الجمع.

(26)

قوله تعالى: (وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَا الْبَابِ). ولم يقل: [سيدهما*] لوجهين، أحدهما: أنه لو قال كذلك للزم منه استعمال اللفظ المشترك في مفهومه معا أو استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه لأنه مجاز في الزوجة، فإِن قلت: البادئ بالمسابقة إنما هو يوسف فلم قال استبقا وهي إنما خرجت تتبعه؟ فالجواب: أنه إشارة إلى أنها سبقته بالجري لترده وتعارضه وقد قميصه، قيل: كان [طُولًا*]، وقيل: كان عرضا، والمناسب قوله [طُولًا*] لأنه إن كان عرضا فيحتمل أن يكون [يقطع بجره هو فيتعثر فيه*]. قوله تعالى: (قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا). قال الزمخشري: أتت باللفظ العام وهو أبلغ من الخاص، ابن عرفة: بل الخاص أبلغ لأن العام يقبل التخصيص فقد تكون تلك الصورة المفهومة من العام فخرجه مخصصة غير مرادة بدلالة قولك أكرم زيد العالم، فالدلالة على إكرامه أقوى لأنه قولك أكرم العلماء على إكرام زيد، وقولها: (مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ) هو مغالطة منها لأن المنازع قد يستدل [بمقدمتين*] وتكون الصغرى منها ضعيفة [حيث إذا ذكرها يتأملها خصمه*] أو يبطلها، فيترك ذكرها حكما لَا على فهم السامع وكذلك فعلت هي لأن الأمثل أن يقول يوسف أراد بأهلك سوءا ولو قالت كذلك لوقعت ريبة في كذبها. قال تعالى: (قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (26) .. إن قلت: فهلا قال [لم أردها بسوء، فيجد من كلامها مطابقة*]، فالجواب بوجهين الأول: قال ابن عرفة: لما ظهرت عليه مخائل تهمته بأحد أمرين إما أنها بدأته بالسوء ووافقها أو العكس فتوهم بدايته هو لها [ ... ] مما رآه منها وخروجه قبلها فلم يبق إلا توهم موافقته لها أن كانت هي البادئة فلذلك: (قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي) الثانية: قال بعض الطلبة إنه تقدم في قوله: (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا) أن ذلك مر بفكره كمرور البرق الخاطف، فلو قال: لم أراودها بسوء لوقع في الكذب المستحيل على الأنبياء. قوله تعالى: (وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا). إن قلت: كيف [سُمِّيَ شاهدًا*] وأصل الشهادة أن يقول كان ذلك أو لم يكن، فأجاب ابن عرفة: إنه مجاز والمعنى وذكر إنسان قام يفصل عنهما كما يفصل الشاهد بشهادته بين الخصمين، فقال كذا وكذا. قوله تعالى: {فَصَدَقَتْ وَهُوَ ... (26)}

(28)

إن قلت: لم دخلت الفاء؟ فالجواب: بوجهين الأول: قال ابن عرفة: عن بعض المتأخرين أن الفاء تلزم في جواب الشرط إذا كان ماضيا لفظا ومعنى وهذا كذلك، قلت: وذكره الجزولي، قال: ومع الماضي لفظا ومعنى ولا بد معه من قد ظاهرة أو مقدرة، التالي قلت: أن لما كان المراد أنه يعلم أن قميصه قُدَّ من دبر يعلم إنها صدقت أتى بالفاء لثبوت مناسب يعلم واستدل المبرد بهذه الآية على أن إرادة الشرط لَا تخلص كان للاستقبال، فأجابه [الآبذي] والزمخشري: بأن التقدير أن يعلم أنه كان. قال الزمخشري: وعن النبي صلى الله عليه وسلم "تكلم أربعة وهم صغار: ابن ماشطة فرعون وشاهد يوسف وصاحب جريج وعيسى"، قال ابن عرفة: الذي في مسلم "تكلم ثلاثة ابن ماشطة فرعون، وعيسى وصاحب جريج"، قال ابن عرفة: فإِن قلت: لم [عبّر*] في جهتها بالفعل، فقال: صدقت فكذبت وفي حق يوسف بالاسم، فقال (مِنَ الصَّادِقِينَ) من الكاذبين، فأجيب من وجهين الأول قال ابن عرفة: لأن صدق زليخا [ ... ] غير محقق عند العزيز فأخبر فيه بالفعل لكنه إذا ثبت صدقها فالمخالف لها من الكاذبين وكذلك المخالف لم يثبت كذبه من الصادقين لأنه لَا يتجرأ على هذا وينازع فيه إلا من أولع به وأما من جُرّب ذلك منه مرة فإِنه يخاف ويستريب. الجواب الثاني: لأجل رؤوس الآي، فإن قلت: [لم بدأ بها*]، فقال: (فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ) قلنا: [**لأنها من دم عليه المبادئة] في قوله (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ)، ولأنها البادئة بالشكوى. قوله تعالى: {فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ ... (28)} إن قلت: لم أسند القول الواحد والأصل في مثل هذا ما يقع به التبكيت أن يسند القول فيه إلى كل من حضر؛ ولأنه مرئي مشاهد رآه الشاهد والعزيز لأنهم ذكروا أن الشاهد كان حاضراً، فالجواب: أن الأمور قسمان ضرورية ونظرية، فالأمور الضرورية لا يحتاج الإنسان فيها إلى غاية ولا إلى تأمل، فلو قيل: (فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ) قالا يتوهم أن قطع القميص كان من جهة يمكن أن تضاف [إلى*] القبل وإلى الدبر بحيث لا يقطع الرأي الواحد بإضافتها إلى أحد الجهتين حتى يشترك في ذلك مع غيره ويتدابرا فيعلما، أسند ما إلى [**الواجد إفاداته] من جهة الدبر صرفا بحيث لَا يحتاج فيه إلى تأمل لا إلى مشاركة الغير. قوله تعالى: {وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ ... (30)} قال المفسرون: كن جيرانها، فإن قلت: تجريح الأقارب والجيران أو من يقرب لهم أقوى من تجريح الأجانب فهلا قال، وقال نسوة في حارتها أو في جيرانها، [فأجيب*]: بأنه إشارة إلى اشتهار هذا الأمر وانتشاره في المدينة ورد أنه يقال قلتم

(31)

أنه شاع هل قالت هؤلاء خمس فممنوع وإن كان بعد مقالتهم فمسلم ولا يتناول محل النزل لأنه حين مقالته من لم يوجد يكن ذلك غيرهن، وأجيب: بأنه شاع واشتهر إشهارا كان ابتداوه من أولئك النسوة، واتساع الظرف يدل على اتساع المظروف فأشار إلى كثرة القائلين في المدينة. قوله تعالى: (فَتَاهَا). ظاهره أنها إضافة ملك وتقدم لنا في قوله (وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ) متعلق يقال هذا يدل على أن هناك متعلق بـ اشتراه، وقال الفخر: القطبي أنه اشتراه لنفسه ثم وهبه لامرأته، وقوله (تُرَاوِدُ) أتوا به مضارعا تشريفا عليها أي إنها مداومة على ذلك. قوله تعالى: (إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ). فيه سؤالان الأول لم أكذبن رؤيتهن لها في ضلال، ولم يؤكدن مراوداتها له في نفسه؟ وجوابه: أنه لما يكنَّ من أقاربها وجيرانها تلطفن بحالها ولم يؤكدن وقوع ذلك منها لمعرفتهن الأسباب الحاملة لها على مستنكر ففيه ضرب من العذر لها بخلاف الأجانب فإنهن يأخذن بالظن إذا سمعن بالفعل القبيح عن غيرهن ينكرن عليه لجهلن بعذره فأكدن الكلام ليفيد أنهن مع قربهن لها يظهر لهن وجه قدرها ولا قلن لها موجبا يتلفظن به بحالها فأحرى الأجانب بخلاف مراوداتها إياه عن نفسه فإِنها واقعة لَا ينكرها أحد ولا يحتجن إلى تأكيدها لثبوت ذلك عندهن وتحققه وظاهره أنها لم تكن تظهره لهن وهو شأن المحب إذا غار على محبوبه ويحتاط عليه خيفة أن يتصل به غيره، السؤال الثاني: أنهن قلن: (إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) وأسندن رؤية ذلك إلى تفسيرين وهلا قلن أنها لفي ضلال مبين فهو أبلغ، وجوابه: أنه إنصاف منهن وإشارة إلى أنهن في اعتمادهن لم يعلمهن لذلك وجها ولعل له وجها في نفس الأمر، وانظر هل الرؤية بصرية أو علمية، فقيل علمية لأن الضلال معنى والبصر لَا يتعلق بالمعاني، ابن عرفة: مفعولها هو الضمير لَا غير فلم تتعلق الرؤية إلا بها فقط حالة كونها هي في ضلال مبين لَا أنها تعلقت بها وبالضلال. قوله تعالى: {فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ ... (31)} أي فلما أُخبرت بمكرهن فلذلك [عديت هنا إلى*] حرف الجر؛ لأن (سمعت) من أخوات، (قلت) تتعدى إلى مفعولين بنفسها فهي متعلقة بالمسموع [**سائره مجيب بلو] قال الكلام الأول [ ... ] وهذه إنما عرضه ممن نقل له كلام النسوة.

قوله تعالى: (كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا). ابن عرفة: اختلف إذ قال لكل واحدة منهن [سِكِّينًا*] أو يعطي لكلهم درهماً واحدا يقسمونه بخلاف قولهم درهما درهما، هلا قال لكل واحدة منهن سكينا بأنه فعلهم من قولهم وكل واحدة أخذت سكينا؛ لأن قوله تعالى: (فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ)، وهو أبلغ في حق يوسف؛ لأنه بنفس خروجه أكبرنه ولا يعدل عن ذلك إلا لنكتة [ ... ] والجواب أنه قد يخرج وتذهل إحداهن عن رؤيته وإنَّمَا يقع الإكبار بالرؤية أو يقع بنفس الرؤية، وإن لم يستوف الخروج عليهن فقد رأوه وهو في الغمامات أو من طاق أو من خلف حائل، وإن لم يخرج. قوله تعالى: (مَا هَذَا بَشَرًا). قال الأصوليون في الفرق بين الحقيقة والمجاز وهو ما صح بجهة وهو زيد أسد يقول زيد ليس بأسد ولا يقول ليس زيد رجل، وقول يوسف بشر [ ... ] وقال وأجيب الوجوه الأول قال عادتهم يقولون هو على حذف الصفة أي ما هذا بشر معمول الثاني أن هذا النفي مجاز ورده ابن عرفة: بأنه يلزم عليه الدور لأنه لم يكن مجازا إلا يكون إبانة حقيقة لكن الحقيقة لَا يعلمها إلا بعد معرفة كون نفيها مجازا الثالث أن النفي حقيقة لأنه في محل الدهش والغفلة والذهول لما جرت لهن من رؤيته. قوله تعالى: (أَكْبَرْنَهُ). ابن عطية عن الجمهور أي أعظمنه فاستهولن كماله، وقال عبد الصمد بن علي الإمام عن أبيه عن جده: أي حضن له، ابن عرفة: وهذا لَا يتم إلا بزيادة هاء السكت كما قال الزمخشري لأن حاض لَا يعدى، وأنشد الزمخشري شاهدا عليه بيت المتنبي، وهو: [خفِ اللهَ واستُر ذا الجمالَ ببرقُعٍ ... فإنْ لُحتَ حاضتْ في الخدور العواتقُ*] وأنشد ابن عطية: تَأْتِي النِّسَاءَ عَلَى أَطْهَارِهِنَّ وَلَا ... تَأْتِي النِّسَاءَ إِذَا أَكْبَرْنَ إِكْبَارَا ثم قال وهذا البيت مصنوع وليس عبد الصمد من ذوات العلم، قلت قال عبد الصمد لابن عباس ونسب البيت لأبي ذؤيب

(32)

قال [ ... ] يغشى النسا على أولادهن ولا ... يغشى النسا إذا أكبرن إكبارا وزاد عن بعضهم بيتا آخر: إذا نظرت أم الحسين مجاشعا ... ضحى أكبرن حتى نقضن المجاسدا قوله تعالى: (إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ) قال ابن عرفة: يؤخذ منه أن الملك أفضل من النبي قال السكاكي أتى بالجملة غير معطوف لَا في معنى أتى قبلها والعطف يقتضي المغايرة، ابن عرفة [ ... ]: معنوي والحسي بذل المال والمعنوي بذل العرض إشارة إلى عفوه عن زليخا، وصفحه وإعراضه. قوله تعالى: {وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ ... (32)} قال ابن عرفة: لما أخبرت أن الأمر لَا يخلو من أحد شيئين إما أن يفعل ما تأمره به أو السجن. اختار هو السجن قال: وتقريره على [قاعدة*] المنطق إن هذه قضية شرطية متصلة تلزمنا منفصلة مركبة من غير [تاليها*] ونقيض مقدمها وهو إما أن يفعل ما آمره به، وإما أن يسجن، وقوله السجن (أحب إليَّ) إن قلنا إنها فعل وليست ما فعل من فلا إشكال وإن قلنا إنها على ما بها فتكون المحبة هنا الطبيعية لأنها بمعنى الإرادة ولا إرادة له فيما أرادت منه زليخا واكتفى يوسف بقوله السجن أحب إلي من أن يقول السجن والصغار أحب ولأنه خاطب به الله تعالى العالم بخفيات الأمور والأول من كلام زليخا تخويفا ليوسف وإنذارا فيه مبالغة وإطناب. قوله تعالى: {فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ ... (34)} قال ابن عرفة: اختلف في الخطاب وأجاب هل هما بمعنى واحد أو متغايران فأجاب بأمر الآيتان بآيتان الموافق للمقصود والمخالف، واستجاب خاص بالموافق والآية عندي حجة للقول بها وبما أن استجابة أعم بعطف قوله (فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ)، والعطف يقتضي المغايرة. قوله تعالى: {وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ ... (36)} قال ابن عرفة: ودخل معه مستعمل في قطع المسافة بين الداخل والمدخول إليه، وفي دوام الاستقرار في الشيء عليهما من حلف ألَّا يدخل على فلان دارا تفضل عليه فلان وأقام معه هل حنث أم لَا فيها قولان بناء على أن الدوام [ ..... ] عدم الحث قال

(37)

لأن الدخول هو قطع المسافة من خارج الباب إلى داخله وأخوك لم [ ... ] إلا قبل دخول فلان عليه. قوله تعالى: (أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا). ابن عرفة: [ ... ] على المقالة. قوله تعالى: (نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ). قال طلب منه واحد أن ينبئه عن رؤياه بالذات، وعن رؤيا صاحبه بالعرض. قوله تعالى: {إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ... (37)} قال ابن عرفة: أطلق الملة هنا على الكفر، وكذا ما يطلق على دين الإسلام والشيوخ فيها اختلاف، والأكثر في كشف الحقائق يطلقها على الجماعة المستندين ما مذهبهم إلى السمع لأنه يقول ودليل الملتين وكان بعضهم يقول إنما يطلق على غيره من الإسلام ملة، وإن الملة هي العقدة يناسب قوله تعالى: (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ)، وتقدم الإشارة إلى بعضه في آخر سورة الأنعام، قوله تعالى: (أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ ... (39) .. أي مختلفون إشارة إليه لأنه من المتمانع، وتقول إنهما لو كانا إلهين لم يخل من أن يتفقا [أو يختلفا*] فلذلك قال متفرقون ولم يقل مجتمعون لأنهما لو اتفقا لتجوز اختلافهما. قوله تعالى: (أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ). جرى مجرى التطبيق فقوله أم الله تتابع لقوله أرباب وقوله القهار راجع لقوله متفرقون لأن اختلافهم يؤذن بعجز من لم ينفد أمره منهم فجاء وصف القهر مقابله. ابن عرفة إن في الآية دليل على أن أول الواجبات النظر. في المسألة شبه أقوال منقولة في أول شرح الأوتار قيل النظر، وقيل المعرفة، وقيل القصد إلى النظر، وقيل غيره لك. قوله تعالى: {إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ ... (40)} [ ... ] ثلاثة أوجه إما أن يراد ذوي أسماء فإما أن الاسم هو المسمى قل إن المراد الأسماء فقط وهو أنها لم تكن [آلهة*] إلا لمجرد قولهم وتسميتهم لها؛ لهذا فهم لا يعبدون إلا أسماء سموها فقط، ابن عرفة قال: قلت لو خاطب بالموعظة هذين الرجلين فقط ومعه في السجن كثير من النَّاس فأجيب باحتمال كونه رأى في هذين الرجلين من القول الهداية ما لم ير في غيرهما لأن غيرهما متعنت، وقد قال أبو المعالي في الإتيان، وانتظر في التي يعتاد العلم بالمتطور فيه ويعاد الجهل به والسبب

(41)

فيه يريد الجهل المركب لأن الناظر في التي يستحيل أن يكون جاهلا به الجهل المركب لأن الجاهل الجهل المركب لَا ننظر لاعتقاده أنه عالم فلذلك خاطب هذين دون غيرهما، وتكلم الزمخشري هنا بكلام سيئ، ابن عرفة: لكن هذه المتروكات هي عندهم أفقه من المفعولات. قوله تعالى: {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ ... (41)} ابن عرفة: اللذان حرصا على تنبيه المخاطب [ ... ] عنه لئلا يذهل عن سماع ما يلقى إليه. قلت له تقدم لك إنه ما خصهما بالخطاب إلا لصلتهما بذلك وأنه رأى فيهما القابلية إليه فهلا نادى لهما بالهمزة أو [الياء المشعرين*] بالقرب الحسي أو المعنوي فقال العبد مقول بالتشكيك في قرب بعيد وأبعد منه كما أن ثم جاهلا الجهل البسيط وأجهل منه، وهو من جهله مركب. قوله تعالى: (قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ). الضمير عائد على السجن الذي كان سببا في استفتائهما فقوله فيه أي بسببه قلت أو يعود على الأمر قوله تستفتيان حكاية حال مضت. قوله تعالى: {ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ ... (42)} وُجّه بأن الظن بمعنى العلم، وقال ابن عطية في غير هذا الموضع إن الظن لا يجوز بأَن يجعل بمعنى اليقين إلا في الأمور الفردية قلت له بل هو نظري لأن الأولين لا يعلمون إلا من علمهم الله فقال وكذلك أنت لولا أن الله علمك أن الواحد نصف الاثنين ما علمته. قلت له الله خلق لي إدراكا أعلم به ذلك [ما*] علمته إلا بواسطة خلق الله لَا الإدراك ولا [ ... ] بالوحي لَا بالإدراك العقلي هذا نظري. قوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ ... (45)} ابن عرفة: الأمثل تقديم السبب على مسببه والإدراك النجاة فهلا قدم علتها؟ فأجيب بأن السبب قسمان منه مقدم في زمانه كتقدم الأب على ولده، وسبب مقدم بالذات كحركة الخاتم بالنسبة إلى حركة الإصبع إذا لو كان متقدما في الزمان للزم عليه تداحل الإحساس لكن ورد في الآية الحث على المبادرة وأنه بادر إلى النجاة [عبر*] الإدراك حتى أنه فعلها قبله. قوله تعالى: (أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ).

(46)

وفيه [نقول*] إن الملك عبر عن تعبير الرؤيا بالفتيا، والملأ عبروا عن ذلك بالتأويل والأصل [فيه*] مقاولة، وليس [للقوم أن يجيبوه*] على وفق ما تكلم به، فأجيب بأنه قصد الرد على الملأ في كونهم سبقوا على الملك وأخرجوا رؤياه عن التعبير في الأحكام [الفاسدة* فأجابوه*] على وفق قولهم (وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ) قوله تعالى: قبل هذا (بضع سنين) انظر ما قال ابن عطية. قال القاضي في الإكمال في كتاب الفضائل على حديث ابن مسعود وفيه [فَلَقَدْ قَرَأْتُ عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِضْعًا وَسَبْعِينَ سُورَةً*] وذهب ابن ثابت في روايتان مع العلم أن [ابن عباس زاد*] أن في البضع قولين آخرين أحدهما أنه من الثلاثة إلى الخمسة، والثاني أنه من السبعة إلى التسعة. قوله تعالى: {أَيُّهَا الصِّدِّيقُ ... (46)} ابن عرفة: إنما ينادى الشخص بالوصف المناسب لمقتضى الحال فلا يقال: للفارس في الحرب يا كريم يا حليم، وإنما يقال له: يا شجاع فلذلك قال أيها الصديق إشارة إلى ما قد علمنا منك الصدق في مقالتك. قال ابن عرفة: وفي الآية سؤالان الأول: عادتهم يقولون من القواعد المعرفة في كتب العبارة أن الرؤيا إذا قال المعبر إنها أضغاث أحلام فإنه لَا يقدر أحد على تعبيرها فلم فسرها يوسف، وجوابه أن قول الملأ لم يكن لديهم علم تام بالعبارة بل كانوا [يعرفون مبادئها*] بخلاف يوسف. السؤال الثاني: قال سبع بقرات سمان وسبع سنبلات وقال اكتفى بالبقرات عن السنبلات والعكس فأجيب بأنه لو قال سبع بقرات سمان لأفاد أنها سبع سنين خصبة وسبع مجدبة، وكلٌّ [يكون*] حصدها في الزرع أو في الغلة أو في [**اللبن]، فقال سبع سنبلات ليدل على أن خصبتها إنما هي في الزرع، ابن عرفة: لكن يرد على هذا أن يقال هلا اكتفى بذكر سبع بقرات لأنها تفيد سبع سنين خصبة في الزرع فأجبت بأنها إذا كان حصادها في السبع الأول وجوب الأخرى في الطعام فقالا وبذلك على حد قوله تعالى: (وَفِيهِ يَعْصِرُونَ) قال المفسرون يعصرون الزيت. قوله تعالى: (لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ). أي يعلمون الصدق في قول (أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ) ابن عرفة: فيؤخذ منه أن غير الواحد يفيد العلم، وقال ابن العربي إن كان الَمراد لعلهم يعلمون مكانتك فالعلم عنها بدا وإن كان المراد لعلهم يعلمون صدقك فيكون بمعنى العلم، ورد ابن عرفة: بأنه لا يعلم مكانه حتى صدقه في الأمر، وفي تفسير الرؤيا. قوله تعالى: {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ ... (53)}

(54)

ابن عرفة: يؤخذ منها عندي شيئان أحدهما أنه لَا ترجيح بين البينتين بالكثرة، والثاني: أن الأصل الجرحة حتى تبين العدالة [ ... ] إخراج الأقل من الأكثر يدل على أن أكثر النفوس أمارة بالسوء. قوله تعالى: {مَكِينٌ أَمِينٌ (54)} أي ذو مكانة ومنزلة ابن مؤمن على كل شيء، ابن عرفة: حصول الفضيلة للإنسان والمزية على غيره بالعلم والعمل به فقوله (مَكِينٌ) ترجع للقوة العلمية كالصلاة والزكاة والصوم، وقوله (أَمِينٌ) ترجع للعلم أي عندك من العلم ما يتفضل لنا به والثقة بك واشتماله كل جميع الأمور، وذكر المفسرون أن ملك دخل عليه بالعبراني فلم يكن الملك يعرفها مع وجود أنه كان يعرف سبعين لسانا لم يكن هذا منها، ابن عرفة: ولا يؤخذ منها من الآية تعليم العجمية والألسن بمخاطبة العدو في الجهاد، وعند المقاومة ولا يجوز التكلم له بهذا مطلقا لأن فيه إجمالا وتدليل على من لا يعرفها. قوله تعالى: {إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55)} يجوز للإنسان أن يقول أنا فقيه إذا علم أنه لَا يلزم العجب والرياء، وقوله: (وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ) قالوا إنه لَا يحمل على ظاهره منهم، ومن قال ما من علم ولو كان أعلم النَّاس إلا وقد يجد ما هو دونه يختص عنه ويمتاز بمثيلة لَا يعرفها هو، ابن عرفة: ولا يؤخذ من الآية جواز خدمة الكفار فإن الملك كان قد أسلم. كذا قال المفسرون. قال وعلى تقدير إذا لو كان كافراً قال النقص الذي يلبي المسلم في خدمته للكافر تقابله الزيادة في إسلام يوسف لأنه كان نبيا فقد يقال أنه يؤخذ عند الجواز، ولو كان أسلم فإن إسلامنا ليس كإسلامه. قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ ... (56)} ابن عرفة: [إنما يشبه الأخفى بالأخفى*]، والتمكين في الأرض ليوسف على ظاهر معرفة كل أحد، وهو أظهر من امتناعه من زليخا، وتنجيته من السجن، ابن عرفة: وعادتهم يجيبون بأن الامتناع من زليخا من باب حفظ الأعراض، والنجاة من السجن من باب رفع المؤلم وتمكينه في الأرض من باب حفظ جلب الملائم، ورفع المؤلم آكد من جلب الملائم فكذلك جعل الأصل، وشبه هذا أنه قيل لابن عرفة، وهل تكون الكاف في ذلك للتعليل أي ولأجل حفظ عموم عرضه وخوفه مكنا له في الأرض فقال: لَا يعرف أن الكاف ترد للتعليل إلا إذا لم يكن يحتمل أن يرجع هذا ليوسف

والله تعالى لأن الخير من فعل الله والشر من فعل العبد، ابن عطية، وهذه نزعة اعتزالية، ابن عرفة: ليس باعتزال وإنَّمَا التفريق بينهما باعتبار الإرادة فالمعتزلة يقولون إن الله تعالى ما أراد الشر ولا قدره في الأزل ونحن نقول تعالى الله أن يكون في الله ما لا يريد، وأما باعتبار الفعل فلا فرق بين الخير والشر وهما من فعل الله عندنا ومن ثم من فعل العبد فإنما هذا كقوله (مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ)، قلت: قال بعض الطلبة [ ... ] ابن عرفة: نجيب عن مثل هذا بأن من علم من حب الاعتزال إذا ذكره [ ... ] هو خلاف مذهبه بأنه يناول له ويرد إلى مذهبه والقاضي من كبار المعتزلة. قال ابن عرفة: والذي تعلقت به المسببة غير الذي تعلق به الأجر في قوله (أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) لأن إرادة الله كانت مرجح لما وجد ذلك المرجح إلا بإرادة، والإرادة الأخرى لَا بد لنا من مرجح بإرادة فيلزم التسلسل فإذا كانت الإرادة متساوية فالرحمة تصيب [الطائع والعاصي*] ولا تفاوت بينهما. قوله تعالى: (وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ). فهو [ ... ] غير المحسن لَا أجر له فيلزم عليه تناقضه مع قوله (نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ) أما أن المراد به النور المشتملة على المؤمن والكافر وأن الكافر منعم عليه في الدنيا حسبما قال صلى الله عليه وسلم في حديث الإفك لعمر "أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم في الحياة الدنيا"، وقال أيضا " [الدُّنْيَا سِجْنُ الْمُؤْمِنِ، وَجَنَّةُ الْكَافِرِ*] ". قيل لابن عرفة: ليس هو منعما عليه لقوله تعالى: (إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا). قال ابن عرفة: وإمَّا أن المراد بالرحمة الإيمان والخلوص من الكفر. قال ابن عرفة: ومنهم من قال [المؤمن*] منعم عليه في الدنيا والآخرة لأنه ما من عذاب يصيبه إلا في علم الله وقدرته [ ... ] ومنه قول المحسنين. انظر هل المراد الإحسان المذكور وفي حديث القدرة وهو أن تعبد الله كأنك تراه. قال [ ... ]: إن لم تكن تراه فإنه يراك، والمراد به بحور الهداية وهو أصوب لعمومه في جميع المؤمنين فهو داخل في باب الطمع والرجاء ويكون العصاة محسنين لأنهم آمنوا فالإحسان مجرد الإيمان. قيل لابن عرفة: هلا قال أجر الصابرين فهو النسبة لسياق الآية. قال علي بن أبي طالب: الصبر أساس كل عبادة فأجاب ابن عرفة: بأن الإحسان يشمل الصبر وغيره واختلف هنا نقل الزمخشري، وابن عطية. فقال الزمخشري: إن يوسف عليه السلام باع من أهل مصر الطعام بكل شيء حتى برقابهم بابتياع [ ... ] أعني أهل مصر عن آخرهم ورد عليهم أملاكهم، وقال [لابن عطية: إن أرض مصر لَا يتقرر عليها ملك لأنه قال مت نفسه] وروى ليوسف عليه السلام [ ... ] في الملك السنين أموال النَّاس [لم أملاكهم] فمن هنالك وليس لأحد في أرض مصر ومزارعها ملك.

(57)

قوله تعالى: {وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا ... (57)} قيل لابن عرفة هذا دليل على أن المراد بقوله (أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) الأمر في الدنيا فقال لَا بل في الآخرة، وأكد هذا قوله (وَكَانُوا يَتَّقُونَ) إشارة إلى هذا حالهم الدائم إلى أن ماتوا كما إذا قال الصحابي كان محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم [يفعل*] كذا، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل كذا فإِنه إشارة إلى حالته [**المتعرنن] فهو أبلغ من أن لو قال الذين آمنوا واتقوا وليتوفى عند ابن عطية مراده للإيمان، وعند الزمخشري والمعتزلة إنها أخص من الإيمان والقاضي عندهم غير متفق. قوله تعالى: {وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ ... (59)} قال أفاد المجرور أنه الجهاز الآتي بهم مثل (إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا) أو (عَلَى قُلُوبٍ أَقفَالُهَا). قوله تعالى: (بِأَخٍ لَكُمْ). نكرة، ولم يقل بأخيكم لئلا [ ... ]. قوله تعالى: (وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ). [ولم يقل وأنا خير منزل*]، وقال والموفين فأجاب بأن الإنزال والإكرام [عليَّ إذ هو عن غير معاوضة*] [والتوفية في الكيل*] أصلها عن عوض فإِذا كان خير المنزلين المعلمين المنزلين متصلا قادر على أن يكون خير الموفين فهو تنبيه بالأدنى على الأعلى. وذكر ابن عطية هنا أن الصواع كان عند يوسف يختبر به بأن [ينقر*] عليه [ويفهم من طنينه صدق ما يحدث به أو كذبه فسئلوا عن أخبارهم، فكلما صدقوا قال لهم يوسف: صدقتم، فلما قالوا: وكان لنا أخ أكله الذئب، طن يوسف الصاع وقال: كذبتم، ثم تغير لهم، وقال: أراكم جواسيس، وكلفهم سوق الأخ الباقي ليظهر صدقهم في ذلك*] (¬1). ابن عرفة: هذا [ ... ] عليهم وتخويف وليس يوسف عليه السلام ممن يركن إلى ذلك. قوله تعالى: {فَلَا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلَا تَقْرَبُونِ (60)} قيل مرفوع، وقيل مجزوم فالمجزوم إما معطوف على فلا كيل، وإما أنه يعني لا نفي؛ ورده ابن عرفة. الأول قال معطوف حكمه حكم المعطوف فيكون الناقد رحل على الجواب ولا يصح جزم الجواب مع الفاعل؛ وأجيب بأنه معطوف على محل الفاء وما دخلت عليه ومحلها جزم. قوله تعالى: {وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ ... (62)} ¬

_ (¬1) العبارة في الأصل مضطربة وبها سقط، والتصويب من (المحرر الوجيز. 3/ 258).

(63)

[وقوله لفتيته*] وارد على اتباع جمع الكثرة موقع جمع القلة وإما على أن قراه غنية روعي فيها مخاطبة خواص خدمه وقرئ [فتيانه*] وروعي فيها مخاطبة عموم خدمه ويصح إيقاع أحد الجمعين موقع الآخر مجازا. قوله تعالى: (لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا). أي يعرفون قدرها وقدر ما صنعت معهم فيها. قال ابن عرفة أيضا، وقال لفتيانه إذ أريد المباشرون بالخطاب وهم الخواص لجمع القلة وإذ أريد الممتثلون له وكل من بلغه ذلك إما مباشرة أو بواسطة فجمع الكثرة ابن عرفة مثبتا عنهم. إما على التوزيع أي اجعلوا بضاعة كل واحد منهم في رحله أو على نسبة المجموع للجموع. قوله تعالى: (إِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمْ). غير في الثاني بالرجوع لأنه من قصد؛ لأن يوسف عليه السلام أراد رجوعهم إليه، وعبر في الأول بالانقلاب لأنه غير مقصود لأن يوسف لَا يريد انقلابهم إلى أهلهم. قوله تعالى: {فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَى أَبِيهِمْ ... (63)} عطفه [بالفاء*]؛ لظهور السببية وكذلك لم يعطف بها في قوله (وَلَمَّا فَتَحُوا مَتَاعَهُم) لخفاء السببية. قوله تعالى: (مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ). هل هو من باب القلب مثل كسر الزجاج الحجر فالأصل يقال منعنا من الكيل. قال ابن عرفة: كان بعضهم يقول راعيت حالهم إنما عدلوا عن الحقيقة إلى المجاز لقصدهم المبالغة في المنع. فإن قلت، [وما كالوا لأنفسهم*]؟ قلنا منعوا من آخر [يريدون حظ أخيهم لغيبته*]. قوله تعالى: {قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ ... (64)} ابن عرفة: أنظن هذا كما يقال أن البلاء موكل بالنطق، وقد قال لهم في يوسف (وَأَخَافُ أَن يَأكُلَهُ الذَئبُ) فلما رجعوا إليه قالوا أكله الذئب. قوله تعالى: (وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ). فيحفظني [ ... ] ويرحمني من صبري على يوسف. قوله تعالى: (هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا).

(66)

قال ابن عرفة كان ابن عبد السلام يحكي أن الفقيه أبا العباس أحمد بن علي بن عبد الرحمن التماري ولي قضاء بجاية وكان بها عبد الحق بن معمر موثقا وشاهدا فجرت بينهما مكالمة ومناقشة ثم أخلي التماري عن القضاء مدة ثم أعيد إليها فلما قدم عليه، وخرج أهلها للقائه، وفيهم عبد الحق سمعه القاضي وهو يقول (هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا) فقال له القاضي (وَنَمِيرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا) قال ابن عرفة وإنَّمَا فسرنا البضاعة بالدنانير والدراهم فيؤخذ من الآية [ ... ]. قوله تعالى: {لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ ... (66)} استشكل الزمخشري هذا الاستثناء أجاب بأنه مستثنى من أعم العام أي لَا تتركن في حال من الأحوال إلا في حال الإحاطة بكم فالترك عام لنفسه بلا، وقوله في جميع الأحوال عموم آخر واستثنى هذا من أعم العام وهو الأحوال ونحوه. وللزمخشري في سورة الأحزاب في قوله: (إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفا)، وقوله (لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ) [ ... ]. قوله تعالى: (فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ). قيل له لم أضاف الموثق إليهم وإنَّمَا هو موثق يعقوب فالأصل أضافه إليه ليفيد حينئذ أنهم آتوه موثقهم اللائق به وأجاب أن موثقا غير مصدر لمطلع ومذهب تلك إضافة المصدر إلى الفاعل دون المفعول، وقد قال ابن عبد السلام في شرح ابن الحاجب في كتاب [ ... ]، وحكى فيه حكاية الأول. قوله تعالى: {لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ ... (67)} وقيل لابن عرفة ما يقال إن كان يقسمون نصفين ويدخلون منها بينها فإذا لأمرائهم بأن يدخل كل واحد من باب؛ فإِن قلت هلا قال ادخلوا من أبواب متعددة؟ قلت التفرق يقتضى بعد ما بينهما بخلاف التعدد فهو أبلغ في حصول مراده. فإن قلت هلا أمرهم بالدخول واحد بعد واحد من باب واحد قلنا تفرقهم في الأمكنة أشد عليهم من تفرقهم في الأزمنة [والوجود يشهد له*]. قوله تعالى: (وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ). أي القائلون للتوكل لئلا يلزم منه تحصيل حاصل. قال ابن عطية التوكل أقسام أحدها [توكل مع تسبب*]، ابن عرفة وبين [ ... ] ولا يخرج لقوله (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا).

(68)

قوله تعالى: {مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ ... (68)} [بالدخول*]؛ لأن حيث لَا يضاف إليها ظرف يكون محلا للفعل العامل فيها وأمر ليس محلا للدخول وإنَّمَا محله متعلق وأمر بالدخول من أبواب مفتوحة فأطلق الأمر على متعلقه مجازا لأن المراد (وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ) قوله تعالى: (مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُم مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ). أي دخولهم غير قابل لأن يغني عنهم شيئا لأن اقترانه بكان يدل على نفي القول قلت لأن هو لَا يغني شيئا مطلقا دخلوا من حيث أمرهم أو لَا فقال هو تنبيه بالأعلى على الأدنى لأن هذا دخول اختاره لهم أبوهم وتوخاه فإذا لم يغن عنهم شيئا قادرا أن لا يغني عنهم غيره. قوله تعالى: {فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ... (70)} قال ابن عرفة عطف الأولى بالواو بعده بفاء السبب بسبب ما وقع من المقاولة بين يوسف وأخيه المتضمنة [ ... ] بنية السرقة إليه حرصا على عدم مفارقة. ذكرها الزمخشري والظاهر أن هذا الجهاز أكثر من الأول [لوجوه*]: منها أن الكريم إذا كره الإعطاء يزيد وغيره يقطع، وأيضا فإن قدومهم الثاني محصل له [المعرفة بهم*] (¬1). قوله (جَعَلَ السِّقَايَةَ) أي أمر من جعلها إذا الغالب أنه لَا يجلس في مجلس الطعام ولا يجول إليه [لئلا يفطن*] (ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ) قال الزمخشري: ومنه المؤذن لكثرة ذلك عنه وتبعه في ذلك أبو حيان المختص، وقال: إن التضعيف للمبالغة والتكثير، ورد ابن عرفة بأنه إنما يكون للمبالغة في فعل كفتح من فتح كان متعديا لواحد فلم يزده التضعيف تعديا فساد تضعيفه للمبالغة لأجل زيادة الحرف، وأما هذا فوزن أذن فعل ووزن أَذن أفعل وكلاهما رباعي فلم يزده التضعيف فإن المبالغة قبله لعلم في أذن بالتخفيف فقال لَا يقال أذن وإنما يقال في الثلاثي أذن قلت ووافق الحق لابني وابن القصار على هذا التضعيف، قال الخولاني: أذن وزنها فعل كأعرب وليس وزنه فاعل لأن الهمزة الأولى زائدة والثانية أصلية، وأصله أذن فهملت الثانية، وأما أذن فوزنه فعل لأن الهمزة الأولى أصلية لأنه مضاعف وأحد الحرفين المدغمين زائدا وأقل الأصول ثلاثة فلابد أن تكون الهمزة أصلية فصح أن وزنه فعل فالفعلان رباعيان فأين فائدة التضعيف، وإنما كانت الهمزة الثانية في أذن أصلية لتوافقها في الاشتقاق أو خوص الأذان والأذان انتهى. قلت: ونظرته مع صاحبنا ابن القصار حفظه الله في المنع لابن عصفور فوجدناه ذكر لأفعل أحد عشر معنى وأفعل ثمانية معان أحداها أن يكون للتنكير، قال: وذلك ¬

_ (¬1) في المطبوع العبارة هكذا: "أنال المعرفة بهم".

(72)

في فعل المضاعف من أفعل كفتح من فتح، فكلامه مصحح لما قال شيخنا الإمام أبو عبد الله محمد ابن عرفة حفظه الله. قلت وفي صحاح الجوهري: [أذن لها في [الشيء*] إذْنًا [يقال: ائْذَنْ لي*] على الأمر، وأذن يعني علم، ومنها (فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ) وأذن له أذنا أسمع. قال الشاعر: صمٌّ إذَا سمعُوا خيراً ذكرتُ بهِ ... وإنْ ذكرتُ بسوءٍ عندهمْ أذنُوا قلت يذكر أذن بوجه، إنما ذكر أذن قال ابن [عرفة*]: كان بعضهم يقول لَا يقال قام زيد إذ لا فائدة فيه فما فائدة قوله (فَآفنَ مُؤَذِنٌ) فأجيب بأنه إن المراد أذن رجل ومادته الإعلام والمقاولة، وإما بأنه يجوز أن يقال قام قائم لمن هو متوقع ذلك ومنتظر له وقد كان يوسف وأخاه ينتظرانه. استشكل الفخر إطلاق السرقة عليهم مع أن يوسف ما أمر بذلك أو علم به وأذن؛ وأجاب إما بأن حملهم لرحل أخيهم وفيه السقاية تشبه بفعل السارق، وإما بأنه من تسمية الكل [وإرادة البعض*]. وقيل لابن عرفة حفظ الأعراض واجب فكيف رضي أخو يوسف قذفاً عليه؟ فقال ليس واجب لاسيما على أحد القولين في أن القذف حق للمقذوف فإذا عفى عن قاذفه صح وسقط الحد، قوله تعالى: (نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ ... (72) .. قال الزمخشري: [وقرئ: صواع، وصاع، وصوع. بفتح الصاد وضمها، والعين معجمة وغير معجمة*]، ابن عرفة يريد معجمة في اللغتين لفظتين فقط وهما [صواع وصوع*] كذا في طي كتاب الزمخشري، وقيل إن الصواع كان مستطيله أشبه [بالمكوك*]، قلت وسمعت ابن عرفة ينطق به بتخفيف الكاف. الزمخشري: وقيل هو المكوك الفارسي الذي يلقى طرفاه، ابن عرفة: وقيل إن الصواع كانت من مَسك بفتح الميم، وهو الجلد والمِسك بالكسر الطيب المعروف. قوله تعالى: (وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ). قال [ابن العربي: يؤخذ من الآية [جَوَاز الْإِجَارَةِ*] واتفقوا على ذلك إلا الأهم وهو من الشريعة أهم] وجواز الجعل وجواز [الجعالة*] لقوله (وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ) إن الإجارة والجعالة متباينان وهذه مثله [ ... ] فالثابت فيها أحد السندين لَا كلاهما أعني إما الإجارة أو الجعالة فكيف يؤخذ من الآية جوازهما معا. قلت أنا له يؤخذ منها جواز الجعل وقد قال مالك في كتاب الجعل والإجارة كلما جاز فيه الجعل جازت فيه الإجارة، والفرق بينهما أن الإجارة من شرطها ضرب الأجل وإن منعه من التمام مانع فلا شيء له. ابن عرفة: وفي الآية لأن أحدها قال في كتاب الغرر من المدونة لَا يجوز أن يقول

له أبيعك ملء هذه الغرارة لأن طيها مجهول، وهذا في الآية جعل وشرط الجعل أن يكون المجعول له معلوما، وأجيب بأن حمل البعير معلوما عندهم أنه قفيزان أو نحوهما. الثاني أن المجعول عليه من شرطه عند مالك أن يكون فيه شفعة، وما به للجاعل فلا يجوز [أن يجعل لرجل دينارا*] أو يقول من [يخبرني*]، بموضعه فله كذا لأنه عاجز بموضعه وكذلك لَا يقول لرجل اطلع هذا الجبل أو هذه الصخرة ولك كذا لأنك لَا تنتفع في طلوعه بشيء نص على ذلك ابن رشد في البيان والتحصيل، وذكر فيه قولين وذكر ابن يونس في فروع زادها في آخر كتاب الجعل والإجارة. قال ابن عرفة: أيضا الأصل في جواز الجعالة [(وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ) *] فهذه حالة الوجه أما الآية الأولى فقال المازري في شرح التلقين لا يتم الاستدلال بها إلا على القول بأن شرع من قبلنا شرع لنا حتى ينفع في شرعنا ما ينسخه ولم يقع ما ينسخ جوازها له بل ورد ما يؤكدها. ابن عرفة: وكان ابن عبد السلام يقول ليس في الآية دليل مطلقا وقلنا إن شرع من قبلنا شرع لنا أو لَا قال لأن مذهب مالك مخالف لمقتضى الآية لأن الجعالة عنده لا تجوز إلا على ما فيه منفعة للجاعل، وهذا لَا فائدة له فيه فنحن نقول كان يكون جائزا في شرعنا لجوازه في شرعنا إلا أنه ورد عليه النسخ بدليل مسألة الجعالة فيمن أخفى ثوبا، وقال من يخبرني بموضعه فله كذا لَا يجوز عند مالك. قال: لَا [ ... ] إلا ابن عرفة، وكنا نحن نجيبه بأن الآية اشتملت على أمرين على حمالة وجهالة أننسخ فيها حكم الجعالة، وبقي حكم الحمالة قائماً يرد في شرعنا ما ينسخه. قيل لابن عرفة: الحمالة في الآية منه على الجعالة فإِذا انتسخ الأصل [انتسخ*] الفرع فقال فنقول إن شرع من قبلنا شرع لنا فيما ورد فيه نسخ دون ما عداه. ابن عرفة ويفتقر إلى سؤال في الأبد من هذه [ ... ] ليست بحمالة وإنما على التزام على تقدير، وقيل لابن عرفة: ليس هذا عنه، وإنما نظير الآية يقول لك أي [ ... ] إنما قيل لك عنه [**بدينا] فقال ليس عندكم أن الحمالة يشترط فيها رضى المحتمل عنه بها فقال [ ... ] يدلنا على أن يوسف عليه السلام علم بذلك ورضي به فما قاله ذلك الرجل إلا بعد علمه ورضاه فقال الآية محتملة أن يكون يوسف أمره بذلك أو لَا إذا احتملت احتمل سقط الاستدلال وعلى تقدير ثبوت الأمر فهل أمر بحمل بعير أو أقل أو أكثر أو لم يعني له شيئا. ومذهب [ ... ] أنه لابد من التفسير وأيضا قال قائل ذلك حمل من اعتبر يوسف غير معصوم فلا يحتج بقوله فقال قد [تقرر*] وثبت أن صدور الحكم من [ ... ] لَا يتنافى زمانهم إذا اشتهر به وانتشر ولم ينقل عنهم إعادة أنه تنزل منزلة إقراره له نصا؛ فإِن قلت

(73)

ما [فائدة قوله*] (وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ) بعد قوله (وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ) قلنا حقيقة أن يتوهم أن الملك لَا يرضى بذلك ولا [ ... ] لمن جاء بالصواع. قوله تعالى: {قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ ... (73)} ابن عرفة: هذا يسميه البيانيون المذهب الكلامي وهو الإتيان بالدعوى مصاحبة بالدليل وعلى طريقة المتكلمين لذلك سموها المذهب الكلامي، الزمخشري: ثم دخلوا على [ ... ] من حصيد النَّاس. قوله تعالى: {قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ ... (75)} فهو جزاؤه قيل خبرا مبتدأ ومن وجد مبتدأ ثاني خبره فهو جزاؤه والجملة كلها خبر جزاؤه الأول، ابن عرفة ورده أبو حيان بعدم الرابط؛ [وأجيب بأوجه*] الأول، لابن عرفة: الرابط الضمير المضاف فهو جزاؤه لأنه عائد على المكان إلى جزائه الأول أي فهو جزاء السارق أو فهو جزاء ذلك الفعل، وقد ذكر النحويون في أقسام الضمير الرابط أن لَا يكون ضميرا ما عائدا على ما اتصل بالمبتدأ مثل غلام الجارية صديقها وهذا هنا عائد على ما عاد عليه الضمير المتصل بالمبتدأ قلت: قال ابن القصار: هذا جائز عند الأخفش واستدل له بقوله: وَذي إخْوَة قطعت أَقْرَان بَينهم ... كَمَا تركوني وَاحِدًا لَا [أخا ليا*] فأعاد الضمير في بينهم على المضاف إلى الموصوف بتلك الجملة وظاهر كلام سيبويه المنع لأنه منع الربط مثل زيد [ ... ]، أبو عبد الله فأحرى هذا. الثاني: لابن عصفور في شرح مقربه في عدم الموصولات أو المبتدأ ذكر هذه الآية وقال: الرابط لفظ الجزاء [كرر*] مثل زيد قام زيد، فردها ابن عرفة: بأن الخبر الثاني غير الأول، قلت: أراد بالأول عقوبة الفعل، وبالثاني غير الأول، قلت: محل العقوبة. قوله تعالى: [(وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ) *]. نقل أبو حيان أنه يجيز [الوقف*] على قوله (قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ) يكون (جَزَاؤُهُ) الأول خبر مبتدأ مضمرا في المسئول عنه جزاؤه، قال المختص: فيه لَا فائدة فيه لأن قوله (فما جزاؤه) يغني عنه، ابن عرفة: ويحتمل أن يجاب: بأن قوله [(فما جَزَاؤُهُ) أفاد فائدة*] يضمن إحديهما بالمطابقة وهي السؤال [عن*] نفس الجزاء، والآخرة [يضمن*] وهي السؤال عمن أضيف إليه الجزاء؛ لأن الجزاء تارة يضاف إلى السارق لَا عن جزاء غيره؛ فقوله المسئول عنه جزاؤه إذ وإن السؤال الحقيقة إنما هو من جزاء السارق وهو الذي اقتضى السؤال الأول بالتضمن أي المسئول عنه جزاء السارق من حيث هو

(77)

جزاؤه لَا الجزاء من حيث هو مثل ما إذا سألت عن قيام زيد فأنت سائل عن زيد القائم بالتضمن وهذه فائدة دقيقة [فتأملها*] [**نصب أن إما الله تعالى] قوله: (فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ ... (77) .. ابن عرفة: [لما أتوا بالمضارع*] صار جواب الشرط ماضيا لفظا ومعنى لتحقق [علمهم*] [ونكروا (أَخٌ) ليأتوا*] مع الضمير بلام الاختصاص على جهة التبرئ منه والبعد عنه أي (أَخٌ لَهُ) فقط لاعتقادهم أنه يشاركه في السرقة [التي لم تم براءته منها*] قوله (فَأَسَرَّهَا) إضمار على شريطة التفسير، وفسره قوله (أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا) الزمخشري: [أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً بدل من (أسرَّها) *] واستبعده ابن عرفة لقوله: (وَلَم يُبْدِهَا لَهُمْ). قوله تعالى: {خَلَصُوا نَجِيًّا ... (80)} أي [**نعت لقد رأي نومه (نَجِيًّا) أو يصدر] فيتعارض فيه المجاز والإضمار [ولأبي سعيد*] شارح سيبويه أنه جمع [أَنْجِيَةٍ*] فهو جمع الجمع. قوله تعالى: (أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ). أضاف الأب إليهم دونه لَا يساعد من الرجوع إليه أو لأنهم لم يحزنوا لحزنه. قوله تعالى: (فَلَنْ أَبْرَحَ الأَرْضَ). أي فلن أفارق الأرض مفعول له (¬1) لأن الفعل لَا يتعدى إلى ظرف المكان المختص إلا بواسطة في قوله: (حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي) فإن ظاهره أنه جعل قسم الشيء قسما له؛ لأن إذن الأب إنما هو بحكم الله، وأجيب: بأن المراد أو حكم الله لي بغير ذلك. قوله تعالى: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا ... (82)} سؤال القرية إما حقيقة فيكون خرقا للعادة لأنه شيء [وردَّه*] ابن عرفة: بأن الأمور الخفية لَا تحتاج فيها لسؤال ما لَا يعقل لإطلاعه على الغيوب بالوحي، وإما أن يراد وَاسْأَلِ أهل القرية بنكرة سيبويه، أو له كناية، [وقيل*] القرية اسم للجماعة، ابن عرفة: فإن قلت: لم قدم سؤال الغير والمناسب العكس لأن الغير أقرب إليه وأهون وإنما يبدوا في الأمور لحين فالجواب: أن هذا أبعد عن التهمة إشارة إلى نعم السؤال فإنه إذا ابتدأ بالآباء قد يكون تنبيها منهم بأول مهلة على عدم الافتقار على من قدم معهم بخلاف ما لو بدءوا بالقادمين معهم فإنه قد يتوهم أنهم أرادوا الاقتصار على سؤالهم فقط. قوله تعالى: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ ... (83)} ¬

_ (¬1) في الكتاب المطبوع العبارة هكذا [ولأمر] ولا معنى لها، ولعلها زائدة، ومن ثم تم حذفها.

(84)

ذكر ابن عصفور في الشرح الكبير عن الجمل أن هذه الآية مما يجوز فيها حذف المبتدأ وإثباته وحذف الخبر وإثباته، قال: والتقدير فأمري صبر جميل أو فصبر جميلا مثل لي. قال الخولاني: وهو خلاف ما قال ابن هشام في شرح الإيضاح وابن مالك فإِنهما قالا لَا خلاف أن المصدر المنصوب على إضمار الفعل المتروك إظهاره إذا ارتفع على الابتداء يجب حذف خبره ولو ارتفع على الخبر أوجب حذف مبتدأيه كقوله: شَكَا إِلَيَّ جَمَلِي طُولَ [السُّرَى*] ... صَبْرًا جَمِيلا فَكِلانَا مُبْتَلَى على رواية من رواه صبر جميل (يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ ... (84) ... إن قلت: كيف تأسف على يوسف وأن فيه مع تقادم عهده كان مضيا عنده [ ... ]، وأجاب ابن عرفة: بأنه عليه السلام كان يظن أن يوسف هلك حسبما ذكره الزمخشري أنه [رأي*] ملك الموت في النوم فسأله هل قبضت روح يوسف فقال لَا وأخوه بنيامين قد أخبرني أنه محبوس وقالوا له: إن يوسف أكله الذئب وتأسف الإنسان على من مات وانقطع منه أشد من تأسفه على من هو حي محبوس يرجو رجوعه ويطمع فيه. قوله تعالى: (وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ). إن الحزن سبب في البكاء إذ البكاء سبب في الحزن، [البياض فهو من إقامة **المسبب مقام السبب]. قوله تعالى: {قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا ... (85)} ابن عرفة: القسم على الأمر المحقق جاز بلا خلاف واختلف في القسم على المظنون واختيار ابن الحاجب، لأنه قال: ومن حلف على ما شك فيه فتبين علاقة [ ... ] سلم، قلت: والظاهر أن الظن كذلك وهو أنهم أقسموا على أمر مظنون أو لم يكن منه شيء لأنهم أقسموا على أنه لَا يزال فيما يستقبل من الزمان يذكر يوسف حتى شارف الهلاك أو يهلك وهو لم يهلك بذلك ولا شارف الهلاك، لأن حزنه هذا لم [يبق*] هذه إلا يسيرا، واجتمع [بيوسف*] فإذا كان حزنه الماضي على طول زمانه وهو ثمانون سنة لم يهلك به ولا [شارف*] الهلاك فأحرى هذا، قيل له: إنه اتصاف إلى ما حكى فصار كثيرا وانضاف إليه حزنه على الأخوين الآخرين، فقال: إنما المعتبر ما أقسموا عليه وهو يوسف. قوله: (أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ) (أَوْ) مانعة الجمع فقط [وليست مانعة الجمع والخلو*].

(87)

قوله تعالى: {فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ ... (87)} انظر في آل عمران في قوله (فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ) قال الجوهري في الصحاح: وتحسست من الشيء أي [تخبرت خبره*] وحسست له أحِسّ بالكسر أي رفعت له وحسست بالخير وأحست به أي تعقبته وقال زَيْد بْنُ [صُوحانَ*] حين [ارْتُثَّ*] يوم الجمل [ادْفِنوني*] في ثيابي ولا تحسوا عني [تُراباً، أي لا تَنْفُضوه]، ابن عطية: [فَتَحَسَّسُوا*] أي استقصوا [ونقروا*] [والتحسس الشيء بالحواس من البصر والسمع*]، وقوله (من يوسف) متعلق بمحذوف يعمل فيه (تحسسوا) حقيقة من أمر يوسف، أبو حيان: وفيه [نظر*] لم يبين [وجهة*] النظر، فقال ابن عرفة: لعله يريد [أن مِن هنا بمعنى عن*] لأن هذا إنما يتعدى باللام أو بمن قلت وهذا لَا يصح لأن الجوهري قال في الصحاح وحسست عن الشيء تخبرت خبره. قوله تعالى: {مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ ... (88)} إن قلت: قال في سورة الأنبياء (وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) فأكد أيوب شكواه بأن هؤلاء لم يؤكد وأن المناسب كان العكس لأن هؤلاء يخاطبون يوسف الذي لَا يعلم من الغيب إلا ما أطلعه الله عليه وأيوب يشكو لحاله إلى الله تعالى العالم بخفيات الأمور، فأجيب: بأن سبب الشكوى في أيوب أشد من سبب الشكوى في إخوة يوسف لكن لما ورد أن الدود أكل جميع بدنه حتى وصل إلى قلبه [ ... ]، الزمخشري قيل: [إنها الصنوبر وحبة الخضراء. وقيل: المقل*]. ابن عرفة ودهن المقل. قوله تعالى: (فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ). ابن عطية: يؤخذ عنه أن الكيل على البائع ولو كان على المبتاع لقالوا فاسمح لنا بالوفاء في الكيل، وقال مالك: الكيل على البائع، وقال فيما إذا قطع يد رجل أو رجله أنه ليس له أن يلي القصاص لنفسه بل تنبيهه من له. [ ... ]. بذلك قال مالك: وجزاء ذلك النائب على المقتص له ومذهب غيره أنه المقتص فيه، وحجة مالك: أنه بنفس الجنايات صارت اليد للمجني عليه وأجره قطعها عليه وحجة المخالف أن المجني عليه يقول للجاني أعطني يدا عوضا عن يدي ولا يمكن إعطاؤها إلا مقطوعة فبغى فيها حق التوفية وهو القطع، ابن عرفة: فجعل مالك الجزاء [ ... ]، المالك على المقتص له ومذهب غيره الحق للمجني عليه فيها قبل القطع بدليل أنه في أوسط كتاب الديات

(89)

فمن قطع يد رجل أو فقأ عينه فقطع آخر عين القاطع إن قبل المجني عليه أن غيره من يفعل في القاطع الجزاء أو نص في الخصوم بأحد الفعل في الخطأ فهذا يدل على أنه تعلق هذه بها قبل القطع. قوله تعالى: {هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ ... (89)} قلت لابن عرفة: فرق بين الاستفهام، أبو جعفر [ ... ] هذا السؤال هل الهمزة في تفيد له محطة بأن هل لَا يسئل هنا إلا الجاهل والهمزة يهملها من بين من لَا يعلم ومن يعلم على سبيل التقرير والتوبيخ رده بقوله تعالى: (هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ) قال: إلا أن يريد أن (هَلْ) الاستفهام من الهمزة لكثرة حروفها، قلت: وقال صاحب الإسناد أبو العباس أحمد ابن القصار المعروف أن (هَلْ) في الاستفهام بمنزلة قد في الخبر أعني أنها لَا ينال بها إلا عن شيء متوقع، وهذا قد تلخص للتوقع إذا دخلت إليها همزة الاستفهام وأنشدوا ............... سَائل فوارس يَرْبُوع بشدتنا ... أهل رأونا بسفح القاع ذِي الأكم قوله تعالى: {أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ ... (90)} .. قدره الزمخشري: (إِنَّكَ لأَنْتَ يُوسُفُ) فأنت يوسف، وابن عطية: إنك غير يوسف أو أنت يوسف. قوله تعالى: (قَالَ أَنَا يُوسُفُ). احتج بها ابن مالك على أن العلم أعرف من المضمر لأن الخبر محل الفائدة إما يعرف الشيء بما هو [أجلى منه*]، ابن عرفة إن أراد الإعراف قبل الإخبار علم وليس هو كذلك في الآية وإن أراد الإعراف بعد الإخبار فليس هو مراد النحويين بقولهم أن هذا الشيء أعرف من هذا الشيء لأن خبر المبتدأ عندهم لَا يكون إلا مجهولا فلا يعتبر معلوما إلا بعد الإخبار. قوله تعالى: {تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا ... (91)} ابن عرفة: إن قلت: لم أكدوا هذا بالقسم وهو أمر واقع محقق، وأجاب: بأنه لما كانت فيه غرابة بوقوع الإخبار على خلاف ما كانوا يظنون، أكده بالقسم والأثرة في الدنيا بالصبر على المنزلة، وفي الآخرة بكثرة الثواب وحمله الفخر على الدنيا فقط، وقوله (وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ) قال: والتفضيل نوعان فتفضيل يوجب الخزي للمفضول [كتفضيل المسلم على الكافر*] وتفضيل لَا يوجبه كتفضيل الأعلم على العالم فلما قالوا: (لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ) أي فضلك الله، أجابهم يوسف بأن ذلك التفضيل لَا يوجب لهم تحريما ولا نقيضه؛ بل ثم نزل منزلتهم شريفة.

(94)

قوله تعالى: {وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ ... (94)} ابن عرفة: جعل خروج (الْعِير) موجبا لوجدانه ريح يوسف، وليس كذلك إنما الموجب خروجهم بالثوب فوجدان الريح من لوازم الخروج بالثوب لَا من لوازم مطلق الخروج فلم عدل عن اللازم النسبي إلى اللازم الأعم، قال: والجواب: أن [ذلك مبالغة في وجدان الريح*]؛ لأنه إذا كان الموجب له مطلق الخروج للسيارة فأحرى أن يوجبه الخروج بالثوب، فإن قلت: لم قال (لأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ) وهلا قال [أشم*] ريح يوسف؟ والجواب: [قال هو أبلغ لأن الوجد يكون*] بالقلب والتذكير [**ويرويا يوميه] فهو أضعف من الشم، قلت: جواب بوجهين: الأول: أن هذا من وجه أن المسألة إشارة إلى أنه وجد فسألته التي كاد يجب عليها، والثاني: أنه تلطف في الإخبار بما يدل على مبادي الشم ولو صرح لهم بالشم لبالغوا في شدة الإحكام عليه وكان بعضهم يحكي عن سيدي أبي محمد عبد الله المرجاني أنه كان يقول: ما يدرك [عادات الصديق إلا صديق لَا يعرف دلائل الولي إلا ولي*] لَا يستلذ برائحه المسك كاستلذاذ الخضري بها والخضري العطار ضده أنفس مما هو عند غيره لعلة يقدرها فيوسف وإن كان صديقا نبيا، وأبوه يعقوب كذلك فلذلك أدرك مماثله [وأماراته*] ولم يذكرها أحد من أهله الذين معه لأنهم ليسوا بأنبياء إذ هم حفدته وقرابته [وإما أساءوه فلم يجد*] حينئذ منهم أحد بل كانوا عند يوسف]. قوله تعالى: {إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ (95)} [**إنما قال جهدته والآية عد من قرابته وهم غير معصومين؛ لأن النبي لَا يتصف بالضلال ولا ببينة لَا يجوز عليه] وفيه دليل على أن هذا لما كان يقال للأنبياء من أهلهم وغيره لأنه أصيب في ولده بسببهم، وهم مع ذلك ينكرون عليه حزنه. قوله تعالى: {أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ ... (96)} الزمخشري: طرح البشير القميص على وجه يعقوب أو الفاعل يعقوب، ابن عرفة: طرح أي ألقاه على وجهه بلين ورفق (أَلْقَاهُ) أي وضعه على وجهه من بعد وكلاهما [قوي*] وقوله: (إِنِّي لأَجدُ رِيحَ يُوسُفَ) لَا يبعد أن يكون جواب قسم مقدر لأنه فهم عنهم الإنكار وقوله: (لَوْلَا أَنْ تُفَنِّدُونِ) أن (لَوْلَا أَنْ تُفَنِّدُونِ) لما رأيتكم في ذلك الزمخشري: (لَوْلا) تفنيدكم لصدقتموني ورده ابن عرفة: بأنه بمعنى الأول فلا فائدة فيه، أبو حيان لولا تفنيدكم لقلت لكم أجد ريح يوسف، ورده ابن عرفة: بأنه قد قال ذلك قال ولهذا كانوا يفندون على الحريري في قوله في المقامة الدينارية:

(97)

وحقِّ موْلًى أبدَعَتْهُ [فِطْرَتُهْ*] ... لوْلا التُّقَى لقُلتُ جلّتْ قُدرتُهْ وقال: ذلك مما أحرز منه وقع فيه إلا أن يجاب بأن المراد لقلت جلت قدرته وعظمته معتقدا ذلك. قوله تعالى: {اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ (97)} إن قلت: خطابهم عام في الاستغفار والأصل تقديمه، والجواب: أنه أخر قصد العموم والاستغفار من ذلك الذنب وغيره فلذا قالوا: (ذُنُوبَنَا) ولو قدموا السبب لكان في ذلك الاستغفار [مقصور*] على سببه، فإِن قلت: يوسف دعا بالمغفرة في الحال، فقال (يغفر الله لكم) ويعقوب [وعدهم*] بالدعاء بها فقال: (قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (98) .. فما السر في ذلك؟ فالجواب: أن يوسف لشدة ما فعلوا به مع ما [ ... ] له لأن من الملك [ ... ] أن يقع عندهم منه هلع [**وجوب أن هو وعدهم بالمغفرة ولم يخبرهم ذلك لهم في الحال] فلذلك (قَالَ لَا تَثرِيبَ عَلَيْكُمُ) وأما يعقوب فهو من أمره في أمن ومعاتبة. فإِن قلت: هلا قال (أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ) ربما فهو أقرب لإيقاع الأمن والطمأنينة لهم، قلنا: أضافه إلى نفسه لاختصاصه حينئذ بفرصة منه حيث جمع عليه [ ... ]، فإن قلت: حذفه من الجملة الأولى ما ذكر في الثانية وهو المفعول الأول لاستغفر، ومن الثانية ما ذكرِ في الأولى وهو المفعول الثاني لاستغفر فالأصل استغفر لنا ربنا ذنوبنا (قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي) [ذنوبكم*] فما السر في ذلك. قوله تعالى: (إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ). إن قلت: الرحمة سبب المغفرة لأنه إذا [حن*] له ورق عليه ستره، والأصل تقديم السبب، والجواب من وجهين: أنه قدم للاهتمام تقديم المغفرة، وإما [لذكر*] الرحمة مرتين أولا باللزوم وثانيا بالمطابقة، قال ابن العربي في رحلته بل في قانون التأويل بل سمعت بعض الزهاد يقول: إن الله رد على موسى أمه في لحظة، ورده يوسف على يعقوب في مدة طويلة قال فيه سبعة أوجه من الحكمة، الأول: أن أم موسى كانت ضعيفة لأنها أنثى وكان يعقوب قويا لأنه ذكر، الثاني: رمي موسى كان من الله، وذهاب يوسف كان من النَّاس لأنه استحفظه إخوته فخانوا فيه فأدب لأن لَا يستحفظ أحد غير الله، الثالث: أن أم موسى وثقت بوعد الله، ويعقوب بقي يرجى شفقة الإخوة، الرابع: أن أم موسى وعدها الله بإنجازه وعده، ويعقوب لم يكن له من الله وعد، الخامس: أن موسى رمي صغيرا فسبب إليه كفيلا، السادس أن يوسف لو قال حين أخرج من الجب أنا حر وابن نبي وهؤلاء إخوتي وهذه قريتي لما اشتروه ولكنه

(99)

استسلم فأسلمه الله تعالى إلى الحكمة، السابع: أن إخوة يوسف [قالوا*] (اطرَحُوهُ أَرْضًا) والأرض [أم الآدمي ومقره*] فلم [يلق بمضيعة*]، وموسى رمي في البحر فلم يكن له [بدٌّ*] من هلكته أو نجاة، فكانت النجاة السابقة في علم الله. قوله تعالى: [(فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ*] ... (99) ابن عرفة: قال: أولا فلما دخلوا عليه فأضمره لتقدم ذكر يوسف بالقرب وهنا لما بعد ذكره ووقع الفصل ليعقوب أظهره، وأيضا فإِن يعقوب هنا أول ما دخل عليه خلاف الأول فإِن [الأول*] تكرر دخولهم عليه، ابن عرفة: وكان بعضهم يقول إذا قلت: لما قام زيد قام عمرو يكون نصا في أن الأول سببا في الثاني، وإذا قلت: قام زيد فقام عمرو وقد يكون الأول سببا وقد لَا يكون والدخول ليس بسبب حسي. قوله تعالى: (وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ). يحتمل أن يريد مجرد الدخول فقط أو الدخول والسكنى [والإقامة*] وصيغة افعل هنا للإكرام [والمشيئة للتبرك*]. قوله تعالى: {وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا ... (100)} ولم يقل ساجدين لأن إخوته أحد عشر مع أبويه فلذلك غير [جمع الكثرة*]. قوله تعالى: (هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ). أي هذا مدلول تأويلها، قالوا: والمجرور متعلق برؤياي، وقيل: تأويل ابن عرفة معلقة بتأويل بني على صحة أن الرؤيا كانت قبل التأويل بهذا ولم يرد في ذلك حتى صحح. قوله تعالى: (وَقَدْ أَحْسَنَ بِي). الإحسان أكثر من الإنعام لأنه مشتق من الحسن فالشكرية أقوى، فإِن قلت: فهلا قال في الفاتحة صراط الذين أحسنت إليهم لأنه دعاء، وإنما يدعو الإنسان بالوصف [ ... ]، قلنا: الإنعام هناك قدر مشترك بين [ ... ] المسلمين والطائعين منهم وأتى فيه بالمعنى الأعم الذي اشتركوا فيه بخلاف الإحسان فإِنه لم يحصل لجميعهم وهو المفسر في الحديث بقوله "أن تعبد الله كأنك تراه فإِن لم تكن تراه فإِنه يراك"، قيل لابن عرفة: دلالة في أنهم ما خروا له سجدا إلا بعد دخولهم مصر، ولم يسجدوا له عند أول [ ... ]

(101)

فإنهم له مع أنهم كانت تحيتهم السجود، فقال: لأنه خرج هو وفرعون [مصر عن ملكها*] فأخَّروا السجود حتى انفردوا بيوسف وحده. قوله تعالى: (مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي). قال الفخر: احتج بها المعتزلة على أن الشر ليس مخلوقا لله ولا أراده، وأجيب: بأن إسناده للشيطان تأدب منه، وعلى مذهب الأشعري القائل بالكسب كما نقول قتل زيد عمراً وأفاد ذلك من فعل الله، ابن عرفة: وفي هذا احتراس روعي منه [**لستر إخوته] ويحتمل أن يقول بكون قوله (من السجن) تورية وإيماء للجب لصدقه على السجن الحقيقي بالمطابقة وعلى الجب مجازا. قوله تعالى: {رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ ... (101)} ابن عرفة: إن قلت لم ذكر متعلق لعلم ولم يذكر متعلق الملك، فالجواب: أن الملك كله في نفسه شريف فلذلك لم يحتج أن يقول رب قد آتيتني ملك مصر والعلم منه الشريف والساقط فلذلك ذكر متعلقه، فإن قلت: لم قدم الملك على العلم، والأولى العكس لوجهين أحدهما: أن العلم أشرف لأن الملك أمر [دنيوي*] والعلم موصل إلى الآخرة، الثاني: أن العلم سبب في ذلك لأنه به حصل له الملك وهو تأويله لرؤيا الملك، فالجواب: أنه قصد في الآية التي في ذكر الأوصاف النسبية في محل الشكر أو قدم الملك لأنه نعمة ظاهرة لجميع الخلق، والعلم بتأويل الأحاديث نعمة خفية لم تظهر إلا لبعضهم، إن قلت: لم ذكر هاتين النعمتين في وصف الشكر وترك النعمة العظمى، وهي النبوة وهي أولى بأن يذكرها ويشكر عنها، فالجواب: إنه في مقام النأي به والتعليم لغيره فذكر النعمة التي شارك فيها غيره ليقتدي به من حصل له شيء منها يشكر عليه، وأما النبوة فصاحبها معصوم لَا يحتاج تنبيهه للشكر عليه بوجه. قوله تعالى: (فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ). أي مبتدعها، قال ابن عباس: ما كنت أعرف ما معنى (فَاطِرَ) حتى اختصم إلي أعرابيان في بير فقال أحدهما: أنا فطرتها أي ابتدأتها. قوله تعالى: (تَوَفَّنِي مُسْلِمًا). قيل لابن عرفة: فيه سؤالان الأول الشيء معصوم [ ... ] على الإسلام وهلا دعا بأن على النبوة؟ فأجاب بوجهين: أحدهما أن الدعاء يكون لوجهين إما لتحصيل المطلوب وإما لإظهار التذلل والخضوع، وذلك فيما هو محقق الوقوع عند الداعي. الثاني أن هذا على سبيل التعليم لغيره، كما قال: [قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ*] وأن

(102)

الإنسان لَا يركن إلى الواقع بل يدعو ما استطاع، السؤال الثاني أن الإيمان أخص من الإسلام (قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا)، ولحديث ابن عمر "الإسلام أن تشهد أن لَا إله إلا الله [وأن محمدا رسول الله، وتقيم الصلاة*] وتؤتي الزكاة وتحج البيت، والإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله، وتؤمن بالقدر خيره وشره فمن حصل الإيمان حصل الإسلام" بخلاف العكس ألا ترى أن القدرية ليسوا بمؤمنين مع أن بعضهم يظهر له من التقشف والعبادة ما لم يظهر على بعض المؤمنين، فقال ابن عرفة: أما الآية فإنما ذلك فيها باعتبار الظاهر فالأعراب ظهر منهم الاقتفاء بالنبي وذلك هو الإسلام، وكذبوا في قولهم آمنا وانظر حديث أبي موسى وبلال في الأعرابي القائل للنبي صلى الله عليه وسلم ["أَلَا تُنْجِزُ لِي، يَا مُحَمَّدُ مَا وَعَدْتَنِي؟ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «أَبْشِرْ» فَقَالَ لَهُ الْأَعْرَابِيُّ: أَكْثَرْتَ عَلَيَّ مِنْ «أَبْشِرْ» فَأَقْبَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَبِي مُوسَى وَبِلَالٍ، كَهَيْئَةِ الْغَضْبَانِ، فَقَالَ: «إِنَّ هَذَا قَدْ رَدَّ الْبُشْرَى، فَاقْبَلَا أَنْتُمَا» فَقَالَا: قَبِلْنَا، يَا رَسُولَ اللهِ ثُمَّ دَعَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَدَحٍ فِيهِ مَاءٌ، فَغَسَلَ يَدَيْهِ وَوَجْهَهُ فِيهِ، وَمَجَّ فِيهِ، ثُمَّ قَالَ: «اشْرَبَا مِنْهُ، وَأَفْرِغَا عَلَى وُجُوهِكُمَا وَنُحُورِكُمَا، وَأَبْشِرَا"*]. (¬1) أخرجه مسلم في كتاب فضائل الصحابة، وكذلك الأعرابي الذي جذب النبي صلى الله عليه وسلم في رواية بشدة حتى أثر في عنقه وطلب منه أن يعطيه. ابن عرفة: وأما الحديث فالإسلام أخص ولا سيما على مذهب أهل السنة القائلين بأن المعاصي في المشيئة وأنه مؤمن مع وجود أنه تارك للصلاة والزكاة فليس بمسلم، والمعنى أنهم يقولون أنه كافر فترى الإسلام عنده أخص لا يصدق إلا على الطائع فما طلب يوسف إلا الأخص. قوله تعالى: {وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ ... (102)} قال الزمخشري: هذا تهكم بهم، ابن عرفة أراد أنه ما يقال ما كنت تدري قيام زيد، وما كنت تعرف الفقه إلا لمن يظن به علم ذلك والنبي صلى الله عليه وسلم لا طريق له إلى معرفة ذلك إلا من الوحي فإتيانه بالقصة على الوجه الأكمل الصحيح من أدل دليل على صدقه فالمخالف فيه مخالف للضرورة. قوله تعالى: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (103)} هذا تمهيد عذر للنبي - صلى الله عليه وسلم - لأنه قد يتوهم أن عدم إيمانهم سبب تقصير النبي صلى الله عليه وسلم في التبليغ لهم؛ لأن الملك إذا أمر حاجبه أن يبلغ أمرا إلى الرعية فيسر لهم أسباب القبول فلم يمتثلوا لقربهم منه في التقصير. قوله تعالى: {إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (104)} ¬

_ (¬1) تم تصحيح ألفاظ الحديث من صحيح مسلم. اهـ (مصحح نسخة الشاملة).

(105)

أي بالتمكن لَا بالفعل بمعنى أنهم متمكنون من النظر في هذه الآيات فلو نظروا وتأملوا لتذكروا بالفعل فآمنوا. قوله تعالى: {فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ (105)} قرئ والأرضُ بالرفع على الابتداء وخبره يمترون عيها فعلى الرفع يكون في الآية الحذف من الأول لدلالة الثاني، (وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) يعلمونها أو يرونها، والأرض يمرون عليها. قوله تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو ... (108)} ابن عرفة: إن قلت: كلما ورد فعلى هذا مصدرا بكلمة قل مثل (قُل هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ)، (قلْ أُعُوذُ بِرَبِّ الفَلَقِ) هل أمر به بتبليغ الضمير القول والمقول له فيقرأ عليهم الآية بكمالها، ويصير كأنه يقول لهم: قيل لي (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي)، أو قل هذه سبيل، أو أمر بتبليغ المقول له فقط فيقرأ عليهم الآية ويحذف منها كلمة (قُلْ)، فالجواب: إن القرآن كله هو مأمور تبليغه فما نزلت معه كلمة (قُلْ) أمر بتبليغ القول والمقول له وما لم ينزل معه كلمة (قُلْ) أمر فيه بتبليغ المقول له فقط والسبب في ذلك أنه إن فهم من الحاضرين الامتثال بأمره لم يحتج إلى التصريح بأنه أمر بأن يترك لهم ذلك إن فهم عنهم عدم الركون إلى مجرد قوله أسند ذلك لمرسله، وعينه ولأنه إنما أمر يحكي ذلك عنهم لهم، ابن عرفة: والإشارة إلى القصة أو الحالة والظاهر أن (سَبِيلِي) مبتدأ وهو خبر لأنه أعرب ولأن المبتدأ منحصر في الخبر وقد فرق القرافي وغيره بين زيد صديقي وصديقي زيد، فالخبر لَا بد أن يكون أعم من المبتدأ وذكر ابن هشام في شرح الإيضاح في قوله (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ) فالمراد الإخبار بأنه ليس سبيله إلا هذه، وليس المراد الإخبار بأنه ليست هذه إلا سبيله لأنها سبيل غيره من الأنبياء ونقل بعض الطلبة: أن [ ... ] شارح البرهان أنكر التفريق بين زيد صديقي، وصديقي زيد، وقال: لم يرد ذلك عن العرب ولا عن النحويين، ورده ابن عرفة [ ... ] من أن الخبر لَا بد أن يكون أعم من المبتدأ. قوله تعالى: (أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي). حكى الزمخشري في (أَنَا) ثلاثة أوجه: أحدهما: قال (أَنَا) تأكيد الضمير في أدعوا (وَمَنِ اتَّبَعَنِي) معطوف عليه، قلت لابن عرفة: هذا لَا يصح لأن الهمزة للمتكلم وحده وحرف العطف مشترك في الإعراب والمعنى، فقال لي أنت إذًا تمنع أن

(109)

تجوز أقوم أنا وزيد، قلت له نعم، ومن قال بجوازه ما أظن أنه يجوز أصلا للتناقص، فقال لي لَا يخالف أحد في أن ذلك جائز وإنما الذي قاله الزمخشري بعيد من ناحية أن يخرج عنه التمثلة في الإيمان لأنه ليس على بصيرة. قوله تعالى: (وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ). انظر هل فيه تعريض لكفار قريش هذا بناء على أن المراد بقوله (وَمَا يُؤمِنُ أَكثَرُهُم بِاللَّهِ إِلَّا وَهُم مُشرِكُونَ) أهل الكتاب وأما إن قلنا: إن المراد به مشركوا مكة فلا حاجة للتعريض هنا لأنه قد تقدم التنصيص على شركهم. قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ ... (109)} أفادت من أول أزمنة القبلية فهي أبلغ من قيل قبلك. قوله تعالى: (إِلَّا رِجَالًا). احتج بها المعتزلة بمذهبهم في إنكار نبوة النساء عقلا ونحن نجوزها لولا أن الشرع لم يرد بها، وأجاب أصحابنا بأنه نفيت في الآية الرسالة ولا خلاف أن النساء ليست فيهن رسولة؛ لأن المقصود من الرسالة التبليغ إلى النَّاس وليس ذلك في شأن النساء. قوله: (مِنْ أَهْلِ الْقُرَى) قال ابن عطية: إن يعقوب لم يكن ساكنا بالبادية أعني بيت العمود وهي بيت الشعر، وإنما كان ساكنا بقرية من قرى الشام وهي بادية بالنسبة إلى أرض مصر [كما هي بنات الحواضر بدو بالإضافة إلى الحواضر*]. ابن عرفة ذكره معاذ بن جبل الغزي، وقال: أنه يستفيق من صلاة العشاء الآخرة، وابن رشد يريد في جماعة لأن الحاضرة فيها المستأجر يجتمع فيها النَّاس، وقال بعض المصريين: إن يعقوب عليه السلام كان من أهل العمور فيرد الإشكال في الآية، لكن يجاب: بأن الصواب أن يعقوب لم يثبت أنه كان رسولا وإنَّمَا الثابت أنه كان نبيا. قوله تعالى: (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ). ابن عرفة: كان بعضهم يقول يحتمل أن يراد به السير في الأمكنة أو في الأزمنة ففي الأمكنة هو السير في الأرض حقيقة وقطع مفاوزها للتفكر والاعتبار، وفي الأزمنة هو أن ينظر في الكتب أخبار الأمم السابقة وما جرى لهم. قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ ... (110)}

(111)

قال ابن عرفة: ذكر ابن خروف في شرح سيبويه أنه حتى التي هي حرف ابتداء لا يلزمها الغاية ولا يحتاج إلى ما تكلفه المفسرون من أن التقدير هنا يوحي إليهم فتراخى نصرهم (حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ). قوله تعالى: (وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا). أي نسبوا في قولهم إلى الكذب وقرئ بالتخفيف [على البناء*] للفاعل والمفعول فعلى قراءة التشديد الظن إما على بابه لأن الرسل لما أخبروا المؤمنين بالنصر على الكفار في المستقبل وطال ذلك ارتابوا فظن الرسل أنهم قد كذبوا ولم يصدر منهم تكذيب حقيقة لأنهم مؤمنون. قوله تعالى: (فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ). ابن عرفة: إن قلت هلا أسند الإنجاء لعموم المؤمنين كما نفى رد البأس [عن*] عموم المجرمين؟ (¬1): فالجواب أنه إشارة إلى قول أهل السنة من أنه لَا ينجينا من الله شيء، وأن كل نعمة منه فضل، وكل نقمة منه عدل، فننجي من نشاء [**بجانبه بعد آتيه] إلى الإيمان، ولا يرد بأسنا عمن اتصف بالإجرام الثابت الدائم عليه اللازم إلى الخاتمة فلذلك عبر عنه بالاسم، وذكر ابن عطية في قوله: " (وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا) ما لَا ينبغي أن يقال على رءوس العوام ولا على غيرهم فمن أراد فلينظر فيه. قوله تعالى: {عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ ... مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (111)} ابن عرفة: يحتمل أن يريد غيره بالفعل أو بالإمكان والقوة وإن كانت بالفعل والمراد (عِبْرَةٌ) كما لأولي العقول النافعة ولا يلزم عليه الحلف في الأخير لأنه لو اتعظ به جميعهم واعتبروا لآمنوا كلهم، فإن كان المراد أنه بحيث يعتبروا به من عامله ونظر فيه فيكون المراد به جميع أولي الألباب والحقيقة ثابتة لهم لكنهم لم يحصل لجميعهم الاعتبار بالفعل وأشار الفخر إلى هذا. قوله تعالى: (وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ). هذا تأكيد المدح بما يشبه الذم مثل: ولا عيبَ فيهم غيرَ أنَّ سيوفَهم ... بهنَّ فلولٌ من قراعِ الكتائبِ الزمخشري: (تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ) أي الذي قبله من الكتب السماوية، وقال ابن عطية: في قوله تعالى: (وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ) يحتمل أنه يراد بما بين يديه المستقبل باعتبار يوم القيامة. * * * ¬

_ (¬1) في الأصل المطبوع هكذا [فكان يقال] وهي عبارة غير مفيدة في السؤال، والسياق يقتضي حذفها.

سورة الرعد

سُورَةُ الرَّعْدِ قوله تعالى: {المر ... (¬1) .. نقل الفخر عن ابن عباس: [أَنَا اللَّه أَعْلَمُ، وَقَالَ فِي رِوَايَةِ عَطَاءٍ أَنَا اللَّه الْمَلِكُ الرَّحْمَنُ*] (1)} يقول ابن عطية: إنها عبارة عن [أنا الله أعلم وأرى*] فالهمزة في (أنا) واللام في (الله) والميم في (أعلم) والراء في (أرى) فعلى هذه (المر) اسم لتلك الجملة والإعراب هنا على قول غيره بكون (المر) مبتدأ وخبره تلك آيات والرابط الإشارة لأن (المر) اسم هذه السورة كلها. قوله تعالى: (وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ). ابن عرفة: إن قلت: إلى لأنها الغاية ومن لابتدائها فالأصل تقديم المجرور بمن لأن الابتداء متقدم على الانتهاء، فأجابه الطلبة: بأن التقديم للاهتمام به وإن النزول إنما هو بسببه ومن أجله وإليه، ورده ابن عرفة: بأن هذا صير هنا لأن البداية باسم الله تعالى أولى وأهم، قال وإنَّمَا الجواب: أن المتقدم على ستة أنواع أحدها للتقدم بالشرف وعندنا قاعدة أخرى وهي أن الوجود أشرف من العدم، ولا شك [أن الشيء المنزل*] هو أبعد الإنزال معدوم من محل [**الابتداء الإنزال وموجوده، وفي عمل انتهائه] فلهذا قدم لأنه أشرف لوجود المنزلة، وقد قال له إن القرآن لم ينزل في اللوح المحفوظ، وأما الكلام القديم [الأزلي*] [فيستحيل*] فيه النزول لأنه ليس بصوت ولا حرف وتلك الأحرف والأصوات المنزلة انعدمت بلا شك من اللوح المحفوظ ووجدت عند النبي صلى الله عليه وسلم وإنَّمَا بقي في اللوح المحفوظ الكلام بما [**يلقى] ولو بقيت هي بنفسها لما صدق فيها أنها نزلت، وسئل ابن عرفة: عن جمع الصحابة لآية النور هل كان باجتهاد منهم، فقال: لَا إنما هو توقيف حفظوه من النبي صلى الله عليه وسلم اجتمعوا وجمعوه ووضعوا كل آية في محلها كيف سمعوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولولا أنه توقيف لما كان قوله [(الم) آية بغير قوله (اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ) *] (¬2)، وقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ) كلها آية. قوله تعالى: {رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ ... (2)} استدل به ابن عبد السلام على أن السماء بسيطة؛ إذ لو كانت [كورية*] لما [**احتج المد بها]، قوله: (بِغَيْرِ عَمَدٍ) لأن الكورة مرفوعة بغير عمد إذ يعتمد بعضها على بعض، ابن عرفة: وهذا لَا حجة فيه لأن الثاني: هنا لَا يعرفون ولا يقطعون بكونها [كورية*] أو بسيطة، إنما يصح هذا لو كانوا يقطعون بأحد الأمرين، فيقال لهم: (بِغَيْرِ عَمَدٍ) ليفهم كمال القدرة، واختلفوا هل للسماء أعمدة أم لَا؟ فقيل: لها وهو جبل قاف وهذا القائل ¬

_ (¬1) في الأصل هكذا [أنها عبارة عن أنا الله القوي الرحمن الرحيم أرى] والتصويب من (مفاتيح الغيب. 18/ 524). (¬2) في الأصل هكذا [مده آيتان أبغير قوله (أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ)] , وهي عبارة لا معنى لها، ولعل الصواب ما أثبتناه. اهـ (مصحح نسخة الشاملة).

يجعل الضمير بها عائد على العمد فيكون المعنى أنها مرفوعة بعمد غير مرئية وهذا لا يصح والصواب مذهب الجمهور الظاهر كقوله: (بِغَيْرِ عَمَدٍ) والضمير عائد على السماوات. قوله تعالى: (وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي). انظر سورة (إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا) أو قال الفخر هنا مجاري القمر ثمانية وعشرون لأنه يقطع الفلك في شهر ومجاري الشمس بمائة وثمانون لأنه يقطع الفلك في سنة. ابن عرفة وجهه أن السنة ثلاثمائة وستون يوما ونصفها مائة وثمانون فهو في نصف السنة سيقطع ستة بروج صاعدا أو طابق يغشى في ظل تلك البروج فما يجاريها في الحقيقة إلا ستة بروج، قلت: وتمشي كل يوم درجا وكذا هو في حجرة [الاستطرلاب*] مطابقة ومقاربة مائة وثمانون درجة، قلت: ومن [**العجل به ذكر العشرون] وغيرهم أن بعض الأقاليم الستة عندهم ستة أشهر منها فضاء خالص، ومنها ستة أشهر ليل خالص وهذا مذكور في علم الهيئة، قال الشيخ عبد الخالق المنجم: وجهه أن الشمس إذا طلعت على أفقهم تدور به أول يوم ثم ترتفع في محل طلوعها درجة وتدور به وفي اليوم الثالث ترتفع درجة أخرى وتدور بهم ولا تزال ترتفع ثلاثة أشهر فإذا انتهت إلى حدها رجعت هابطة كل يوم درجة وتدور بالفلك حتى تنتهي إلى أفقهم عند [انقضاء*] ستة أشهر ثم تحط درجة أخرى عن الفهم فيظهر الظلام ولا تزال تحط حتى ينتهي إلى حدها دون ثلاثة أشهر أخر ثم تأخذ في الصعود حتى تصل إلى أفقهم عند انقضاء ستة أشهر، قال: وهذا في موضع يقال له الجزر الخالدات يكون أشد القطبين إما الشمالي أو الجنوبي على حسب رؤوسهم أعني في وسط السماء عندهم والقطب الآخر وبه الأرض فيكون نهارهم ستة أشهر وليلهم كذلك وثم [ ... ] والزوال عندهم ذا عقب الآخر وبعد ارتفاع الشمس عن أفقهم درجة واحدة وآخرون رأوا لهم عندها محاذاتها للأفق وذلك بحسب اختلاف [ ... ] لأنا إذا أخذنا [ ... ] عرضه ستة وستون درجة وأسقطنا عرضه من ارتفاع وإلى الحمل بقي سبعة أربعة وعشرون وهي مثل الميل سواء فهذا الباب الزوال فيه عند محاذات الشمس الأفق فإن كان عرض البلد خمسة وستون فأسقطه يبقى خمسة وعشرون أسقط منها الميل بقي درج واحد وهو ارتفاع زوال ذلك البلد [ ... ] الليل عندهم ثلث ساعة، وهذه البلاد كلها قرية من [ ... ] الظلمات في الجنوب شديدة البرد جدا أو لَا يعمرها أحد، قال عبد الخالق: وكنت أسمع من الشيوخ إن في الأرض خمسة أقوال قيل: [كورية*] وقيل: بسيطة وقيل: إنها تشبه مكعب وقيل: منزلة حملة السيف الذي تقلد به وإنها تشبه حلقة محيطة

(3)

بهذا العالم كإحاطة الجملة من يقلد بالسيف، وقيل: إنها سنة ممكنة ومن أجل ذلك وضعوا الاسطرلاب الحوتي الجنوبي، قال: والصحيح عندهم إنها كورية وإن السماء كورية. قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ ... (3)} أي بسطها، ابن عرفة: استدل بعضهم بهذا على أن الأرض بسيطة ولا دليل له في ذلك لأن إقليدس الهندي قال: إن الكرة الحقيقية لَا يكون إقامة الزوايا والخطوط عليها بوجه ونحن نجد الأرض يقام عليها الخطوط وغير ذلك وتراها مستوية وذلك من أول دليل على إنها وإن كانت كورية فإِنها ليست كالكورية الحقيقية بل أعلاها مستو كبعض الكور التي تكون مسطحها مستويا. قوله تعالى: (وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ)، (وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ) قلت لابن عرفة: ما الحكمة في الرواسي مع أن جعل الأرض وحدها من غير رواسي أبلغ في كمال قدرة الله تعالى لأنه ربما يتوهم المتوهم أن ثباتها لأجل الرواسي ولو كانت دونها لمالت بأهلها ولو ثبتت؟ فقال: أو [ ... ] وهو أن [ ... ] في غاية الثقل والأرض معها وهما في الفضاء يحملها نور على ظهر حوت تحملها معا أبلغ في كمال القدرة. قوله تعالى: (وَأَنْهَارًا). قيل لابن عرفة: لم جمع الأنهار جمع قلة، والرواسي جمع كثرة، مع أن الأنهار فيما نشاهد أكثر من الرواسي؟ فأجيب: إما بأنها لم يسمع فيها إلا جمع القلة وإما إشارة إلى أن أنهار الدنيا على كثرتها بالنسبة إلى قدرة الله تعالى قليلة تافهة لأنه قادر على خلق أضعاف أضعافها. قوله تعالى: (وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ). قيل: إنه معطوف على قوله: (رَوَاسِيَ) فيكون متعلقها يجعل الأول، وقيل: إنه متعلق بجعل الثاني، ورده ابن عرفة: بأن فيه الفصل بين المعطوف وحرف العطف، قال ابن عصفور في شرحه الكبير: ما نصه ولا يجوز الفصل بين حرف العطف والمعطوف إلا بالقسم أو بالظرفية أو الجار والمجرور بشرط أن يكون حرف العطف على أزيد من حرف واحد، و (جعل) هنا معطوف على (جعل) الأول يفصل بين الواو و [(فيها) *] بالمجرور، قلت لابن عرفة: هذا [جائز أن*] يجاب بأنه من عطف الجمل فيكون تأسيسا.

(5)

قوله تعالى: (زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ). قيل: ذكر وأنثى، واستبعده ابن عرفة وقال: لَا تجده في الأشجار إلا في النخل والزيتون والتين، وأما العنب وغيره فليس فيه ذكر والصحيح أن المراد بالزوجين نوعين. قال الزمخشري: كالأبيض والأسود، والحلو والحامض، والصغير والكبير فإنها في أصلها كانت زوجين ثم تفرعت فصارت أزواجا. قوله تعالى: (يُغشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ). أي يليه مكانه فيصير أسود مظلما كما كان أبيض مشرقا ابن عرفة: والأول فاعل في المعنى وهو على إضمار فعل أي ويغشى النهار الليل، قلت لابن عرفة: ويحتمل أن يراد في الآية الزمان الذي بين الفجر وطلوع الشمس على القول بأنه من النهار، فهو إشارة إلى أن الليل يخالط النهار في ذلك الزمان باعتبار النزع، وفي الآية باعتبار النعمة. قوله تعالى: {وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ ... (5)} انظر هل هذا أمر تقديري [أو لا؟ فإن*] (إذا) لَا تدخل إلا على المحقق الوقوع، و (إنْ) تدخل على المشكوك فيه، والتعجب من هؤلاء محقق وقوعه؛ لأنهم أنكروا البعث وخالفوا مع علمهم أن الله خلقهم وأوجدهم، ومن أوجد المخلوقات من عدم فهو قادر على إعادتها، قال: وعادتهم يجيبون بأن التعجب إنما يكون مما خفي سببه كلا فلا يتعجب إلا [(مَن*] خفي عليه السبب، والنبي صلى الله عليه وسلم عالم بأن ذلك الواقع منهم إرادة الله وقدرته عليهم، فهو فى خاصيته لَا يعجب منهم، فضلا عن أن يكون تعجبه منهم [محققا*] بدليل قوله تعالى: (أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ)، وقوله تعالى: (فَعَجَبٌ) قال أبو حيان: إنه [ ... ] وخبره كونهم (أَئِذَا) الثاني أن محل الفائدة في (عَجَبٌ) لأنه المجهول و (قَوْلُهُم أَئِذَا كُنَا تُرَابًا) هو المعلوم. قوله تعالى: (أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ). يحتمل أن يريد بالجديد ما يلحقه عدم، ويحتمل أن يريد ما لم يسبق بوجود وهذا هو الأظهر لأجل لغتهم فهم يجعلون الإعادة كأنها خلق آخر لم يسبق بوجود السنة فلذلك فهو هنا ومذهب أهل السنة أن الإعادة ممكنة عقلا واقعة سمعا وهلا تعاد الأجسام متحيزا أو قائما بالمتحيز فالأولى إن كانت متحيزة فهي أجسام وإن لم تكن متحيزة فلا تشغل نفسها ولا بد لها من أجسام تحل منها فلا [ ... ] إعادة الأجسام خلافا [ ... ] وغيرهم.

وقوله: (وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ) قال ابن عطية: (وَزَرْعٌ) معطوفة على أعناب، قال أبو حيان والنخيل (صنوان وغير صنوان) يتبع من عطفه على (أَعْنَابٍ)، قال ابن عرفة: وهذا لَا يصح لأنه لَا يجوز أن يقول مررت بزيد وعمرو والعاقل، قال أبو حيان: وإنما يكون [حملا على الجوار*]، ورده ابن عرفة ثلاثة أوجه الأول: أن التبعية على [الجوار*] إنما وردت في الخفض ولم نره في الرفع إلا قليلا، حكى المبرد منها [ ... ] في شرحه بها، قال في [**ميت منها] أنه رفع [على الجوار]. الثاني: أن الخفض على [الجوار*] لَا يجوز إلا قليلا وهو مع الواو كل [ ... ] قلت: [ ... ] ابن رشد في المقدمات قوله (وَأَرْجُلَكُم إِلَى الْكَعْبَيْنِ) وقوله: (شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ) [عطفا على الجوار*]. قوله تعالى: (أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ). أي كفروا [بالبعث*] الخاصة والعامة، وهذا دليل على أن منكر البعث كافر، ابن عرفة: واشتملت الآية على اللفظ العام والإيهام ثم التفسير لأن قوله: (أُولَئِكَ) لَا يدل في أعناقهم تفسير للعذاب النازل بهم وهذا من باب ذكر السبب عقب سببه لأن الكفر سبب في غل الأعناق فهلا عطف الفاء المقتضية للسبب والتزامه، قال والجواب: أن السبب على ثلاثة أنواع ظاهر وخفي ومتوسط وإنَّمَا يحتاج إلى الفاء في المتوسط والخفي وأما هذا فظاهر كونه سببا فيما بعده فلا يحتاج في عقد إلى ما بين كونه سببا، ابن عرفة: والآية عندي من باب القلب، والأصل فيها أولئك أعناقهم في الأغلال؛ لأن الأغلال محيطة بأعناقهم كإحاطة الظرف بالمظروف، فأعناقهم هي المظروف وقد قالوا إن القلب لا يجوز إلا في العموم، فإِن قيل: في الكلام، قلت له: قد جعلوا منه [مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ*]، قال: وانظر هل هذا إلا على التوزيع أي كل واحد في عنقه أغلال، قلت: إن في سورة الحاقة (ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ) فدل أنه على التوزيع لكل واحد على آخر فأجابه بأن ذلك في رؤسائهم وقد تقوم مقام سلاسل مقدرة في عنق كل واحد من رؤسائهم حتى لا يظهر منه شيء. قوله تعالى: (وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ). قال ابن مالك: إن الجملتين إن كانتا متقاربتين عطفتا وإن كانت الثانية مفسرة للأولى لِم يحتج إلى حرف العطف، فقولهم: (هُم فِيهَا خَالِدُونَ) تفسير لقوله: (أصْحَابُ النَّارِ) وتأكيد هو في موضع الحال، وقال ابن رشد: في المقدمات في قوله تعالى: (وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ)

(6)

فإنما عطفها وإن كانت الثانية مفسرة للأولى لم يحتج إلى حرف العطف، وقولهم (هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) قال ابن مالك: إن الجملتين إن كانت متقاربتين عطفا وإن كانت الثانية مفسرة للأولى لم يحتج إلى حرف العطف فقوله (هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) تفسير لقوله (أَصْحَابُ النَّارِ) أو تأكيدا على سبيل التشنيع عليهم وإن هذه المقالة لغرابتها صارت كأنها مقالة أخرى مغايرة لإذايتهم النبي فكذلك عطفه، قيل لابن عرفة: ابن عصفور قال في شرح مقربه من أول باب الفاعل لما ذكر أن قوله (لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ) قال وقد تعطف الجملة المفسرة نحو قوله تعالى: (إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) قال قوله (كُنْ) تفسيرها لما قبله. قوله تعالى: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ ... (6)} ابن عرفة: انظر هل المراد أنهم طلبوا السيئة فقط، قلت: تقدم السيئة على مثل هذا في قوله تعالى: (ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُن مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ) وهي إنك إذا قلت جاء زيد قبل عمرو فإنما دل على تقدم مجيء زيد ويحتمل أن عمرو جاء بعده أو معه ولم يجيء بدليل قوله تعالى: (قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي) لأن تمام الكلمات محال، ووقوع السبب بعد الطلاق منفي بالإجماع وكان بعضهم [ ... ] على البراذعي في قوله في التهذيب ويؤمر الجنب بالوضوء قبل الغسل فإن أخره بعده بجزاء لأن الأصل في المدونة فإن الغسل قبل وضوئه أجزأه فكان يقول يقتضي لفظ المدونة؛ لأن ذلك الغسل أجزأه، قال ثم يتوضأ لأن الغسل يقوم مقام الوضوء بالإجماع لحديث "وأي وضوء أعم من الغسل" قلت له: الظاهر أنهم طلبوا السيئة فقط لأن الحسنة بعدها ما تأتيهم إلا وقد هلكوا، فقال يحتمل أن يهلكوا من غير استئصال. قوله تعالى: (خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلَاتُ). أي مضت من قبلهم قرون وقع لها من العذاب ما صيرها يضرب بها المثل لغيرها. قوله تعالى: (وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ). قيل: إن المغفرة تأخير ذلهم وعدم معاجلتهم بالعقوبة، ابن عرفة: ويحتمل أن يزاد من علم الله أنه يؤمن بأن يغفر له حالة ظلمه، وقال الغزنوي: إن هذه منسوخ، ورده ابن عرفة: بأنه خبر والأخبار لَا ينسخ، ونقل عن القاضي ابن عبد السلام أنه كان

(8)

يقول إن هذه الآية تدل على ترجيح جانب الخوف على جانب الرجاء لقوله: (ذُو مَغْفِرَةٍ) وهو للتقليل، ابن عرفة: إنما أخذه من كون المغفرة مصدر محذوف [بالتاء الدالة على الوحدة*] والعقاب مصدر منهم يقع على القليل والكثرة، قال وإن ربك لغفار للناس لأفاد المبالغة، قلت: وهو لابن عطية لأنه قال ما نصه: والظاهر [من*] معنى المغفرة هنا إنما ستره [في الدنيا وإمهاله للكفرة*] [ألا ترى التيسير في لفظ مَغْفِرَةٍ*] وأنها منكرة مقللة، وليس فيها مبالغة كما في قوله تعالى: (وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ). قلت وذكر الزمخشري: في سورة [غافر*] في قوله: (إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ) إذا قال: (ذُو) أدل على عظم فضله وكثرته، ونحوه لابن الخطيب في سورة الإسراء في قوله: (وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ) ونحوه للقاضي عياض في الإكمال في قصة سعد بن أبي وقاص في الوصية حيث قال: قد [بَلَغَنِي*] مَا تَرَى مِنَ الْوَجَعِ، [وَأَنَا ذُو مَالٍ*]، [وَلَا يَرِثُنِي إِلَّا ابْنَةٌ لِي وَاحِدَةٌ]. قوله تعالى: {اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى ... (8)} انظر هل المراد به الآدميات أو عموم [الإناث*]، فإن قلت: قوله: (وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ) قرينة في الخصوص، قلنا: قد ذكر الفخر والآمدي أن العام إذا عقب بعضه بصفة من أصنافه فمذهب مالك والشافعي فإن على عموم، وقال الثوري: هو مقصود على ذلك الصنف فقوله: (وَمَا تَغِيضُ) وإن كان لَا يصدق إلا على الأرحام ولا يخصه، وذكر المؤرخون أنه كان في بلد سلا عشرة ملوك ولدوا من بطن واحدة، ابن عطية: وقع لمالك كما يدل على أن [الحامل*] عنده لَا تحيض، ومذهب ابن القاسم أنها تحيض، قيل لابن عرفة: يلزم من قولكم أنها تحيض أن يكون الحيض دليلا على براءة الرحم فكيف جعلتموه علامة على براءة الرحم في العدة والاستبراء، فقال: إنما حكمنا بالمظنة، فقلنا: هو مظنة براءة الرحم فخلفه بعض الأحيان لَا يمدح كما أن ظهور الغم في زمن الشتاء مظنة لنزول المطر وقد يتخلف، فإن قلت: لم قدم النقص على الزيادة؟ قلنا: لأن الأصل عدم الزيادة. قوله تعالى: (وَكُلُّ شَيءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ). ابن عرفة: انظر هل المراد به القدرة وهي الإبراز من العدم إلى الوجود أو الإرادة وهي التخصص أو العلم وهو الكشف وإلا [فالظاهر*] أن المراد به الإرادة وإن (وَكُلُّ شَيءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ) مراد لأنه أتى به عقيب قوله: (وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ) وما تزداد هم حمل ناقص وحمل زائد وحمل معتدل، فقال: (كُلُّ شَيْءٍ) ذلك مراد له كان

(9)

تخصيص الناقص بالنقص والزائد بالزيادة وإنما هو راجع بالإرادة والظاهر أنه من العمومات الغير المخصوصة، كقوله تعالى: (وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْء عَلِيمٌ). قوله تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ ... (9)} إن قلت: لم قال (يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى) [فأخبر*] بالفعل وقال: (عَالِمُ الْغَيبِ) بخبر الاسم، فالجواب: إن العلم الأول متعلقاته متعددة شيئا بعد شيء بدليل زيادة الحمل ونقصانه فلذلك عبر فيه بالفعل، والعلم الثاني متعلقه الغيب والشهادة وهما لَا يختلفان ولا يتحدان إلا باعتبار متعلقاتهما، ولم يذكر في الآية غير مجرد الغيب والشهادة وهما على الإطلاق ثابتان لَا يجدان فيهما باعتباره ذاتهما، ابن عرفة: هذا عندي مثل: (لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا) لأنه إذا علم الغائب قادرا على الشاهد، والجَواب: كالجواب وهو أنه قصد الإشعار بالتسوية وإن علمه بالغائب كعلمه بالشاهد [ليس بينهما تفاوت*]، ابن عرفة: وقوله الغيب والشهادة ليس هو في موضع نصب لأن ابن عصفور نص في شرح مقربه على اسم الفاعل إنما يعمل إذا دل على الزمان فإن جرد عن الزمان لم يعمل، كقوله: ألقيت كأسهم في قعر مظلمة، و: (عَالِمُ) هنا صفة لله تعالى فيستحيل فيه الزمان فهو هنا مجرد عن الأزمنة. قوله تعالى: (الْكَبِيرُ). كان بعضهم يقول: إنه وصف مشترك والتعال خاص لَا يقال إلا لله. قوله تعالى: {مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ ... (10)} قال ابن بشير: القراءة في الصلاة على ثلاثة أقسام قراءة باللسان جهرا، وقراءة به سرا، وقراءة بالقلب، وأنها تجري في الصلاة والظاهر أن المراد في الآية بالأسر أن يسمع نفسه أو يقرأ بقلبه لكي تدخل الأقسام الثلاثة فهو أبلغ و: (أسَرَّ) مصدر في الأصل وهو خبر عن قوله: (مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ) [والمصادر لَا تكون إخبارا*] عن الحث فهو كقولك زيد عدل، قال الكوفيون: أي ذو عدل وجعله البصريون نفس الضالة مبالغة ومجازا، فالجواب: أنه ليس مثله وإنما جاز الإخبار هنا لأنه ليس خبرا عن الذات بل عن المجموع، قيل لابن عرفة: هلا قال سواء عنده ولم يقل منكم ليعم الكلام الإنس والجن بل ذكر كان يكون أولى لأنهم أجهل وأشد مكرا واختفاء والشيطان فيهم فقال الجن أجسام لطيفة والإناء اللطيف الشفاف يرى ما في باطنه من ظاهره بخلاف الإنس فإِن أجسامهم كثيفة فكان العلم بما في قلوبهم أبلغ فلذلك ذكرهم ليدل ذلك على العلم فأسرار الجن من باب آخر.

(11)

قوله تعالى: {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ ... (11)} الزمخشري: إن جماعات يتعقب في حفظه وكلامه القونوي أي أذكار وتسبيحات ودعوات، ورده ابن عرفة: بأن المجموع بالألف والتاء إذا كان مكبرا يشترط فيه الفعل إلا إذ لم تكره العرب [ ... ] وهذا حكى أن الزمخشري فيه هنا معاقيب، ابن عرفة: إن قلت الوارد في الحديث إن الحفظة ملك عن اليمين وملك عن الشمال فكيف قال من بين يديه ومن خلفه؟ فالجواب بوجهين: الأول: أن (مِن) لابتداء الغاية فينزلون من أمامه ومن خلفه لعمارة يمينه وشماله فالحفظة الأول ثم يصعد الحفظة وهم عن يمينه وعن شماله، والثاني: أن الضرر اللاحق الإنسان من أمامه وخلفه أصعب عليه وأشق كما هو من أمامه فإِليه مصادر وإليه يهرب ألا ترى قوله تعالى: (قُلْ إِنَّ الْمَوتَ الًذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ) وما هو من خلفه فإِنه من حيث لَا يشعر فحفظ هنا بين الجهتين أكد من غيره. قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ). إن قلت: هذا محالة لقوله (وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا) ومترفوها هم أهل النعيم، والمترفة وفي الحديث "أنهلك وفينا الصالحون قال نعم إذا كثر الخبث" [وهذه الآية دليل*] أن الهلاك إنما يقع [عند مخالفة*] الشرع، فالجواب: بوجهين الأول أن المراد [بِقَوْمٍ*] الكل لَا الكلية [فالهلاك*] لَا يقع بقوم حتى يقع منهم التغير إما من كلهم أو أكثر، الثاني أن المراد بتغيرهم ما بأنفسهم التغيير الذي لَا [ ... ] عنه ثواب في الآخرة [ ... ] بالهلاك والألم ممن لم يغير في الدنيا بسبب مخالطتهم لمن غير رحم به وابتلاء من الله تعالى لأنه إن رضي بذلك وقابله بالحمد والشكر يثاب عليه في الآخرة، والتغيير الواقع به ليس بعقوبة وكما في الحديث "إن النَّاس [يُبْعَثُونَ عَلَى نِيَّاتِهِمْ*] أو على أعمالهم". قوله تعالى: (وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ). هذا احتراس إشارة إلى المعقبات إنما [ليحفظوا*] منه مما أراد الله عدم وقوعه به وأهل السنة يعمون لفظ القول في الطائع والعاصي والمعتزلة يخصصونه بالعاصي بناء على قاعدة التحسين والتقبيح عندهم. قوله تعالى: (وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ).

(12)

أي من شفيع في رفع العذاب عنهم فهو تأسيس وقوله (فَلا مَرَدَّ لَهُ) هي فلا دافع له عنهم ابتدأ قبل وقوعه بهم ولا ناصر لهم يرفعه عنهم بعد وقوعه. قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا ... (12)} نسب الرؤية للبرق والإنشاء للسحاب؛ لأن الإنشاء المرتبة أسهلها على البصر [ ... ] البياض الساطع فنحن نعجز عن مداومة النظر للشمس والنعمة في البرق في أقدارنا على النظر إليه وانظر قوله: (يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالأَبْصَارِ) وأما السحاب فجرم ثقيل جدا والنعمة التي فيه هي إبرازه من العدم إلى الوجود. قوله تعالى: (خَوْفًا وَطَمَعًا). أعربهما الزمخشري: حالا ومنع أن يكونا مفعولا من أجله إذ ليس عنده فعلين والفاعل الفعل المعلل على مذهبه في أن الله تعالى لم يخلق الشر ولا أراده ونحن نجيز ذلك ونقول أراده وخلق في قلوب بعضنا الخوف منه، وفي قلوب [الآخَرين*] الطمع فيه والفرق بين إرادة الخوف وبين خلق الخوف إنك تريده من زيد أن يخاف منك ولا تقدر على إيقاع ذلك به، الزمخشري يخاف المطر [من له فيه ضرر*]، كالمسافر، ومن في [جرينه التمر*] [والزبيب*] ومن له بيت يقطر عليه ومن [البلاد*] من يتضرر أهلها بالمطر كأهل مصر فإِنه يفسد عليهم أبنيتهم، ونزول المطر فيها قليل جدا، ابن عرفة رأيت في خزانة التواريخ لابن سليم لما ذكر دخول مصر وما جرى له مع أهلها قال طلبت من بعضهم أن يهجوها فامتنع فلما أكثرت عليه قال: كم ذا تقيم بمصر ... معذباً بذويها وكيف ترجو نداهم ... والسحب تبخل فيها قوله تعالى: (وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ) حكى ابن رشد في بيانه في كتاب السواد والأنهار: خلافا فقيل: إن الماء كلها من السماء، وقيل: من البحار وإنه يتصعد منها بخار تكسبه [ ... ] وتذوبه فيكون في السحاب ثم ينزل مطرا، وقيل: بالوقف وهو اختياره، وذكر بعضهم أنه إذا نحن ما البحر وجعلت على القدر ثباته فإنه يعذب، وقيل: بل تكثر حدته [ ... ] المضطر إليه. قوله تعالى: {وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ ... (13)} قيل: إن الرعد اسم ملك، ورده ابن عرفة بقوله: (فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ) فقد نكره فإن كان لفظ الرعد هو العلم على الملك لم

(14)

يجز حذف الألف واللام منه كما لَا يحذف في القائم والعباس وإن كان العلم عليه رعد لزم إدخال الألف واللام فيهما كما لَا يحذف في القاسم على الاسم العلم وهو غير جائز، قلت: الألف واللام للمح الصفة فإن لمحتها أدخلتها وإلا فلا، قيل: الرعد صوت ملك، وقال الحكماء [ ... ] الأجرام، قيل لابن عرفة: لما أسند الحمد للرعد والخوف للملائكة، فقال: إن كان الرعد اسم ملك فأسند الحمد إليه إما لأنه جرم عظيم من سائر أجرام الملائكة فهو في مقام الحمد لَا في مقام الخوف، وإما ليدلك اللفظ بدلالتين مطابقة والتزاما، فأسند التحميد إليه أولا وحده، ثم أسند الخوف له مع الملائكة لدخوله فيهم، أو يكون حذف من الأول لدلالة الثاني، ومن الثاني لدلالة الأول، أي ويسبح الرعد من خيفته بحمده والملائكة بحمده من خيفته، وإن أريد بالرعد السحاب، فالمعنى أنه يسبح الله وبحمده على إبرازه إياه من العدم إلى الوجود وعلينا أن الحال لَا بلسان القول إذ لَا عمل له فلذلك لم يسند الخوف إليه بخلاف التسبيح بقوله: (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ) والخوف إنما يقع على العاقل. قوله تعالى: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ ... (14)} أي لله دعوة الحق، ورد بعدم الفائدة مع القارئ أن الذاهبة جاءته صاحبها، وأجاب السفاقسي: بأنه أفاد بالصفة أي لله دعوة الله الحق، ابن عرفة: هذا لو كانت الصفة في الخبر وهي هنا في المبتدأ فقال فصارت في المبتدأ مشتملا على ما في الخبر وزيادة [فزاد المسألة بها إشكالا*]. قوله تعالى: (وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ). ابن عرفة: لم يدعوهم من دون الله لكن بالخبر الذي شركوهم فيه مع الله هو العبادة دعوهم فيه من دونه. قوله تعالى: (لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ). ابن عطية: أي لَا يجيبون لهم بشيء وليس هو من استفعل بمعنى ذلك الفعل وإنَّمَا هو كقول الشاعر: وداعٍ دَعَا يَا مَنْ يُجيبُ إِلَى النَّدَى ... فلَمْ يستَجِبْهُ عندَ ذاكَ مُجِيبُ ابن عرفة: هذا من تأكيد الذم بما يشبه المدح، فعلى هذا لَا سؤال وإن لم يكن بمعنى، أجاب: يرد فيه أن استجابة خاصة بمن أجاب بما يوافق غرض السائل، وأجاب: عامة في المجيب بالموافق والمخالف فيقال لم تفاخرا لهم بالموافق مع أنهم

(16)

لا يجيبون بشيء على الإطلاق، فيجاب: بأن مطلوبهم في الآلهة إنما هو حصول غرضهم فنفاه وإما غيره فليس مطلوبا لهم فلم يحتج إلى نفيه. قوله تعالى: (إِلَّا كَبَاسِطِ كَفيْهِ إِلَى الْمَاءِ). ابن عرفة: هذا من تأكيد الذم بما يشبه المدح بقوله: هو الكلبُ إلاَّ أنَّ فيه ملالةً ... وسوءَ مراعاةٍ وما ذاكَ في الكلبِ والمراد بالذين يدعون من دونه الكافرون فشبه داعي الآلهة بداعي الماء باسطا كفه إليه ولو أريد به نفس آلهة لكان يكون يشبه مدعوا الكافرين بالداعي الباسط كفيه فيحتاج حينئذ إلى تكلف حذف المقابلة كما في قوله: (وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ) وهو هنا بعيد لأنه يصير التقدير والذين [يدعون*] من دونه ودعائهم لَا يستجيبون لهم بشيء إلا كباسط كفيه إلى الماء والماء فيه تكلف كثير، الزمخشري: وقوله (كَبَاسِطِ كَفَّيهِ) يحتمل أن يريد به الاستجابة كاستجابة باسط كفيه أي كاستجابة الماء لمن بسط كفيه إليه يطلب أن يبلغ فاه والماء جماد لَا يشعر بعطشه ولا يدعى به له، ابن عرفة: وشبه به باسط كفيه لما دون فاتح فيه للماء لأنه داعٍ وشأن الداعي أن يبسط يديه. قوله تعالى: (وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ). ابن عرفة: الفعل يقتضي التجدد والاسم يقتضي الثبوت فإذا أريد المبالغة خبر في الثبوت فإذا أريد المبالغة في غير الثبوت للاسم إلى النفي بالفعل؛ لأنه يلزم من النفي ثبوت الصفة وهي ما نفي ثبوتها [ ... ] ولا يلزم من نفي ثبوتها [ ... ] نفي ثبوتها [**ونفاها] وكذلك يؤتى بالأعم في النفي والأخص في الثبوت لأن نفي الأعم يستلزم نفي الأخص، وثبوت الأخص يستلزم ثبوت الأعم ونحوه، للزمخشري في قوله: (فَلَمَّا أَضاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ) وجاءت هذه الآية على العكس في قوله البليغ أفاد وما هو ببالغه فعبر في الثبوت بالفعل في النفي بالاسم ونفي منه البلوغ الثابت داعيا ولا يلزم من نفي على البلوغ المجرد والثابت وقال: ما قال. والجواب: إن القرية هنا تفي هذا المفهوم المتوهم ويتعين إلى المراد نفي البلوغ على الإطلاق كيف ما كان. قوله تعالى: {قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ ... (16)} قال الزمخشري: هذا إما حكاية [لاعترافهم*] وثبت بقولهم؛ كما يقول [المناظر*] لصاحبه أهذا قولك؟ باحتماله خشية أنه أراد رد عليه مقالته بجحدها لأنه إذا قال لهم من رب

السماوات والأرض؟ فلا بد أن يقول: هو الله كما قال (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُم مَنْ خَلَقَهُم لَيَقُولُنَّ اللَّهُ) وقال مكي: هو خطاب للجاهل [ ... ] [**فيجده مخبر عالم فخبر] (¬1). قوله تعالى: [(أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ) *]. المعطوف عليه مقدر أي كفرتم أي أفاتخذتم قوله: [(مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ) *] صفة فيه ثلاثة أسئلة، الأول: لم قال (من دونه) وهم اتخذوهم شركاء مع الله؟ وجوابه: [إن*] نظرنا إلى نفس اتخاذهم وليا وناصرا بالنوع، فلا شك أنهم شركوا في وصف النصرة والولاية [بين الله وعبده*]، وإن نظرنا إلى اتخاذهم وليا وناصرا بالنوع، فلا شك أنهم بالشخص، فلا شك أن هذا لَا يصح فيه الشركة، وقد ذكر ابن التلمساني في مسألة الصلاة في الدار المغصوبة: أن الواحد بالشخص لَا يصح انقسامه إلى مأمور [ ... ] والواحد بالجنس أو النوع يصح فيه ذلك ومثله [السجود لله*] والسجود للصنم، السؤال الثاني: لم قدم المجرور على أولياء والأصل تقديم المرفوع ثم المنصوب ثم المجرور؟ وجوابه أنه قدم أشرفه بإضافته إلى الضمير لله، يقال السؤال الثالث: لم غير اللفظ وهلا قال فاتخذتم من دونه أربابا؟ وجوابه أن الأولياء أعم من الأرباب لأن الولي والناصر قد يكون ربا وقد لَا يكون ونحوا على الوصف الأعم وهو طلبهم النصرة من غير الله فيلزم منه الذم على الوصف الأخص وهو اتخاذهم أربابا من دون الله من باب آخر ولو قيل: اتخذتم من دونه أربابا لأفاد التوبيخ على هذا الوصف الأخص لَا على ما دونه وهو دفع المضرة. قوله تعالى: (نَفْعًا وَلَا ضَرًّا). إن قلت: لم قدم نفي النفع على نفي الضر مع أن دفع المؤلم أكد وأولى من جلب المؤلم فهل قصد الترقي أم غير ذلك؟ فالجواب: إن ذلك إنما هو من باب الثبوت بعدم الضر لأن دفعه إما من جلب النفع، وإما في النفي بعكس الأمر لأنه لَا يلزم من عدم القدرة على دفع الضر الذي هو آكد وأنهم على [ ... ] عدم القدرة على جلب النفع، ولا ينعكس، والعطف يقتضي المغايرة فقدم النفع ليكون الثاني تأسيسا وزيادة في بيان عجزهم وترقبا ولو قدم الضرر لكان الأول مستلزم للثاني فيكون عطف عليه وأدخل في ضمنه فيصير بسببه عطف الخاص على العام. قوله تعالى: (وَلَا ضَرًّا). قال ابن عرفة: الأكثرون يقولون إن تكرار لفظ: (لا) تأكيد وقال [السهيلي*]: إذا قلت: ما قام زيد وعمرو احتمل أن يريد نفى القيام عنهما مجتمعين، فإذا قلت: ما قام ¬

_ (¬1) النص عند مكي هكذا "من رب السماوات والأرض، ومدبرها؟ (قل الله) أتى الجواب والسؤال فيه من جهة واحدة. وذلك على تقدير أنهم لما قيل لهم: من رب السماوات والأرض، (ومدبرها). جهلوا الجواب فقالوا: ومن هو؟ فقيل لهم الله: ومثله: {مَّن يَبْدَأُ الخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ الله}. وهو كثير في القرآن: يأتي السؤال والجواب من جهة واحدة، من جهة السائل. وإنما حق الجواب أن يكون من جهة السؤال، لكن أتى الجواب من جهة السائل، والجوابِ: على معنى أنهم جهلوا الجواب، وطلبوه من جهة السائل: فأعلمهم به السائل، فصار السؤال والجواب من جهة واحدة". اهـ (الهداية إلى بلوغ النهاية. 5/ 3713).

(17)

زيد ولا عمرو أفاد نفي القيام عنهما وعن كل واحد منهما فيجيء نسبة الكلي والكلية تكررت لَا ليفيد نفي القدرة على كل واحد من الضرر والنفع، فإن قلت: هذا مردود يقول النحويين في لَا تأكل السمك وتشرب اللبن بالجزم أنه يقتضي نصبه عنهما بالإطلاق مجتمعين ومفترقين، وأجاب ابن القصار: بأن ما قام زيد وعمرو من عطف المفردات فيقتضي الجمعية، وقولك تشرب اللبن من عطف الجمل فلا يقتضي الجمع وإنما هو استئناف بدليل أنهم قالوا في وتشرب اللبن بالنصب أنه نهاه عنهما مجتمعين وما ذلك إلا لأنه يؤدي إلى عطف مفرد، قلت له: بل هو في عطف فعل على فعل أعني وتشرب بالخفض، فقال: عطف الفعل على الفعل لم يذكره أحد سوى ابن عصفور فإنه قال: العطف حمل اسم على اسم أو فعل على فعل ومثله قام وقعد زيد وهو في الحقيقة جملة على جملة. قوله تعالى: (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ). ابن عرفة: مقام الإكرام والتبشير فينا فيه مساواة الفاضل للفضول ومقام الإنذار والتخويف على العكس فلذلك بدأ بالأعمى وجمع الظلمات وأفرد النور لتعدد طرق الشك واتحاد طرق الإيمان، قاله الزمخشري في أول سورة الأنعام، فإن قلت: الأعمى في الآية مقابل للظلمات فلم أفرده وجمعها؟ قلنا: نفي مساواة الأعمى للبصير يدركها كل أحد والظلمة جنس مفرد في سياق الثبوت يقع على القليل والكثير كالنور، وقيل مساواة النور لمطلق الظلمة مما يخفي على الأنبياء وكثير من النَّاس فإنه قد لا يظهر منها فرق بخلاف الظلمات المجتمعة المتراكب بعضها على بعض فإنه لَا يخفى على أحد إنها لَا تساوي النور فلذلك جمعها. قوله تعالى: (خَلَقُوا كَخَلْقِهِ). هذه [تقضي*] بكفر المعتزلة القائلين بأن العبد يخلق أفعاله، وقوله: (فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ) دليل على صحة العمل بالقياس لاقتضائها أن معبوداتهم لو كانت خالقة لكان عبادتهم لها وجه من النظر وهو أنهم يقولون هذا خالق فانتفى أن تصح عبادته قياسا على عبادة الله ولهذا يستدل المتكلمون على وجود الله (¬1) بحدوث العالم، وقوله (وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ... (17) .. قال الزمخشري: [كالفلز*]، ابن عرفة: هو كل ما يلين من المعادن فإِذا برد اشتدّ وليس كالذهب والفضة والحديد والنحاس والمتاع كل ما يتمتع به أواني الحديد والنحاس والرصاص والحلية كل ما يحلى به من الذهب والفضة وغيرها. قوله تعالى: (فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً). ¬

_ (¬1) في الأصل المطبوع هكذا [ووعد النية] وهي عبارة لا معنى لها، ومن ثَمَّ حذفناها. اهـ (مصحح نسخة الشاملة).

ابن عرفة: قال الخطيب في تاريخ بغداد ولما عرف بابن سعيد أحمد بن الحسين [الْبَرْذَعِيّ*] أحد فقهاء مذهب أبي حنيفة قال: قدم بغداد حاجا فدخل الجامع ووقف على [دَاوُد بْن عَلِيّ*] الظاهري وهو يكلم رجلا من أصحاب أبي حنيفة وقد ضعف الحنفي في يده فجلس فسأله عن بيع أمهات الأولاد، فقال له: يجوز لأنا [أجمعنا*] على جواز بيعهن [قَبْلَ*] العلوق [ووضع الحمل*] فليكن كذلك بعده عملا [باستصحاب*] الحال، ولا يزول إلا بإجماع، فقال لنا [الْبَرْذَعِيُّ*]: أجمعنا بعد العلوق [قبل وضع*] الحمل أنه لَا يجوز بيعها [فيجب أن نتمسك*] بهذا الإجماع [ولا نزول عَنْهُ إلا بإجماع مثله فأنقطع دَاوُد] *، وقال: ننظر في هذا، وقام أبو سعيد [فعزم*] على التدريس ببغداد، ولما رأى من [غلبة*] أصحاب الظاهر فلما كان بعد [مديدة*] رأى في المنام كأن قائلا يقول له (فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ) [فانتبه*] فسمع دق الباب فخرج [فإذ*] بقائل يقول له: قد مات داود الظاهري فإن أردت أن تصلي عليه فأت إلى الجامع وقت كذا، فأقام بعد ذلك سنين [كثيرة يدرس*] في محلته، ثم خرج إلى الحج فقتل في وقعة القرامطة مع الحاج، وذكر هذه القضية ابن سيد النَّاس في تأليف له خاص في أم الولد، وذكرها [ ... ] في فرق الفقهاء وأنكر هذا الإجماع. قال ابن عربي في قانون التأويل: ضرب الله الحق الباطل، فإنه خلق الماء لحياة الأبدان؛ كما أنزل القرآن لحياة القلوب، وضرب مثلا [الأودية*] بالماء مثلا [لامتلاء*] القلوب بالعلم، وضرب [الأودية*] الجامعة للماء مثلا للقلوب الجامعة للعلم، وضرب قدر [الأودية*] في احتمال الماء سعتها وضيقها وصغرها وكبرها مثلا لقدر القلوب في انشراحها وضيقها بالحرج، وضرب السيل للتمهيد والهشيم وما يجري به ويدفعه مثلا لما يدفعه القرآن من الجهالة والزيغ والشكوك ووساوس الشيطان، وضرب استقرار الماء ومكثه لانتفاع النَّاس به في السقي والزارعة مثلا لمكث العلم واستقراره في القلوب للانتفاع به، قال هذا المثل الأول وأما الثاني: فضرب المثل فيما يوقد عليه النار مثلا على ما في القرآن من فائدة العلم والعمل به فحلية الذهب والفضة مثل للعلم الواجب اعتقاده والمتاع مثل لما فيه من العمل المنتفع به كالانتفاع بالمتاع وكما أن النار تميز الخبيث من الطيب كذلك القرآن إذا عرضه عليه العلوم غير النافع فيها من الضار. قوله تعالى: (فَيَذْهَبُ جُفَاءً). الزمخشري: قرأ رؤبة جفالا وعن أبي حاتم لَا تقرأ بقراءة رؤبة لأنه كان يأكل الفأر ونقل ابن رشد في البيان في سماع عيسى في رسم أوصى من كتاب الصلاة عن عائشة أنها أجازت أكله وفي المدونة لَا بأس بأكل اليربوع والخلد عياض هو فأر الصحارى أعمى.

(18)

قوله تعالى: {لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى ... (18)} وهل تارك الصلاة مستجيب لنطقه بالشهادتين والظاهر أنه مستجيب بالشهادتين فقط لا مطلقا. قوله تعالى: (أُولَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ). هذا تهكم به لأن ذلك [عليهم لَا لهم*] وكذلك قوله (وَبِئْسَ الْمِهَادُ) تهكم لأن المهاد ما يفرش ويوطأ. قوله تعالى: {أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى ... (19)} في الآية حذف التقابل، أي أفمن ينصر فيعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى جاهل، قلت: وهذا من التنبيه بالأدنى عن الأعلى لأنه نفى مشابهه من اتصف بمطلق العلم بالحق عمن اتصف بكمال الجهل الثابت قادرا أن لَا يشبه من اتصف بكمال العلم الثابت فلذلك عبر في الأول بالفعل والثاني بالاسم. قوله تعالى: (إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ). ابن عرفة: العلوم النظرية مستفادة من العلوم الضرورية؛ ولذلك قال أبو المعالي في الإرشاد: العقل علوم ضرورية، ومذهب أهل السنة أن العلوم كلها إنشائية، ومذهب المغاربة أنها تذكر به وأن النفس كانت عالمة بكل شيء حتى دخلت في الجسم [ ... ] بكافة فعلها [ ... ] وكان ابن عبد السلام يقول هذه الآية حجة للفلاسفة، ابن عرفة: وجوابه نظر. قوله تعالى: {الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ ... (20)} إن قلت: هلا قيل: ولا ينقضون ميثاق الله كما قيل (بِعَهْدِ اللَّهِ) فالجواب: أن الوفاء بالعهد راجع لفعل المأمورات، ونقض الميثاق راجع لاجتناب المنهيات وتقرر أن النزول لَا يفتقر إلا إلى الموفى به أنه وفاء بعهد الله، قلت أو يقال: أن الألف واللام نائبة مناب الإضافة على ضميره أي ولا ينقضون ميثاقه. قوله تعالى: {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا ... (23)} إما بالشخص أو بالجنس وهي من عدن بالمكان إذا أقام به، وسميت بذلك لميل النفوس إلى الإقامة فيها دون غيرها لأنها أفضل وأشرف. قوله تعالى: (وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ).

(25)

ترتيب المعطوفات على حسبها في الوجود الخارجي فوجود الأب سابق على وجود زوجتك سابق على وجود ولدك ودخول الأبناء الجنة إما لصلاحهم أو لصلاح آبائهم كما قال: (وَكَانَ أبُوهُمَا صَالِحًا)، وقوله: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ) أو العكس. وهو أن دخول الآباء سبب للأبناء كما في الحديث "من قرأ القرآن وعمل ما فيه ألبس والديه يوم القيامة تاجا ضوؤه أحسن من ضوء الشمس" لذلك قال الشاطبي: [هَنِيئاً مَرِيئاً وَالِدَاكَ عَلَيْهِما ... مَلاَبِسُ أَنْوَارٍ مِنَ التَّاجِ وَالحُلاْ*] قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ ... (25)} .. ابن عرفة: هذا دليل على أن العهد يطلق على الوعد وعلى الأمر المشتق الملتزم ولو كان العهد هنا الميثاق لما كان لقوله (مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ) فائدة، قال: وكان بعضهم يقول إنها مباينة لما قبلها، ووقعت المبالغة فيما قبلها بتسعة أوصاف وفي هذه بثلاثة أوصاف، لأن الأولى في معرض الجزاء على الطاعة وعدم المبالغة في هذه تنفير أو هذه في معرض العقوبة على المعصية فناسب المبالغة في الأولى تأكيدا على انحساره على الطاعة وعدم المبالغة في هذه تنفيرا عن المعاصي وإن العقاب يقع على أدنى شيء من المعصية، قال بوجه ثان: وهو أن نقض العهد إشارة إلى العهد المأخوذ على الخلائق يوم السبت بربكم فهو راجع للتوحيد وقطع ما أمر الده بوصله، راجع إلى الإيمان بالرسول لأن تكذيبه قطع له عم مرسله والإيمان به إقرار بصلته مع رسله والفساد في الأرض راجع إلى المعاصي، ابن عرفة: وفي الآية عندي حجة لمن يقول إن المندوب غير مأمور به لأنها في معرض الذم الفاعل ذلك، فلو كان مأمورا به لما تناوله الذم، قال: وليس المراد منه جمع هذه الأوصاف بل من اتصف بواحد منها فقط. قوله تعالى: (أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ). إدخال اللام تهكم بهم إشارة إلى أن اللعنة أمر ملائم لهم ومناسب لفعلهم واللعنة للكفار وبسوء الدار للعصاة فهو لف ونشر. قوله تعالى: {اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ ... (26)} ابن عرفة: هذا كالدليل على ما قبله لأنه تقدم ذكر فريق المؤمنين وفريق الكافرين أتى بهذا نفيا لما قد يتوهم من أن إيمان المؤمن وكفر الكافر من قبل نفسه أي كما تعلمون أن البسط في الرزق والإقتار من فعل الله ليس للعبد فيه قدرة فكذلك اعلموا أنه

(27)

لا قدرة له على الإيمان والكفر إلا بالله ويحتمل أن يكون وجه المناسبة بينهما أنه لما ذكر فعل المؤمنين وعقابهم وفعل الكافرين وعقابهم أخبر أن بسط الرزق على أكثر الكفار في الدنيا وقبضه على أكثر المؤمنين إنما هو بمشيئة الله تعالى وإرادته حسبما ورد في الحديث "لو كانت الدنيا تساوي عند الله جناح بعوضه ما سقى الكافر منها شربة ماء"، ابن عبد السلام وهذا [**تتجارى فيه النَّاس] وأوسعهم حالا أشد كفرا أو منعا، وفي حديث الابتلاء "أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم في الدنيا". قوله تعالى: (وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ). أي وما اعتبار الحياة الدنيا في الآخرة، وإلا فالآخرة ليست ظرفا للدنيا بوجه وهذا إشارة إلى محل من يعمل للدنيا وعمل من يعمل للآخرة فمن قطع نهاره في لذة وشهوة وقطع يوما آخر في طاعة إذا تذكرهما نجده يندم على يوم الشهوة لأنه انقضى ولم يبق إلا الحساب عليه [ ... ] يوم الطاعة لأنه مضت مشقته وبقي ثوابه مدخرا له، وقوله: (مَتَاعٌ) أي شيء يتمتع به منفصل زائد. قوله تعالى: {لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ ... (27)} [للتحضيض*] وفي مقدمة [ابن بابشاذ*]: إنها مع الماضي للتوبيخ، ولا يطرد له إلا في الطلب الجازم، وإن كانت [للمضارع*] [فللتحضيض*] كقول الفقير للغني لولا أحسنت إلي لأنه على سبيل الندب. قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ). إن قلت: لم جاء فعل المشبه مضارعا والإنابة ماضيا والمناسب العكس لأن مشيئة الله قديمة وإنابة العبد حادثة، وفي غافر: (وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ) ومَن سوى الله يجتبي إليه من يشاء ويهدي إليه من ينيب؟ فأجيب: بوجهين

(28)

الأول: أن فعل المشبه أتى مضارعا باعتبار متعلقها وهو من فعل العبد وغير مطلوب لأن أصلها من الله فلم يحتج إلى طلب متعلقها والإناب من فعل العبد فجاء فعلها ماضيا إشارة إلى تأكيد طلبها حتى كأنها واقعة، الثاني: أن مشيئة الله دائما مستمرة وإنابة العبد متقطعة فهو إشارة إلى أن من أناب ليس على من آمن، بقاء إنابته واستمرارها في المستقبل إلا بهداية الله وتوفيقه، ابن عرفة: والآية عندي صريحة في مذهب أهل السنة لقوله (وَيَهْدِي إِلَيهِ) أي يخلق في قلبه الهداية ويرشده إليها. وأناب إشارة إلى ما له في ذلك من الكسب. قوله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ ... (28)} قال ابن عرفة: عادتهم يوردون عليه قوله تعالى: (الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ) لأن تلك الآية اقتضت أن ذكر الله موجب لخوفهم ووجلهم وهذه اقتضت إنه موجب لطمأنينة قلوبهم وزوال الخوف منها، قال: وكانوا يجيبون لوجهين: الأول: أنهم تذكرهم الله تعالى فحدث لهم خوف ووجل ثم تعقبه طمأنينة وسكون قلب كقوله: وإني لتعروني لذكراك هِزّة ... كما انتفض العصفور بلَّلَه القطر والجواب الثاني: قال كان شيخنا القاضي ابن عبد السلام يحكى عن بعض نحاة الأندلس، أنه قال: قوله: (وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ) بذكر الله مصدر مضاف للفاعل أنهم إذا أخبروا أن الله تعالى ذكرهم اطمئنان قلوبهم وسكت لأنهم يعملون أن ذلك رحمة منه بهم واعتناء بذكرهم وجاء قوله: (إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُم) على الأصل من حالهم لَا حالهم الخوف فإذا ذكر الله زاد وجلهم وخوفهم من عقابه وهذا جواب حسن. قوله: (كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ ... (30) .. ولم يقل: إلى أمة؛ إما لأنه أرسل إلى قوم نشأ فيهم، فإن قلت: رسالته عامة للعرب والعجم والقريب والبعيد؟ قلنا ابتداؤها كان من قريش وإما لكون إلى مختلف في دخول ما بعدها فيما قبلها وفي الظرفية والإحاطة فهي أدل على عموم رسالته. قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ ... (31)}

(32)

جوابها مقدر [أي: لما آمنوا*]، وقيل: أي لكان هذا القرآن، ابن عرفة [والقضية*] الشرطية تارة تقتضي نفي لانتفاء الثاني نحو لو كان هذا إنسانا لكان حيوانا لكنه ليس بحيوان فليس بإنسان، وتارة يقتضي ثبوته لثبوته نحو لو لم يكن هذا هو قضاؤنا لما كان إنسانا لكنه إنسان فهو حيوان، وتارة يقتضي مجرد [ ... ] والارتباط نحو لو حضر زيد لحضر ثوبه، والآية من هذا القسم، قال: والعطف [ ... ] لَا تسير الجبال أغرب وأعجب لعظم [جرمها*] وكونها جماد ألا يقبل الاتصاف بصفة الحيوان والتفسير من صفة الحيوان ولم يقع ذلك فيها بوجه ثم يليه تقطيع الأرض لكثرة وقوعه لاسيما على ما قال ابن عطية: من أن تفجير أنهارها ويليه تكلم الموتى، وإنه قد وقع لعيسى وغيره. قوله تعالى: (يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ). ابن عرفة: فيه ترجيح لمذهب المعتزلة القائلين بوجوب إنفاذ الوعيد وذلك أن إنفاذ الوعيد متفق عليه وإنفاذ الوعد مختلف فيه لكن جوابنا نحن أن الجواب القديم الأزلي هو صفة ذاتية لله تعالى استحيل فيها الخلف وأما كلام النبي صلى الله عليه وسلم الذي هو [ترجمة*] عن ذلك الكلام فليس كذلك ومثاله إذا قلت: من يقتل زيدا أفأنا أقتله فتارة يقصد الحقيقة، وتارة يكون غير زيد قتله لكنك تقصد المبالغة في العبارة على جهة التخويف عن فعل ذلك فعبارتك يمكن فيها عدم الوقوع وإما في نيتك وقصدك فلا بد من وقوعه لأنك عزمت على ما أجمعت عليه وهو قصد حقيقي فلأن الكلام الذي ترجمته عما في القلب فأنه قد يكون مجازا وهذا هو جواب أهل السنة عن قوله تعالى: (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا). قوله تعالى: {وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ ... (32)} ابن عرفة: فيه عندي دليل على صحة العمل بالقياس لأن الآية [سيقت*] مساق التخويف للكفار والقبلية للنبي صلى الله عليه وسلم وما وجه التخويف للكفار والتسلية للنبي صلى الله عليه وسلم، وما وجه التخويف إلا من جهة أن المشاركة في الوصف توجب التسوية في الحكم الناشئ له والكفار المعاصرون له صلى الله عليه وسلم مشاركون لمن سبقهم في الاستهزاء؟ واقتضت الآية أن من سبقهم عوقب فكذلك هؤلاء ولا معنى للقياس إلا إثبات حكم الأصل للفرع بعلة جاءت معه، وتنكير لفظ الرسول للتنويع ولا يناسب التعظيم إنه لَا يحصل به التخويف لأنهم يقولون إنهم عوقبوا هؤلائك على استهزائهم بعظماء الرسل ما يلزم منه عقابنا نحن، قيل لابن

(33)

عرفة: كيف ينفي هذا القسم باللام وقد، مع أن الماضي بعيد عن زمن الحال؟ فقال: تنزيلا له منزلة القريب ليحصل كمال التخويف. قوله تعالى: (فَأَمْلَيْتُ). قال الإمهال مجرد تأخير العذاب والإملاء تأخر العذاب وتيسير أسباب الوقوع في موجبات عذاب آخر ولهذا كان بعضهم يقول الإملاء أشد من الإمهال يعني لأنه يتضاعف به العذاب قال تعالى: (إنَّما نُملي لهم ليَزْدادُوا إثْمًا) المعنى ثابتا في بعض الأمر فهو تقرير وإن لم يكن ثابتا فهو إنكار وهو هنا تقرير لقول ابن عطية: المراد أفمن هو قائم هي كل نفس بما كسبت حق بالعبادة أم الجمادات التي لا تنفع ولا تضر وهو معطوف على مقدر فمنهم من كان مقدره أَهُمْ جاهلون فمن هو قائم زمنهم من قدره منهم غافلون فمن هو قائم، والصواب: قال وهل هذا من العمومات المخصوصة أم لَا؟ قال: إن قلنا أن ذات البارئ تعالى لَا يطلق عليها نفس فيكون باقيا على عمومه، وإن جوزنا الإطلاق لقوله: (تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ) فيكون هذا مخصوصا بالبارئ تعالى إذ لَا يقال إنه حفيظهم على نفسه، قيل له: قول (بِمَا كَسَبَتْ ... (33) .. يدل على التخصيص بل هو متعلق بقائم وليس بصفة للنفس والكَسب، الصواب تفسيره بما قاله أهل السنة لأن الأمثل عدم النقل ومعنى قائم حفيظ ورقيب وعالم. قوله تعالى: (وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ). ابن عرفة: تارة تبطل الدعوى ببيان بطلان دليلها في نفسه، وتارة يبطل، بيان بطلان مدلول دليلها وأبطل عليها هنا دليلهم السمعي والعقلي، أما العقلي فبطل لبطلان مدلوله وهو قوله (قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي الأَرْضِ) فهو غير معلوم لله وكل ما ليس بمعلوم لله فليس موجود ولا معدوم الممكن معدوم، إن قلنا: إن المعدوم الممكن معلوم فدل على أنه محال وأما السمعي فهو قوله (أمْ بظَاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ) وهو قولهم (مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى) وقولهم (هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ) فقيل لهم: هل بلغكم ذلك من الله على ألسنة الرسل أم لَا؟ وقوله (شُرَكَاءَ) خالفها الزمخشري هنا بكلامه على عادته في خلط لفظة المعتزلي بخلافه، وقوله (قُلْ سَمُّوهُم) قيل لابن عرفة: كيف هذا وهم سموهم فقالوا (اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى)، فقال: ليس المراد مجرد التسمية بل يعنيهم والمعنى أنه إنما يستحق اسم إله من اتصف بالاستغناء والكمال ونكره عن العجز والاحتياج فعينوا لنا شركاء متصفين بذلك

(35)

فإنهم لَا يجدونهم، قلت: وتقدم لابنِ عرفة: في هذه الآية ما نصه قوله (وَمَا فِي الأَرْضِ) وقال في سورة يونس (أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ) وفي سورة إبراهيم (وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ) فأجاب ابن عرفة: بأنه إنما خص الأرض لأنها المشاهدة القوية، وإلا فقد عبدوا الشِّعْرَى [ ... ] عبدوا الشمس لَا غير ذلك، ونفى علم الشيء على الله يستلزم عدم ذلك الشيء وفيه دليل على أن العدم غير معلوم، وفي المسألة ثلاثة مذاهب، مذهب الجمهور إلى أنه معلوم، وقيل: إنه غير معلوم، وقيل: المستحيل غير معلوم والممكن معلوم. قوله تعالى: (أَمْ بِظَاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ). أي أم بدليل سمعي فمعناه أنكم لا تجدون دليلا عقليا على ذلك ولا سمعيا فلا مستند لكم بوجه فالدليل العقلي تقدم نفيه لقوله (أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ) وفي قوله: (وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ). قوله تعالى: (بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ). ابن عرفة: ومن زين له مكره وقد يصور دليلا يصوره به ويزوده وهو [ ... ] صدوا عن السبيل فليس لهم شبهة ولم يجدوا وأجاز [ ... ] ولا ما يستدلون به على صحة دعواهم. قوله تعالى: (وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ). إن أريد ومن يضلل الله دائما فما له من هاد بالإطلاق وإن أريد ومن يضلل الله وقتانا أي وقت كان فما له من هاد غير الله. قوله تعالى: {مَثَلُ الْجَنَّةِ ... (35)} ابن عرفة: الظاهر أن الخبر مقدر، وفي الآية حذف مضافين والتقدير (مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ) فرد عليه بأنه إن أراد بالثانية جنة الآخرة فقد شبه [الشيء*] بنفسه، [ولا يصح*] أنها ضد الدنيا؛ لأن [التشبيه*] بالشيء [لَا يقوى*] قوته وهنا تشبه الأقوى بالأضعف فقال: قد يكون الفرع أقوى [**نفي المعنوي مقدم على العبادة] [ ... ] لا [**من قول ولا يعبد]، فأجيب: بوجود الأول أن المراد [بالشرك الرياء والكبر فالمعنى أمرت أن أعبد الله عبادة صالحة من الرياء*] ولكن هذا لَا يناسب السياق، قيل له: وعلى هذا

(40)

يكون قوله (وَلَا أُشْرِكُ بِهِ) حالا لكن خص الأكثرون على أنه لَا يحصل الفعل [للاستقبال]، فقال: يكون هذا حالا مقدرا؛ كقولهم مررت برجل معه [ ... ] يديه هكذا، الجواب الثاني: أن المراد أمرت أن أعبد الله وأدوم على عبادته إني أعبده عبادة لا يتخللها أو لَا يعقبها إشراك، الثالث: إنما قدمت العبادة لتدل على نفي الإشراك باللزوم ثم بالمطابقة فيدل اللفظ دلالتين وبالله سبحانه وتعالى التوفيق. قوله تعالى: {وَإِنْ مَا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ ... (40)} اختلفوا هل هذا وعد النبي صلى الله عليه وسلم بتعذيبهم أو وعيد لهم فأطلق الوعد على الوعيد، ابن عرفة: وقال في الزخرف (أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ) لكن أبلغ لأنها اقتضت رؤية بعض عذابهم وهو ما ينزل بهم في الدنيا، قبل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم ومعنى الآية إما نرينك بعض ما ينزل بهم أو نتوفاك قبل [رؤيتك*] ذلك، قال ابن عرفة: وفي هذا كمال التسلية للنبي صلى الله عليه وسلم وكان بعضهم يقول إن الوعد بالإحسان أو بالنصرة على الأعداء من السلطان والرجل ذو الهيئة ليس في الوعد كمن دونه لأن الأول يحصل منه كمال الطمأنينة والركون، وفي الآية سؤال وهو ما الحكمة في تأكيد الفعلين بالنون من أن أحدهم محقق الوقوع لَا شك فيه، وإنما المهم تعيين الواقع منها علم [ ... ] نزل تأكيدهما؟ قال والجواب: إن التأكيد راجع للخبر لَا للشرط، قلت له: إنما هو في الشرط يقطع، فقال: الشرط والخبر أمر ببطلان ألا ترى أن القائل إذا قال قام زيد فإنما أكرمه يحسن أن يقال له صدقت أو كذبت، والتصديق والتكذيب إنما هو الخبر لا للشرط. قوله تعالى: (فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ). ابن عرفة: وفي هذا عندي اللف والنشر كقوله: (عَلَيْكَ الْبَلَاغُ) يرجع لقوله: (نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ) لأنه أنزل العذاب بهم في حياتهم قد يظن هو أن عليه في ذلك [ ... ] ما لعدم إيمانهم فقبل له أن رأيتهم نزل بهم عذاب فلا يتوهم إن عليك في ذلك شيئا لأنك إنما عليك البلاغ وقد بلغت وقوله: (وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ) يرجع لقوله: (أَوْ نَتَوَفَّيَنكَ) لأنهم إذا عذبوا بعد وفاته أنفى التوهم المتقدم، وقيل له: علينا حسابهم. قوله تعالى: {مِنْ أَطْرَافِهَا ... (41)} ابن عطية: أي من خيارها وهو عكس ما قال الزمخشري في (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا) قال أي خيارا.

(42)

قوله تعالى: (وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ). سرعة حسابه إما باعتبار قرب أوانه، أو قصر زمانه وقلة [مكثه*]. قال ابن عطية: في سورة آل عمران عن مجاهد يحتمل أن يراد بسرعة الحساب أن الله تعالى [بإحاطته*] بكل شيء [علمًا*] لا يحتاج إلى [إلى عد ولا فكرة*]. قوله تعالى: {وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ... (42)} قلت: (مِنْ) لابتداء الغاية فيقتضى أول أزمنة القبلية وقد يضرب الماضي من زمن الحال فكيف صح الجمع منهما؟ فقال: المراد أول أزمنة هذا المكر المقرب وهو الزمن القريب من وقتك. قوله تعالى: (فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعًا يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ). ابن عرفة: وذلك إن الفاعل له صفتان القدرة على الفعل والعلم بموجبات أسبابه فقوله: (فَلِلَّهِ الْمَكْرُ) راجع لوصف القدرة وقوله: (يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ) راجع للعلم. قوله تعالى: {وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا ... (43)} هذا تصريح بقبح مقالتهم لمخالفة فيها الأمر الضروري لأنهم كذبوا به بعد ظهور المعجزات والخوارق المعلوم صدق من ظهرت على يديه بالضرورة وتقدم في أصول الدين أول الواجبات النظر فمذهب أهل السنة أنه واجب بالشرع، وقالت المعتزلة: النظر واجب بالعقل قالوا ولو كان واجبا بالشرع للزم عليه إقحام الرسول لأنه يقول له ما نظر في معجزتك حتى يجب ذلك على ولا يجب على إلا بقولك وأنا لَا أصدقك، وأجاب أهل السنة عن ذلك بجوابين، الأول: أن المعجزات والخوارق من الأمر الغريب والنفس مجبولة على النظر في خوارق الأمور، الجواب الثاني: أن النظر إن قلنا بتكليف ما لَا يطاق فنقول إنه واجب ولا يلزم ما ذكروه، وإذا لم يقل بذلك، فنقول: إنه متوقف على تمكن العلم بنبوة الرسل لَا على حصول العلم بنبوته ويقول له أنت تمكن من العلم بنبوته فانظر النظر الذي يوصلك إلى ذلك الفعل العلم، ابن عرفة: فإن قلت: مقالتهم ماضية علم قال ويقوِل (الَّذِينَ كَفَرُوا) فالجواب من ثلاثة أوجه، الأول: أتى به مستقبلا للتعجب كقوله (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً) ولم يقل فأصبحت، الثاني: للتصوير كأنها لم نزل واقعة مشاهدة، الثالث: ليتناول اللفظ من قالها ومن سيقول مثلها في المستقبل قوله لست مرسلا قط الأخص حسبما ذكره الزمخشري وغيره،

فالجواب: أن نفي الأخص هنا يستلزم نفي الأعم لأنه قال لهم (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا) فكذبوه في هذه المقالة فإذا كذبوه فيها فهم لم يصدقوه في نبوته لأن النبي لَا يكذب. قوله تعالى: (قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ). هذا من كمال الاتصاف مثل (إِنَّا أَوْ إِيَّاكُم لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) فمعنى الآية الله شهيد علي وعليكم فيعلم المحق من المبطل فيجازي كلا بفعله، وقوله (شَهِيدًا) من باب المبالغة، والمبالغة فيه إما [ ... ] متعلقة شهادته؛ لأنها عامة في كل أحد. قال تعالى: (يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ) والمبالغة في نفس الشهادة باعتبار استيفاء وجوهها وجميع شرائطها حتى لَا يشذ عنه من حال المشهود عليه في نفس الشهادة هي، قوله تعالى: (شَهِيدًا) يعم الدنيا والآخرة فالدنيا باعتبار ظهور المعجزات على يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي تنزل منزلة قوله صدق عبدي فصار كالشهادة لأحد الخصمين بالصدق في دعواه باعتبار آي القرآن. قال تعالى: (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ) وأما الآخرة فباعتبار مجازاته إياهم وعقابهم على تكذيبهم قوله: (وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ) المصدر مضاف للمفعول أي ومن يعلم الكتاب والمراد بمن عنده إما الصحابة والكتاب القرآن أو الله تعالى واللوح المحفوظ، وقيل: المراد بها من أسلم من اليهود والنصارى كعبد الله بن سلام، والكتاب التوراة والإنجيل، قال ابن الخطيب: هذه السورة مكية وعبد الله بن سلام إنما أسلم بعد ذلك فكيف يقال إنه هو المراد بقوله: (وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ) لأنه لَا يشهد حينئذ أو هو كافر، أجاب: باحتمال أن تكون هذه الآية خاصة منها مدنية وبالله تعالى التوفيق. * * *

(1)

سُورَةُ إِبْرَاهِيمَ - عَلَيهِ السَّلَامُ - قال الزمخشري: وهي إحدى وخمسون آية، وقال الغزنوي: هي اثنان وخمسون آية. قال تعالى: (الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ ... (1) .. الإنزال انتقال من فوق إلى أسفل، فإِن راعيت [المبدأ*] عدى بعلى لاقتضائها العلم [**ولذوات منها وعدى على بإلى]. وقوله: (لِتُخْرِجَ النَّاسَ) فقيل لابن عرفة: هذا يدل على أن أفعال الله [ ... ] عليه وسلم "كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه" والجواب: إنه عام مخصوص بهذا الحديث فيتناول من في زمانه ومن بلغ كافرا ممن أتى بعده لو يقال إن النَّاس كلهم كانوا في الظلمات بالفعلِ والكفار كانوا في النور باعتبار القائلين والإمكان ولذلك قال: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوَّليَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ) قوله تعالى: (بِإِذْنِ رَبِّهِمْ) الزمخشري: أي تسهيله، ابن عرفة: هذا على قاعدة لأنه يقول أفعال العباد ليست مقدرة لله تعالى وإنما الله تعالى ييسرها ويسهلها عليه وتفسيرها أن يأمر ملك رجلين متفرقين أن يبلغا كتابين له إلى بلد كذا ويخبر أحدهما بالطريق القريبة ويأذن له في سلوكها ويترك الآخر فإنه سهل الأول الطريق فقط، ولم يمش الرسول فيها إلا بقدرة نفسه وقوته ولا بقدرة الملك فكذلك تقول المعتزلة، وقال ابن عطية قوله: (بِإِذْنِ رَبِّهِمْ) أي بعلمه واقتضائه وتوفيقه، قال ابن عرفة: هذه نزعة اعتزالية ولولا قولَه واقتضائه لكان صريحا في مذهب المعتزلة؛ لأنهم يقولون إن العبد [يستقل*] بأفعاله ويخلقها، وأن الله تعالى لم يخلق الشر ولا أراده، فهذه العبارة إن كان أتبع فيها [ ... ] فيحمل على أنه أراد بالاقتضاء الإرادة للحسن، لَا مطلق الإرادة، وإن كانت هذه العبارة من عند نفسه، فيحمل على الإطلاق لكن يقال له المواضع التي خالفونا فيها لا ينبغي لك أن تأتي فيها بالمحتملات، فالصواب أن معنى قوله (بِإِذْنِ رَبِّهِمْ) أي بقدرته وخلقه واختراعه وإنه خلق الهداية والضلال، وأراد بها تعالى أن [تكون*] في [**ملكه لَا يرثه].

(2)

قوله تعالى: (إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ). وصف العزة مناسب لإخراج النَّاس من الظلمات إلى النور، والعزيز هو الذي لا يمانع، والحميد هو الذي يحمد على أفعاله ومن جملته بعثه الرسل ففيه دليل على أن بعثه الرسل غير واجبة خلافا للمعتزلة فالآية تدل على أنها محض تفضل من الله لنا فلذلك يحمد. قوله تعالى: {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ... (2)} فقد رد على المعتزلة لأن من [جملة*] ما فيها أفعال العباد واختلفوا هل المعتزلة كفار لأجل مقالتهم لأنهم نفوا الصفات وإنما هم فساق وعصاة، واختار عز الدين في قواعده عدم بكفرهم، قال: لأنهم إنما قصدوا التبرئة وكيف يكفرون بلازم مذهبهم، وهم قد نصوا على نفي ذلك اللازم، وقالوا: لَا نقول له وكذلك اختار عدم تكفيرهم من قال بالجهة والتجسيم ونظيره لو أمر الملك رجلا ونهى آخر فامتثلا، قوله، وقال أحدهما ملكا أزرق العينين، وقال آخر: بل هو أكحل، وما مقصد كل أحد منهما إلا أن يصفه بالوصف الأكمل إلا بلغ لكن أحدهما يعتقد أن الزرقة أحسن وأبلغ والآخر يقول بل الكحولة أبلغ وأحسن فإن كلاهما معا مصيب وكذلك هو لَا يقطع لكفرهم، قال الشيخ عز الدين: وكان بعضهم يورد مثل هذا على أهل السنة فإنهم اختلفوا هل هو باق ببقاء وقديم بقدم أو بغير بقاء ولا عدم في قديم لذاته وباق لذاته قال فيلزم هؤلاء ما ألزموا المعتزلة، وأجاب بعضهم: بأن المعتزلة نفوا مطلق الصفة من أصل وأهل السنة إنما نفوا بعض الصفة وأثبتوا بعضها. قوله تعالى: (وَوَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ). الزمخشري الويل [نقيض الوأل*] إلا أنه لَا يشتق منه فعل، إنما يقال ويلا له، ابن عرفة: يعني بقوله لَا يشتق منه أي من الويل وأما الوال فيشتق منه، قال أبو العباس المبرد في الكامل إن [عيَّاشا*] الكندي من كبار الشجعان [بئيسا فأبلى يومئذ ثم مات على فراشه بعد ذلك، فقال المهلب: لا وألت نفسي الجبان بعد عياش*] (¬1). قوله تعالى: {فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ ... (4)} دليل على أن واضع اللغة ليس هو الله تعالى بل العرف حصول العلم عقيب النظر عادي وليس بعقلي إذ لو كان عقل للزم البيان والهداية، قال: ويحتمل أن يقال لَا يلزم ذلك لأن المخاطب قد لَا ينظر النظر الموصل للعلم. ¬

_ (¬1) في الأصل المطبوع سقطان واضطراب، والتصويب من (الكامل للمبرد. 2/ 294).

(5)

قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ... (5)} ابن عرفة: ذكروا في أن وجهين هل هي ناصبة أم مفسرة، وقال بعض الطلبة أكثر النحويين يمنعون وصل أن بالجملة الغير الخبرية، وذكر ابن العطا في شرح الجزولية: جواز ذلك وأنشد عليه بتاء قال: فالظاهر أنها هنا تفسيرية. قوله تعالى: (وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ). ابن عرفة: التذكير بذلك سبب في إخراجهم من الظلمات إلى النور فلم أخره عنه، وأجاب: بأن التذكير هو الموعظة، قال والدعاء على الإسلام متقدم عليها والموعظة إنما تكون بعد ذلك لأنه يريهم المعجزات ابتداءً فإذا آمنوا وعظهم ليدوموا على إيمانهم ابن عرفة: وهنا سؤال وهو هلا قال أخرج قومك من الظلمات إلى النور بإذن الله كما قال أولا (لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ) وعادتهم يجيبون: بأن الأول خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم وشريعته من أسهل الشرائع فناسب فيها ذكر الإذن ليفيد معنى السهولة واللين المأذون فيهما وهذه الآية الثانية خطاب لموسى وقد كانت شريعته صعبة ألا ترى إلى قوله (فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُم) قلت له: أو يجاب بأن اخرج فعل أمر فهو بنفسه دليل على الآن فلم يحتج إلى ذكره معه بخلاف قوله ليخرج النَّاس فإِنه جملة خبرية لَا تدل على الإذن فلذلك قيدت به. قوله تعالى: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ). المراد بهما الآيات النافعة بدليل قوله: (لِكُلِّ صَبَّارِ شَكُورٍ) مع أنه آية للصابر الشاكر لكن إنما هو آية نافعة للصبار والشكور لَا لمن اتصف بمطلق صبر ومطلق شكر، ابن عرفة: وليس المراد من جميع الوصفين بل من اتصف بأحدهما وإنما لم يعطفهما بالواو إشارة إلى التهييج والإلهاب على الإنصاف بهما معا. قوله تعالى: {اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ ... (6)} قال: لم أفرد النعمة؟ فأجيب بوجهين: الأول: قلت إما لأنه فسرها بشيء واحد وهو الإنجاء من آل فرعون فهي نعمة واحدة، الثاني قال ابن عرفة: عادتهم يجيبون بأنه إنما أفردا لأن الإنسان لَا يستطيع الشكر على كل النعم بل على البعض فقط فأفردها تحقيقا على المكلف في الشكر على النعم وإن كثرت إذ لَا يقدر على القيام بواجب الشكر على جميعها وإن [أفرغ وسعه*]، قال والعامل في (إذ) (نِعْمَةَ) لأنه [مصدر مجرد بالياء] [ظرف للنعمة بمعنى الإنعام*] (¬1) ¬

_ (¬1) في الأصل المطبوع هكذا [مصدر مجرد بالياء]. والتصويب من الزمخشري. (2/ 540).

ولا يصح أن يعمل فيها إذا ذكروا لأنه مستقبل [وإذ*] ظرف زماني لما مضى وقت الذكر ليس هو وقت الإنجاء. قوله تعالى: (يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ). ابن عرفة: إن قلت عطف (يُذَبِّحُونَ) على (يَسُومُونَكُمْ) مشكل لأن العطف يقتضي المغايرة فإن كان السوم هو الذبح لزم عطف الشيء على نفسه والعطف يقتضي المغايرة كما سبق وإن كان غيره لزم تفسير [الشيء*] بغيره، والجواب: أنه غيره لكنه أعم منه فالسوم هو أوائل العذاب ومقدماته والذبح أخص منه، فإن قلت: هلا قال (وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ) كما قال (وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ) فالجواب: أن البنات في حال صغرهن لَا مؤنة لهن ولا مشقة وإنَّمَا يلحق أباءهن المؤنة والمشقة إذا كبرن وصرن نساء، فإن قلت: لم عطف الفعل هنا ولم يعطفه في البقرة؟ قال عادتهم يجيبون: بأن [النعمة*] في آية البقرة وقعت من الله تعالى لأنه قال (إِذْ أَنْجَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ) [فأسند*] الفعل إلى [نفسه*] [ولأن*] كل الأشياء عنده حقيرة؛ فلهذا أتى بالجملة الثانية غير معطوفة لتكون مفسرة للأول [كأنهما] شيء واحد؛ [لأن من يستعظم الأشياء الحقيرة*] لا قدرة له، فالمائة دينار لَا قدر لها عند الغني، وهي عند الفقير مال معتبر، والآية في هذه السورة [والمذكور*] فيها من موسى عليه السلام لأن [أولها*] [وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا*] فهذه صدرت من موسى لقومه فناسب فيها المبالغة في العطف بالواو، والتي تقتضي المغايرة والبيان لكثير أسباب المن، وأجاب صاحب درة التنزيل بأن آية إبراهيم وقعت في خبر عطف خبر آخر قبله وهو قوله: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا) و (إذ قال موسى) فتضمن الأول إخبار عن إرسال موسى بالآيات، والثاني: تنبيهه لقوله على [نعمة*] الله فتقوى معنى العطف في (يُذَبِّحُونَ) لأنه وما عطف عليه [**وأخلى] جملة معطوفة علي غيرها فالمقام مقام الفضل بخلاف آية البقرة فإنه أخبر بخبر واحد، وهو إخباره عن نفسه بإنجائه بني إسرائيل فلذلك عطف (1)، قلت: يريد والجمل المتقدمة في سورة البقرة إنما هي طلبه وهي قوله: (اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (47) وَاتَّقُوا يَوْمًا) والمشاكلة تقتضي أن الإخبار يجري مجرى واحد في الوصل والعقل بخلاف أخبرو الطلب فإنه لَا يعامل أحدهما معاملة الآخر ألا ترى المشهور عند النحويين أنه لَا يجوز عطف الجملة الخبرية على الطلبية ولا العكس حسبما نبه عليه أبو الربيع في شرح الإيضاح هذا الذي تلخص لي من كلام درة التنزيل على طوله. قوله تعالى: (وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ).

(7)

فلم يقل: بناتكم وهو كان يكون أولا كقوله: (وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ) ولم يقل: رجالكم قال وعادتهم يجيبون بأن ذلك إشارة إلى الوصف الذي لأجله أحيوا البنات وهو بقاؤهن حتى يكبرن فيحتقروهن ويذلوهن [ ... ]. قوله تعالى: {تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ ... (7)} ونظيره [توعد وأوعد*] وتفضل وأفضل. ولابد في تفعَّل*] من زيادة معنى ليس في [أفعل*] كأنه قيل (وإذ آذن ربكم*) إيذانا بليغا [تنتفي عنده*] لشكوك، ابن عرفة: أراد الزمخشري أن تفعل ما يقتضي تكلف الفعل بمشقة، ويصير النظر غير متعد كقولك في أكرم وتكرم [وأوعد وتوعد*]. ابن عطية: إنها مثلها في عدم تكلف الفعل والمشقة. حمله الزمخشري: والله أعلم على أن التضعيف للتأكيد والمبالغة في الإذن. قوله (رَبُّكُمْ) لأي شيء أضاف الرب للمخاطب، والأصل إضافته إلى المتكلم، فيقال: ربنا [فأجاب*] بأنه لما طلب منهم الشكر [**أنابهم فأوجد موجباته وهو اللفظ الدال على التراخي والتخافي] وأضافه إليهم ليكون آكد في الشكر وإمَّا هو فشكره حاصل ومعرفته بذلك مستقرة ثابتة. قوله تعالى: {وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ ... (9)} ابن عرفة: كيف جزموا أولا بالكفر ثم قالوا: (إِنَّا لَفِي شَكٍّ) أو يجاب: باحتمال أن يريدوا بالأول قسم التوحيد، وبالثاني قسم الشرائع والأحكام أو باحتمال العكس أو يراد إنما كفروا بما أرسلتم به من حيث الجملة وإننا لفي شك من الرسل بدليل قوله [أَفِي اللَّهِ شَكٌّ*] فهم شكوا في الله وكفروا بما جاءت به الرسل من هذه ونقل بعض الطلبة عن الأصبهاني شارح المحصول أنه قال الفرق بين الترديد في الحكم بالترديد وبين الحكم، فقال له ابن عرفة: إنما ذلك في أو فقط، فإن قلت: لم قال في سورة هود: (قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ) وقال هنا (وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ)، قلنا: أما أفراد ضمير تدعونا هناك فلأنه خطاب لصالحٍ وحده وأمَّا جمع ضمير تدعوننا هنا فلأنه خطاب من جماعة من النَّاس بجماعة الرسل وأما حذف الضمير المنصوب بأن هنا وإثباته في هود، فقال صاحب درة التنزِيل: إنما أثبت ضمير النصب في هود لتقدم مثله قبله من النقل مثبتا في قوله (أَتَنْهَانَا أنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا) وحذفه في إبراهيم وحذفه آخرا فقال: (إِنَّا لَفِي شَكٍّ) لتقدير نظيره قبله معبر لآخر الفعل وهو قوله (إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ) وقال أبو جعفر: حذف نون الضمير المنصوب من أن في هود لتكرار

(10)

ما في تدعوننا ولم يحذفها في هود لعدم تكرارها في تدعونا لأنه خطاب لصالح وحده فهو ضمير. قوله تعالى: {قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ ... (10)} ابن عرفة: أضاف الرسل إليهم ولم يقل رسلنا على إن الرسل منهم بحيث يعلمون حالهم وأنهم لم يعبدوا منهم كذبا ولا علم أنهم خالطوا نحوه فدل ذلك على أن حاجاتهم به حق. قال الفخر: في [المحصول*] مذهب أهل السنة لأن الرسل ليس في خلقهم وبينهم زيادة علينا ولا خاصية ذاتية خلقوا بها عنا وما وجد منهم من القوة على الوحي أو غير ذلك فأمور عرضية كالشجاعة للبطل ومذهب الفلاسفة أن بنيتهم مخالفة لنا ولا بد لهم من خاصية ذاتية اختصوا بها هنا. قوله تعالى: (أَفِي اللَّهِ شَكٌّ). أي في ألوهية الله شك، وقال الفارسي: أفي وحدانية الله شك، ابن عطية: هذا علة مذهب المعتزلة في إنكار الصفات لأن إنكار الألوهية يستلزم إنكار الصفة فرد عليه بأنه لم يخالف أحد من المسلمين في أن إثبات الآلوهية لله تعالى بخلاف العلم ونحن فإنهم يقولون عالم لَا يعلم، قالوا: وإنما قدره الفارسي هكذا لأن أول ما يجعل الرسل علمهم على اعتقاد وحدانية الله بخلاف الألوهية إذ لم يخالف فيها أحد، قلت: قد خالف فيها المجوس الذين عبدوا الشمس: (وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ) انتهى، قال ابن عرفة: وكان بعضهم يقول في هذه الآية انظر كلامهم جعلوا أنفسهم مظروفين في الشك والشك ظرفا لهم وكلام الرسل جعلوا الشك مظروفا في أمر الله أو في شأن الله، وجعلوا شأن الله ظرفا له قالوا وهذا [لوجهين*] عقلي ونقلي، أما النقلي فلأن الظرف أوسع من المظروف قال محيط بالكفار في جميع الجهات وهم مفتقرون إِليه إذا المتحيز مفتقرا إلى الخير والحال مفتقر إلى المحل لابد له منه وقول الرسل (أفِي اللَّهِ شَكٌّ) جعلوا الشك متحيرا حالا في أمر الله وأمر الله أعلى منه وأكبر وهو خير له فهو إشارة إلى تعليل الشك، أي لَا يتصور أن يقع في شك في الله بوجه، وإن قل فإِذا أنكروا أن يكون أمر الله خيرا للشك مع قلته فأحرى أن ينكروا كون الشك خيرا له مع كثرته. قوله تعالى: (فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ). إن استدلال أهل أصول الدين على وجود الإله بوجهين، أحدهما: إمكان العالم وأنه جائز الوقوع وكل جائز لابد له من مرجّح يقتضي وقوعه على أحد الجائزين، الثاني: حدوث العالم إذ لابد له من موجدا وجده، قيل له: فالحكماء القائلون بقدم العالم هل على مذهبهم يتم الدليل على وجود الإله بأن العالم ممكن، فقال: نعم

(11)

ويقولون هو ممكن لذاته واجب لغيره. قوله تعالى: (يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ). قال الزمخشري: أي (يَدْعُوكُمْ) إلى الإيمان (لِيَغْفِرَ لَكُم) أو يدعوكم لأجل المغفرة؛ كقولك دعوته لينصرني ودعوته ليأكل معي، ابن عرفة: وجه الفرق [ ... ] والله أعلم أن قوله ليأكل معي دخلت اللام على العلة، وقوله لينصرني جعلت اللام على المدعو له بدليل إنك تعلل الأول فغفر دعوتك لتأكل إكراما لك، قيل له: وكذلك تقول دعوتك لتنصرني ثقة بك أو بشجاعتك، فقال: إنما هذا تعليل للعلة وليس تعليل الفعل المتقدم. قوله تعالى: (مِنْ ذُنُوبِكُمْ). قيل: (مِنْ) للتبعيض أي بعض ذنوبكم، ونقل العز بن أبي الربيع: أنه أشار إلى أن الإسلام يحيط ما قبله كقوله (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ) ورده ابن عرفة: بأنه لَا يلزم صدق الذنوب على الماضي والمستقبل لأن الخطاب للكفار، فيلزم المجاز لأن الآن لم يعلموه فكيف يصدق عليه أنه ذنوب قبل الفعل، ونقل عن ابن عصفور أنه قال: (يَغْفِرَ لَكُمْ) جملة من ذنوبكم، ورده ابن عرفة: بأن الجملة بعض الذنوب فلا حاجة إلى تقديرها ولفظة من الثانية مناب بعض يغني عنها، قلت لابن عرفة: وما المانع من كون (مِنْ) للبداية أعني للابتداء والانتهاء كقولك أخذت المال من الصندوق، فقال لَا يصح، هنا لأن الصندوق غير مأخوذ منه فيلزم هنا أن تكون الذنوب غير مغفوره. قوله تعالى: {قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ ... (11)} وقال: قبله (قالت رسلهم)، فأجيب: بوجوه الأول، قال ابن عرفة: لما كان وجود الله تعالى أمرا نظريا ليس بضروري وكون الرسل مبعثهم أمرا ضروريا لَا يحتاج إلى نظر لظهوره فكأنه يقول ما قالوا هذا لأنهم لَا يغريهم لقلتهم وغباوتهم وجهلهم كما أن القائل السماء فوقنا والأرض تحتنا ما يخاطب به إلا من هو في غاية الجهل والغباوة، الجواب الثاني: قلت إما أن قوله (أَفِي اللَّهِ شَكٌّ) [خطاب لمن عاند فيه*] وهو كالمعاند في الأمر الضروري فلذلك أسقط المجرور لأن المجيب عن ذلك يجيب به من حيث الجملة، ولا يقبل بالجواب على المخاطب لغباوته عنده ومعاندته فيجيب وهو معرض عنه بخلاف قولهم (إن نحن إلا بشر مثلكم)؛ لأنه يقرر لمقالتهم ويثبت لها القول لمقالة خصمه يقبل عليه بالجواب لأنه لم يبطل كلامه بالإطلاق بل يقرره ويزيد فيه زيادات تبطل [قول خصمه*]، قلت وأجاب ابن عرفة: عن هذا مرة أخرى بأن قوله [قالت لهم] [مقالة*] خاصة أو هي جواب عن قوله صدر منهم والمقالة الأولى لهم ولغيرهم. قوله تعالى: (وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ). قال هذا راجع لقوله (تريدون أن تصدونا) فمعناه (يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ) بالإيمان

(12)

والخروج [عن عصياته*]. قوله تعالى: {وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا ... (12)} قال بعضهم: لم جمعه وتقرر غيرها مرة أن طريق الهدى واحده حسبما أشار إليه الزمخشري في قوله: (وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ) قال ابن عرفة: ما جواب أنه على التوزيع قال تعالى: (لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا) فلكل رسول طريق باعتبار شريعته وأحكامه. قوله تعالى: (وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا). ابن عطية: (مَا) إما موصولة بمعنى الذي أو مصدرية والعائد محذوف تقديره آذيتموناه أو (آذَيْتُمُونَا) به، قال: ويجوز ذلك عند سيبويه خلافا للأخفش، ابن عرفة: آذى هذه ليست من الأفعال المتعددة إلى مقبول تارة ينفع وتارة بحرف الجر إلى أحدهما، وقال بعض الطلبة إنما مراده أنه لَا يجوز حذف الضمير العائد إلا إذا دخل على الموصول حرف مثل حرف الجر الداخل على الضمير وهنا اختلف الجار. قوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا ... (13)} ليس المراد حقيقة العود لأن الرسل لم يكونوا من ملة قومهم قبل الرسالة، قاله الزمخشري: قيل لابن عرفة: وما المانع من أن الكفار ادعوا على الرسل أنهم كانوا قبل البعثة على ملتهم وافتروا عليهم ذلك؟ فقال: يمنع سنة أن هذا أمر مشاهد حسي وليس بعقلي، وقالوا: في أصول الفقه أن عدو التواتر يقع في الأمر الحسي بخلاف العقلي فلو أخبر عشرون ألفا [بقدم العالم*] لما قبل قولهم بخلاف قالوا خبر جماعة بقدوم زيد فإما تقبل قولهم لأنه لَا يمكن اجتماعهم كلهم على الكذب فيه وأما الأول فالعقل يكذبهم قيل له: لعل المراد به على التوزيع بمعنى أن تلك المقالة قالها لكل واحد اثنان من أشراف قومه، فقال هذا بعيد، قال ابن عرفة: أو يكون العود على حقيقته لاحتمال كون الرسل لم يظهروا لهم قبل البعثة أنهم مخالفون لدينهم فلما بعثوا إليهم أظهروا المخالفة، قلت لابن عرفة: أخرجهم آباؤهم من أرضهم عقوبة لَا نسبة عن عدم العود فهلا قالوا ليعودن في ملتنِا أو لنخرجنكم من أرضنا، فقال المقام مقام التخويف فلذلك بدءوا بالإخراج قوله (أوْ لَتَعُودُنَّ) قال ابن عطية: أو بمعنى إلا أن ونقل عن ابن هشام شارح الإيضاح إن أو لا تكون بمعنى إلا إذا لم تدخل على الفعل. قوله تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ ... (18)} ابن عطية: المثل بمعنى الصفة، ابن عرفة: ليس مطلقا بل التي فيها غرابة ولذلك جعلوا الأمر المودع قصرا منه مثلا قوله (كَفَرُوا بِرَبِّهِم) ذكر الرب تستنتج لهم، أي كفروا بمن أنعم عليهِم ورحمهم. قوله تعالى: (أعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ).

(19)

تشبيها بالرماد لوجهين، أحدها: خفيه وسرعة حرقه بالريح، والثانية: أنه لَا يثبت شيئا بخلاف التراب وجمع الرياح لتفيد شدة التفريق من جميع الجهات قوله (في يوم عاصف) من إضافة الصفة إلى الموصوف وأجازه الكوفيون وابن عرفة هل هو من إضافة الملابسة لأن العاصف الريح الهاب في اليوم لَا من صفة اليوم فأصله في يوم ريح عاصف فحذف الموصوف وأقيمت صفة مقامه فأعربت بإعرابه وهذا جائز عند الجميع، قوله: ذلك هو الضلال البعيد الإشارة إما لعملهم أو إلى الخيبة التي تنالهم. قوله تعالى: (لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ). يسمى التدليل لأن الجملة الثانية كمعنى الأولى. قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ ... (19)} قرأ حمزة (خالق). ابن عرفة: وهذه أبلغ لاسيما على مذهبنا في أن العرض لَا يبقى زمانين فهو في كل زمان خالق لهما بأعراض آخر قوله تعالى: (بِالْحقِّ) الزمخشري بالحكمة والفرض الصحيح ولا يخلقهما عبثا ولا شهوة، ابن عرفة: هذا على مذهبه في أن أفعال الله معللة ومذهبنا نحن إنها غير معللة. قال: ويحتمل قوله بالحق على مذهبنا وجهين أحدهما أن خلقه واختراعه لها حق ولا شك فيه، والثاني: أن المراد بذلك كونها مستعملة على الحق وهو الشرائع التي جاءت بها الرسل لأنها كائنة فيها. قوله تعالى: (إِنَّ يَشَأْ يُذْهِبْكُم). فيه الحذف من الأول لدلالة الثاني أي إن شاء إذهابكم والإتيان بغيركم يذهبكم ويأت بخلق جديد وفيه دليل على أن [العدم*] الإضافي مقدور لله تعالى لأنه مراد وكل مراد مقدور وهو مذهب أكثر أهل السنة، وقال القاضي أبو بكر الباقلاني: إنه غير مقدور أما العدم المطلق فلا خلاف أنه غير مقدوم. قوله تعالى: {وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (20)} الزمخشري: أي بمتعذر، ابن عرفة: إنما معناه ينحصر أعني ليس بصعب لأن ما قال الزمخشري: [يحتمل*] فيه التكرار؛ لأن قوله (إِنْ يَشَأْ يُذْهِبكُمْ) أفاد أنه ممكن فإِذا كان ممكنا [فهو غير متعذر*]. قوله تعالى: {وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا ... (21)} (فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا) هكِذا في سورة غافر وقال في سورة سبأ (يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ) فعبر عن الضعف بالاسم وفي سبأ بالفعل، قال وأجيب: بأن الاسم يقتضي الثبوت وكلما ثبت للأخص ثبت للأعم فإذا كان مطلق الاستنكار يمنع من إيمان من اتصف بأخص الضعف فأحرى إن يمنع من الإيمان من اتصف بأعمه، وأما في السورة سبأ المراد فيها تبعية من اتصف بمطلق الضعف لمن اتصف بمطلق الضعف فأحرى أن لَا ينفع لمن اتصف بأخص ولا ينعكس.

(23)

قوله تعالى: (فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا). ابن عرفة: هل استفهام حقيقة، وقيل: على سبيل الإنكار قوله [مِنْ شَيْءٍ*] أعربه أبو حيان بدلا من قوله (من عذاب الله) ورده المختص بأنه بدل الأعم من الأخص، ابن عرفة: عادتهم يجيبون بأنه في باب النفي لأن الاستفهام بمعنى الإنكار ونفي الأعم أخص من نفي الأخص وبصحة ورود ذلك قال امرؤ القيس: كأنِّي غَداةَ البَينِ يَومَ تَحَمَّلُوا ... لدَى سَمُراتِ الحَيِّ ناقِفُ حَنظَلِ قوله تعالى: (لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ) ابن عرفة: هذه حيده من الجواب والجواب الحقيقي أن يقولوا لهم كما يقدر على ذا ولا يغني عنكم شيئا. قوله تعالى: {وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ ... تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ (23)} هذا إما على التوزيع فلكل واحد جنة أو لكل واحد جنات، وقوله (مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ) التمدح بالباء بكونه أصل كل شيء، قال [أبو العباس في الكامل: أن بعض ملوك الروم كان يعمد لمعاوية ويهادية معاوية فطلب مرة من معاوية أن يبعث له بأصل كل شيء فاستشار معاوية خواصه فأشار إليه عبد الله بن عباس بأن يبعث له قارورة بالماء فلما بعثها إليه قال الرومي ما أشار عليه بهذا الأمن] فيه عضو من أعضاء النبوة قوله (خَالِدِينَ فِيهَا) حال من الذين آمنوا مقدرة لأن الدخول غير مقارن لزمن الخلود، قلت: أو حال من جنات لأنها موصوفة، فقال: صفة جرت على غير من بني له فكان يقال خالدين هم فيها، قلت: ضمير فيها يغني عنه، فقال: إنما يجب إبراز ضمير من شيء له فقلت: هو مثل مررت برجل حائض السبت فقال الألف واللام هناك نائب مناب الضمير. قوله تعالى: (بِإِذْنِ رَبِّهِمْ). ابن عطية: بقضائه، ابن عرفة بل يفضل ربهم لَا جزائهم على عملهم إنما هو مجرد دخول الجنة وإما الخلود فهو محض تفضل من الله. قوله تعالى: (تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ). ابن عطية: يحتمل أن يريد التحية بمعنى أن الملائكة يحيونهم فيها بالسلام ويحتمل أن يريد أن بعضهم يحيي بعضا بالسلام، ورده ابن عرفة: بأن التلمساني لما استدل على أن أقل الجمع اثنين كقوله تعالى: (وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ) بمعنى داود وسليمان، قال فإن قلت: لعل المراد داود وسليمان والمحكوم لهم، فإن قلت: يلزم عليه أن يكون الضمير في موضع رفع وموضع نصب وذلك غير جائز، ابن عرفة: فكذلك يلزم ابن عطية: هنا لأنه مقتضى كلامه أن المراد المحي والمحيا. قوله: (سَلامٌ) ابن عطية: هو مبتدأ وخبره عليكم، ابن عرفة: انظر هل يصح أن تكون تحيتهم مبتدأ وسلام الخبر، قال إن قلنا: إن المراد اللفظ فيكون خبرا، وإن

(24)

قلنا: المراد المعنى فلا يصح كونه خبرا، قوله: (أَلَمْ تَرَ ... كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (24) .. قالا التقيد يقتضي وقوع ذلك وضرب المثل لم يقع، فأجاب: بأنه المعنى من حيث الجملة، قوله تعالى: (كَلِمَةً طَيِّبَةً) إما أن المراد نفس كلمة التوحيد. قوله تعالى: (أَصلُهَا ثَابِتٌ). الزمخشري: وترى ثابت أصلها والقراءة المشهورة أبلغ ابن عرفة: ثابت أصلها صفة رفعت الفاعل فهي في معنى الفعل وأصلها ثابت مبتدأ وخبر فليس في معنى الفعل والإخبار بالاسم عندهم أبلغ من الإخبار بالفعل فلذلك كان زيد أبي قائم أبلغ من زيد قام وأبوه، وقال بعض الطلبة: يحتمل أن يريد أن ثابتا في قوله (أصلُهَا ثَابتٌ) خبر فهو عمده لأنه من باب الحكم الإسنادي أبلغ من الحكم التقييدي، ورده ابن عرفة: على الزمخشري بأن ابن عصفور ذكر في باب الصفة المشبهة باسم الفاعل أن مررت برجل حسن وجهه أبلغ من مررت برجل وجهه حسن قال لأن الأول جعلت أحسن فيه صفة للرجل وكله بخلاف الثاني، قلت: لأن لَا يصح هنا لأنك تجوز هناك أن تقول مررت برجِل حسن وتسكت ولا يصح هنا أن تقول: (كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ) ثابت حتى يقول: (أصلُهَا) ولأن: (ثَابت) مذكر فلا يصح وصف الشجرة به إلا أن يقال إنه يصح جرها عليه من حيث أن تأنيثها غير حقيقي والمذكر يوصف به والمؤنث الغير الحقيقي، قال تعالى: (السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بهِ) فيقول علامة الثأنيث في الشجرة هنا يمنع من ذلك وقال بعض الطلبة ولأن الثبوت إنما هو من صفة أهملت لَا من صفتها بخلاف الحسن هناك. قوله تعالى: {كُلَّ حِينٍ ... (25)} قيل: (حِينٍ) ستة أشهر، وقيل: شهران لأن مدة إطعام الثمار شهران، وإما السنة فما بين الإثمار والإثمار. قوله تعالى: {وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ ... كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ (26)} عبر هنا بالاسم فرفع، وقالَ في المؤمن: (ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا) فعبر بالفعل ونصب المثل، قلت: لأن المؤمن له حالتان لأنه انتقل من الكفر إلى الإيمان والكافر له حالة واحدة ثبت عليها ولم ينتقل عنها فلذلك عبر عن مثله بالاسم. قوله تعالى: (كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ). قيل: إنها الثوم، وقيل: إنها الحنظل وشجرة كشجرة الدلاف والقتّ لأنه ليس له ساق، قيل لابن عرفة: الثوم فيه منافع جمة فكيف يسميه به الكافر والكافر لَا مصلحة فيه بوجه، فقال: الغالب إنه إنما يشبه به من حيث أنه لَا يثبت أو ليست له ساق فالنسبة في أن العمل الخبيث يضمحل ويذهب يوم القيامة ولا يبقى إلا العمل الصالح. قوله تعالى: {وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً ... (32)} قيل المراد السماء المشاهدة [القريبة*]، وقيل المراد معناها وهو العلو سماء

(33)

والسحاب سماء العلو وهذا جار على الخلاف في المياه هل هي كلها من السماء، وأنها تنزل منها وتكون سحابا تهبط به الماء وهي من البحار وأنه بخار لطيف يصعد عنه السحاب أو السحاب خلقه الله من غير ماء ولا بخار في ذلك ثلاثة أقوال نقلها ابن رشد في البيان والتحصيل: في كتاب السداد والأنهار واختار القول بالوقف. قوله تعالى: (فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ). ابن عرفة: ما الحكمة في إخراج النبات بهذا الماء مع أن القدرة صالحة لإخراجها بغير شيء، قال: وتقدم لنا الجواب بأنه تكثير لمتعلقات القدرة. قوله تعالى: (وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ). هذا مثل (وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بجَنَاحَيهِ) لَا جريها ليس إِلَّا في البحر وجريها في البحر لَا يقعَ إلا بإذن الله تعالى، إن قلت: ما أفاد قوله: (بِأمْرِهِ) فالجواب: إن جريها لما كان له أسباب في محاولة البحرين والخدمة فقد يتوهم أن جريها بسبب ذلك فاحترس منه بقوله (بأمْرِهِ) وبهذا تعمّ الحكمة في إدخال اللام في قوله في الواقعة (لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظلْتُمْ تَفَكَّهُونَ) دون إدخالها في قوله (لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا) لأن الأول فيه لبني آدم تسبب ومحاولة فقد يتوهم أن ذلك من فعلهم بخلاف الماء فإنهم لَا تسبب لهم في كونه حلوا. قوله تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ ... (33)} دليل على أنها شمس واحدة وقمر واحد. قوله تعالى: {وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ ... (34)} (مِنْ) للتبعيض و (كُلّ) للعموم ومتعلقهما مختلف فالعموم في الأنواع والتبعيض في الأشخاص تلك الأنواع أي وآتاكم بعض كل نوع سألتموه. قوله تعالى: (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا). أقروا النعمة من باب التنبيه بالأدنى على الأعلى بمعني أن الإنسان أيضا جزئيتان النعمة الواحدة فأحرى ما هو أكثر، قال: و (نعمة) مصدر محدد بالتاء فليس المراد به الجنس بل هو مفرد حقيقة بدليل أن المصدر المحدود بالتاء [مفرد*] يجوز تثنيته وجمعه بخلاف المبهم، قيل له: قد قال القرافي في أول شرح المحصول إنما لفظة مصدر محدود بالتاء وأنها ليست إلا مفردة فرد عليه الأصبهاني بأنه قد يراد بها الجنس، فقال ابن عرفة: الصحيح ما قال القرافي: ابن عرفة. وفي الآية سؤال وهو إن الشرط لَا يكون مناقضا للجزاء فلا يقول قام زيد لم يقدر على القيام والعد هو غير الإحصاء، وأجيب: بأن المعنى وإن أردتم أن تعدوا نعمة الله لَا تحصوها مثل (فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ). قوله تعالى: (إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ).

(35)

ابن عرفة تارة يراد [بالإنسان*] الجنس العام الباقي على عمومة فيحتاج إلى الاستثناء منه كقوله تعالى: (وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا)، وتارة يراد به الخصوص كهذه الآية وقوله (لَظَلُومٌ كَفَّارٌ) المراد ظلم المعصية وكفار أي جاحد نعم ربه، قيل لابن عرفة: لو أراد بالمفرد المحلى بالألف واللام العموم لجاز أكرمت الرجل، الفضلاء وأجمعوا على منعه، فقال: إنما منعوه رعيا للمشاركة اللفظية. قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا ... (35)} وقال في البقرة: (اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا) أن آية البقرة مدنية وهذه مكية والقاعدة عنده أن اسم [ ... ]. قلنا إن المنزل أولا هو المدعو به أولا مع أنه لَا يلزم هذا فقد يكون المنزل أولا هو المدعو به ثانيا لأن الاسم إذا تقدم نكرة ثم أعيد فإنه يعاد معرفا مثل (كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا (15) فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ) ابن عرفة: وعادتهم يوردون هنا سؤالا وهو أن القاعدة أن يكون المبتدأ معلوما وخبره مجهولا، والبلد في قوله: (اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا) أصله قبل دخول الفعل عليه مبتدأ لأنه نعت لهذا ونعت المبتدأ مبتدأ وأما خبره وفي قوله: (اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا) هو مبتدأ و (بَلَدًا) خبره و (آمِنًا) نعته أو خبرا بعد خبر والقضية واحدة، قال: وأجيب بأن الشيء في نعته ليس كهو مع غيره، فهو معلوم من حيث كونه بلدا مجهولا من حيث كونه بلدا آمنا فالأول: كما نقول اجعل هذا رجلا صالحا دعوت له بالصلاح فقط، والثاني: كقولك اجعل هذا رجلا صالحا مع أنه رجل لكنك دعوت له بالصلاح تحصيل المجموع ورد بأنه يلزم عليه أن يجوز زيد العاقل مخير بزيد العاقل عن زيد مع غيره إما إذا ثبت مجرد لفظه الأول فلا يجوز. قوله تعالى: (وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ). ابن عرفة: هذا دعاء على سبيل إظهار [التذلل*] والخضوع لأنه عبادة الأصنام مستحيلة في حق النبي صلى الله عليه وسلم إذ هو معصوم وقد قالوا: إن المستحيل عقلا لَا يجوز طلبه [كالطيران في الهواء*] وكذلك لَا يجوز للإنسان أن يقول رب اجعلني من غير خبر لأنه محال وكذلك المستحيل شرعا. قوله تعالى: {بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ ... (37)} الزمخشري: نفى القليل والكثير والمراد به ليس فيه بحر ولا نجم ولا ماء، ورده ابن عرفة: بأنه تقدم في الرعد أن قولك زيد ذو مال يفيد الكثرة والمبالغة، قاله عياض فى الإكمال: فيجيء الجواب فيه هنا كالجواب في قوله تعالى: (وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ).

(38)

قوله تعالى: (رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ). أي دعوتك (لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ) أي قوله تعالى: (فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ) أو اجعل ذي أفئدة من النَّاس، ابن عطية: والمجعول لهم ذلك مجهولون لأن الأفئدة نكرة، ابن عرفة: بل لأن من التبعيض والبعض غير معين. قوله تعالى: {رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ ... (38)} ابن عرفة: هذا احتراس لأنها لما تقدمها (رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ) فقد يتوهم أنه أتى بها على جهة الإعلام ولم يقصده في ذلك والإعلام يقتضي الجهالة بالشيء واحترس من ذلك، وقال إني ما أعلمتك إلا بما تعلم لأنك تعلم ما تخفي وما تعلن، ثم قال (وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ) فهذا أيضا احتراس لأنه يظن أن علمه قاصر على إبراهيم وأهله وأخذوا منها أن المعدوم شيء لأنه إن كان شيئا فهو معلوم وأن لم يكن شيئا فخرج عن الآية مع أنها أثبت على سبيل العموم في إحاطة علم الله تعالى لكل معلوم، ابن عرفة: وفيها رد على من يقول إن الله تعالى يعلم الأشياء على الجملة ولا يعلمها على [التفصيل*] لئلا يلزم عليه التفسير وبيانه أن زيدا إذا قام وعلمت بقيامه فقد تغير عليك عن ما كان عليه. قوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ ... (39)} قال ابن أبي الربيع في شرح الإيضاح: (الْحَمْدُ) هو الثناء، والثناء مشتق من التثنية فهو إنما يصدق على حمد مرة بعد أخرى وكذلك هذا [ ... ]. النفي داخل على الفعل المؤكد فنفاه فهو تأكيد للنفي لَا لنفي الفعل المؤكد فهو نفي الأعم لَا نفي الأخص. قوله تعالى: {إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ (42)} (إِنَّمَا) هنا ليسَت للحصر مطلقا بل في شيء خاص لأنه لم يؤخرهم ليعمل لهم قال تعالىَ: (إنَّمَا نُمْلِى لَهُم لِيَزْدَادُوا إِثْمًا). قوله تعالىَ: {وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ (43)} هو المراد هنا به الريح من أفئدتهم كالهواء إشارة إلى ذلك بخلاف عندهم وكذلك زيد مثل الأسد. قوله تعالى: {وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ ... (45)} إن أخذوا منها أن التواتر يفيد العلم لأنه لم يتبين ذلك إلا بالإخبار عن الأمم السالفة. قوله تعالى: {وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ ... (52)} يؤخذ منها أن الوحدانية ثبتت بالسمع وهو أحد القولين عند الأصوليين. * * *

سورة الحجر

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ سُورَةُ الْحِجْرِ مكية قوله تعالى: {ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا ... (3)} ابن عرفة: انظر هل يؤخذ منها أن الزائد على الشبع حرام لأن الآية خرجت مخرج الذم لهم والذم على تحصيل القوت ليس يحسن قال: ويجاب بأن الذم على المجموع وهو أكل القوت والتمتع واللهو. قوله تعالى: {بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ (15)} لا يستقل الكلام فالجواب: أنه أفاد الإخبار بكمال عبادتهم وأنهم جماعة كثيرون وتعدد الأشخاص مظنة التفطن والتفهم ومع هذا فكلهم يتعامون وتعمهم الضلالة ولا يصدق إلى الإيمان به بوجه. قوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ ... (26)} قال بعضهم: هذا دليل على إبطال القول بحوادث لَا أول لها وهل هذا كقولك هذا [شراب من عسل من نحل*]، أو كقولك هذا من سكر من قصب، أو كقولك هذا عسل من تمر بمعنى أن العسل يستخرج من التمر قال هو من الثاني. قوله تعالى: {إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ ... (28)} قوله تعالى: {كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (12)} الكاف في موضع رفع على أنها خبر مبتدأ أو في موضع نصب صلة لمصدر محذوف فعلى الأول. قال الزمخشري: مثل ذلك (نَسْلُكُهُ) أبو حيان: الأمر كذلك ورد الخولاني بأنه لا رابط بينه وبين (نَسْلُكُهُ) والمقام مقام الوصل [فما قاله الزمخشري أصح*]. قوله تعالى: {لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ ... (13)} قالوا حال، قال الخولاني: مما قيل له من المجرمين، فقال: لَا تأتي الحال من المضاف إليه حسبما قال ابن مالك: والحال لَا تأتي من المضاف إليه إلا إذا اقتضى المضاف إليه علمه أو كان بعض ما أضيف إليه كبعض من غيره من قدموا وكذلك تأنيث الفعل إذا كان فاعله المذكور مضافا لمؤنث هو جزء منه أو كالجزاء كقوله تعالى: (يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ) ومثال إتيان الحال من

(15)

المضاف إليه قوله تعالى: (مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا)، (إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُم جَمِيعًا) ورده أبو حيان: بأن ذلك كله منصوب على معنى أمدح قال وليس لإتيان الحال من المضاف إليه نظير، قيل للخولاني: كما صح تأنيث الفعل تنزيلا للمضاف منزلة المضاف إليه كذلك يصح إتيان الحال من المضاف إليه فقال لا نظير له قبل قد أنشد عليه ابن عصفور في شرح الإيضاح: [تَرَى أرْمَاحَهُمْ مُتَقَلديها ... إذَا صَدِئَ الحَدِيدُ على الكُماةِ*] ولا يصح تأويل هذا على المدح، قال الخولاني: ويمتنع كون لَا يؤمنون حالا لأنه منفي بلا ولو كان حالا لكان بالواو ونقل ذلك عن ابن عرفة قال: بابا في السماء لأن من الابتداء الغاية يستدعي على المنهي والباب مبتدأه ومنتهاه في السماء، فقال الظرفية: تصدق بأدنى شيء وبأدق الأحوال فتجعل من التبعيض. قوله تعالى: {بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ (15)} ابن عرفة: هذا إضراب انتقال؛ لأنهم إنما أضربوا عن مفهوم قوله: (سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا) لأن مفهومه أن باقي جسدهم لَا ينكر، وما ذاك صحيحا فأضربوا عن هذا المفهوم وقالوا: [بل*] جميع ذواتنا مسحورة ولو كان إضراب إبطال للزم عليه أن تكون أبصارهم غير مسحورة وليس ذلك مرادهم وقوله تعالى: (إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا) ظاهرة وكالمناقض بقوله: (بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ). قوله تعالى: {وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (6)}. قال ابن عرفة: الوصف بالأخص هو القرآن، والذكر وصف أعم، فلم عبروا بالأعم دون الأخص؟ قال: والجواب أن في التفسير بالأخص تنبيه [لتلك*] المعجزات [التي*] ورد بها القرآن وهم متعبدهم ذلك] [**وأخذاه وانظر إلى المثل السائر ذكر بني الظعن وكنت غافلا]. قوله: (إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ) قال [ابن زيتون*]: أرادوا أن اتصافه بما جاء به من الوحي مستفاد من الجن الذي يسترقون السمع، فرده ابن عرفة وقال: إنهما أرادوا به جنون. قوله تعالى: {مَا نُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذًا مُنْظَرِينَ (8)} يحتمل وجهين أحدهما: لأن حكمة الله تعالى جارية في أن نزل الملائكة لغير النبي إنما هو للانتقام منه أو لبعض روحه، الثاني: أن حكمة الله تعالى جرت في إيمان خلاقه إنما يكون نظر ما بالدليل والبرهان ولو نزلت الملائكة لاضطر خلقه إلى الإيمان؛ لأنهم رأوا الحق عيانا والمعجزات التي أمر بها أصحابه ولم يروها ورأيناها نحن عيانا

(28)

[لأنَّا*] في القرن الثامن وقد شاهدنا القرآن محفوظا عن المخالفة باقيا على حاله لم يتبدل فيه شيء بوجه، ولما عرف القاضي عياض في المدارك وإسماعيل القاضي قال: حدثنا عمرو المغربي عن أبي المساني القاضي قال: كنت عند إسماعيل يوما فسئل في إجازة التبديل على أهل التوراة ولم يجز على أهل القرآن، فقال قال تعالى: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) فلم [يجز*] التبديل عليه فذكر ذلك للمحاملي، فقال: ما سمعت كلاما أحسن من هذا، وقال عياض: وبمثله أجاب محمد بن وضاح لنصراني سأله عن هذا [فبينه*]. قوله تعالى: {إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ ... (28)} نقل ابن عطية هنا خلافا في إبليس هل هو من الملائكة قال: والظاهر من هذه ومن كثير من الأحاديث أنه من الملائكة واستبعده ابن عرفة: لأن الملائكة معصومون قاله الأصوليون، وحكى الطبراني عن ابن عباس: إن الله تعالى خلق ملائكة وأمرهم بالسجود لآدم فأبوا فأرسل عليهم نارا، ورده ابن عرفة بثبوت العصمة للملائكة. قوله تعالى: {رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي ... (39)} الزمخشري: قسم هنا بالإغواء وفي (ص) (قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ) أقسم هنا بالفعل وهناك بالصفة قال فعَادتهم يقولون هذا مناقض لأصل الزمخشري ولأنه ينفي الصفات جملة يقولون إن الله سميع لَا يسمع ولا يبصر عالم لَا يعلم مريد لَا بإرادة قادر لَا بقدرة بل سميع بذاته بصير بذاته. قوله تعالى: {الْمُخْلَصِينَ (40)} قلت لابن عرفة: (الْمُخْلَصِينَ) يغويهم ولا يسمعون منه، فقال: بل لَا يقدر على إغوائهم بوجه لكن زين لهم فقط لأن التزيين هو تحسين القبائح والإغواء هو الحمل على الوقوع فيها فالإغواء يستلزم الفعل والتزيين لَا يستلزم فقوله: (إِلا عِبَادَكَ) مستثنى من الإغواء لَا من التزيين فالمخلصون يزين لهم ولا يغويهم. قوله تعالى: {وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ (43) لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ ... (44)} ابن عطية: الطبقة الأولى جهنم، الثانية: الحطمة وهي طبقة اليهود، والثالثة: السعير وهي طبقة النصارى، وقال القونوي عكس هذا إن النصارى في الثانية، واليهود في الثالثة، وضعفه ابن عرفة قال: لأنهم مهما كثرت الرسل [كثرت*] عقوبة مكذبها، وقوم موسى كفروا بموسى فقط، والنصارى كفروا بعيسى وهو بعد موسى فعذابهم أشد لأنه سبقه من الأنبياء كثير دعوا إلى مثل ما دعا هو قومه.

(45)

قوله تعالى: (لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ). الضمير عائد على الغاوين. قوله تعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (45)} ابن عرفة: قالوا إما كونهم مظروفين في الجنة فظاهر وإما حلولهم في العيون فلا يتصور فلا بد من حذف مضاف أي في نعيم جنات وعيون، قال: وهذا إما مجاز تسمية الشيء بما يؤول إليه أو من مجاز التقليب لأن المتقين ليس لهم حين نزول الآية في الجنان إذ هم أحياء لم يمت منهم إلا القليل أو غلب من مات على ممن لم يمت، كما قال: [(وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ) *]. قوله تعالى: {ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ (46)} قال بعضهم: (بِسَلامٍ) متعلق بمحذوف (آمِنِينَ) منصوب بادخلوا فالسلام صفة للقائلين والأمر صفة للداخلين معناه يقال لهم بسلام ادخلوها آمِنِينَ أي يقال لهم: سلام عليكم. قوله تعالى: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ ... (47)} قال بعضهم: هذا دال على أن الغل لنا في التقوى، قيل لابن عرفة: لعل الغل في قلوبهم وهم يجاهدونه، فقال هذه صفة ممدوحة وهذا إن كان النزع في الآخرة وإن كان في الدنيا فلا كلام، وقال ابن عرفة مرة أخرى: هذه الآية تدل على أن التقوى مساوية للإيمان وليست أخص قسمة بخلاف غيرها من الآيات إذ لو كانت أخص منه لما كان في قلوبهم غل. قال الزمخشري: وعن الحارث الأعور كنت جالسا عند علي بن أبي طالب إذ جاءه ابن طلحة، فقال له علي: مرحبا بكم يا ابن أخي أما أنا والله لأرجو أن أكون أنا وأبوك ممن قال الله تعالى في حقه: (وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِنْ غِلٍّ) فقال له قائل: كلام الله أعدل من أن يجمعك وطلحة في مكان واحد، فقال: لمن هذه الآية لَا أم لك. قال ابن عرفة: لأن طلحة كان يقاتل عليا مع معاوية. قوله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ (75)} قال القاضي عياض في المدارك: لما عرف بعيسى ابن سعادة من مشاهير العرب قال، قال أبو الحسن القابسي: لما أتينا مرة ابن محمد الحافظ أنا وعيسى بن سعادة

(87)

والأصيل واقعناه نازلا من درج مسجد، وقال من هؤلاء قول معاوية فوقف فسلمنا عليه ثم رجع فقعد ونظر في وجوهنا فقال ما أدري إلا خيرا حدثونا عن محمد بن كثير عن سفيان الثوري عن [عمرو بن قيس الملائي*] عن عطية العوفي عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "احذروا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله تعالى"، وتلا (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ). قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ (87)} قال ابن عرفة: كان بعض البغداديين يقول إنما خصص لفظ السبع هنا لأن العدد الكامل الزائد على العدد التام إلا جزعا لأن الستة عدم تام الأجزاء قال: وعادتهم يجيبون إيتاء النعم والسكوت وتناسبها وهو أكمل من إتيانها والمد بها حسبما نبه عليه الزمخشري في سورة البقرة، وأنشد عليه: وإن امرءا أسدى إلي بنعمة ... وذكر فيها مرة لبخيل ولا شك أن المقام شريف فلما ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذه النعمة، قال: [وأجيب*] بوجهين أحدهما: أن التذكير بالنعمة الماضية إن كان إشعارا بورود نعمة أخرى في المستقبل فلا شيء فيه، وإنما يكون امتنانا إذا لم يشعر بوروده نعمة أخرى في المستقبل وعليه قوله تعالى: (أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى (6) وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى (7). الثاني: إنه ذكرها ليرتب عليها أمرا تكليفيا فيكون داخل في مقام الامتثال. ابن عرفة: فإن قلت: الجملة الثانية كانت مسببة من الأولى فهلا عطفت بالفاء فكان يقال: فلا تمدن عينيك، فالجواب: إنه لما كانت السببية ظاهرة أغنت عن الإتيان بالفاء [والله المستعان والموفق*].

سورة النحل

سُورَةُ النَّحْلِ مكية إلا ثلاثة آيات في آخرها. قوله تعالى: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ ... (1)} ابن عطية: إخبار عن إتيان بما سيأتي على جهة التأكيد وإن كان الخبر حقا لأنه لوضوحه كأنه قد وقع وإنما يجوز ذلك عندي لمن يعلم قرينة التأكيد ويفهم المجاز وإن كان المخاطب لَا يفهم المجاز فلا يجوز وضع الماضي بوضع المستقبل لأن ذلك يوجب الكذب. قال ابن عرفة: عادة الطلبة يوردون عليه بقول أبي بكر لمن سأله النبي صلى الله عليه وسلم هذا هاد يهدي إلى الطريق، وقوله نحن ما وتقدم الجواب بأن كلام أبي بكر من استعمال الأعم في بعض [أجزائه*] والقرينة، وقول ابن عطية: من نقل اللفظ حقيقة إلى مجازه فلا بد فيه من الملازمة الذهنية. قوله تعالى: {فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (4)} يتناول الطائع والعاصي، فالطائع مخاصم لإظهار الحق، والعاصي مخاصم بالباطل فهو من الكلام المتناول للشيء ونقيضه كقوله صلى الله عليه وسلم "إذا لم تستح فاصنع ما شئت". قوله تعالى: {لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (5)} هذا ترق لأن الدفء ميسر قريب إذ ليس فيها إلا إزالة صوفها ووبرها والانتفاع بها فليس عليها فيه مضرة ثم الامتناع بالمنافع أقوى لأن تسخيرها والحمل عليها وهذا مما لا يقدر الإنسان على فعلها ولا ما أتيح له فيها تكلف ومشقة عليها ثم الإنسان ما لا يأكل منها أقوى من ذلك وأشد لأن فيه بها وهذا لَا يقدر الإنسان عليه لأنها محرمة فكيف تذبح وما أباح الله لنا ذلك. قوله تعالى: {وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (6)} وقدم الرواح وإن كان متأخراً في الوجود عن السراح لأن الجمال فيها [حظ*] الرواح أكثر لكونها ترجع مستعانة البطون، ورُدَّ بأن، قيل: هلا قصد الترقي فهو أحسن من التدلي، وأجيب: بأنه إنما قدم المؤخر لأن الجمال حين الرواح كثير والجمال حين السراح إنما يكون عن جمالها في الرواح فإن [ ... ] بأنه سرحت من الغد جميلة وإن راحت ما فيه لم يكن بينها حين السراح جماله بوجه.

(9)

قوله تعالى: {وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ ... (9)} قال ابن عرفة: لما ذكر الدلائل الفعلية قال من النَّاس من هداه الله بها فاهتدى ومنهم من ضل فجار وما لها اهتدى. قوله تعالى: {لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ ... (10)} صح صيغ الابتداء بالنكرة لأن فيها حتى التفصيل. قوله تعالى: (وَمِنْهُ شَجَرٌ). ابن عطية: عن عكرمة اجتنبوا ثمر الشجر فإنه سمت. ابن عرفة: يريد به كلأ الأرض لحديث النهي عن [ ... ] الكلأ حسبما ذكره في كتاب [ ... ] وكلام عكرمة نص في إطلاق الشجر على ما ليس له ساق فعلى هذا يكون لفظ الشجر مشتركا بين الكل والجزء وقدم المجرور لشرف السماء وعظم خلقها. قوله تعالى: {يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ ... (11)} قدمه لعموم الحاجة إليه من الحيوان العاقل وغيره ويقدر أن الأمر على ثلاثة أقسام ضرورية وحاجيه وتكميلية وترتيبه فقدم الزرع لدعوى الضرورة العامة إليه وقدم الزيتون على التمر ما يوقد به فهو تكميل للقوت، والتمر ما يتفكه به فهو ترتيبي فكان أدون لأنه زائد على القوت عصر وقدم التمر على العنب لأن الخطاب لأهل الحجاز ليس بأرضهم إلا التمر فهو عندهم أشرف من العنب لأن محبته الإنسان طالما يعاهد وأدى عليه أقوى من مجيئه لغيره فالترتيب وهذا على صحة النقل، جمع العنب لظهور الاختلاف في أنواعه لأن منه الأبيض والأكحل والأحمر فاختلافه في أنواعه بالطعم واللون والجرم والتمر إنها الاختلاف في أنواعها بالطعم والجرم فقط وانظر على هذا التقسيم المستوفى، كقوله: [وراحوا فريقٌ فِي الإسَارِ ومثلهُ ... قتيلٌ ومثلٌ لَاذَ بالبحر هاربه*] وكقول الآخر: فقَالَ فريق القوم لا وفريقهم ... نعم وفريقٌ أيمنُ الله ما ندرى وكقول الآخر: [وهبها كشىء لم يكن أو كنازح ... به الدار أو من غيَّبته المقابر*]

(12)

كقوله تعالى: (يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ (49) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا) وليس ثم غير هذا. قوله تعالى: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ). أفرد الأول والآخر وجمع الوسطى لأن الأول تقدمتها آية أرضية والوسطى تقدمتها آية سماوية وهي أكثر من الآيات الأرضية (لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ) أو يقال: إنما جمع الثانية إشارة إلى أنها نهي الأولى [ ... ] ويحتمل أنه تعالى لو كانت الثانية نعمة سماوية وهي أشرف وأجل وأطهر من النعمة الأرضية جعل كل واحد منها على انفراد وآية لشهرته وظهوره أو لأن المذكورات أولا راجعة إما مجرد القوت أو الوصف الثالث وكلاهما شيء واحد بخلاف الثانية، وقال في الأولى (تفكرون) لأنها أمور عادية إذ حصول الشراب [ ... ] أمر عادي وقد لَا يكون عنه شيء وتسخير الليل والنهار والقمر أمر عقلي وليس بمادي، والثالث: يقال لمن لقن الحجة والدليل بعد أن كان نفسه فهو أمر تذكيري فلذلك قال: (لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ). قوله تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ ... (12)} قدم الليل إما لأنه عدم والعدم سابق على الوجود أو لأن [ ... ] لنا يؤرخون الليالي وأول الشهر ليلة وقدم الشمس وإن كانت مؤنثه لأن ضوء القمر مستمد منها. ابن عرفة: أفرد الآية أولا إذ هي امتنان بنعمة أرضية ثم جميعها لأن الثانية امتنان بنعم سماوية أجل وأشهر من الأرضية فكل واحد منها آية وكذلك قال في الثانية (لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) لأنها تعلم بمجرد العقل من غير تفكر ولا تأمل وفي الآيات الأرضية لَا تعلم إلا بقدر زائد على العقل والتفكر، وقال ابن الخطيب: الفكر في إعمال الفكر بطلب الفائدة والمذكورات راجعة لباب القوت وكل النَّاس محتاج إليه فعند ذلك يتفكرون النعم فيشكرونه، وأما الثانية فيراها أعلى رتبة إذ منافعها أخص وأغمض فيستحق صاحبها الوصف بما هو أعلى وأغمض وهو العقل. ابن عرفة: وقوله يذكرون إنما جاء به أخيرا لأن التفكير ناشئ عن التفكر ولهذا اختلفوا فذهب بعض الحكماء إلى أن العلوم كلها تذكر به وأن النفوس كانت عالمة بكل علم فلما خالطت الأبدان ذهب عنها ذلك بكل ما تعلمه إنما هو تذكر كل ما كان وذهب، ومذهب الجمهور أن أكثرها تفكر وبعضها تذكر فالتفكر لما لم يعلمه والتذكر لما علمه وتثنيته فلذلك جعله ثالثا. قوله تعالى: {مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ... (13)}

(14)

قال الزمخشري: مختلف الهيئات والمناظر، وقال ابن عطية: أي أضافه كقوله ألوان من التمر؛ لأن المذكورات أصناف عدت في النعمة والانتفاع بها على وجوه ولا يظهر الأمر حيث تلونها حمرة وصفرة وغير ذلك ويحتمل أن تكون تنبيها على اختلاف ألوانها حمرة وصفرة، قال: والأول ابن عرفة لأنه اختلف بالأمور الذاتيات وهو أجل من الاختلاف بالأمور العرضية. ابن عرفة: وفي الآية ردٌّ على [الطبائعيين*] لأنه لو كان أفعال الطبيعة لاختلف فبطل كون الأرض [تفعل بطبعها*]. قوله تعالى: {لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا ... (14)} وصفه بالطري لوجهين الأول، قال ابن عطية: [**لسرعة النتوئة للحوت فالأسنان إنما هو بالطري منه]، الثاني لابن عرفة: قالوا إن الخطاب لن يصل إليهم لبعد البحر عنهم فكأنه، قيل: لهم في البحر المنعم عليكم مع نعمة لن تشاهدوها فتعرفوها وهي التلذذ بأكل السمك طريا لأنه أطيب من المملح. قال الزمخشري: إذا حلف أن لَا يأكل لحما حنث بأكل السمك وهو حنفي المذهب وعندنا فيه قولان، فقال ابن القاسم: يحنث، وقال أشهب: لَا يحنث، وقال ابن الخطيب: إن أبا حنيفة سئل عن من حلف أن لَا يجلس على بساط فجلس على الأرض، فقال: لَا يحنث فأخبر بذلك أبو سفيان فقال: الأرض بساطا قال الله (وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا) فكيف لم يحنث وقد حنث أن لَا يأكل لحما فأكل الحوت فأخبر بذلك أبو حنيفة فقال: تسمية الأرض مجازا بخلاف تسمية الحوت لحما. قوله تعالى: (وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا). ابن عطية: هي اللؤلؤ أو المرجان قال والمراد البحرين بالحلو والمالح، وقال في سورة الرحمن في قوله تعالى: (يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ). إنه إنما يخرج من المالح. ابن عرفة: وفي جزء في [الأمير أبو حسن بن مزيد*] أنهم استخرجوا من وادي رقاق شبه الجوهر واستشهد ببعض الحاضرين وكذلك سمعت أنهم خرجوا من موضع هناك المرجان لكنها صغيرة ومرجان صغير مكتوف اللون يسحقونه ويعملونه في الأدوية وإنما يستخرج الكبير البراق المنير المشرق من ماء البحر المالح. قوله تعالى: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ ... (17)}

(18)

أورد الزمخشري سؤالين، أحدهما: إن الأصنام لَا تعقل فهلا قيل: كما لا يخلق؟ وأجاب ابن عرفة: بأنه لو عبر بها لكان الإنكار عليهم بأمرين من حيث كونها لا [تخلق فقط*]، وأجاب الزمخشري بأمرين: [إما لأنهم سموها [آلهة*] وعبدوها، فهو على نحو ما كانوا يعتقدون، ورده ابن عرفة: بأنه إقرار لهم على معتقدهم وإما بأنهم عاملوها معاملة ما لَا يعقل فروعي فيه المشكلة بينه وبين من يخلق، ورده ابن عرفة بأن المشاكلة إنما تكون حيث التساوي كقوله تعالى: (وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ)، وقوله: [قالوا اقترح شيئاً نجد لك طبخه ... قلت اطبخوا لي جبة وقميصا*] فالأول: شئت، والثاني: كذلك وإما هذا فالأول مثبت والثاني منفي، السؤال الثاني إنه إنما أنكر عليهم بتشبيههم من يخلق بمن لَا يخلق، فكان الأصل أن يقال: (أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ) لأن همزة الاستفهام إنما تدخل على المنكر والمسئول عنه، وأجاب الزمخشري: بجواب لَا يفهم. قال ابن عرفة: إنما عادتهم [أنهم*] يجيبون بأن الإنكار إنما يكون إلزام الخصم نقيض دعواه، أما إذا كان الإنكار بإلزامه حين الدعوى فلا يصح هنا لو قيل لهم: (أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ) لم يكن الإنكار راجعا لنفي المساواة فلم يبق إلا أن يقال إن الله تعالى متصف بنقيض ما اتصف به معبودهم، وهو الخلق فيكون المراد الإشعار بتنقيص معبودهم، والتنقيص موجب لعدم الألوهية فليس المراد نفي مساواة الناقص للكامل إنما المراد الإشعار بتنقيص الناقص لأنه إذا قيل: (أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ) يقولون: نعم نحن شبهنا من لَا يخلق بمن يخلق وقصارا أن يوجب تنقيص المشبه وكذلك هو منتقص فلما قيل: (أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ) كان الإنكار راجعا لتشبيه الخالق بمن لم يخلق لأن تشبيهه به يوجب تنقيص البارئ والتنقيص موجب لعدم الألوهية، وقد قال: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ) فيستلزم نقيض دعواهم. قوله تعالى: (لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا). مصدر مضاف مؤكد لنفسه فهو نفي أعم لَا نفي أخص. قوله تعالى: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا ... (18)} ابن عرفة: قالوا إذا كان الشرط عين الجزاء كانت القضية باطلة مثل إن قام زيد، والعد هو الإحصاء فكأنه قيل: إن تعدوا نعمة الله لَا تعدوها فلا بد فيه من حذف،

(19)

[وأُجيب*] بثلاثة أوجه: أي وإن تحاولوا عد نعمة الله لَا تحصوها، ومنهم من كان [يجريها*] على ظاهرها من غير حذف، ويجيب بثلاثة أوجه الأول: أن العد راجع للآحاد والإحصاء للمجموع فإذا عدوا آحادها وتوسطوا فيها ينسون ما بدأوا به فلا تحصوا الجملة بوجه، الثاني: إن العدد لإحصاء [عاد النعم*] والإحصاء لأنواعها، الثالث: إن العدد للأنواع والإحصاء للأجناس. قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ). أي لولا مغفرته لكم ورحمته بكم لما أنعم عليكم لمخالفتكم أوامره ونواهيه. قال ابن عرفة: [ويفهم منه*] أن الله تعالى لم يؤاخذ بعدم القيام بشكر النعم بذكره المغفرة والرحمة عقب ذلك. قوله تعالى: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (19)} أي وما تحدثون به أنفسكم وليس المراد في اصطلاح الفقهاء وتضمنت الآية الإشعار باتصاف الله تعالى بالقدرة والعلم فالقدرة بقوله تعالى: (أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ)، وهذا المعلم وعطف (وَمَا تُعْلِنُونَ) على (مَا تُسِرونَ) للتسوية فهو أمر استأثر الله به كما قال (إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ). قوله تعالى: {لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا ... (20)} قال ابن عرفة: (شَيْئًا) إما المفعول أو مصدر دخل بعد النفي على الفعل المنفي فأكده لأن النفي دخل على الفعل المؤكد به فنفاه فيكون نفيا أخص لَا نفي أخص، قيل لابن عرفة: هلا قالوا: ليسوا قائلين لأن لَا يخلقوا شيئا فهو أخص من الخلق منهم لاستلزامه له من باب أحرى، فأجاب: بأن هذا يفيد إثبات الخلق لله تعالى بالفعل فهو أخص من إثبات قبوله للخلق. قوله تعالى: {أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ ... (21)} قال ابن عرفة: هذه معدولة وليست سالبة لأن المعدولة تقتضي ثبوت الموضوع بخلاف السالبة. قوله تعالى: (وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ). الضمير إما للأصنام أو للكفار. ابن عطية: فعلى أنه للكفار يكون وعيدا أي وما يشعر الكفار أيان يبعثون للعذاب ولو اختص هذا المعنى لم يكن في وصفهم بعدم الشعور فائدة لأن الأنبياء والملائكة

(22)

والصالحين كذلك هم في الجهل بوقت البعث، ورده ابن عرفة: بأنه إنما يصح هذا لو نفى عنهم العلم بوقت البعث فهو أمر استأثر به الله تعالى، كما قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ) إنما نفى عنهم الشعور به والأنبياء قد حصل لهم الشعور به وعلموا بأشراط الساعة وأماراتها. قوله تعالى: {إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ ... (22)} اعلم أنه تارة يراد بها نفي الكمية المتصلة كقولك الجوهر واحد بمعنى أنه لا ينقسم وهي في قولك: (إِلَهٌ وَاحِدٌ) لنفي الأمرين معا والوصف بواحد دال على أن لفظ الإله كلي. ابن عرفة: فإن قلت: ما حد الإله؟ قلنا: هو المعبود المنقاد إليه وإن شئت هو المستغني بذاته عن العبادة وإن شئت هو المستحق للعبادة وهذا هو الصحيح ويبطل الأول بأن الله سمي إلها في الأزل لكنه مستحق للعبادة والأصنام الآلهة لاستحقاقها عندهم العبادة. قوله تعالى: (فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ). الفاء للسبب وليس هو من باب ذكر اللازم عقيب الملزوم إنما هو من باب ذكر الشيء عقب نقيضه لأن لازم كونها إلها واحدا التصديق لَا الإنكار والكفر وظاهر كلام الزمخشري: أن الوحدانية ثابتة بالفعل لأنه قال قد ثبت بما تقدم إبطال أن تكون الآلهة لغيره فكان من نتيجة الوحدانية ووضوح دليلها استمرارهم على شركهم فظاهر كلام ابن عطية: أنها ثابتة بالسمع؛ لأنه قال لما تقدم وصف الأصنام جاء الخبر الحق بالوحدانية وهذه مخاطبة لجميع النَّاس فعلمه أن الله متحد وحدة تامة لَا يحتاج لمكانها إلى ما انضاف إليها. ابن عرفة: والصحيح غيره إنها مستفادة منهما معاً، قال: وذلك أن القضية على ثلاثة أقسام عقلية كقولك الواحد نصف الاثنين والجوهر متحيز أو مفتقر إلى العرض وشرعته كقولك الميت يبعثه الله، ومركبة منها كقولك الله سميع بصير، واختلفوا في قوله: (اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ) فذهب الفخر [ ... ] إلى صحة إثباته بالسمع، ونقل ابن التلمساني في شرح المعالم اللدنية عن بعضهم أنه لَا يصح إثباته بالسمع، وقال في شرح المعالم الفقهية أن ما يتوقف دلالة المعجزة عليه لَا يصح إثباته بالسمع.

(23)

ابن عرفة: لوجود الإله لئلا يلزم عليه الدور وما لَا يتوقف عليه يصح إثباته بالسمع كقوله (وَاحِدٌ) ذكره في الباب السابع في الإجماع. ابن عرفة: وعندي أن الآية تدل على إثبات الوحدانية بالسمع والعقل كقولك (فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ) فكأنه يقول والمكذبون بالآخرة (قُلُوبُهُم مُنْكِرَةٌ)، ولو كانت لَا تتوقف على السمع لقال فالصم العمي أو فالمتصامون قلوبهم منكرة فذكره عقب الإيمان يشعر بعليته له فهو داخل على أنهم سمعوا فلم يؤمنوا بالآخرة ولو لم يتنكر فعلها على الإيمان لما ذكره بعده. قوله تعالى: {لَا جَرَمَ ... (23)} قيل: في كلها بمعنى حقا، وقيل: (لَا) نافية، وقيل: نافية و [جرم*] وحده بمعنى حق فعلى هذا يكون فعلا ماضيا [وينبني*] عليه فتح إن من قوله تعالى: (أَن اللَّهَ يَعْلَمُ)، وكسرها لأن المفتوحة تكون فاعلة به. قوله تعالى: (يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ). قال ابن عرفة: هو عندي كاللف والنشر، فيسرون راجع لقوله: (قُلُوبُهُم مُنْكِرَةٌ) ويعلنون لقوله (مُسْتَكْبِرُونَ) لأن الاستكثار في الأقوال والأفعال وهو هيئة ظاهرة. قوله تعالى: (إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ). ابن عطية: هو عام في الكافرين والمؤمنين واستدل بأحاديث الزمخشري بجواز أن يراد بالمستكبرين عن التوحيد يعني المشركين ويجوز أن يعلم تغير كل مستكبر. ابن عرفة: الصواب أنه خاص بالكفار لأن النحويين قالوا: إذا تقدم الاسم منكرا ثم أعيد معرفا بالألف واللام فهي للعهد؛ كقوله تعالى: (رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا (15) فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ)، وقال هنا: (وَهُم مُسْتَكْبِرُونَ) ثم قال: إنه [لَا يحب*] المستكبرين فهم أولئك بلا شك. ابن عرفة: وفي الآية سؤال وهو أن الصحيح أن المحبة والكراهة ليستا على طرفي النقيض وإن تقسم قسما ثالثا وهو أنه لَا يحب الإنسان شيئا ولا يكرهه وإذا كان كذلك لا يستلزم إثبات الكراهة، وكراهة الله تعالى لهؤلاء ثابتة موجودة فهلا قيل: إن الله يكره المستكبرين قال: وعادتهم يجيبون عن هذا بوجهين، الأول: أن المحبة والكراهة في حق الله تعالى على طرفي النقيض ولا يصح ارتفاعها ووجود القسم الثالث إلا في حق

(25)

المخلوق والجاهل بحقائق الأمور لأنك إذا كنت تعلم حقيقة ما اتصف به فلا بد من أن تحبه أو تكرهه وإنَّمَا ينتفي عنك الأمران إذا لم تعلم وخفي عليك أمره فحينئذ لَا تحبه ولا تكرهه فإِنك لَا تدري ما هو عليه من قبيح أو حسن والله تعالى عالم بحقائق الأمور فنفي المحبة في حقه يستلزم ثبوت الكراهة، الوجه الثاني: أن العرب إذا أرادوا المدح قالوا: حبذا زيد، وفي الذم لَا حبذا زيد فلولا [أن*] قولك لَا حبذا زيد ملزوم لثبوت الذم ما قالوا ولو كان كما قلت: لما كان قولهم لَا حبذا صريحا في الذم بل كان يكون تارة ذما صرفا وتارة لَا مدح ولا ذم فدل على أن نفي المحبة عندهم ملزوم لثبوت الكراهة والذم، قال ابن عرفة: والمحبة والإرادة في حق الله تعالى مترادفان لأن المحبة في حقه مردودة إلى صفة الفعل أو إلى الإرادة أي يفعل بهم الحسن أو يريد بهم فعل ذلك. قوله تعالى: {وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ ... (25)} قيل: إن (مِنْ) للتبعيض ورده أبو حيان بالحديث الصحيح الذي خرجه مسلم في آخر كتاب الفضائل "من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، ومن سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة، ولا ينقص من أوزارهم شيئا"، وأجيب: بأن المضلين ترتب عن كفرهم وزران، أحداهما متعلق بهم، والآخر متعلق بمن أضلهم، ورده ابن عرفة: بأنه إنما يتم هذا لو كانت التلاوة ومن أوزار إضلال من اتبعهم فتضاف الأوزار للضلال لَا لهم. ابن عرفة: قال والظاهر أن من للسببية ومن ثم معطوف مقدر هو مفعول أي ليحملوا أوزارهم وزرا آخر ليست أوزار الذين يضلونهم، ونقل عن أبي حيان أنه قال في سورة البقرة إن (مِنْ) تكون بمعنى مثل ولكنه شاذ. قوله تعالى: (بِغَيْرِ عِلْمٍ). قال أبو حيان: إنه حال من مفعول يضلونهم. ابن عرفة: الصواب إنه حال من الفاعل لأن العلم إنما بطلب ممن ينصب نفسه منصب المفيد لَا ممن نصبها منصب المستفيد قيل له: فعل هذا الأصوب أن يكون متعلقا بـ يضلونهم، فقال: وإليه حينئذ للمصاحبة فلا بد من الحال. قوله تعالى: {مِنَ الْقَوَاعِدِ ... (26)} ما كان تحت الأرض فهو أساس وما فوقها سواء عندهم ومجموعها هي القواعد. قوله تعالى: (فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ).

(27)

أن قلت: لم قال (مِنْ فَوقِهِمْ) وهل هو إلا فوقهم؟ فالجواب بوجهين الأول: قال ابن عطية: يحتمل أن يكون خرورة يمينا وشمالا فقال (مِنْ فَوقِهِم) ليزيل ذلك الاحتمال، الثاني: قال بعضهم لو لم يقل (مِن فَوْقِهِم) لاحتمل أن يكونوا لما رأوا علامات السقوط خرجوا فحينئذ خر السقف، فقال (مِنْ فَوْقِهِم) ليفيد أنهم تربصوا حتى هلكوا. قوله تعالى: {ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ ... (27)} قال ابن عطية: هذا يدل على دخولهم النار وهو نظير قوله تعالى: (رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ) ورده ابن عرفة: لأن الإيمان إنما دلت على أن دخول النار ملزوم للخزي لأن الخزي ملزوم لدخول النار وما تم له هذا إلا لو كانت هذه القضية تنعكس كنفسها كلية وهم في اصطلاح المنطقيين إنما تنعكس جزئية فيقال: كل كافر فاجر أيدخل النار فينتج كل كافر مدخل وإنما عكسها عندهم بعض المخزى كافر. قوله تعالى: (إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ). راجع للأمر الباطن النازل بهم والسوء راجع للأمر الظاهر الحال بهم في أبدانهم، فإن قلت: كيف أكده بأن وخطابهم إنما هو لله تعالى بأن ذلك حق، وأجيب: بأن هذه المقالة صدرت منهم قبل حلول العذاب بأولئك فهم في مظنة الإنكار لها. قوله تعالى: {فَأَلْقَوُا السَّلَمَ ... (28)} يريد أنهم استسلموا لقضاء الله والمغلوب إذا استسلم تارة يعترف وهو كقوله تعالى: (وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا) وتارة ينكر موجبات العقوبة كهذه الآية طمعا في أن يقبل ذلك منه [ ... ]. قوله تعالى: {فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ ... (29)} فيها حال مقدرة. قوله تعالى: {وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ ... (30)} قال الزمخشري: للذين أحسنوا يدل من خير مكانة لقول الذين اتقوا. ابن عرفة: أراد أن خيرا من كلام الحاكمين فهو والذين أحسنوا معمولان لـ قالوا، الزمخشري: ويجوز أن يكون كلاما مبتدأ عند القائلين.

(31)

ابن عرفة: يريد أنه يحتمل أن يكون من كلام المحكي عنه، ونظير ذلك أن يقول [زيد قال خيرا الحمد لله*]، فيقول: أنت حاكيا لكلام قال زيد خيرا الحمد لله فهذه من كلام المحكي عنه، فإن قال: أقول الحمد لله، فقلت أنت: قال زيد خير الحمد لله فهذه من كلام الحاكي عنه، والقول محكي به الجمل والمفرد المؤدى معناها. قوله تعالى: (وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ). وقال في الفريق الآخر (فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ)، ولم يقل دار المتكبرين، فأجاب ابن عرفة: بأن مثوى هي الإقامة والإقامة مطلقة بصدق بأقل الأزمنة كقوله: ولقد كان في قول [ ... ]. ولذلك قال تعالى: (النارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ) ورد القليل يستلزم ذم الكثير من باب أحرى، وأما النار فهي محل للسكنى، والسكنى مظنة الطول فناسب الإتيان بها في محل المدح لأن الإنسان قد يسكن الموضع الزمن القليل ويمل من سكناه ولا يحب البقاء به فأتى به دار الآخرة ليفيد أنها محبوبة مرادة بسكنى الزمن [ ... ] بل إذ ليس فيها مال. قوله تعالى: (كَذَلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتقِينَ). وهم المتقون المذكورون في قوله تعالى: (وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتقَوْا) (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ) جزاؤهم قد ذكر فكيف يشبه النبي نفسه، فأجاب ابن عرفة بوجهين: الأول أن المتقين في قوله تعالى: (لِلَّذِينَ اتَّقَوْا) أنهم الصحابة لأنهم هم الذين حصلت لهم التقوى وحسن نزول الآية والمتقون في قول الله تعالى يجزي الله المتقين يراد بهم عموم المتقين في كل زمن والألف واللام فيه للجنس فشبه جزاء ضيف بجزاء ضيف آخر فالمغايرة على هذا في المخزي، الثاني: إن المغايرة في الجزاء ومعناه مثل ذلك الجزاء بجزي الله المتقين جزاء آخر وذلك رضاه عنهم خير لا بجزاء عليهم أبدا ونظرهم إلى وجهه الكريم، قيل له: يلزمك أن يكون يشبه الأعلى بالأدنى وقد قالوا إن الشبه لَا يقوى قوة المشبه به، فقال: قد ذكروا عكس التشبيه وجعلوا منه (إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا)، والبيع متفق عليه والربا مختلف فيه، قلت وأورد ابن عرفة: السؤال مرة أخرى، فقال: قد نص على جزاء المتقين في قوله تعالى: (وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ (30) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ كَذَلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ (31) .. فكيف يقول لذلك يجزي الله المتقين فيلزم عليه الشيء بنفسه، ثم أجاب: بأن الجزاء الأول حاصل لأن الجنة مخلوقة على الصحيح فلهم الآن فيها ما يشاءون

(36)

ويجزيهم الله في المستقبل جزاء آخر إشارة إلى دوام النعمة وعدم انقطاعه وإلى ما ورد أن في الجنة ما لَا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر وإلى حصول النعيم لهم بالفعل. قوله تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا ... (36)} حكى الفقهاء في كتاب الجهاد والخلاف هل خلا العقل من جمع أو لا وحكاه المازري في المعلم، قلت لابن عرفة: قد قالوا لأن رسالة النبي صلى الله عليه وسلم هو ونوح كانا عامين [للعرب والعجم*] فدل على أن غيرهما لم يرسل للعجم، فيرى العقل خلا من السمع، فقال: إنما ذلك في التفاصيل والأحكام وأما [الإيمان بوجود الإله ووحدانيته*] فكل شيء أرسل بذلك على العموم، فإن قلت: قس بن ساعدة وغيره من فصحاء العرب وعبدة الأصنام كانوا لَا يعرفون الإله بوجه، قلنا: إنما ذلك في عوامهم وأما رؤساؤهم فيعرفون وجود الإله وإن كانوا متعاهدين على ذلك. قوله تعالى: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ ... (40)} ابن عطية: إنما هو للمبالغة لَا للحصر لأنه قد ينزل له عن ذلك، وأجيب: بأن المعنى إنما قولنا لشيء إذا أردناه إيجاده وإحداثه، قال الثعلبي، وابن الخطيب: الآية تدل على أن القرآن غير مخلوق وإنما كان يلزم عليه التسلسل، ورده ابن عرفة: بأن أهل الأصول قالوا للصفات قسمان متعلقة كالعلم والإرادة والقدرة والكلام، وغير متعلقة كالحياة، والمتعلقة قسمان مؤثرة كالقدرة والعلم، وقالوا: إن الصفات الغير مؤثرة تتعلق بنفسها فالكلام وإذا كان كذلك فما يلزم عليه التسلسل. قوله تعالى: (إِذَا أَرَدْنَاهُ). ابن عطية: أي إنما قولنا لشيء مراد لنا. ابن عرفة: إن قلت كيف هذا "وإذا" ظرف لما يستقبل، قلنا ذكر ابن مالك: إذا يكون ظرفا لما مضى ومثله بقوله تعالى: (وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ) فلذلك هي هنا. قوله تعالى: (فَيَكُونُ). ابن عطية: قرئ بالنصب على جواب الأمر قال: وفيه تأمل، وقال الزمخشري: النعت عطف على القول.

(41)

ابن عرفة: والتأمل الذي فيه - والله أعلم - هو أنه وجد القول في الزمن الأول، ولم يوجد المقول له إلا في الزمن الثاني؛ ألا ترى أن قولك قام زيد فعمرو يقتضي الوجود لقيام زيد في الزمن الأول وبعده قيام عمرو في الثاني، وأمر الله تعالى يقتضي الوجود المتأخر فلا يصح وجوده في زمن لم يوجد فيه المقول له وهو الزمن الأول وهذا مغاير ما فسرنا به [ ... ] النقرشي في تقييده على ابن عصفور لما ذكر احتجاج من زعم أن الفاء كالواو، وبقوله تعالى: (وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا). وأجاب عنه بأن المعنى أردنا إهلاكها، كما قال النقرشي: فيه نظر، قلنا: الذي فيه هو أن الفاء تقتضي الترتيب فيقتضي وجود الإرادة في الزمن الأول ولا مراد لأنه لم يوجد إلا في الزمن الثاني والإرادة من الصفات المتعلقة فلا يصح انفكاكها. قال ابن عرفة: والجواب عن هذا أن الزمان في حق الله محال وإنما هو باعتبار المتعلق فصح على هذا العطف على كن. قوله تعالى: {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا ... (41)} ابن عرفة: يحتمل أن تكون المفاعلة هنا حقيقية لأن من هجرك من أهلك فقد هجرته، ويحتمل أن يكون بمعنى مثل [ ... ] الفعل، وهو الصحيح هنا لأن المشركين لم يهجروا المسلمين في الله قال وهذا لف ونشر فقوله تعالى: (لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً) راجع لقوله تعالى: (مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا)، وقوله تعالى: (وَلَأجْرُ الآخِرَةِ خَيرٌ) لقوله تعالى: (هَاجَرُوا فِي اللَّهِ). قوله تعالى: {الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (42)} عبر عن الصبر بالماضي لأن متعلقه ماض وعبر عن التوكل بالمستقبل لأن متعلقه مستقبل والتوكل يترك الأسباب التكميلية عدد جائز، واختلف فيه بترك الأسباب التي لا قوام للإنسان إلا بها فمذهب الفقهاء تحريمه ومذهب الأصوليين جوازه. قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ ... (43)} يدل على تخصيص الرسالة بالرجال فيحتج به من قال إن مريم عليها السلام ليست نبية، ويجاب: إما بأن الآية إما اقتضت تخصيص الرجال بالرسالة لَا بالنبوة، وإما بأن قوله: (بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ ... (44) .. متعلق بـ (أَرْسَلْنَا). قوله تعالى: (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ). دليل على أن خبر التواتر يفيد العلم وعلى أن خبر الواحد يفيد العلم لأن المعنى فاسألوا أهل الذكر لتعلمون إن كنتم لَا تعلمون فهو سؤال عما لم يعلم، وإن كان

(45)

المسئولون بالمعنى عدد التواتر فهو خبر تواتر وإلا فهو خبر واحد محصل للعلم في الوجهين. قوله تعالى: (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) ابن عطية: الذكر القرآن، وقوله تعالى: (لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ) إما بشروحك عليهم أنت القرآن، وإما بتفسيرك المجمل وشرحك ما أشكل منه، فيدخل فيه ما تبينه السنة من أمر الشريعة. ابن عرفة: إن أراد تفسير المجمل وشرح ما أشكل منه، فالنَّاس العلماء كأبي بكر وعمر، وإن أراد البيان [بالمعنى الأول*] وهو سرده عليهم [نصه وبيانه*] فـ (النَّاسُ) عام، انظر قوله تعالى: (يَتَفَكَّرُونَ) والتفكر إنما يكون من العلماء، قال وفي الآية سؤال وهو أن المبين بعد التبيين، وأنزل يقتضي الإجمال، وإنزاله دفعة واحدة، ونزل يقتضي التنجيم حسبما ألم به الزمخشري في أول خطبة كتابه، والقرآن نزل أولا دفعة إلى سماء الدنيا [ثم*] نزل منها منجما فأنزل قبل نزل، وجاءت الآية على العكس وهو أن بيان ما نزل يقع بإنزال الذكر فجعل متعلق أنزل مبينا بمتعلق نزل قال: وتقدم الجواب بأن متعلق أنزل راجع للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يبين بها ما نزل على أمته مفصلا منجما. قوله تعالى: {أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ ... (45)} هذا من باب القلب لأن الخسف إنما هو بهم لَا بالأرض فهو مبالغة فالباء سببية وانظر قوله تعالى: (لَوْلا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا) فالعاصي إنما تقع العقوبة به لَا بمجمله، وقوله: (مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ) قيل: (السَّيِّئَاتِ) مصدر وقيل: مفعول لمن وأن الخسف بدل منه وهو بدل الأخص من الأعم والمراد بخسف الأرض بهم انقلابها وزلزالها، فإن قلت: هلا قيل أن يخسفهم الله في الأرض، فالجواب: إن هذا أبلغ أن خسف محلهم بهم أبلغ من خسفهم فقط. قوله تعالى: (أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ). أو للتفصيل باعتبار من حلف من الأمم في أن بعضهم خسف به الأرض وبعضهم عذب. قوله تعالى: {أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ ... (46)} أي في حركاتهم وأسفارهم فما هم بمعجزين تعالى الله عن ذلك؛ لأنه لَا يعجزه شيء، والفاء للسبب، ووجه ذلك أنها دخلت على الجملة قبل النفي، والتقدير أو يأخذهم

(47)

في تقلبهم فهم بسبب ذلك معجزين لأن أخذه لهم حالة التقلب والتحرك مظنة لفرارهم وهروبهم فدخل حرف النفي فنفى ذلك السبب المترتب على تقلبهم أي فما يكون تقلبهم سببا في تعجيزهم له لأن الفاء دخلت بعد النفي لأنه لَا يصح فيها السببية إلا على هذا التأويل. قوله تعالى: {أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ ... (47)} والتخوف النقص، قال الشاعر يصف ناقته، وهو زهير. [تخوف السّير مِنْهَا تامكا قردا ... كَمَا تخوف عود النبعةِ السفن*] قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ ... (48)} .. الرؤية بصرية بدليل تقدمها بـ (إلَى) كما قال تعالى: (أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ) والإنكار ليس هو نفس الرؤية بل للازمها وهو التفكر والاعتبار. قال ابن عرفة: وانظر هل وقع التوقيف بمجموع تفيؤا الظلال وكونها ممجدة الله أو بمجرد كونها سجداً لله فقط، فهل قوله تعالى: (يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ) حال أو صفة ونظيره قولك: أليس إنك زيد العالم راكبا، وقولك أليس إنك زيد عالما راكبا، قال: والصواب الأول لأن تفيؤها أمر حسي مشاهد؛ وكونها سجدا فلا يدرك بالمشاهدة بل بالدليل العقلي. قال ابن عرفة: وعلى هذا التأويل تكون الآية حجة لمن يقول إن العرض لَا وجود له والمشهور عند المتكلمين أنه أمر وجودي حكى القولين المقترح، ووجه الدليل أن الأمة دلت على أن كل شيء مخلوق لله تعالى وأن ظله مستفيء ساجد الله تعالى والتفيؤ من صفات الأجرام والذوات، والعرض ليس بذات فليس بمخلوق لله وهذا كفر، وإذا جعلنا تتفيؤ صفة لشيء يكون المعنى أن كل شيء موصوف بالتفيؤ فهو مخلوق لله فأنكر عليهم عدم الاعتبار به حالة سجوده وقوله تتفيؤ أي ترجع عن اليمين يريد يمين الناظر إليه لأن الناظر إلى الظل أول النهار ينظر إلى جهة القبلة حيث هو محل طلوع الشمس فيكون الظل حينئذ عن يمينه فلذلك بلا باليمين، وقوله: (يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ) أي يرجع عن جهة اليمين إلى جهة الشمال، وقوله: (وَالشَّمَائِلِ) أي يرجع عن جهة الشمال إلى جهة اليمين لأن (عَنِ) تقتضي المجاوزة، فالمراد مجاوزته جهة اليمين إلى جهة الشمال والعكس، فإن قلت: لم أفرد اليمين وجمع الشمال؟ فالجواب بوجهين: الأول: أن الظل حالة كونه عن يمين الناظر، وذلك [أول*] النهار [يتأتى النقص*]، فكانت له جهة واحدة نقص عنها، وفي آخر النهار يأخذ في الزيادة

(49)

والشمال والجهة التي قال مثله إليها لم تكن له قبل ذلك وكلما زاد بعد أي جهة يسار الناظر فكانت تلك الزيادة تكثرها واختلافها تمايل بل خلاف أول النهار وأنه لم يرد؛ بل [نقص*] عن حده الذي كان، فصار كأنه بعض اليمين فضلا عن أن يكون لبيان الوجه الثاني: أن اليمين مأخوذ من اليمن وذلك راجع إلى طريق الحق والشمال راجع إلى طريق الباطل طريق قوله تعالى: (وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ) (وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ) وطريق الحق واحد [وطرق الباطل متعددة*] والآية دالة على كمال التوحيد بالله عز وجل لأن مذهبنا أن الأعراض [لَا تبقى*] زمنين، فما من جوهر إلا وهو مصغر في كل زمن في أعراض يستمد بها، ولا بد لذلك من فاعل، ولا يصح تعدد ذلك الفاعل لما تقرر في دلالة التمانع ... قيل لابن عرفة: فهلا قيل [أولم يروا إلى ما*] خلق الله من شيء بعده يخفي هذا في الاعتبار، فإن العبرة فيها، والمعنى بالنظر إلى اللقاح، [**فشجرة التي هي رؤية البعض ثمود يابس] [وورود الثمر*] منها والورق أقوى بالعبرة، وبالنظر إلى ظلالها، فقال: وذلك أن الظلال إنما ينشأ من ملاقات يوم جرم الشمس جرم الشجرة الكثيفة المظلم، ومذهبنا أن الأجسام متساوية في الحد والحقيقة فلا فرق بين الشمس والشجرة فجاءت الشجرة سكنا فيها أو طليتها نور الشمس، وما زال لَا تخصيص أوجه ولا بد له من مختص ويستحيل بعدده فدل بذلك على أنه واحد. قوله تعالى: [(سُجَّدًا) *]. [**أي أولا صاغرين فرد آخرين أي صاغرون]. قال الزمخشري: والسجود هنا [الانقياد*]. ابن عرفة: [(سُجَّدًا) *] متناولا للعاقل وغيره؛ لأنه قال أي ويرجع الظلال من جانب إلى جانب منقادة لله تعالى غير ممتنعة عليه فيما سخرها له من المعبود [الأجرام*] في نفسها صاغرة منقادة لله تعالى فيها. ابن عرفة: وهذا مما يرويه علي، فإن من شيوخنا [من*] ينكر على الفخر في قوله في صيغة [افعل*] أنها للقدر المشترك بين الوجوب والندب ويقول إن القدر المشترك لا وجود له في كلام العرب [مع*] أن الزمخشري أنعته هنا. قوله سبحانه وتعالى: (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ ... (49) .. قال ابن عرفة: هذا يرد على القائلين بإثبات موجود لَا متحيز ولا قائم بالمتحيز؛ لأن الدابة من صفتها الحركة، والسجود إنما

[يكون*] بالحركة والموجود الذي ليس بمتحيز ولا قائم بالمتحيز غير متحرك. وفي الآية سؤالان: الأول: قال قبله (سجدا لله) فهو مجرور [فما*] العامل فيه، وقال هنا (ولله يسجد) [مقدما*]، وأجيب بوجهين الأول: لابن عرفة: قالوا إن الضمير في سجدا لله عائد على الظلال وهي لَا تعقل بمعنى يتوهم أنها تقصد السجود والتذلل لغير الله تعالى فهو هناك على الأصل، وأما قوله: (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ) فهو عام يتناول العاقل وغيره والمقصود بالذات إنما هو العاقل ويمكن في حقه أن يقصد بالسجود غير الله لأنه ذو تمييز [**ومقيد فأحتج هنا] في تقديم المجرور على عامله [يفيد الحصر*] وإنما السجود هو لله لا لغيره، الوجه الثاني: قلت: إما أن العامل في المجرور في (لله) الفعل والعامل في قوله (سجدا لله) الاسم وعمله ضعف من عمل الفعل فأخر معموله عليه لضعف عمله فيه بالنسبة إلى الفعل، وقدم معمول الفعل عليه هنا، وإن كان الأمران جائزين، السؤال الثاني: قال هناك: (أَوَلَم يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيءٍ) فإن تلك الجملة استفهاما على معنى التقرير وأتى بهذه هنا خبرا وكلاهما أتت على معنى التخويف والزجر. هلا قال هناك وكل ما خلق الله من شيء يتفيأُ ظلاله فيأتي تلك خبرية؟ قال والجواب: إن الظلال أمر محسوس مشاهد فناسب التقرير عليهم والتوبيخ، [ولَا يوبخ الإنسان إلا بما هو عالم به موافق عليه*]، فيقال له: ألم يكرمك ألم يحسن إليك، وأمَّا سجود ما في السماوات به وكذلك الملائكة فأمر مغيب عنهم لَا يعلم إلا من حقه الخبر بخلاف تفيؤ الظلال وليس الخبر كالعيان. قوله تعالى: (مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ). قال ابن عرفة: يحتمل أن يكون من دابة بيانا ويحتمل أن يكون بيانا لما في الأرض ويراد بما في السماوات الخلق الذي يقال له: الروح، قلت لابن عرفة: هل هو [جبريل*]، فقال: لَا على خلق آخر يسمى بالروح ذكره الطبري وغيره وورد في الحديث وذكره المفسرون في قوله تعالى: (تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ) ابن عرفة: وانظر هل فيه دليل لمن يقول إن الملائكةَ ليسوا متحيزين ولا قائمين بالمتحيز، وهو قول شاذ، والظاهر [أنه لَا دليل فيه*]؛ لأنه إنما كررهم بالعطف تشريفا لهم، وانظر هل هم من الدواب أو لَا، ذوو أجنحة يطيرون والطائر ليس من الدواب بقوله تعالى: (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ) ابن عرفة: والظاهر أنهم من الدواب ولذلك الطائر لقوله تعالى: (وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ) ثم قال: (وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ) قالوا: يدخل فيه ابن آدم والطائر.

(50)

قال الزمخشري: وسجود العاقل حقيقة وغير العاقل بمعنى التذلل والخضوع، فيكون لفظ السجود للقدر المشترك بينهما وهو الخضوع والاستسلام أو يكون من باب استعمال اللفظ المشترك في مفهوميه معا، أو من استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه. قوله تعالى: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ ... (50)} قال الزمخشري؛ له وجهان أحدهما: أنه قال من الضمير في (وَهُمْ لا يَسْتَكبِرُونَ) قلت أنا لابن عرفة: يلزم عليه المفهوم؛ لأن الحال من شرطها الانتقال لمفهومه أنهم يستكبرون حالة عدم الخوف، فقال: هذه حال لازمة بمعنى أنهم لا يزالون خائفين [خوف الإنصاف*] وأن ذلك قليل في الحال، والظاهر أنه خبر بعد خبر أو جملة مفسرة لما قبلها. قوله تعالى: {وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ ... (51)} قال الزمخشري: ما فائدة الوصف (اثْنَيْنِ) أجاب بما حاصله إنك تارة تريد المعدود، وتارة تريد النعت، والنعت لتحقيق المراد فأتى به هنا ليبين أن المراد العدد لا المعدود ومثاله إذا قال رجل أعد لفلان دينارين فيحتمل العدد وهو ظاهر اللفظ ويحتمل أن يريد بذلك لَا بعض دراهم بل خص الذهب فإن أعطاه: دينارا، وإن جاء على هذا خرجت من العهدة وعلى الوجه الأول لَا يخرج من العهدة إلا إذا أعطيته دينارين، فإذا قال لك أعطه دينارين اثنين زال الاحتمال. قال ابن عرفة: والجواب عندي من وجه آخر وهو أن قوله: (لَا تَتخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَينِ) يحتمل أن يكون [كليا*] وأن يكون كلية، فأفاد قوله: (اثْنَيْنِ) أنه كلي لَا كلية ومثاله له قولك لَا فقط لفلان دينارين لأنه أن كان كلية عصا بإعطائه دينارا واحدا وأن كان كلا لم يعص حتى يعطية دينارين فإنما المراد هنا النهي عن اتحاد مجموع الاثنين إلهين لَا عن اتحاد كل واحد على حدته ولا يلزم عليه الكفر فوصفه بـ اثنين ليفيد أن المراد النهي عن الجمع بينهما في وصف الربوبية وتقديره أن السالبة الجزئية هي التي سورها ليس كل ولا شيء ولا آخر وتقرر الفرق بين ليس كل وبين لَا شيء أن ليس كل يأتي بسلب الكلية وقد يراد منها سلب الكل يفيد الجمعية فيقول ليس كل النَّاس أكرمت بعضهم وكذلك قوله تعالى: (لَا تَتخِذُوا إِلهَينِ اثْنَينِ) إنما نهى عنهما يفيد الجمعية لَا أن ذلك اقتضى النهي عن اتخاذ إله واحد فلذلك قال: (اثْنَينِ) لما تقرر من أن ليس كل محتمل لَا أن يراد به سلب الكل وسلب الكلية وهو الأكثر فيه فبين الوصف بـ اثنين أن المراد هنا النهي عن الكل لَا عن الكلية. قوله تعالى: (إِنَّمَا هُوَ إِلهٌ وَاحِدٌ).

(52)

أتى بلفظ الغيبة لأجل الحصر والخاص لَا يحتاج معه إلى حصر لأنه مشاهد مروي فلذلك لم يقل إنما إله واحد. قوله تعالى: {وَلَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ... (52)} إن له المظروف وإما الظرف وهو السماوات فإنما يؤخذ الحالة من السياق والقرائن بدليل أن من أقر لرجل بعده في ظرف فإنه إنما يلزمه المظروف فقط دون الظرف، وهل يدخل في ذلك العرش والكرسي أو لانج الظاهر دخولهما بالقرائن لأن اللفظ يقتضي ذلك. قوله تعالى: (وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا). قال الزمخشري: في قوله تعالى: (مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) أي يوم الجزاء وقسم الدين هنا بوجهين: إما للطاعة وإما الجزاء (واصبا) فعلى معناه دائما فيكون فيه دليل لمن يحكي الإجماع على منع الردة في الخلق كلهم، فإن قلت: قوله تعالى: (وَلَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ) دليلا على وجود الصانع فإن عطف عليه وله الدِّين وهو لَا يحس أن يكون دليلا على وجود الصانع لأنه إنما ليبعد على وجوده كلفة لَا بالأحكام والشرائع التي خلقوا بها لأنها مسببه عن ذلك فلو كان العطف بالفاء لَا تصح لَا يدل على السببيه، وأجاب ابن عرفة: بأن المراد أنه من بعد خلقه للعالم فما من زمن يأتي إلا وهو معبود فيه مطاع تعبده الملائكة وبعض النَّاس فهذا يدل على صحة وجوده، واستدل في علم الكلام على وجود الصانع [بأمرين*] إما حدوث العالم [وإما*] بإمكانه؛ لأن الممكن لَا بد له من مخصص بوقت على أحد الجائزين وطريق الاستدلال بالحدوث يستلزم الإمكان لأن كل حادث ممكن وليس كل ممكن حادث فإن وجود بحر من زئبق أو من ياقوت ممكن وليس هو بحادث إذ المراد الحدوث بالفعل وهذا الجواب إنما هم على قول من فسر الوهاب بالعليم وقوله تعالى: (ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ ... (54) .. فاصلة معنوية لبعد ما بين غفلة الإنسان وهو له زمن النعمة وما بين نزعته وزلته زمن الضر كقول عرفة: [وَلَا يكْشف الغماء إِلَّا ابْن حرةٍ ... يرى غَمَرَات الْمَوْت ثمَّ يزورها*]

(56)

والكافر منعم [عليه*] لحديث الإيلاء عن عمر "أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم في الحياة الدنيا"، وقيل: غير منعم، لقوله تعالى: (إِنَّمَا نُمْلِي لَهُم لِيَزدَادُوا إِثمًا) وقيل: منعم عليه في ظاهر حاله في الدنيا وغير منعم عليه في عاقبته ولذلك اختلفوا على الخطاب قوله: (وَمَا بكُم مِن نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ) عام في المؤمن والكافر، وتنكير نعمة المعموم لَا للتقليل أو لَا يوصف عطاء الله بالقلة قال: قليلك لا يقال قليل، وفي الآية إشارة إلى أن الإنسان مع الله عز وجل لأن النعمة والضر منه قال تعالى: (قُلْ كُل مِنْ عِندِ اللَّهِ) لكنه ذكر النعمة في قوله تعالى: (مِنْ نِعمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ) وسكت عن الضر إشارة إلى أنه ينبغي للإنسان أن يتأدب مع الله فلا يصرح بنسبه إليه، وإن علم أن الكل من عنده ويعتقد أن كل نعمة منه فضل وكل [نقمة*] منه عدل. قوله تعالى: {وَيَجْعَلُونَ لِمَا لَا يَعْلَمُونَ ... (56)} تعميم الضمير إما للأصنام، وعوملت معاملة العاقل أو للكفار، قلت: لَا يصح الأول ويلزم عليه التناقض؛ لأن إتيانه بها دليل على أنها لم تعامل الأصنام معاملة من يعقل، فنفى ما لم يجرهم مجرى العاقل في الضمير أجراهم مجراه، فقال: وذلك إن هذا نفس [ ... ] بل هو من كلام الله تعالى لكن [**ما اشتق سياق] الثبوت [مع*] بقائها على أصلها، والضمير في (يعلمون) أتى في سياق النفي فناسب كونه ضميرا من يعقل، وإنما يتم السؤال لو أتى فى سياق الثبوت. قوله تعالى: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ ... (61)} قال ابن عرفة: المصدر مضاف للفاعل والمفعول معا؛ أي بظلمهم أنفسهم، قيل له: بل للفاعل فقط أي بظلمهم غيرهم، فقال ذلك الغير هو الله ولا يناله من ذلك شيئا، قال تعالى: (وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا)، قال (قل إن ضللت) قائما أصل على معنى فإِنما المعنى يظلم بعضهم بعضا فهو

للفاعل والمفعول؛ لأن النَّاس عام في الظالم والمظلوم، فيرد بها على ابن التلمساني شارح المعالم في قوله في المسألة الخامسة من الباب الرابع لما قال الفخر: إن المصدر يضاف للفاعل والمفعول قال: هو أن ذلك على سبيل البدلية لَا على وجه المحبة وتقدم نظيره في سورة إبراهيم في قوله تعالى: (وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ). ابن الخطيب: وفي الآية حجة للمعتزلة في قولهم إن الله لَا يخلق الشر وأن الظلم من فعل العبد لأجل إضافته إليهم، ورده ابن عرفة: بأن الإضافة تقع بأدنى ملابسة لقوله: إِذا كَوْكَب الخرقاء لَاحَ بسحرةٍ ... سُهَيْل أذاعت غزلها فِي القرائب فإنما أضافه إليهم لأجل انتساب الذي لهم فيه إلى مستوى إنك تقول غير فلان وثوب فلان وليس فيه إلا المنافع، وأما الأعيان فما يملكها إلا الله، وذكر الزمخشري هنا آثاراً [عن*] أبي هريرة، وابن عباس [يقتضي*] عموم الهلاك في بني آدم وغيرهم بسبب شؤم [ظلم*] الإنسان، وكذا نقل ابن عطية: أن الحوت والطير يهلكان بسبب ظلم الإنسان. ابن عرفة: وهذا ما يتم الاستدلال به إلا مع قيمة ما قاله الأصوليون فى أن قول الصحابة إذا كان دليله مخالفا للقياس كأنه يكون بحجة حينئذ لم يكن قاله من عنده، بل يكون سمعه من رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وأما إن وافق القياس فهو مذهب فلا يحتج به وهذا مخالف للقياس قال تعالى: (وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى) وأجاب ابن عطية: بأن هلاك من لم يظلم إنما هو بكونه لم يغير على الظالم، قلت: وبعضه ما تقدم في قوله تعالى: (فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ) وفي قوله تعالى: (كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ) وأجاب ابن عرفة جوابا آخر وهو أن هلاك الظالم بظلمه وهلاك من لم يظلم إنما هو ابتلاء له فيعظم بذكره أجره ومثوبته فهو رحمة منه بهذا الاعتبار. قال الفخر: واستدل بعضهم بالآية على عدم عصمة الأنبياء، واستدل بها من جوز الردة على جميع الخلق لنسبة الظلم فيها إلى جميع النَّاس. ورده ابن عرفة بأن العموم في الآية إنما هو في المؤاخذة وأما الظلم فإنما ذكر على سبيل الفرض والتقرير [والتقدير*]، أي لو فرض وقوع الظلم من الجميع وأخذوا به لم يبق أحد ولا يلزم من فرض الشيء وقوعه كما قال تعالى: (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلا اللَّهُ لَفَسَدَتَا). قوله تعالى: (لَا يَسْتَأْخِرُونَ).

(62)

قيل لابن عرفة: نفي آخرهم عن أجلهم؛ لأنه كان متوهما، وأما تقدمهم على أجلهم إذا حضر فيستحيل إذ الماضي لَا يعود فلم احتاج إلى نفيه وجعل جوابا للشرط، فأجيب بوجهين الأول: أنه على معنى التأكيد لذلك أنه إشارة إلى تسوية الأمر الضروري بالمشكوك فيه لأن استحالة تقدمهم على أجلهم إذا حضر أمر ضروري وتأخرهم عنه مشكوك فيه الأمر في أن من تقدم عليه دين مؤجل يمكن أن يوخره عنه ربه، ولا يمكن تقدمه هو عن أجله بعد طوله بوجه، فكأنه يقول فما يستحيل تقدمهم على أجلهم إذا حل لذلك يستحيل تأخرهم عنه؛ لأن ما علمه أتمه وقدره لَا بد من وقوعه. قوله تعالى: {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ ... (62)} فسره الزمخشري: بأحد أربعة أمور إما الثبات وهم يكرهونها لأنفسهم، وإما شركاؤهم يكرهون المشارك لهم في منازلهم [وحصصهم*] وإما [استخفافا برسله والتهاون برسالاتهم. ويجعلون له أرذل أموالهم ولأصنامهم أكرمها وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ مع ذلك*] (¬1)، ثم قال: وعن بعضهم .. إلى آخره، قيل لابن عرفة: صلى هذا إذا كان الإنسان فاعل خير الطيب ويعطي الضعيف الخير الذي دونه هل يتناول هذا الوعيد والذم، فقال: لَا إنما ذلك فيما هو واجب كالزكاة وأما صدقه التطوع فلا. قوله تعالى: (أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى). ابن عطية: هي الجنة، ورده ابن عرفة: بأنهم ينكرون البعث، [فكيف يدعون أن لهم الجنة*] [ ... ]. ولو كانوا شاكين ما قال تعالى: (وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى) فهو شاك لقوله: (وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً) وأما من يعمم على نفي الآخرة فكيف يدعي أن له فيها الجنة، أبو حيان: أن لهم الحسنى بدل من الكذب. ابن عرفة: بدل شيء من شيء وهما لغير واحدة وإن نظرت إلى منطق الكذب وإلى قولهم وبدل خاص من عام وأن فعل إلى الكذب من حيث هؤلاء إلى متعلقه هنا. قول تعالى: (فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ ... (63) .. فسره الزمخشري بوجوه منها أن الضمير راجع لكفار قريش وأنه زين لآبائهم أعمالهم فهو ولي هؤلاء لأنهم منهم. ابن عرفة: على هذا لَا يكون الألف واللام في الآن لتعريف الحضور وعلى الوجوه الأخرى التي ذكر هو وغيره يكون إما لتعريف الماهية أو لتعريف العهد. ¬

_ (¬1) العبارة في المطبوع مضطربة، والتصويب من (الكشاف. 2/ 614).

(64)

قوله تعالى: {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً ... (64)} قال الزمخشري: هذا مفعول من أجله ودخلت اللام على [لِتُبَيِّنَ*] لأن [لِتُبَيِّنَ*] فعل لفاعل الفعل المعلل إلا أن الإنزال من الله والبيان من النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وألزمه أبو حيان التناقض؛ لأنه جعل (وَهُدًى وَرَحْمَةً) معطوفين على [لِتُبَيِّنَ*] ومحله عنده النصب فكيف يمنع كونه مفعولا من أجله في اللفظ ويجعله كذلك في المعنى، وأجاب ابن عرفة: بأن الزمخشري إنما منع نصبه ولا يلزم أنه لَا يصح في المعنى إلا ما جاز النطق به، وابن خروف لم يشتركا في المفعول من أجله أن يكون مفعولا لفاعل الفعل المعلل. قوله تعالى: {فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ ... (65)} الفاء للتعجب وخصوصا في مكة لحرارة أرضها فقد ذكروا أنها تصب المطر فيها بالليل فتصبح أرضها مخصوبة. قوله تعالى: {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ ... (66)} ابن عرفة: لما كان المتقدم منفعة عامة في العاقل وغيره يخص المنفعة الخاصة بالعاقل وأكده بـ أنَّ واللام بغفلة المخاطب على الاعتبار والتذكر لَا لكونه منكرا لذلك، فإن قلت هلا قال: وإن في الأنعام لعبرة أبلغ من قوله: (لَكُم) فالجواب: أن في زيادة (لَكُمْ) تنبيه على العبرة والنعمة فنبه بقوله (لَكُم) على توجه الطلب لا يخاطب بالشكر على هذه النعم التي وقع الإنسان فيها وبقوله: (لَعِبْرَة) على الاعتبار، فإن قلت: ما هي العبرة، قلت: قال الفخر وابن التلمساني: العبرة في اللغة مأخوذة من العبور وهي المجاوزة والانتقال، قال: ويراد بالعبرة الاتعاظ ومنه (فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ) أي اتعظوا [بعاقبة*] المهلكين كيف خربوا بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين، فهو اتعاظهم بهلاك من فعل كفعلهم من الأمم السابقة خشية أن يحل بهم ما حل بهم والعبرة هنا الدليل أي أن لكم في الأنعام لدليلا واضحا يدل على وجود خالقها ووحدانيته ونقلكم من حالة الجهل إلى حالة العلم. قوله تعالى: (مِمَّا فِي بُطُونِهَا).

(68)

أبو حيان: الضمير مذكر كما في قولهم أحسن الفتيان وأجمله، ورده ابن عرفة: بأن هذا المنزل وقع فيه الفتيان موقع تمييز مذكر أي أحسن فتى وأجمله، وأما الآية ليست كذلك. قوله تعالى: (مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ). أبو حيان: حال من ضمير (نُسْقِيكُم) أي خارجا (مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ)، وقيل: متعلق بنسقيكم المقدر أولا يتعلق مجروران بفعل واحد. ابن عرفة: يجوز هنا لاختلاف معناها لأن مِن الأولى للتبعض، والثانية لابتداء الغاية، الزمخشري: إذا استقر [العلف*] في كرش البهيمة [طبخته*] [فكان أسفله فرثا، وأوسطه لبنا، وأعلاه دما*] والكبد [مسلطة*] على ذلك نفسه، فجرى الدم في العروق واللبن في الضروع [الثلاثة تقسمها، فتجرى الدم في العروق، واللبن في الضرع، ويبقى الفرث في الكرش، ورده ابن الخطيب: بأنا ما رأينا قط في كرش البهيمة المذكورة لبنا ولا [دما*]، أجاب ابن عرفة: بأن حالة الحياة بها زيادة إلا أن الميت إذا قطع منه لم يخرج منه دم بوجه، بخلاف النفي، ولذلك كان الفلاسفة مقرون [حرق الإنسان*] وهو حي لينظروا ما يتحرك في بطنه، ابن الخطيب: والصحيح أن الغذاء مطبخه الكرش مخرج أولا منه الأجزاء الكثيفة وهي الفرث ويبقى دما فيطبخه ثانية فيخرج منه إلى الضروع الأجزاء اللطيفة وهي اللبن ويصير الباقي دماً صرفا فيجعله في العروق، وإنما وقع الامتنان بلبن الأنعام المنفصل [عنها*] دون لبن المرأة المتصل [بها*] لأن تغذي الإنسان بلبن أمه حال منصوبة وعدم عقله ولبن الأنعام يتغذى به صغيرا وكبيرا ويدرك منفعته. قوله تعالى: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ ... (68)} ابن عطية: الوحي إلقاء الموحي في خفاء أو الإنهاء إليه ويكون بمعنى الأمر ومنه أن ربك أوحى بها. قوله تعالى: {ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ ... (69)} ابن عطية: هذا إخبار بإلجائها إلى الأكل. ابن عرفة: يريد وأتى فيه بصيغة الأمر ومراد به الخبر مبالغة في قصدها ذلك كما اشترط في المأمور القصد إلى الامتثال، وقيل: إنه هو حقيقة أي ثم قال لها (كُلِي مِنْ كُلِّ الثمَرَاتِ)، وقال ابن الخطيب: وبيتها الذي تصنعه مسدس، وقام البرهان في علم الهندسة على أنه أحسن [القوائم*] لأنه يفصل الزوايا ليس بها خلل خلاف المربع والمعين، وذلك الاتصال وعدمه لَا يظهر إلا لمن قرأ ست مقالات من كتاب إقليدس

[**والشكل المسدس أقرب إلى الاستدارة كدارة الضابط، وقال وفي بابها حكمة عظيمة وهو أنها تنتج فلا البيت الأعلى على فلا البيت الأسفل وهذا دليل على أنه لَا شرط في الإحكام والإيقال علم الصائغ]. ذكره في المحصل وفي التفسير. ابن عرفة: وهذا ما يتم إلا عند من يقول إن كل فاعل يستقل فعله ويفعله باختياره وأما عندنا فإنه هو الفاعل المختار وهو الذي فعل وأقدرها عليه، قلت له: نحن نقول بالكسب والكسب عندنا هو المعلم بما في الفعل من مصلحة أو مفسدة والنحل لَا يعلم ذلك فصح قول ابن الخطيب فقال: الكسب إنما يشترط في الحيوان العاقل أما غير العاقل فلا كسب له بوجه. قوله تعالى: (فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا). هذا أمرها بالرجوع، وقيل: بالذهاب فهو معطوف على أن اتخذي ففيه تقديم وتأخير أو تكون مستأنفا ولا يصح حمله على كلي إلا إذا أريد به الرجوع وهو الظاهر حالة السير مخرج مجمعه فتسلك طريقا واحدة وفي حالة الرجوع تأتي مثقلة فيقل سيرها وتفرق فتسلك سبلا متعددة. قوله تعالى: (ذُلُلا). قال من السهل أي سهله أي ضمير النحل أي مذللة سهلة، قال أبو حيان: وقوله تعالى: (سُبُلَ رَبِّكِ) إن أريد بالسبل الطريق الحسي فهو مفعول به وإن أريد المعنوي فهو ظرف. ابن عرفة: والصواب العكس، كقول ابن خروف في جلست وسط الدار وحفرت وسط الدار الأول بالسكون ظرف، والثاني بالفتح مفعول به. قوله تعالى: (يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا). قيل من أفواهها، وقيل من دبرها، الزمخشري: [ومن بدع تأويلات الرافضة أن المراد بالنحل عليٌّ وقومه*]. ابن عرفة: عادته إن كان ما حملت على الآية مناسباتها سماه تفسيرا أو إن كان غير مناسب سماه تأويلا. قوله تعالى: (مُختَلِفٌ أَلْوَانُهُ). المراد إما اللون الذي هو أحد الأعراض لازمه الأصفر والأحمر والأبيض والأسود أي مختلف ألوانه في اللونية فهو شبه الكل؛ لأنه حكم على مجموع ألوانه بالاختلاف

(70)

والمراد الاختلاف في الطعمية؛ لأن كل لون منها له مطاعم فهو شبه الكلية أي مختلف أعداد ألوانه، ابن الخطيب: هل يرعى النور أو ما ينزل عليه وهو الزنجبيل. ابن عرفة: وهو الظاهر لأنه لَا يظهر لونها في النور أثر. قاله بعض الأطباء. ابن عرفة: بل الظاهر الأول لاختلاف طعم عسلها بالحلاوة، والمرارة بحسب ما ترعى ولو رعت الزنجبيل فقط لَا نجد طعم عسلها، وأيضا الزنجبيل عند الأطباء بارد والعسل حار فإن قلت: يكتسب الحرارة من النحل، قلنا: نجد [**عسل الشهي] والحلج أشد حرارة من عسل الأطيان، ولو كان منها لما اختلف. قوله تعالى: (فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ). ابن عطية: هذا مطلق وليس بعام لأن الأمر معه مختلف فإنما هو شفاء لمن مزاجه البلغم أو السوداء في بعض الأخبار. ابن عرفة: وقالوا إن الترياق طيف من كل داء فقال بعض الطلبة قد قال أرسطاطاليس إنه شفاء من داء خاصة وأورد كيف يكون شفاء لصاحب البلغم وصاحب الصفراء أو السوداء مع اختلاف أوجهها لأنه إن كان عندكم يقمع الصفراء فلا يقمع غيرها، وأجيب: بأن الترياق يقوي الروح فتنفق الغريزة النفسية فيغلب على الطبعية المزاجية فيقمعها فتصح بذلك كونه هو الشيء ونقيضه. قوله تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ... (70)} هو أبلغ من لو قيل: والله أوجدكم فإن الخلق في اللغة هو التقدير كما قال الشاعر: [ولأَنْتَ تَفْري ما خَلَقْتَ وبَعْ ... ضُ القومِ يَخْلُقُ ثم لاَ يَفْري*] تدل على أنه تعالى قدر الخلق على صفة دون صفة وأوجدهم وذلك دليل على اتصافه بالقدرة والإرادة والعلم. قوله تعالى: (وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ). قسم الخلق إلى ثلاثة فمنهم من يموت قبل رده إلى أرذل العمر ومنهم من يحيى حتى يصير إلى أرذل العمر وهذا هو الجواب عن سبب تقديمه، ذكر [المتوفى*]: إلى الرد إلى أرذل العمر مع تأخره عنه في الوجود، فإن قلت: لم أسند الخلق والتوفية إلى الله ولم يسند إليه فعل الرد إلى [أرذله*] مع أن الكل من فعله جل وعلا عند أهل السنة، قلنا: تأدب معه وتكرمة لذاته في عدم التبعيض على نسبه إليه وإن كنا نعتقد ذلك كما لا

(71)

نقول سبحان [خالق الذر*] وخالق البعوض تكرمة له في نسبة خلق الأشياء المحتقرة إليه وإن كان اعتقادنا استناد كل شيء إليه، قيل له: قد قال تعالى: (ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ)، وقال تعالى: (وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ) فقال لأنه في الآية الأولى أسند إليه الأمرين لقوله في الاستثناء: (إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُم أَجْرٌ غَيرُ مَمْنُونِ)، ابن الخطيب: وهذه الآية رد على الطبائعيين لأن أفعال الطبيعة تختلف باختلاف الخلق [بالطول والقصر*] والتغير دليل على الفاعل المختار الموحد، كذلك قال: [وَقَدْ كُنْتُ أَقْرَأُ يَوْمًا مِنَ الْأَيَّامِ سُورَةَ الْمُرْسَلَاتِ فَلَمَّا وَصَلْتُ إِلَى*] قَوْلِهِ تَعَالَى: (أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (20) فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (21). إلى قوله تعالى: (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (24). [أيقنت*] أن المراد بالمكذبين في الآية الطبائعيون [لمخالفتهم القرآن*]. قوله تعالى: (لِكَيْلا يَعْلَمَ). ابن عطية: قيل إن [اللام*] للصيرورة وليس بشيء. ابن عرفة: لاقتضائها جهل الفاعل بعاقبة الأمر والله تعالى هو الفاعل هنا. قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ). وقدم العلم لعموم تعلقه بالمعدوم والموجود والمستحيل بخلاف القدرة. قوله تعالى: {وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ ... (71)} دليل على صحة الخلاف لفظ البعض على المنصف وعلى أكثر منه لأن الفاضل أكثر رزقا من المفضول، وحكى الخلاف في البعض هل يطلق على المنصف لدلالة على شارح الجزولية في باب التنبيه. قوله تعالى: (فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ). فيه سؤالان الأول أن التفاوت إنما هو في الرزق التكميلي الزائد على ما يسد الرمق ويستر البدن، وأما الحاجي فهم فيه مع المالك شئون فهلا قيل: (فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي) فضل رزقهم كما قيل: (وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ) وأجيب: بوجوه الأول ابن عرفة: لو قيل: (فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي) فضل رزقهم لكان فيه غثاثة لتكرار لفظ الفضل ثلاث مرات وهذا يقال له في علم البيان: الاستخدام وهو أن [تعبر*] باللفظ عن غيره خوف السآمة. الثاني: لأن فضل الرزاق أخص من الرزق فاستعمل الأخص في الثبوت والأعم في النفي؛ لأن النفي الأعم يستلزم في الأخص،

السؤال الثاني: [لفظ*] الرد يقتضي سابقية الملك أو الجوز و [ ... ]. لم يكن لهم ذلك بوجه فهلا قيل: (فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا) بمعطيهم رزقهم لما ملكت أيمانهم وهذا [ ... ] وردوا في قوله تعالى: (أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا) وأجاب ابن عرفة: بأنه إشارة إلى تأكيد النفي وأن استغنوا من إعطائه للمماليك بدلا عنهم فكانوا قائلين لأن يملكوه للذي أعطاه لساداتهم كان قادرا على إعطائه ممن دون ساداتهم، قلت: إنما على من ملك أن يملك بعد مالها. قوله تعالى: (أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ). قال ابن عرفة إن فسرنا الرزق مما منعه السادات مماليكهم في قوله تعالى: (فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ) على ما ملكت أيمانهم فتكون النعمة هنا الرزق وإن جعلناه تمثيلا أي كما أنفوا بأن يشاركهم أحد في رزقهم كذلك ينبغي أن لَا يجعلوا مع الله شريكا فيكون المعنى هنا أو هنا الدلائل الدالة على وحدانية الله يجحدون، قلت: وقاله ابن عرفة مرة أخرى. قوله تعالى: (وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ). لما تضمن البلاء السابق التذكير بقدرة الله تعالى على النحل وما اشتملت عليه من الآية والحكم عقبه ببيان قدرته في خلق الإنسان (وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ) قال وأسند فعل التوفي هنا لله تعالى فكان في سورة السجدة: (قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ) فانفخ بينهما [ ... ] فرع مذهب أهل السنة القائلين الكسب، فإن قلت لم قال: (وَمِنْكُم مَنْ يُرَدُّ) بحذف الفاعل، قال فعادتهم يجيبون أنه إذا كان المقصود الإشعار بالفعل فحذف الفاعل كقولك رأى حالات وإن كان المقصود الإخبار بما على الفعل فذكر كقولك [ ... ] عمرو علام العبرة وما كان التوفي قد خالفوا فيه وقالوا ما يهلكنا إلا الدهر ذكر فاعله بخلاف الرد إلى أرذل العمر فإنه أمر [ظاهر*] لَا يحتاج إلى ذكر فاعله، وأجاب بعض الطلبة بأنه لما ذكرها فاعل البداية وفاعل النهاية أنه الله تعالى علم أن ما بينها من فعله فاكتفى بذلك ولم يحتج إلى ذكره في الرد في أرذل العمر لأنها حال متوسطة بين البداية والنهاية. قوله تعالى: (فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ).

(72)

إن قلت: إذا ردوا كل رزقهم عليهم لَا يكونون فيه سواء وإنما يستوفون معهم بردهم عليهم حذف فعل رزقهم، فيجاب: إما أن يكون على حذف مضاف أو يكون الرزق مضافا إلى ضمير (مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ) ويكون الذي فضلوا به مملوكهم هو ردف مملوكهم الذي يساويهم به في نفس الأمر. قوله تعالى: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا ... (72)} قيل: حواء عليها السلام وجمعت باعتبار نسلها وأطلق عليهم أزواج مجازا استعمالا للفظ في حقيقته ومجازه. قوله تعالى: (وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطيِّبَاتِ). الزمخشري: [يريد*] بعضها لأن [كل الطيبات*] في الجنة، وما [طيبات*] الدنيا إلا [أنموذج منها*]. ابن عرفة: ضرب مثل منها وكذا يقول الإمام الغزالي: واضرب في ذلك النموذج أي اضرب فيه مثلا. قوله تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا ... (73)} إنما قال لهم لأنه إذا لم يملك الرزق لمن عبده فأحرى أن لَا يملكه لغيره وهم لم يخصوا الآلهة بالعبادة بل أشركوهم فيها مع الله لقوله (مَا نَعْبُدُهُم إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى) لكن ذلك الجزاء الذي صرفوه لهم من العبادة عبدوهم فيه من دون الله. قوله تعالى: (شَيْئًا). قيل: إنه بدل من رزق، ورده أبو حيان: بأنه أعم من رزق وبدل الأعم من الأخص فصار بعد النفي الرزق أعم من شيء ألا ترى أن قولك ليس في الدار حيوان أخص من قولك ليس في الدار إنسان كما أن قولك في الدار إنسان أخص من قولك فيها حيوان. قوله تعالى: {فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا ... (75)} فإن قلت: الآية خرجت مخرج المدح لفاعل ذلك فهلا ذكر فيها صدقة [السر*] فقط لأنها أفضل، فالجواب: أنه قصد التنبيه على كثرة اتصافه ومبادرته إلى أفعال [ ... ] كيف ما أمكنه أو بدأ بالسر؛ لأنه أفضل.

(76)

قوله تعالى: (هَلْ يَسْتَوُونَ) ابن عرفة: هذا دليل لمن يقول إن أقل الجمع اثنين ولا حاجة إلى الأجوبة التي أجاب بها أبو حيان من أن الكثرة المراد بها العموم أو أن من أوقعت على جماعة أو أن المراد هل يستوي المماليك والأحرار، قال ونفي المساواة يقع في القرآن على وجهين تارة مطلقا كهذه الآية وكقوله: (هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ) وتارة تعين الأرجح كقوله تعالى: (لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا) إنما تعين هنا الأفضل لظهوره، قيل لابن عرفة: وكذلك كل أحد يعلم أن أصحاب الجنة هم الفائزون، فقال: إن أصحاب النار يدخل فيهم العصاة من المؤمنين والكفار، فهل قصد فقيل أصحاب الجنة بالإطلاق على أصحاب النار بالإطلاق أو على الكفار فلما أعيد ذكر الأفضل علم أن المراد بأصحاب النار أصحابها حقيقة وهو من حكم عليه بالخلود فيها. قوله تعالى: (الْحَمْدُ لِلَّهِ). أن يكون من كلام الله تعالى على نفسه أو من النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم خاصا به أو عاما له ولأمته، وقوله (الْحَمْدُ لِلَّهِ) على ما أنعم علينا بأن هدانا ووفقنا. قوله تعالى: (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ). إما أن المراد به الكفار باعتبار من شعر منهم وهم أقلهم وأقلهم يعلمون وإما أن يراد به الأصنام عبر بالأكثر عن الكل وهو بعيد. قوله تعالى: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ ... (76)} ابن عرفة: هذا إما راجع لحال الكفار مع المؤمنين وأنهم متصفون بذلك حكما أو بحال الأصنام وأن اتصافهم به حسي حقيقي والأبكم في الغالب لَا يسمع. قوله تعالى: (وَهُوَ كَلٌّ). أي ثقيل على سيده ذو كلفة ومشقة كلفة الحال لاحتياجه إلى من يقوم عليه ويصلح شأنه وكذلك الأصنام. قوله تعالى: (أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ). قلنا: إن الصفات المتقدمة راجعة لحال الكفار فالمعنى أنهم لأجل الحكم عليهم بالحكم إذا وعظتهم الرسل ورأوا الآية أنكروا وصمموا على الكفر، وإن قلنا: إنها

راجعة للأصنام فالمراد ذم متبعيهم وأنهم مهما طلبوا من الأصنام شيئا لَا يأتوهم بخبره وهذا تمثيل حسن ونظيره قول امرئ القيس: [وتَعطُو برَخْصٍ غيرِ شَنَئْنٍ كأنَّهُ ... أَساريعُ ظَبيٍ أو مَسَاويكُ إسْحِلِ*] والأساريع دود حمر الرءوس تشبه أنامل النساء به فشبه أصابع المرأة بالأعلى وهو عود الأراك لاستقامتها وبالدود في احمرار أطرافها لكنه شبهها بالمجموع أو أخذت من هذا صفة ومن هذا صفة وفي الآية شبه الكفار أو أصنامهم بالأبكم والمؤمنين سلم معبودتهم بالكامل الصفة فلم يشبه بالمجموع. قوله تعالى: (أَحَدِهِمَا). [أبهم*] الوصف بـ (أبكم) دليل على أن الله تعالى متكلم حقيقة كلاما ليس [بصوت*]، ولا حرف خلافا للمعتزلة الذين يردونه إلى صفة العلم. ابن عرفة: لكن يقال إن أتينا الكلام بطريق السمع فلا يصح الاحتجاج بهذه الآية لأنه يجيء فيه إثبات الكلام بالكلام وإن أتيناه بالعقل من ناحية أن عدمه نقض كما هو في الآية والله تعالى منزه عن النقائص صح الاستدلال بها. قوله تعالى: (لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيءٍ). قلت لابن عرفة: المقصود الإخبار عن صفته الحالية فهلا قيل ما يقدر على شيء لأن ما يخلص الفعل للحال ولا عند الأكثر إنما يخلصه للاستقبال، فقال: هذا تنبيه على أن عجزه لازم ليس ينفك إذ لو بقى بما بقى للحال لتوهم أنه يقدر على ذلك في المستقبل. قوله تعالى: (وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ). إن قلت: كونه (عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) سبب في أمره بالقول، فهلا قيل يستوي هو ومن على صراط مستقيم أنه قد يأمر بالعدل رياء وسمعة وقد [يكون*] مصرا على المعاصي وهو يأمر بالعدل ليمدح، وكما في بعض الأحاديث أن الله معنا [ ... ]

(77)

قوله تعالى: {وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ ... (77)} الألف واللام فيها [**للقلب] بخلاف الساعة التي يعبر بها عن زمن الحال فإن الألف واللام فيها المحصور، قوله تعالى: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ ... (78)} الزمخشري: الهاء في أمهاتكم زائدة لأنه جمع أم كما زيدت في أراق فقالوا: أهراق ونقله ابن عطية عن بعضهم ثم قال: وفيه نظر ابن عرفة: لَا أدري ما هذا النظر، قلت: وقال صاحبنا الأستاذ أبو العباس أحمد بن القصار: يحتمل أن يريد والله أعلم أن أهراق اتفقوا فيه بعد اختلافهم على أن الهاء فيه بدل من الهمزة في قولهم: هراق ثم اختلفوا في أهراق فمنهم من قال إنه جمع بين البدل والمبدل منه ومنهم من قال: إن الهمزة فيه زائدة وليست بدلا ووزن أراق أفعل لأن أصله أروق، قال ابن القصار: وجمعوا بين البدل والمبدل منه كما جمع الشاعر بينهما في قوله: هما نَفَثَا فِي فِيَّ مِنْ فَمَوَيْهِمَا ... على النابحِ العاوِي أشدَّ رِجامِ قوله تعالى: (وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ) أفرد السمع لأنه مصدر في الأصل وجمع الأبصار لأن البصر اسم، واختلفوا أيهما أشرف فاحتج من شرف السمع بأن الوحي المنزل على النبي صلى الله عليه وسلم حاسة السمع ولأن الإنسان إذا مشى في الظلمة المختلطة يسمع ولا يرى منها فقدانه قبل السمع بهذه الحالة ولأن البصر لَا يتعلق إلا بما هو أمامك والسمع يتعلق بالجهات الست، فإن قلت إني أدير وجهي إلى خلفي والبصر من ورائي، قلنا: أو حينئذ الخلف إماما واحتج من شرف البصر على السمع بأن السمع لَا يستقل بنفسه لأن الإنسان إذا سمع كلاما والأعلى شيء فلا بد أن ينظر في دلالته عليه بالمطابقة والتضمن والالتزام وهل هو حقيقة أو مجاز وهل قابله ممن يعتمد على خبره أم لا؟ إلى غير ذلك فلا بد من استعمال الفكرة في ذلك بخلاف البصر فإنه إذا شاهد الشيء ورآه على حقيقته بأول وهلة ونفى بهذا قولهم ليس الخبر كالمعاينة وقولكم إن السمع يتعلق به الوحي للأنبياء، قلنا: هذا في دار الدنيا والبصر يتعلق به رؤية المؤمنين وهم بأبصارهم في الدار الآخرة وهي أشرف بكل اعتبار. قوله تعالى: (لَعَلَّكُمْ).

(79)

قال ابن عرفة: الترجي مصروف للمخاطب، قلت له: كيف يفهم هذا لأنه ليس المطلوب منهم ترجي الشكر وإنما المطلوب إيقاعه، فقال يترجون الشكر النافع؛ لأنهم ليسوا على يقين من قبول شكرهم الحاصل لهم بالفعل محصول الثواب عليه. قوله تعالى: {مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ ... (79)} قيل له: المناسب أن يقال: حائرات في جو السماء لأن المسخرات من [الطير*] والطير يعلو أو يرتفع ويمتنع منا فلا يقدر عليه إلا بعد التخيل فليست بمسخرات وإنما المطابق للتسخير ما جاء في قوله تعالى: (وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا)، وقوله تعالى: (اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ) ربطها: (وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ)، وقال: إشارة إلى افتقارها إلى ماسك وقادر وخالق يقدرها على التحرك في الفضاء لأنه أعجب وأغرب من وقوعها فيه. قوله تعالى: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا ... (80)} أضاف البيوت إليهم إشارة إلى أنها وإن كانت من بنائهم وعمل أيديهم فالله تعالى هو جاعلها ومقدرهم عليها. قوله تعالى: (وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ). استحقاقها يوم للإقامة لأن بيوت الشعر ليس في خبرها كلمة خلاف بناء البيوت بالحجر وبيوت الفحم، وأهل الحجاز إنما هي من الجلود وهي أحسن من الشعر. قوله تعالى: {وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ ... (81)} قيل: إن المعطوف محذوف للدلالة أي البرد والحر. ابن عرفة: ويحتمل أن يقال: إن المانع من الشيء مانع من نقيضه وهكذا قال ابن الحاجب: في كتابه عن هذا القياس من مختصره الأصلي ما نصه: وإن كان وجوده ينافي وجود المناسب، لم يصلح عدمه مظنة نقيضه؛ لأنه إن كان ظاهرا يقين نفسه، وإن كان خفيا فنقيضه خفي ولا يصلح الخفي مظنة الخفي. قال ابن عرفة: فقد يقال إن نقيض الخفي إنما هو على نحو إذا فهم أن العلم بأحد النقيضين يستلزم العلم بالآخر، والحر نقيض البرد والعلم به وبما بقي منه يستلزم العلم

(82)

[بما*] بقي من البرد، وعدم العلم بأحد النقيضين يستلزم عدم العلم بالآخر ولهذا إذا جهل أحد النقيضين جهل الآخر، وأجاب ابن عطية: بأن ذكر أحدهما يدل على الآخر. قال: ومنه قول الشاعر؛ [وما أدري إذا يممت أرضا ... أريد الخير أيهما يليني*]. (فَإِنْ تَوَلَّوْا ... (82) .. إما ماضي، أو مضارع حذف منه حرف المضارعة إن قال: (تَوَلَّوْا ... (82) قوله تعالى: (فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ الْمُبِينُ). قال الزمخشري: هذا من إقامة السبب مقام مسببه. قال ابن عرفة: بل من إقامة سبب السبب مقام السبب لأن التكليف بالتبليغ سبب في التبليغ بالفعل والتبليغ بالفعل سبب في الخروج من العهدة وعدم العتب فكأنه يقول: (فَإِنْ تَوَلَّوْا) فلا عتب عليك لأنك لم تكلف إلا بالتبليغ وقد بلغت. قوله تعالى: {يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا ... (83)} [ ... ] منه أن كفرهم عاد؛ لأن معرفتهم النعمة من حيث إضافتها إلى الله يستلزم معرفتهم الله، فأنكروا ما عرفوا إذ [لَا يقال*] عرفت دار زيد إلا إذا عرفت زيدا، وأجيب: بأن المعرفة تتعلق بالنسبة ولذلك يتعدى إلى مفعولين فأفاد نفس النعمة مطلقا لا من حيث نسبتها إلى الله وإن كانت في نفس الأمر من الله وإنهم أنكروا نسبتها إلى الله فلم ينكروا ما عرفوا فليس كفرهم عنادا والعطف يتم لبعد ما بين منزلة النعمة وإذكارها لا من حقها الشكر عليها. قوله تعالى: (وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ). إما أن المراد كلهم أو ذلك باعتبار من سيؤمن منهم أو بالنسبة إلى صغارهم لأنهم ليسوا كافرين، قاله الفخر يصرح بنسبة إليه وإن علم أن قوله تعالى: (وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (84) .. أي لَا يجدون من يزيل عنهم العتب واللوم، يقال: عتبته إذا خاطبته بالعتب واللوم وأعتبت إذ أنزلت عنه العتب وهو رضا بقوله تعالى: (يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا)، وأجيب بوجهين: الأول لابن عطية، أنها في أول الأمر تجادل ثم يؤتى بالشهود عليها فلا يقبل منها مجادلة، الثاني: قال

(89)

بعض الطلبة: قوله تعالى: (لَا يُؤذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا) خاص بالكفار وقوله تعالى: (يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ) عام فيكون مخصوصا بهذه الآية وباق على عمومه في المؤمنين والمؤمنات، قيل: منهم المجادلة عن أنفسهم لإيمانهم. قوله تعالى: {وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلَاءِ ... (89)} قال ابن عرفة: انظر هل هذا من عطف الخاص على العام أو من عطف الشىء على ما يغايره أو يخالفه، وهو الظاهر وعلى هذا يكون المراد بقوله: (فِي كُلِّ أمَّةٍ شَهِيدًا) الشهادة في الدار الآخرة، [وبقوله*] (على هؤلاء شهيدا)، الشهادة في دار الدنيا؛ لأن الشهادة مطلقة، ويراد بها أحد معنيين إما [التحمل*] وإما أداؤها فدخل في عموم قوله تعالى: (فِي كُل أُمَّةٍ شَهِيدًا) أو المراد وجئنا بك رسولا؛ لأن الشهادة في دار الدنيا من لوازم الرسالة. قال ابن عرفة: ويكون هذا الشكل الأول مشتملا على كبرى وصغرى والصغرى فيه مؤخرة فكأنه يقول أنت رسول وكل رسول شهيد على أمته يوم القيامة فيصح أنه هو شهيد على أمته يوم القيامة. قوله تعالى: (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ). وإنما قال نزل ولم يقل أنزل لأجل أن البيان به إنما وقع شيئا بعد شيء وقد تقدم أن نزل يقتضي التفريق. قوله تعالى: (وَهُدًى وَرَحْمَةً). ابن عرفة: الهدى والرحمة راجعان إلى الأمور الاعتقادية والسياق فإن أظهر في الأمور التكليفية والشرائع فهلا أخر في الذكر، وأجيب: بأن هذا من عطف خاص على العام أو لأن المخاطب النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وليس هو محتاج إلا نشر التكاليف والشرائع فقدم الأهم عليه. قوله تعالى: (لِلْمُسْلِمِينَ). متعلق (بُشْرَى) فقط لأن الكتاب هدى ورحمة للجميع وبشارة خاصة بالمسلمين وهو للكافرين نذير، وفي الآية أدلة منها أنها تدل على أن السعة ليست مبينة للقرآن لأنها داخلة في عموم شيء فهو مبين بها ولغيرها فلو كانت هي مبينة له يلزم الدور، وأجيب: بأن القرآن على الجملة مبين لجملة السنة وبعض السنة مبين لبعض القرآن ومنها أن فيها دليلا على بطلان العمل بالقياس لأنه ما من صورة مثبتة بالقياس ألا أن القرآن مبين بها لقوله تعالى: (تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ) فلَا يصح إثبات الحكم فيها

(90)

بالقياس لأنه قياس في معرض النص، ورد هذا بأن القرآن بين الحكم فيها بواسطة القياس لأنه بينه من غير قياس بدليل إما نحو كثيرا من المسائل ليس فيها نص منها أن فيها دليل على صحة العمل بالقياس لأنه (تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ) ومن جملة ذلك الإجماع والقياس. قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ ... (90)} قال العدل: هو الواجب لأن الله تعالى يدل فيه على عباده فجعل ما فرضه عليهم وأنها تحت طاقتهم. قال ابن عرفة: هذا اعتزال على مذهبه، وأما نحن فمذهبنا جواز تكليف ما لَا يطاق واختلفنا في وقوعه، فقال الفخر في المعالم: إنه واقع والصحيح عدم وقوعه ومذهبنا أنه لَا حسن ولا يصح وإن جميع الكائنات من خير وشر بالنسبة إلى الله تعالى لكنه بتكليف ما لَا يطاق، وإن كان منجيا فهو من الله حسن وعدل في خلقه. قوله تعالى: (وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى). قال ابن عطية: وهذا عام يتناول الإتيان بالقليل والكثير فلا يحصل الخروج من العهدة إلا بإعطاء الشيء الكثير، وقال الشيخ عز الدين: إن القربى هنا المراد بهم وهي المحارم فهم الذين أمر الإنسان بمواساتهم والإنفاق عليهم وإنما ابن عمه وابن خاله فليس منهم. قوله تعالى: (وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ). ابن عرفة: الفحشاء هو كل ما يتستر الإنسان به غالبا من المعاصي كالزنا والسرقة ونحوها والمنكر ما لَا يتستر به غالبا فالغيبة والحرابة [والغصْب*] ويحتمل أن يراد بالفحشاء الحرام وبالمنكر المكروه لأنه من قسم ما لن يؤذن في فعله وهذا فهو الأظهر فإِنهم قالوا العدل هو الواجب والإحسان هو فعل المندوب فيكون هنا طباقه ويجيء في الآية طباق خمسة لخمسة يطابق بأمر ينهي والباقي بالعدل يعني في قوله: (عَنِ الْفَحْشَاءِ) لأن الباء [للإلصاق*] أو للمصاحبة، وعن المزاولة، أو للمجاوزة وذلك عند [الإنصاف*] والعدل يطابقه الفحشاء والإحسان يطابقه المنكر (وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى) يطابقه البغي، قال وهذا أكثر ما ينتهي إليه المطابقة، قال ابن مالك: والطباق يكون في اثنين باثنين كقوله تعالى: (فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا) وقال الشاعر: [فيا عجباً كَيفَ اتّفقنا فَناصحٌ ... وَفيٌّ ومطويٌّ على الغِل غَادِرُ*]

(91)

فطابق الناصح الوافي بالمطوي الغادر ويكون في ثلاثة مثلا كقول الشاعر: وإن هبطا سهلا أثارا عجاجة ... وإن علوا حزنا تشظّت جنادل يصف حماراً وأتانا، فطابق هبطا بعلو وسهلاً بحزنا وأثارا بتشظت. وقال الآخر: ما أحسنَ الدين والدُّنيا إذا اجتمعا ... وأقبحَ الكفر والإفلاس بالرجلِ ويكون في أربعة بأربعة، كقوله تعالى: (فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى (10). وتكون في خمسة بخمسة وهو غاية ما وجد منه كقول المتنبي: أزورهمْ وظلامُ الليلِ يشفعُ لي ... وأَنثني وبياضُ الصبحِ يُغْري بي قوله تعالى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ ... (91)} .. انظر هل الوفاء بمقتضى الزيادة على أم اختلفوا في قوله تعالى: (وَأَوْفُوا الْكَيلَ إِذَا كِلْتُمْ) هل تجب الزيادة السبب [ ... ] على القدر الواجب لأنها مما لَا يتصل إلى الواجب إلا به، وكذلك اختلفوا في الزيادة على المرفقين في غسل الذراعين، قال ابن أبي زيد: فليس بواجب إدخالهما فيه، وإدخالهما فيه أحوط لزوال تكلف التجديد، فإن قلت: ما فائدة قوله: (إِذَا عَاهَدْتُمْ) فالجواب: إن قوله (وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ) جواب: إذا ولو قيل إذا عاهدتم فأوفوا بعهد الله لكان كلاما مفيدا لَا سؤال فيه. قال ابن عرفة: ومن حلف بعهد الله وحنث لزمته كفارة يمين بالله. وفي كتاب ابن المواز، وهو قول ابن المواز ونقله ابن رشد عن ابن القاسم: أنه إن قصد بعهد الله التوثيق به فهو أعظم من أن يكفر باليمين الغموس. قوله تعالى: (وَلَا تَنْقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا). هل المراد به الحنث مطلقا أو الحنث من غير كفارة وهو الظاهر، وقال القاضي عياض في الإكمال في حديث النخامة في المسجد وكفارتها دفنها، قال القاضي: قوله كفارتها دفنها لَا يريد به الكفارة الواقعة للإثم؛ إذ لم يكن هناك إثم ولا يريد بالكفارة رفع ما يتوهم، قال ابن عرفة: يريد أن الإثم إنما يترتب عن درء الكفارة لَا عن مجرد الحنث في اليمين، وقال الشيخ أبو الحسن اللخمي في كتاب [الأيمان*]: إن الحنث على

(92)

خمسة أقسام واجب وحرام ومستحب ومكروه ومباح فيجيب إذا حلف على فعل ما لا يجوز له في فعله ويحرم إذا حلف أن يفعل ما يجب عليه شرعا. قوله تعالى: (وَلَا تَنْقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا). يقال أكدوا، وكذا قال الزجاج: الهمزة بدل من الواو، ورده ابن عطية: بأنه ليس في وجوه تصريفه ما يدل على ذلك، قلت: لقول ابن عصفور في معربه الهمزة لَا تبدل من الواو المفتوحة قياسا وشذ قولهم [ ... ]. قوله تعالى: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا ... (92)} ابن عرفة: أكثر ما يتأتى هذا في الصوف واختلفوا هل كان هذا ووجد فقيل وجد في امرأة صماء واسمها ريطة بنت سعد، وقيل: في امرأة اسمها عطية، وقيل: هو ضرب مثل لَا عن امرأة معينة وقصد تشبيها بوجود بالمعدوم المقدر الموجود ونص ابن مالك: على أن هذا إنما يصح فيما هو مشهور وإن كان معدوما كقول امرئ القيس: ومسنونةٌ زرقٌ كأنيابِ أغوالِ لأن القول مشهور عند العرب وإن لم يوجد بخلاف قولك هذا كبحر من زئبق، ويحكى عن بعض المجانين أنه كان يصنع أشياء عجيبة فإذا أكملها يفسدها [فأمره بعض الملوك بصنع*] ذلك لكونه أحسن أهل زمانه، وأمر رجلا يرصده فإذا رآه قارب إكمال صناعته حال بينه وبينها. قوله تعالى: {وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ ... (93)} هذه صريحة في الرد على المعتزلة في خلق الأفعال في آدم، وقال الزمخشري: في قوله تعالى: (وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) إنها رد على الجبرية القائلين: إن الخلق مجبورون على الأفعال وأنهم كحركة المرتعش. ابن عرفة: واختلف النَّاس في المباح هل تكتبه الحفظة ويتعلق فيه السؤال أو لا؟ وعموم الآية تدل على أنه يسأل عنه ويكتب لأن ما إن كانت موصولة بمعنى الذي فهي عامة لأن الذي معرف بالألف واللام وهذه بمعناه وإن كانت مضافة فيعم بالإضافة كما أعم بها قوله تعالى: (يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُم) وهذا مذكور في قوله تعالى: (مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ). قوله تعالى: {فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا ... (94)}

(95)

قلت لابن عرفة: قوله بعد ثبوتها مع أن قوله فتزل قدم يعني عنه، فأجاب بوجهين الأول: إنه مبالغة في التنفير عن ذلك، الثاني: إن الواقف [المعتمد*] على أحد قدميه لا يقع إلا إذا زالت قدمه التي اعتمد عليها، وأما إذا زالت الأخرى فلا يقع فهو إشارة إلى أنهم زالوا عما كانوا ثابتين عليه معتمدين. قوله تعالى: {وَلَا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا ... (95)} ابن عرفة: الثمن في الاصطلاح مشترى به لَا مشترى فكذلك جعل الزمخشري (تشتروا) بمعنى تستبدلوا [بِعَهْدِ اللَّهِ*]. قال الزمخشري: [هو إتيان*] البيعة، لأن قوما من أسلم بمكة أحبوا أن ينقضوا ما بايعوا عليه النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فثبتهم [الله*]، وقال ابن عطية: المراد به ما عهد الله بعباده من النهي عن الرشاء وأخذ الأموال على فعل ما يجب على الأخذ، ورده ابن عرفة: لكن هذا أعم يتناول ما قال الزمخشري وغيره: فالحاصل أن المراد بها النهي عن فعل ما يجب تركه أو النهي عن ترك ما يجب فعله. قوله تعالى: (ثَمَنًا قَلِيلًا). يريد باعتبار كميته وحاله فقد يكون كثيرا في كميته وحقيرا في [حاله*]، وهو جميع عرض الدنيا. ابن عرفة: وهذا النعت تقليل إن كان للبيان ولإزالة الاشتراك فيلزم المفهوم وهو أنه قد يكون ما يشترونه بعهد الله ثمنا كثيرا فلم ينهوا عنه وإن لم يكن كذلك لمجرد التأكيد قال: وأجيب بأنه للبيان ومنع من المفهوم. قوله تعالى: (إِنَّمَا عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيرٌ لَكُم). من كل ما سواه وخير هنا فعل أو أفعل وعلى كل تقدير فلا يلزم منه مفهوم. قوله تعالى: [(مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ*] ... (96) .. عبر عنه بالفعل لأن انتفاءه وهو التغير والزوال والبقاء صفة ثبوتيه دائمة زمنين فصاعدا فناسب التغيير منها بالاسم. قوله تعالى: (وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ). قلت لابن عرفة: لما عبر عنهم بالفعل وهم ثابتون على حالتهم فقال: تثبيتها على سعة رحمة الله تعالى، وإن من اتصف بمجرد الصبر زمنا ما فله أجره. قوله تعالى: (بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ).

(98)

قيل: هو راجع لعملهم أو لجزائه فهل المراد يجزيهم بجزاء أحسن عملهم أو بأحسن جزاء عملهم والباء على هذا للتعدية أو [للإلصاق*] أو المراد أنهم يجازون على أحسن عملهم ويبقى ما دونه مسكوتا عنه والباء على هذا للسبب وفي الآية دليل على أن الترك فعل لأن الصبر هو حبس النفس إما على المؤلمات والمشاق فهو فعل أو عقبها على الملائمات فهو ترك وسمى في الآية جميع ذلك عملا. قوله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ ... (98)} أي إذا أردت أن تقرأه، الزمخشري: [وعبر عن إرادة الفعل بالفعل لأن الفعل يوجد عند [القصد والإرادة بغير فاصل وعلى حسبه، فكان منه بسبب قوىّ وملابسة ظاهرة*] (¬1). ابن عرفة: أراد أن الإرادة لَا تكون إلا مقارنة للفعل ولا تكون سابقة عليه، وهذا في الإرادة الحادثة بإتقان منا ومنهم وإنما بخلاف بيننا في إرادة الله تعالى، قيل لابن عرفة: قد يريد اليوم أن يقوم [ ... ] فقال هذه تسمى عندنا وعندهم شهوة [وليست*] بإرادة، قال: لأن الإرادة هي التخصيص والتخصيص لَا يكون إلا بوجود المخصص وأما الشهوة فهي الليل ولهذا تجد المريض بالحمى مشتهي البطيخ ولا يريد أن يأكله لأنه يضر به حسبما ذكر ذلك قاله إمام الحرمين في الشامل. قال الزمخشري: وعن ابن مسعود: قرأت على رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقلت: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم فقال لي: "يا ابن أم عبد قل أعوذ بالله من الشيطان الرجيم هكذا أقرأنيه جبريل عن القلم عن اللوح" قال ابن عرفة: المناسبة عن اللوح عن القلم، قلنا: إنما قال الزمخشري ما تقدم فقال: يحتمل أن يكون وجهه أن جبريل كتب ذلك من اللوح المحفوظ في صحف ونزل بها إلى سماء الدنيا ثم كان يخبر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بما في تلك الصحف، وقوله: "يا ابن أم عبد" يعني هو بذاته لأن اسمه عبد الله بن مسعود، وقال ابن عرفة: وفي لفظ القرآن خلاف قيل إنه اسم للكل مثل غيره بالنسبة إلى أجزائها، وقيل: إنه يصح أن يطلق على بعضه قرآنا فيكون كالماء ونحوه من أسماء الأجناس ¬

_ (¬1) العبارة في المطبوع مضطربة، والتصويب من (الكشاف. 2/ 633).

يصدق على القليل والكثير على حد السوية ليكون متواطئا، وقال ابن رشد: الصحيح الأول لنهيه صلى الله عليه وعلى آله وسلم عن السفر بالقرآن إلى أرض العدو مع أنه كتب على هرقل بقوله: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ). ابن عرفة: وهذا الأمر عام في الأشخاص لإجماعهم على أنه يتناول كل قارئ والعام في الأشخاص قيل إنه عام في الأزمنة والأحوال، وقيل إنه مطلق فيهما فعلى الأول يومي المصلي بالاستعاذة والمشهور من مذهبنا منع ذلك في الفريضة وطلبه في النافلة والخلاف المتقدم ذكره القرافي، والشيخ عز الدين، وابن دقيق العيد في شرح العهدة في حديث النبي عن استقبال القبلة لبول أو غائط مع حديث ابن عمر وفيه أنه وجد النبي صلى الله عليه وآله وسلم على بول أو غائط مستقبلا بيت المقدس مستدبراً القبلة، قال: اختلفوا في العام في الأشخاص إلى آخره، قيل لابن عرفة: وحكي ابن بريدة في هذا الموضع من تفسيره أن في المجموعة قولا بأنه يتعوذ في الصلاة بعد الفاتحة وقبل السورة. ابن عرفة: وهذا غريب، قيل: وأظن أن ابن العربي حكاه كذلك، وقد قال ابن الحاجب: ولا يتعوذ ولا يبسمل، وله أن يتعوذ ويبسمل في النافلة، قال ابن عبد السلام: فإن قلت: عموم فإذا قرأت القرآن فاستعذ يتناوله فهلا قلتم يتعوذ في الفريضة؟ قلنا: قد نقلت لنا قراءة رسول الله عليه وعلى آله وسلم في الصلاة ولم يذكر منها استعاذة فيكون ذلك مخصصا للآية. ابن عرفة: لَا يصح تخصيص عموم القرآن إلا بلفظ ورد منصوصا عليه في السنة أو تابع المنصوص عليه كالمفهوم وأما هذا فلم يرد فيه نص ولا هو تابع والأصل عدم التخصيص. ابن عرفة: ويتناول هذا الأمر بالتعوذ من يقرأ آية استعاذة كقوله تعالى: (وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ (97) وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ (98). لأنه يصدق عليه أنه قارئ القرآن. ابن عرفة: وفي الآية سؤال وهو أن الاستعاذة من الشيطان إنما يطلب حيث يتوهم حضوره، وهو عند إرادة القراءة إذا [تأهب*] ولولا ذلك لوسوس ومنع منها يستعاذ منه عند القراءة، وأجاب: بأنه قد جاء أن كل حرف بعشر حسنات كما قال: "لَا أقول (الم)

(99)

[حَرْفٌ، وَلَكِنِ الْأَلِفُ حَرْفٌ، وَاللَّامُ حَرْفٌ، وَالْمِيمُ حَرْفٌ"*] فهو لرؤيته ذلك وعمله بحصول هذا الخير العظيم يوسوس القارئ ويبعده عن القراءة فلهذا أمر بالاستعاذة منه. قوله تعالى: {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا ... (99)} أي ليس له عليهم حجة في الآخرة، وقوله: (إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ) أما ليس لك عليهم تسلط في الدنيا، أو لَا حجة لك عليهم في الآخرة، وقوله تعالى: (إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ ... (100) .. وهم عصاة المؤمنين والمشركين [ ... ] المشركين حقيقة وأهل الكتاب لقولهم الله ثالث ثلاثة، وقول اليهود عزير ابن الله، والنصارى المسيح ابن الله. قوله تعالى: {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ ... (101)} قال ابن عرفة: كان الشيخ أبو عبد الله محمد الأيلي يحكي أنه جرى ذكر الآية في مجلس الأمير أبي الحسن، قال: واختلفا في معناها وحدها ما هو، فقال بعضنا هو الكلام المستقل وقال بعضنا هي العلامة وقيل: [ ... ] ولنا على غير شيء، وابن عرفة: والصحيح أنها توفيقية فما عدها من الشارع بدليل أن القراء ذكروها وعدوها، وقالوا إن عدها مكان آية وآية الكرسي وآية الدين وقيل: هذا ليس للنظر فيه محال قال ابن عرفة: وهذه الآية نص في جواز النسخ، واستدل الفخر في المحصول بقوله تعالى: (مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا) وأجابه سراج الأرموي: بأن ملزومية الشيء للشيء ما يدل على وقوعه ولا إمكان وقوعه. ابن عرفة: وهذا كقول المنطقيين بأن القضية الشرطية قد تكون صادقة وجزاءها [كاذبا*] كقوله كلما كان الشيء متحركا كان [ساكنا*] اجتمع النقيضان فهو [حق*] والجزاء الأول كاذب، ويفهم قوله تعالى: (قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ) ورد عليه شمس الدين الجزري: بأن القصد في قوله تعالى: (مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ) المدح، والتمدح إنما يكون بالممكن الواقع ل

(102)

بالمحال، والتحقيق في هذا أن المدح دال على جواز النسخ وإمكانه فقط، لَا على وقوعه، كما يقول فلان قادر على أن يعطي ألف درهم وإن لم [يعط*]. بالفعل. قوله تعالى: (قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ). هذا إضراب انتقال قال ابن عطية: إما أن المراد أقلهم عاملون معاندون وإما أن أقلهم شاكون. قيل لابن عرفة: الشاك غير عالم فكلهم إذا لَا يعلمون فقال ابن عرفة: أراد أن معنى الآية بل أكثرهم مصممون وأما الشاكون فليسوا بمصممين على الكذب فيجوز في لفظ لَا يعلمون وأرادوا به التصميم على الكذب. قوله تعالى: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ ... (102)} لفظ الرب هنا دليل على صحة مذهب أهل السنة في أن بعثة الرسل محض تفضل من الله عز وجل، قلت لابن عرفة: هل فيه دليل على أن جبريل هو الذي نزل به من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا فقال: لَا بل يحتمل أن يكون أنزلته معه ملائكة أُخر. قوله تعالى: (بِالْحَقِّ). أي مصاحبا للحق وهو حال من ضمير القرآن المتصل بـ ينزل. قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ لَا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ ... (104)} ابن عطية: مخصوص بمن آمن منهم. ابن عرفة: أراد أن المؤمنين عام فلذلك خصصه، لكن تقدم في علم المنطق أن القضية على قسمين مطلقة ودائمة نحو كل كاتب محرك يده دائما فهي كاذبة وكذلك هي في الآية إن قلنا معناها إن الذين لَا يؤمنون بآيات الله لَا يهديهم الله ما داموا كافرين بها فلا يحتاج إلى تخصيص، لكن بقي فيه عدم الفائدة في الخبر فقد يمتنع كما منع النحويون الذاهبة جاءت صاحبها وإن قلنا ليس في الآية تقدير وأبقيناها على عمومها احتجنا إلى تخصيصها كما قال ابن عطية والله أعلم. قال ابن عطية: وفيها تقديم وتأخير والتقدير أن الذين لَا يهديهم الله لَا يؤمنون بالله ورده ابن عرفة بأن فيه الفصل بين الصفة والموصوف بالخبر وهو أجنبي، قلت له: يبقى السؤال لأي شيء قدم ما شأنه التأخير وأخر ما حقه التقديم؟ فقال: لو قيل كذلك لما أفادت الثانية شيئا لأن كل

(105)

أحد يفهم نقيضها من الأولى خلاف هذه فإن الذين لَا يؤمنون بالله قد يهديهم الله فيؤمنون فأفادت الثانية ما لم تفده الأولى، وقال بعض الطلبة: بل ورودها على هذا الشيء، قلت: في الآية حجة للمعتزلة القائلين بأن الله لم يخلق الضلال فإنه ذكر عدم هداية الله لهم بعد أن أسند إليهم الامتناع من الإيمان بلام الملك. قوله تعالى: (وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ). وليس بداخل في حكم التأكيد بأن بل هل هو معطوف على الجملة كلها كقولك إن زيد قائم وعمر خارج ولا يصح عطفه على الخبر. قوله تعالى: {إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ ... (105)} ابن عطية: (إنما) ليست للحصر حقيقة بل للمبالغة لأن كثيرا من المؤمنين يفترون الكذب، وأجاب ابن عرفة: بأن الألف واللام في الكذب المعهود، فالمراد إنما يفترى الكذب على الله، فإنها للحصر حقيقة، قيل لابن عرفة: إذا أفتى رجل نفسه تحليل ما هو عنده حرام فقال: هو مفتر على الله الكذب، ومعنى الأمر أن يقول أو يفعل ما يخالف علمه [**فنقدا لذلك]، قلت له: إذا أفتى بالمشهود في مثله، قال: هذا هو حكم الله فهل هو مفتر، إن قلنا: إن المصيب واحد فقال: لَا لأنه مقلد فكان يقول هذا هو حكم الله عند هذا القائل. قوله تعالى: (وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونْ). ابن عطية: إن قلت لم كرر هذا مع أنه مفهوم، فأجاب: بأن الكاذبين هنا صفة لازمة للموصوف فهو آكد من الأول. ابن عرفة: وهذا لَا يصح من جهة النحو، ولا من جهة الأصول فالصفة ليست لازمة للموصوف بوجه ولما النحويون فإنما فرقوا بين قولك زيد هذا القائم وبين زيد قائم، فقالوا: إن الصفة أقوى وآكد من الخبر؛ لأن قائما في قولك زيد قائم خبر محتمل للصدق والكذب والقيام في الأول صفة فما جيء بها إلا بناء على أن المخاطب موافق على معناها لَا هو ولا غيره وليس الكاذبون هنا صفة لمقدر أي هم القوم الكاذبون فقال: لم يقل أحد في القائم في قولك زيد القائم صفة لمقدر وإلا فإن يلزم عليه التسلسل فما قاله ابن عطية لَا وجه له قال: وإنما الحكمة في تكرير هذه الجملة عندي أحد أمرين إما أنه قصد التذييل ومعناه عند البيانيين أن يؤتى بجمل مختلفة الألفاظ متقاربة المعاني وإما أن الأول بلفظ الفعل وهو قوله تعالى: (إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ) فكرر بلفظ الاسم تأكيدا له بما هو أبلغ منه.

(106)

قوله تعالى: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ ... (106)} أعربه الزمخشري: بدلا من (الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ) ورده أبو حيان: بأنه يلزم عليه حصر افتراء الكذب فيمن كفر بالله من بعد إيمانه ويبقى من لم يزل كافرا وأجاب ابن عرفة: بأن هنا بناء على أن إنما للحصر حقيقة وإن جعلناها للمبالغة كما قال ابن عطية فلا يعقبه قوله (إلا من أكره). ابن عطية: إذ أطلق مكرها لم يلزمه اللخمي إن صرف تنبيه عن الطلاق لم يجب وإن صرفها إلى الطلاق لزمه، وإن ذهل عن النية فإن كان في ضيق من الزمان لم يحنث وإن كان في [سعة*] حنث. ابن عرفة: هذا مشكل لأن المشهور من مذهبنا أن الغاصب لَا يرد [الغلات*]، قال ابن عطية: وإذا أكره على [مال*] الغير، فإن كان في حلفه مصور لما له حلف لم يحنث وإلا فلا، وقال ابن بشير: إن كان الضائع كثيرا حلف من ماله يسيرا لم يحنث وإن حلف، وإن كان الضائع من ماله كثيرا حلف ولا حنث عليه. قال ابن عرفة: وإذا أكره على إخراج رجل من داره للقتل وحلف بالطلاق على أنه ليس عنده، فالمنصوص أنه إن حلف حنث إلا أن يتوعد على ذلك بالضرب إن لم يحلف وإن قيل: إن لم تحلف دخلنا دارك وأخرجناه فهو في سعة ولا إثم إن لم يحلف وإن حلف حنث وكذلك في اليمين بعموم العام والمشي إلى مكة، قال اللخمي: قيل لابن عرفة: كنت حكيت لنا عن الفقيه المدرس أبي عبد الله الرماح القيرواني أن بعض الكبار أودع عنده طعاما فطلب بعض الأعراب أخذه، فقال: ليس عندي شيء فأحلفه على ذلك بالطلاق فحلف فقال المنقول: إنه لَا يحلف فيما يرجع بلفظ النفوس وإن حلف حنث فأحرى الأموال قال فإذا أكره على الزنا فإن كانت المزني بها أمة للمكره فإن كان الإكراه ينفعه وإن كانت لغيره لم يجز له ذلك لأنه لَا يحل له القدوم على ملك غيره كما إذا أكره على أخذ مال غيره. ابن عرفة: وسبب نزول الآية أن ناسا من ضعفاء المسلمين أكرهوا على الكفر فكفروا في الظاهر منهم بلال وصهيب وخباب. ابن عطية: وإذا أكره على السجود للصنم فإنه يسجد له إن كان في القبلة وينوي السجود لله تعالى. ابن عرفة: قال له أن ينوي السجود لله وإن لم يكن الصنم في القبلة كما سجد غير المضطر وكالمسافر فإنه يصلي على دابته حيث ما توجهت به.

(108)

قوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ ... (108)} قال صاحب الإرشاد: واختلافا في الطبع ما هو [ ... ]. فمنهم من قال هو أن يختم عليه بالكفر، وقيل: هو أن يجعل عليه علامة دالة على الكفر، وأما المعتزلة فقالوا: هو أن يجعل عليه علامة من غير أن يخلق في قلبه الكفر، وفي الحديث "أنه يخلق فيه نكتة سوداء". قوله تعالى: (وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ). إن قلت: الطبع على القلب يستلزم ما سواه، فالجواب: أنه نفي بالطبع على القلب المعلوم النظر به، وبعض الضروريات وهي الأوليات تكون الواحد نصف الاثنين والوحدانيات كعلمك بشبع نفسك وبقيت المحسوسات فنفاها بقوله: (وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ) قيل لابن عرفة: الأوليات والوحدانيات أجلا من المحسوسات فإذا انتفت فأحرى أن ينتفي عنهم المحسوسات، فقال: هذا أبلغ، قلت له: ويحتمل أن يقال: الفكر القلبي مسبب عن السمع والبصر، ونفي المسبب ما يستلزم نفي السبب فلهذا قال وسمعهم وأبصارهم، قال: وأفرد السمع لأنه مصدر في الأصل منهم لا يثنىَ ولا يجمع إلا إذا اختلفت أنواعه على العموم والاشتغال بخلاف البصر فإنه ليس بمصدر. قوله تعالى: {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا ... (111)} ابن عرفة: قال ابن عصفور: إن الإضافة في قولك مررت بالرجل الحسن وجهه إنما هي عن نصب وليست عن رفع إذ لو كانت عن رفع يلزم عليه إضافة الشيء إلى نفسه لأنك إذا قلت: الحسن وجهه بالرفع فالحسن هو الوجه لأنه فاعله حينئذ يرتفع على أنه فاعل بالحسن وإذا قلت: وجهه بالنصب فالحسن هو الرجل لأن فاعله حينئذٍ ضمير عائد على الرجل فإذا كانت إضافة وجهه عن نصب لم يكن فيه إضافة الشيء إلى نفسه بل إضافة الحسن الذي هو من صفة الرجل إلى وجهه وعلى الرفع أضاف صفة الوجه إلى الوجه فهي إضافة الشيء إلى نفسه لَا يجوز فقوله تعالى: (عَنْ نَفْسِهَا) أضاف الشيء إلى نفسه خبر وفيه إشكال إذ لَا يجوز إضافة الشيء إلى نفسه. ابن عرفة: والجواب أن ابن عصفور قال: لَا يجوز تعدي فعل المضمر المتصل إلى مضمر المتصل فلا يجوز مرتني ويجوز مرت نفسي لأن الاسم الظاهر يتنزل منزلة الأجنبي مكانه قيل هنا تجادل عن غيرها قلت: وهذا الذي نقل عن ابن عصفور ذكره

(113)

في الشرح الصغير على الجمل الصغير في باب الصفة المشبهة باسم الفاعل ندبة على أبي القاسم في قوله في الوجه الحادي عشر يضاف الشيء إلى نفسه. قوله تعالى: {رَسُولٌ مِنْهُمْ ... (113)} تنكيره للتعظيم. قوله تعالى: (فَكَذَّبُوهُ). الفاء للتعقيب وللسبب بمعنى أن تكذيبهم إليه لأجل دعوة الرسالة فقط؛ لأنه كان عندهم مشهورا بالصدق والأمانة فما كذبوه إلا بسبب دعواه، والرسالة. قوله تعالى: (فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ). ابن عرفة: هذه حال مبنية لأنهم تارة يكذبونه وهم جاهلون بصحة رسالته فلا يكونون ظالمين، وتارة يكذبونه مع ظهور الدلائل الدالة على صدقه فهؤلاء ظالمون. قوله تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ ... (114)} هذا أمر امتنان ويحتمل أن يكون للإباحة إذا قلنا إن الأشياء على الحظر. قوله تعالى: (حَلَالًا طَيِّبًا). هذه حال منتقلة لصحة وجود النسخ في القرآن فيكون الشيء حلالا ثم ينسخ فيصير حراما. قوله تعالى: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ ... (115)} انظر ما تقدم في صورة العقود والأنعام. قوله تعالى: {عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ... (119)} ليس المراد الجهل المصادر للعلم، وإنما المراد به العمد [لئلا*] يلزم على الأول المفهوم، وهو أن المغفرة إنما هي لهم فقط، وقال بعضهم: بجهلهم ترتب العقوبة عليهم. قوله تعالى: (ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا). ابن عرفة: اختلفوا في القاذف إذا تاب فقيل: تقبل توبته، والمشهور إنها لَا تقبل توبته حتى تزيد حالته الثانية على حالته الأولى في الدين والصلاح ولا حجة لقوله تعالى: (وَأصْلَحُوا). قال الزمخشري: من بعدها أي من بعد التوبة.

(120)

ابن عرفة: فيكون من باب ذكر المسبب عقيب سببه كقولك: أحسن فأكرمنك. ابن عرفة: وقيل أي من بعد المعصية فيكون من باب ذكر الشيء عقيب توصيفه كقولك: أسأت إليَّ فأحسنت إليك. قوله تعالى: {وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (120) شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ ... (121)} قلت له: الأصل أن يؤتي [بالنعوت*] المفردة متوالية فلم فصل بينهما عندنا؟ فقال: لأن كونه قانتا وحنيفا وشاكرا لأنعمه متفق عليه، وكونه ليس مشركا يخالف فيه الكفار، فوسطه بينهما على [**عصمه، فيكون من عطف التسوية مالا] وأيضا [ ... ]. أمر اعتقادي [ ... ] قوله تعالى: (اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ). استفاد منه دليل على قربه لأن الجزء المعوج عند المهندسين إما بسط وقوم يصير أطول من المستقيم، وإذا كان أطول فطريقه أبعد. قوله تعالى: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ ... (123)} نقل لابن عرفة: أن هذه جرت في مجلس الأستاذ أبي سعيد بن لب بالأندلس فقال: هذه الآية خرجت مخرج الثناء على إبراهيم فلم أدخل فيها النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - ثم أجاب بأن في ذكره وأمره باتباع إبراهيم زيادة تشريف بملة إبراهيم صلى الله عليه وعلى آله وسلم وأنشد قول ابن الرومي: قَالُوا أَبُو الصَّقْر من شَيبَان قلت لَهُم ... كلا لعمرى وَلَكِن مِنْهُ شَيبَان وَكم أبٍ قد علا بِابْن ذرا شرفٍ ... كَمَا علا برَسُول الله عدنان ثم قال: ومن كلام العرب العصا من العصية فقال له بعض الطلبة: إنما نظيرها قول العامة مزبلة الحمام أكبر من الذي عملها فأنكر عليه وعمل عقد وألزم الكفر وقتل وكتب ابن جزي الأندلسي في المسألة: فما ألزمه فيها الكفر وتحامل على أبي سعيد في قوله العصا من العصية وجعله القسم الثاني في السقاء المختلفة فيه ولكن ترك أمره لشهرة أبي سعيد وتقدمته في العلم ومكانته من السلطنة. قوله تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ... (125)}

أي بالبرهان والموعظة هي الخطابة. ابن عرفة: وذكر الغزالي في [الاقتصاد*] هذه الثلاثة قال: والبرهان يخاطب به الأذكياء والخطابة يخاطب العوام لأنهم لَا يفهمون البرهان وإنما يفهمون المواعظ والجدال لا يخاطب به إلا المعاندون في الاعتقاد لأنهم لَا يرجعون عن مذهبهم بالموعظة ولم يذكر هنا العائلة لأنها ليست لكل النَّاس بل لمن لم ينفع فيه من ذلك فإن قلت قد قال عليه الصلاة والسلام: "أمرت أن أقاتل النَّاس حتى يقولوا لَا إله إلا الله" الحديث قلنا: قد تقرر في كتاب الجهاد أنهم يدعون أولا إلى الإسلام فإن لم يستجيبوا حينئذ يقاتلون، قلت: وقال الفقيه أبو العباس أحمد بن محمد بن البنا المراكشي في كتابه المسمى بالروض المريع في صناعة البديع: المخاطبات على خمسة أقسام على ما أحصيت قديما الأول: البرهان وهو الخطاب بأقوال اضطرارية يحصل عنها اليقين، والثاني: الحول وهو الخطاب بأقوال مشهورة يحصل عنها الظن الغالب، والثالث: الخطابة وهو الخطاب بأقوال مقبولة يحصل عنها استقرار في النفس الإقناع وهذه الثلاثة هي التي تستعمل في طريق الحق. والرابع: الشعر وهو الخطاب بأقوال كاذبة يحصل عنها استقرار في النفس، والخامس: المخالطة وهي الخطاب بأقوال كاذبة يحصل عنها الاعتقاد ما ليس بحق أنها حق وهذان اسمان خارجان عن باب العلم وأخلاقه في باب الجهل فالمنظوم يكون إذاً شعرا وغير شعر كما أن المنثور كذلك، وأهل العرب يسمون المنظوم كله شعرا معرض في دار في الشعر انتهى كلامه، وقال غيره: البرهان قياس مركب من مقدمات يقينية كعلمنا بأن الواحد نصف الاثنين، والجدل قياس مركب من مقدمات مشهورة كالعلم بأن العلم حسن والجهل قبيح، والخطابة قياس مركب من مقدمات منقولة وهي المأخوذة عن الأنبياء والعلماء ومن فيه زيادة عقل أو دين كعلمنا بأن إعادتنا حق وإنَّمَا مجازون بالجنة والنار ولاختلاف النَّاس أمر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أن يدعوا بالثالثة قدر العمل والفهم بدعا بالحكمة وهم الخواص ومن دونهم بدعا بالجدال والعوام [يدعون*] بالموعظة إذ لو دعوا بالحكمة لم يفهموها، [**والقياس الشعر من مركب من مقدمات تخيلية للفعل النفس] لها كتشبيه الخمر ياقوتة سيالة فرغب فيه وتشبيه العسل بقيء [فتنفر*] عنه النفس، وكذلك البيض بقوله إنه خارج من محل العذرة [فتنفر*] عنه النفس وهذا لَا فائدة فيه إلا أنه يوجب قبضا وبسطاً في النفس وأما السرقسطاني وهو المغالطي: فهو قياس مركب من مقدمات مشبهة بقضايا أوليات كقول القائل كل من

(126)

ليس في مكان وجهة لَا يدرك بحاسة البصر فيصح استحالة رؤية الله وهذه مغالطة إذ ليس من شرط الإبصار الجهة وقد سمي الغزالي هذا وأنظاره ميزان الشيطان. قوله تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ ... (126)} وإن أردتم العقابة والأمر للإباحة. قوله تعالى: (بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ). سمى فعل الجاني عما يأمن مجاز المقابلة كقوله [ ... ]: [قالوا اقترح شيئاً نجد لك طبخه ... قلت اطبخوا لي جبة وقميصا*] وقال في المدونة: فمن مثل برجل فقطع يده وجرحه إلى غير ذلك ثم قتله قال إن العلم أنه قصد الممثل به فعل به مثل ذلك والأصل فقط. قوله تعالى: {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ ... (127)} فيه رد على المعتزلة في قولهم العبد خلق أفعاله ورد على الجبرية القائلين بأن حركة العبد كحركة المرتعش وإنه قيل له: افعل بأمر لَا فعل له ودليل لأهل السنة في إثبات الكسب لأنه أمر بالصبر ثم إنه لَا صبر له إلا بالله. قوله تعالى: (وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ). أي لَا تحزن على ما سلف من قتالهم وعدم إيمانهم في المستقبل ولا تك في ضيق مما يمكرون به ويحلون فيه، فنهاه عن التأسف على كفرهم ثم عن الخوف والجزع مما سيجدون عنهم في المستقبل. فإن قلت هلا قال ولا يكن في صدرك ضيق فهو أبلغ. * * *

سورة الإسراء

سُورَةُ الْإِسْرَاءِ [وهي مائة آية وعشر آيات*] قوله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا ... (1)} قال ابن عرفة: وجه ذكر التسبيح هنا أن الباقي بعده للمصاحبة فيقتضي مصاحبة بعده في الإسراء وذلك مستحيل كما استحال في قوله تعالى: (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِم). فذكر تنزيهه عن ذلك وغيره. قوله تعالى: {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ ... (4)} قال ابن عرفة: هي دليل على صحة تكليف ما لَا يطاق ولا [يحمل*] على أنهم مخلفون بالإصلاح والإيمان مع كونه قضى عليهم بالفساد في الأرض وما قضاه وأراده فلا بد منه فهم مخلفون بالإيمان وحوطوا بأنهم سيفسدون قال: والجواب أن هذا ليس محل النزاع لأنه في المستحيل عقلا وهو الذي علم الله أنه لَا بد منه خلاف المستحيل عادة وأتى فيه بالقسم لأجل أنه مستبعد عنهم فلذلك أقسم له. قوله تعالى: {فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ ... (5)} .. ابن عطية: قرأ [الناس*] فجاسوا [بالجيم، وقرأ أبو السمال «فحاسوا» بالحاء وهما بمعنى الغلبة والدخول قسرا ومنه الحواس*] وقيل [لأبي*] السماك إنما القراءة (جاسوا) بالجيم فقال جاسوا [وحاسوا واحد*]، ابن عطية: فهذا يدل على [تخير*] لَا على رواية ولهذا لَا تجوز الصلاة بقراءته وقراءة نظرائه. قال ابن عرفة: قال الشيخ أبو الحسن اللخمي في كتاب الصلاة في فعل القراءة يجوز نقل القرآن بالمعنى تخريجا من راوية ابن وهب أنه حال مبالغة الإقراء بقراءة ابن مسعود أن (إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ (43) طَعَامُ الْأَثِيمِ) فقال الرجل: طعام اليتيم فقال ابن مسعود: طعام الفاجر أيقرأ بهذا، فقال: نعم فخرج الفخر عدم إعادة المصلي بها، وأنكر عليه المازري، وقال [**هذه وله] لأن لفظه معجز، فلا يصح بديله بالمرادف الذي في الحديث القدر بل فعل وحده وليس هذا [ ... ] مستوفيا خروج المباح منه؛ لأن المعنى أن يصدر منكم إحسان فلأنفسكم والمباح [ليس لهم ولا عليهم*] فإن قلتم نص الأصوليون على أن المباح من أقسام الحسن قلنا: هذا صحيح لكن قوله هنا (لأنفسكم) يرده؛ لأنه تنبيه على الثواب الحاصل لهم في الدار الآخرة والمباح لَا ثواب فيه، وكرر لفظ [(أحسنتم) للاستجلاء*] كقول أبي نواس:

(7)

ألا فاسقني خمراً وقلْ لي هي الخمرُ ... ولا تسقني سِرًّا إذا أمكن الجهرُ وقال ابن الخطيب؛ لعظم قدره عند الله تعالى كقوله: الحسنة بعشر أمثالها إلى مائة وأزيد والسيئة بمثلها، وأتجاوز. ابن عرفة: وهذا على جهة الأعم الأغلب وإلا فقد يحسن الإنسان لغيره؛ كمن يدعو لميت ويتصدق عنه بشيء. قوله تعالى: {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ ... (7)} قال المعبرون: المراد الوجه [خاصة*]، ويحتمل أن يريد به أشرافهم ويتناول من دونهم من باب أحرى. قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا (8)} ابن عطية: الحصير من الحصر يعني السجن، ويقال لجني الإنسان [حصيران*] [لأنهما*] يحصران جانب من هنا وجانب من هنا، وقال: [الحسن البصري*] في الآية [أراد به ما يفترش ويبسط كالحصير المعروف عند الناس.*] ابن عرفة: لَا يريد أنها ذات حصر؛ كقولك [امرأته طالق ثلاثا*]؛ [لأنها*] ملازمة الحصر لهذه، فهي متصفة به دائما خلاف المرأة [والثلاث*]، والطلاق أيضا ليس من فعل المرأة. قوله تعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ ... (9)} الزمخشري: حذف الموصول بما في إيهامه بالجميع من فخامة فقدمت مع ذكره ابن عرفة: أراد أنه حذف قصد للعموم لبقاء اللفظ صالحا لأن يكون المقدر يهدي الطريق التي هي أقوم أو للملة التي هي أقوم ولو ذكر إحداهما لكان خاصا فحذف لقصد صلاحية هدايته للجميع. قوله تعالى: {وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا (11)} ابن عرفة: عاداتهم يقولون المناسب وكان الإنسان جهولا؛ لأن من يدعو على نفسه بالشر مثل ما يدعو بها بالخير سواء جاهل أو لَا، [يسوي*] بين [العالم والجاهل*] فأما العجول، فإنما يناسب أن الإنسان يستعجل الدعاء بالخير قبل حضور أوانه. قال: والجواب أن العجلة سبب في الجهالة لأن المستعجل لَا يتأمل ولا ينظر بل يبادر إلى الشيء من غير تأمل فهو كالجاهل سواء قائم السبب مقام سببه، قلت: وهذا قال الزمخشري في قوله: (أعجلتم أمر ربكم) [يقال*]: [عجل عن الأمر إذا تركه غير تام، ونقيضه تم عليه وأعجله عنه غيره*] (¬1). قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ ... (12)} ¬

_ (¬1) العبارة في المطبوع بها اضطراب، والتصويب من (الكشاف. 2/ 161).

(15)

ابن عطية (جعل) بمعنى (خلق) لَا بمعنى (صير)؛ لأنه يلزم عليه وجودهما [قبل: ذلك*] [وأُجيب*] بالتزام ذلك، ويكونا في ثاني حال (صير) آيتين؛ ورُدَّ بأن حالتهما الأولى [**مساء]، وبالحالة الثانية إلا أن يقال: إنهما خلفاء مكتفين، وحين صيرا اثنين خلق فيهما النور [**وغير أن في كلام ابن عطية]. ابن عرفة: والآية حجة لأهل السنة على أن الكلمة أمر وجودي وأنها جواهر كثيفة واستدلوا بأنها ترى وكل ما يرى فهو وجودي، وقال المعتزلة: إنها أمر عرفي أولا فرق بين حالة الإنسان إذا فتح عينيه في الظلام وقال إذا أغلقها قاله الفخر في [**المحصل والمشهور عند الأصوليين أن العدم الإضافي لَا يصح أن يكون أمرًا للقدرة وأجمعوا على العدم المطلق به ويستقيم القول بأن العرض لما بقي وما بين الآية دليل على أن الميل أمر وجودي لأن العامل فيه خلق أو صير]. قوله تعالى: (لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ). قال ابن عرفة: إن أريد الحساب القمري [**جلون معا الفضل بالنهار] ومعرفة الحساب بالليل وعدد السنين راجع لعلم مدها ومداها والحساب واسع لجمعها وطرح بعضها من بعض وعندما قالوا العدد كمية منفصلة ذات ترتيب والحساب هو التصرف فمن العدد بالتركيب والتحليل. قوله تعالى: (وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا). قال ابن القصار في قول الشاعر: [ ... ]. لهم لاحتمال أن يكون صنع بعضهم تجعله في الرفع كالعلي وفي النصب كل الكل، وأجاب الآخرون بأن ذلك إنما هو في النفي والحكم في الثبوت على خلافه ولهذا مثل المنطقيون المبالغة الجزئية بقولك ليس كل كذا وكذا. قال ابن عرفة: فهذا إن كان قوله تعالى: (وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا) متعلقا بتعلموا معطوفا على قوله عدد السنين فلا يكون عالماً فإن معرفتنا لأنهم وإن كان راجعا لله تعالى فهو كلية فيكون عالماً؛ لأنه يعلم الأشياء جملة وتفصيلا ونحن لَا نعلمها إلا جملة فإذا رجع العلم إلينا كلا لَا كلية وهو على المجموع من حيث هو مجموع كقولك كل من عام يرفع الصخرة العظيمة. قوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (15)}

(16)

في الدنيا، واختلفوا في شكر النعم فمذهبنا أنه واجب شرعا، ومذهب المعتزلة وجوبه عقلا، وكذلك اختلفوا في النظر فمذهبنا وجوبه، حسبما تقدم في الإرشاد، والآية دليل لنا، واختلفوا هل [**جلا العقل] من سمع أو لَا، وقال في كتاب الجهاد: إن الكفار لا [**يثبتوا] حتى يدعوا إلى الإسلام وهذا يدل على أن العقل [**من سمع] وبه احتجوا في كتاب الجهاد، وأجاب المازري بأنهم عالمون بالتوحيد، الكلام فى الرسالة. ابن عرفة: وهؤلاء اليهود والنصارى يجب دعواهم لأنهم مد بكفهم التوحيد وعلموه وأما البعثة فلا، وأجاب المتعسفون بأن رسولا في الآية المراد به العقل وهذا تحريف للفظ القرآن. ابن عرفة: واختلفوا هل يشترط المعلم بالتكليف أو التمكن من العلم بالتكليف فيخرج المجانين والأطفال أو لَا يشترط ذلك والآية حجة في اشتراط ذلك، قلت: وقال الشيخ ابن مرزوق: كانت وقفاً ببلد فاس في عام أربعين وسبعمائة في مدة الأمير أبي الحسين في حين وصل إلى الجزائر الخالدات وطار لهم ووجد فيهم ناسا على شكل بني آدم ولا يفهم لهم كلاما وليسوا متشرعين فرفع عنهم جماعة إلى بلاد الأندلس فلم يفهم لهم أحد كلاما فما زالوا مقيمين ومخالطين للنصارى حتى يفهم بعضهم كلام النصارى ورجع عنهم فوجدهم لَا يعرفون النبوة ولا شيئا منها فوصل بهم إلى الأمير أبي الحسن المريني فاختلف الفقهاء حينئذ فمنهم من قال تغزى بلادهم ويقاتلون ومنهم من قال: يبعث إليهم هؤلاء الذين فهموا لغتنا منهم فيدعونهم إلى الإسلام ويخبرونهم بالشريعة المحمدية وأحكامها فإن أذعنوا لذلك وإلا قوتلوا وأخذوا ثم توفي الأمير أبو الحسن قبل الوصول إليهم وهم جوز في البحر. قال ابن عرفة: والآية على إبطال مفهوم الغاية لأنه لَا يقع التعريف بمجرد اللغة بل مع تكذيب المبعوث والغاية بحتى أبلغ منها بإلى حسبما ذكره الزمخشري: في قوله تعالى: (وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ) ولذلك قال ابن الحاجب: والعورة من الصرة إلى الركبة، وقيل: حتى الركبة. ابن عرفة، وقوله تعالى: (مَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ) ليس المراد وقوع ذلك، وإنما المراد وما يصح لنا التعذيب شرعا حتى نبعث رسولا وكذا قال الزمخشري: في قوله تعالى: (وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ). قوله تعالى: {أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا ... (16)}

(17)

فقيل أمرناهم بالطاعة ففسقوا، وقال الزمخشري: أملينا لهم وفعلنا بهم الأسباب المكثرة للرزق وصببنا عليهم النعمة صبا فجعلوها ذريعة إلى المعاصي، ورده ابن عرفة بأن فيه [شذوذ*] من وجوه أحدها إخراج لفظ الأمر من حقيقته وتكثير المضرات والمقدرات، وإقامة السبب مقام المسبب إلى غير ذلك، قال وكان بعضهم يرد عليه إلى بعض أنه يقال أمرنا المعين [أمرناهم*] بالعصيان ففسقوا؛ لأن الفسق هو الخروج، والخروج يستلزم [مخالفة الأمر*] ولا معنى للعصيان إلا هذا فقيل لابن عرفة، وما قاله الزمخشري جار على مذهبه كان على أصول الفقه حكوا في لفظ آخر خلافا هل هو حقيقة في القول المخصوص أو في الفعل، وهو مذهب أبي القاسم، والمعتزلة فقال يلزم هنا الإجمال، وقيل (أمرنا مترفيها) بمعنى كثرناهم، ومترفوها هم المنعمون أي ذوو النعمة. ابن عطية [الإمارة*]. ابن عرفة: فإن كل أحد [**ذل داره] ولعلها يحكي بها ما كان كلاما لا قولا، فالقول أعم من الكلام لصحة إطلاقه اصطلاحا على غير المفيد فلذلك قال هنا لحق عليها القول؛ لأنه إذا حق عليها ما هو أعم من المفيد وغيره فأحرى أن يحق عليها المفيد وهذا باعتبار ظهوره وبروزه لهم وإلا فقد كان لازما ثابتا لأنه قديم أزلي. قوله تعالى: (فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا). ابن عرفة: قال بعضهم: حسبوا تاريخ بغداد فوجدوه بعدد حروف تدمير أجاب أبي جاد لأن التاء أربعمائة، والدال أربعة، والميم أربعون، والباء عشرة، والراء مائتان. قوله تعالى: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ ... (17)} إنما أتى بعده لأن القضية الشرطية لَا تدل على وقوع الشيء ولا إمكان وقوعه. قوله تعالى: {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ ... (24)} قال: هذا إما أن يكون استعارة، وإما أن يراد حقيقة الإنسان، والجناح مجاز. قال الزمخشري: [إما أن المراد الذليل أو الذلول*]. ابن عرفة: فالأول: نهي عن التعصب أي لَا يتعصب عليهما وكن لهما كالفرس الذلول، والثاني: بمعنى لَا يفتر عليهما، وكن لهما كالرجل الذليل. قوله تعالى: (وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا). ذكر السهيلي حديثا أن من زار قبر والديه عد بارًّا لهما.

(28)

قوله تعالى: (وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا) نظر هل يتناول هذا ابن النفي قال: إن حملت التربية على آخر الحمل والنفقة عليه حينئذٍ فلا يتناول إلا ابن الولادة وإن حملناها على العموم فيتناوله. قوله تعالى: {وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا ... (28)} ... فيه وجهان الأول أنه من [إقامة*] السبب مقام المسبب والتقدير، وإما تعرض عنهم لاعتبارك لأن إعراضه إنما هو لاعتباره لَا [لابتغاء الرحمة*]، وإما أن في الكلام تقديما وتأخيرا أي وإما تعرضن عنهم فقل لهم قولا ميسورا [ابتغاء الرحمة من ربك*]. قوله تعالى: {وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ ... (29)} هذا تمثيل في المعنى البخل ستنتج كقول "العائد فيه كالكلب يعود في قيئه" كل ذلك ينفي عن الاتصاف بهذه الصفات، قلت لابن عرفة: ظاهر الآية النهي عن هذا البخل لأن [غل*] اليد إلى العنق هو النهاية وإنما كان يتناول مطلق البخل لأنه لو قيل: لا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك، فقال بل يتناول مطلق البخل، وشبهة بغل اليد إلى العنق استقباحا للبخل قلَّ أو أكثر. قوله تعالى: (وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ). يتناول النفقة المحرمة أصلا؛ كشراء الخمور، والمحرمة بعارض كشراء [**الخمور بدينار كبير]. قوله تعالى: (فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا). ابن عرفة: هذا لف ونشر فاللوم راجع إلى البخل لأن الإنسان يلام على عدم النفقة، ولم يقل مذموما ليتناول ذلك النهي عن البخل بالواجب، وبغيره، وقوله محسورا راجع إلى النهي عن بسط اليد؛ لأنه إذا بالغ في بسطها يقل درهمه ورزقه ويتغير عليه فيبقى محسورا. قال ابن عرفة: وانظر قال في سورة تبارك الفرقان: (وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا) وإن كان بين ذلك قواما فبدأ هنالك بالسرف في النفقة وهو بسط اليد، وبدأها هنا بالبخل. قال ابن عرفة: وعادتهم يجيبون أن سورة الإسراء مشتملة على جملتين اقتضاء النهي والأعم والأغلب في البخل والشح فهو أحق وهم بأن تقدم النهي، فقدم نفي ذلك لأنه هم هنالك والآية خرجت مخرج المدح دليل مقدم فيها ما سواهم في المدح،

(30)

وهو نفي السرف عنهم لأنه علم من حالهم عدم البخل لأن الكلام إنما هو في المنفقين. ابن عرفة: ولو قيل إذا انفقوا لم يقتروا ولم يسرفوا لكان الجواب غير الشرط كقولنا إذا لم يبخلوا لم يبخلوا فلا يكون فيه فائدة. قوله تعالى: {لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ ... (30)} أي لمن يشاء بسط الرزق له، وقال ابن عطية: لمن يعلم أن في بسط الرزق العقليين عندهم وأمَّا عندنا فالحسن والقبح شرعيان لَا عقليان. قوله تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ ... (31)} وقال في سورة الأنعام (وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ) فقدم هنا ضمير الأولاد وأخره في الأنعام فما السر في ذلك. ابن عرفة: أجابوا بأن المخاطب هنا من عزم على قتل ولده في حال غناه خشية أن يصير بإنفاقه عليه فقيرا والمخاطب في سورة الأنعام هو من عزم على قتل ولده في حال فقره وإملاقه ... عياله والأعم الأغلب المشاهد من النَّاس أن إلا [49/ 237] قيل: نزول البلاء بأنه يفضل أولاده وأحفاده على نفسه ويودان أن يكون فاداهم فيما يؤمهم وينزل بهم فإذا رأى البلاء عيانا وحل به لم يفضل أحد على نفسه إنما يجب خلاص نفسه منه دون أحب النَّاس إليه ولا يحب إلا نفسه هذا في كل آية بما هو الأهم فيها ففي سورة الأنعام الأهم عليهم أنفسهم لأنهم فقراء قد ذاقوا ألم الفقر والإملاق فلذلك قيل فيها نحن نرزقهم وإياهم وهنا الأهم عليهم أولادهم لأنهم أغنياء لكن خافوا الفقر. قوله تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا ... (32)} [**الزنا عند مالك وأبي حنيفة]، فإن قلت: [لم نهى*] عن قربه دون قرب القبل؟ قلنا: لأن الزنا له مقدمات كالقبلة والملامسة وهي كلها محرمة فنهى عن قربه ليتناول النهي عن المقدمات، قلت: والنفس تدعوا إلى هذه المقدمات من الجانبين، ومقدمات القبل ضيقة؛ لأن المقتول يدافع عن نفسه، فإن قلت: ما فائدة قوله تعالى: (إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً) مع أنه إن كان تعليلا عقليا كان حجة المعتزلة في أن أفعال العبد معللة وأن الزنا قبيح عقلا، وإن كان شرعيا لزم تعليل الشيء نفسه لأن يكون المعنى لَا تقربوا الزنا لأنكم لَا تقربوه [**وأقضيكم عن قربه لأنكم قضيتم] عنه لأن صحته لم تثبت إلا من جهة الشرع، فالجواب أنه يكون هذا إشارة إلى أن تحريمه ثابت في الشرائع المتقدمة لأن

(33)

الملل كلها أجمعت على وجوب حفظ الأنساب فالمراد أن النهي عن الزنا ليس هو خاصا بكم فلا تقربوه فإنه لم يزل فاحشة في شرع من قبلكم من الأمم. قوله تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ... (33)} المراد به الجهاد والحرابة والقصاص. ابن عرفة: والمرتد يحد فيه ويستتاب، والزنديق يقتل ولا يستتاب، والمحارب إذا قدر عليه الحد صبرا واختلف في قتله بخلاف قتله حال الحرابة فإنه متفق عليه عندنا. قوله تعالى: (فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ). يحتمل وجهين أحدهما عود الضمير في يسرف على ولي القتيل، فالمراد أنه لا يمثل به بعد قتله، وفى هذا على بابها من الطرفين، الوجه الثاني: أن الضمير عائد على القاتل، أي: فلا يسرف من أراد قتل شخص والتعدي عليه في قتله أي لَا صلة [**بسرفه]، وفي هذا للسبب أي فلا يسرف بسبب قتله. قوله تعالى: (إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا). أو لم يزل كذلك. قوله تعالى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ... (36)} قال ابن عرفة: الوجود على ثلاثة أقسام: وجود في الأعيان، ووجود في الأذهان ووجود في اللسان، ومنهم من يعبر عن هذا الثالث بقوله وجود في البنان والوجود والقياس يكون [علما وظنا*] فكأنه يقول لَا تكلم إلا بالعلم، ففيه دليل على [إعمال القياس*] لأنه إنما يفيد الظن لأنه قسمان قياس في الأمور الشرعيات، وهي ظنية، واتفقوا على أنه يفيد الظن، وقياس في العقليات بالجوامع الأربعة وهي العلة والدليل والشرط والحقيقة، فالعلة لتحقيق العالمية في الشاهد، إنما هو يعلم فكذلك في الغالب والدليل كالأثر في الشاهد يدل على مؤثر فكذلك في الغائب والشرط كالحياة هي في الشاهد شرط في وجود العلم فكذلك في الغائب والحقيقة كالإرادة فإنها في الشاهد عبارة عن التخصيص فكذلك في الغائب. ذكره التلمساني في المسألة الثالثة من الباب التاسع والمشهور عن المتقدمين أنه يفيد القطع وأما المتأخرون فأطبقوا على أنه إنما يفيد الظن لأنه قد تعرض بشبهة أو في شيء فيمدح فيه وقوله تعالى: (وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) ابن عرفة: عموم الآية مخصوص بالمباح لأنه لَا يتناوله النهي. قوله تعالى: (إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ).

(37)

هذا مجاز أولا يسأل هؤلاء فإن قلت: هل يدل على أن العقل في القلب قلنا: قد تفرد في أصول الدين بأن العقل علوم ضرورية فلا يقال للقلب عاقل، وإنَّمَا العاقل صاحبه. قوله تعالى: (كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا). قيل: إن اسم كان عائد على كل والمجرور نفسه عائد على ما من قوله ما ليس به علم، وقيل: إن اسم كان عائد على ضمير المخاطب بقوله تعالى: (وَلَا تَقْفُ) على الالتفاف والضمير في عنه عائد على كل. قوله تعالى: {مَرَحًا ... (37)} حال، وقيل: مفعول من أجله، قال أبو حيان: ولا يظهر ابن عرفة لأن المرح إنما هو حالة الشيء وإذا جعلته مفعولا من أجله كان سابقا على الشيء غير مقارن له. ابن عرفة: فإن قلت: لم أفرد أمر الإشارة؟ قال: عادتهم يجيبون بأنه إشارة إلى كل واحدة على انفرادها، فإفراده أبلغ في الذم فهو كلية لَا كل. قوله تعالى: {ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ ... (39)} انظر هل [مِن*] للتبعيض [أو للبيان*] الحقيقي، والحكمة وضع الشيء في محله، وهل يشترط كونه أنسب من غيره، وإنما يشترط مناسبته فقط الظاهر الأول. قال الزمخشري: هذا [وسماه حكمة لأنه كلام محكم لا مدخل فيه للفساد بوجه*]، وقال ابن عطية: الإشارة بذلك إلى هذه الآداب التي تضمنتها هذه الآية أي هذه من الأفعال المحكمة التي [تقتضيها*] حكمة الله في عباده وخلقه لهم محاسن [الأخلاق*] والحكمة قوانين المعاني المحكمة، والأفعال الفاصلة. قوله تعالى: (مَلُومًا مَدْحُورًا). إن قلت ما مناسبة اللوم هنا مع أن العذاب يكفي الذم مدحورا فمناسبة لأن معناه مدفوعا، وأما اللوم فلم قال؟ فالجواب: أنهم لما كذبوا بعد ظهور الدلائل الواضحة والمعجزات على يدي الرسل يعذبون على كفرهم ويلامون على ما لديهم ولا يقبل لهم معذرة. قوله تعالى: {أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ ... (40)} كان بعضهم يقول هذه الآية دليل على أن ارتباط الدليل بالمدلول عقلي لَا عادي وفي المسألة أربعة أقوال، وأجيب بأن هؤلاء لم ينظروا النظر التام ابتدأ في المقدمتين

(41)

ولو استوفوا النظر لظهر لهم الحق واستحال كفرهم أو تقول إن بعضهم لم يستوف شرائط النظر. قوله تعالى: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ ... (41)} قال بعضهم [في*] زائدة [ ... ] هذا القرآن لأنه كله مصرف، ورده ابن عرفة: بأنه إنما نسخ منه آية الأحكام، [**ونصا آية الأخبار والقصص والتوحيد فليس مصرفة] فصح أن التصريف إنما هو في بعضه وليس بعام فيه. قوله تعالى: {قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ ... (42)} قال ابن عطية: في دلالة التمانع أنهما إما أن يتفقا أو يختلفا، فإن اتفقا فيجوز اختلافهما. ابن عرفة: وأيضا فيقولون إنما إذا اجتمعا على إيجاد جوهر فهو حالة الإيجاد وإما مقدم لأحدهما فيلزم عجز الآخر له أو مقدر لها فيلزم عليه وجود مقدورين وقادرين، واجتماع اثنين على مؤثر واحد وهو محال، قال وعادتهم يوردون على هذه الآية. قوله تعالى: (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا). لأن هناك أكد الجواب بـ إذا واللام، وهنا أكده باللام فقط، وأجيب بوجهين الأول: إن البيانيين يقولون: إن كان المخاطب منكرا للخطاب أو في مادة المنكر فحينئذ يؤكد الخطاب وإلا فلا، وهذا كقولك زيد قائم، إن زيدا قائم، وإن زيدا القائم، والشرط هنا ذكر فيه أن هنا عائد موجود ومنكر فقيل (لو كان [معه*] آلِهَةٌ كما يقولون) فاحتيج إلى تأكيد الجواب بـ إذا واللام فقط، الجواب الثاني: لفظ الفساد هنا صريح بدليل أنه لم يختلف فيه وهنا هو الشرط غير صريح بدليل الاختلاف في تفسيره فقيل: معناه لابتغوا المناقضة، وقيل معناه لابتغوا الطاعة. ابن عرفة: وتفسيره بأن معناه لابتغوا الطاعة غير مناسب لأنهم مقرون بهذا لقولهم: (مَا نَعْبُدُهُمْ إلا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى الله زُلْفَى) وإنما اتخذوهم، قيل لابن عرفة: إن هذا لم يقع ابتغاء الآلهة إلى ذي العرش سبيلا؛ فقال: على هذا [بطلت*] الملازمة وأيضا، فقال ابن التلمساني في شرح المعالم الفقهية في المسألة الثالثة من كتاب القياس: إنه إن كان المستثنى مثبتا فالأحسن أن يأتي بأن ويستثنى عين المقدم فيستثنى عين الثاني بحيث إن كان هذا إنسان فهو حيوان لكنه إنسان فهو حيوان وإن كان منفيا فالأحسن أن يأتي بلو ويستثني نقيض الثاني فينتج نقيض المقدم بحيث لو كان هذا إنسانا ليس إذن حيوانا لكنه ليس بحيوان فلا يكون إنسانا، فيلزم على هذا التفسير إن كان

(45)

يؤتي بإن عوض لو، فالظاهر أن المراد بقوله: (لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا) المناقضة والمعاهدة أي لناقضوه وعاهدوه. قوله تعالى: {وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ ... (45)} ليس المراد إذا أردت أن تقرأ؛ لأنه إنما يجعل الحجاب بينه وبينهم إذا سمعوا قرآنه [فينسبون في أداته، قال: والقرآن اسم [جنس*] يصدق على القليل والكثير. (مستورا) إما أن المراد [ساترا*] وهو مفعول بمعنى فاعل فيكون مجازا، والظاهر أن الخطاب خاص به صلى الله عليه وعلى آله وسلم. فإن قلت: مفهومه أنه إذا لم يقرأ لم يحفظ منهم مع أنه معصوم من شيطان الإنس والجن مطلقا، قلنا: بل مفهومه أنه إذا لم يقرأ عصم منهم من باب آخر الآية إذا [ ... ] المنافي لهم الذي يكرهونه فهم حينئذ أشد حقا على إيذائه ومضرته. فإن قلت: هلا قال: جعلنا بينك وبين المشركين أو وبين الكافرين؟ فالجواب إن الآخرة إنما علمت بإخبار النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فكأنه يقول جعلنا بينك وبين الذين يكذبونك وتكذبهم له سبب في أذيتهم إياه فكذلك احتيج بلعل الجواب بينهم وبينه. قوله تعالى: (وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً). أي على كل قلب منهم أكنة، والأكنة جمع قلة، والقلوب جمع كثرة، والقليل لا يقوم بالكثير إذا وزع عليه، فقوله على قلوبهم شبه الكلية لَا الكل، وقوله أكنة شبة الكل لا الكلية فجعل على كل قلب باعتبار تتبع أفراد القلوب مجمع الأكنة. قوله تعالى: {نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ ... (47)} قال ابن عطية: إذ متعلقة بـ (يستمعون). قال ابن عرفة: يلزم عليه تحصيل الحاصل لأن المعنى يسمعون وقت استماعهم إليك، وقال الزمخشري: إذ يستمعون نصب بـ (أعلم) فالمعنى نحن في وقت استماعهم أعلم بما يستمعون. قال ابن عرفة لابن هشام [شارح*] الإيضاح قال في قوله تعالى: (اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ) أنه لَا يصح أن يعمل أفعل من في الظرف لأنها قوي فيها جانب الأدعية وقيل: يجوز ذلك.

(49)

قال ابن عرفة وهل يصح الاشتراك بين الغائب والشاهد في مطلق العلم قالوا: أما النافون للحال فيمنعون الاشتراك، وأما القابلون بالأحوال فيقولون: يشتركان في العلم لكن يخص أحدهما بعالمية قامت به والآخر بعلمية قامت به كما أن بياض الثوب وبياض الإنسان يشتركان في مطلق البياض ويختصان بالبياضية، وهي الحال وما به الشركة غيرها حد الاختيار، وكذلك يشترك البياض والبياضية في مطلق اللون، قيل لابن عرفة: ظهر اختلافهما في العلم النظري وهل يتفق الشاهد والغائب في العلم الفردي؟ فقال: لَا بدليل أنه قد تعرض له التشكيك. قوله تعالى: (وَإِذْ هُم نَجْوَى). في وقت تناجيهم، ونجوى مصدر فهو كقولك رجل عدل. قوله تعالى: (إِلَّا رَجُلا مَسْحُورًا). فسره ابن عطية: بوجهين: أحدهما: أنه اسم مفعول من السحر، [والثاني: أنه [ذو سحر*] وهي [الرية أي رجلا ذات رية*] أي بشر مثلكم. قلت: ومنه قول عائشة رضي الله عنها، وكرم وجه أبيها وجدها: توفي رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم بين سحري [ونحري*]. قوله تعالى: {وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا (49)} قال ابن عرفة: هذا الكل ومنهم للبعض، وهو عندنا جائز عقلا واجب وقوعه شرعا وعند المعتزلة يجب وقوعه عقلا بناء على قاعدة التحسين والتقبيح والعقليين عندهم وصل العام للأجسام إيجاد عن عدم أو جمع بعد تفريق فيهما قولان وأما الأرواح فمذهب أهل السنة أنها تفنى وإعادتها بمعنى خلقها في أجسامها قال ابن عرفة: وكان بعضهم يستشكل فهم الآية لأن الاستفهام الدليل على الجملتين إما أن يكون بمعنى الثبوث أو بمعنى النفي فإن كان بمعنى الثبوت لزم إقرارهم بالبعث والغرض عدمه، وإن كان بمعنى النفي لزم عليه أن يكونوا أنكروا الملازمة، وهو ملزومية الفناء للإعادة ولا يصح هذا إلا لو كان الاستفهام داخل على أول الجملة الشرطية فقط مع أنه دخل على الجملة الأولى منها والثانية والاستفهام الداخل على الثانية في معنى النفي وقد دخل النفي على الأول فيكون نفيا دخل على نفي فيصير ثبوتا، والمراد نفي لزومية الشرط للجزاء، والثاني: نفي للإعادة فهما متغايران ومن شرط التأكيد اتفاق معنى الجملتين وأجيب بأن الثاني إنكار للإعادة مطلقا، والأول

(50)

إنكار للإعادة بعد الفناء، فالثاني أعم فيكون من تأكيد نفي الأخص بنفي الأعم كما يقول ليس في هذه الدار إنسان ثم نقول بأن فيها حيوانا، فهو تأكيد للأول. قوله تعالى: {قُلْ كُونُوا حِجَارَةً ... (50)} قال ابن عطية: صيغة افعل للتعجيز، وقال الطيبي: للخيرة، وقال ابن التلمساني: التعجيز بقوله تعالى: (فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ). قوله تعالى: {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ... (53)} فأورد عليه أنه يلزم عليه اللف في الخبر لأن بعضهم لم يمثل هذا الأمر وأجيب بوجهين: إما بأن العباد خاص بالمؤمنين كقوله تعالى: (إِنَّ عِبَادِي لَيسَ لَكَ عَلَيْهِم سُلْطَانٌ) وإمَّا بأنه عام مخصوص، وقال المبرد: تقديره قل لعبادي يقولوا التي هي أحسن ويرد عليه ما أورده أبو حيان في قوله تعالى: (قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ) وهو أن يكون الجواب عين الشرط وأجيب بأن يكون جوابا للأمر، وهو قل لأنه جواب لقوله: (يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) والتي هي أحسن كلمة التوحيد وهي لا إله إلا الله، وقيل: إنها الخطاب اللين أي [لا يخاشنوهم*]؛ كقوله: (وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) وفسرها بقوله: (رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ) أي لَا تقولوا إنكم من [أهل النَّار*] ولكن خاطبوهم خطابا لينا لئلا يغيظهم ذلك، ورده ابن عرفة بقوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: " [وَأَفْضَلُ مَا قُلْتُ أَنَا وَالنَّبِيُّونَ مِنْ قَبْلِي: لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ*] ". فصح أنها الكلمة التي هي أحسن. قوله تعالى: {إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ ... (54)} إن قلت: هلا عطفه بالواو؛ لأن الرحمة والعذاب صالحان لكل واحد منهما و (أو) يقتضي صلاحية الرحمة لفريق، والعذاب لفريق؛ لأنها [للتفصيل*] [فهي حجة لمذهب المعتزلة*]، والجواب أن الرحمة عند المعتزلة أمر عقلي، ونحن نقول هو أمر شرعي، فوعد الشرع بتعذيب العاصي وتنعيم الطائع. قوله تعالى: {وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ ... (55)} قال هذه أخص من قوله تعالى: (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ) فإن تفضيل الأعم يستلزم تفضيل الأخص على الأخص ولا ينعكس. قوله تعالى: {وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ ... (59)}

(60)

قال ابن عطية: هذا من إقامة السبب مقام مسببه، وذلك أن الكفار طلبوا من النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أن يسأل لهم الله تعالى في أن يحول جبال مكة ذهبا وفضة أو ينسفها من أصل ويبقي مواضعها مستوية مسطحة ينتفعون بها في الحرب والزراعة فأخبره الله تعالى بأنه إجزاء للعبادة في أن الآيات المقترحة إذا فعلها النبي وكذب بها الكفار فإنهم يعالجون بالعقوبة وهؤلاء قومك متبعون لَا بأبيهم وآبائهم قد كذبوا بعد ظهور الآيات المقترحة وعوجلوا بالعقوبة فإن أظهرنا لهم الآيات التي طلبوا يكذبون بها فنعاجلهم بالعقوبة فخيره الله تعالى بين إظهار الآيات لهم ثم عقوبتهم عند التكذيب بها وبين عدم إظهارها وبقائهم ليؤمن بعضهم ويخرج من قلب الآخرين من يوحد الله عز وجل فاختار البقاء مكانه يقول ما منعنا من إظهار الآية إلا إهلاك الأولين لتلقيهم لها بالتكذيب. وهم لَا يتبعون لها فإن أظهرناها كذبوا فنهلكهم. قوله تعالى: (وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ). لأنها خرجت من الصخرة. قوله تعالى: (مُبْصِرَةً). هذا مجاز لأنها لَا تبصر بل تصير غيرها يبصر لأنه يؤمن بها. قوله تعالى: (فَظَلَمُوا بِهَا). أي فيها بتكذيبهم. قوله تعالى: (وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا). المراد هنا المعجزات وهي الآيات غير المقترحة وذلك كانشقاق القمر وتكلم البعير ونحوه معناه نرسل بها تخويفا للكفار كي يؤمنوا وأما الآيات المقترحة فإنما نرسل بها تعذيبا. قوله تعالى: {الرُّؤْيَا ... (60)} قيل إنها [رؤيا منام*] والصحيح أنها بصرية (إِلَّا فِتْنَةً) هي [الاختبار*] ويتوهم الناس أنها فساد، وهي مصلحة، وكذلك قال ابن يونس في كتاب الجهاد تكره الفتنة [ ... ]. قوله تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ ... (61)}

(62)

اختلفوا في التفسير والصحيح أنه ليس من الملائكة وكان بعضهم من إطلاق هذا الخلاف، ويقول إنه يستلزم مفسدة كثيرة فإن مذهب أهل السنة أن الملائكة معصومون من المعاصي والمخالفات. فإن قلت: فلم استثنى [إبليس*] منهم فالجواب أنه لما كان ملازما لهم [وأُمروا هم*] بالسجود دخل هو في الأمر من باب أحرى؛ لأنه إذا أمر الأعلى بالسجود فأحرى مَن دونه. قوله تعالى: {قَالَ أَرَأَيْتَكَ ... (62)} إن قلت لم كرر (قال) مع أن المتقدم من كلامه وهو قوله: (قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا) فالجواب أن ابن مالك قال [**نكرر القول للنظرية إذا طال الإخبار] ومنه تكرار المؤلفين الألفاظ في العقود، وأما هنا فلم يطل الكلام لكن إنما كرره على سبيل التشنيع عليه، والتنفير من [مقالته*] وإنه هو الذي قال ذلك [ونص عليه*]. قوله تعالى: (إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ). المراد به هنا يوم موت جميع الخلائق لَا يوم بعثهم لأن من مات فقد قامت قيامته وإبليس لَا يؤخر إلا إلى ذلك اليوم، وأما يوم البعث فلا يتصور ولا يعقل تأخيره إليه؛ لأن كل من يكون فيه حيا، فإنه لا يموت أبدا، فلو حملوا تأخيره إلى ذلك اليوم لما تصور موته بوجه، ويحتمل أن يريد يوم قيامته هو بناء على القول بأنه مات يوم أحد، قلت: لكن ما يكون فيه فائدة إذ لَا يصح أن يقول لكن أخرتني إلى وقت موتي. قوله تعالى: (لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا). قال ابن مالك: لَا يجوز استثناء المجهول فلا يقال قام القوم إلا رجالا. ابن عرفة: والمستثنى هنا وإن كان بكثرة فهو معلوم بالصفة فكأنه يقول إلا ذريته. ابن عرفة: استدل بعضهم على عدم قبول شهادة العدل على ذرية عدوه؛ لأنه ثبت قليلاً. بهذه الآية أن العداوة بين الشخصين سر البغض بين أحدهما وبين ذرية الآخر لأنه لما أمر إبليس بالسجود لآدم واضح ورأى أنه أكبر عداوة منه فأذاه وحده من أجل ذلك فانتشرت عداوته على ذريته. قوله تعالى: {بِصَوْتِكَ ... (64)} المراد به صوت بني آدم، فهو إقامة السبب مقام المسبب، وأما صوت إبليس فلا يصح؛ لأنها لَا تسمعها الأذن، والصوت مسموع بلا شك.

(80)

قوله تعالى: (بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ). قيل الخيل والرجل هم بنو آدم، والمراد بالخيل رُكَّابها فهو من التعبير عن الشيء بلازمه، كما قيل: يا خيل الله اركبي، والخيل مركوبة لَا راكبة. قوله تعالى: (وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ). يحتمل أن يراد بالأموال قتل الولد خشية الفقر بسببه وبالأولاد وقتلهم خشية المشاركة في المنزلة كقتل السلطان أولاده، وقيل: المراد بالأموال والأولاد ما ورد في حديث الأمر بالتسمية عند الأكل وعند الجماع فإن الشيطان يسبقه إليهما وإن لم يسم فيأكل معه ويجامع معه. قوله تعالى: {وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ ... (80)} قال ابن عرفة: ذكروا في التفسير على أنه جرى خمسة أوجه: إما أدخلني المدينة حين الهجرة وأخرجني من مكة، وإما أدخلني مكة دخول الفتح وأخرجني منها خروج الهجرة، وإما أدخلني القبر وأخرجني منه، وإما أدخلني الغار وأخرجني منه، وإما إدخاله في أمر تبليغ الشرع وإخراجه منه بعد التوفية بأول ما كلف به، وإما أن ذلك كلي أي أدخلني في أعباء النبوة وأمور التكاليف مدخل صدق وأخرجني منها مخرج صدق وعادتهم يستدلون بهذا على ابن التلمساني في قوله في حد الخبر هو إن احتمل الصدق والكذب أنه استعمل الأخص في حد الأعم فإن الصدق أخص من الخير وأجابوا بأن الصدق أهم لكونه يشمل الأقوال والأفعال والخير خاص بالأقوال بدليل هذه الآية فالصدق فيها في الأفعال ورده بعض الطلبة بأن الطيبي نقل هنا عن أئمة اللغة الزمخشري وغيره أن معنى الآية أدخلني مدخلا حسنا فيكون الصدق لفظا مشتركا فقال ابن عرفة: فكونه المقدر المشترك أولى من جعله مشتركا حسبما قال ابن التلمساني: إذا تعارض الاشتراك والتواطؤ أولى. قوله تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ ... (82)} قال ابن عطية من إما لابتداء الغاية أو لبيان الجنس ولا يصح أن يكون للتبعيض لأن مفهومه أن بعض القرآن ليس شفاء مع أنه كله شفاء. قال ابن عرفة: كانوا يجيبون عن هذا بأن المفهوم بالنسبة إلى مجموع الأوصاف فبعضه شفاء ورحمة للمؤمنين وخسارة للكافرين وبعضه شفاء ورحمة فقط. قوله تعالى: {وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ ... (83)}

(85)

ابن عرفة: أعرض بقلبه ونأى بجانبه أي ببدنه، وهو أولى من جعلهما بمعنى واحد لأن التأسيس أولى من التأكيد. قال: وجاء هذا على سبيل التأدب مع الله تعالى في نسبة الخير إليه وعدم نسبة الشر إليه، فقال الفقهاء ولم يقل إذا [مسسناه*] بالشر فإن قلت: هلا قيل: وإذا أنعمنا على الإنسان كان معرضا كما قيل (وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوسًا) فالجواب أنه لما كان الإعراض ملازما للإنعام في الأكثر باعتبار الوجود الخارجي لم يحتج إلى المبالغة فيه والنفي في التعبير عنه بمطلق العبارات، ولما كان الإعراض بين في النَّاس عند من أكثر لهم الإنعام أقل وقوعا [احتيج*] إلى التعبير عنه بأبلغ العبارات، وقوله تعالى: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ ... (85) .. قال ابن عرفة: وقع السؤال في القرآن تارة بعن مثل، (ويسألونك عن الجبال)، وتارة بماذا كقوله (يسألونك ماذا يتفقون) فقال: والجواب أنه إن أريد تشريف السائل والاعتبار به يؤتي بكلامه على سبيل الحكاية مثل (ويسألونك ماذا ينفقون) وإن أريد الإعراض عنه وعدم المبادلات به يؤتي بكلامه على سبيل الاعتبار به فيخبر عنه بعن المقتضية للمجاوزة والبعد فإِن قلت تصنيع في قوله تعالى: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ) مع أن السائل هم الصحابة فالجواب أنهم لم يسألوا عن أمر مهم بل سألوا عن شيء لَا خبرة به. قال ابن عرفة: وذكر ابن الخطيب في الروح في الأربعين أربعين قولا وذكر فيه ابن رشد في كتاب المرتبة العليا في تعبير الرؤيا بآيتين هؤلاء الحكماء وغيرهم، ونقل نحوهم عن [**ابن حَيْدَرَةَ] وحكى المازري عن الشيخ أبي الحسن الأشعري في الروح: أنه النفس الداخل والخارج. ابن عرفة: وليس بصحيح لأنا نجد في الحيوان ما لَا يتنفس وهو الحوت لأنه في الماء وأجزاء الماء متراصة لَا يدخلها هواء والتنفس إنما يحدث الهواء البارد [ ... ] به النفس وسكن حرارتها، قال المازري: وبعض النَّاس يرى أنه جسم لطيف خلقه الله تعالى، وإجراء العادة أن الحيوان لَا يكون مع فقده. ابن عرفة: أراد أن وجود الحياة عند ممازجة الروح للبدن أمر عادي وليست الروح بموجبة للحياة ولا ملازمة لها كملازمة العالمية والقدرية لمن قائم به العلم والقدرة وإنما ذلك في خلق الله تعالى لأن العلم والقدرة صفتان يوجبان لمن قامتا به حصول بدل لهما بخارج الروح على هذا التأويل قلنا جسم أو قالا الجسم لَا يوجب له شيئا

(86)

لأن كل واحد منها في حين فحدوث صفة تقوم بهما عند مقارنتها في الوجود إنما هو أمر عادي خلق الله تعالى لَا أن أحدهما أوجب ذلك الأمر. قوله تعالى: {وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ... (86)} هنا دليل على أن الأعراض ما يبقى [زمنين*] وإلا فإن يقول لنذهبن بمثل الذي أوحينا إليك قلنا لابن عرفة المراد بالذهاب منعه من استمداده بعد إعدامه بأعراض أُخر؛ لأن العلم عرض من الأعراض أو هو صفة وليس بذات وقل معه عرض، قال: وعدم العصمة في حق الأشياء ممكن عقلا [ ... ] فصار ذلك كالأمر الضروري فمن حمله قال: وليس شيئا [ ... ] ممكن عقلا فلذلك علق به المسألة. قوله تعالى: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ ... (88)} قال ابن عرفة عن بعض الشيوخ يقول الإنس علمت منهم بفصاحة؛ لأنهم عرب والجن فلم يعهد معهم شعر ولا فصاحة، فلا يتوهم معذور المعارضة منهم للقرآن، قال وكنا نحن نجيبه بوجهين الأول: أن الجن عهد منهم على ما يزعمون الاطلاع على بعض المغيبات [والقرآن*] يشتمل على [الإخبار*] بالغيوب فلو اجتمع الجن الذين [يجيئون*] ببعض الغيوب والإنس ليغيروه عن معانيه بألسنتهم لما أتوا بمثله، فوجه الجواب الثاني: أن من عادة العرب أنهم ينسبون الإعراب للجن، فصار [ ... ] ينسبون للجن فقال المقري: قد كان أرباب الفصاحة كلما رأوا عجبا عدوه من صفة الجن فلذلك قال: (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ) [نقل ابن عطية*] كمًّا في فصاحة العرب ومعارضة القرآن كلاما طويلا، ثم قال: وقد اختلف النَّاس في هذا الموضع فقيل: دعوا إلى السورة المماثلة في النظم والغيوب وغير ذلك من الأوصاف، وكان ذلك من [تكليف ما لَا يطاق*]. [فلما عسر عليهم خفق بالدعوة إلى المفتريات*]، وقيل غير هذا. قال ابن عرفة: هذا غلط من ابن عطية، وليس هذا من تكليف ما لَا يطاق إنما هو تعجيز لَا تكليف لأن التكليف بما لَا يطاق إنما هو أمر شرعي يثاب على فعله، ومعاقب على تركه، وأما التحدي بهذا فإنما هو تعجيزي، لَا تكليفي؛ لقوله تعالى: (قُل كُونُوا حِجَارَةً أَو حَدِيدًا) ولذلك غلط الشاطبي في قوله [ما لَا يطاق هو تكليف*] بعجزه والإفضاء له قد أوضح العذر في الإخبار بالغيب وإن كان مما لَا يطاق، وإنَّمَا هو تعجيزهم.

(89)

قوله تعالى: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ ... (89)} والتصريف هو الإتيان بأفراد أمر على شيء تعدى، وليس هو تكرار الشيء، والقرآن مشتمل على الأدلة الكلية والحقة والمتوسطة، وهذا كما بين للطالب فلا يفهمها فيأتيه بعبارة أخرى أو بدليل آخر أوضح من الأول وكذلك القرآن تارة يكرر فيه القصص، وتارة [يعبَّر*] عنها بألفاظ أُخر وأدلة أُخر، قال: وأخذوا من هذه الآية مطلبين: الأول: [**الرد على الجاحظ لأنه أنكر وقوع المذهب لكلام في القرآن وألا يقدر له على اشتماله على البرهان والخطابة]، الثاني: وقوع القياس فيه لقوله تعالى: (مِنْ كُل مَثَلٍ) ولا معنى للقياس إذا جعل المثل على مثله، وفي هذه الآية من أنواع [**جر اليد مع الاتباع]، وهو الإتيان بما يحتاج إليه كقوله تعالى: (عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ) وكذلك إن القرآن يشتمل على [كل*] دليل معجز على سبيل الرد على الكفار في قولهم: (لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنْبُوعًا) فطلبوا الإتيان بالمعجزة، وهو قد أقر بها. قوله تعالى: {لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ ... (90)} قيل لابن عرفة؛ هذه حكاية لمعنى [كلامهم*]؛ لأنه [بفعلهم*] إذ لو كان هو عين لفظهم لما كان معجزا، فقال ابن عرفة: بل يصح أن يكون عين لفظهم ويكون الإعجاز وقع تكليفه ولعله في محله كما نجد بعض الخطباء يذكر في خطبته أحاديث ويذكرها الآخر بعينها ويجري في كلام أحدهما من العذوبة ما ليس في كلام الآخر، وما ذاك إلا أن الأول أتاها مرتبة في محلها، وإن كان اللفظ واحدا، فالإعجاز بالنظم والكيفية لَا بنفس اللفظ. قال بعض الطلبة: يحتمل أن حال هذا هو نفس لفظهم لكن الإعجاز إنما وقع بالسورة ثلاث آيات لقوله تعالى: (قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ) وهذا كلام كثير يشتمل على آيات جملة فيكون أحدهم تكلم بشيء والآخر تكلم بشيء، وكذا قال المفسرون إن عبد الله بن أمية قال لرسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم لن نؤمن لك حتى تتخذ إلى السماء سلما ثم ترقى فيه ثم تأتي معك منشور معه أربعة من الملائكة تشهد لك إنك حق. قوله تعالى: (حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنْبُوعًا). ولم يقل في الأرض إشارة إلى أن الينبوع يكون مشاهد للناس [احتراز*] من أن يعجزه ولا يرده. قوله تعالى: {قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي ... (93)}

(94)

مع أن المناسب أن تقول: قل الأمر لله يفعل ما يشاء فأجيب بأن التسبيح إشارة لقوله: (أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا) فإنه يقتضي [التجسيم*]، وهو على الله محال، وقوله: (هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا) والباء في [ ... ]. قوله تعالى: {وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى ... (94)} قال ابن عرفة: المنع هو الصرف عن الفعل ما كان حاصلا، وفي مادة المحرك، قال ابن عطية: هذه الآية توجه للمشركين وتلفظ من النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم عليهم. ابن عرفة: ويحتمل أن تسلية له ونفروه بأفعالهم إليهم من البشر مع أن الرسل المتقدمة فلهم من البشر فإذا لم يؤمنوا بهذا فيلزمهم أن يؤمنوا بكل رسول تقدم [فتكذيبهم*] له تكذيب لجميع من سبق من الرسل [فلا يسوؤك*] أمرهم. قوله تعالى: {قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا (95)} [أي: خلقه من جنسهم فلو كان*] في الأرض ملائكة لأرسل إليهم ملكا كذلك البشر يرسل إليهم من جنسهم، وقياس المساواة هو الحكم بمساواة أمر إلى أمر في شيء لاستوائهما في شيء آخر، كقولهم في كتاب الجهاد جزاء الصغير في الصيد والطير كجزاء الكبير كما أن دية الجزاء للصغير كدية الجزاء للكبير، وقولهم في كتاب الصلاة أيصح في الأمة [أن*] تصلي [مكشوفة*] اليدين وتعتق في الصلاة أنها [تصلي*] في الوقت قياسا على [فاقد الماء*] في رحله فأتى كما [**قول فيه أنه بعيد جدا لكن فردوه] بأن الحجة على مساواة حكم النسيان في الماء للعمد في الإعادة فليكن كذلك حكم النسيان في الآية مساويا للعمد فينتج هنا الإعادة في الوقت، وهنا الإعادة أبدا. قوله تعالى: {إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (96)} قال ابن عرفة: خبيرا أخص من عليم وبصيرا مغايرا لذا فيلزم أن يكون مغايرا لعليم مغايرة الأخص لَا يلزم أن يغاير الأعم فقد يكونا صفتين متباينتين والجملتين تحت الأعم، فقال: هذا في صفة البشر، وأما في هذا المقام فخبير مثل عليم كما غاير عليم. قوله تعالى: {وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ ... (97)} جمع الضالين وأفرد المهتدين لكثرة الضالين وقله المهتدين.

(99)

قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ ... (99)} دلت الآية على إثبات صفة القدرة والإرادة لله تعالى فقوله: (وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلا لَا رَيْبَ فِيهِ) فالتخصيص دليل الإرادة، قال: وذكر الأصوليون الدليل على إثبات الصانع إما بالإمكان أو بالحدوث، وكان بعضهم يقول الآية دالة على صحة الاستدلال على إثبات الصانع بالحدوث كقوله تعالى: (قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُم) قال وهذا دليل برهاني فيه قيل لابن عرفة لَا يحتاج فيه إلى مقدمة ولا إلى حجة لأنهم يوافقون على قدرته على إيجاد الخلق من عدم، وإنَّمَا خالف الحكماء وغيرهم في صحة إعادة معدوم، والآية إنما دلت على قدرته على خلق مثلهم لَا على إعادتهم فقال: وجه البرهان فيها أنه إذا قدر على خلق مثلهم خلقا ابتدائيا فليكن قادر على إعادتهم من باب [أحرى*]. قوله تعالى: (وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا لَا رَيْبَ فِيهِ). قيل: إنه الموت، وقيل: إنه القيامة. قال ابن عرفة: الأول أظهر لأنهم ينكرون البعث ولا يقرون به فكيف يقدر عليهم بشيء يخالفونه فلا يصح هذا إلا على تنزيل الأمر النظري منزلة الضروري. قوله تعالى: {قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي ... (100)} قالوا [لولَا يليها إلا الفعل ظاهرا وقد*] يكون مضمرا، لكنه قليل لقولهم لو ذات سوار لطمتني"، وكقول أبي جهل [**لو عز إنكار قتلتني]. قال ابن عرفة: وكان بعضهم يقول حكمة ذلك أنها شرط، والشرط إنما يتعلق بالأمور العارضة للذات لَا بنفس الذات فالأمور العارضة للذات هى أفعال ومهما كانت فيها غرابة، وكان المراد نفس الذات وليها اسم لَا وكذلك هما؛ لأنه ليس المراد مطلق الملك وإنما المراد ملكهم الخاص وكذلك ليس المراد مطلق اللطم؛ وإنَّمَا المراد وقوعه في ذات السوار وكذلك ليس المراد مطلق القتل إنما المراد وقوعه من غير إنكار، فإن قلت المراد ما فائدة إدخال قلنا؟ فائدتها ملازمة الشرط للجزاء. قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ ... (101)}

قال ابن عرفة: أخذوا من الآية جواز [توارد*] الأدلة على مدلول واحد، وهي صلة خلاف بين الأصوليين، أجيب بأن ذلك الخلاف حيث يكون الخطاب لرجل واحد، والمخاطبون هنا جماعة فيخاطب بعضهم بالبرهان، وبعضهم بالجدال، وبعضهم بالخطاب، فتكون الأدلة على سبيل التوزيع، قيل لابن عرفة: كيف عدم من الآيات الحجر مع إنها إنما كانت بعد موت فرعون في قضية البينة مع بني إسرائيل لقوله تعالى في سورة النمل: (وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ)، فالتسع آيات كلها له مع فرعون، فقال ابن عرفة: هو على التوزيع لعل أن المراد إن البعض لفرعون والبعض لقومه قبل هذا (قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا) أي لَا يملكون زواله من أصل ولا تحويله من وقت كمن به الحمى، فتارة يدعونه فترتفع عنه، وتارة تنتقل من وقت إلى وقت، وليس المراد بالتحويل ارتفاعه جملة، وإلا كان يكون تكرارا لغير فائدة. * * *

سورة الكهف

سُورَةُ الْكَهْفِ قوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ ... (1)} قال الزمخشري: هذا تعليم للأمة كيف يحمدونه على نعمائه، وقال ابن عطية: لما [عانده*] الكفار، وأنزل الكتاب عليه للجزاء لهم، أمر بأن [يحمد الله*] على ذلك (¬1)، وفيه سؤالان: الأول: هلا قيل لَا عوج له، فهو أخص من قوله (ولم يجعل له عوجا)؟، الثاني: هلا [قيل*]: ولم يجعل فيه عوجا، فهو أبلغ؟ وأجيب عن الأول بأن الجعل أسند إلى الله تعالى فلا فرق بين كون العوج منفيا عنه لذاته أو باعتبار الجعل؛ لأن الكل مسند إليه لأنه كلامه؟ وأجيب عن الثاني بأن فيه أخص من له ونفي الأعم يستلزم نفي الأخص ولا ينعكس. قوله تعالى: {قَيِّمًا ... (2)} .. جعله الزمخشري تأكيدا، وأجاب ابن عرفة بأنه تأسيس، قال: لأن إقليدس فسر المستقيم بأنه أقرب خط بين نقطتين أو الخط المتوازي بين نقطتين وأن الموجودات أولها النقطة ثم الخط ثم السطح ثم الجسم ثم الدائرة فلا شك أن الجسم والخط يصدق عليه الاعوجاج والاستقامة، وأما النقطة فما يصدق عليها إنها معوجة ولا إنها مستقيمة، وكلام الزمخشري يقتضي أنه كلما انتفى الاعوجاج ثبتت الاستقامة، وليس كذلك بل ينتفي الاعوجاج ولا يثبت الاستقامة ما قلناه في النقطة قيل له إنها على طرفي النقيض وإنما يصح ما قاله فيما هو قائل لها بحيث إذا انتفى أحدهما عنه ثبت له الآخر بدليل أن الغرض لَا يقال له إنه متحرك ولا ساكن، والحركة والسكون نقيضان فقال ما نزعناه في قوله كلما انتفى الاعوجاج تثبت الاستقامة قيل له: وهذا معنى من المعاني فليس يقابل لهما. قوله تعالى: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ ... (6)} تقرئ (نفسك) بالفتح والكسر (¬2)، وكان بعضهم يقول الفرق بين قولك زيد ضارب [عمروا*] [وبين قولك زيد ضارب عمرو، أنك*] إن أردت الإخبار عن مجرد ضربه عمرو نصبت وإن أردت الإخبار عن خصيصه بضرب عمرو وخصصت لأن من أنواع الإضافة التخصيص. قوله تعالى: {فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ ... (11)} الفاء للسبب ولا يصح أن تكون عاطفة على (فقالوا) لأنها تشترك في الإعراب والمعنى وهذا ليس من قولهم. ¬

_ (¬1) النص في المحرر الوجيز هكذا: "وسبب هذه البدأة في هذه السورة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما سألته قريش عن المسائل الثلاث، الروح، والكهف، وذي القرنين، حسبما أمرتهم بهن يهود، قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم غدا أخبركم، بجواب سؤالكم، ولم يقل إن شاء الله، فعاتبه الله عز وجل بأن استمسك الوحي عنه خمسة عشر يوما، فأرجف به كفار قريش، وقالوا: إن محمدا قد تركه ربه الذي كان يأتيه من الجن، وقال بعضهم: قد عجز عن أكاذيبه إلى غير ذلك، فشق ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم وبلغ منه، فلما انقضى الأمد الذي أراد الله تعالى عتاب محمد إليه، جاءه الوحي من الله بجواب الأسئلة وغير ذلك، فافتتح الوحي بحمد الله الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ أي بزعمكم أنتم يا قريش، وهذا كما تقول لرجل يحب مساءتك فلا يرى إلا نعمتك الحمد لله الذي أنعم علي وفعل بي كذا على جهة النقمة عليه." اهـ (المحرر الوجيز. 3/ 494). (¬2) (بَاخِعٌ نَفْسَكَ)، على الأصل، وعلى الإضافة (بَاخِعُ نَفْسِكَ): أى قاتلها ومهلكها. اهـ

(13)

قوله تعالى: (سِنِينَ عَدَدًا). قال الزمخشري: يحتمل القلة والكثرة. ابن عرفة: وكان بعضهم يرجح حمله على الكثرة بوجهين: الأول: قوله تعالى: (وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا)، الثاني: إن عرف القرآن واللغة في اللفظ معدودة أي معدودات القلة وفي لفظ عدد الكثرة، قال تعالى: (وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ)، (وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً)، وقال تعالى: (وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا). قوله تعالى: {إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى (13)} بالتوفيق بوحدانيته والتثبيت، وقال ابن عرفة: يحتمل أن يراد آمنوا بوجود الله وزدناهم هدى بالإيمان بوحدانيته أو آمنوا بوجود الله إيمانا مستلزما لوحدانيته تعالى وزدناهم هدى بالعثور على الدليل الدال على وحدانيته. قوله تعالى: {وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ ... (14)} أي ربطنا الإيمان على قلوبهم فهو إشارة إلى أنه إيمان قوي لَا يؤثر فيه الشكوك ولا يعرض له وهن ولا يدركه خلل بوجه بل هم مصممون عليه كما تربط الحمل على الدابة حتى توقعه من عليها. قوله تعالى: (فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ). راجع للإيمان بوجود الله تعالى. قوله تعالى: (لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا). راجع للإيمان بوجود الله تعالى فهو لف ونشر. قوله تعالى: (لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا). أي قولا وشططا، وهو الإفراط في الظلم والإبعاد منه من شيط إذا بعد قاله الزمخشري. ابن عرفة: قال الجوهري: يقال شط إذا بعد ورجل شاط أي طويل وغمر أو شاطة أي طويلة، وقال ابن عبيد: يقال شط إذا قال قولا بعيدا خارجا عن الصواب فيحتمل أن يكون المراد لقد قلنا قولا غريبا في عبادتنا الله حيث انفرادنا بها سائر بلدنا. قوله تعالى: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا (15)}

(17)

الفاء للسبب أي بسبب هذه المقالة لَا أظلم منه. قال: والجمع بينه وبين قوله تعالى: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ) أنه ينتج تساويهما في الظلم قال: ومن أفتى في قتله غير مستند لدليل ولا إلى نقل صحيح فهو مفترٍ على الله الكذب؛ لأن الحكم الشرعي هو خطاب الله تعالى. قوله تعالى: {وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا (17)} لأن الحكم الشرعي هو خطاب الله تعالى؛ فإن قلت: هلا قيل: ولي له فهو أبلغ فالجواب إن نفي الوجدان يستلزم البحث عن الولي وعدم وجوده وهو إنكار أشق من عدمه. قوله تعالى: {وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ ... (18)} فإن بعضهم يقول عرف القرآن أن الرقاد أشد من النوم، قال تعالى: (فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ) وقال: (قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا). قوله تعالى: (وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ). هذه الآية خرج فيها الأمر الخارق للعادة بالأمر العادي لأن حياتهم ثلاثمائة عام وتسعة أعوام بلا أكل ولا شرب أمر خارق للعادة وتقلبهم يمينا وشمالا أمر عادي، قال: وقعت مسألة في مسلمين ومشركين فضرب مسلم رجلا فقتله، وقال: إنما هو كافر فشهدت عليه بينة أنه قصد إلى ضرب رجل هو مسلم وكانت البينة أو ماتوا فهل للقاتل في الحال تعلق بالحال وارتباط بها أم لَا؟ فهل يقال إن شهادتهم بقصده إلى ضربه وهو مسلم يستلزم شعوره بأنه مسلم فيلزمه القصاص أم لَا يستلزم ذلك، وإنما هو خطأ وفي المسألة قولان، وكان بعضهم يستدل عند الآية على أنه لَا تعلق له به ولا يستلزمه لأن حسابهم أيقاظ لَا يستلزم حسابهم رقود بل هم في نفس الأمر رقود والناظر إليهم يعتقد إنهم أيقاظ. قوله تعالى: (وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا). ابن عرفة: عادتهم يوردون فيها أن الرعب والخوف منهم يسبب في الفرار عنهم فهلا قدم عليه، وعادتهم يجيبون بإنه إشارة لشدة الخوف منهم؛ لأن الهارب منهم مهما بعد عنهم أطمأنت نفسه وأمن من خوفه، وهو الهارب منهم لَا يزال مرعوبا فالرعب منهم سابق على القرب ومتأخر عنه فهو أشد في الخوف.

(19)

قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ ... (19)} .. من نومهم فبعثهم في الغرابة شبيه بنومهم، وهذا من رشح المجاز لأن البعث إنما هو من الموت لَا من النوم فشبه بالقيام من النوم. قوله تعالى: (قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ). ولم يقل أحدهم إشارة إلى قائل تحرير عارف بطريق السؤال والاستدلال كما يقول تاج الدين، والفخر: ولقائل أن يقول كذا إذا كان السؤال قويا يفسر الجواب عنه. قوله تعالى: (كَمْ لَبِثْتُمْ). ولم يقل كم رقدتم؛ لأن الرقاد يقتضي الاستغراق في النوم، والمستغرق لَا يدري ما حل به ولا يعرف ما يحدث فعبر باللبث الذي هو أعم من اليقظة والرقاد ليحسن سؤاله له ونظيره قولك سألت زيدا اللغوي ما هو العرفج؟ فقال: أحسن من قولك سألت زيداً ما هو العرفج؟ قوله تعالى: (قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ). وقال تعالى في سورة طه: (نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا) فكان بعضهم يورد هنالك سؤالا وهو أن الأمثل طريقة إنما يقول لبثتم شهرا أو عاما قال: (كَمْ لَبِثْتُمْ) فقول من أخبره بلبثه شهرا أصوب من قول من أخبره بلبثه يوما، قال: وأجيب بأن حال الدنيا بالنسبة إلى حال الآخرة [كالعدم*] فكان الأنسب قول من قال: لبثت يوما. قوله تعالى: (رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ). قالوا هذا المخاطب على المتكلم والأصوب إن كان يقول ربنا أعلم بما لبثنا فالجواب أن يكون كل واحد منهم قال لأصحابه ربكم أعلم بما لبثتم فجمعت أقواله وخلط بعضها ببعض لأنه جمع لضميرهم تغليبا للمخاطب على الغائب بل جمع لأقوالهم. قوله تعالى: (بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ). قال ابن عطية فكانت دراهم على قدر [أخفاف الربع*] أي الجمل. قوله تعالى: {إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ ... (20)} .. معناه أي يطلعوا عليكم ويتحققوا ذواتكم يرجموكم.

(21)

قال ابن عرفة: انظر هذا الكلام في نفسه صدق أو كذب قال: هذا عندي جار على ما قالوه في كتاب النكاح فيمن رأى امرأة في الطريق فقال هذه طالق فكان ظانا أنها زوجته فتبين أنها أجنبية عنه، فقيل: يلزم الطلاق اعتبارا بنيته، وقيل: لَا يلزم اعتبارا بما في نفس الأمر، وكذلك مسألة من قال: يا ناصح فأجاب مرزوق فقال له: أنت حر فعلى القول الأول يلزم الطلاق له يكون هذا الكلام صدقا؛ لأنهم اعتقدوا أنهم كفار لعلمهم أن الملك الكافر لم يزل جبارا على القول باعتبار ما في نفس الأمر يكون هذا الكلام كذبا، قال: ويؤخذ منه أن بين أوصى رجلا بوصية فإنه يقتضي له أن يذكر له من الأوصاف ما يجعله به على امتثال ما أوصاه به ولاسيما أن هذه الأوصاف فيها ما يرجع إلى ذات الموصى. قوله تعالى: (أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ). إن قلت: لما قدره على التحفظ منهم بأن يكفروا في الظاهر ويؤمنوا في الباطن؟ قلنا: التحفظ منهم من الكفر في الظاهر [تنزيها لذواتهم عن الكفر ظاهرا أو باطناً*]. وقوله تعالى: (وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ ... (21) .. قال ابن عرفة: كان بعضهم يرد على إمام الحرمين في قوله في حد النظر إنه هو الذي يؤدي إلى العثور على الوجه الذي منه [يدل*] الدليل فإن العثور عليه يكون اتفاقيا من غير قصد تقول عثر زيد على كذا إذا أصابه من غير قصد إليه فمعنى الآية، وكذلك جعلنا ناس عاثرين عليهم من العاثر لأنه يعثر على الشيء من غير قصد. قوله تعالى: (لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ). الوعد على حقيقته [وهو في الكتب السالفة*] فمجرد الإخبار به كاف في أنه حق، فلا حاجة إلى ذكر ما يحققه، وإن كان المراد بالوعد الإلهام بمعنى [أُلهموا ذلك*] أو خطر ببالهم، فأطلع الله تعالى على ما تحقق لهم ما حصل في اعتقادهم، وقد وقع الوعد في القرآن بمعنى الإلهام، قال تعالى: (فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ) بعد أن قال: (وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ). قوله تعالى: {سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ ... (22)}

(23)

قال الزمخشري: إن قلت: لأي شيء، عبر في الأول بالسين دون ما عداه؟ فأجاب بوجهين: الأول: بأن عطفه بالواو يصير الاستقبال منصبا على الجميع، الثاني: أن [يراد*] به فعل بمعنى الاستقبال في الأول دون الذي هو صالح له. قال: والصواب أن يقال: إن الفعل إذا كان غريبا عجيبا مما يستبعد وقوعه ويستغرب يؤتى فيه بالسين الدالة على تحقيق وقوعه لَا على الاستقبال كقوله تعالى: (سَيَقُول السُفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ)، وقوله ستكتب شهادتهم وهنا لَا شك إن قول من قال: إنهم (ثَلاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ)، أبعد عن الصواب وأغرب من قول من قال: إنهم (خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ) لأن الصحيح إنهم (سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ) فما قرب منه أصوب مما بعد وقوله ثلاثة خبرا مبتدأ أي هم ثلاثة وحذف المبتدأ هنا لأن الخبر لَا يصلح إلا له، أي الثلاثة إلا لهم، قيل لابن عرفة: الدليل من الآية على أنهم سبعة وثامنهم كلبهم، قوله تعالى: (قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ) فانقسم المجيبون قسمين قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم، وقسم قالوا ربكم أعلم بَما لبثتم وقد عبر عن قول كل قسم بضمير الجمع وأقل الجمع ثلاثة. قوله تعالى: {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ ... (24)} اللام للتعليل، واختلف في تفسيره، فقيل معناه أنها إذن الله في فعله فله أن يخبر بفعله مطلقا غير مقيد بالمشيئة وما لم يسمع منه إذنا فلا يخبر بفعله إلا مقيدا بالمشيئة، وفسره الزمخشري بوجهين: أحدهما لَا تقولن ذلك القول إلا أن يشاء الله أن يقوله بأن يأذن لك فيه، والثاني: لَا يقوله إلا مقرونا بلفظ إن شاء الله. قوله تعالى: {لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ ... (27)} الضمير إما عائد على الكتاب أو على الرب، والمراد له لَا مبدل لكلمات غيره أو لا مبدل لكلمته التي هي خبر؛ لأن الإخبار لَا ينسخ أو يقال: إن النسخ تغيير لَا تبديل، وفرق بعضهم أبدل في الأمر الحسي وبدل في المعنوي، وهذا إشارة إلى قوله تعالى: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ). قوله تعالى: (وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا).

(28)

إن قلت: هلا قيل لن تجد مبدلا لكلماته، والجواب أن التبديل راجع إلى الكتاب لا إلى المكلف [ووجه*] أن الملتحد راجع إلى الإنسان فهو أمر ملائم محبوب يطلبه الإنسان ويحث عليه فناسب الوجدان المقتضي المطلب والبحث. قوله تعالى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ ... (28)} قال ابن عرفة: عادتهم يستدلون بهذه الآية على صحة بين واو المفعول معه وواو العطف من أن واو العطف تقتضي التشريك في المعنى وواو المفعول معه لَا يقتضي التشريك، فإذا قلت جاء زيد وعمرو فهو يقتضي اشتراكهما في المجيء كما أنك تقول: جلست والنار فلا يقتضي اشتراكهما في الجلوس، وكذلك هذا لأنه هو الذي يجلس معهم. قوله تعالى: (بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ). إن أريد بالدعاء الصلاة فيكون لفظ الغداة والعشي على بابه وإن أريد به تنقية الدعاء فيكون من باب قوله مطرنا السهل والجبل وضربته الظهر والبطن. قوله تعالى: (وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا). إما من الإفراط: وهو الزيادة في الشيء والتجاوز وتعدي الحدود أو من التفريط، وهو النقض وعدم الوفاء بما أمر الله تعالى به. قوله تعالى: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ ... (29)} قال ابن عرفة: إن عاد الضمير على (مَن) فظاهر، وإن عاد على (الله) فقيل فهم الآية؛ لأن الأول أمر بالإيمان، والثاني لَا يصِح أن يكون أمرا بالكفر، قال تعالى (وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ) وإن جعلته خبر الذم مخالفة الجملة الثانية للأولى مع إنه جزاء التقسيم. قوله تعالى: (وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ). إن قلت: هلا قال: وإن استغاثوا فإنه محقق وقوعه؟ فالجواب: إنه على سبيل التعظيم والتهويل؛ فناسب حرف الشك المقتضي لشربهم من المهل على تقدير طلبهم ذلك الطلب الغير محقق. قوله تعالى: (يَشْوِي الْوُجُوهَ).

(31)

ولم يقل: وجوههم؛ إشارة إلى عظمته وتعدي دخانه للغير بحيث يخرج عنهم، ويكاد يشوي وجوه غيرهم معهم. قوله تعالى: {أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ ... (31)} إما أن لكل واحد جنات، أو على الجمع على سبيل التوزيع؛ فلكل واحد جنة؛ فإن قلت: هلا قيل لهم: جنات عدن، ويستغنى عن لفظ (أُولَئِكَ)؟ فالجواب: أن فيه زيادة تأكيد وتعظيم لهم؛ ولذلك أتى فيه بلفظ البعيد، كما قالت زليخا: (فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ). قوله تعالى: (جَنَّاتُ عَدْنٍ). قال بعضهم: سميت عدنا لوجهين: إما لأنها من عدن بالمكان إذا أقيم به فهي دار إقامة والدنيا دار رحيل وائتمان. وإما أن كل نعيم وإذ لم يمل؛ فهي إشارة إلى أن أهلها يقيمون عليها محبون فيها لا يملون منها بوجه. قوله تعالى: (يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا). قدم التحلية على اللباس مع أن الحاجة إلى اللباس أقوى من الحاجة إلى التحلية، فالتحلية أمر تكميلي، واللباس حاجي فهو أهم، وقال في سورة الإنسان (عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ) فقدم اللباس على التحلية، قال: وعادتهم يجيبون بأن التحلية هنا بالذهب أمر تكميلي، فقدمت على اللباس تنبيها على أنه أيضا أمر تكميلي زائد على اللباس الحاجي، وقدم في سورة الإنسان الحاجي وعطف على التحلية، فهي أيضا أمر حاجي لأنها بالفضة، فهي أقل ما يتحلى به، والتحلية بالذهب أمر زائد عليه تكميلي. قوله تعالى: (ثِيَابًا خُضْرًا). أخذ منه أن الخضرة أحسن الألوان لأنها وسط بين السواد والبياض، والسواد مجمع للبصر مع أنه يحدث انقباضا في النفس، والبياض مفرق للبصر مع أنه يؤثر انبساطا وسرورا في النفس، وأجيب بأن الخضرة أحسن الألوان المغيرة بالصباغ، وأما البياض فهو أحسن الألوان، والسندس [ما رقَّ من الحرير*]، وأما الإستبرق [ما غلظ منه*]، فإن قلت: الإستبرق دون الحرير؛ بدليل قوله تعالى في سورة الرحمن: (مُتَّكِئِينَ عَلَى

(32)

فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ) فجعله بطانة، فالجواب: أن الإستبراق فيه الأرفع والأدنى، فجعل بطانة وأرفعه شبيه بالسندس. فإن قلت: لم قال: (يُحَلَّوْنَ) فحذف الفاعل وبناه للمفعول، وقال: (وَيَلْبَسُونَ) ولم يحذف الفاعل؟ فالجواب: أن اللباس ساتر للعورة فيلبسه الإنسان منفعة خشية [التكشف*] على عورته، والتحلية ليس فيها كشف عورة فلا يتكلف استعمالها بيده؛ بل يستنيب من يكفيه مؤنتها ويزوجه منها، وتقدم عنه توجيها، وقال تعالى في سوِرة الحج (إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا) وقرئ (وَلُؤْلُؤ) بالخفض؛ فتكون الإشارة على هذا (من ذهب وفضة ولؤلؤ). قوله تعالى: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ ... (32)} ابن عرفة: قالوا القاعدة في مثل هذا أن يقال: واذكر لهم قصة رجلين؛ لأن هذا من باب الإخبار عن الواقع، وأجيب بأن ضرب المثل فيه بالفعل والانفعال والأثر؛ لأن الضرب أمر حسن، فكان هذا المذكور ينفي أثرا من التذكر والموعظة بمن جرى له ذلك. قيل لابن عرفة: أو يكون قياسا تمثيليا. قال بعض الطلبة: قدم في الآية السبب على مسببه؛ لأن المناسب في خروج الثمرة، فهلا قيل (وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا) وفي خلالهما ثمرا (كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا). قيل لابن عرفة: وقوله (وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا) مستغنى عنه؛ لأنه مجرد تأكيد؛ لأن معنى الإضافة في قوله (آتَتْ أُكُلَهَا) تقتضي بها؛ كقوله تعالى: (أَمْ عَلَى قُلُوب أَقفَالُهَا) (إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا). قيل لابن عرفة: (وَجَعَلْنَا) بمعنى صيرنا أو بمعنى خلقنا؛ فإن كانت بمعنى خلقنا فيكون هو أنشأهما واخترعهما، وإن كانت بمعنى صيرنا فيحتمل أن يكون أنشأهما غيره واشتراهما هو منه، والآية دالة على أن العنب أفضل الفواكه؛ لأنه بدأ به وكان أكثر غرس الجنتين. قوله تعالى: {وَدَخَلَ جَنَّتَهُ ... (35)}

(37)

إنما أفردها تنبيها على أنه استشعر ذلك عند دخوله إحداهما فأحرى إذا دخلهما، أو لأن الدخول لَا يقع إليهما في حالة واحدة بل إنما يدخل إحداهما أولا ثم يدخل الأخرى بعد ذلك. قوله تعالى: (مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا). إن أراد الأرض والسماوات فيؤخذ منه أنه كان يقول بقدم العالم. قاله ابن عطية: قال ابن عرفة: لأن بما ثبت قدمه يستحال عدمه؛ فعكسها ابن عطية، فقال: ما استحال عدمه ثبت قدمه هذه أصول العالم وهي السماوات والأرض، وأما الجزئيات كالأشجار والثمار فمعلوم أنها تفنى ويخلفها غيرها. قوله تعالى: {قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ... (37)} كفره إما بإنكاره المعاد؛ لقوله (وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً)، أو شكه فيه لقوله (وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي). ابن عرفة: وتقدمنا فيها إشكال وهو ما الموجب لتكفيره إياه؛ مع أن المعاد عند أهل السنة إنما هو ثابت بالسمع لَا بالعقل، والعقل اقتضى إمكانه وتجويز وقوعه؛ لأن وجوب وقوعه، والمعتزلة يقولون: إنه واجب الوقوع عقلا بناء على قاعدة التحسين والتقبيح عندهم، فإما أن يجاب بأنهم لعلهم كان غيرهم سمع واقتضى وجوب المعاد وإنكاره كفرا، وفهم عنه أنه مشرك بالله حسبما أقر به على نفسه في آخر الآية، في قوله (وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا (42) .. قيل لابن عرفة: فكيف يكفره بإنكاره ما ثبت بالسمع ثم يستدل بما فيه بالعقل. قوله تعالى: (مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ). استدل له بأصل بعد منفصل وهو التراب، وأصل بعد متصل وهو النطفة؛ أي خلق أباك من تراب ثم من نطفة. قوله تعالى: (وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ). أفردهما؛ وهما جنتان تحقيرا لهما. قوله تعالى: (فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ). ابن عرفة: وكان بعضهم يقول سببا للذم إن كان فعليا، فالعادة تكون الندم بتقليب الكف، وإن كان قوليا فيكون بالقرع على السن. كما قال الشهرستاني في أول نهاية الإقدام:

(43)

[لقد طفت في تلك المعاهد كلّها ... وسيّرت طرفي بين تلك العوالم فلم أر إلّا واضعا كفّ حائر ... على ذقنه أو قارعا سنّ نادم*] قوله تعالى: (وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا). قال ابن مالك: حرف النداء إن دخل على ليت فإنه للتشبيه لَا للنداء؛ كقوله تعالى: (يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا)؛ لأنه لم يكن هنالك من [تناديه*]. قال ابن عرفة: بل هنالك ربها، أي يا رب ليتني مت قبل هذا. قوله تعالى: {وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ ... (43)} قال الزمخشري: أي يقدرون على نصره من دون الله. قال الطيبي: إنما صرف اللفظ على ظاهره؛ فالمعنى لم ينصره أحد بالفعل دون الله؛ فمفهومه أن الله ينصره مع أن الثابت أن الله لَا ينصره؛ لذلك قال: لم يقدر على نصرته أحد دون الله، فمفهومه إن الله قادر على نصرته ولم ينصره، ورده ابن عرفة بأن هذا غير محتاج إليه؛ لأن في الآية (وَلَم تَكُنْ) ولفظ كان المنفي يقتضي نفي القابلية، فالمعنى ولم تكن له فيه قابلية لنصرته سوى الله فهي مفهومة أن الله قابل لنصرته ولم ينصره، وهذا المعنى ليس من الآية. قوله تعالى: {وَخَيْرٌ عُقْبًا (44)} قال الزمخشري، وابن عطية: أي خير في العاقبة باعتبار الدنيا والآخرة. ابن عرفة: ويحتمل أن يراد العذاب؛ أي هو خير في العقوبة؛ لأن عقوبة الكافر هو للمؤمن خير. فيكون ذلك في الدنيا كما وقع في هذه القضية. قوله تعالى: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ... (45)} ابن عرفة: وجه مناسبتها لما قبلها؛ أنه لما تقدم ذم الحياة الدنيا باعتبار ما نشأ عنها من الشرك، والعجب، والبطر، والرياء عقبه بذمها في نفسها بكون نعيمها زائلا مضمحلا [شبهها بالماء*] في كونه ينزل فينشأ عنه النبات الأخضر الناعم ثم يضمحل، فكذلك الإنسان يوجد بعد أن لم يكن ثم تدرج حالاته من الصغر إلى الشباب، ثم إلى الكبر ثم ينعدم. قوله تعالى: (وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا).

(46)

ابن عرفة: مقتدرا أبلغ من قادر. قوله تعالى: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ... (46)} قال ابن عرفة: كان ابن قيس حكى عن والده: أنه رأى في الأندلس ضعيفا يستعطي ومعه أربعة أولاد، يقول: ارحموا من خالف كتاب الله حيث قدم التزوج على اكتساب المال، فابتلي بالفقر وكثرة البنين، وهو خلاف ما قال الزمخشري في قوله تعالى: (وَأَنْكِحُوا الأَيَامَى) ولفظ البنين خاص بالذكور، ولذلك لم يقل: المال والأولاد لدخول الآيات في الأولاد، وقد كانوا يقولونهم ويتشاءمون بهن فكيف يكونون زينة؟! قوله تعالى: {وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ ... (47)} ابن عرفة: انظر هل اليوم القطعة من الزمان، أو الزمان الذي لَا ينقسم إلى شيء؟ والظاهر الأول. قوله تعالى: (وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً). ابن عرفة: إذا قلنا: إنها هذه الأرض فيؤخذ منه أنها بسيطة؛ لأن ظاهرها أن الإنسان يرى جميعها ولو كانت [كورية*] لما رأي إلا بعضها، لأنا نفرق بين قولك: رأيت الأرض، وقولك: رأيت بعض الأرض. قوله تعالى: (وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا). ورد الزمخشري سؤالا: لما قال (وَحَشَرْنَاهُم) بالماضي و (نسير) روي بالمضارع؟ وأجاب: بأن الحشر متقدم على نسير الجبال، ورؤية الأرض بارزة. وأجاب ابن عرفة: بأن الكفار خالفوا في الإعادة والحشر؛ فأتى فيه بلفظ الماضي تحقيقا له حتى كأنه واقع، كقوله تعالى: (أَتَى أَمْرُ اللَّهِ)، و (نُسَيِّرُ الْجِبَالَ)، ورؤية الأرض بارزة، فلم يقع النص على الخلاف فيهما إلا زمنا، وأجيب: فلم عطف (فَلَمْ نُغَادِرْ) بالفاء والأصل فيه الواو؛ لأنه حال؛ أي وحشرناهم في حالة العموم وعدم الترك ولا تصح السببية؛ لأن الحشر ليست بسبب في عدم المغايرة، وليست عدم المغايرة تعقبه بل هي معه، قال: وأجيب بأن المغادرة هي الترك، والترك يستلزم تقدم سببي عليه؛ فلذلك عطف بالفاء، وذكر بعضهم أن المجانين لَا يحشرون ولا يبعثون. قوله تعالى: {وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا ... (48)}

(49)

قيل: إنهم صف واحد، وقيل: إنهم صفوف، وعبر بالواحد عن الجمع إشارة إلى كمال قدرة الله تعالى في تنزيل الجماعة عنده منزلة الواحد في العرض والرؤية، ونظيره قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا) عبر هنالك بالواحد عن الجماعة تحريضا على المقاتلة، وحثا على التقدم في الصف الأول الموالي للعدو، وحتى كان الجميع صفاً واحداً. قوله تعالى: (بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا). إن قلت: الأصل أن يقال: بل زعمتم أن لن نجعل لكم؛ لأنه ماض فالأصل نفيه بـ لم، وأجيب بأنه مكانه حكاية حال ماضيه. قوله تعالى: {وَوُضِعَ الْكِتَابُ ... (49)} ابن عرفة: الكتاب إما واحد بالنوع؛ أي تضع لكل إنسان كتابه، أو واحد بالشخص ويكون واحدا للناس كلهم؛ وهو اللوح المحفوظ أو شبهه فيه جميع أعمال الخلق وغير موضع، ولم يقل: وأحضر الكتاب، وكذلك قال في سورة (تَنْزِيلٌ) تنبيها على أنه وضع للنظر فيه والاطلاع عليه؛ بخلاف ما لو قيل: وأحضر الكتاب؛ فإنه لَا يتعمد هذا المعنى. قوله تعالى: (وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا). هل هو تأكيد؛ لقوله تعالى: (وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ)، وقوله تعالى: (وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ)، أو هو كقوله تعالى: (يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى) قيل: هو تأكيد؛ لأنه إذا أحصى الصغائر فأحرى أن يحصي الكبائر، وأجيب بأنه تأسيس إشارة إلى أن إحصاءه الصغيرة بجميع أجزائها كمن أحصى جزءاً من خمسة أجزاء؛ فإنه قد يقدر أن يحصي صغيرة من عشرة أجزاء، وقد لَا يقدر عليها، وإما أنه تأكيد والعطف للتسوية إن إحصاءه للصغيرة مساو لإحصائه للكبيرة، وإحاطته بعلمها واحدة تنبيها على كمال الإحاطة، وإما لأن العطف ليدل اللفظ على إحصائه الكبيرة دلالتين بالمطابقة وباللزوم. قلت: وأجاب صاحب الفلك الدائر بأن الآية ليست لتفصيل أحوال الواحدة، فيكون إحصاء الصغيرة فيها يستلزم إحصاء الكبيرة؛ وإنما هي لإحاطة علم الله تعالى

(50)

بأعمال العباد، والعلم بالصغير لَا يستلزم العلم بالكبير بخلاف العكس، كقولك: إذا أبصرت من هو على عشرة فراسخ فأحرى أن تبصر من هو على فرسخ واحد. قوله تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ ... (50)} قال ابن عرفة: هذه الآية تكررت في القرآن لما اشتملت من الأمر الغريب العجيب والوعظ؛ لأن إبليس كان من الملائكة فأُخرج منهم، وكان آدم في الجنة فأُهبط منها فينبغي الاتعاظ بهما وأن لَا يثق بعلمه، ويكون حائطا مراقبا حركاته وسكناته، قال: والسجود إما حقيقة، إن قلنا: إن الملائكة أجسام متحيزون، أو بمعنى الخضوع، إن قلنا: إنهم غير متحيزين، ونقول بالجوهر المفارق، والصحيح أن إبليس ليس من الملائكة؛ لأن الملائكة أجمع العلماء على عصمتهم فكيف يكون إبليس منهم؟ قوله تعالى: (كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ). وهذا من تقديم العلة على المعلول [كقولك: سهى فسجد، وزنا فرجم]، وقد يقدم المعلول على العلة فكونه من الجن علة في فسقه. قوله تعالى: (عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ). دليل على أن الأمر غير الإرادة؛ لأن الله تعالى أمره بالسجود ولم يرده منه؛ إذ لو أراده لوقع تعالى أن يكون في ملكه ما لَا يريد. قوله تعالى: {وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ ... (52)} إن قلت: لم عبر في الأول بالنداء، وفي الثاني بالدعاء؟ قال: فعادتهم يجيبون بأن النداء يكون لمحبوب الدعاء للإنسان ولمكروهه، والدعاء إنما يكون لمحبوبه؛ فما يدعو الإنسان إلا من يجيب فهو أخص من النداء، ولذلك قرن الأخص؛ لأن الاستجابة إنما تكون بالمؤاخذة دون المخالفة، فلذلك قال: (فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ) أي فلم يجيبوهم بغرضهم. قال ابن عرفة: وغلط هنا ابن عطية، وأبو حيان، فنقلا عن ابن كثير أنه قرأ (شركائي) بالقصر بغير مد ولا همز وليس كذلك، وإنما قرأ ذلك في سورة النحل حسبما نص عليه الشاطبي، وابن غلبون في أصول القراءات. قوله تعالى: {وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ ... (59)}

(60)

ابن عرفة: الظاهر عندي بأن الألف واللام في القرى للعهد، والمراد قرى الأولين الذين تقدم ذكرهم في قوله تعالى: (إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ). قوله تعالى: {مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ ... (60)} كان بعضهم يقول: يقع في نفسي أن مجمع البحرين هو مجمع البحر المالح ووادي مجردة عند الذرية، وهو الذي يقال له: فرق البحرين والصخرة فصخرة أبي ربيعة، والجدار في المجدية، والسفينة هي التي كانت تجلب الحجر والرخام؛ إنما الحقيقة العادية من خراسان. قال الزمخشري: مجمع البحرين ملتقى بحري فارس والروم بالمشرق، وقيل: طنجة بالأندلس عند زقاق سبتة وهو ملتقى بحر الظلمات والبحر الآخر، وقيل: إفريقية، واختلفوا في الخضر هل هو حي أم ميت، لقوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: "لا إسلام لمن لَا هجرة له"، فلو كان حيا لهاجر، وقال [مكي بن أبي طالب*] في القوت: إنه هاجر، وقال أبو المعالي: الظاهر أنه [ ... ]. ووقع في البخاري: "أَرَأَيْتَكُمْ [لَيْلَتَكُمْ هَذِهِ، فَإِنَّ رَأْسَ مِائَةِ سَنَةٍ مِنْهَا، لاَ يَبْقَى مِمَّنْ هُوَ عَلَى ظَهْرِ الأَرْضِ أَحَدٌ*] "، فأجيب بأنه لعله كان بين السماء والأرض أو كان في البحر، والمراد بالأرض أرض بلدهم التي هم فيها، كقوله تعالى: (يُنْفَوْا مِنَ الأَرْضِ). قوله تعالى: {فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا ... (61)} معطوف على فعل مقدر، أي صارا فلما بلغا. قوله تعالى: (نَسِيَا حُوتَهُمَا). النسيان إما بمعنى الترك، أو هو في حق يوشع عليه السلام على حقيقته، وفي حق موسى بمعنى الترك، فإن قلت: لاتخاذ الترك متقدم على النسيان؛ لأن يوشع لما رقد موسى وبقي هو يحرس، طاش الحوت ودخل في البحر، فهم يوشع أن يوقظ موسى وهابه (فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا) وعزم يوشع على أن يخبر بذلك موسى إذا استيقظ من نومه، فلما استيقظ سيء أن يخبره؛ فكان الأولى أن يقال: فلما بلغا مجمع بينهما اتخذ سبيله في البحر سربا فنسيا حوتهما، ولإتيان العطف بالفاء

(63)

المقتضية للترتيب ولو كان بالواو ما قال فيه إشكال، قال: والجواب: أن يجعل النسيان هنا بمعنى الترك، ويكون النسيان في قوله (إِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ) على حقيقته. قوله تعالى: {وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ ... (63)} أن أذكره قد يكون النسيان من الله تعالى، وقد يكون من الشيطان؟ فنسيه هنا للشيطان ظنا منه، وإلا فيكون الله تعالى أنساه ذلك لما أراده من إطلاعه على الخضر. قوله تعالى: {فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا ... (65)} قال المفسرون: المراد بالرحمة النبوة؛ فيكون الخضر نبيا. قال ابن عرفة: وكان بعضهم يقول: الرحمة على إبقائها وقدم ذكرها احتراسا لما يأتي من قوله تعالى: (حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلامًا فَقَتَلَهُ) وقتله للغلام يوهم اتصافه بالغلظة والجفاء فاحترس من ذلك بأنه متصف بكمال الرحمة، وما فعل ذلك إلا بأمر من الله إما بوحي إن كان نبيا على لسان الملك، أو بأنها أمر من الله تعالى إن كان وليا. قوله تعالى: {قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا (66)} قال ابن عرفة: فيه إشارة إلى أنك كنت غير عالم فعلمت، وكذلك إما كما علمت علمني؛ فلذلك لم يقل (مِمَّا عُلِّمْتَ)؛ فإن قلت: ما يقبل التعليم العلم الظاهر الذي له أمارات ودلائل، وأما علم الباطن فلا ينحصر ولا يقبل تعليما، ولذلك قال (وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي)، فالجواب: أن موسى صلى الله عليه وعلى آله وسلم ظن أنه راجع للعلم الظاهر الذي ينحصر بالأمارات والدلائل، فأسفرت العاقبة أنه من علم الباطن الذي لَا يقبل تعليما، أو يقال: إنه طلب منه أن يعلمه طريق السلوك الموصلة لما وصل هو إليه. قال ابن عرفة: و (رُشْدًا) لَا يصح أن يكون من باب الأعمال بحيث يطلبه بعلمني، وعلمت أن تكون مفعولا ثانيا لكل واحد منهما؛ لأنك إن علمت فعلمني يجب أن يضمر في الثاني مفعولا ولا يكون إلا منطوقا به لَا مقدرا؛ لأنه يؤدي إلى نصبه العامل للعهد وقطعه عنه، وإن أعلمته للثاني يبقى الموصول بغير عائد فيتعين أن يكون معمولا للأول، ولا تكون المسألة من باب الإعمال. قوله تعالى: {فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا ... (71)}

(73)

قال ابن عرفة: خرقها خرقا يصيبها ولا يضرها؛ ولذلك لم يغرق من أهلها أحد. قال الزمخشري: فإن قلت: لم جعل هنا جواب الشرط فعل الخضر وهو الخرق لا قول موسى، وجعل في قتل الغلام فعل الخضر معطوف بالفاء، وجواب الشرط قول موسى؟ فأجاب بأن الخرق متراخ عن الركوب، والقتل يعقب لفاء الغلام، وتبعه أبو حيان. قال ابن عرفة: إنما عادتهم يجيبون بأن خرق السفينة ملائم لسببه وهو الركوب؛ لأنهم فعلوا معهم أمرا ملائما فحملوهم بغير قول؛ ففعل هو معهم بسبب ذلك أمرا ملائما وهو خرق السفينة الموجب إنجائهم من الملك الذي يأخذ كل سفينة غصبا؛ فناسب جعله سببا عنه، وأما قتل الغلام فليس ملائم للفاء؛ وإنما الملائم له فعل مقدر وهو خوف أن يرهق والديه المؤمنين طغيانا وكفرا؛ فلذلك عطفه على الشرط ولم يجعله جوابا له ولا سببا عنه. قوله تعالى: (لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا). أي شيئا عظيما، كقول أبي [سفيان*] في حديث هرقل: [لَقَدْ أَمِرَ أَمْرُ ابْنِ أَبِي كَبْشَةَ، إِنَّهُ يَخَافُهُ مَلِكُ بَنِي الأَصْفَرِ*]. قوله تعالى (لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ ... (73) قال ابن عطية: كانت الأولى من موسى نسيانا، والثانية شرطا، والثالثة تعمدا فكان الجمع شرطا، قال: أما كون الثانية شرطا؛ فلأن مفهوم قوله (لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ) أنه إن عاد إلى ذلك يؤاخذه فهذا شرط في الثانية. قيل لابن عرفة: بل الشرط هو قوله: إن سألتك بعدها، فقال: إنما شرط ذلك بعد وقوع الغفلة الثانية، وأما الثالثة فتعمد؛ لأنه عزم على فراقه؛ فلذلك أنكر عليه. قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ ... (77)} ولم يقل: وصلا إلى أهل قرية؛ إشارة إلى أن إتيانهم لها كان على قصد، والقرية قيل: هي الأبلة، قالوا: وهي أبعد أرض إلى السماء. ابن عرفة: إن قلنا: إن الأرض كورية فمن هو في أعلى الكورة أقرب إلى السماء ممن هو في جوانبها، مثل: بطيخة موضوعة في قبة فصعدت نملة في أعلى البطيخة، ونملة في جوانبها، فإن التي في أعلاها أقرب إلى سقف القبة. قوله تعالى: (اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا).

(78)

فيها سؤالان: الأول: لم أعاد الاسم الظاهر، وهلا قال: استطعماهم؟ قال: فأجيب بأن المراد أنهما استطعما كرم أهلها ومن يظن به منهم التكرم؛ لَا أنهما قصدا الجميع. السؤال الثاني: أن الاستطعام أعم لصدقه لأدنى شيء، والضيافة أخص إما ليلة أو ثلاثة أيام أو نحو ذلك؛ فاستعمل في الآية إلا في الثبوت والأخص في النفي، والقاعدة عكس ذلك، قال: وأجيب: بأنهما قصدا التلطف في الطلب فعبرا بأدنى العبارات، وهو الإطعام الذي حصل مدلوله باللقمة الواحدة، وقوبلا هما بالامتناع من الضيافة بقصدهما الإسراف من أهلها الذين لَا يطلب منهم إلا المقابلة بالتسامي في [الإكرام*] على قدر همهم وعظم منازلهم؛ بل إنما أجاب بأن موسى والخضر عليهما السلام لَا يقابلان إلا بالضيافة الكاملة لَا مطلق الطعام؛ فلذلك قال (فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا). قوله تعالى: (فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ). قيل لابن عرفة: هل هذا مجاز في الإسناد؟ فقال: لَا بل هو مجاز في الإفراد؛ لأن إرادته مجاز وانقضاضه مجاز؛ حتى كان بعضهم يقول: المجاز في الإسناد لا يمكن بصورة إلا في مثال واحد؛ وهو: أنا قد قررنا الفرق بين الحكم التقييدي والحكم الإسنادي، كقولك: الرجل العاقل قائم؛ فالعقل قيد والقيام إسناد، فإذا قلنا: الذي لَا تجوز شهادته فهو صادق بكون الحكم التقييدي عند المنطقيين من قبيل التصديق لَا من التصور؛ فهو مجازي في الإسناد، وهو من مجاز إطلاق الملزوم على اللازم. قوله تعالى: {قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ ... (78)} الإشارة إما إلى الشرط الواقع بينهما، والتقدير هذا فراق الصلة بيني وبينك، فإن قلت: هلا قال: هذا فراق بيننا، فإن أعاد لفظ بين تحقيقا للمفارقة حتى لَا يجمع بينه وبيّنه في لفظ بيننا. قيل لابن عرفة: إن الحريري قال في مقاماته في السابعة والثلاثين: واستنزل [الريَّ*] من درِّ السحاب [فإنْ بُلّتْ يَداكَ بهِ فليَهنِكَ الظّفَرُ*].

(79)

قال ابن عرفة: هذا نظير ما وقع في الغيبة فيمن عير برعاية الغنم، فقال: رعى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فقال به مالك: إن قاله على سبيل التسلي أُدِّب، وإن قاله على غير ذلك ضرب عنقه، قلت: يريد أن يحتد به التنقيص. قوله تعالى: {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا (79)} أورد الزمخشري سؤالا: اغتصاب الملك للسفن سبب لتعييب الخضر لهذه السفينة، فهو مقدم عليه فلم أخر عنه؟ وأجاب: بأن السبب فيه أمران كونها للمساكين ولخشية الاغتصاب، فوسط المسبب بين علتيه؛ كقولك: زيد في ظني قائم. قال ابن عرفة: وعادتهم يجيبون بأن الحكم تارة يؤتى به مقرونا بعلته، وتارة يؤتى به بسؤال محتاجا جوابا عنه فيؤخر العلة. وهذا كما يقول السماكي: وهم وتنبيه، وذلك أن ركوبها للمساكين ليس بعلة في إعابتها؛ بل يتوهم أنه علة في العكس، فيقول القائل: فلم أعابها وهي للمساكين؟ فيقال: خشية اغتصاب الملك لها. وقال الطيبي: أخر العلة فيكون بيانا للسبب والارتباط الذي بين العلة وهي المسكنة، وبين المعلول. فقال ابن عرفة: بل هي جواب عن السؤال متوهم إيراده على جعل المسكنة سببا في إعابة السفينة. فإن قلت: لم قال في السفينة (فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا)، وفي قتل الغلام (فَأَرَدْنَا)؟ فأجيب بأن الأول متعلق بالإعابة فأسندها إلى نفسه، والثاني متعلق بتبديله بما هو خير منه فشرك غيره معه على سبيل التواضع والأدب. قوله تعالى: {فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا (80)} قال ابن عرفة: يؤخذ من الآية أنه إذا تعارض احتمال يوهم [نقض*] دين الإسلام مع تحقق حفظ النفس، فقلت: احتمال يوهم [نقض*] الدين؛ لأن الخضر قتل الغلام باحتمال توهم أن يكفر إذا كبر، ويكفر أبواه بسبب كفره. قوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ ... (83)} الطلب من الأعلى للأدنى [أمر*]، وعلته سؤال وخضوع، فهذا سؤال حقيقة [ويجب على هذا*] أن يكون قوله تعالى: (وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ)

(84)

[تهكما بهم*]، قالوا: وذو القرنين إما اسم علم له أو صفة، وذكروا فيه وجوها: إما أنه ضرب في القرن الأيمن من رأسه جرحا ومات بسببه؛ فأحياه الله، فضرب في قرنه الأيسر جرحا فمات؛ فأحياه الله. وحكى ابن عطية، عن علي: أنه ملك، وعن عمر: أنه ليس بنبي ولا ملك، وحكى الزمخشري العكس سواء. قوله تعالى: (قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا). ولم يقل: إن شاء الله مع أنه أمر بأن لَا يقول الشيء إني فاعله غدا إلا أن يشاء الله، واكتفى بذكره ذلك هناك عن حكاية هنا، والآية على تقدير مضاف إما أولا وآخرا فإن قدرته. قلت؛ ويسألونك عن حال ذي القرنين، فيعود الضمير في قوله تعالى: (عَلَيْكُم مِنْهُ ذِكْرًا) على حاله، وإن لم يقدره أولا فيحتاج إلى تقديره آخرا؛ أي سأتلوا عليكم من خبره ذكرا، وتنوين (ذِكْرًا) إما للتقليل إشارة إلى عظم حاله، وإلا لم ينكر إلا أقله للتعظيم، وأن النفي ذكر منه، وإن قل فهو عظيم في ذاته، قال تعالى في قصة أهل الكهف (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ)، ولم يقل: من نبأهم، وقال تعالى (قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا)؛ لأن قصة أهل الكهف منحصرة، وأمر هذا الرجل غير منحصر. قوله تعالى: {إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ ... (84)} ابن عرفة: إن كان أمر تبليغ هذا اللفظ فيكون حكاية لكلام الله تعالى: أي قل لهم إنا مكنا له في الأرض، وإن كان من كلام الله فيكون شبه التفات، وإلا كان يقال: إن الله مكن له في الأرض. قوله تعالى: (وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ). إن كان نبيا فيكون المراد العموم في الأنواع والتبعيض في إعادتها؛ فأدنى بعض كل نوع؛ لأن النبي لا يصد عنه شيء. قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ ... (86)} [لا أنها تغرب فيها حقيقة*]؛ لأن العين جزء من الأرض، والشمس أكبر من الأرض بكثير فكيف يغرب الجرم الكبير في الصغير؟ فالمراد أن ذلك المحل رآها منه حتى

(89)

غربت ولا يغرب كل يوم فيه؛ فإن لها مغارب ومشارق، ومع أنها تغرب على قوم وتطلع على آخرين، ومع ما ورد في حديث أبي ذر، قال له: «أَتَدْرِي أَيْنَ تَذْهَبُ؟» [قلت لا، قال «إنها تغرب في عين حامية» *]. قوله تعالى: (إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا). إما للتخيير أو للتفصيل؛ أي للتخيير في أنواع العذاب إما تعذيبهم بالقتل أو بالأسر وهو [الحسن*]، أو للتفصيل للتخيير؛ بمعنى إما أن تعذبهم، وإما أن تحسن إليهم فاختار هو [حسنها*]. قال ابن عرفة: وبدأ بمغرب الشمس قبل مطلعها؛ إشارة إلى ما يقول الحكماء أول الفكر أجر العمل، وهي العلة الغائبة تنبيها للإنسان على النظر في عواقب الأمور، وأنه يكون على حذر من أجرته فيعمل على ما يحصلها، وإذا أراد أن يفعل أمرا تفكر في عواقبه وحينئذ يفعله. قوله تعالى: {ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (89)} العطف بـ ثم إشارة إلى المهملة التي بين فعله الأول والثاني لَا سيما مع كونه ملكا [لَا ينتهي أمره*] إلا بعد طول ومهلة. قيل لابن عرفة: ذكروا أن عمره أربعون سنة، والمعمور من الأرض مسافة ثمانين فكيف مشى هذا المقدار؟ فقال: هذا خرق عادة والرجل نبي أو ولي أو ملك فلا يستغرب في حقه أن يقطع المسافة الطويلة على الزمن القليل. قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ ... (90)} ابن عرفة: قالوا: ما الحكمة في إدخال لفظة (إِذَا) في [المطلع*]؛ مع أنك إنما تقول: إنما سرت حتى أدخل المدينة، فهلا قال: حتى بلغ مغرب الشمس، وحتى بلغ مطلعها؟ فأجيب بأن لفظة (إِذَا) تفيد القصد أنها بعد [الحامية*]، كقولك: سرت حتى أبلغ مكة فأعتمر، إن العمرة مقصودة لك من [الأول احترازا*] من أن يكون فعلك لها إشاريا اختياريا من غير قصد له، وكذلك هنا إنما كان سيره ليبلغ أول المعمور وآخره، فيدعوا النَّاس إلى الإيمان بالله، لَا أنه كان اتفاقيا، قال: وقرأ الأكثرون بالفتح في سورة (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) لوضوح إرادة المكان هنا، ووضوح إرادة الزمان هناك أو المصدر.

(91)

قوله تعالى: (لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا) أي سترا معهودا. قوله تعالى: {وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا (91)} إشارة إلى علم الله تعالى بالجزئيات والكليات، فكذلك (خُبْرًا). قوله تعالى: {ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (92) حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ ... (93)} قال الزمخشري: إن اسم الجبلين والسد بفتح السين مصدر سد يسد سدا، [فهو اسم*]، [وانتصب بَيْنَ على أنه مفعول به مبلوغ*] أخرج عن أصله، كما أخرج في قوله تعالى: (هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ) فجعل مضافا، وكما أخرج في (لَقَدْ تَقَطَّعَ [بَيْنُكُمْ) *] فجعل فاعلا. ابن عرفة: وقال ابن أبي الربيع ابن سالم في الاكتفاء: إن المعتصم الملك كان في البلد التي جال فيها سر من رأى، وإنه رأى في منامه قائلا يقول له: إن سد يأجوج ومأجوج قد وقع، قال: فلما استيقظ شق عليه ذلك فأعد من جيشه خمسين فارسا، وأمَّر عليهم واحدا منهم، وأعطاه خمسة آلاف زيادة، وأعطاه من المال والطعام شيئا كثيرا؛ فخرجوا وغابوا عنه ثمانية وعشرين شهرا، فلما قدموا عليه أخبروا أنهم مشوا من أرض إلى أرض وهم يسألون ويلتمسون الدليل، ويخرجون كتب الملك إلى عمال البلاد فيمدونهم بالمال والطعام إلى أن وصلوا إلى بلاد خربة غير عامرة، فذكر لهم أن يأجوج ومأجوج كانوا أخربوها ثم وصلوا بعدها إلى مؤمنين فأخبروهم أن السد قريب منهم، وبلغوهم إليه فوجدوا له بابا شاهقا له قفل طوله عشرة أذرع وغلظه ذراعا ومفتاحه مغلق فوقه، وعادتهم يأتون إليه في يوم معين من أيام كل جمعة؛ فيضربون عليه بذلك المفتاح ضربا عنيفا ليشعروا يأجوج ومأجوج بعمارة تلك الجهة، فيسمعون عند ذلك لهم ضجيجا وصياحا يرتعش له النفوس، ووجد عند السد شيئا كثيرا من الأواني والقدور التي بلغته الغاية في كبر جرمها، وهي من بقايا ما كان ذو القرنين أذاب فيه النحاس والرصاص، وقالوا: إن بعض يأجوج ومأجوج علا في أعلى السد فسقط منهم اثنان أحياء فماتا. قال ابن عرفة: وظاهر الحديث أن الدعوة بلغت يأجوج ومأجوج، لقوله: يدخل النار من يأجوج تسعمائة وتسعة وتسعون ويتبعون شخصا ومنكم شخص واحد. قوله تعالى: (لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ).

(94)

هؤلاء يفهمون كلاما مع أن الكلام هو المفيد، والقول يطلق على المفيد وغيره؛ فالكلمة الواحدة قول وليست بكلام؛ فالقول يطلق على التصورات، والكلام يطلق على التصديقات، قال: والجواب أنهم إذا لم يفهموا القول المطلق على المطلق فأحرى أن لَا يفهموا الكلام. قوله تعالى: {قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ ... (94)} مع أنهم لَا يفهمون القول، فكلفهم لهذا الكلام لغاية اضطرارهم إليه على عادة المريض أو العاجز عن الكلام، أنه لَا يتكلم إلا عند الحاجة الفادحة والضرورة التي لا بد له منها. قوله تعالى: (فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا). يؤخذ منه أن الإنسان إذا طلب من الملك حاجة يعلم أنه يقوم بها ولا يحتاج إلى معونته فيها فإنه يبدأ بنفسه ويعرض لها في الإعانة بها؛ فلذلك قالوا: (فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا) مع علمهم بعدم افتقاره إلى ذلك لكثرة جنوده وماله. قوله تعالى: {فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ ... (95)} مثل قوله تعالى: (فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا). قوله تعالى: {آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ ... حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا (96)} قرئ (آتُونِي) بمعنى أعطوني، وقرئ [(أتُونِي)] من الإتيان بمعنى المجيء؛ فزبر على هذا منصوبة بإسقاط حرف الجر؛ أي بزبر الحديد. قوله تعالى: (حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ [قَالَ انْفُخُوا حَتَّى) *] غاية [والمغيى بها*] مقدر تقديره فآتوه ما طلب، وأخذ في بناء السد (حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا) فنفخوا حتى إذا جعله نارا، والمساواة إما بمعنى أنه صعد بالبناء حتى ساوى أعلى الجبلين في الارتفاع، وإما بمعنى أنه كان يبني بناء مساويا لعرض الصدفين؛ أي للجانب الذي ظهر يأجوج ومأجوج من الصدفين؛ فيصعد مثلا مقدار إقامة [ويوقد عليه*] حتى يصير نارا؛ فيفرغ عليه القطر ثم يبني فوقه بناء آخر مساويا لوجه الصدفين فيصعد به مثل ذلك؛ حتى علا به إلى أن ساوى أعلى الجبلين من غير زيادة عليهما ولا نقصان. قوله تعالى: (حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا).

(97)

نسب الجعل إليه اعتناء به وإلا فليس في قدرته جعله نارا وإنما ذلك بفعل الله تعالى وهو مجاز؛ أي جعله ذا نار إلا أنه هو نفس النار، والنار لَا توجد إلا في شيء، قال تعالى (أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (71) أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا) ولم يقل: أنشأتموها. قيل لابن عرفة: فالنار جسم أو عرض؟ فقال: جسم مجاور ما حل فيه إلا يمازجه. قوله تعالى: {فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا (97)} عبر في الأول بالفعل وفي الثاني بالاسم، فهلا قيل: وما استطاعوا أن ينقبوه، أو يقال: فما استطاعوا له ظهورا؟ قال: فعادتهم يجيبون بأن الفعل عندنا مشتق من المصدر فدلالته على المعنى أظهر من دلالة المصدر؛ لأن المشتقات تدل منها على ما اشتقت منه وزيادة، فلما كانت دلالة الفعل على المعنى أظهر من دلالة المصدر عليه عبر به عن الظهور لتكون دلالته مناسبة للفظه، كما قيل: [صرصر البازي وصرصر العصفور*]، وعبر عن النقب بالاسم على الأصل؛ لأنه مفعول والأصل أن يكون مفردا، أو يحتمل أن يجاب بمراعاة رءوس الآي. قيل لابن عرفة: أو يقال: إن الصعود عليه أصعب من نقبه فنفى بلفظ الفعل المقتضي لعموم عجزهم عن قليله فأحرى كثيره؛ فالنقب أخف، فنفى أشده لأنهم ذكروا أنهم ينقبون كل وقت ولا يتم لهم ذلك، ولما في حديث البخاري: " [فُتِحَ اليَوْمَ مِنْ رَدْمِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مِثْلُ هَذِهِ» وَحَلَّقَ بِإِصْبَعِهِ الإِبْهَامِ وَالَّتِي تَلِيهَا*] "، وهي علامة على قرب الساعة، فإن قلت: لم حذفت التاء من اسطاعوا الأول، وثبتت في الثاني؟ فأجاب أبو جعفر الزبير بوجهين: أحدهما: أن معمول الأول جملة، ومعمول الثاني مفرد والجملة أكثر حروفا من المفرد؛ فناسب حذف التاء من الأول دون الثاني (¬1). الوجه الثاني: أن الظهور على السد أسهل من نقبه وأخف فناسب التخفيف بحذف التاء من عامله وهو اسطاعوا، كما قالوا في صرصر البازي؛ أي اللفظ فيه مناسب لمعناه. قوله تعالى: {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا (98)} قال ابن عرفة: هذا يدل على أنه كان عنده علم يتم بناء ويبقى صحيحا إلى أمد معلوم، وكان يجوز أن يكون ذلك على يديه. ¬

_ (¬1) في المطبوع هكذا [لتعاد] وهي كلمة لا معنى لها، وكذلك فهي غير موجودة في ملاك التأويل لابن الزبير.

(99)

قوله تعالى: (وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا) إن قلت: ما الفائدة فيه؟ فالجواب: إنه دليل على صحة ما يقولون من أن ذا القرنين كان عالما بقواعد المنطق؛ لأن هذا قياس شرطي استغنى فيه عن المقدم فينتج عين الثاني، فيقال: كلما جاء وعد ربي جعله دكاء، والمقدم حق فالثاني حق؛ أي وعد ربي حق فجعله دكاء حق؛ لأن ذا القرنين قرأ على أرسطاطاليس. قيل لابن عرفة: وكان أرسطاطاليس فيلسوفا طبائعيا، وذو القرنين سني، فقال: وكذا إمام الحرمين سني وشيخة الجبائي معتزلي. قوله تعالى: {وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ ... (99)} قال ابن عرفة: انظر هل يؤخذ منه أن الترك فعل؛ أي جعلنا بعضهم يموج في بعض؟ قيل لابن عرفة: إن الأصوليين ما جعلوا الترك إلا الكف عن الشيء؛ فكذلك سعوا إلى الله تعالى. فقال ابن عرفة: بل أجازوا نسبته إليهم بدليل أنهم ألزموا من يقول به قدم العالم. قوله تعالى: (إِنْ أُرِيدُ). إن يأجوج ومأجوج فيكون التنوين عوضا عن الجملة في قوله تعالى: (فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ) أي يوم عدم استطاعتهم، وتكون إذ على بابها ظرف زمان لما مضى حقيقة، أو أريد جميع فيكون التنوين عوضا من جملة مجيئها كذا الله تعالى وهو يوم القيامة، ويكون إذا ما ظرف زمان لما يستقبل، أو ماضيه في معنى المستقبل، مثل: (أَتَى أَمْرُ اللَّهِ) ولذلك قرأتها بقوله (يَمُوجُ) وهو مستقبل. قوله تعالى: (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا). التأكيد بالمصدر لتحقيق الجمع؛ إما في نفسه؛ فيكون تأكيد الجمع، أو باعتبار الزمان؛ فيكون تأسيسا، فأفاد الفعل جمع أجزائهم، وأفاد الثاني الإتيان بهم مجتمعين في زمن واحد للحساب؛ فهو على الأول مصدر مؤكد لنفسه، وعلى الثاني مؤكد لغيره. قوله تعالى: {وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضًا (100)} قال ابن عطية: يحتمل أن يكون هذا من باب القلب؛ أي عرضناهم على جهنم.

(101)

فرده ابن عرفة بأن القلب مجاز، والتأكيد يرفع المجاز، ولذلك احتجوا به في قوله تعالى: (وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا) على صحة وقوع الكلام من الله حقيقة، وإلا كان يقول: أنه من باب القلب (وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا). قوله تعالى: {كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي ... (101)} ظاهره عام في المؤمنين والكافرين؛ فلذلك أضاف الذكر إلى الله تعالى. قوله تعالى: {إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلًا (102)} إنما قال: الكافرين، ولم يقل: أعتدنا جهنم لهم؛ لاحتمال عود الضمير على لفظ عبادي وهم الملائكة. قوله تعالى: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103)} قال ابن عرفة: هذا استفهام حقيقة، كأنه يقول: هل نخبركم بالأخسرين أعمالا، إن سألتهم عنهم فهم الذين ضل سعيهم، وقال هنا (نُنَبِّئُكُم) بالنون. وقال في [الشعراء (هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ (221) *]. وقال في سورة آل عمران (قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ)، وقال: (وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ) فعبر في هؤلاء بهمزة المتكلم وحده، وهما بنون من غيره لوضوح مدلول هذه وخفاء مدلول تلك الآيات، وتوقف صحتها على المعجزة، والمعنى ضل في الآخرة سعيهم في الدنيا؛ لأن كل ما عملوه يذهب عنهم ولا يجدونه فأشبه الضالة الذاهب، قال: وأسند الضلال للسعي والإحسان للصنع؛ لأن السعي أعم من الصنع، فناسب إسناده إلى الضلال؛ لأن نفي الأعم يستلزم نفي الأخص، والضلال نفي والإحسان إثبات، فصار كقوله تعالى: (فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ). قوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ ... (105)} قال ابن عرفة: يؤخذ منها أن جحد المعاد محبط للعمل، وأنه كفر، قيل له: إنما أحبط أعمالهم اتصافهم بالكفر وجحد المعاد معا، فقال: بل كل واحد من الأمرين كاف في ذلك بدليل أن مجرد الكفر كاف في إحباط العمل، وكذلك جحد المعاد.

(109)

قيل لابن عرفة: اقتضت الآية أن أعمالهم حبطت مجموع الأمرين، ودليل الدليل من خارج على أن مجرد الكفر محبط للعمل وليس من الآية، فقال: بل من الآية؛ لأن تعليق الحكم على الوصف المناسب يشعر بعلة ذلك الحكم للوصف. قال الفخر: لَا يقال: من زنا وأكل الحلوى فاجلدوه؛ فدل على أن كل واحد من الوصفين على انفراده كافٍ في إحباط العمل. قوله تعالى: (فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا). ظاهره أنه لَا يوزن أعمالهم السيئة إذ لها أثر مع الكفر، وظاهر قوله تعالى: (وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ) أنها توزن. فقال ابن عرفة: لعل تلك في العصاة وخلودهم غير مؤبد، قيل له: بل ظاهرها التأبيد، فقال: أو تكون خفة الموازين مجازا عبارة عن عدم ما يجعل فيها فلذلك تخف. قال ابن عطية، والزمخشري: أن ابن الكواء قال علي بن أبي طالب: من هم؟ فقال هم أهل حروراء وإننا منهم. قال ابن عرفة: هذا إما تشديد عليه، وإما بناء بأن المعاصي محبطة للعمل، وكان ابن الكواء من المعتزلة. قوله تعالى: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي ... (109)} اختلف الزمخشري، وابن عطية في سبب نزولها. فقال ابن عطية: [سبب نزولها أن اليهود قالت للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: كيف تزعم أنك نبي الأمم كلها، [ومبعوث إليها*]، وأنك أعطيت [ما يحتاجه*] النَّاس من العلم، [وأنت مقصر*] قد سئلت عن الروح ولم تجب فيه؛ فنزلت الآية معلمة [باتساع معلومات*] الله تعالى، وأنها [غير*] متناهية وعلم الله غير متناه، فلا يستغرب من النبي أن يقول: لَا علم لي بهذه المسألة، قال: وهذا مخالف لما قال اليهود في سؤالهم له عن الروح حيث سألوه عنه، فقالوا: إن أجابكم عنه فليس بنبي، وإن لم يجبكم عنه فهو نبي؛ المراد بالكلمات: إما علم الله القديم الأزلي ومعلوم الله تعالى من حيث تعلقه، والمتعلق بذاته هو العلم لا المعلوم. قوله تعالى: (لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي). كان بعضهم ينتقد على أبي سعيد قوله في المدونة: ويؤمر الجنب بالوضوء قبل الغسل، فإن اغتسل بعده أجزأه، ويقول: إنه ليس في المدونة. فإِن اغتسل بعده

(110)

أجزأه، بل قوله: فقبل الغسل يجزئ عنه،؛ لأن قولك: جاء زيد قبل عمرو يقتضي مجيء عمرو، وكأن غيره لَا يقتضيه، لأنك تقول: [ ... ] زيد ابنه قبل أن يتزايد لابنه الولد، ولا يلزم منه أن يكون لابنه ولد، ويحتج عليه بآيات من القرآن منها هذه، وكان الآخر يجيب بأن هذه في سياق الشرط يتركب من المحال؛ لأن المحال يستلزم محالات؛ لأن كون البحر مدادا لكلمات الله ونفاذ كلمات الله محال. قوله تعالى: (وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا). وقال في لقمان (وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ) فانظر أيهما أبلغ؟ قال ابن عرفة: كلاهما بليغ؛ لأنه ليس المراد نفس سبعة أبحر بل هو مبالغة، وكذلك هنا ليس المراد مثله فقط بل مثله ومثل مثله إلى ما لَا نهاية له. وقوله تعالى: (قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ). اعلم أن لو حرف امتناع، وينتفي منها عند الأصوليين الأول لانتفاء الثاني، وكذا عند المنطقيين خلافا للنحويين؛ بدليل قوله تعالى: (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ) فانتفت الآلهة لانتفاء الفناء. لَوله تعالى: (قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ ... (110) يؤخذ منه أن المماثلة بين الشيئين لَا ينافي اختصاص أحدهما بأمر دون الآخر، فالأنبياء عليهم السلام مماثلون لنا في الخلق في الأمور الذاتية، وإن اختصوا بأمر عرضي، ويؤخذ منه أن هداية نفوسهم مماثلة لغيرهم، فليست النبوة أمرًا مكتسبا بوجه؛ بل هي خصوصية ألحقهم الله بها من غير تطبع ولا اختلاف مجاز. قوله تعالى: (يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ). إن قلت: تغليب على المخاطب؛ فهلا قال: إنما إلهنا إله واحد، فالجواب: أنه موحد لله تعالى لَا يعتقد له شريكا، والآية حيث مخرج الرد عليهم. فناسب أن يقول (إِلَهُكُم) لأنهم يشركون به، والوحدة في الأمر الذاتي، والأمر الحكمي. قوله تعالى: (فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ). ولم يقل: يرجو لقاء ربكم، ولذلك لم يقل: فاعملوا صالحا تهيئا لهم على العمل الصالح، والرجاء إما على بابه، أو بمعنى الخوف على جهاز المجاز.

سورة مريم

سُورَةُ مَرْيَمَ عليها الصلاة والسلام قوله تعالى: {كهيعص (1)} اختلفوا هل هذه الأحرف اسم للسورة، أو الكاف عبارة عن الكبير، والياء عبارة عن العلي، والعين عن العليم، والهاء عن الله، والصاد عن الصادق. ابن عرفة: لَا يؤخذ بالاجتهاد وإنما إسناده عن الصحابة - رضي الله عنهم - أو حديث. قيل لابن عرفة: نص النحويين على أن الحروف لَا تنطق بها، ولا يقال: هذا الحرف ويقطع من كذا، [وذكر*] سيبويه عن الخليل في كيفية النطق أنه كاف له هنا السكت؛ فيقال: في حروف [**قرب ضرب صدرويه] فقال: هذه ليست منقطعة منها بل هو حرف آخر مماثل للكاف من الكبير وهي اسم؛ لأنك تقول كاف ياء فهي اسم لتلك الحروف. وقال بعضهم: إن الحروف التي في أوائل السور مما استأثر الله بعلمه. وقال بعض المتأخرين ممن اختصر "كتاب المحصول: هذا إنما هو في الألفاظ [المعبر بها*] عن الكلام القديم، وأما الكلام القديم الأزلي فيستحيل أن يقال فيه: إنه لَا يفهم. قوله تعالى: {إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا (3)} قال الطبري: نداء مخلصا؛ فعبر عنه [بالخفي*] مجازا وليس بكناية؛ لأن الخفي منه المخلص وغيره. قوله تعالى: {إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي ... (4)} ابن عرفة: قال بعض اللغويين: (وَهَنَ) أي ضعف لكن الوهن أخص من الضعف؛ لأن الضعف له أول ومنتهى، والوهن يقتضي الضعف الشديد المتناهي. فإن قلت: هلا قال: وهنت العظام مني، فهو أبلغ؟ ابن عرفة: فأجاب بعض البيانيين: إن الألف واللام إذا دخلت على المفرد سيرته عاما في المفردات، والعموم الذاتي أقوى من العموم العرضي، كقولك: كل رجل قائم، وكل الرجال قائم.

(5)

فإن قلت: اشتعال الشيب في الرأس سبب في الوهن فهلا قدم عليه؟ قلت: إنما يؤكد الأضعف بالأقوى، والوهن أقوى في الدلالة على الضعف من الشيب؛ لأن الإنسان قد يشيب صغيرا مؤكد هنا بالأقوى الأضعف فلا فائدة فيه. قال ابن عرفة: وعادتهم يجيبون بأن الوهن سبب خفي، والاشتعال بالشيب سبب ظاهر يراه كل أحد فأخَّره ليكون كالدليل عليه، وأجيب بأن الوهن يكون لمرض، فهو قابل للتداوي والرجوع إلى حالته الأولى، فلما عقبه بالشيب دل على أنه أمر لازم. ابن عرفة:؛ لأنه يضعف [لأن الكبر ليس لها دواء*]. فإن قلت: هلا قال: وهن مني عظمي؟ فالجواب: أن فيه التبيين بعد الإجمال. كما قال الزمخشري في قوله تعالى: (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ)، فإن قلت: هلا قال: واشتعل شيب الرأس؟ فأجاب بأنه مجاز على جهة المبالغة في نسب الاشتعال [لجميع*] الرأس؛ إشارة إلى عموم الشيب في رأسه حتى كأنه شيب. قوله تعالى: (وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا). معناه: أني أدعوك فإن استجبت لي حصلت السعادة، وإن لم تستجب لي أجرت أجر [التضرع والخضوع*] فلم أكن شقيا بوجه، والمصدر هنا مضاف إلى المفعول؛ أي ولم أكن بدعائي إياك شقيا. قوله تعالى: {وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي ... (5)} فإن قلت: هذا معطوف على وهن المؤكد فهلا استغنى عن إعادة إني؟ فالجواب: إما بأنه تأكيد الشيب في المطلب، وإمَّا بأن وهن العظم والمشتعل الرأس ليس من كسبه بوجه، وخوف الموالي من أقاربه في الكسب فهو مباين للأول، وقرئ (خُفْتُ) ومعنى من ورائي من بعدي، فعلى قراءة (خِفْتُ) يفهم معنى الآية؛ لأنه بمنزلة رجل ومات نظراؤه في صناعته؛ حتى لم يبق منهم إلا إنسان، فيقال: خفت الصناع من بعدي؛ لأنه يقطع إذا مات لَا يبقى إلا إنسان، وعلى قراءة (خُفْتُ) لا يصح المعنى؛ لأن إذا مات ارتفع خوفه من هذه من رضى الدنيا لَا يخاف مما كان بعد موته. قوله تعالى: {قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ ... (8)} ابن عطية: كيف استبعد زيادة الولد بعد أن طلبه ودعا به، فأجاب بأربعة أوجه:

(9)

أحدهما: إنما طلب وليا لَا ولدا؛ فلعله يكون له ولد غير الولد لَا ولدا، إما حفيدا، وإما ابن عم، أو ابن أخ أو غير ذلك؛ فلما بشر بالولد استغرب ذلك، فقال: أنى يكون لي [ولد*]. الثاني: أن يكون بين طلبه له وبين التبشير به زمن [متطاول*] بحيث تزايد ضعفه، وتمكنت شيخوخته فكان يرجو أن يبشر به في زمن [إياسه*] من الولد. الثالث: أنه سأل عن الكيفية التي تزايد له فيها الولد هل مرجوع امرأته شابة، أو تلد على ذلك الحال، كما قال إبراهيم: (رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى). وفي عبارة ابن عطية، قلت: لأنه طلب الولد ثم استفهم كيف الوصول إليه، [وكيف نفذ القدر به*]. ابن عرفة: وعادتهم يوردون سؤالا، وهو أنه إذا تقدم اسم نكرة ثم أعيد فإنما يعاد معرفا بالألف واللام، قال الله تعالى (كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا (15) فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ)، قال هنا (يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى)، فقال: (أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ) الولد، أو يقول: أنى يكون لي الغلام [فأجيب بوجهين*]: أحدهما: أن الغلام هنا مدح باسمه فأشبه المعرفة؛ فلذلك لم يعده. الثاني: ذلك إنما هو حيث يعاد بلفظه، وهنا إنما أعيد بلفظ الولد ولا شك أن أحدهما أعم من الآخر، فالغلام أعم؛ فإنه يمكن أن يكون ولد ولده، أو ولد أحد من قرابته؛ فأخذ هو بحق السؤال باستبعاد كونه ولده. قوله تعالى: {قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ ... (9)} أي: كما علمت أن جميع الأشياء هين على الله فاعلم أن هذا هين عليه، واستدل بخلقه إياه من عدم، وهذا هو المذهب الكلامي وهو الإتيان بالحكم مقرونا بدليله. قوله تعالى: (وَلَمْ تَكُ شَيْئًا). ظاهره أن هذا حجة لأهل السنة في قولهم؛ لأن الندم ليس بشيء. والزمخشري يقول: ولم تك شيئا موجودا أو شيئا مذكورا. قوله تعالى: {رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً ... (10)}

(12)

أي علامة. قوله تعالى: {يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ ... (12)} ابن عرفة: عرف القرآن في هذا النداء بالياء، إيماء بالموجود؛ فلذلك قال ابن عطية: [المعنى فولده له*]، وقال الله للمولود (يَا يَحْيَى). ابن عرفة: إنما عد بولد؛ لأن المتكلمين اختلفوا في الاستدلال على الحدوث هل يستدل بالإمكان أو بالموجود؟ فإن نظرنا إلى ما قبل الآية، وهو قوله تعالى: (إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى) وهذا دليل على إمكان وجوده، وإن نظرنا إلى قوله تعالى: (يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ) كان دليل على أنه واحد؛ لأنه خطاب له؛ فلذلك أضمر وجوده قبله. وقوله تعالى: (خُذِ). إن كان تكليفا فهو للوجوب، وإن كان امتنانا فهو للندب. قوله تعالى: (بِقُوَّةٍ). قال أبو حيان: إما مفعول أو حال. ابن عرفة: يريد إما متعلق بقوله (خُذِ) وهو موضع الحال والكتاب التوراة، وإنما قال: (بِقُوَّةٍ) ولم يقل ذلك في موسى ولا في [غيره*] من الأنبياء؛ لأنهم أوتوا الحكم [كبارًا*] بالضرورة أن يأخذوا الكتاب بقوة، ويحيى أوتي الحكم صبيا، فقال (بِقُوَّةٍ) أحرى بنا؛ فالحكم المراد به الأمر الفضلي، يعني لأن الصبيان يوصفون بالحكم الضروري فلا مزية له عليهم فيه. حسبما قال الفخر في المحصول: الحكم القصد، يعني هو يمكن أن يكون وأن لا يكون؛ فلذلك يوصف به الصبيان، ويوصفون بالضروري، فلو [علمه*] الصبي لعلمه بتفضيل [**لم يضر] لأنكر ذلك بالبديهة. قوله تعالى: {وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا ... (13)} ابن عطية، والزمخشري: يحتمل أن يراد وخلقنا في قلبه الحنان، ويحتمل أن يراد وآتيناه حنانا منا عليه. وذكر ابن الصلاح في علوم الحديث في باب رِوَايَةِ الْآبَاءِ [عَنِ الْأَبْنَاءِ*] حديثا يقتضي اتصاف الله تعالى بالحنان، وذكر فيه سندا متصلا إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه: أن الحنَّان هو الذي يُقبل على من أعرض عنه، [والمَنَّانَ هو الذي يبدأ بالنوال

(14)

قبل السؤال*]، فقال ابن العربي هنا في الأحكام: إن إتيان النبوة للصغير ممكنة جائزة عقلا؛ لكنها لم تقع، ولم يذكر ذلك المتكلمون؛ لأن ظاهر كلامهم بياني في بداية الإقدام، أيضا أنها جائزة عقلا؛ لأنه قال: لَا خلاف بين أهل السنة أن الله تعالى يخص من يشاء من عباده بالنبوة والولاية؛ فعموم هذا يتناول الصغير والكبير. قال ابن عرفة: [وأما المعتزلة*] فلا يجوز عندهم نبوة الصغير بناء على قاعدة التحسين والتقبيح، والفلاسفة يصح ذلك على مذهبهم؛ لأنهم يقولون: إنها راجعة إلى طبع مجازي [يحظون به*]، وظاهر كلام الفخر هنا أنها واقعة أن يحيى وعيسى بعثا صغيرين. قوله تعالى: {وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا (14)} وقال تعالى في عيسى: (وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا)، وكان بعضهم يقول: لأن يحيى [أكثر تكليفا، قال: وعيسى كذلك [وكان رسولا*]. قوله تعالى: {وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ ... (15)} وقال عيسى: (وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ) قيل لابن عرفة: هذا حكم إنشائي وصيغ الاستثناء حالته، فكيف يعمل في المستقبل؟ فقال: ليس المراد حقيقة المستقبل، وإنما هو كقولهم: ضربته الظهر والبطن. قوله تعالى: (وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَومَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ). وقال عيسى: (وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ) فأجاب الزمخشري والغزالي بأن يحيى غلب مقام الخوف فسلم عليه أمنا له [وتطمينا*]، وعيسى غلب عليه مقام الرجاء. قوله تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ ... (16)} قال ابن عرفة: عينها باسمها في سورة التحريم، فقال تعالى (وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا) تشريفا بذكرها مع امرأة فرعون، وامرأة نوح ولوط، ويوجد جواز اجتماع الخبر والأمر في الكلام الواحد؛ لأن الإخبار الآخر عن هذه القصة مع أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم مأمور بتبليغها للناس فيؤخذ منه أن من آمن فلا يبيع سلعة بكذا دينار، فقال: إن فلانا، قال: بائع سلعتي هذه بكذا وأنا قد بعتها به، فقال المشتري: وقد اشتريتها بذلك، فقال: ربما لَا أرضى بذلك أنه يلزمه البيع. قوله تعالى: (إِذِ انْتَبَذَتْ).

(17)

قال أبو حيان: يصح أن يكون مفعولا أو بدلا من مريم، فقيل له: هما شيء واحد؛ لأن اذكر إنما يتعدى لمفعول واحد، فقال: القائل فيه فعل آخر مقدر؛ أي اذكر إذ انتبذت. قال المختصر السفاقسي: يحتمل أن يكون على حذف مضاف؛ أي اذكر خبر مريم وما جرى لها إذ انتبذت. قال ابن عرفة: هذا هو الصحيح، لأن الخبر متأخر عن المجرور عنه فلا يصح أن يعمل الخبر في إذ؛ لأن وقت الانتباذ ليس هو وقت الخبر؛ فلذلك قال أبو حيان: وما جرى لها إذ انتبذت. قوله تعالى: {فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا ... (17)} وهو جبريل، وقال تعالى في سورة آل عمران: (إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ) التبشير وقع من الملائكة وهذا الإرسال من ملكَ واحد، فإن كانت القصة واحدة فيكون ذكر هذا جبريل وحده؛ لأنه المتقدم في الملائكة وهو تبع له، وإن كانت قصتين فتكون تلك قبل هذه فبشرها أولا الملائكة ثم أتاها جبريل وحده فنفخ في فرجها. فإن قلت: كيف يفهم [تصور*] الملك ورجوعه على صورة إنسان حسن الصورة مع أن الموجودات ثلاثة: إما متحيز، أو قائم بالتحيز، أو لَا متحيز ولا قائم؛ فمتحيز على القول بإثبات الجوهر المفارق، فكما لَا يصح صيرورة الجوهر [عرضا*] ولا العكس؛ لذلك لَا يصح الموجود الغير المتحيز متحيزا، قلت: فالصواب أن الملائكة أجسام متحيزة، فكما أن الله تعالى أقدر الجسم على القيام والقعود والحركة، كذلك أقدر بعض الأجسام على [التصور*] على صفات مختلفة. ابن عرفة: وقد كنت رأيت السلطان إبراهيم في غاية الضعف قولا [ ... ]. قوله تعالى: {فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي ... (24)} وقرئ (مَنْ تَحْتَهَا)، وعلى كلا القراءتين يصح أن يكون المنادِي جبريل وعيسى عليهما السلام، ورجح بعضهم الأول بعدم الاحتياج إلى إضمار الفاعل، وأجيب بأن الفاعل هناك الجزء من الفعل فهو بمنزلة المركب. ابن عرفة: [ومن بدع التفسير قول الزمخشري في أن جبريل عليه السلام كان يُقَبِّل الولدَ كالقابلة*].

(25)

قوله تعالى: (أَلَّا تَحْزَنِي). قال الزمخشري: أن مفسرة. ابن عرفة: انظر هل هي مفسرة للنداء أو للقول الكائن معه؟ فالمعنى: قال لها يا مريم لَا تحزني، أو كون قوله: (نَادَاهَا) فحملوه من قوله لها: (يَا مَرْيَمُ) وأن لا يفسر القول الواقع بالنداء. قوله تعالى: (أَلَّا تَحْزَنِي). قال ابن عرفة: عادتهم يوردون فيه سؤالا وهو أن الغم الواقع من النفس إن كان لأجل أمر مستقبل فهو خوف، وإن كان لأجل أمر ماض فهو حزن وتألم، إما أن تكون مما يلحقها من المعرة فقط من قومها فهو أمر مستقبل، أو بالسبب الواجب لهذه المعرة وهو أمر ماض أو مجموعهما، وهو مستقبلي؛ لأنه إن كان بعض المجموع مستقبل فالكل مستقبل، وتألمها في الحقيقة، وهو إما أن يلحقها من المعرة فقط، فهلا قال [(فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَا أَلا تَخافي) *]؟ قال: والجواب: اختار أنها اغتمت وتأملت للمجموع من المعرة وسببها وراعاها في هذا المجموع سببه وهو ماض تذكيرا لها لما فيه من المعجزة، والأمر الخارق للعادة؛ ففيه تسلية لها عن العالم لما يتوقعه من المعرة وسببها وراعاها في المستقبل. قوله تعالى: {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا (25)} قال ابن عطية: يؤخذ منه مراعاة الأسباب، وإلا فالله سبحانه قادر على إيصال ذلك إليها من غير هز. ابن عرفة: وكان بعضهم يقول: إنما أمرها بالهز؛ لأن فيه اشتغالا لها لتسلى [ويزول*] عنها ما بها من الغم، [كما شاهدناه*] فيمن يكون مغموما فتعلق نفسه بشيء يزيل همه، قالوا: ففي الآية تعدى فعل المضمر المتصل إلى مضمره المتصل، وأجاب أبو حيان بخمسة أوجه: إما أنه على إضمار أعني إليك. وإما أن ذلك اسم.

(26)

وإما أن ذلك جائز عند الكوفيين. ابن عرفة: وكان بعضهم يقول: الصواب جوازه هنا، وإنما يمنع حيث يباشر الفاعل المفعول، كقوله: ضربتني وضربتك، وهنا فصل بين الضميرين حرف الجر، وقد أجازوا العطف على المضمر المتصل المرفوع إذا فصل بينه وبين المعطوف بالجر، مثل: (مَا أَشرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا). فقيل لابن عرفة: هذا شبه القياس في اللغة، وهو ممنوع عندهم، قيل له: [إنه يجاب*] [بأن*] (إليك) متعلق بـ (تساقط عليك) ويكون بدل اشتمال]؛ لأن الاستعلاء مشتمل على منتهى الغاية. قلت: وذكرته لصاحبنا الأستاذ أبي الفارس بن القصار فرده بوجهين: الأول: أن جواب الشرط لَا يجوز تقديم معموله عليه إلا عند [الفراء*]، و (تساقط) هنا جواب للأمر المتضمن معنى الشرط، واحتج المؤلف بقول الشاعر: وللخيلِ أيَّام فمن يصطبرْ لها ... ويعرفْ لها أيَّامها الخيرَ يُعقبِ وأجاب ابن عصفور بأن الخبر للام الثاني إنما نصوا على شديدة الاتصال بالجمل، فلا يجوز الفصل بينهما بأجنبي باتفاق، وإذا كان متعلق بـ تساقط صار أجنبيا عن هذا، قال: وإنما الجواب عندي بأنه على حذف مضاف؛ أي: وهزي إلى جهتك حسبما ذكر ابن عصفور في قوله تعالى: (وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ) وذكروا أيضا نحوه في قوله: فدعْ عنك نَهباً صِيحَ في حَجراتِه ... ولكن [حديث*] ما حديث الرواحلِ قوله تعالى: (رُطَبًا جَنِيًّا). أي رطبا مهيئا للاجتناء؛ لأن الرطب قسمان: منها ما حل، ومنها ما لم يحضر وقت اجتنائه. قوله تعالى: {فَإِمَّا تَرَيِنَّ ... (26)} أصله: فإنْ ما ترين. قوله تعالى: (إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا). فكان في شريعتهم أنهم إذا انذروا الصوم يمسكون عن الطعام والشراب والكلام. قوله تعالى: {فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ ... (27)}

(28)

قيل لابن عرفة: ما أفاد قوله تعالى: (تَحْمِلُهُ) مع أن (بهِ) يغني عنه؟ فأجاب بأنه احتراس عن أن يظن، قيل له: هلا استغنى بقوله (تَحْمِلُهُ) عن قوله: (بِهِ)؟ فقال: أفاد ذكره التفسير بعد الإجمال، كما قال في قوله تعالى: (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ)، قال وعادتهم يقولون: يقدرون أن الفعل يقتضي التكلف، واحتمال [المشاق*] بخلاف الاسم، كقولك: جاء زيد يحمل عمرا؛ بخلاف قولك: حامل عمرو، ولا شك أن عليها في دخولها به قريتها [هَمٌّ*] كبير، ومشقة؛ لاستحيائها منهم. قوله تعالى: {مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (28)} قال ابن عرفة: فيه إيماء إلى أن الأصل له أثر في الفرع، ولذلك قال [ ... ]. [لعله عرق نزعه*]. قوله تعالى: {كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (29)} ابن عرفة: (مَنْ) إما عبارة عن الأنواع أو عن الأشخاص؛ فإن كانت للأنواع فالمعنى كيف نكلم من هو من هذا النوع؟ فتبقى كان على أصلها؛ لأن هذا النوع مضى منه كثير. قال ابن عرفة: وعادتهم يوردون في هذا سؤالا؛ وهو أن الصواب [أن يقال*]: كيف نسمع كلام من كان في المهد صبيا؟ أو كيف يجيبنا من كان في المهد صبيا؟ لأنهم قد تكلموا وكلامهم وإنكارهم إنما هو [عليها*] لَا على الصبي، وقد كلموها، وما بقي لهم إلا السماع، قال: فكان الجواب يمشي بتقدير [صحته*]؛ أي إنما [أجبنا*] المسئول لا غيره، ونحن إنما نتكلم ونسأل من هو أهل لأن يتكلم، ومن كان في المهد صبيا لا يتكلم. قوله تعالى: {وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ ... (31)} إنما لم يقل: وأمرني؛ لأنه صغير لم يبلغ هذا التكليف. قوله تعالى: {ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ ... (34)} قيل لابن عرفة: يحتمل أن يكون (الْحَقِّ) بدلا من (عيسى) بدل اشتمال، وقد نصوا على جواز بدل المصدر من الاسم في بدل الاشتمال؛ فرد عليه بأنه مشروط بضمير

(35)

يربط بين البدل والمبدل منه، والمصدر ليس فيه ضمير إذ ليس بمشتق، وأجيب بأن ابن هشام [نص*] في شرح الإيضاح على [أنه*] الألف، والألف تقوم مقام الضمير. قوله تعالى: (الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ). ولم يقل: الذي فيه يختلفون؛ لأن الاختلاف يستلزم أن يكون البعض حقا والبعض مبطلا، والامتراء يقتضي بطلان قول جميعهم. قوله تعالى: {مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ ... (35)} قابلية [اتخاذ*] الولد، ونفي مكان اتخاذه]، ونفى في سورة (قُلْ هُوَ اللَّهُ) وجود اتخاذه، وفي سورة المؤمنين (مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ). ابن عرفة: وبين الآية عموم وخصوص من وجه دون وجه؛ فنفي وجود الولد لا يستلزم نفي وجود البنين، ونفي اتخاذ الولد يتناول ولد البنين أو ولد الصلب. قوله تعالى: {وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ ... (36)} قال الزمخشري: قرأ المدنيون، وأبو عمرو بفتح (إن) [والأستار*] وأبو عبيد بكسرها على الابتداء. قال ابن عرفة: وجدت في طرة كتاب عن الزمخشري: الإسناد معناه الأربعة. قال الطيبي: هم الكوفيون والأعمش. قوله تعالى: {مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ (37)} (مِنْ) للسبب؛ أي لسبب شهادتهم ذلك اليوم لما يقولون. قوله تعالى: {أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا ... (38)} ابن عطية: هؤلاء ممن يقال فيهم: ما أسمعهم وما أبصرهم بالعذاب والوعد والآلام النازلة بهم. قال ابن عرفة: وكان بعضهم يرجح الثاني، قوله تعالى: في سورة نون والقلم، (يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ). فظاهره أنه ليست لهم قدرة عن أفعال أسباب السعادة، وأجيب بأن تلك على سبب القوة العملية عنهم، وهذه إنما تدل على إثبات القوة العلمية لَا العملية. قال الزمخشري: وقيل: إنما معناه التهديد بما ينالهم ويصدع قلوبهم من السوء.

(40)

ابن عرفة: فيكون أمرا بالسماع حقيقة. وقيل لابن عرفة: فالإسماع في الدنيا فكيف يعمل في (يوم يأتوننا)؟ فقال: الفاعل لازمه لَا هو أي أسمع غيرهم بخبرهم يوم يأتوننا. ابن عرفة: وظاهر الآية دليل في المسألة التي كفر القرآن فيها الفلاسفة حيث أنكروا إعادة الأجسام بعينها، بقوله (يَوْمَ يَأْتُونَنَا) فظاهر إتيانهم بأسماعهم وأبصارهم على ما كانت عليهم. قوله تعالى: (فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ). يحتمل معنيين: إما أنه مبين في نفسه، وأنه مبين جهلهم وغباوتهم وهلاكهم. قوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا ... (40)} الوارث قسمان: فوارث المال بمعنى تملكه حسيا، ووارث الأب بمعنى [**تملكه حظه] أو عمله وهي معنوية؛ فهل هو من استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه؟ قال: ليس هو لذلك؛ لأن الأب لَا يملك، والأرض هنا ومن فيها ملك لله عز وجل. قوله تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ ... (41)} قال ابن عرفة: قال المفسرون: إن كان الله تعالى ذكره في الكتاب فيكون أمر النبي صلى الله عليه وعلى آله الطيبين وسلم فضائله وأوصافه وسماعه من النبوة والرسالة والصدق، وإن كان أمر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فيكون ذكر حقيقة. ابن عرفة: ويحتمل على الأول أن يكون بمعنى اذكر للناس ذكر إبراهيم في الكتاب؛ أي اتل عليهم أنه ذكره في الكتاب. ابن عرفة: وانظر هل ذكره في الكتاب تشريفا له أو تعظيما؛ فكان بعضهم يأخذ من هذه الآية مع قوله تعالى: (فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ) بأنه ليس بين مرتبة النبوة ومرتبة [الصديقين*] مرتبة زائدة، وبيَّن [الصديقين*] بأنهم العلماء في قوله تعالى: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ)، أو في قوله تعالى: (شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ) مع أنهم ذكروا في الحال أنها على أربعة أقسام: فأولها: إيمان المقام.

(42)

الثاني: من حصل له العلم بدليل لَا يقدر على التعبير عنه، وهذا يختلف فيه هل هو مقلد أو مجتهد. والثالث: من حصل له العلم أنه بالدليل القوي يقدر على دفع ما يرد عليه من التشكيكات، وعلى تربية النَّاس وإرشادهم به إلى الطريق الحق، كان سيدي أبو الحسن الزبيدي على صحن الجابية وهو ينظر [منتهى السول للآمدي*]، قال: قلت في نفسي: [عذرا يا سيدي أبا الحسن*]، هل هو من الصديقين أم لَا؟ فطوى الكتاب. كان سيدي أبو الطاهر الركراكي يقول: نحن معاشر الصديقين آخر من ينصرف من المحشر ثم رجع ينظر في الكتاب. قال ابن عرفة: ما ورد في الحديث من أن إبراهيم صلى الله على نبينا محمد وعليه وعلى آله وسلم لم يكذب إلا ثلاث كذبات ليس على ظاهره، وما عدها إبراهيم كذبات إلا تواضعا منه، وإلا فقوله: (بَل فَعَلَهُ كَبِيرُهُم هَذَا) ليس بكذب، بقوله: (إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ) فقد فعله كبيرهم هذا وهم لَا ينطقون فلم يفعل هو. قوله تعالى: {يَا أَبَتِ ... (42)} النداء له تنبيه ليحضر ذهنه لسماع ما يرد عليه، ولم يقل: يا آزر على جهة اللطف والاستعطاف، ومن التلطف سؤاله عن سبب عبادته لمن هو عاجز، وهو قوله (وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا) إشارة إلى أنه مفتقر لمعبود يغني عنه وينفعه ويضره. قوله تعالى: {يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ ... (43)} إشارة إلى أن أباه عجز عن جوابه هذا فأخبر هو بما حصل حقيقة عنده من العلم. قوله تعالى: {أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ ... (46)} قال ابن عرفة: يحتمل أن يكون استفهاما حقيقة؛ ليحصل المشاكلة بينه وبين قول إبراهيم (لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ) كأنه أيضا استفهام حقيقة يرد السؤال لَا في استفهام إبراهيم عن العلة في عبادته أبيه عن نفس العبادة، واستفهام آزر عن ذات الشيء لَا عن علته، هل هو راغب عن آلهته أو يعبدها؟ قال: وأجيب بثلاثة أوجه: الأول: أن هذا منه على سبيل المغالطة، وإلا فهو يعلم أن إبراهيم يرغب عن آلهته.

(47)

الثاني: أنه سئل عن علة العلم، وأما الجاهل فلا يسأل عن علة الحكم ولا عن دليله بوجه. الثالث: أنه إنما ذكره ليرتب عليه العقوبة في قوله (لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا). قال ابن عرفة: فإن قلت: هلا ابتدأ بالنداء قبل الاستفهام؟ فالجواب: أنه قدم الاستفهام؛ لأنه الاسم المقصود. قوله تعالى: (وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا). معطوف على مقدر؛ أي فاحذرني واهجرني مليا. قوله تعالى: {قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ ... (47)} كان بعضهم يقول: أما سلام القادر فمطلوب مشروع، وأما سلام المنصرف فغير مشروع، ومنهم من قال: مشروع بدليل هذه الآية مع حديث خرجه أبو داود. قوله تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا (51)} فكان بعضهم يقول: الوصف بالنبوة تأكيد؛ لأن الرسالة أخص، وكان بعضهم يجيب بأن الأعم على قسمين: أعم لَا يوجد إلا في أخصه المعين. وأعم يوجد فيه وفي غيره، فمثال الأول في قولك لرجل ميت: كان هذا إنسانا حيوانا؛ فالأعم في هذا المثال لَا يوجد إلا في أخصه المعين؛ لأن كون ذلك الرجل حيوانا لَا يمكن أن يوجد إلا مع كونه إنسان، وكذلك الموصوف بعد الرسالة إن كان نبياً مدة من الزمان، ثم كان رسولا بعد ذلك باستبعاد استقلال كل واحد من الوصفين فيه وفي غيره من الرسل أرسل وثبت واحدة. قوله تعالى: {وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ ... (52)} (مِنْ) للغاية؛ أعني لابتدائها وانتهائها، نحو: خذ المال من الصندوق، وذلك من النسبة إلى المخاطب، والوصف الأيمن إما مأخوذ من اليمن والبركة، وإما باعتبار الشرف، وإما باعتبار القوة والضعف؛ لأن اليمين أقوى في التكسب والحركة من الشمال باعتبار الأعم الأغلب، وقد يكون في بعض النَّاس على العكس. قوله تعالى: {وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا (53)}

(54)

قد يقال: ظاهر الآية أن هارون عليه السلام كان نبيا فقط، فيجاب بأنه رسول نبي بدليل قوله تعالى: (اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (43) فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ ... )، غير أن رسالته على جهة التبعية لموسى؛ بقوله (وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي (29) هَارُونَ). قال الزمخشري: [الرسول الذي معه من [الأنبياء*] [والنبىّ: الذي ينبئ عن الله عز وجل، وإن لم يكن معه كتاب، كيوشع*]. ابن عرفة: إنما الرسول المأمور بالتبليغ فيما أوحي له به، والنبي هو الذي يوحى إليه ولم يؤمر بالتبليغ. ابن عرفة: وفي هذه الآية عندي رد على شيخنا القاضي ابن عبد السلام حيث كان في ميعاده، يقول في تفسير طه في قوله تعالى: (قَدْ أُوتيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى) بعد قوله تعالى: (وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي هارون أخي) إلي [(في أمري) *]، قال: هذه الآية حجة للمعتزلة في قولهم: إن النبوة مكتسبة، وكان ابن مرزوق يشنع عليه، وعزم على تكفيره؛ لكنه ذكره بأثره كلاما يدل على سلامة عقيدته مع أن تلك الآية لَا حجة لهم فيها؛ لأن القائلين بأنها مكتسبة بالدعاء [والتضرع*] إلى الله تعالى؛ لكن قبل خاتم النبوة، وأما الآن فلا؛ لأن موسى دعا بذلك؛ فاستجاب دعائه، كما يدعوا الإنسان بأن يكون وليا أو عالما. قال ابن عرفة: قال: فقوله في هذه الآية (وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا) دليل على أن نبوة هارون عليه السلام محض تفضل من الله تعالى، ورحمته ليس باكتساب بوجه. قوله تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا (54)} ابن عرفة: هذا كله تشريف لإبراهيم صلى الله على نبينا محمد وعليه وعلى آله وسلم بما يخصه في ذاته وما يخص ذريته؛ لأن إسماعيل عليه الصلاة والسلام من ذريته. ابن عطية: الجمهور على أن الذبيح إسماعيل. وقال ابن رشد في المقدمات: الأكثرون على أنه إسحاق. وقال اللخمي: الأصح أنه إسماعيل.

(55)

ابن عرفة: وكان بعض الطلبة، يقول: إطلاق صادق بلفظ اسم الفاعل على الذات حقيقة، وعلى القول مجاز، فيقال: رجل صادق، وقول صادق؛ فإنما الحقيقة قول صادق بوصف المعنى بالمعنى، وظاهر الآية العكس؛ لأنهم قالوا في قوله: مررت برجل حسن الوجه لَا بصفته، فكذلك هذا وصف إسماعيل [بصفة*] وعده. قال ابن عرفة: وأجيب الفرق بين القول والوعد والصدق ينسب إلى القائل في قوله حقيقة إلى صاحب الوعد مجاز، أو إنما يقال: فلان وفى في وعد أوعدني فأوفى إليَّ؛ فقولك كان هنا مجازا. قوله تعالى: {وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ ... (55)} إعادة لفظ كان تنبيه على أن كل وصف منها منتقل بالمدح عليه. قوله تعالى: (وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا). فيه تشريف له بوجهين: أحدهما: أن لفظ [العندية*] منسوبة إلى الله عز وجل. والثاني: وصف الرضا. قال الزمخشري: أصله مرضو. وقال ابن عطية: أصله مرضوي، والصحيح ما قال الزمخشري؛ لقوله تعالى: (وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ) فهو من ذوات الواو، ولذلك [لم يُمَلْ*] ورش مرضاة، وأمالها الكسائي. قلت: قال صاحبنا ابن القصار: اعتبر أصل المادة وهو رضو؛ فجاءت واو في آخر الفعل قبلها كسرة فقلبت ياء؛ لأن مصدره رضوان، وراعا ابن عطية أصل الإعلال؛ لأنه لما أعل [رجع*] إلى الياء، وأصل الإعلال عندهم إنما يعتبر في الفعل. قيل لابن عرفة: اعتبر ابن عطية في الفعل، وهو رضيت ورضينا. قال ابن عطية: إنما وصف إسماعيل بصدق الوعد؛ لأنه وعد رجلا أن يلقاه في موضع فانتظره إسماعيل يوما وليلة، وقيل: انتظره سنة. ابن عرفة: والعجب من الزمخشري على تأخره على ابن عطية كيف لم يذكر القول الأول.

(56)

قال ابن عطية: وفعله نبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله الطيبين وسلم قبل البعثة، ذكره النقاش، وخرجه الترمذي. ابن عرفة: وذكر عياض في الشفاء: أنه انتظر موعوده ثلاثة أيام، وذكر ابن ماجه حديثا. قال ابن عرفة: والعطف في الآية تدل أن الرسالة أشرف من [صدق الوعد*] والأمر بالصلاة والزكاة مستند إلى تبليغه عن الله أشرف من وصف الرسالة فقط، والرضا مع ذلك أشرف من الجميع. قوله تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ ... (56)} قيل: إنه ولد قبل وفاة آدم عليه السلام بمائة سنة*. ابن عرفة: والظاهر أنه نبي فقط؛ لأن هذه الأوصاف ذكرت على معنى التشريف له فيعتبر في ذلك أعلاها؛ فلو كان رسولا لمدح بوصف الرسالة. قوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ ... (58)} قال ابن عرفة: انظر هل هذا من الإشارة إلى القريب بلفظ البعيد للتعظيم؟ مثل: (قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ) [أو لا؟ *] كان بعضهم سيعمله منه محتجا بأنه إذا اجتمع في الكلام القريب وبعيد يغلب القريب بدليل [تغليبهم*] ضمير المخاطب على الغائب والمشار إليهم هنا منهم زكريا وهو بعيد، ومنهم إدريس، وهو قريب، وكان بعضهم يقول بالعكس أولا؛ لأن المشار إليهم مجموع مشتمل على قريب وبعيد. وقد قال المنطقيون: فاعتبر هنا في المجموع أدناه وهو البعيد، فلذلك أشير إليه بلفظ البعيد. قوله تعالى: (مِنَ النَّبِيِّينَ). قال ابن عرفة: كونه خبر المبتدأ يوجب إشكالا؛ وهو توهم [حصر*] النبيين في هؤلاء، ولزم من البيان الجنس، فيجاب بأنه أعم، والخبر يكون أعم من المبتدأ، أورده بعض الطلبة بأن هذا عام لَا أعم إذ لَا يقول: زيد الرجال، كما يقول: زيد الحيوان، وأجاب ابن عرفة بأن كونه تاما لَا ينافي هنا كونه أعم فهو هنا عام وأعم، قيل لابن عرفة: ما أفاد قوله تعالى: (مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ) أنه معلوم لَا غرابة فيه، قال: فائدته تشريف آدم [بنسبتهم*] إليه.

(59)

قوله تعالى: (إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ). ولم يقل: آيات الله، أو القهار، أو العزيز، أو الجبار [تنبيها بالأدنى على الأعلى*]؛ إشارة إلى أنهم إذا سمعوا آيات الرحمن والرحمة يبكون ويسبحون؛ فأحرى إذا سمعوا آية التخويف والموعظة. قوله تعالى: (سُجَّدًا). قال أبو حيان: حال مقدرة؛ لأنهم حال الخرور والقعود. قال أبو حيان: ((شَاهِدٍ وَمَشهُودٍ). قال ابن عرفة: شهود ليس إلا جمع، وشهود وقعود يحتمل الجمع والمصدر، كما أن (بُكِيًّا) يحتمل الجمع إذا تلوها هم بأنفسهم هل يكون أحرى فيمن جاورهم أو مساويا أبدا؟ قلنا: يحتمل الأخروية والتساوي، ويحتمل أن يكون من جاورهم بسماعها من غيرهم أمرا، كما قال النبي صلى الله عليه وعلى آله الطيبين وسلم: "إني أحب أن أسمعه من غيري". قوله تعالى: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ ... (59)} العطف بالفاء يقتضي كمال القرب بين زمنهم وزمن هؤلاء المخالفين لهم؛ ولذلك قال ابن عطية: بينهم ستون سنة، وأنه أقل ما تبدل فيه الأحوال، وكذلك قال النبي صلى الله وعلى آله الطيبين وسلم: ": خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم"، والمراد القرب بينهم وبين آخرهم وهو عيسى عليه السلام، وحينئذ يحصل كمال البعد بينهم بمجموعهم وبين المخالفين لهم، هذا إن قلنا: إن الخلف في النصارى، وإن قلنا: إن اليهود فيهم فيكون المراد من بعدهم، والخلَف بالفتح في الخير وبالسكون في الشر، ومنه حديث خرجه مسلم في كتاب الزكاة: " [مَا مِنْ يَوْمٍ يُصْبِحُ العِبَادُ فِيهِ، إِلَّا مَلَكَانِ يَنْزِلاَنِ، فَيَقُولُ أَحَدُهُمَا: اللَّهُمَّ أَعْطِ مُنْفِقًا خَلَفًا، وَيَقُولُ الآخَرُ: اللَّهُمَّ أَعْطِ مُمْسِكًا تَلَفًا*] ". قال ابن عرفة: والمراد بالأول الإنفاق في الواجب والمندوب والإمساك عن النفقة الواجبة؛ لأنه إخبار من المشرع بالدعاء له وعليه ففيه ذم فاعله؛ فدل على أنه واجب. قوله تعالى: (أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ). قال ابن عرفة: قالوا: اتباع الشهوات سبب لإضاعة الصلاة؛ لأن من اتبع شهوة النفس مكنها من غرضها في الراحة والتكاسل عن الطاعة.

(60)

قال ابن عرفة: بل المراد على العكس؛ لقوله تعالى: (إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ). قوله تعالى: {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ ... (60)} قيل لابن عرفة: إن قلت: التوبة تستلزم الإيمان لأنها إما من الكفر أو المعاصي؛ فما أفاد قوله (وَآمَنَ)؟ فالجواب: إما بأنه على التوزيع فمن تاب المراد به المعاصي، ومن آمن أي من الكفر، وإما أن التائب تقبل توبته إذا تاب وتحققت حالته، وإن ازدادت على ما كانت عليه قبل ذلك، فقوله (آمَنَ) إشارة إلى هذا. قوله تعالى: (وَلَا يُظْلَمُونَ شَيئًا). الواو إما للحال؛ أي يدخلون الجنة في حال عدم الظلم، ويحتمل أن تكون جملة مستقلة وهو أولى لاقتضائه عدم ظلمهم قبل الدخول وبعده. قوله تعالى: {الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ ... (61)} لأنهم عبدوا الله استنادا للوعد بها لمن أطاعه وهو أمر فجيب عنهم. قوله تعالى: (إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا). يحتمل أن يكون اسم فاعل أو اسم مفعول، إما أنه كان [وعده آتيًا*] أو مأتيا مدركا. قوله تعالى: {لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا ... (62)} بهذا مثل عَلَى لَاحِبٍ لَا يَهْتَدِي بِمَنَارِهِ أي ليس فيها لغو يسمع، واللغو الساقط من القول. قوله تعالى: (إِلَّا سَلَامًا). ذكر أبو حيان فيه ثلاث أوجه: أحدهما: أنه استثناء متصل؛ لأن السلام في الجنة لغو؛ لأنه لَا فائدة فيه إذ لا خوف فيها فيحتاج إلى التأمين منه. الثاني: أنه منقطع. والثالث: أنه مثل: ولا عيبَ فيهم غيرَ أنَّ سيوفَهم ... بهنَّ فلولٌ من قراعِ الكتائبِ

(63)

قيل لابن عرفة: فهو إذا منقطع؛ لأن سيبويه أنشد هذا البيت في باب الاستثناء المنقطع، فقال ابن عرفة: الفرق بينهما أنه على هذا الوجه يكون المراد به المدح؛ فهو من تأكيد المدح بما [يشبه*] الذم، والبكرة والعشي حملها ابن عطية على [تقادير الزمان*]، قال: وروى أن أهل الجنة - تسد لهم الأبواب بقدر الليل في الدنيا فيعرفون البكر عند افتتاحها والعشي عند] [انسدادها*]، والليل إنما هو به والشمس، وقال تعالى (لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا). فقال ابن عرفة: يحتمل أن يراد لَا يرون شمسا محرقة؛ لأن الشمس يحجبها عنهم كثرة أنوارها فلا يرونها، والزمهرير شدة البرد، وهذا أمر جائز ممكن لَا مانع يمنع منه، أو يحتمل أن يكون مثل قولهم: ضربته الظهر والبطن أي رزقهم هاهنا مستمر. قوله تعالى: {تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا (63)} قال ابن عرفة: كان بعضهم يقول: إنما قال (نُورِثُ) ولم يقل: نعطي أو نجازي؛ إشارة إلى أنها ليست عوضا عن الأعمال بوجه، ولم يأخذها أحد بالاستحقاق، وإنَّمَا [كالوارث*] الذي أخذ كوارث بغير معاوضة [ولا استحقاق*]، قال: وفي هذا تشريف لهم من وجهين: أحدهما: لفظ العباد من حيث إضافته إلى الله تعالى. والثاني: (تَقِيًّا)؛ لأنه أخص من المتقي. قوله تعالى: {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا ... (64)} قال الفخر: [خِطَابُ جَمَاعَةٍ لِوَاحِدٍ، وَذَلِكَ لَا يَلِيقُ إِلَّا بِالْمَلَائِكَةِ الَّذِينَ يَنْزِلُونَ عَلَى الرَّسُولِ*]. ويحتمل أن يكون هذا من كلام بعض أهل الجنة لبعض؛ أي ما نزلنا هذه المنازل إلا بأمر ربك. قوله تعالى: (وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا). عموم [العلم*]؛ ومع أنه مردود بقوله تعالى: (وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ)، ورد في بعض الأحاديث ما يدل على أنه في هذه الآية يعني الذهول؛ لأنه استدل بها. قوله تعالى: {رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ .. (65)} أي اصطبر على المشاق لعبادته؛ وهذا أمر لجميع النَّاس.

(66)

قال ابن عرفة: خطابا للمعدوم على تقدير وجوده؛ لأنه يتناول من هو موجود حين نزول الآية، ومن سيوجد إلى قيام الساعة. قوله تعالى: (هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا). إما أن يراد هل تعلم له شبيها؟ وهل تعلم من تسمى باسمه موصوفا بهذه الصفة؟ وهو كونه رب السماوات والأرض، وليس المراد شبيها بالإطلاق؛ بل سميا على هذه الكيفية. قوله تعالى: {وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ ... (66)} قال الزمخشري: [يحتمل*] أن يراد بالإنسان الجنس أو بعضه [وهم الكفرة*]. قال ابن عرفة: إن كانت القضية خارجية فالمراد [البعض*]، وإن كانت حقيقة فالمراد كل من يوجد إلى قيام الساعة فهو بمظنة المخالفة. قال الزمخشري: فإن قلت: [لم جازت إرادة الأناسى كلهم، وكلهم غير قائلين ذلك*]؟ قلت: لما كانت هذه المقالة موجودة فيمن هو من جنسهم صح إسنادها إلى جميعهم، كما يقال: بني فلان قتلوا فلانا، وإنما القاتل رجل منهم، وكذلك قال في البقرة في قوله تعالى: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا)، وفي آل عمران في قوله تعالى: (الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِن النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُم). وكذلك قال التلمساني: في شرح المعالم الفقهية في المسألة الخامسة في الباب الثالث، قال: يقال لمن تبرجت لرجل واحد تبرجين للرجال بالنكاح. ابن عرفة: وهذه قضية شرطية مؤكدا فيها الشرطية بـ إذا المقتضية لتحقيق الوقوع، وبما، وباللام، وسوف، وأدخل على ذلك همزة الاستفهام على سبيل الإنكار لذلك على ما هو عليه. قوله تعالى: {أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا (67)} هذه الآية أصل في إلحاق المثل بمثله. قيل لابن عرفة: فيها حجة لأهل السنة في إعادة العدم بعينه. وقالت المعتزلة: إنما يعاد مثله. قوله تعالى: (وَلَمْ يَكُ شَيْئًا).

(69)

الواو للحال من الضمير في خلقنا، ويرد فيه السؤال الثاني أن التأثير فيه بالإيجاد إن كان حالة عدمه فيلزم عليه اجتماع الوجود والعدم وهو محال، وإن كان حالة وجوده فيلزم عليه تحصيل الحاصل حسبما أورده في أصول الدين، وأجابوا بأن التأثير فيه حالة الأثر وإيجاده به؛ أي بذلك الأثر. قوله تعالى: {ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا (69)} النزع: هو أخذ الشيء بقوة، مثل (وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِنْ غِلٍ) (كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا) [ومن نزع الروح من الجثة*]. قوله تعالى: (أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا). ذهب ابن الطراوة إلى أن في الآية نفي وإضافة، وهي مبتدأ وأشد خبره، والفعل معلق عن العمل فيها. قال الزمخشري: وذهب الخليل إلى أنها معرفة وارتفعت على الحكاية تقدير الكلام لننزعن [الذين يقال فيهم أيهم أشد*]. ورده ابن عرفة بأن حذف الموصول وإبقاء بعض صلته لَا يجوز. قوله تعالى: {ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيًّا (70)} ابن عرفة: ليس المراد نفس العلم؛ لأنه لَا شركة فيه، وإنما المراد بالعلم هنا [ورود*] أثره. قوله تعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ ... (73)} الضمير عائد على (وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا). قال الزمخشري: [بَيِّناتٍ مرتلات الألفاظ، ملخصات المعاني، مبينات المقاصد: إما محكمات أو متشابهات، قد تبعها البيان بالمحكمات. أو بتبيين الرسول قولا أو فعلا. أو ظاهرات الإعجاز تحدّى بها فلم يقدر على معارضتها. أو حججا وبراهين*]، والوجه أن يكون حالا مؤكدا بل مبينة؛ لأنها حين نزولها لَا تكون بينة إلا بعد تبيان الرسل لها، قال: ويجاب بأنه بينها عنه تلاوتها عليهم فهي بينة حينئذ لَا مبينة يحتمل أن تكون اسم فاعل مفعول فهو المراد أنها بينة في نفسها أو مبنية ببيان غيرها لها. قوله تعالى: (أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا). فأجيب بأنهم قالوا: أينا لتوهم أن التفضيل بين الكفرة.

(74)

ورده ابن عرفة بأن الكلام في التفضيل إنما هو من الفريقين، قال: وإنما عادتهم يجيبون بوجهين: الأول: لو قال أينا لكان فيه لين وتأسيس لهم وتلطف في خطابهم لأجل الإقبال عليهم بالخطاب وخلطة مع التعلم في الضمير. الثاني: أن المضمرات على الصحيح جزئية، والشخص يرى لَا يدخل تحت الجزئي، ولف الفريق كلي والكل يشتمل على الجزئي وغير فيدخل تحت الحاضر والغاية. قوله تعالى: (خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا). ولم يقل: أحسن مقاما وخير نديا. قال ابن عرفة: أجاب البيانيون بأن أحسن أخص ولا يوصف بالحسن إلا الحسن. قوله تعالى: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ ... (74)} نقل ابن عصفور في شرح مقربه عن الأعمش: أنه يجوز عنده ملكت كم فلان، ونقل أيضا ابن مالك في شرح كافيته، ونقل عن بعضهم: أنه يجوز زيد كيف. وكان بعضهم يقول: إن كتاب سيبويه قياس الأمثلة بكونه يحمل كم الخبرية على كم الاستفهامية تشبيها في اللفظ. فإن قلت: قوله تعالى: (أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيرٌ مَقَامًا) يدل على أن مقام الكافر ليس فيه خير. قوله تعالى: (هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا). يقتضي مشاركتهم في الخير، وأنهم متصفون بمطلق الحسن، قال: والجواب: أن الأول أخروي؛ لأن الكفار ادعوا أنهم خير من المؤمنين بحسن ثباتهم وكثرة أموالهم؛ فأنكر ذلك عليهم بأن المؤمنين خير منهم في الآخرة. قوله تعالى: (هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثا وَرِئْيًا). يعني أنهم كانت دنياهم أحسن من دنيا هؤلاء. قال ابن عطية: [واختلف الناس في قدر المدة التي إذا اجتمعت لأمة سميت تلك الأمة قرنا، فقيل مائة سنة، وقيل ثمانون، وقيل سبعون، وقد تقدم القول في هذا غير مرة*] وقيل: غير ذلك إلى الثلاثين، قوله في سورة هود وقد تقدم أيضا في الأنعام.

(75)

ابن عرفة: والعصر فيما بينهم هم الذين أدرك أصغرهم أكبرهم، قال: فعصر الصحابة [انقضى*] بانقضاء آخرهم مدة، وكذلك عصر التابعين، كما أن عصر شهود ابن القداح [انقضى*] بموت الفقيه أبي عبد الله السكوني. قيل لابن عرفة: نص ابن عقبة ورد على امتناع كون الشرط [مستقبلا*]، والجواب [ماضيا*]، وهو غير [**ما ذكر في الآية]، فأجاب بأن ذلك بحيث يؤدي إلى تهيئة العامل للعمل وقطعه عنه، وإذا لَا تجزم إلا في التصغر، فلا يقع الحضور هنا المنهي عنه. قوله تعالى: {فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا ... (75)} إما أمر حقيقة، أو نهي بمعنى الخبر، والمراد يمدد له مدا حالة كونه في الصلاة، وأما بعد ذلك فيمكن. قوله تعالى: (إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ). هذه القضية مانعة [الخلو*] وليست مانعة الجمع؛ لأنه يخلو أحدهما عن عذاب الدنيا بالقتل أو بالأسر وبالحيرة والغم حيث قتل أصحابه وأسروا، وأما في الآخرة فيحتمل أن يقال الأمرين. قوله تعالى: (فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكَانًا). دليل على أن المقام في قوله تعالى: (خَيرٌ مَقَامًا) اسم مكان؛ لأنه من مقابلته. قوله تعالى: {وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى ... (76)} قال ابن عرفة: [**يزيد من أفعال السنة، مثل: على زيد لَا من الأفعال المتصلة]، مثل: قام زيد؛ لأن العلو يستدعي معلوا عليه، كما أن الزيادة تقتضي مزيدا عليها، قال: فإن قلت: ظاهر الآية يقتضي جواز اجتماع الأمثال وهو باطل عندنا، فالجواب بوجوه متعددة: أحدها: أن الزيادة هنا باعتبار القوة العلمية [لأن*] الطاعة متعددة وإن كانت كلها تقتضي الهداية. الثاني: أنه إذا قلنا: إن العرض لَا يبقي زمانين وهو مذهب أهل السنة فتصح الزيادة؛ بمعنى أنه بعدم عرض، ويخلفه عرض آخر أكبر منه فهو زيادة في الهدى، وإنما يشكل إذا قلنا: إنه يبقى زمانين.

(78)

الوجه الثالث: أن الزيادة في الهداية بمعنى الزيادة في محلها؛ فتكون الزيادة في جوهر أيضا مضافا للجوهر الأول. قال ابن عرفة: والعلم إنما يقوم [بمحل*] واحد لكن عندنا نحن إذا قام للعمل أوجب العلمية لذلك المحل فقط، والمعتزلة يقولون: أوجبها لجميع الذات. قال ابن عرفة: وذكر الخلاف في العلوم، هل تتفاوت أم لَا؟ فإيمان أبي بكر هل كان كإيمان غيره أم لَا؟ قال الزمخشري: أن يزيد معطوف على (فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا)؛ لأنه أمر فى معنى الخبر. ابن عرفة: العذاب في الدنيا بالقتل والأسر يحصل لهم العلم الضروري بحقيقة ما أمرهم به الرسول ويزداد المؤمنون عند مشاهدة ذلك إيمانا أعلى منهم. فإن قلت: إنما يعملون ذاك في الآخرة، قلنا: الجملة الشرطية يكفي في حصولها حصول أحد أجزائها فيزدادون هدى عند رؤية الكفار العذاب الدنيوي. قوله تعالى: (وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ). الزمخشري: هي أعمال الآخرة كلها، وقيل: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، وكذلك قال ابن عطية، ونقله حديثا. قوله تعالى: {أَطَّلَعَ الْغَيْبَ ... (78)} [قرنت*] بالهمزة لأنها همزة الاستفهام، ودخلت على ألف الوصل لكن حذفت تلك ولم تحذف هذه لئلا يلتبس الاستفهام بالخبر. قوله تعالى: {وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ ... (80)} ابن عرفة: الميراث انتقال الشيء من ملك، فإن أريد مطلق الانتقال فهو هنا حقيقة، وإن أريد سبب مخصوص فهو في الآية مجاز، والقول تارة يراد به لفظة، كقوله: سمعت ما يقوله زيد، وتارة يراد به مدلوله، كقوله: الأمر فوق ما يريد زيد، والمراد سنكتب ما يقول لفظه في، ونرث ما يقول مدلوله، ويحمله الزمخشري على الوجهين، فقال: [(وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ) *]، وهو المال والولد [ونحول*] بينه وبين هذا القول في الآخرة، ويأتينا [رافضا له*] منفردا عنه غير [قائل له*]، ولاسيما قوله هذا: [ولا نلغيه، بل نثبته في صحيفته لنضرب به وجهه في الموقف ونعيره به*].

(83)

ابن عرفة: القول ماض؛ لقوله تعالى: (أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا) فلم يعبر هاهنا وفي (سنكتب ما يقول)، فالجواب: جاء بوضع المستقبل موضع الماضي إشارة إلى دوام ذلك وبقائه، وإما باعتبار أنه قال ذلك في الماضي، ولم يزل [مستديما*] عليه يعتقده ويكرره، وإما للمشاكلة باعتبار ما قبله وما بعده؛ لأن قبل الأول: (سَنَكتُبُ)، وبعده (وَنَمُدُّ)، وقبل الثاني: (وَنَرِثُه) وبعده وَيَأْتِينَا). قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ ... (83)} ابن عرفة: وجه مناسبتها لما قبلها أنه لما تقدم الكلام على كفر الكافرين وعبادة الآلهة من دون الله تعالى: مع قوله تعالى: (سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا) أوحى إلى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لئلا يقع في نفسه منه حزن عليهم وتأسف [وغم لك*]؛ لأن المصنوع صنعة فاسدة إذا رأى الجاهل بها [لَا يتأثر*] لفساده، وإذا رآه العالم بالصنعة يتأثر لفساده؛ فكذلك النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم تأثره بكفر هؤلاء ليس كتأثر غيره؛ لعلمه بحقائق الأمور وعواقبها، فجاءت هذه الآية على سبيل التسلية له من الحزن الواقع بنفسه، والرؤية [علمية*]، لَا مما [يرى*]؛ أي ألم تعلم أنا أرسلنا الشياطين على الكافرين [بالضلالة والهداية*]؛ أي بفعلنا وقدرتنا، فالله يضل من يشاء ويهدي من يشاء، ففوض أمر هذا إلى الله، ولا تحزن عليهم بوجه فقد وفيت [بما بلغت به*] إذ لو شئت لمنعناهم قهرا. وقال ابن عطية: [أَرْسَلْنَا معناه سلطنا أو لم نحل بينهم وبينهم*] اعتزال في قوله: [نحل بينهم وبينهم*]؛ لأنه يتبع الريب أي وهو معتزلي فيقول أحيانا وينقل كلامه بعينه، فيعتزل من حيث لا يشعر. فإن قلت: كيف يفهم هذا؛ لأن ظاهر الآية تقدم كفرهم على إرسال الشياطين عليهم؟ مع أن إرسال الشياطين في كفرهم، قلت: الجواب: فإن المراد بالكافرين الصابرين من الكفر. كما قال الزمخشري في قوله تعالى: (لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتقِينَ)؛ أي الصابرين للتقوى، وأما بأن المراد شدة الإزعاج والتهيج بقوة، ويكون المتقدم عليهم الإرسال بوسوسة حقيقة ليس فيه إزعاج بقوة، والدليل عليه تأكيد إن بالمصدر مع أن مادته تقتضي الشدة. قوله تعالى: {فَلَا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا (84)}

(85)

أي [لَا تستبطئ عذابهم ولا تطلب استعجال هلاكهم*]؛ فإنما نمهلهم مدة قليلة نعدها عدا؛ لقوله تعالى: في سورة يوسف: (بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ). قوله تعالى: {يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا (85)} المراد هنا حقيقة الوفد دون خاصيته؛ لأن خاصية الوفد أنهم يقومون على [ ... ]. ولا يزالون. قوله تعالى: {وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا (86)} سوقهم للعذاب بقوة، وهل المراد سوقهم للدخول إلى جهنم فخص الكفار والعصاة، [أو*] سوقهم إلى الخلد فخص الكفار، والأمر يحتمل، وهو عبارة القرآن، يذكر الطريقين، وقيلت من الواسطة. قوله تعالى: (وِرْدًا). أي عطاشا إهانة لهم واستخفافا [بهم*] كأنهم يردوا عطاشا، وأنشد الزمخشري عليه قول الأعرابي: لنا ناقة ... وهو البيت المشهور. قوله تعالى: {لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ ... (87)} إما فاعل في المعنى أو مفعول؛ أي لَا يملكون أي يشفعوا أو يشفع لهم، كما يقول: إن الله يفعل الممكن لَا المحال، ويقول في الممكن أنه لَا يفعل. قوله تعالى: (إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا). قال الزمخشري، وعن ابن مسعود: أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال لأصحابه ذات يوم: "أيعجز أحدكم أن يتخذ كل مساء وصباح عند الرحمن عهدا، قالوا: وكيف ذلك؟ قال: يقول عند كل مساء وصباح: اللهم فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة إني أعهد إليك أنني أشهد أن لَا إله إلا أنت وحدك لَا شريك لك، وأن محمداً عبدك ورسولك، وأنك إن تكلني إلى نفسي تقربني من الشر، وتباعدني عن الخير، وإني لَا أثق إلا برحمتك، فاجعل لي عهدا توفنيه يوم القيامة،

(88)

إنك لَا تخلف الميعاد، فإذا كان يوم القيامة نادى مناد: أين الذين لهم عند الرحمن عهد ليدخلوا الجنة". قال الطبراني: هذا الحديث أخرجه ابن حنبل في مسنده وفيه بعض تغيير. قوله تعالى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا (88)} قال ابن عرفة: اتخاذ الولد على ثلاث أنواع: إما بالنسب [وهو*] الوطء والولادة. وإما بانتسابه به وإضافته إليه وإلحاقه به، [ ... ] وإن لم يكن من صلبه. وإما منزلة الولد وإلحاقه به في اللفظ فقط، فاقتضت الآية تقبيح الجميع، وإن كان بعضها أقبح من بعض، ويؤخذ من الآية منع وصف الله بالصفات الموهمة لفظا وإن [أتى الوصف*] سليما* لاقتضائها تقبيح من ينسب إليه الولد لفظا، قال: وهل هذا أقبح من مقالة الفلاسفة لأنهم زعموا أن الله عالم بالأشياء جملة دون تفصيل، وأنه يفعل فعلا واحدا جمليا وذلك الفعل يتولد منه الأشياء المتعددة بتفاصيلها على اختلاف أنواعها. قوله تعالى: {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ ... (90)} [فإن قلت*]: لم نسب التفطر للسماوات والانشقاق للأرض، والمعنى فيهما، قال: فأجيب بأن [الانفطار يقتضي تشقق*] ما هو عال على غيره وهو في مظنة وقوعه، والتشقق أعم من أن يكون من فوق أو من أسفل، قال: والانفطار والانشقاق بينهما عموم وخصوص؛ لأن [ينفطر*] مضارع انفطر [**فأمر فطر] يقتضي كون ذلك بشدة وتكلف وكذلك انفطر. قوله تعالى: (وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا). أفاد قوله (تَخِرُّ) دفعة واحدة وتبقى صحيحة كما يخر الحائط ويبقى صحيحا قطعة واحدة، فلما قال: هذا أفاد أنها قطعت حين خرورها وتفرقت [أفرادها*]. قال المفسرون: كاد إما بمعنى قارب أو بمعنى [أراد*].

(93)

ابن عرفة: والإفادة على مذهب الفلاسفة حقيقة؛ لأنهم يجعلون لهذه الأشياء حياة وإدراكات تدرك بها الأمور، وعلى مذهبنا نحن فجائز [ ... ]. قوله تعالى: {إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (93)} قال ابن عطية: استدرك بعضهم بهذه على أن الولد لَا يكون عبداً. ابن عطية: هذا انتزاع وهو انتزاع بعيد. قيل لابن عرفة: وجه بعده أن العبودية بالنسبة إلى الله تعالى إنما هي بمعنى الخلق، والاختراع بالنسبة إلى الخلق بمعنى التملك وزيادة الخلق، وفي الثاني أعم [لاقترانها*] بملك المنافع خاصة، والتعليل بالعلة البسيطة أقوى من التعليل بالعلة المركبة. قوله تعالى: {لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (94)} فسر بوجهين: أحدهما: (أَحْصَاهُمْ) أي جمعهم، (وَعَدَّهُم) أي عد لعادهم؛ فعلى هذا الإشكال في الآية كالجمع لَا يستلزم العدة التي في أحصاهم أي علم جملهم وعدتهم؛ أي علم آحادهم، فيرده السؤال: وهو أن العلم بالجملة يستلزم العلم بالآحاد كما هو عند البصريين، فلا فائدة في قوله (عَدَّهُم)؛ فالجواب: أنه أتى به تنبيها على مخالفة القديم المتعلق بالجملة. قوله تعالى: {سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا (96)} مع [أن*] المؤمنين يقع بينهم محض التباغض، فالجواب: إما بأن التردد موجود منهم لا في كلهم؛ ألا ترى أن ملة إبراهيم كل أحد يحبها. قوله تعالى: {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ ... (97)} أخذ منه أنه ليس في القرآن أعجمي. ابن ريحان: إنه يؤتي فيه بالعجمي ويكون مدلوله عربي. قوله تعالى: (لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ).

(98)

يحتمل الخصوص بمعنى الإشارة إن حصل التقوى بالفعل، والنذارة لهم أجمعين، فيقال للشخص: إن كنت تقيا؛ قلت: هذا وإن خالفت عوقبت بعده؛ قلت: فتكون قضيته حقيقية. قوله تعالى: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ ... (98)} هذا على سبيل التسلية لنبيه صلى الله عليه وسلم [لئلا يتطاول موتهم كثيرا*] (أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ). قوله تعالى: (هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ). رد على [قولِ ابنِ مكِّي في] [تثقيف اللسان*] في قولهم: المحسوسات، [لحنٌ؛ إذ*] لَا يقال: "أحَسَّ"، وإنما يقال: ["حَسَّ"*]. قوله تعالى: (أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا). الصوت الخفي، وإن لم يسمع لهم الصوت الخفي فأحرى القوي؛ لأن الرسل لا تكلمهم إلا كلاما خفيا، وهؤلاء الرسل ليس لهم صوت خفي، فأحرى ما فوقه. * * *

سورة طه

سُورَةُ طه قوله تعالى: {طه (1)} مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى) قال الزمخشري: فعل أمر؛ لأنه كان يقوم في التهجد على رجل واحدة، فأمر الله أن يطأها؛ أعني الأرض، فقيل: طه. قوله تعالى: {مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى (2)} قال الزمخشري: اختار إمام الحرمين في الإرشاد أن جبريل عليه السلام فهم معنى الكلام القديم وعبر عنه للنبي صلى الله عليه وسلم بألفاظ [حادثة*]؛ فالألفاظ حادثة والمعنى قديم. وذكر ابن التلمساني في شرح المعالم [اضطرابا*]، وأخبر أن جبريل عليه السلام تلقاه من اللوح المحفوظ ونزل على النبي صلى الله عليه وسلم. قوله تعالى: (لِتَشْقَى). قال الزمخشري: معناه التعب. قال ابن عرفة: بل هو مشقته شدة التعب، وأما التعب، فهو مأمور به؛ لقوله تعالى: (فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ). قوله تعالى: {وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى (4)} ابن عرفة: إن أريد ذات العلو فيصدق على جميعها، وإن أريد التي هي أعلى من غيرها، فإنما يصدق على فوق تلك القُمُر. قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5)} قال ابن عرفة: تأوله ابن عطية بوجوه: أحدها: صرف الاستواء إلى معنى [القهر*]، واختار عز الدين بن عبد السلام عدم تكفير من يقول بالجهة. قيل لابن عرفة: عادتك تقول في الألفاظ الموهمة الواردة في الحديث كما في [حديث الجارية*]، فذكر النبي صلى الله عليه وعلى آله الطيبين وسلم دليل عدم تكفير من يقول بالتجسيم، فقال: هذا صعب ولكن تجاسرت على قوله [اقتداء*] بالشيخ عز الدين؛ لأنه سبقني لذلك.

(6)

قوله تعالى: {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا ... (6)} من عطف الخاص على العام وهو من العام الباقي على عمومه. وكان بعضهم يقول: أكثر عمومات القرآن المشتملة على الأحكام الظنية مخصوصة؛ إلا قوله (وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشرِكِينَ حَتَّى يُؤمِنُوا). ويحكيه ابن الحاجب، وكان الطيبي يقول: بل مخصوص بالمسلم تكون أخته [**تائبة]؛ فهل [له*] أن يزوجها من مشرك [أو لَا*]؟ ففيها أقوال، [وإنما المجمع عليه لا تزوج*] المسلمة من المشرك. قوله تعالى: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى (8)} قال ابن عرفة والأكثرون: إن المراد بالأسماء المسميات، فالمراد بالأسماء السمع والبصر. ذكر الآبذي في [ ... ]، قال: والخلاف [ ... ]. قيل لابن عرفة: ذكر بعضهم الخلاف هل هو أسماء الذات باعتبار تعدد الصفات وأسماء للذات باعتبار الصفات، وقد وقع للفخر في المحصول كلام، فقال: إنها باعتبار الصفات خمسة وهي سقطة عظيمة، والصحيح عندهم أنه لَا يقال: إنما هو ولا غيره فلا يلزم عليه التعدد بوجه. قوله تعالى: {وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (9)} ابن عرفة: والخبر إن كان غريبا يعبر عنه بالباء؛ كقوله (وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ) وما دونه يعبر عنه بالخبر أو الحديث، وقال في سورة (ص) (وَهَل أَتَاكَ نَبَأُ الخَصْمِ) ولا أن هذه القضية [ ... ]. وأعجب من تلك فهلا كان الأمر بالعكس، فأجيب بوجهين: الأول: أن قضية موسى أخبر بها [في*] التوارة والإنجيل؛ فحصل لنا العلم بها فلم يكن فيها من الغرابة ما في قضية داود. الثاني: قال ابن عرفة: عادتهم يجيبون بأن الخبر الذي يعلم بغرابته بالبديهة لا يحتاج إلى التعيين عنه باللفظ الدال على الغرابة. قوله تعالى: {فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا ... (10)}

(11)

قال ابن عطية: أي [أحسست*]. ابن عرفة: يجعله على مبادئ الرؤية. قال الزمخشري: أبصرها إبصارا بينا لَا شك فيه. قال ابن عرفة: وقول الزمخشري أصوب لموافقته في أول الآية؛ في قوله تعالى: (رَأَى نَارًا) قال: وأبصر النار في شجرة عناب، وقيل: عوسج، وقيل: علقم. قال الثعالبي: وكل شجرة يخرج منها النار إلا شجر العناب. وكذلك نقل الزمخشري، عن ابن عباس في سورة يس، قال: ومن أمثالهم "في كل شجر نار واستمجد المرخ [والعفار*] "؛ فقطع الرجل منهما غصنين ليعصر منهما الماء ليعصر المرخ، وهو ذكر عليه [العفار*]، وهي أنثى فيخرج الماء. قوله تعالى: (لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ). (أَو آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ) فإما أن يجمع بين ذلك بأن موسى قال جميع ذلك، ونقل إلينا بعض القصة في سورة وبعضها في سورة أخرى، وإما أن يجاب بما انفرد به اللخمي من جواز نقل المضاف بالمعنى مع أن المازري أنكر عليه الإنكار التام. قيل لابن عرفة: هذا الإشكال فيه؛ لأن جبريل عليه السلام نقله عن اللوح المحفوظ مكتوبا سورا كما هي في المصحف، فقال: يحتمل أن يكون يلقاه من الله تعالى فيرد الإشكال فيحتاج إلى الجواب، بما قلناه مع اثنين السؤال فيما حكاه الله تعالى عن قول موسى بألفاظ مختلفة، في قوله تعالى: [(لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى) *] وفي غيره من الآيات بخلاف ذلك، فإما أن يكون بعضها أعم وبعضها أخص، ويكون موسى تكلم بالأخص في كون تارة لفظة، وإما أن يكون تكلم بأنه قال: مشتركة بين معان واستعمل فيها بناء على القول بعموم التصرف [ ... ] بعد مدلول وعده البعض الآخر، [ ... ] تطلق بينهما عموم وخصوص من دون وجهه، فلا يصح التعبير بأحدهما عن الآخر بوجه مع أن موسى صلى الله عليه وعلى نبينا وعليهما وسلم؛ إنما تكلم بالعبرانية؛ لأنه عجمي، ولا أن تكون الترجمة كلامه بما يراد به سواه. قوله تعالى: {نُودِيَ يَا مُوسَى (11) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ ... (12)}

(13)

قال ابن عرفة: الذم بالأمر التصديقي والتصويري، فالتصديقي أكد بإن لأنها تأكيد لنفس [ ... ]. عنه، والتصويري أكد بأنا عبارة عن الذات [ ... ] لأنهما كانا من جلد حمار ميت، قيل: لأنه جعله قول الله تعالى. ابن عطية: والعرف عند الملوك [أن تخلع النعلان ويبلغ الإنسان إلى غاية تواضعه، فكأن موسى عليه السلام أمر بذلك على هذا الوجه، ولا نبالي كانت نعلاه من ميتة أو غيرها*]. فقيل لابن عرفة: قد صلى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في نعليه هو والصحابة، [فلما سلم، قام وإنزعهما*]، قال: إن جبريل أخبر أن فيها أذى، ومنع الصحابة من خلع نعالهم مع أن المصلي يناجي ربه، فقال: قضية موسى أشد وأغرب؛ لأنها [**أفعال سماع للخالق] هي أشد من مسألة [**المثليات] حيث لَا يسمع كلامه أو فعله، كان في أول الإسلام، قلت: [بل يجاب*] بأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أفضل من موسى عليه الصلاة والسلام، وقد تقرر أن من عادة الملوك أن كبراء أعدائهم وذوو المئات من رعاياهم إذا دخلوا عليهم لَا يغيرون من حياتهم شيئا، فالصالحين والفقهاء فيما يلزم من أمر موسى عليه الصلاة والسلام بخلع نعليه أن يجعلها النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم كان [ ... ] هذا علينا في الصحابة حيث لم يفعلوا فعالهم فعل ذلك تلزمه بهم أنهم أشرف الأمم، واقتدوا بهم فيما فعل ذلك فاختلف لهم ذلك. قوله تعالى: {وَأَنَا اخْتَرْتُكَ ... (13)} قال ابن عرفة: [اختار*] بعضهم أن من خير بين شيئين [يعد متنفلا*] لكن الأصل الحقيقة. قوله تعالى: (فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى). قال ابن عرفة: استمع إنما يتعدى بنفسه؛ لقوله تعالى: (فَبَشِّرْ عِبَادِ (17) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَبِعُونَ أَحْسَنَهُ) [الزمر: 17 - 18] ولم يذكرها ابن عصفور في الأفعال التي تتعدى تارة بنفسها، وتارة بحرف الجر، فيحتمل أن يتعلق بما يوحى، بقوله (وَأَنَا اخْتَرْتُكَ)، قيل له: الفاء يمتنع تعلق ما بعدها بما قبلها، ورد بقوله

(14)

تعالى: (وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ)، وقوله تعالى: (فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ (9) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ)، وسماعه الوحي كما قال إمام الحرمين من أنه كشفت في [الحجب*] حتى سمع الكلام القديم الأزلي؛ وهو كلام النفس كذلك قال إمام الحرمين، وسماع جبريل له. قوله تعالى: {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي ... (14)} في هذا دليل على إبطال عبادة النصارى وغيرهم القائلين في الأصنام ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى؛ لأنه ما ذكر العبادة إلا بعد تقديم التوحيد؛ فشرط المعبود وحدانيته. قال ابن عرفة: وقوله تعالى: (فَاعْبُدْنِي) يحتمل أن يراه فاعتقد وحدانيتي، ويكون قوله تعالى: (وَأَقِمِ الصَّلَاةَ) من عطف الخاص على العام. قوله تعالى: {إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا ... (15)} قرئ بعضها بالفتح؛ أي أظهرها وأخفيها بالضم من الإخفاء. قال ابن عرفة: فيحتمل أن تكون القراءتان مختلفتين؛ لأن ما قارب الشيء له حكمه، والخفاء ضد الظهور؛ فمقاربة الإخفاء ضد مقاربة الإظهار، قال: ويحتمل أن يرجع المعنى واحداً ويكون أمر الساعة وسطا بين الإخفاء والإظهار؛ فهو مقارب لكل واحد منهما. قيل لابن عرفة: اعتبار الشارع بأمر الساعة أو باشتراطها ومقدماتها يرجح معنى الإظهار بالعلم عند وقوع أشراطها لَا قبل ذلك، وإذا ظهرت عند وقوع الاشتراط ينسخ عنها معنى، الخفاء والمتقدم إذا كانت خفية. قوله تعالى: (لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى). إما عام خصوص؛ لقوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: رفع القلم عن ثلاث: الصبي حتى يحتلم، والمجنون حتى يفيق، والمغمى عليه حتى يفيق من إغمائه، وإما أن يقال: بأن شرع من قبلنا ليس شرعا لنا، وقد ثبت أن شرعنا أخف من شرع موسى عليه السلام. قوله تعالى: {فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى (16)} رتب معه الرد مع أن الصد ليس من فعله؛ فأجاب الزمخشري بوجهين: إما أنه من إقامة السبب وهو الصد مقام سببه وهو القبول، والانفعال.

(17)

وإما من إقامة السبب وهو الصد مقام سببه؛ فلا تكن لينا في أمرك فيصدك عنها الكافر، أو فلا تقبل صد غيرك عنها. ابن عرفة: ويترجح الأول بأن ابن الخطيب رجح [إقامة السبب مقام سببه على العكس*]؛ لأنه من برهان اللم، وبرهان اللم أقوى من برهان الأول. قوله تعالى: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى (17)} هذا الاستفهام تعظيم وتنبيه وأخر النداء والأصل تقديمه؛ لأنه إنما ذكرنا سببا لموسى، والأهم من القضية تقديم السؤال كما في يده، وقال هنا: (بِيَمِينِكَ) فعبر هنا باللفظ الأخص، وقال تعالى في آخر الآية (وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ) فنص باللفظ الأعم، فأجيب بأنه عبر هنا بالواقع بالفعل، والواقع: أن العصا كانت في يده اليمنى، وهناك أمر تكليفي لحفظ عنه فيه ليحصل له الأمن بأي يد شاء من يده، وقيل: لأن موسى دهش فلم يعلم يمينه من شماله، أو عبر له باليمين تكرمه لها وتشريفا، وأن المقصود إلينا من كل شيء تكرمه اليمين. قال ابن عطية، قال ابن الجوهري: وروي في بعض الآثار أن الله غيب على موسى في إضافته العصا على نفسه، فقال: (أَلْقِهَا) لتزامنها العجب فتعلم أنه لَا ملك لك عليها وانتصاف إليك. قال ابن عرفة: كان بعضهم ينكر هذا بأن في الآية (بِيَمِينِكَ) فأضاف الله تعالى بيمينه إليه، فلذلك تجاسر هو أن تقوية عصاي، لأنها كانت في يمينه يعتمد عليها. قوله تعالى: {وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي ... (18)} انظر هذه العبارة عبارة ضعيفة، إضافة استحقاق ليتناول غنمه المملوكة له، والغنم التي كانت في المسترعى عليها فيما مضى. قال ابن عرفة: وكان شيخنا ابن الحباب يحكي عن بعضهم: أنه كان يقول أول [ ... ] أحد بالكوفة قول القائل عصاي. قوله تعالى: {فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى (20)} قال: فائدة جعلها الآن حية لتدرب نفسه عليها، فلا يخاف منها بعد ذلك إذا صارت حية عند حضور السحرة بحبالهم مع فرعون عليه اللعنة. قوله تعالى: {سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى (21)}

(24)

قال أبو حيان: لَا يصح أن تكون سيرتها مفعولا به؛ لأنه ظرف مكان مختص فرده إليه؛ لأن بعضهم حكى أن الطريق ليس تطرف مختص بل هي عام، وأجاب ابن عرفة بقوله تعالى: (سِيرَتَهَا الأُولَى) فلما أضاف وهي طريق مختصة به لأنها حالته الأولى كانت مختصة، قال: وهذا التكلف مع هذه الآية ليؤمن مع أنه قد حصل الإيمان حقيقة؛ لأن الله تعالى خلق في قلبه التصديق المعنوي، وما يجب له وما يستحيل في حقه؛ فالجواب بأن هذا تأسيس ليتدرب عليه فلا يستغرب ما وعده به ربه من كونها تسير حية في موطنه مع فرعون والسحرة، وإما بأن العلم الضروري قسمان: فمنه عام، ومنه خاص، وقد يكون العلم الضروري عند بعض النَّاس صورياً وهو في نفسه نظر فهذا يصح التكليف به وليس بتحصيل الحاصل. بخلاف الضروري الذي يعلمه كل أحد بالضرورة لَا يصح التكليف به. قوله تعالى: (فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ). يحتمل أن يكون حياتها تخفيفا لصحة الإعادة بعد الموت، فلا يكون في الآية إشكال، ويحتمل أن يريد بالحية الثعبان فيقع الإشكال. كقوله تعالى: في الآية الأخرى: (فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ). قوله تعالى: {اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (24)} قال ابن عرفة: عبر هنا بالذهاب، وفي غير هذا [قال، (أَرسَلنَاه) *]؟ فالجواب: أنه [إن*] اعتبر حال الرسول، قيل (أَرْسَلنَاهُ)، وإن اعتبر حال المرسل إليهم قيل اذهب [**ولقيناك]، أو نحوه؛ لأن لفظ الإرسال يقتضي التشريف. قوله تعالى: {قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى (36)} قال ابن عرفة: هذا يحتمل أن يكون إنما أوحى عن إتيان الله تعالى به وذلك في الأولى، وحذف الفاعل هنا للعلم، وذكر في قوله تعالى: (وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ ... (37) والمن: تارة يعبر به عن نفس النعمة، وتارة يراد به التذكير بنعمة تقدمت، كما في قوله تعالى: (لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى) فالمراد هنا بالمن نفس النعمة والتذكير بها تنبيه على أنها تفضل من الله تعالى، وأنه لَا يجب عليه شاء. قوله تعالى: {أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ ... (39)} تقدم في آية [**القذف، آية (أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ)] لَا يليق ذكره هنا.

(40)

قوله تعالى: (فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ). حكى الإمام فخر الدين الخلاف في الراكب في السفينة؛ هل يتحرك بحركتها أو هو ساكن، وإنما يتحرك بتحرك السفينة، وكذلك قذف الصندوق في البحر هل هو قذف لما فيه أم لَا؟ قوله تعالى: (فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ). أمر في معنى الخبر، وتقدم جواز ذلك وجواز عكسه؛ لكن كان أحدهما أبلغ من الآخر والصواب العدول عن المرجوح إلى الراجح، فيرد من السؤال هنا لما عبر بالمرجوح عن الراجح، ويجاب بأنه إنما عدل عن الأمر إلى صيغة الخبر إشارة إلى الحض على امتثاله؛ حتى كأنه واقع محقق فخبر عن وقوع، ويعدل عن الخبر إلى الأمر إشارة إلى أنه بما يطلب وقوعه، وهذا إذا كان مدلوله مستحسنا بخلاف ما إذا كان مستقبحا. قوله تعالى: {فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ ... (40)} قال ابن عرفة: قدم قرور العين؛ لأنه من باب جلب الملائم، ونفى الحزن؛ لأنه من باب رفع المؤلم فهو نزف. قيل لابن عرفة: هما على طرفي النقيض فأحدهما يستلزم الآخر، فقال: لَا بل الأول سبب يقتضي دوام قرور العين، والثاني: نفي يقتضي دوام نفي الحزن، قال: ومذهب أهل السنة والحكماء أفعال الله غير معللة، ومذهب المعتزلة أنها معللة، وظاهر الآية أنها حجة للمعتزلة، والجواب بين الفرق وبين الفعل المعلل وبين فعل العلة، فالله تعالى فعل هذا وفعل علته على سبيل ربط الأسباب بمسبباتها، وأجاب بعض الطلبة أيضا: أن الممتنع إنما هو وجوب فعليتها فليس بممتنع عند الجميع. قوله تعالى: (وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا). قال ابن عطية: أي اختبرناك. قال ابن عرفة: هذه عبارة [ ... ] ممتنع في حق الله تعالى. وقال الزمخشري: أي فعلنا بك فعل الخير، وهو أصوب من كلام ابن عطية. قوله تعالى: (ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى).

(42)

ابن عطية: أي جئت على مقدار محدود للنبوة التي أرادها الله منكم، ومنه قول الشاعر: نَالَ الْخلَافَة إِذْ كَانَتْ لَهُ قَدَرًا ... كَمَا أَتَى رَبّه مُوسَى عَلَى قَدَر قال ابن عرفة: هذا تشبيه قبيح ولفظه موهم لَا ينبغي التمسك به، وإن كان المعنى في نفسه صحيح، قلت: والبيت يمدح عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، وقبله. [مِمن يعدُّك تَكْفِي فقدَ والدهِ ... كالفرخ فِي الْعُشِّ لَمْ يَنْهَض وَلم يَطرِ يَدْعُوك دعة ملهوفٍ كَأَن بِهِ ... خَبَلا من الْجِنِّ أَوْ مَسًّا من النشرِ خليفةَ اللَّهِ مَاذَا تأمُرُون بِنَا ... لَسْنا إِلَيْكُم وَلَا فِي دَار منتظر مَا زلتُ بعدَك فِي هَمٍّ يُؤَرِّقُنِي ... قَدْ طَال فِي الحَيِّ إصْعَادي وَمُنْحَدِرِي لَا ينفع الحاضِرُ المجهودُ بادِيَنَا ... وَلا يعودُ لَنَا بادٍ عَلَى حَضِرِ إِنَّا لنرجُو إِذَا مَا الغيثُ أَخْلَفَنَا ... من الْخَلِيفَة مَا نرجو من المَطَرِ نَالَ الْخلَافَة إِذْ كَانَتْ لَهُ قَدَرًا ... كَمَا أَتَى رَبّه مُوسَى عَلَى قَدَر هذي الأرامل قَدْ قَضَّيْت حاجَتَها ... فمَنْ لحاجةٍ هَذَا الأرمل الذَّكَرِ*] قوله تعالى: {اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي ... (42)} قال ابن عرفة: ذكروا أنه لَا يلزم من العطف صحة وقوع المعطوف عليه، وهذا منه؛ لأنه لَا يجوز اذهب، فإن قلت: كيف؟ قال: قد جئناك بآية من ربك بعد قوله اذهب بآياتي، والجواب: أن الآية واحد بالنوع لَا بالشخص. قوله تعالى: (وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي). هذه حجة لمن يقول أن الأمر للتراخي؛ لأن الأصل التأسيس وإلا كان يكون هذا تأكيدا، والجواب بأن الأمر اقتضى كون الذهاب على الفور والنهي عن التوالي في الذكر لَا في الذهاب، واختلف المتعلق على الفخر، والدليل أنه على الفخر، والدليل أنه على التراخي تعيينه بكلام آخر خوطب به، ولو كان على الفور لذهب موسى في الحال. ورده ابن عرفة بأن الأمر إذا عقب بكلام مبني له لَا يقدح في كونه على الفور. قوله تعالى: [(اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (43) *] اقتضت هذه حصول طغيانه، وقال بعده: (قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى (45) .. فاقتضت تلك أن طغيانه متوقع في المستقبل، وأجاب ابن عرفة: أن المتوقع دوام طغيانه، ويؤيده قوله تعالى: (لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى).

(46)

ابن عرفة: كان بعضهم يعارضها في قوله تعالى: (إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ)، والجواب: أن الخوف عند رؤية الأشياء والخوارق كرؤية انقلاب العصا ثعبان، وحكى هذا خوف مما يصدر من فرعون. قوله تعالى: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى (46)} فالمعية راجعة لقولهما: (أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى) [ ... ]. إنها تحية فيؤخذ منه أنها استثناء التحية عند الانصراف، (رَبُّكُمَا يَا مُوسَى). قال ابن عرفة: الأصل أن الفاء لَا تدخل أول الكلام لكن هذا جواب عن سؤال مقدر؛ أي إن كنت صادقا فمن ربكما. قوله تعالى: {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ ... (55)} أي من الأرض. الزمخشري: أراد خلق أصله منها وهو آدم عليه السلام، أن أصل خلقهم منها يستلزم خلقهم منها. ابن عرفة: هو على هذا مجاز فيتعارض فيه المجاز وإضمار، وقيل: إن الملك يأخذ من التراب مقدار النطفة التي يولد منها الإنسان، فيدربه على النطفة فيخلق من التراب، والنطفة معاً. قوله تعالى: (وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ). ظاهرة إعادتهم بأعيانهم؛ فيؤخذ منه القول بصحة إعادة المعدم بعيينه، وأنكره المعتزلة واحتجوا بعدم إعادة زمانه، ورد عليهم بوجود بقاء الأجسام في حال الحياة الدنيا سبعين أو ثمانين سنة مع انعدام زمانها الأول. قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا ... (56)} قال الزمخشري: إما أنه التسع آيات، أو آيات جميع الأنبياء لعلمه بها موسى. ابن عرفة: يلزم على الثاني استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه؛ لأن فرعون علم بعضها بالخبر الصدق. قوله تعالى: (فَكَذَّبَ وَأَبَى).

(58)

فكذب موسى وأبى النظر في آياته وأدلاتها؛ فيكون تأسيسا. وإن قلت: أبى من الإيمان به كان تأكيدا. قوله تعالى: {فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ ... (58)} يؤخذ منه أن دليل المستدل من شرط تمامه السلامة من معارضته بمثله؛ لأن موسى قبل ذلك من فرعون، ويؤخذ من الآية أن القاضي ما ينفذ الحكم إلا بعد الإعذار من الخصم. قوله تعالى: {فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى (60)} قال ابن عرفة: قال بعضهم: كيف عطف فجمع بالفاء؟ وقال: (ثُمَّ أَتَى) فعطف بـ ثم مع أن المناسب العكس؛ لأن الجمع لَا يحصل إلا بعد تردد ومهلة كبيرة؛ بخلاف الإتيان العاقب للجمع إنما يصدر من الشجاع، وأما الخائف الجبان فهو يقبع ويتأخر. قوله تعالى: {لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا ... (61)} المناسب أن يقول: لَا تفعلوا فعلا باطلا، وأما الكذب فلا يناسب هذا المحل المعاندة والمعارضة بالفعل لَا في محل المقولة مع موسى، قال: والجواب: أنهم إذا عارضوه بالسحر فقد كذبوه بما جاء به. قوله تعالى: {قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ ... (65)} قال ابن عرفة: الآية حذف التقليل، إما أن تلقي فتكون أول من ألقى، وإما أن نلقي فيكون آخر من ألقى؛ لأنهم نادوا بين الإلقاء وبين أولية إلقاء ولا معادلة بينهما. قوله تعالى: {قَالَ بَلْ أَلْقُوا ... (66)} إضراب إبطال عن التخيير في نفس المبتدي بإذن لهم في البداية وإذنه هو لهم في البداية، إما؛ لأنه علم أن اختيارهم في البداية، وإما لكونهم إذا بدءوا تفرغوا لنار جهنم ويأتونا بجميع ما عندهم من العلم، فإذا عارضهم أبطل حجتهم كلها ولا يبقى لهم حجة. قال الزمخشري: في الأعراف سوغ لهم موسى البداية إذ درأ بشأنهم، وقلت: مبالاته لهم وقعت بما كان مصدره ومن التأهب السماوي. قوله تعالى: (يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى).

(67)

قال ابن عرفة: السحر أطال فيه إمام الحرمين ولم يحصل من كلامه شيء غير تميزه بالخاصية وهو أنه الذي يمكن معارضته؛ والمعجزة لَا يمكن معارضتها. قال ابن العربي: قانون التأويل؛ السحر يقال فيه: أنه حقيقة لَا حق. وقال في المعارضة: السحر قول مؤلف يعظم فيه غير الله تعالى. قال ابن عرفة: والصحيح الذي كان يمشي لنا في حدة أنه أمر ينشئ عنه باعتبار قصد فاعله على أوضاع مخصوصة أثر خارق للعادة بذاته أو بنسبته إليه، فقوله: بذاته كالطيران في الهواء، والمشي على الماء؛ فإنه خارق للعادة بذاته، وقولنا: أو بنسبته إليه كالتمريض، فإن المريض بذاته أمر معهود، وإنما هو خارق للعادة بالتشبه إلى حدوثه عن فعال فعلها الساحر. قال: وحكى اللخمي عن ابن المواز فيمن يخيل أنه يضرب نفسه بخنجر، أنه يقطع به الحبل، أنه ساحر، فقيل: قال ابن عرفة: وكذلك غالب العجائبيين يفعل من أنه يزرع النفوس هو سحر أيضا، وكذلك الذي يخيل أنه يدخل في الكرة الصغيرة هو ساحر أيضا، والساحر يقتل شرعا؛ لأنه إن اعتقد حلية ما يفعل وتأثيره فهو كافر، وإلا فهو فاسق يجب قتله شرعا. قوله تعالى: {فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى (67)} (خِيفَةً) يعني أدرك خيفة. قال ابن عرفة: الصواب عندي أن يقال: تصور خيفة؛ أي تصورها في ذهنه واستحضرها فقط؛ لأنه أدركها؛ لقوله تعالى: (إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ)، وهذا كما ورد في الحديث: أن الخطوات والسلوك التي تخطر بقلب الإنسان لا يصمم عليها معفو عنها. قوله تعالى: {إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى (68)} إن أريد به أنه أعلى من السحرة بالتفضيل مجاز، مثل: العسل أحلى من الخل؛ إذ ليس في فرعون -عليه اللعنة- علو بوجه. قيل لابن عرفة: فيدعي سيدي أبو محمد المرجاني، أن موسى عليه الصلاة والسلام إنما خاف لكونه سمع جبريل عليه الصلاة والسلام يقول للسحرة: تقدموا يا أولياء الله؛ فلذلك أوجس في نفسه خيفة.

(72)

قال ابن عرفة: المناسب لهذا إن كان يفرح؛ لأنه يعلم أنه صدق وأنهم يؤمنون به، قيل له: إن اعتبر ظاهر الأمر يخاف، وإن اعتبر باطنه يفرح. قوله تعالى: {قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ ... (72)} قال ابن عرفة: إن راعينا ظاهر الآية فهي بينة واحدة؛ لأنهم لم يشاهدوا منه غير العصا، فجمعها لاختلاف حالاتها، كقوله: [فقلت اجعلي ضوء الفراقد كلِّها*] وهو النجوم من غير [ ... ]؛ لكن ذكر المفسرون أنهم رأوا الجنة والنار واطلعوا على أمور دلتهم على صحة ما جاء به موسى، والمعنى لن [نؤثر*] تخويفك لنا على ما جاءنا به موسى من البينات. قوله تعالى: (فَاقْضِ مَا أَنْتَ). صيغة أفعل للإهانة، وقالوا: (مَا) إما موصولة بمعنى الذي، أو مصدرية. قال بعض الطلبة: ويحتمل أن يكون ما نافية، واستعبده ابن عرفة؛ لقوله تعالى: (إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا) فدل على إثبات مصابه في الدنيا. ابن عرفة: الظاهر هل هذا أمر تكميل مندوب إليه، أو أمر واجب ركن لَا يحصل الإيمان إلا به؟ والظاهر أنه مندوب، لقوله تعالى: (إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ) فلو أضمروا الإيمان ولم يقل هذه المقالة لإجزائهم؟ فأجيب بأن الإكراه عندهم يخلص من عهدة الواجب؛ لقوله تعالى: (إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ) فدل على أن المكره مؤاخذ بإثم ما أكره على فعله. وقال الفخر ابن الخطيب الإمام الرازي في أسرار التنزيل: من عبد الله تعالى لينجوا من النار ويدخل الجنة فعبادته باطلة بإجماع. وقال: ابن [العربي*] في سراج المريدين: هذا مذهب المتصوفين، قال: والإخلاص عندهم أن يعبد لَا لجنة ولا لنار، قال: وهو عندي لَا يصح، وقال القاضي أبو بكر: هذا كفر وانظر ما قيدت به [ ... ] على صعيد واحد في كتاب البر والصلة. قوله تعالى: {وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ (73)} قال أبو حيان: ما جعلها بعضهم نافية، ومن السحر متعلق بـ[يَغْفِرَ*]. ورده ابن عرفة بأن ما النافية لها صدر الكلام فلا يعمل ما بعدها فيما قبلها. قوله تعالى: {فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى (75)}

(76)

قال الفخر: الآية حجة لأهل السنة أن العاصي يدخل الجنة بالشفاعة؛ لأن مفهومها أن من آمن وعصى له الدرجات السفلى في الجنة. ورده ابن عرفة: لأن مفهومه أن الدرجات لمن آمن ومات عقب إيمانه وأنها ليست لأحد، أو يخلق الله تعالى لها قوما يعمرونها ليسوا من الجن ولا الإنس، كما ورد في آخر حديث مسلم. قوله تعالى: {جَنَّاتُ عَدْنٍ ... (76)} بدل من الدرجات، وهو بدل الأعم من الأخص. قوله تعالى: {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ ... (80)} قال ابن عطية: كانوا يقولون لأي شيء وقع الاستئناف بالإنجاء من العدو، هلا وقع بإهلاك العدو بأن الإنجاء لَا يستلزم إهلاكه، قال: وأجيب: بأن الإنجاء من عدوهم يتضمن أنه أشرف على غلبتهم؛ بخلاف ما لو قيل: قد أهلكنا عدوكم، فإِنه لا يتضمن ذلك؛ إذ لعله أهلك قبل الاستيلاء عليهم والعزم عليه. قوله تعالى: [(وَوَاعَدْنَاكُمْ) *]. المواعدة لَا تكون بين الجانبين، وإما أن تكون من باب طارقت الفعل أو باعتبار الاعتناء بالوعد والتوفية. قوله تعالى: {فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي ... (81)} رده الزمخشري لصفة الفعل. ابن عرفة: ويحتمل أن يرجع لصفة الإضافة. قوله تعالى: {وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى (83)} هذا استنطاق وفيه عتب لموسى، وعبر عنه الزمخشري بلفظ الإنكار. ابن عرفة: وفيه قبح وإغلاظ وقلة أدب على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. قال ابن عرفة: وعوتب موسى على تقدمه عليهم للمناجاة، وعلى استعجاله ذلك قبل بلوغه الميقات المضروب له، فأجاب عن العتب على التقدم؛ بقوله تعالى: (هُمْ أُولاءِ عَلَى أَثَرِي)، وعن الاستعجال بقوله (لِتَرْضَى)؛ أي لترضى عني رضاء خاصا زائدا على ما لنا حصل لي منك؛ لأنه كان راضيا عنه. قوله تعالى: {فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ ... (85)}

(86)

ابن عرفة: هذا مما يصحح قول المتأخرين: إن قد مع الماضي حرف تحقيق، لأنه لم يكن يتوفع الفتنة من قومه؛ لأنه توقعها لما فارقهم. قوله تعالى: {غَضْبَانَ أَسِفًا ... (86)} ابن عرفة: كان بعضهم يقول: تألم النفس وتلهفها إن كان على كل شيء يمكن تلافيه فهو غضب، وإن كان على أمر فات لَا يمكن تلافيه فهو أسف. قوله تعالى: (أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي). قال ابن عرفة: الأصل في الفاء، والغالب أن يدخل على الحكم، مثل: سهى فسجد، ودخلت هنا على سبب الحكم؛ لأن إخلاف الوعد سبب في قول الغضب بهم. قوله تعالى: (أَمْ أَرَدْتُمْ). الإرادة إما على بابها، والمعنى إن فعلتم فعل من أراد حلول العذاب به، وإما بمعنى الشهوة وهو الميل إلى حلول الغضب بارتكاب أسبابه؛ فهي مجاز وعلى الأول يكون حقيقة. قوله تعالى: {فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ ... (88)} قال ابن عرفة: تكلم الزمخشري هنا كلاما حسنا يليق بمذهب أهل السنة، وقوله (جَسَدًا). قال مكي: له رأس. قوله تعالى: {أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا ... (89)} قال ابن عرفة: يؤخذ منه أن من شرط الإله الكلام. قيل لابن عرفة: يلزم عليه إثبات الكلام بالكلام، قال: هذا إذا قلنا: إن المعجزة تنزل منزلة صدق عبدي، وإن قلنا: إنها دليل على صدق الرسول فالأخذ صحيح. قال ابن عطية: هذه الحال لَا يخاف معها الحدوث والعجز؛ لأن هذه الحال لو حصلت لها وجبت كونه إلها. قال ابن عرفة: إنما يتم هذا [ ... ].

(90)

قوله تعالى: {إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ ... (90)} قال ابن عرفة: عادة الطلبة يوردون في حسن الائتلاف: إن فتنتم به حاصلة موجودة لَا يحتاج إلى حصر الربوبية له فهلا كان الأمر بالعكس، قال: وأجيب به ليس المراد حصر الفتنة فيهم ولا حصرهم في الفتنة، وإنَّمَا المراد حصر فتنتهم في العجل له في حدوثه وعجزه، أما ظاهر ضروري معلوم بالبديهة على سبيل التوبيخ لهم والتصنيع عليهم، وإمَّا كون الرحمن ربا لهم فالحصر فيه أمر قد علم من خارج بما يقدر عندهم من الدلائل والمعجزات السابقة، وإما بأن المبتدأ لابد أن يكون أخص من الخبر أو مساويا له، فإن كان مساويا له فالحصر بين، وأن كان أخص فكذلك فقد استفيد الحصر بقوله تعالى: (رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ) قوله تعالى: (فَاتَّبِعُونِي). ابن عرفة: أي فبما نهيتكم عنه؛ بقوله تعالى: (إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ) أي اتبعوني في ترك عبادة العجل، وأطيعوا أمري لكم بقولي: إن ربكم الرحمن فأمرتكم بعبادته. وقال ابن عطية: فاتبعوني إلى الطور الذي وعدكم الله إليه، وأطيعوا أمري فيما وعدتكم وذكرته لكم. قوله تعالى: {مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (92) أَلَّا تَتَّبِعَنِ ... (93)} فيتعارض فيه المجاز باعتبار زيادة لَا والإضمار، وفيها ثلاثة أقول ثالثها أنها سواء. قوله تعالى: {قَالَ يَبْنَؤُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي ... (94)} إنما نسب إلى أمه، كما ورد في الحديث الصحيح عن أم هانئ، أنها قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: إن ابن أمي علي بن أبي طالب زعم أَنَّهُ قَاتِلٌ رَجُلًا قَدْ أَجَرْتُهُ، فُلاَنَ ابْنَ هُبَيْرَةَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «قَدْ أَجَرْنَا مَنْ أَجَرْتِ يَا أُمَّ هَانِئٍ"، وكان علي بن أبي طالب أخاها شقيقا. قوله تعالى: {إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا (98)} إن قلت: قوله تعالى: (لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ) توكيد لاقتضائه الأول الحصر فلا فائدة في الثاني، والجواب: أن الأول مضاف إليهم فيقتضي حصر ألوهية الإله فيهم، ولا يلزم من كونهم لَا إله لهم غيره أن لَا يكون لغيرهم إلى الفعل لغيرهم ربا غيره، قيل

(100)

لابن عرفة: خطاب المواجهة فيه خلاف، هل يعم بقياس التمثيل، أم لَا؟ فقال: القياس في الأمور التوحيدية ودلالة التمانع لَا يصح. قوله تعالى: (وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا). قال ابن عرفة: المناسب لدلالة التمانع وصف القدرة والإدارة. فلو عقبه بالعلم، وقال: عادتهم يجيبون: بأن الآية دلت على أن كل شيء معلوم لله تعالى، فلو كان هناك خالق غيره لكان غير معلوم بالاختيار، والآن الأول لَا يعلم ما يفعل؛ لأن العلم يتعلق علمه بما يفعله هو في نفسه خاصة. فيل لابن عرفة: قد اتفقا على أن المستحيل لَا يتعلق به قدرة، وإنه معلوم، فقولنا: كل معلوم يتعلق به القدرة لَا يصح؛ فثبت أن بعض المعلومات غير مقدور، فقال: الأصل أن العلم إنما يقع بما يفعله الإنسان في نفسه لَا يفعل غيره. قوله تعالى: {مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا (100)} قال ابن عرفة: كان بعضهم يقول: وكذلك الجاهل يحمل فعل عم به الجهل، والمعرض عن الطاعة يحمل فعل الحرمان من ثوابها، كما أن الكافر يحمل وزر الكفر. قوله تعالى: [(إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا (104) *] قال ابن عرفة: كان ابن عبد السلام يقول: هذان القائلان كلاهما غير صائب في مقالته؛ لكن المقابل إن لبثتم [**الآن فسر العرب إلى الصواب ممن يقول]: (إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا)، قال: الجواب أن ذلك باعتبار قصد أيام التنعيم بالنسبة إلى أيام العذاب، أو إشارة إلى كمال قدرة الله تعالى. قوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ ... (105)} قال [ ... ] في شرح [ ... ]: أين ما وقع يسألونك فجوابه بغير فاء إلا هذا، وحكمته أن سؤالهم لم يقع وإنما هو على سبيل [الفرض*]؛ أي إن يسألونك عنها. وقيل: هو على تقدير شرط، وقول المفسر: إنه وقع أنهم سألوا بعد نزول الآية لا قبلها، قال: ويؤخذ من الآية جواز الخوض فيها؛ لأنه ليس بأمر تكليفي ولا اعتقاد إلا أن هذا إنما لَا يغني إلا أن يقال: إن هذا مما فيه اعتبار واتعاظ.

(107)

فإن قلت: هلا قال: لَا عوج فيها فهو أبلغ من نفي رؤية العوج، قلنا: هذا إشارة إلى أن من قال تأمل ونظر لم يجد فيها عوجا؛ بخلاف أن لو قال الأعوج فيها لأوهم أن ذلك لم يتألم. قال الزمخشري: والعوج بالفتح في الحسيات وبالكسر في المعاني، وإنما أسندت معنى إلى الأرض وهي حسية إشارة إلى أنها وإن ظهر للناظر مستقيمة وقد تكون عند المهندس معوجة [فأتى*] بعبارة تقتضي نفي ذلك الاعوجاج؛ لأنه لم يظهر كل أحد صار كأنه معنوي. قوله تعالى: {لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا ... (107)} أي ليست منحرفة إلي اليمين ولا إلى الشمال، معنى (أَمْتًا) أنها ليس فيها ارتفاع [ولا انخفاض*]. قوله تعالى: {يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ ... (108)} إن قلت: هلا قال يومئذ يجيبون الداعي؟ فأجاب ابن عرفة بأن الاتباع أخص عن الإجابة فيستلزمها بخلاف ما كان العكس، فتأمل قوله تعالى: (وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا (111) .. ، يتناول العصاة وخيبة كل واحد بحسبه. قوله تعالى: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ ... (112)} يستدل بها السني والمعتزلي؛ لأن ظاهرها جزء من الإيمان لَا يتم إلا به. قوله تعالى: (فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا). أي زيادة عليه سيئاته، (وَلَا هَضْمًا) أي ولا نقصا من حسناته، ومفهومها منفي بالعقل؛ لأن ظاهره أنه من لم يعمل صالحا يخاف الظلم والهضم، وليس كذلك، أو يقال: إن ذلك جاري على عرف القرآن؛ أي إذ لم يذكر قسم الكافر ومن آمن وعمل صالحا وبقى الباقي مسكوت عنه. قوله تعالى: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا (114)} إن قلت: يؤخذ منها جواز اجتماع [علوم*] ثلاث، فيجاب بأنها مختلفة المتعلق؛ لأن متعلق كل علم متعلق العلم الآخر فيصح الاجتماع. قوله تعالى: {إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى (118)} فإن قلت: هلا قال: أن لك أن تشبع فيها وتروى، فالجواب: أنه إشارة إلى تعقيب الشيء بضده؛ لأن شقاؤه بضدها؛ وهي نفي الجوع والعري عنه، [وقرن*] الجوع

(121)

بالعري؛ لأن المتأكد على الإنسان المشق عليه أكله وكسوته، وأما الماء متيسر عليه، وكذلك الوضع الذي يسكن فيه متيسر، فيسكن إلى حائط أو في غار أو خباء أو نحوه. قال الزمخشري: وقرئ وأنك، ثم أورد سؤالا، ثم عطف (وَأنَّكَ) على (ألَّا تَجُوعَ) وأنت لَا تجوز أن تقول أن زيد منطلق والواو نائبة مناب تكرير أن، ثم أجاب بأن [الواو لم توضع لتكون أبدا نائبة عن أنّ، إنما هي نائبة عن كل عامل، فلما لم تكن حرفا موضوعا للتحقيق خاصة -كإن- لم يمتنع اجتماعهما كما امتنع اجتماع إنّ وأن*]. قال ابن عطية: وكان العرف أن يقرن الجوع بالظمأ، والعري بالضحى إذ العري يمس بسببه البرد فيؤدي، وكذلك الضحى يفعل ذلك بالضاحي، ومنه قول امرئ القيس: كأني لم أركب جوادا للذة ... ولم أتبطّن كاعبا ذات خلخال ولم أسبأ الزقّ الروي ولم أقل ... لخيلي كري كرة بعد إقفال قال ابن عرفة: حكى ابن عزون السجلماسي في تأليفه في البيان: أن المتنبي أنشد في مجلس الأمير سيف الدولة بمحضر الأدباء. تمرّ بك الأبطالُ كلمى هزيمةً ... ووجهُك وضّاحٌ وثغرُك باسمُ ضممت جناحيهم إلى القلب ضمّةً ... تموت الخوافي تحتها والقوادِمُ وأنكر عليه الحاضرون ذلك بعد ما وعده الملك بجائزة عظيمة، وقالوا له: عكست التشبيه وأدخل رأسه في طوقه ساعة ثم استشهد بقول امرئ القيس: فأدخل رأسه في طوقه ... وفكر ساعة ثم استشهدا على عكسه التشبيه بقوله تعالى: وزاده إلى جائزته (إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى (118) وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى) الآية، فسكت الحاضرون، فقال سيف الدولة: الله أكبر وزاده في جائزته التي كان وعده بها خمسين دينارا. قوله تعالى: {فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا ... (121)} إنما عوقب بها؛ لأن التعري وكشف العورة يظهر لكل أحد؛ بخلاف الجوع والعطش فإنه أمر خفي لَا يعلم به إلا صاحبه. قوله تعالى: (وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى).

(123)

قال ابن عطية: إما أنه [نهي*] أن يأكل من شجرة معينة وتركها وأكل من شجرة أخرى من جنسها، وقيل: إن النهي إنما كان على جهة الندب لَا على التحريم. ورده بعضهم بأن العصيان إنما يصدق على فاعل المحرم، وأجاب بعضهم بأن شرع من قبلنا ليس شرعا لنا، بأن العصيان كان يطلق عندهم على فعل ما لَا يجوز فعله. قوله تعالى: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى ... (123)} عقبه بالفاء إشارة إلى أن العداوة سبب في الهداية أو عداوته سبب في أن ينبعث إليهم الرسل يهدونهم إلى طريق الحق. قال ابن عرفة: وهذه الآية عندي دالة على أن بعثة الرسل محض تفضيل من الله تعالى وليست واجبة؛ إذ لو كانت واجبة كما يقول المعتزلة لقال: فإذا يأتيكم مني هدى، فعبر باللفظ المقتضي للتحقيق. قوله تعالى: (فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ). إن قلت: لم أعاد الظاهر، وهلا قال: فمن اتبعه فلا يضل ولا يشقى، فالجواب: أن الهدى الأول عام؛ كقوله تعالى: (إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا)، والثاني: خاص بدليل إضافته إلى الله تعالى فهي إضافة تشريف؛ أي فمن اتبع هداي الموصول إلى طريق الحق. قوله تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي ... (124)} ولم يقل: عنه؛ لأن الإعراض عن ذكر الله يستلزم الإعراض عن الهدى بخلاف العكس. قوله تعالى: {لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا (125)} قال ابن عرفة: إن كان قوله في هذا حقا فهو دليل على أن العمى في العين وإن كان باطلا فهو عمى البصيرة؛ لأنه ادعى أنه كان سليم البصيرة، وهذا نظير قوله تعالى: (يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ (42) خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ (43). قوله تعالى: {قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا ... (126)} ونسيناك وهذا لَا يصح، فقال: قد يجمع بين العلة والمعلول في شيء واحد. قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ ... (127)}

(130)

إن قلت: يلزم عليه تشبيه الشيء بنفسه؛ لأن المعرض هو المسرف؟ فالجواب: أن الأول خاص؛ لأن المعرض [عن*] الآية كفره أشد؛ لأنه سمع الآية وشاهدها، وأعرض عنها الآخر، فقلت له: ولم يسمعها ولم يذكرها فكفر من عاصر النبي صلى الله عليه وعلى آله الطيبين وسلم، ورأى آياته ومعجزاته أشد من كفر من لم [يرها*]، فلا يلزم من جزء المعرض ذلك الجزاء؛ أي يجزى به المسرف فهما متغايران تغاير الأعم والأخص، فأفاد الثاني ما لم [يفده*] الأول. قيل لابن عرفة: الإسراف فيه تجاوز الحدود، فلا فرق بين المسرف والمعرض، فقال: مجاوزة الحدود تحصل بمجرد الكفر. قوله تعالى: {وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ ... (130)} قالوا: (آنَاءِ) لجمع شيئين مثل عدل. قوله تعالى: (لَعَلَّكَ تَرْضَى). الترجي مصروفا للمخاطب. قلت: ذكر لي بعض الطلبة: أن بعضهم كان يقول عسى للترجي، ولعل للترجي، وذكروا أن الترجي في عسى أوجب، ولم يقولوا ذلك في لعل، قال: والجواب: أن عسى من أفعال المقاربة فتضمن الإخبار بقرب وقوع الفعل الذي دخلت عليه عسى، وخبر الله تعالى صدق واجب الوقوع لَا بد منه بخلاف لعل. قوله تعالى: {لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ ... (132)} أخذ الشيخ ابن عطاء الله منها تحريم التدبير في أمر الرزق [ ... ]. وقال ابن عرفة: أما في العقائد: فمسلم وأما غيرها فلا، وما في الآية ما يدل على أن الرزق يكون من غير سببه.

سورة الأنبياء

سُورَةُ الْأَنْبِيَاءِ عليهم السلام [السورة مكية بإجماع*]. ابن عطية. [اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ ... (1) *] قال ابن [مسعود*]: هي والكهف، ومريم، وطه من [العتاق*] الأول؛ لأن فعل الخطأ غير مقصود، الثاني المتصل تقتضي تكليف الفصل، إشارة إلى أنه طالب له؛ كقوله تعالى: (قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ)؛ أي طالب عليكم، فحيثما مررتم به حالة تفرون؛ فكذلك الحساب طالب للاقتراب. قوله تعالى: (وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ). ولم يقل: في إعراض غافلون، فعادتهم يجيبون بأن الغفلة أعم من الإعراض، والظرف أوسع من المظروف، فناسب أن تجعل الغفلة [ظرفا*] أو بينهما عموم وخصوص من وجه دون وجه لأنهما يشتركان في عدم الاهتداء، ويتنافيان في الذكر والمعارض ذاكر للشيء وتارك، [والغافل غير ذاكر*]. قوله تعالى: {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ ... (2)} قيل لابن عرفة: ما أفاد قوله (مُحْدَثٍ)؟ فقال: [سرعة إعراضهم*] عنه [بنفي*] نزوله؛ مع أن القول أول ما يسمع تتشوق النفس إليه وتقبله؛ بخلاف ما إذا تكرر. ولذلك قال الشاطبي في القرآن: [وَتَرْدَادُهُ يَزْدَادُ فِيهِ تَجَمُّلاً*] ولا فرق عند أهل السنة بين [المحدث والحادث*]، وفرق المعتزلة بينهما وفسر الإحداث إما باعتبار نزولها وهو إشارة إلى أنه معجز باعتبار الحروف الدالة عليه وهي محدثة، وإما أن يراد بالذكر نفس الذاكر وهو الرسول. قوله تعالى: (إِلَّا اسْتَمَعُوهُ). ولم يقل: يسمعوه؛ لأن استمع أخص؛ إذ الاستماع يقتضي القصد إلى السماع، فإذا أعرضوا عنه بعد قصدهم استماعه فأحرى أن يعرضوا عنه إذا استمعوه من غير قصد إلى استماعه. قوله تعالى: {وَهُمْ يَلْعَبُونَ لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ ... (3)} إن قلت: ما أفاد قوله تعالى: (لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ)؟ قلنا: إعراضهم عنه بالظاهر والباطل أعني بالفصل والنية، فهو إشارة إلى تجانبهم بقوتهم العلمية والعملية. قوله تعالى: (وَأَسَرُّوا النَّجْوَى).

(4)

ابن عرفة: (أَسَرُّوا) أي أخفوا النجوى إشارة إلى اختصاصهم بالحديث لبعض دون بعض، فليس فيه تكرار، ولا يرد السؤال الذي أورده الزمخشري بأن الإنسان قد ينفرد بالحديث مع بعض النَّاس، ويجهر فيه ولم ينفرد به ويسره له. وقال ابن عطية: (أَسَرُّوا) من أسماء الأضداد، فمعناه هنا اظهروا الحديث الذي كانوا أخفوه بينهم. قوله تعالى: (هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ). مذهب أهل السنة أن الأنبياء عليهم السلام مساوون في [**الخلقة الجسمية]، ومذهب بعض الحكماء أنهم اختصوا بطبيعة مزاجية. قوله تعالى: {قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ ... (4)} ولم يقل: يعلم السر؛ لأن القول أعم يطلق على السر والجهر، ويطلق على اللفظي والنفسي، والسر لَا يطلق إلا على اللفظ. قوله تعالى: (وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ). دليل على عدم مغايرة صفة السمع تخص العلم بالمسموعات، والبصر يخص العلم بالبصريات والعلم عام في الجميع. قوله تعالى: {بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ ... (5)} قال ابن عرفة: إن كان هذا الإضراب إضراب انتقال فلا كلام، وأما الإبطال فعادتهم يقولون: إن كان المضرب عنه نفس القول فهو إبطال، وإن وقع بما هو باطل، وإن قلنا: الإبطال لَا يصح إلا بالحق فهو إضراب انتقال، وإن قلنا: الإبطال يصح أن يقع بالحق وبالباطل فهو إضراب باطل. قوله تعالى: (بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ). هذا ترق قولهم: (أَضْغَاثُ أَحْلامٍ) أشد من قولهم فيه: إنه ساحر، وقولهم: إنه مفتر أشد من قولهم (أَضْغَاثُ أَحْلامٍ)، وقولهم (شَاعِرٌ) أشد؛ لأن الشاعر غالب أمره يقول ما لَا يفعل. قوله تعالى: {مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا ... (6)} معناه: أن العادة جارية في الأمة المحفوظة، أنا إذا أتيناها على يد الرسول ولم يؤمن به قومه، فإنا نعاجلهم بالعقوبة، وهؤلاء بحالهم كذلك [**لَا قالوا: سمعناهم لمرادهم]، [ما آمنوا*] فيكون ذلك سببا لإهلاكهم عاجلا.

(7)

قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا ... (7)} قال ابن عرفة: من شرط الرسالة نفي المانع منها ووجوب المقتضي لها. قالوا: الكفار ادعوا وجود المانع من الرسالة، وهو وصف البشرية بقولهم: (هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ)؟ فطلبوا إثبات المقتضي لها بقولهم: (فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ) فرد عليهم في دعواهم وجود المانع؛ بقوله: (وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ) إشارة إلى أن الرسل المتقدمة من البشر، فهم من جنسها. قوله تعالى: (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ). يؤخذ منه أن [التواتر*] يفيد العلم وإن استفيد من الكافر. فإن قلتم: بخت نصر، قد استأصل اليهود وأهلكهم، قلنا: لم يستأصل جميعهم وبقى عامتهم وليس [التواتر*] مستفاد منهم فقط؛ بل منهم ومن النصارى، إما في الدنيا، وإما في الآخرة، وتركنا من قومهم كذلك؛ لأن الرسل قد أهلك من قومهم كثير، قال تعالى (وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ) ويحتمل أن يراد بالإهلاك هنا الاستئصال، ولا شك أن هلاك الاستئصال خاص بالكفار ومن أهلك من المؤمنين فهلاكه غير مستأصل. قوله تعالى: {لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا ... (10)} هداية عليهم في قولهم (فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ). قوله تعالى: (فِيهِ ذِكْرُكُمْ). إما أن يراد فيه ذكر شرفكم، أو فيه تذكيركم المواعظ، أو يراد المعجزات. قوله تعالى: {لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا ... (17)} قال الزمخشري: لو أردنا اتخاذ اللهو اتخذناه من جهة قدرتنا لأني على كل شيء قدير. وقيل: اللهو الولد بلغة [اليمن*]، وقيل: المرأة. قال ابن عرفة: يحتمل أن يريد حقيقة المرأة، وحقيقة الزوجة المنكوحة، أو يراد ابن التبني والزوجة المعاشرة غير المنكوحة وهو الظاهر؛ لأن الولد مستحيل عقلا وما ينفي إلا ما هو [قابل لأن يكون*]، ويشترط أن يكون ابن التبني على قسمين:

(18)

تارة يقصد به مجرد الرحمة له والشفقة عليه، وكذلك الزوجة [فهذا*] ممكن هنا عقلا فيصح دخول النفي الشرعي عليه. وتارة بقصد التلذذ به وبالزوجة، فهذا محال هنا عقلا، فلا يصح نفيه إذ لَا فائدة فيه. قال ابن عرفة: وهذا الأولى أنهم ذكروه لما قلناه: لكن هو المناسب بسبب نزول الآية، لأنهم ادعوا نسبة الولد والزوجة إلى الله تعالى بدليل قوله في الآية: (وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفونَ). قال ابن عرفة: وكان بعضهم يفسر هذه الآية بمعنى آخر وهو أن الإقبال على ما لا فائدة فيه، إن كان لقصد شغل البال به عن شيء آخر فهم [لهو*] وإلا فهو لعب، فأتت الآية [ترد على المعتزلة*]، في إيجابهم مراعاة الأصلح عقلا، فقال الله تعالى (لَو أَرَدْنَا أَن) نخلق شيئا لتحصيل منفعة أو لدرء مفسدة عنكم، لفعلنا ذلك في أنفسنا [مِنْ جِهَةِ قُدْرَتِنَا*] [بعيدا*] عما [يجلب*] المصلحة ويدرأ المفسدة، لكن من عادتنا ربط الأسباب بمسبباتها [وإننا لم نخلق شيئا عبثا*] بل [خلقنا*] كل نوع من النبات والحيوانات والجماد لمنفعة ومصلحة علمها من علمها وجعلها من جعلها فحصل من هذا نفي التحسين والتقبيح عقلا بهذه الشرطية وأسلم به سمعا، ويشهد لهذا المعنى قوله تعالى: [(وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ) *]، ولذلك لاتخذناه من لدنا في أنفسنا لاستغنينا عن جلب المصالح ودرء المفاسد. فإن قلت: ما أفاد قوله تعالى: (إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ)، وأنت لَا يجوز لك أن تقول: قم إن قمت، ولا تقول أو أردت القيام قم إن قمت،؛ لأن الشرط عين الجزاء فلا فائدة في الجزاء، قال: قلت: إن لازم الشرطية الأولى منفي فلذلك دخل عليه الشرط في الثانية. قوله تعالى: {فَيَدْمَغُهُ ... (18)} هذا تشبيه أمر [معقول*] للمحسوس. قوله تعالى: {وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ... (19)}

(20)

غلب فيه العاقل على غيره؛ أي إذا ملك العاقل فأحرى غيره، فيدخل فيه السماوات والأرض،؛ لأن ملك المظروف يستدعي ملك الظرف. قوله تعالى: (لَا يَسْتَكبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ). أي لَا يطلبون الاستكبار. ابن عرفة: ومنهم من قال استفعل إذا لم يكن للطلب، فيكون للمبالغة أي لا يبالغون في التكبر، ولا في التحسر. وأورده الزمخشري: كيف نفى الأبلغ دون ما تحته، وأجاب بأنه لو فرض هناك آخر فما كان إلا بعد الطلب. قوله تعالى: {يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ (20)} قيل لابن عرفة: استدل بعضهم بقوله تعالى: (أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ)، فظاهره أن الملائكة يستقلون باللعنة ولا يسبحون، وأجيب باحتمال، وأجيب أيضا بأن تقول لعنهم يسبح. وأجاب ابن عرفة ناقلا عن عز الدين ابن عبد السلام بأنه لَا مانع لاجتماع الأمرين على الخبر الواحد واحدا وهو جواب حسن. قوله تعالى: {أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ (21)} ابن عرفة: إما بمعنى جعلوا واتخذوا الله إبراهيم خليلا أو بمعنى سيروا. قال: [(أَم) *] هنا منقطعة بمعنى بل، والإضراب بها انتقال؛ لأن فيها وله من في السماوات والأرض، وهذا لَا يصح إبطاله. قوله تعالى: (هُمْ يُنْشِرُونَ). النشور الإحياء، يقال: وأنشر الله الموتى ونشرها (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ)، وقال تعالى (وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ). وقال الزمخشري: إن قلت: ما أفاد بقوله (هُمْ)، قلنا: أفاد الخصوصية؛ أي اتخذوا آلهة من الأرض [لا يقدر على الإنشار إلا هم وحدهم*]. ورده ابن عرفة: بأن أم مقدرة بـ بل، والهمزة، فهو استفهام في معنى النفي فلا يصح جريانها على الفعل من البناء على المضمر للاختصاص،؛ [لأن نفى اتخاذهم آلهة

(22)

[مختص*] بإحياء الموتى لَا يلزم منه نفي [اتخاذهم*] آلهة مشاركة لغيرها في إحياء الموتى*]، مع أنهم ادعوا المشاركة؛ [كقوله] تعالى: (مَا نَعْبُدُهُم إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى)، فالصواب حملها على ما أجاب به الزمخشري: في سورة البقرة في قوله تعالى: (وَمَا هُم بِخَارِجِينَ)، لما رآها مصادفة لمذهبه. قال: إن الضمير لمطلق الربط؛ كقوله: هم يفرشون لك كل مضرة، وهذا أفاد كمال الملازمة كما يفرق بين قوله زيد ناطق زيد كاتب. قوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا ... (22)} أي لو وجد فيهما آلهة غير الله، وليس المراد به الكون في السماء والأرض لئلا يلزم عليه كون الله في السماء، وإنما المراد الوجود كما قال الزمخشري في حديث سودة حين قال لها النبي صلى الله عليه وسلم وعلى آله الطيبين وسلم: أين الله تعالى؟ فقالت: في السماء، فقال لربها: أعتقها فإنها مؤمنة. قال: مرادها نفي الإلهية الأرضية التي هي الأصنام لَا إثبات السماء مكانا [لله عز وجل*]. قوله تعالى: {وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (28)} ابن عرفة: يؤخذ منه جواز أن يقال: سبحان من تواضع كل شيء لعظمته، قيل لابن عرفة: كيف يستقيم أن يقال: وهم من [خوفه*] خائفون؛ لأن الإشفاق هو الخوف، وأجاب ابن عرفة: [بإن الإشفاق أخص*]. قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا ... (30)} قيل: فتقنا السماء بالماء والأرض بالنبات، وقيل: غير ذلك. قال ابن عرفة: وكان بعضهم يقول: يحتمل أن يراد بقوله (كَانَتَا رَتْقًا) أنهما كانتا جوهرا واحدا (فَفَتَقْنَاهُمَا)؛ بخلاف الأعراض، وهذا جار على مذهب أهل السنة في أن الجواهر كلها عندهم متساوية في الحد والحقيقة، وإنما تختلف بالأعراض. وأورد الفخر: أن الرؤية [إما أن تكون بصرية أو علمية*]؛ لأن الكفار لم [يروا*] ذلك ولا علموه، وأجاب: بأنهم علموه من [التوراة*] والإنجيل. قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ ... (31)}

(34)

قال ابن عرفة: فيها رد على الحكماء القائلين بأن الأرض في مركزها الطبيعي لما احتيج إلى إرساها بالجبال خوفا أن تميد بهم، إذ لَا تميد إلا إذا لم تكن في مركزها الطبيعي. قوله تعالى: {أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ (34)} إن قلت: لم عبر بإن دون [إذا*] مع أن موته محقق؛ فأجاب بأن الملازمة غير محققة، وهي ملزومية موته لخلودهم. قوله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ... (35)} [إنَّ هَذَا الْعُمُومَ مَخْصُوصٌ*] بالقديم لقوله تعالى: (تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ)، وقوله تعالى: (ذَائِقَةُ الْمَوْتِ) دليل على أن الموت أمر وجودي، وعلى أن النفوس باقية بعد الموت بإبقاء الله تعالى؛ لأنها إذا ذاقت الموت فهي ذائقة. قال ابن عرفة: والعدم لَا يذوق موتا. قوله تعالى: {قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ (55)} قال ابن عرفة: لم عبر في الأول بالفعل، وفي الثاني بالاسم، وهلا قالوا: أتيت بحق أم أنت من اللاعبين، أو كان يقال: أجئتنا بالحق أم جئتنا باللعب، أم أنت من اللاعبين، الثاني: أنهم قصدوا تحقيق كونه من اللاعبين، وأنه أمر ثابت عندهم ولازم الإتيان بأنه بحق أمر مشكوك فيه عندهم غير ثابت. قوله تعالى: {قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا ... (62)} قال [ابن هشام المصري*]: هو محتمل [لإِرَادَة الِاسْتِفْهَام*] الحقيقي بأن يكون لم يعلموا أنه الفاعل [ولإرادة*] التَّقْرِير؛ [بأن*] يكونوا قد علموا، [ولا يكون استفهاما*] عن الفعل [وَلَا تقريرا بِهِ*]؛ لأن الهمزة [لَم تدخل عليه*]، ولأنه عليه السلام قد أجابهم بالفاعل بقوله: (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا). قوله تعالى: {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ (65)} قيل: [(ما) *] نافية بالفعل، وهو علم تعلق، ويحتمل أن جملة النفي في موضع مفعول واحد [إن تَعَدَّتْ علم إلى واحد، وفي موضع مفعولين إن تَعَدَّتْ إلى اثنين*]. قال أبو حيان: ورد الأول بأنه إذا كانت تَعَدَّتْ إلى مفعول فخرجت عن علم الأفعال التي تعلق وصارت بمعنى صرف فلا تعلق.

(74)

وأجاب ابن عرفة: بأن مراده بالتعلق. قوله تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ (74)} يؤخذ منها تجريح من شهد فيه أنه رجل سوء. قوله تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (77)} فعاقبهم بالغرق، وقد كان الفقيه ابن إسحاق إبراهيم ابن عبد الرفيع جرح بها بعض في مرأى لما شهد فيه بذلك الفقيه عبد الله المراجلي. قوله تعالى: {وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ ... (76)} قال ابن عطية: ذكر القصص في القرآن إما تسلية للنبي صلى الله عليه وعلى آله الطيبين وسلم، وإما تخويف لقومه، وذلك بحسب الواقع. قال بعضهم: [ولذلك لم تتكرر قصة*] يوسف عليه الصلاة والسلام؛ لأنها خارجة عن القسمين. قال ابن عرفة: أو يقال: إن الأصل عدم التكرار؛ فهي واردة على الأصل ولشهرتها؛ فلذلك لم يتكرر بخلاف غيرها من القصص لأنها لم تشتهر كشهرتها والعامل في (وَنُوحًا) [مضمر تقديره اذْكُرْ أَيْ وَاذْكُرْ قصة نوح*]، أو [آتينا*] نوحا، ورده أبو حيان. وأجاب ابن عرفة بأن هذا الإتيان خاص. وكذلك [اذْكُرْ*] ورده بعض الطلبة؛ بأن آتينا الأول أعم، وليس فيه خصوصية عما تقدم، فيكف تكون هنا خاصة. فأجاب ابن عرفة: بأنه لَا مانع بأن يكون تقولا بالتشكيك، فهو [خاص*] وأخص ونادى بالدعاء في قومه، فقال: (رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا). قوله تعالى: (فَنَجَّيْنَاهُ) تفسيرا لما وقعت به الإجابة. فإن قلت: لم قال: (وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ ... (77) .. ، ولم يقل: ولم (وَنَصَرْنَاهُ) على القوم؟ قلت: أجيب بثلاثة أوجه:

الأول: لابن عطية: نحن نصرناه يعني خلصناه وعصمناه؛ لأن هذا الأمر ليس من سببه ولا له تكسب بوجه ولا قدرة على [إغراقهم*]؛ بل لَا قدرة له على تخليص نفسه منهم. ورده السفاقسي بأن هذا مرادف له. قال ابن عرفة: هذا لَا يليق به؛ أي لَا يضمن الفعل إلا معنى فعل غير مرادف له في المعنى. الجواب الثاني: قال الزمخشري: نصر مطاوع النصر، وسمعت هذليا يدعو على سارق يقول: اللهم انصره منه، أين تقديره عدى بمن كما عدى انتصر بها. ابن عرفة: ويراد بأنه لَا يلزم من تعدي فعل بحرف تعدي فعل بحرف تعدي غيره به، والصواب تقديره بأن فعل المطاوعة لازم للفعل الذي جعل مطاوعا له، فانتصر لازم لنصر، وما عرض للازم فهو عارض [لملزومه*]، واستدلال الزمخشري بما سمعه وتركه الاستدلال بالقرآن ضعيف بجواز كون الهذلي ممن لَا يوثق بعربيته، ولفظ القرآن أوثق من شعر الآحاد، وهو في القرآن كذلك [وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ*]. قلت: وقال ابن عرفة: كلام الزمخشري مردود بوجهين: الأول: أن كلام الله [لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ*] [لا إشكال فيه كما في الآية*]. الثاني: أنه ترك الاحتجاج بالقرآن، وهو قوله تعالى: (وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانْتَصَرَ مِنْهُم)، قال: تقدير كلامه أنه يقول: نصر مطاوعه أن يتعدى بـ على ومن، فكذلك يتعدى [إذ كل ما لزم الأعم لزم الأخص*]. ورده بعض الطلبة بأن نصر يتعدى بنفسه، والنصر قاصر، فبطل قولهم كل ما لزم المطاوع لزم مطاوعه. وأجاب ابن عرفة بأن عدم التعدي أمر عادي، وكل ما انتفى عن الأعم لَا يلزم أن ينتفي عن الأخص، إنما اللزوم بينهما في الثبوت لَا في العدم. قال: وكان بعضهم يقدر كلام الزمخشري بأن الأعم الأغلب في نصر، إنما يرد فيمن عاقب من ناوأه من غير أن يتقدم له عليه ذنب يستحق به العقوبة، قال تعالى (وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ). قال: (فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ) وقد وقعت هنا نصر فدل بمعنى أنها انتصر فهذا الذي حمل الزمخشري على ذلك الجواب.

(78)

قوله تعالى: (إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ). [**نصرا على أنه إذا خرج باللفظ عمل عليه مثل هو أذن، وشارب خمر وقاطع طريق، وإذا خرج بلفظ منهم مثل شرير ونحوه، فلا شيء فيه إذ فعله شرير في استخلاص حقه، وإن قال: هو رجل سوء، فإن كان القائل عدلا فقيها لم يستفسر ولا استفسر على أن فيه خلافا]. قوله تعالى: (فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ). قال ابن مالك: أكثر ما يقع أجمعين تابعا لغيرها عن ألفاظ التوكيد. ورده السفاقسي بهذه الآية؛ مع أن ابن مالك لم يقل: أنها لم تقع إلا معها؛ بل قال إنه الأكثر فيها، ويحتمل أن يكون أجمعين هنا حالا، فلا يكون بينهما دليلا عليه. وقوله تعالى: (وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ ... (78) الثانية بدل من الأولى بدل اشتمال. ابن عرفة: قال بعضهم: إذ يحكمان في شأن الحرث إذ نفشت. قال ابن الحاجب: [المسألة التي لَا قاطع فيها*]. قال القاضي الباقلاني: [كل مجتهد فيها مصيب*]، وحكم الله تعالى فيها تابع لظن المجتهد. وقيل: [الْمُصِيبُ وَاحِدٌ مِنْ الْمُخْتَلِفِينَ*]، فقيل: إن لله تعالى في كل قضية حكما دليلا عليه، فإذا صادف المكلف كان [كَدَفِينٍ يُصَابُ*]. وقال الأستاذ أبو بكر ابن فورك، وأبو إسحاق الإسفراييني: دليله ظني لمن ظفر به فهو [المصيب*]. وقال الليثي والأصم: دليله قطعي والمخطئ آثم ونقل عن الأئمة الأربعة التصويب والتخطئة، فإن كان فيها قاطع فقصر فهو [مخطئ آثم*]، وإن لم يقصر، فالمختار أنه مخطئ غير آثم. ثم قال ابن عرفة: وعادتهم يستشكلون القول بأن لله تعالى في القضية حكما لا دليل عليه، وهو كدفين، قالوا: لأنه يلزم عليه أن يكون بعض أحكام الشريعة لَا دليل عليه وهذا باطل، فأجاب بعض الطلبة بأن المراد لَا دليل على تصوره وتصويبه.

وقال بعضهم: القول بأن كل مجتهد مصيب يؤدي ثبوته إلى نفيه؛ لأنه يقول: من قال المصيب واحد؛ لأن هذا القائل من [جملة مجتهدين*] فهو مصيب، وأجيب: بأن ذلك في الأصول والعقليات والعقول بأن كل واحد مجتهد مصيب إنما هو في الفروع والأحكام الشرعية. قال ابن عطية: ذهبت فرقة إلى أن المصيب في العقليات واحد والحق في طرف واحد فمن صادفه وأصابه [فله أجران*] ومن لم يصادفه فهو مصيب في اجتهاده مخطئ في عدم الإصابة، وله أجر واحد وهو [غير معذور*]. قلت: واستشكله ابن عرفة؛ لأن قوله [غير معذور*] يقتضي أن عليه الخروج، فكيف يقول الإثم عليه؟ وأجيب: بأن مراده بعدم عذره أن يسميه مخطئا؛ لأنه يثبت عليه الخروج. قال ابن عطية: ويؤخذ من قوله صلى الله عليه وسلم وعلى آله وسلم: "كل مجتهد مصيب" العالم [يجتهد*] فيخالف نصا؛ كقول سعيد بن المسيب في المطلقة ثلاثا: أنها تحل لزوجها بمجرد عقد الثاني عليها النكاح وطلاقه إياها. ابن عرفة: حقه أن يفرق بين أن يقصر النظر أو لَا؛ كما تقدم لابن الحاجب. فإن قلت: ابن المسيب لم يقصر النظر، فكيف حكم بالحيلة؟ قوله صلى الله عليه وسلم وعلى آله وسلم: "لَا حَتَّى تَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ وَيَذُوقَ عُسَيْلَتَكِ": فالجواب: أن ابن المسيب قصر في طلب الحديث: فلو بحث عنه [لعثر عليه*]؛ لأنه قصر في النظر فيه، لأنه نص [جلي*]، قال ابن عطية: وداود وسليمان عليهما السلام توصلا إلى ذلك إما بوحي، أو اجتهاد منهما. ابن عرفة: أو أحدهما بوحي والآخر باجتهاد، ومن هو الموحى إليه منهما فجاءت القسمة رباعية، ويدل على أنه باجتهاد. قوله تعالى: (فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ). [قال الفخر: الإدراك والعلم والشعور*]، والفهم بمعنى واحد. وكان بعضهم يرد عليه ويقول: الفهم يقتضي النظر والبحث، فدل قوله تعالى: (فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ)، على أنه تروى في القضية ونظر واجتهد. قوله تعالى: (وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ)

(80)

قال ابن عطية والزمخشري: إنما جمع الضمير؛ لأن المراد الحاكم والمحكوم عليه لهما، واحتج بها ابن التلمساني على أن أقل الجمع ثلاثة، وأجاب: عن إرادة الجمع بأن يلزم عليه أن يكون موضع الضمير [رفعا ونصبا*] في حالة واحدة وهو باطل. وأجاب بعضهم بأن الممتنع من ذلك إنما هو الأمور اللفظية الواقعة، وأما الأمور التقديرية فلا يمتنع أن يكون الموضع على تقدير نصبا ورفعا على تقدير، ولم يأخذ مالك بحكم أحد منهما. قال ابن عطية: (وَدَاوُدَ) معطوف على [وآتينا*] ورده بعض الطلبة بلزوم التكرار* لأن قوله تعالى: (وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا) يعني معه، وأجيب: بأنه عطفهم عليه ينفي عنهما النقص المتوهم في الحكومة في هذه القضية، وأفاد قوله تعالى: (وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا) حصول ذلك لهما بالإطلاق في كل قضية. قوله تعالى: {وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ ... (80)} قال ابن عرفة: اختلالفوا هل يستثنى الله من هذه الأفعال اسم أم لَا؟ كقوله تعالى: (الَّذِي عَلَّمَ بالْقَلَمِ)، فمنهم من أجازه فيما ليس فيه إيهام ومنعه في الموهم، فلذلك يقول الحكام: العلم الأولى يصفونه بالأول؛ لأنه موهم واختلفوا هل يطلق على هذه الصنائع المختصة بشيء دون آخر كالخياطة والتجارة علم أو لَا؟ وكذلك المنطق والنحو اختلفوا هل هو علم أو صناعة؟ قوله تعالى: (مِنْ بَأْسِكُمْ). يحتمل الإضافة للفاعل والمفعول. وكان بعضهم يقول: إن أريد التأثير أثر الضرب والطعن والإضافة للمفعول، لأنها أخص من ذلك. قوله تعالى: (فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ). عبر بالاستفهام دون صريح اللفظ بالشكر؛ لأنه أبلغ والمخاطب لَا يهتم إلا بالموافقة [بخلاف*] الأمر بالشكر؛ لأنه قد يمتثله فيخالف، ويحتمل أن يريد (فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ) داود وشاكرون الله تعالى، فيؤخذ منه أن [شكر النعمة*] يستلزم شكر من تسبب فيها، فأنعم بها عليك*]. قوله تعالى: {وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذَلِكَ ... (82)}

(83)

مع أنك إذا قلت: فلان يحمل الصخرة ويحمل الرطل لم يكن له فائدة،؛ لأنه إذا حمل الثقيل فأحرى أن يحمل ما دونه، وأجيب بأن المراد ويعملون عملا [غيره*] (يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ)، ويكون المراد أنهم نوعان: نوع يغوص، ونوع يعمل عملا آخر. فرده ابن عرفة: بأن ذلك بعيد من لفظ دون، قال: والجواب الآخر يحتاج إلى إضمار. قال: وإنما عادتهم يجيبون بأنه إن جعلنا اللفظ باعتبار القوة والقدرة فهو تكرار كما قلتم، وإن جعلناه باعتبار الامتثال والطاعة فهو تأسيس، لأن من يطيعك في حمل الثقيل قد تأنف نفسه عن طاعتك في حمل الخفيف لكونه يستحقره؛ كقولك: يتآزر الجيش العظيم [ويجعل*] للسلطان فعله إذا جلس، فهذا ليس بتأكيد، وإنما هو تأسيس لهذا الاعتبار. قوله تعالى: (لَهُمْ حَافِظِينَ). هذا احتراس، أي حالهم مستعدين في أمورهم لئلا يأتون على غير الوجه المراد منها، فهو إشارة إلى أن جميع الأشياء بخلق الله وقدرته. قوله تعالى: {مَسَّنِيَ الضُّرُّ ... (83)} ولم يقل: لحقني أو أصابني مع أن المس أخف، وقد طال زمن، فمر هذا إشارة إلى أن هذا بالنسبة إلى غيره كالمبدأ، وهذا على جهة التلطف منه في الدعاء، ولذلك لم يقل فارحمني. قوله تعالى: {فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ ... (84)} هذا العطف على جهة الترقي؛ لأن كشف الضر أمر حاجي ضروري، إذ هو من دفع المؤلم، فآتيناه الأهل والمال أمر تكميلي،؛ لأن من جلب الملائم فأعطاه الأمر التكميلي بعد الأمر الحاجي أقوى وأبلغ، قال الأستاذ أبو جعفر بن الزبير في سورة ص (ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ) فذكر السبب في كشف الضر هنا، لم يذكر له سببا، وقال تعالى هناك [(رَحْمَةً مِنَّا) *]، وقال هنا (رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا)، وقال هناك (وَذِكرَى لأُولِي

(85)

الأَلْبَاب)، وقال هنا (وَذِكرَى لِلْعَابِدِينَ)، فأجاب بأنه أسند الفعلَ هناك للشيطان، قال: (أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ) أشعر أن وقوعه به كان سببا، أن يقرن رفعه بسبب وهنا لم يذكر لنزوله به سببا فلم يقرن رفعه بسبب، وإن كانت القضية واحدة لكن هذا في الحكاية عنها، وقال هنا (ذِكرَى لِلْعَابِدِينَ)، لأنهم أعلى درجة من أولي الألباب،؛ لأن أولي الألباب إن تذكروا صاروا من العابدين، وإن لم يتذكروا لم يكونوا من العابدين. قوله تعالى: {وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ ... (85)} قال ابن عطية: إسماعيل أبو العرب المعروفين اليوم. قال ابن عرفة: يريد أن أبوته للعرب لم تنقطع، لأنه أب لهؤلاء بأعيانهم. قال: وترتب المعطوفات ليس بصواب باعتبار التقدم الزماني، وإنَّمَا هو باعتبار علو المنزلة والقدر أو باعتبار الشهوة وعدمها. قوله تعالى: (وَذَا الكِفْلِ). قال الزمخشري: قيل: خمسة من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام [ذوو اسمين إسرائيل ويعقوب، وإلياس وذو الكفل، وعيسى والمسيح، ويونس وذو النون، ومحمد وأحمد*]. ابن عرفة: لَا يريد أنهما اسمان علمان؛ لأن النحويين حكوا عن الفارسي: أنه منع تسمية الشخص الواحد باسمين علمين، وأجازه غيره، قال: والنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم اسمه الحقيقي محمد، وأما أحمد فمشتق من الحمد،؛ لأنه الفعل، فإن قلت: منعه من الصرف ووزن الفعل والعلمية، قلت: له اسمان باعتبار ملتين، واسمه أحمد في التوراة، ومحمد في ملتنا. قوله تعالى: {إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ (86)} مع أن النبوة أعلى درجة من الصلاح، ولكن صلاح كل شيء بحسبه، فصلاح الأنبياء أكمل من صلاح غيرهم. قوله تعالى: (وَذَا النونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا). قال ابن عرفة: وكان بعض القراء يقول في قول الشاطبي في سورة الفرقان: [وَيَأْكُلُ مِنْهَا النُّونُ شَاعَ وَجَزْمُنَا ... وَيَجْعَلْ بِرَفْعٍ دَلَّ صَافِيهِ كُمَّلَا*] إشارة إلى ما ورد في الحديث: "يكون أول طعامهم زيادة كبد الحوت" وهو حديث شائع ذائع، وليس هو

(87)

قصد الشاطبي؛ لأنه معنى حسي، وإنما قصد الشاطبي التنبيه على قراءة قوله: (وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ)، قلت: إنما يجيء هذا على قضية النون لَا على رفعها. قوله تعالى: {فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى ... (87)} قال الزمخشري: وعن ابن عباس، أن معاوية قال له: لقد ضربتني أمواج القرآن البارحة فغرقت فيها، فلم أجد لنفسي خلاصا إلا بك. قال: وما هي يا معاوية، فقرأ هذه الآية وقال: أو يظن نبىّ الله أن لا يقدر عليه؟ قال: هذا من القدر لا من القدرة. قال ابن عرفة: أي من الإرادة، أي يظن أن لن نريد عقوبته. قال ابن عرفة: وتحمل الآية على ظاهرها؛ لأن إمام الحرمين ذكر في الشامل خلافا هل تتعلق القدرة بنقيض الواقع أم لَا، فذهب أهل السنة المنع، والمعتزلة أجازوه، فنحن الآن جلوس هنا فهل يصح أن يقال: غير قادر على أن يوجدنا في هذا الزمان نفسه في موضع آخر أم لَا؟ أهل السنة منعوا ذلك، والمعتزلة أجازوا إطلاق ذلك، والواقع في الوجود معلوم، والمستقبل مظنون، فإذا كنت ظانا أنك تقوم كدا، وغلب ذلك على ظنك فتقول هذا مذهب المعتزلة أن الله غير قادر على جلوسي غدا، فكذلك يونس عليه السلام، تعلق ظنه لشيء، فظن أن القدرة على نقيضه منفية. قوله تعالى: (فَنَادَى). ولم يقل: قال إشارة إلى رفع صوته بذلك، أو إشارة إلى النداء تنبيه من أراد إقباله عليك. قوله تعالى: (فِي الظُّلُمَاتِ). دليل على الظلمات أمر وجودي، وجمع الظلمات بناء على أن العرض لَا يبقى زمانين، أو لكون النداء المدة بعد المرة، فكل نداء في الظلمات، أو بناء على الظروف لا بد أن تكون أوسع من الظرف، وفيه دليل على أن الظروف في الظروف في الشيء مظروف في ذلك الشيء؛ لأن يونس نادى في بطن الحوت، والحوت في بطن حوت آخر أكبر منه والحوت الكبير في البحر. قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (88)}

(93)

ولم يقل: وكذلك ننجي المسبحين، كما قال: (فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ) مراعاة لأول القصة في التسبيح، وأَول القصة (لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ) فمن حصل له هذه الكلمة نجا، وإن لم يكن مسبحا. قوله تعالى: {وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ ... (93)} قال ابن عرفة: عادتهم يقولون: ما أفاد قوله (بَيْنَهُمْ)؟ فكانوا يجيبون بأن مادة التقسيم تفيد الانقسام بين الشخصين، فلو قال: تقسموا أمرهم لأفاد أن كل واحد منهم أخذ منه قسما بخلاف قوله: تقطعوا لحمهم، أو أمرهم بأنه يحتمل؛ لأن يكون تقطعوه وأخذ بعضهم بعضه، والبعض الآخر أخذه أجنبي، أو أخذ كله بعضهم، فلو قال: بينهم أفاد قسمة بين المتقطعين أنفسهم. قوله تعالى: (كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ). التنوين عوض عن ضمير مضاف أو مجرور، فإنه قدر مضافا كان كلا، وإن قدر مجرورا؛ فإن كلية أي كل منه وهو أولى لإفادته تعلق علم الله بالجزئيات، وفي الآية الوعد [للطائع والوعيد للعاصي*]. وقوله تعالى: (فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ ... (94) الآية حجة لأهل السنة في أن الإيمان هو مجرد التصديق، وأنه غير العمل الصالح، ولو كان هو نفس العمل لكان قوله (وَهُوَ مُؤْمِنٌ) تأكيدا، وأجاب بعض الطلبة: بأنهم يقولون إن الإيمان هو الأعمال الصالحة الواجبة، والآية تناولت مطلق الأعمال واجبها ومندوبها. قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ ... (96)} ذكر ابن عرفة: ما قال المفسرون [وذكر*] عن بعضهم أن حتى غاية. كقوله تعالى: (وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ). لما ورد من أن الشمس إذا طلعت من مغربها يغلق باب التوبة ولا يقع بعدها عمل صالح، فلا يكتب الأعمال الصالحة، وإنما يكتب السيئة مع أن يأجوج ومأجوج مقارب أو مقارن طلوع الشمس من مغربها. وزاد أنه وقف بعض النحويين، وهو ابن خروف: على أن الغاية إنما هي لازمة بحتى الجارة فقط، فإن قلت: لم هنا فتحت، وقال في الكهف: (فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا)، الفتحة أخف من الدك، بأن

(97)

الفتح يصدق بأن يفتح فيه باب واحد، والدك يقتضي فتح جميعه، وانظر حديث حذيفة، حيث قال أحمد في [الفتنة: "وَإِنَّ دُونَ ذَلِكَ بَابًا مُغْلَقًا، قَالَ عُمَرُ: فَيُفْتَحُ أَوْ يُكْسَرُ؟ قَالَ: يُكْسَرُ، قَالَ: ذَاكَ أَجْدَرُ أَنْ لاَ يُغْلَقَ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ"*]: ذلك أحرى أن لَا يغلق أبدا، فالجواب: أنه اعتبر في ذلك حال السد نفسه لخروجها في سياق القوة، والشدة؛ لقوله تعالى: (فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ)، الآية وفي الآية اعتبر حال المسدود عليه. فإن قلت: فما هو الواقع، قلت: يفتح أولا ثم يجعل ذلك دكا، والدك إما بهدمه كله أو بنزوله في الأرض وغيبته فيها حتى لَا يظهر منه شيء على وجهها، فلا يحتاج إلى ما أجاب به الفخر قال: [كيف صح هدمه وهو من حديد وأفراغ*]، وأجاب بأن الله يلينه لهم فلا يقدرون على هدمه. قوله تعالى: (وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ). الضمير عائد على بني آدم في خروجهم من القبور لتوافق قراءة [جدث*]، وهو القبر لقراءة الحرف [حدب*]، ولا يتناقض الحديث الوارد، بأن يأجوج ومأجوج لَا يطلعون إلى أعالي الجبال حيث يكون عيسى ومن معه. قال ابن عطية: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يقول الله تعالى يوم القيامة لآدم: ["يَا آدَمُ، فَيَقُولُ: لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ، وَالخَيْرُ فِي يَدَيْكَ، فَيَقُولُ: أَخْرِجْ بَعْثَ النَّارِ، قَالَ: وَمَا بَعْثُ النَّارِ؟، قَالَ: مِنْ كُلِّ أَلْفٍ تِسْعَ مِائَةٍ وَتِسْعَةً وَتِسْعِينَ، فَعِنْدَهُ يَشِيبُ الصَّغِيرُ، وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا، وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى، وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ "قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَأَيُّنَا ذَلِكَ الوَاحِدُ؟ قَالَ: "أَبْشِرُوا، فَإِنَّ مِنْكُمْ رَجُلًا وَمِنْ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ أَلْفًا"*]. قال ابن عرفة: الحديث صحيح خرجه البخاري ومسلم، إلا أنه مشكل من كل ألف وتسعمائة وتسعة وتسعون، فيكون الرجل الواحد عُشر عشر العشر فهو مخالف لقوله: إن منكم رجلا ومن يأجوج ومأجوج ألف رجل. قال ابن عرفة: وهذا الحديث مقتضي أن يأجوج ومأجوج بلغتهم الدعوة، إما دعوة النبي صلى الله عليه وسلم، أو دعوة من قبله من الأنبياء لقوله (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا). قوله تعالى: {يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا ... (97)} فإن قلت: فهلا قيل: [(يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ) *]، أو يقولون قد كنا في غفلة بل كنا في ظلم؟ فالجواب: أن الغفلة سبب في الظلم وإضافة

(99)

الحكم إلى السبب أقوى من إضافته إلى مسببه، فلذلك جعلهم مظلومين في الغفلة، وإنما أحاطت بهم حتى كانت سببا في ظلمهم. قوله تعالى: {لَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا ... (99)} قال ابن عرفة: الإشارة إليهم بلفظ القريب تحقيرا لهم؛ كقوله تعالى: (أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ)، قال بعضهم وفيها رد على النحويين في قولهم: إن لو يمنع الورود لامتناع كونهم آلهة، والتقدير هنا لكنهم [واردوها*]، فليسوا بآلهة. قوله تعالى: (وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ). أخص من الورود؛ لأن الخلود ورود [وزيادة*]. وأورد ابن عرفة: تشكيكا، ولم يجب عنه، قال: هذا إما خطاب للمؤمنين أو للمشركين، وعلى التقديرين فلا فائدة فيه، المؤمنون مقرون بأنهم واردوها فلا حاجة إلى الاستدلال عليهم والمشركون مكذبون بورودهم النار، فلا فائدة في هذا الدليل، وأجيب: بوجهين: الأول: قال ابن عرفة: الخطاب للمشركين في الدنيا، والدليل يفيد بصحيحه إلى المعجزة الدالة على صدق الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم في جميع ما جاء به، ومن جملة ما أخبر به أن آلهتهم تدخل النار، فلو كانت آلهة ما أدخلوها، وهو قد علم صادقا لم يجربوا عليه كذبا [فيصدقونه*] في ذلك. القول الثاني: قال ابن عبد السلام: هذا للكافرين في الدار الآخرة حين عاينوهم في النار. قوله تعالى: {لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ ... (100)} صوت المعذب وهو كنهيق الحمير، أو [شبهه*]، إلا أنه من المصدر. قال ابن عرفة: هذا غير صحيح بدليل قوله تعالى: في صفة جهنم (سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا) فلو كان الزفير صوت المعذب لما وصفت به جهنم لأنها يعذب بها،

(104)

ولا تعذب هي بحال والصحيح ما قاله ابن سيده في المحكم والجوهري في الصحاح: الزفير، إخراج الصوت من الصدر يمد فيه. قوله تعالى: (وَهُم فِيهَا لَا يَسْمَعُونَ). قيل: لَا يسمعون خيرا، وقيل: لَا يسمعون شيئا من أصل. ابن عطية قيل: يجمعون في توابيت حتى لَا يسمعون شيئا. ابن عرفة: اختلفوا في أصول الدين في السماع هل هو بقوة يخرج من صوت المتكلم يقرع آذان السامع أو بغير ذلك، وتقدم إبطال الأول بسماعنا الصوت من خلف حائط كثيف دون من يسمعه من هو دون الحائط مما يجيء هذا إلا على قول من زعم أن السماع بالهوى الذي يقرع السمع، فلذلك جعلوا في توابيت. قوله تعالى: {يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ ... (104)} قال ابن عرفة: اليوم يحتمل أن يراد به [الدهر*] والقطعة من الزمان، ويوم القيامة الذي مقداره [خمسين ألف سنة*]، وهو الظاهر، والطي هو جعل السطح المستوي الأجزاء مثنيا بعضه على بعض، والسجل إما اسم رجل وإما الكتاب، وإما المراد به ما يفعله أهل المشرق من أنهم يكتبون ويطوون. السماء: المراد بها الجنس، قال تعالى (وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ). قوله تعالى: (كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ). يحتمل أن يريد به آدم عليه السلام، وحده أو ذريته أو كل شيء كما بدأناه نعيده، فيكون ردا على الحكماء القائلين بعدم الإعادة، وأنها [إيجاد*] بعد عدم لَا جمع بعد تفريق. قوله تعالى: {أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ (105)} في هذه الأمور ثلاثة أمور: [التهييج بالاتصاف بالصلاح*]، وتشريف الصالحين، وتوبيخ من لم يعمل بعملهم. قوله تعالى: {إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ (106)} إن هذا الأمر مبلغا لدرجة القوم العابدين، وإما قال: (عَابِدِينَ)، ولم يقل: صالحين، إشارة إلى وصف الصلاح إنما يحصل لمن اتصف بالعبادة والزيادة على الواجب. قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107)}

(110)

قال أبو حيان: رحمة إما مفعول من أجله، أو حال. ابن عرفة: فعلى الأول تكون الرحمة من فعل الله تعالى، وما أرسلناك إلا لنرحم بك [العالمين*]، وعلى أنه حال الرحمة من صفته، وما أرسلناك إلا لترحم المؤمنين. قوله تعالى: {إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ (110)} إن قلت: عبر في الجهر بالاسم وفي العلم بالفعل .. ؛ لأن الكتم فعل قلبي وخواطر القلب كثيرة التجدد والاختلاف، والجهر أمر ظاهر، والأمور الظاهرة أقرب إلى الثبوت والتفرد، لأن الإنسان ما يظهر إلا ما يثبت عليه. فإن قلت: الجهر مسموع، هلا قيل: يسمع الجهر من القول؟ فالجواب: أنه إشارة إلى علمه به قبل وقوعه، ولو قيل: يسمع [لا يتناول إلا ما وقع*]. * * *

سورة الحج

سُورَةُ الْحَجِّ قال ابن عرفة: حكى الزمخشري، وابن عطية السورة: هل هي مكية أو مدنية؟ سبعة أقوال. قال ابن عطية: وروي عن أنس أن أول السورة نزلت على رسول الله صلى الله عليه وعلى آله سلم فنادى بها النَّاس واستمع النَّاس إليه، فقال: " [أتدرون أي يوم هذا؟» فبهتوا، فقال: «يوم يقول الله يا آدم أخرج بعث النار فيخرج من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين» قال: فاغتم الناس فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أبشروا فمنكم رجل ومن يأجوج ومأجوج ألف رجل*] ". قال ابن عرفة: في فهم هذا الحديث إشكال، فإن أوله مناقض لآخره، والصواب أن تقول: منكم رجل [ومن*] يأجوج ومأجوج تسعمائة وتسعة وتسعون رجلا، فلا بد من تأويله. قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1)} قال ابن عرفة: تقدر لنا أن عرف القرآن فيما اشتمل على أمر اعتقادي (يَا أَيُّهَا النَّاسُ) ومن اشتمل على أمر فرعي أن يفتح (يَآ أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا)، ووقع في البقرة (وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ)، وفي النساء (وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ)، لكن الأمر المعنوي أبلغ؛ لأنهم إذا أمروا واتقوا مع استحضار مقام الرأفة والرحمة فأحرى مع استحضار العظمة والجلال. قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ). فإن بعضهم يقول: هذا من الأمر المطلق المعني مثل [**حرص الثاني في رصد الجند]، [وقوله (زَلْزَلَةَ) *]. قالوا: وهي إما مضافة للفاعل؛ أي أن تزلزل الساعة النَّاس، أو الأرض. (شيء عظيم)، أو للمفعول: أي أن تزلزل الساعة النَّاس في نفسها، واتسع في الظرف، كما قيل: تمر عليه بزمان، والعظم إما في الكمية مثل رجل عظيم، أو في الكيفية مثل الأمر العظيم، فإن أريد بالزلزلة الحركة، وهي معنى من المعاني فالعظم في الكيفية، وإن أريد الذات احتمل الأمرين. قوله تعالى: {يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ ... (2)}

جمع الفاعل هنا ثم قال: (وَتَرَى النَّاسَ) فأفرده. فأجاب الزمخشري: أن المرأي هناك الزلزلة وكل أحد يراها، والمرئي وكل أحد يرى غيره ولا يرى نفسه. قال ابن عرفة: وأجاب بعضهم: بأن الأولى ليس فيها ما يمنع من إسناد الفعل إلى الجميع، والثانية فيها المانع، وهو وصف السكر؛ لأن السكران لَا يرى شيئا. قال ابن عرفة: وفي الآية [الطباق*]، وهو تارة يكون بين الشيء [وضده*] كقوله تعالى: (فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا)، كقول الشاعر: [لَا تَعْجَبي يَا سَلْمُ من رَجُلٍ ... ضَحِكَ المَشِيبُ برأسِهِ فَبَكىَ*] ابن عرفة: وتارة يكون بين [النفي والإثبات*]، كقوله: [يُقَيِّضُ لِي مِنْ حيْثُ لا أَعْلَمُ النوى ... ويَسرى إِليَّ الشَّوق مِنْ حيْثُ أَعْلمُ*] أنشدهما ابن مالك في المصباح، ومنه قوله تعالى: (وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (6) يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا)، ومنه هذه الآية، وذكر ابن الحاجب أن من تحقيق المجاز من جهة نفيه وهذه الآية منه؛ لأن قوله تعالى: (وَمَا هُمْ بِسُكَارَى) دليل على [سكرهم*] مجازا. قال ابن عرفة: وفي الآية سؤال، وهو أنه قال تعالى في الأولى (يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ)، وفي الثانية: (وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ) فهلا قال: يوم تذهل كل ذات رضاع، أو يقال: [وتضع*] كل حامل وكل مرضعة؟ قال: وعادتهم يجيبون بأن ذو تفيد مبادئ الشيء وأوائله، فلو قيل: أو تضع كل حامل [لتناول الحمل اللفظ المحقق*] ووضعه أسرع وأقرب من وضع العلقة والمضغة، فلما قال: (كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ) أفاد وضع العلقة أو المضغة، فهو أصعب من وضع ما فوقها،؛ لأن الذي فوقه من باب أحرى. قوله تعالى: (وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ). احتراس؛ لأن الآيتين متناقضتان فأفاد أن [سكرتهم باعتبار ما نالهم من العذاب فوجوده لوجود العذاب*]، ونفيه باعتبار ذاته.

(3)

قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ ... (3)} قال ابن عرفة: الحجة: هي إقامة الدليل على الدعوى. والمعارضة: هي إتيان الخصم بدليل يدل على خلاف دعوى المدعي، والقدح وهو إبدال دليل المدعي. والمجادلة: [**تعرف بالمعارف المقلة سأل فجوابه]. قال ابن عرفة: [والحجة*] لفظة أعجمية كان بعضهم يقول: أظنها القوة والشدة. قوله تعالى: {إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ ... (5)} قال ابن عرفة: فإن بعضهم يقول: (إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ) أخص من أنتم لوجهين: أحدهما: إن كنتم في ريب يقتضي إحاطة الريب فيهم من جميع جهاتهم لأجل حلولهم فيه يقتضي اللفظة. وفي الثاني: أن لفظة كان يقتضي كونهم فيه، والكون ملازم للإنسان ولا بدل عنه بخلاف الريبة، وعبر بإن؛ لأن المراد في الريب مكانه غير واضح، وأطلق الريب هنا على معناه اللغوي، وهو مطلق الاحتمال، فيتناول الظن والشك والوهم، باعتبار المعنى ومن كان مصمما على عدم البعث فهو قائل لأن يكون شاكا فيه فيدخل في الآية، وجواب الشرط مقدر (إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ) فانظروا وتأملوا فإنا خلقناكم، والمراد أنا خلقنا أصلكم من تراب، أو كما قال الفخر: ابن آدم يتغذى بالنبات، والنبات من التراب. قوله تعالى: (ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ). قال ابن عطية: العلقة هي الدم [العبيط*]. ورده ابن عرفة:؛ لأن الفقهاء فرقوا بينها، وبين الدم. فقال ابن قاسم في الأمة: إنها إذا وضعت من سيدها الدم المجمع، فإنه إذا جعل في الماء الساخن ينقطع، وقوله البسيط يعني الطري. وقوله تعالى: (مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ). أي متممة وغير متممة. قال ابن عطية: وغير مخلقة هي التي تسقط غير متممة البنية.

ابن عرفة: المسقوطة لم يخلق الإنسان منها، فالصواب قول الزمخشري: المخلقة [المسواة الملساء من النقصان والعيب*] والله تعالى يخلق مضغ متقاربة فمنها [ما هو كامل الخلقة أملس من العيوب*]، ومنها عكسه، فبذلك تتفاوت النَّاس بالطول والقصر والتمام والنقصان. وقال ابن عرفة: قال الحكماء إن النطفة تارة تبقى في الرحم ثلاثين يوما فيبين حملها بمثلها، أعني بعد شهرين، وتارة تبقى خمسة، وتارة تبقى أربعين يوما، وتارة تبقى خمسة وأربعين يوما، فإن بقيت ثلاثين يوما بين حملها بمثلها، أعني: بعد شهرين وتوضع لثلاثة أمثال ذلك، أي ستة أشهر، وإن بقيت خمسة وثلاثين يوما تبين حملها لمثلها، أعني: سبعين يوما، وتوضع لثلاثة أمثال ذلك، أي بعد سبعة أشهر، وإن بقيت أربعين يوما تبين حملها لمثلها، أي بعد ثمانين يوما، وتوضع لثلاثة أمثال ذلك؛ أي لثمانية أشهر مع أنه قل ما يعيش الولد إذا وضع لمثل ذلك، وإن بقيت خمسة وأربعين يوما تبين حملها لمثلها أيضا، أي لثلاثة أشهر، وتوضع لثلاثة أمثالها، أي لتسعة أشهر وهو أقصى الحمل. ونقل المتيطي عن بعضهم: أن أقصى الحمل تسعة أشهر بعد أن ذكر الخلاف في أقصى الحمل هو خمس أو سبع سنين، أو ثلاث سنين، أو أربع، فحكى قولا آخر بأن أقصاه تسعة أشهر. قال ابن عرفة: وهذا جهل من حاكيه، ولم يفهم هذا القول، وإنما قصد قائله بأن أقصى الحمل الطبيعي العادي بالنسبة إلى علم التشريح وإلى ما قلناه؛ لأنه [منتهى*] الحمل الشرعي، فإن ذلك خلاف أمر ليس هو هنا. قوله تعالى: (وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً). قال ابن عرفة: الرؤية إما [بصرية، والمرئي هي الأعراض*] لَا الذوات لأنها عند الأصوليين غير مرئية إلا على مذهب من يقول بالهيولى، قال ابن مالك في المصباح: والاسم إذا أضمر إما أن يؤتى به غائبا أو مخاطبا، وإما أن يحذف، ويجرد، [ومذهب المفسرين*] على مذهب، قوله تعالى: (وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ). قال ابن عرفة: وعندي هذه الآية منه، فالمقيد هو السكونين [والإهماد هو التحريك*] مع عدم الانتقال فحركة الإنسان في محله ولا ينتقل عنه. قوله تعالى: (وَرَبَتْ).

(6)

أي ارتفعت (¬1). قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ ... (6)} جعل الزمخشري: الباء للسبب أي ذلك سبب أن الله الحق الفاعل لذلك كله. ابن عرفة: واللفظ عندي أن في الآية حذفا، والتقدير ذلك دليل واضح والباء للإلصاق، أي هذه دليل على أن الله حق، وأنه يحيي الموتى، وهذا عكس ما قال الزمخشري؛ لأنه جعل وجود الله سببا في هذه، ونحن نقول هذه الأمور دلائل على وجوب وجود الله ووحدانيته وقدرته على إحياء الموتى. ابن عرفة: وهذا من قياس التمثيل أو من قياس الغائب على الشاهد؛ لأن قدرته على إيجاد المعلوم دليل على حجة عادية. قوله تعالى: (وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ). حكى الإمام في الشامل الخلاف فيما علم الله عدم وجوده، هل يصح تعلق القدرة القديمة له أو لَا؟ وهذه الآية، مع قوله تعالى: (فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيهِ)، وما في الحديث بين قدراته على ليعذبني دليل على صحة تعلق القدرة به. قال: وفي الآية حجة للمعتزلة القائلين بالإعادة عقلا، ونحن نقول بوجوبها سمعا، وبجوازها عقلا؛ لأنها عطفت في الآية على أن الله هو الحق، وهذا اعتقاده واجب عقلا، وكذا قدرته على كل شيء واجب عقلا، والمعطوف شريك المعطوف عليه في الإعراب والمعنى، فدل على إتيان الساعة واجب، قال: ووجوبه فإن أهل المنطق لما ذكروا القضايا الثلاثة عشر، وأن بعضها أعم من بعض، وأن منها الممكنة والوجودية الداعية، والثابت بالعطف شريك في وصف القضية التي هي أعم من الوجوب، والجواز الثبوت فعطف الساعة عليها لَا يدل على وجوبها بل على ثبوتها فقط أعم من الجواز والوجوب. قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ ... (8)} قال ابن عرفة: إنما كرره مرتين؛ لأن الأول صمم على الجدال، فهو مجادل مستند في جداله [بأي*] شبهة سولها له الشيطان وهو (وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ) لَا يلزم من ذمة ذم ومن دونه، وهو من يجادل من غير دليل ولا شبهة؛ لأن كفر هذا أقرب إلى الزوال من كفر الأول، فالإتيان بهذا بعد الأول تأسيس لَا [تأكيد*]. ¬

_ (¬1) العبارة في المطبوع هكذا [قال الإمام مالك رحمه الله: وتقتل الجماعة بالواحد ويقتل فيه المشركين]، ولا صلة لها بالآية، وفيها خطأ لغوي، ومن ثم تم حذفها، ومن الممكن أن يكون بالنص سقط، والله أعلم. اهـ (مصحح نسخة الشاملة).

(11)

قلت: وقال ابن عرفة: إنما كرر هنا؛ لأن الأول مجمل وهذا مبين نفى ما يستند إليه في جداله، أو الأول مصمم على الكفر وهذا مقلد غيره في الكفر، والأول: يجادل المسلمين جدالا فابتدأ عن نفسه مريدا به الدوام على الكفر، والثاني: يجادل ليضل غيره ويتسبب في كفره. قوله تعالى: (بِغَيْرِ عِلْمٍ). قال الزمخشري: أراد به العلم الضروري. قوله تعالى: (وَلَا هُدًى). فأراد به العلم النظري. وتعقبه ابن عرفة: التكليف من [شرطه*] العقل، وقد قال الإمام في الإرشاد: العقل علوم ضرورية، فإذا انتفى عن هذا المجادل العلم الضروري سقط التكليف؛ لأنه غير عاقل، فكيف يحصر؟ قال: وإنما يقال: إن العلوم على قسمين: علم ابتدائي، وهو ما استفاده الإنسان من ذات نفسه بفكره وعقله من غير تعليم، كعلم ابن سيناء، والفارابي والشيخ أبي الحسن الأشعري، ومالك رحمهم الله تعالى، وعلم ثان، وهو ما جعل للإنسان بالتعليم من غيره، كعلم ابن القاسم، وأشهب رحمهما الله تعالى الفقه، وعلمنا نحن بأصول الدين، فقوله تعالى: (بِغَيْرِ عِلْمٍ) يريد به العلم الابتدائي. قوله تعالى: (وَلَا هُدًى). يريد به العلم المعلم. قوله تعالى: (وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ). قال الزمخشري: هو الوحي. ابن عرفة: ظاهره الوحي المنزل عليه وهو أخص من أن يتوهم فيه هذا، وإنما المراد غير أن يسمع من النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وحيا في هذا. قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ ... (11)} قيل: المراد به من أسلم إسلاما قريبا من الكفر فسلك في الآية مسلك التدلي. الأول: كافر مصمم مجادل جدالا مجملا متبعا فيه كل شيطان مريد. والثاني: كافر مقلد مجادل من غير دليل ولا برهان، والثالث: كافر مسلم إسلاما ضعيفا، وهذا يحتمل أن يكون تقسيما مستوفيا أو غير مستوفٍ، مثال المستوفي

(13)

قوله تعالى: {يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ ... (13)} ذكر فيها أبو حيان وجوها منها: أن (يَدْعُو) حال، مفعوله ضمير من (يَدْعُو) تقديره، أي: مَدْعُوًّا، و (ذلك) مبتدأ، وهو فصل، وضعف بأن (يَدْعُو) لَا [يقدر مدعوا*] (¬1). ابن عرفة: بل يصح كما يقول: رأيت زيدا يضربه عمرو أي مضروبا ومنها: أن يدعوا بمعنى يقول: ولمن خبره مبتدأ خبره مقدرا أي الآمر أو الناهي والجملة في موضع محلية، يدعوا وليس مستأنف لَا تدخل له في الحكاية؛ لأن الكفار لَا يقولون ذلك على أمنياتهم. قال: ورد بالكافر لم يعتقد قط أن الأوثان ضرها أكثر من نفعها، وأجابه ابن عرفة بصحة إرادة المعنى معبرا عنه باسم غير ذلك المعنى، كقوله تعالى: (يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ)، لأنهم [لم*] يقولوا هذا اللفظ، ولذلك تقدم لنا أيضا أنه لَا يلزم من حلا غيره بصفة اتصافه هو بها، كقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ)، لأنهم وصفوه بكونه منزلًا عليه الذكر، وزاد الطيبي: أنه يصح الوقف على (يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ) مبتدأ خبره (لَبِئْسَ الْمَوْلَى). قوله تعالى: {مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ... (15)} نقل ابن عرفة: كلام المفسرين، ثم قال: وكان بعضهم يقول الآية وإن خرجت على [سبب*]، فإنها تتناول عندي من اتصف بمثل ذلك السبب فيدخل تحتها من أصابه آفات في بدنه، أو ماله، أو عرضه لأجلها؛ أي: (مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ) فليتب عن ذلك، ويرضى بحاله وإلا (فَلْيَمْدُدْ بِسَبَب إِلَى السَّمَاءِ)، وكان يسمى هذا عطف المقهور بموقف على أمر فيه هلاكه، وهذا موجود عند سائر النَّاس، يقول بعضهم لبعض: إن لم ترض بهذا فاضرب بدماغك الحائط. قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ ... (18)} قال ابن عرفة: الصواب عندي أن يكون وكثير من النَّاس مبتدأ، ويكون في الآية حذف من الأول ما دل عليه الثاني، ومن الثاني ما دل عليه الأول، أي (وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ) مثاب، (وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ) وعلى هذا يضمحل كلام الزمخشري. قوله تعالى: {فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ ... (19)} وقال ابن عرفة: العناصر الأربعة عندنا التراب، والماء، والهواء، والنار، والثالث والأول لَا خلاف فيهما ولا إشكال أنها جواهر ويقع النظر في النار، هل هي جواهر أو ¬

_ (¬1) النص في البحر المحيط هكذا: "أن يكون يَدْعُوا فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، وذلِكَ مُبْتَدَأٌ وَهُوَ فَصْلٌ أَوْ مُبْتَدَأٌ وَحَذَفَ الضَّمِيرَ مِنْ يَدْعُوا أَيْ يَدْعُوهُ وَقَدَّرَهُ مَدْعُوًّا وَهَذَا ضَعِيفٌ، لِأَنَّ يَدْعُوهُ لَا يُقَدَّرُ مَدْعُوًّا إِنَّمَا يُقَدَّرُ دَاعِيًا، فَلَوْ كَانَ يُدْعَى مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ لَكَانَ تَقْدِيرُهُ مَدْعُوًّا جَارِيًا عَلَى الْقِيَاسِ". اهـ (البحر المحيط. 7/ 491).

(23)

أعراض؛ لأنها [أبدال تقوم بنفسها*] ولا توجد إلا في غيرها، وانظر قوله تعالى: (أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (71) أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ)، والصحيح أنها جواهر لطيفة، بدليل اللهب الذي فيها فإنه يعلو جدا. قوله تعالى: (هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ). قال ابن عطية: اختلف في سبب نزول الآية. فقال قيس بن عباد، وهلال بن يساف: نزلت في حمزة، وعلي، وعبيدة، [ابن الحارث - رضي الله عنهم - برزوا لعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة والوليد بن عتبة*] في غزوة بدر. قال ابن عطية: ووقع أن الآية نزلت فيهم في صحيح البخاري. ابن عرفة: وفي صحيح مسلم وهو آخر حديث رُوي [عَنْ قَيْسِ بْنِ عُبَادٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا ذَرٍّ، يُقْسِمُ قَسَمًا: إِنَّ {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} «إِنَّهَا نَزَلَتْ فِي الَّذِينَ بَرَزُوا يَوْمَ بَدْرٍ، حَمْزَةُ، وَعَلِيٌّ، وَعُبَيْدَةُ بْنُ الْحَارِثِ، وَعُتْبَةُ، وَشَيْبَةُ ابْنَا رَبِيعَةَ، وَالْوَلِيدُ بْنُ عُتْبَةَ*]. ابن عرفة: وإنما قال (يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ) دونهم لنص الحكماء على أن الأصح إذا جعل في النار نفسها، قالوا: لأن النار جسم لطيف، والنحاس جسم كثيف متجمع [وآفته حرارة النار*]. فإن قلت: ما فائدة زيادة (مِنْ) في قوله تعالى: (مِنْ فَوْقِ)، وهلا استغنى عنها؟ فأجاب ابن عرفة: بأنها لابتداء الغاية في أول أمكنة الفوقية، قال: وكذلك أن الحميم إذا صب فوقهم عن بعد، فإنه يدركه الهوي فينقص من حرارته، فإذا صب فوق رءوسهم بالقرب نزل كما هو، وهذا مشاهد عندنا في المس إذا طبخناه أو صب في الإناء يرده بالمغرفة ترفع بها إلى فوق وتصبه فيبرد بالهواء ومهما علونا بالمغرفة إلى فوق، كان أشد في تبريده فأفادت زيادة من أنه يصب فوق رءوسهم من أقرب أمكنة الفوقية إليهم حتى لَا ينتقص من حرارته شيء. قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ ... (23)} أكد جزاء المؤمنين بأن ولم يؤكد جزاء الكافرين في قوله تعالى: (فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ). وقال ابن عرفة: فالجواب: أن حرص الإنسان على دفع ما يؤلمه أشد من حرصه على جلب ما يلائمه، فاكتفى في التنفير عن العذاب لمجرد الوعد مع ما حصله في

(25)

النفوس من كراهة ما يؤلمها، وأكد وعدها بالثواب لحمل مشاق الفساد في الدنيا، قلت: إنما الجواب عندي بوجهين: الأول: إن جزاء الكافرين العذاب عدل من الله تعالى، وجزاء المتقين بالجنة، فضل من الله تعالى إن شاء فعله، وإن شاء لم يفعله، فأكده ليصير واجبا ما جاء به له عن نفسه فقوي رجاء المؤمنين وطمعهم فيه. الثاني: أتى بعده (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ) فجزاؤهم مكرر مؤكد في هذه الآية فاستغنى به عن تأكيده أولا. قوله تعالى: {وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ... (25)} من عطف الخاص على العام؛ لأنه من سبيل الله. قوله تعالى: (وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ). ابن عرفة: هذا من المشاكلة؛ لأنه قابل إرادة [الإلحاد*] بذوق بعض العذاب، والإرادة العزم على الشيء من غير فعله، والذوق إدراك أوائل الشيء ومبادئه فقط، فيجوز عن مبادئ السيئات، وهو العزم عليها بمبادئ العذاب الأليم. قيل لابن عرفة: هذا مخالف لحديث " [مَنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا، لَمْ تُكْتَبْ*]، أو كتبت له حسنة"، فقال: نعم هذا خاص، والحديث عام، وهذا متواتر والحديث [أخبار*] آحاد وفعله معناه إرادة ذلك مع العزم والتصميم عليه حتى كأنه فعله وأما نفس الألم لا مع العزم والتصميم، فلا شيء فيه، فعلى هذا معنى هذه الآية. قوله تعالى: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا ... (26)} قال ابن عرفة: المكان هو المحل المحوط بأمرنا، ومنهم من يزيد فيه بحيث يشار إليه أنه هناك أو هنا، فهو على هذا مخالف للخبر، فالطائر إذا نزل في الأرض هو في مكان، فإذا كان في الهواء فهو في جنب، ولم يكن في مكان، [**ويبنى أيضا على القول بالجلاء، والملأ فعلى القول بالملأ، يكون الطائر في مكان]. قال ابن عطية: والمفعول الأول هو إما محذوف تقديره [النَّاس*] أو العالمين. ابن عرفة: أما النَّاس فنعم وأما العالمين فبعيد؛ لأن الحيوانات غير الإنسان لا ترجع إلى البيت، وليست مكلفة بالعبادة. قوله تعالى: (وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ).

(28)

ولم يعطف السجود بالواو كما عطف ما قبله؛ فالجواب: أن الركوع يستلزم السجود إذ لَا يوجد ركوع إلا ويعقبه سجود بخلاف العكس مكانهما شيء واحد، فلذلك لم يعطفهما؛ لأن العطف يقتضي المغايرة. فإن قلت: [لم جمع*] الطائفين والقائمين جمع سلامة، وجمع الركع السجود جمع تكسير؟ فالجواب: أن القيام أول أجزاء الصلاة، ولا بد فيه النية، وجمع السلامة إنما يصدق على العاقل [فلذا يجمع*] جمع سلامة، والركوع والسجود في أثناء الصلاة لا يحتاج فيه [إلى تجديد نية*] لأجل انسحاب حكم النية الأولى عليه [فأشبه*] جمعه غير العاقل الذي [**لَا نية ولا منكر]، قلت: أو يجاب بأن الطائفين والقائمين في الصلاة أقل من الركع السجود، وأما الطواف فظاهر؛ لأن الحجاج في النَّاس أقل من غيرهم، وأما القيام في الصلاة فلأنه إنما كلف به الصحيح، وأما المريض لم يكلف به بخلاف السجود والركوع، فإن العاجز عن القيام يركع ويسجد. قوله تعالى: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ ... (28)} قال ابن عرفة: على هنا للتعليل، أي لأجل ما رزقهم حسبما قاله ابن مالك. قوله تعالى: (وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ). والمذهب على أنه يطعم منها من انفرد بأحد الوصفين، كما يطعم من اجتمع فيه الوصفان، قال: والجواب بالفرق بين الواحد بالنوع، والواحد الشخص. فإن قلت: هذا الحب للحيوان الطائر والناطق فهو صحيح لإمكان اجتماع الأمرين فيه بكون المائي والحيواني باعتبار نوعه، وأنه منوع للطائر، وإلى ناطق باعتبار شخصه بالتكليف هنا فإطعام الإنسان باعتبار نوعه المقسم إلى إنسان انفرد بأحدهما. قوله تعالى: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ ... (30)} قال ابن عرفة: أشار بذلك احتراس من جهة أن قوله تعالى: (وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ)، تعظيم له [فاحترس*] من ذلك ونبه على أنه ينبغي لهم أن يعتقدوا أن الطواف بها لَا بذاتها بل لكونها من شعائر الله فتعظيمها تعظيم لله. قال الزمخشري: (ذلك) خبر المبتدأ، أي الأمر والشأن ذلك كما [يقدّم الكاتب*] جملة من [كتابه*] في بعض المعاني، ثم إذا أراد الخوض في معنى آخر قال: هذا، وقد كان كذا.

(31)

قال ابن عرفة: [ ... ] بعد وما ذكره الفارسي في أول إيضاحه من قوله إما على أثر ذلك. فإن قلت: من الشرطية لَا تقتضي الحصول، فهل عبر عن الموصولة؟ بمعنى الذي لأنها تقتضي حصول التعظيم، فالجواب: أن الشرط يدخل على المقدر والمحصول، والمقدرات الوجود أكثر من الموجودات فهو إشارة إلى أنه مهما قدر الإنسان وجود شيء من حرمات الله تعالى وعظمها، ففي الممكن أن يقع في الوجود ما هو أعظم منها فينبغي له أن يطلب أعظم الأشياء، وأرقاها وأفضلها ويحرص على الاتصاف بأكمل الأوصاف في ذلك. قوله تعالى: (خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ). خير فعل لَا أفعل من إلا أن يقال: إن المباح خير فيكون أفعل من فقوله (وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ)، يؤخذ منه أن الأشياء على الحصر، ويؤخذ منه أن مهما شككنا في شاة، هل هي محللة أو محرمة فإنا [نبني*] على أنها محللة [خلافًا*] لمذهب الإمام مالك رحمه الله، وقد قالوا في كتاب الربا في قوله - صلى الله عليه وسلم -: الذهب بالذهب ربا إلا [هاء وهاء*] أنه إذا وقعت صورة شككنا في تحليلها أو تحريمها، فإنا نحكم بتحريمها، لأنه يستثني القليل من الكثير، فلا بد أن تكون صورة المستثنى المحللة أقل من المحرمة، فيكون المشكوك فيه داخلا في قوله تعالى: (أُحِلَّتْ لَكُمُ الأَنْعَامُ)؛ لأنه غير داخل في المتلو علينا، وهو ما تضمنه قوله تعالى: (حُرِّمَتْ عَلَيكُمُ الْمَيتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ). وأجاب ابن عرفة: بأن المراد بالمتلو المحرم باعتبار أفراده، وأنواعه بالذاتيات، لا المحرم باعتبار أوصافه لَا باعتبار ذاته، قلنا: أو يدخل في عموم قوله تعالى: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ)؛ لأنه يدعي أنه ميتة. قوله تعالى: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ ... (31)} قال ابن عرفة؛ والصواب في تقرير كونه من [تشبيه المركب بالمركب أن*]، يقال: شبه الشرك بالله والمشرك [بمن*] خر من السماء [فَاخْتَطَفَتْهُ*] الطَّيْرُ، [فالمشرك*] كالخار من السماء، والمشرك شبه بالطير التي تخطف الخار من السماء، فجعل [مَزْعًا فِي حَوَاصِلِهَا*] ونحوها كالطير المتخطفة للخار من السماء ناقلة عضوا عضوا، فهو تشبيه المجموع بالمجموع، أو هذا بهذا، وهذا بهذا، فهو تشبيه المجموع، كقوله:

(32)

كأنَّ مُثارَ النَّقع فوق رُؤوسنا ... وأسيافَنا ليلٌ تَهاوَى كواكبُهْ ومثله قوله تعالى: (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ)، وفي تشبيه المفرد بالمفرد، ومنه قوله: كَأنَّ قُلُوبَ الطَّيْرِ رَطْباً وَيَابِساً ... لدَىَ وَكْرِهَا العُنَّابُ والحشَفُ البَالي قوله تعالى: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ ... (32)} الخطاب إما لجميع النَّاس أو المسلمين، قال القاضي في [المشارق*] [جَاءَت بِمَعْنى عمل وهيأ وصير وَبِمَعْنى صَار وَبِمَعْنى خلق وَبِمَعْنى حكم وَبِمَعْنى بَين وَبِمَعْنى شرع وابتدأ وَأكْثر تصرفها بِمَعْنى صَار*]، وذكر بعضهم في كتاب الجمل والآحاد من تنبهاته، وهو بمعنى [صير*]. قوله تعالى: {لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ ... (36)} الزمخشري: عن إبراهيم النخعي: من احتاج إلى ظهرها ركب، ومن احتاج إلى لبنها شرب. قال ابن عرفة: أي بعد بلوغها، وبعد فصيلها. قوله تعالى: (فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ). قال الزمخشري: وقرأ بعضهم صوافي نحو مثل العرب اعط القوس [باريها*] بسكون الياء. ابن عرفة: أصله صوافي فانتقلت الفتحة إلى الياء، فقال: صوافي ثم حذفت الياء وعوض عنها التنوين لشبهه بغواشي وجواري في الرفع، فحمل المنصوب على المرفوع تأخيره، فقال: اعط [القوس باريها*] وهو شاذ من الضرائر الجائزة للشاعر. قوله تعالى: (فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا). وخرجت روحها؛ لأنه يكره القطع منها قبل خروج روحها. قوله تعالى: (وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ). هما صفة فعل؛ أي السائل والمتعفف. وقيل: القانع: الفقير، فيكون بصفة ذات؛ أي المتصف بالشدة والفقر. قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا ... (38)}

(39)

ولم يقل: عن المؤمنين؛ لأنه إذا دفع على من اتصف بمطلق الإيمان، فأحرى أن يدافع عمن ثبت له الإيمان الكامل، وهذا من تقدير العلة على المحكوم على سبيل الحصر، والتأكيد على انتقال الحكم. قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ). جعله الزمخشري: راجعا للكفار. ابن عطية: [روي أن هذه الآية نزلت بسبب المؤمنين*] لقولهم: إن السبب في نزولها كون بعض المؤمنين عزم على خيانة الكفار وقتلهم، فالكفر على هذا إما كفر النعمة، وإمَّا أن يراد لَا يحب كل خوان، ولا كل كافر، فيكون [ ... ] أو يكون تلطفا في العبارة، فيكون النهي عن الخيانة تسلط على المؤمنين بالإيمان لَا بالنص، لأجل اقترانها بوصف الكفر. قال ابن عرفة: ونفى المحبة وثبوتها، إما على طرفي النقيض أو بينهما واسطة، وهو عدمها مقاومهم لمن قال: لَا يحب بمعنى لَا حبذا زيد، فيقتضي الذم فيكون لا يحب في معرض الذم لمن اتصف بهذا. فإن قلت: هل يؤخذ من الآية رد على من يقول إنَّ كلا إنْ كان منصوبا لَا يقتضي العموم، وإن كان مرفوعا اقتضاه حسبما قالوا [ومنه*] قوله: قَدْ أصبحَتْ أمُّ الخِيارِ تَدَّعي ... عليَّ ذَنْباً كلُّه لم أَصْنعِ قلنا: العموم مستفاد من القرينة. فإن قلت: هلا قيل: لَا يجب كل خائن كافر فهو أبلغ؟ قلنا: الجواب بما أجابوا به (وَمَا رَبُّكَ بِظَلامٍ لِلْعَبِيدِ). قوله تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39)} قال ابن عرفة: إما على قراءة فتح التاء فظاهر تقدم الإذن، وإمَّا على قراءة كسرها فيكون الإذن الآن، وفقا لهم مثل قوله تعالى: (هُدًى لِلْمُتَّقِينَ)، أي [الصائرين*] للتقوى، ولذلك يقاتلون، أي الذين يقاتلون في المستقبل. قوله تعالى: {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ ... (40)} أي لولا دفاع الله ضرر الكفار وبقتال المسلمين لهم، إذ ولولا دفاع الله الظلم بشهادة العدول، إذ ولولا دفاع الله [ظلم الظلمة بعدل الولاة*]، وفيه دليل على أن

البعض يصدق على النصف؛ لأن البعض الآخر إما مساو له أو أقل منه وعلى كل تقدير فينتج صحة صدقه على النصف، وقدمت الصوامع لأنها كانت قبل الإسلام [مختصة برهبان النصارى وبعباد الصابئين*]، [ثم استعمل في مئذنة المسلمين فحصل لها مشاركة المسلمين فيها بالصومعة على عبادة المسلمين والنصارى*]، [والبيع كنائس النصارى، واحدتها بيعة، وقيل هي كنائس اليهود، فجعلت [لذلك*] محل عبادة اليهود، وملتهم أقدم الملل. قوله تعالى: (يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا). يحتمل أن يراد الاسم أو المسمى، كقوله تعالى: (اقْرَأ بِاسْمِ رَبِّكَ)، يحتمل الاسم والذات. قوله تعالى: (صَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ). إما على حذف مضاف أي لهدمت صوامع وصلوات ومساجد والهدم مجاز، أي لفعلت صلوات فيتعارض فيه المجاز والإضمار وفيهما قولان. قوله تعالى: (وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ). ومعناه ولينصرن دين من ينصره. قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ). احتراس: أي لَا يتوهموا أن الله يحتاج إلى جهادكم الكفار، بل هو قادر على رفع أذاهم عنكم، ولمن جرت عادته بترتيب الأسباب على مسبباتها، قلت: قال ابن عرفة: ما بعده، قال سيبويه: وقوله تعالى: (الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ)، المعنى على الانقطاع البين، وكأنه قال: هؤلاء [ظلموا؛ لأن الظلم قد صرح به حين قال*] (إنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِم لَقَدِيرٌ)، فهم أخرجوا من ديارهم بغير حق، أي سبب غير الحق؛ لكن قالوا (ربُّنَا اللَّهُ) ولا يقدر [الاتصال*]؛ لأنه يصير المعنى أخرجوا بغير حق إلا هؤلاء، فإنه حق آخر جوابه: [**قولهم ربنا الله] يخرجون به هكذا [تكون*] صورة الاتصال، فيكون المعنى جليا، وكان الشلوبين يجعله متصلا، ويقول: إنهم أخرجوا بغير حق، فوجب إخراجهم عند الكفرة، فالاتصال على هذا بين كان هذا مما يظهر في الموضع، وراجعت فيه أبا الحسن ابن عصفور: فرده عليَّ بأمرين: الأول: أنه يكون المعنى أخرجوا ولا حق [يوجب*] إخراجهم إلا قولهم (رَبُّنَا اللَّهُ)، ولم يخرجوا بهذا القدر خاصة، بل كان هذا جزاء من آخر أخرجوا بها ألا ترى أنهم أخرجوا بقولهم: (رَبُّنَا) ولصلواتهم، وبأمور الشريعة كلها ولأنهم حلفوا عليهم

(46)

أن يفتنوهم على دينهم، فقولك: لم يكن ثم حق فوجب الإخراج إلا هذا باطل، قلت له لم يكن ثم حق يوجب الإخراج إلا هذا؛ لأنه الأصل الذي أثبتنا عليه ما عداه، فقولهم (رَبُّنَا اللَّهُ)، مرادف لقوله: لم يخرجوا بحق إلا بالإيمان، وقيل: إن هذا حق يبطل من وجه آخر وهو أن المعنى عنده اخرجوا، [ولا معنى للإخراج عندهم إلا هذا*] ومن أين يفهم عندهم، قلت: المعنى يفهمه. قوله تعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا ... (46)} قال ابن عرفة: لما تضمن الأمر السابق إهلاك الأمم السالفة في قوله تعالى: (فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ)، وبقي أثرهم ضاربا عقبه بذم هؤلاء في عدم اتعاظهم بهم، ونظرهم النظر الهادي إلى الصواب، وكان بعضهم يقول: السير في الأرض إما حسي باعتبار سماع أخبارهم فمن أدركهم قطع مغادرها للتفكير والنظر في آثار الكفار المهلكين بسبب تكذيبهم، أو معنوي باعتبار سماع أخبار أحبارهم ممن أدركهم أو قرأ لهم في الكتب. قوله تعالى: (فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا). [راجع*] للسير الحسي (أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا)، [راجع*] للسير المعنوي، وهو سماع ذلك ممن أدركهم، هذا إن ثبتنا على تفسير السير بالحسي والمعنوي، وإن لم [نبني*] على هذا فنقول: إنما عطفت هذه بـ لو دون الواو؛ لأن الواو تقتضي الجمع فيكونوا ذموا على ذم المجموع، والذم على عدم الاتصاف بكل واحد من ذلك يستلزم الذم على عدم الاتصاف بالمجموع من باب أحرى، فإذا ذموا على عدم العقل بانفراده، وعلى عدم الجمع بانفراده فأحرى أن يذموا على [عدمهما*] معا، قال ابن عطية: وفيه دليل على أن العقل في القلب. فرده بعض الطلبة: بأن النظر مشروط بوجود العقل، فما يوجب عليه النظر حتى يكون عاقلا، فكيف نظره شرطا في عقله، فقال ابن عرفة: العقل التكليفي، هو الذي يتوقف على وجوده وجوب النظر، والعقل النافع، هو الذي يتوقف وجوده على تقدم النظر عليه، قيل لابن عرفة: ما اختلف الأطباء والفقهاء، إلا في محل العقل التكليفي، فقول ابن عطية: إنه في القلب لم يرويه إلا العقل التكليفي، قال محلها واحد. قوله تعالى: (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ).

(49)

إن قلت: لم عطفت هذه بالواو وعطفت، [فَكَأَيِّنْ*] قبلها بالفاء؟ فالجواب: [بوجوه*] أحدها للزمخشري قال: لأن الأولى: تقدمها جملة معطوفة بالفاء، وهي قوله تعالى: [(فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ) *]، وهذه تقدمتها جملة معطوف بالواو، وهي المشاكلة في كل واحدة منهما، الثاني: قال ابن عرفة: كان بعضهم يقول: إنما عطفت الأولى بالفاء المقتضية للترتيب؛ لأن الجمل السابقة عليها لَا يمكن وقوعها بعدها بوجه إذ هي إخبار عن الأمم السالفة، وعطف هذه بالواو؛ لأن الجمل التي قبلها يمكن تقديمها عليها وتأخيرها؛ لأن استعجالهم العذاب يمكن الإخبار عنه قبل الإخبار عن الإملاء، يكون في القرى وبعده فيناسب الإتيان بالواو المقتضية للجمع، ولا تقتضي ترتيب الثالث، قال الفخر: عطفت الأولى بالفاء المقتضية للسبب؛ لأن إهلاك أهل القرى [كائن*] في إهلاك القرى. قوله تعالى: (ثُمَّ أَخَذْتُهَا). [المهلة لما بين أول أزمنة الإملاء وزمن الهلاك*]. قوله تعالى: {إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (49)} الحصر سبب السياق، وسياق [الإنذار*] للكفار، فإن قلت: لم قال: (لَهُمْ مَغْفِرَةٌ)، وقال في الآخرين: (أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ)، قلنا: لما ذكر الزمخشري: من أن الآية إنما [سيقت*] بالذات في معرض التخويف للكافرين، فذلك شدد في خطابهم. قوله تعالى: {وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ ... (51)} قال الزمخشري: أي سابقين إلى المراد فيها وإبطالها من قولك: سابقت فلانا فسبقته، وفي الحديث: "لو يعلمون ما في التهجير لاستبقوا عليه". قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى ... (52)} إن قلت: ما أفاد قوله تعالى: (مِن قَبْلِكَ)؟ فالجواب: إنه أفاد مع قولك من رسول التأكيد في عموم القبلية في الأمم المتقدمة، والرسالة تارة يراد بها مطلق البعث، وهو المعنى الأعم فيها، وتارة يراد بها البعث والتبليغ لغيره، والمراد بها في الآية المعنى الأعم، لقوله تعالى: (مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ)، ولو أريد المعنى الأخص، للزم استواء الرسول والنبي في المعنى، مع أنهما مختلفان، وإنما عطف النبي على

(54)

الرسول مع أنه لَا يستلزم من استلزم الأخص أمر باستلزام الأعم له، والرسول أخص من النبي فالعطف تأسيس. قوله تعالى: (فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ). النسخ رفع ما قد ثبت، وهذا لم يثبته قرآن بوجه، وهذا الذي تكلم به الشيطان وأوهم الكافرين أنه على لسان النبي صلى الله عليه وسلم، فالمراد ننسخ سببه، وما نشاء منه، وما حصل في اعتقاد [من بعض المؤمنين*]، ومن كانت في نفسه ريبة وشك، فيزيل ذلك بنزول الآيات البينات الدالات على بطلانه، وأورد الفخر: أنه إذا ثبت أن الله تعالى قدر الشيطان على فعل مثل هذا، فيلزم الارتياب في جميع آيات القرآن، وعدم الوثوق بها، إذ لعل بعضها من قول الشيطان، وأجاب: بأنه إذا قدره على ذلك يلهم الرسول إلى استدراك الأمر، وإبطال ما هو من كلام الشيطان، كما ألهمه لها. قال ابن عرفة: هذا فتح باب سوء، وإنما الجواب: أن القرآن مقطوع بصحته ووروده من عند الله عز وجل، إما لأنه معجز ودليل الإعجاز يقطع هذا كله، وإما التواتر والإجماع على أن هذا الذي نحن نقرأوه هو قرآن صحيح، وارد من عند الله عز وجل، لقوله تعالى: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ)، قال الفخر: وآية القرآن على ثلاثة أقسام، فقوله تعالى: (اللَّهُ نَزلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابها)، وقوله تعالى: (كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ)، تقتضي أنه كله محكم، وقوله تعالى: (مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ)، يقتضي أن بعضه محكم وبعضه متشابه، فأجاب ابن عرفة: بأن المتشابه في قوله تعالى: (كِتَابًا مُتَشَابِهًا)، بمعنى التماثل، لَا بمعنى الاختلاف، والإحكام في قوله تعالى: (كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ)، يقتضي الإتقان. قوله تعالى: {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ ... (54)} مع أن العلم بوحدانية الله تعالى مرادف للإيمان، فالجواب: إما أن يراد بالعلم العلم التصويري، وبالثاني الذي هو الإيمان العلم التصديقي، وإمَّا بأن يجعل الضمير المحذوف في قوله تعالى: (فَيُؤْمِنُوا بِهِ)، عائد على النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وإما على قول ما قال الزمخشري: من أن المراد يعلموا أن تمكين الشيطان من الإلقاء هو الحق من ربك والحكمة، أن المراد قوله تعالى: (وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)

(55)

قال ابن عرفة: المستقيم هو أقرب خط بين نقطتين، وهداية المؤمنين ظاهره، إن قلنا: إن الإيمان يزيد وينقص، وإلا فيكون مجازا بمعنى تثبتهم على الإيمان ودوامهم عليه. قوله تعالى: {وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ ... (55)} قال ابن عرفة: المراد هنا بالمرية: الوهم الذي هو أعم من الشك، لقوله تعالى: (إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا)، فإن هناك سياق الوهم. قوله تعالى: {فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (56)} ابن عرفة: إن قلت: قال في الأولى (فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ)، وقال في الثانية [(فَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ) *]، فأجاب: بوجوه: الأول: أنه قصد المبالغة في جهة الكفار، فلذلك مد جزاؤهم باسم الإشارة مع الفاء واللام في لهم، إما بمعنى على أو ذلك تهكم بهم الجواب الثاني أن في الآيات حذف التقابل، فذكر في الأول الظرف الذي هو محل للجزاء دون ما يقع فيه الجزاء، وذكر في الثاني الجزاء دون محله والتقدير فالذين آمنوا وعملوا الصَّالِحَاتِ فأولئك لهم نعيم كريم في جنات النعيم، (وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذبُوا بِآيَاتِنَا فَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ)، في جهنم. وقوله تعالى: (وَكَذبُوا بِآيَاتِنَا)، أما مساو للكفر أو يعادله، فالمراد بالأول كفرهم بالله تعالى وبالتكذيب كفرهم بالرسالة. قوله تعالى: {رِزْقًا حَسَنًا ... (58)} احتج بها الفخر للمعتزلة: على أن الرزق إنما يطلق على [الحلال*] ورده ابن عرفة بقوله: (حَسَنًا) فدل على أن هناك رزقا غير حسن، قال الفخر، قوله تعالى: (خَيْرُ الرَّازِقِينَ)، دل على [أن*] غير الله يرزق ويملك، ولولا كونه قادرا فاعلا لما صح ذلك، وأجاب: بأنه لَا نمنع في كون الغير قادرا، فإن القدرة مع الداعي فريدة في الفعل بمعنى الاستلزام. قوله تعالى: {لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ (59)}

(60)

أي (لعليم) بمن جاهد وهاجر، (حليم) [يستر*] سيئاته فيعفوا عنها، ولا يعاقبه بها. قوله تعالى: {ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ... (60)} قال ابن عرفة: اللفظ أن ذلك فعل مثل أما بعد ونحوها لمباينة هذه الجملة لما قبلها، وجعلها الفخر متصلة وقرر وجها لمناسبة بينهما، وقال ابن عطية: سبب نزولها أن بعض المسلمين أمن بعض المشركين في شهر محرم، وفيه القتال وأرادوا قتالهم فناشدوهم أن لَا يقاتلوهم، ولم يفعلوا فقاتلوهم فنصرهم الله عليهم. قال ابن عرفة: لفظ الآية مخالف للسبب؛ لأن ظاهرها أن المسلمين هم البادون بالقتال، إلا أن يريد بذلك بدايتهم من المنازلة والمعاقدة فيكون مجازا فسمي المنازلة عقوبة ثم يعبر عليه بالقتال بالفعل. قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ). قال الزمخشري: أي عفو عن الجاني على طريق التستر به، إشارة إلى أن عقوبة المؤمن للكافر على ما جنى عليه جائزة، لكن العفو راجح، لقوله تعالى: (فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ)، وقوله تعالى: (وَأنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى)، فقال ابن عرفة: إنما هو بعد القدرة عليه، وأما قبل القدرة عليه فلا يجوز له العفو عنه بوجه، فقصر الآية على عفو المسلم على الكافر، وكان بعضهم يجعلها عامة، وتقدير وجه المناسبة بأن الإنسان لَا يعاقب بالمثل، إلا إذا تحقق وجه مماثلة العقوبة [للجناية*]، أما إذا شك في المماثلة، فإنه ينبغي له أن يعفو ويترك حقه إذ لعله يعاقب أكثر من الخيانة، وقرر الطيبي: وجه المناسبة كان ذلك في شهر حرام، فكان الأولى عدم وقوف المسلمين لهم في القتال، وأن يصفحوا عنهم ويتفرقوا. قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ ... (62)} قال ابن عرفة: هذه لذلك سبب فصل بل يعتقدوا بأن نصرة الله لكم لاتصافه بالوحدانية والقدرة والإرادة، بدليل إيلاجه الليل في النهار والنهار في الليل. قوله تعالى: (وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ). ابن عرفة: تكلم الزمخشري هنا كلاما موافقا لمذهب أهل السنة، فقال: سميع بما يقولون بصير بما يفعلون، مع أن المعتزلة يردون ذلك كله إلى صفة العلم، وكان

(66)

بعضهم يقول: لم يرد في القرآن أن القدرة مقرونة بالعلم، وكذلك هنا بدليل تعقب الإيلاج الراجع للقدرة بالسمع والبصر. قوله تعالى: (وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ). ابن عرفة: (الْعَلِيُّ) باعتبار ذاته، (الْكَبِيرُ) باعتبار صفاته. قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ... (66)} ابن عرفة: هذا دليل على أن الموت دليل وجودي، وهو مذهب أهل السنة بخلاف الفلاسفة؛ لأن القدرة لَا تتعلق بالعدم، قال: والإحياء الثاني يتناول الإحياء في القبر للسؤال، والإحياء للحشر، قال ابن عطية: [الإحياء والإماتة في هذه الآية ثلاث مراتب وسقط منها الموت الأول الذي نص عليه في غيرها إلا أنه بالمعنى في هذه*]، الأول: ورده ابن عرفة: بأنه عدم صرف، فلا يقال: فيه موت إلا مجازا، قال: وعطف هذا يحتمل الترقي لأنك إذا رجحت بين إنعامك على شخص أولا ثم ناله الجوع، ثم أنعمت عليه ثانيا تجد إنعامك عليه أولا أدخل في باب الامتثال وأرجح يحتمل التدلي لقوله تعالى: (الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ)، فالإحياء بعد [الإمامة*] نظير الإطعام من الجوع، وقال: وعادتهم يقولون: إن النحويين عطفوا الفعل المضارع على الماضي، وجعلوه مرجوعا فلا بد أن [تكون هذه الجملة*] تقديرها، ثم هو يحيكم ثم هو يجمعكم يعلم من هذا. قوله تعالى: (إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ). ابن عرفة: قالوا هذا تلطف من ناحية أنه لم يقل: إنكم لكفار مع تقدم الخطاب لهم في الآية وتسديد من ناحية تعريفه الإنسان بعلم الجنس فيعم المخاطبين وغيرهم، قال: وهذا إن أريد به قيد الإيمان فهو خاص بمن اتصف بذلك، قيل لابن عرفة: بل المراد به المجموع ويكون علميا لَا كليا، قال ابن هارون: والجملة كقولك كل الأمة معصوم، مع أن المعصوم بعضهم، فأبطله ابن عرفة بأنهم نبهوا على أن الحكم على المجموع لَا بد فيه من اعتبار نسبته لكل فرد من أفراده كقولك: [**كل شيء عليم، برفع الهمزة العظيمة فمجموعهم يرفعها]، وكل واحد منهم له في ذلك نصيب، وإذا اعتبرناه هنا لزم الكفر. قال ابن عرفة: وفي الآية من علم البيان، وهو خلط المختلف فيه بالمتفق عليه على وجه التسوية بينهما؛ لأن الإحياء الثاني في الدار الآخرة مختلف فيه بيننا وبين الفلاسفة، وغيرهم. قوله تعالى: {لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ ... (67)}

(70)

قال ابن عرفة: يؤخذ منها أنه ما خلا زمن من الأزمان من سمع، وقال الزمخشري: سبب نزولها أن [بديل*] بن ورقاء، وبشر بن سفيان الخزاعيين، قالوا للمسلمين: ما لكم تأكلون ما قتلتم ولا تأكلون ما قتله الله. ابن عرفة: هذا خطابة شريفة حسبما مثلها البيانيون، يقول القائل في مدح الخمر: إنه ياقوت يسال ... ، وقال: هذا السبب لَا يناسب الآية، إنه يلزم عليه أن تكون الآية نزلت مقدرة لذلك، فيكون مقتضاها أن ذلك كان في [شرعنا جائزا*]، وفيه زيادة أن ما قتلوه لَا يؤكل مع أنهم كانوا يأكلونه. قوله تعالى: (فَلَا يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ). [كقولهم لا أرينك هاهنا*]. قوله تعالى: (لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ). الهداية قسمان: إما الإرشاد فيمن بعُد أو من قرب، فأفاد الوصف المستقيم أنه إرشاد بوجود قريب؛ لأن المستقيم هو أقرب من [**تمام ما أمرنا بقوله لهم وابتداء إخبار من الله تعالى]. قوله تعالى: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ ... (70)} قال ابن عرفة: هذا الاستفهام على معنى التقرير، معناه: قد علمت ذلك، فإن أريد علما [ماضيا*] فيكون الخطاب للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فخصوصيته [أو له*] ولمن يلحق به من العلماء، وإن أريد به مطلق العلم فالخطاب لكل واحد، وإن قلنا: إن السماء كورية يمكن عطف الأرض عليها من باب عطف الخاص على العام، ويقول في الآية حجة لأهل السنة القائلين بأن علم الله بالجزئيات كعلمه بالكليات خلافا للحكماء. قوله تعالى: (إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ). ويحتمل عود اسم الإشارة على قوله تعالى: (اللَّهُ أَعْلَمُ بما تعملون)، أي علمكم عنده محفوظ في كتاب، ويحتمل عوده على علمه مما في الأرض وما في السماء. قوله تعالى: (إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ). أي علم ذلك عليه يسير، أو حكمه بينكم عليه يسير، فإن قلت: هذا ماض أزلي هلا قيل: [(أَلَمْ تَعْلَم أَن اللَّهَ عَلِمَ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ) *]، فالجواب: أنه عبر

(71)

بالمستقبل كقوله (يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ)، وهذا إن كنت عالما بذلك، قال تعالى (قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ). قال الزمخشري: هنا، [لأن العالم الذات لا يتعذر عليه ولا يمتنع تعلق بمعلوم*]. قال ابن عرفة: هذا اعتزال؛ لأن مذهبه أن الله تعالى عالم بذاته، لَا يعلم بصير بذاته، لَا يبصر لأنهم ينفون الصفات. قوله تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا ... (71)} قال ابن عرفة: هذا كالتسلية له صلى الله عليه وعلى آله وسلم، أي [لدوامهم على معاندتهم لك*] في الأحكام الشرعية، وذلك قولهم: لم تأكلون ما قتلتم، ولا تأكلون ما قتله أحد منهم، [فخالفوا*] فيما هو أشد من ذلك من الأمور الاعتقادية [فعبدوا*] غير الله، قال ورد عليهم قولهم بأمرين: ذلك بأنهم لَا دليل عليه من جهة السمع، ولا من جهة العقل، فنفى الأول الدليل السمعي، ثم العقلي، فهو تأسيس؛ لأن نفي الدليل السمعي لَا يستلزم نفي الدليل العقلي، قال: وفيه ذم التقليد، وهو على قسمين: تارة يكون المقلد ذاكرا له وعاجزا عن التعبير عنه، وتارة يكون مستشعرا، فالأول هو الذي يقدر ويصح تقليده، وهو الذي يقولون فيه: إيمان المقلد جائز وهو في الرتبة الثانية. قوله تعالى: {تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ ... (72)} عبر باسم المفعول عن المصدر وهو قليل. قوله تعالى: (قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ). الإشارة إتيان للألم الحادث في قولهم عند سماعهم الآية، وإما للسطوة الصادرة [منهم للمؤمنين*]. قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ ... (73)} قال الفخر: [ضُرِبَ يُفِيدُ فِيمَا مَضَى واللَّه تَعَالَى هُوَ الْمُتَكَلِّمُ بِهَذَا الْكَلَامِ ابْتِدَاءً*]، وأجاب: بأنه إذا كان ما يورد من الوصف معلوما من قبل جاز فيه ويكون ذكره بمنزلة إعادة أمر قد تقدم. قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ). قال الفخر هذا الاستدلال إما أن يكون لنفي كون الأوثان خالقه لما له حياة، أو لنفي كونها مستحقة للتعظيم، والأول: فاسد؛ لأنه معلوم بالضرورة، فأي فائدة في

(74)

إقامة الدليل على ذلك، وأما الثاني: فلأنه لَا يلزم من نفي كونها حية أن [لا*] تكون معظمه، [فَإِنَّ جِهَاتِ التَّعْظِيمِ مُخْتَلِفَةٌ*]. قال ابن عرفة: لأي شيء لم يقل لم يخلقوا ذرة، فهو أحقر من الذباب وأصغر، والذرة هو [الشيء*] الذي يراه الناظر من شقاق الباب من عين الشمس، وأجيب: بأن المراد بخلق الذرة إيجادها عن عدم، وهذا لم يدعه أحد بوجه، وأما خلق الذباب فهو راجع إلى جميع أجزائه عن تفريق ونفخ الروح فيه وخلق الأعراض له، وهذا قد ادعاه المعتزلة فقالوا: إنهم يخلقون أفعالهم، وقد كان عيسى عليه السلام، يحيي الموتى، فإِيجاد الذباب أخف من إيجاد الذرة، والعجز عنه يستلزم العجز عن إيجاد الذرة من باب أحرى، ولاسيما إذا قلنا: إن القادر على إيجاد الجزء المكمل يصدق عليه أنه قادر على الجميع، فالقادر على إيجاد الحياة يصدق عليه أنه خالق للذرات، لأن فعله حصل كمال الذات. قوله تعالى: {مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ ... (74)} قال الزمخشري: ما عرفوه حق معرفته. ابن عرفة: هذا يلزم عليه أن تكون [معرفة*] ذاته والإحاطة به ممكنة، وليس الأمر كذلك مع أن المسألة فيها خلاف. قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ ... (77)} هذا من عطف العام على الخاص؛ لأن العبادة أعم، قال: ويحتمل أن يراد [الخضوع*]، أي اخضعوا في ركوعكم وسجودكم، وهي عبارة قاصرة. قوله تعالى: (وَافْعَلُوا الْخَيْرَ). عبارة متعدية للغير مع إعطاء الزكاة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. * * *

سورة المؤمنين

سُورَةُ الْمُؤْمِنِينَ وقوله تعالى: (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) قال الزمخشري: هو حرف توقع. قال ابن عرفة: هذه عبارة المتقدمين والمتأخرون، يقولون إنها حرف تحقيق مع الماضي ولا ينافي ذلك أنها مع المضارع للتوقع، قال: وتارة يكون التوقع صادقا، وتارة يكون كاذبا، وذلك أن القائل: يقوم زيد هو على أربعة أقسام: تارة باقي حرف التوقع، والقيام متوقع عند الناس عنه، لكن لم يقع في الخارج، وتارة يكون القيام متوقعا عند النَّاس، ويقع مدلوله في الخارج ولا يأتي المتكلم بحرف التوقع فهذه ثلاثة أقسام: المتوقع فيها صادق، وبقي قسم رابع: وهو إتيانه بحرف التوقع حاله كون القيام غير متوقع عند النَّاس، ولكنه يقع في المستقبل على حسب ما أخبر به، فهل هذا توقع صادق؟ أو مطروق فيه نظر، واللغو هو الكلام الذي لَا فائدة فيه. قوله تعالى: {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2)} قال الإمام الغزالي: الخشوع في الصلاة واجب وإلا جرى تحصيل ما يراه الدين خاصة، وأما القبول والثواب فأمر آخر. ابن عرفة: وهذا على خلاف الأصوليين في هل هي موافقة؟ ويراه الذمة والجروح من العهدة. قوله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5)} وقيل: أي مانعون، وقيل: أي: [عافون*]. ابن عرفة: وتقدم لما خصه أنه يلزم عليه أن يكون المعنى مخصوص كقولك: قصرت المال على الصدقة أي خصصته، فالمراد: (وَالَّذِينَ هُم لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِم أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُم) فإنهم لَا يخصونهم بذلك فيلزم نقيض المطلوب. قوله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (9)} قال ابن عرفة: ترتيب هذه المعطوفات بدني، والخشوع في الصلاة أمر قلبي، والقلب أشرف ما في الإنسان، واللغو من أفعال اللسان، وهو ترجمان عن القلب،

(14)

فهو ثان عنه الصلاة واللغو عامان بجميع النَّاس، والزكاة خاصة، فكانت ثالثة عنهما، ولما كانت هذه الثلاثة أمور خاصة، والنكاح أمر تكميلي ليس بحاجي لاسيما إذا قلنا: إنه من باب الفكاهات لَا من باب الأقوات، فكان حفظ الفروج أمر خارجا عنهما والأمانة خاصة بمن يصلح بها لَا بكل النَّاس، والمحافظة هو الإيمان بها في أوقاتها ولما كان وجوبها متقدما على تعيين أوقاتها، ذكرت أولا ثم ذكرت المحافظة عليها في أوقاتها بعد ذلك، ولما كانت أوقاتها محددة شيئا بعد شيء أتى بالمحافظة عليها بالفعل، بخلاف الإعراض عن اللغو وفعل الزكاة وحفظ الفروج ورعي العهود والأمانة، فإن المراد منهم الثبوت على ذلك، والميراث إما أخذ الشيء بموجب، وهو الميراث الشرعي، وبغير موجب، وهو إرث الفردوس؛ لأنه ليس في مقابلة العمل بل [محض فضلٍ*] من الله عز وجل، هل يرجع هذا إلى الحصر أو مبني على تقيد إذا تعقب عملا؟ هل يعم الجميع أو يرجع إلى الآخر؟ فهل مجموعهم يرثون الفردوس، أو كل واحد منهم؟ قوله تعالى: {ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً ... (14)} عطف الأول بـ ثم، والثاني بالفاء قيل لبعد ما بين النطفة والعلقة، وقرب ما بين النطفة والمضغة، ورد بأن الشارع ساوى بينهما في قوله، ثم تكون نطفة أربعين ثم علقة أربعين، وأجيب: بمكان إفساد النطفة بخلاف العلقة. قوله تعالى: {ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ (15)} عبر عن الأول مؤكدا بأن واللام، وأما في الثاني بأن فقط والمتبادر للذهن العكس، بأن الموت لم ينكره أحد، والبعث ينكره الكفار، والحكماء والفلاسفة، وأجيب: أنه من باب حمل اللفظ على غير ظاهره مثل: جَاء شَقيقٌ [عَارضاً*] رُمْحَهُ ... إِنَّ [بَنِي عَمكَ فِيهمْ رِماحْ*] فهم بعصيانهم ومخالفتهم لم يعملوا على الموت، فحالهم كحال [ ... ]، وما كانت دليل البعث ظاهره صادقا للثابت. قال ابن عرفة: [هذا*] لَا يتم إلا على مذهب المعتزلة في قاعدة التحسين والتقبيح [ووجوب*] الإعادة، قلت: إما أن يجيب [بأن أدلة البعث*] العقلية ظاهره، ونحن نقول [أدلة*] البعث السمعية [عندنا*] ظاهره، فإن قلت: لم عبر عن الموت بالاسم، وعن البعث بالفعل؟ قلنا: لما تقدم من الجواب في التأكيد. قوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ ... (17)}

(18)

دليل على أن السماء [بسيطة، إذ لو كانت كورية لما كانت فوقنا [ ... ] وأجيب: بأن الجزء السامت فكل شخص هو فوقه، والجزء السامت [ ... ] هو تحته وفوق الشخص آخر، والسماء [ ... ]، وفوقنا وهي تحت، وقوله تعالى: (خَلَقْنَا فَوْقَكُم)، دليل على أن الجسم والعرض لَا يبقى زمانين، وهو قول ثالث، قيل: إنما هما مبقيان، وقيل: يبقى الحسم دون العرض، ولا شك أن خلق السماء متقدم علينا، ولا كونها فوقنا إلا بعد وجودنا، فقوله تعالى: (خَلَقنَا فَوقَكُمْ)، دليل على أنها في كل زمن [موجودة مخلوقة*]. قوله تعالى. (طَرَائِقَ). طرق بينها للملائكة. قال ابن عرفة: هذا دليل على أنها ليست ملتصقة إلا أن يقال: الطرق فوق أعلاها بينها وإنها متلاصقة، وفيها خلاف، قيل: إنها سبع، وقيل: تسع على الجملة، وعلى التفصيل أربع وعشرون، حكوا ذلك في كتب الهيئة وأشار إليه البيضاوي. قوله تعالى: {وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ (18)} قال ابن عرفة: فيه دليل على تعلق القدرة بالعدم الإضافي، وكذلك ما في الحديث فإن قدر الله علي ليعذبني". قوله تعالى: {فَأَنْشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ ... (19)} قال ابن عرفة: الإنشاء هو ابتداء الشيء على أكمل وجه، والضمير في به عائد على الماء، هل الماء هو الأصل في النبات والتراب وهما معا، قال: والظاهر أن الماء مكمل للإنبات إذ التراب وحده لَا ينبت فهو الجزء المكمل فلذلك نسب إليه الإنشاء. قوله تعالى: (لَكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ). قال ابن عرفة: كان بعضهم يقول الكثرة إما راجعة لآحاد الفاكهة أو لأصنافها؛ لأن العنب أصناف، والتمر أصناف، وكل صنف من ماله آحاد منعقدة، وكل نوع لا يشبه الآخر، قال: واشتملت هذه الآية على العلل الأربعة، وهي المادة، والفعل، والغاية، والصورة بالماء، هو العلة المادية التي استمد منها النبات، والأقل هو العلة الغائية، والمنفكة هو الصورة باعتبار صور الفاكهة وأنواعها، والفاعل راجع لقوله تعالى: (فَأَنْشَأْنَا) لأن الفاعل [**معالي وكثر بالنقلة عن الأول]؛ لأن غالب التمر والزيت

(20)

إنما هو الفعلة لَا القوت، لقوله تعالى: (وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ ... (20) .. ، أن ينقل من طور سيناء إشارة إلى أن الزيتون من الشام ثم نقل منه إلى سائر البلاد. قوله تعالى: (وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ). الصبغ قال الزمخشري: هو غمس الأيدي في زيتها للأكل به. قوله تعالى: {نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا ... (21)} أعاد الضمير على بعض الجمع، وهو المؤنث منها. قوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً ... (24)} قال ابن عرفة: هذا تناقض منهم؛ لأنه أول رسول بعث، فلم يتقدم قبله رسول، فلم يعلموا الملائكة إلا من قوله وهم قد كذبوه، قيل له: قد قيل: إن آدم أرسل إلى بنيه فلعلهم علموا بالسماع منه، وخلق الله لهم علما ضروريا أو خاطبوه على تقدير صحة قوله. قوله تعالى: (مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ). مفهومة أنهم لو سمعوا ذلك لقتلوه فيؤخد منه أن خبر التواتر تقييد العلم، وقوله تعالى قبل هذا (فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ). قال ابن عرفة: هذه مثالية لَا معدولة؛ لأن موضعها غير موجود بوجه؛ لأن وجود غير الله محال بل الموضع موجود تقديره: (مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ)، فالموضع هو أنتم فهي معدولة وليس موضعها الله غيره. قوله تعالى: {فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ (25)} قال ابن عرفة: هو انتظار لأمر مؤلم. قوله تعالى: {فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (28)} قال ابن عرفة: الألف واللام للجنس، قيل لابن عرفة: حكى الشيخ النواوي رحمه الله تعالى في الأذكار أن الحافظ أبا عمرو بن الصلاح، سئل عمن حلف أنه يحمد بجميع محامده، فأجاب: بأنه ليس بقوله الحمد لله، وإنما يريد بقوله: "الحمد لله حمدا طيبا مباركا فيه، ويقول: الحمد لله حمدا طيبا مباركا فيه، ويقول: الحمد لله حمداً [يوافي نعمه ويكافئ مزيده*] ونقله حديثا عن النبي صلى الله عليه وسلم.

(27)

قوله تعالى: {وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (27)} إن قلت: قد خاطبه بقوله: (إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي)، قلنا: سأله عن سبب نزوله، ولم يطلب منه رفع العذاب، وإنما سأله ليعرف موجب قدرته؛ لأنه كان وعده تنجية أهله وهو يعتقد أنه منهم وعطف: قال الأولى بالفاء، لأنها في قضية نوح عليه السلام، وهو أول من بعث فناسب مبادرة قومه بالتكذيب لعقب الرسالة؛ لأنه لم يتقدم له نظر في ذلك، فجاءهم بأمر غير معهود لهم، وأما الثاني فهي قضية هود وصالح، وقد تقدم قبله إرسال نوح عليه السلام بزمان متطاول وغيره، فعطفه بالواو التي تقتضي الترتيب والتعقيب ولا تنفيهما، فيحتمل أنهم قالوا ذلك عقب إرساله أو بعده بزمان طويل، إن قلت: لم قال أولا (فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ)، وقال تعالى ثانيا [(وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا) *]، قلنا: الجواب كالجواب المتقدم، فإن القضية الأولى من قوم لم يعهدوا الرسالة فالكفر فيهم متصل ثابت فبدأ به تنبيها على أنه حاصل لهم على هذه المقالة، وأما الثانية فابتدأ فيها بالقوم إشارة إلى أن كفرهم غير عام فيهم، وأن القائل بعض القوم لَا كلهم، ويحتمل أن يجاب بأنه قدم القول وهنا العطف على وصفهم بالكفر غيره من الصفات. قوله تعالى: {وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبَارَكًا ... (29)} عطف على جواب الشرط فظاهره أنه يقول: تعقب الاستواء على الفلك مع أنه إنما يقول ذلك حين تركه في الفلك في الأرض، إما أن يكون اكتفى بدلالة القرائن على ذلك أو يكون أمر أن يدعوا بذلك حين الاستواء لينزل إلى الأرض مطمئنا، أو المراد أنزل على الذي أنا فيه فيكون دعاء بأن ينزل السفينة في محل يصلح لها خشية أن ينزل في محل يفسدها فيصادف حينئذ بكسرها. قوله تعالى: (وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ). الكلام فيه كالكلام في (تَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ). قوله تعالى: (فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ). ولم يقل فقولوا الحمد لله، وإنما أفرده بالخطاب؛ لأنه هو المقصد [من*] الأمر بالذات، و (منزل) إما اسم مصدر أو اسم مكان. قال ابن عرفة: والصواب أنه اسم مكان؛ لأن المصدر معنى من المعاني، والمعاني تجمل ولا تثبت بخلاف المكان. قوله تعالى: {فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولًا ... (32)}

(35)

قال الزمخشري: حق أرسل أن يتعدى بـ إلى [ولم يجعل صلة مثله*]، ولكن [الأمّة أو القرية جعلت موضعا للإرسال*]، قال الطيبي: كقوله تعالى: (وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي)، والأصل أن يقال: وأصلح لي ذريتي. ابن عرفة: فتارة يجعل متعلق الفعل محلا له، وتارة يجعله [ظرفا*]. قوله تعالى: {أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ ... (35)} قال ابن عطية: الاستفهام يعني التوقيف على جهة الاستبعاد والاستهزاء. قال ابن عرفة: الاستبعاد في الممكن الرجوع، والاستهزاء في المستحيل الوقوع، فإن استبعدوا وقوعه على سبيل التقرير والإنكار، وإن نفوا الإعادة وجعلوا وقوعها محالا، فهو استهزاء إما بالرسول الذي وعد بذلك، أو بالمخاطبين الموعودين به، قال: والتوقيف إما بنفي المقتضى له أن يوجد المانع له منه فهم أنكروا عليهم واحتجوا بنفي المقتضي، بقوله تعالى: (وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ)، من وجهين: الأول: المثلية تمنع من اتباعكم له، [ولَا يتبع الإنسان إلا من هو أعلى منه*]. الثاني: أن المثلية تقتضي التساوي فاتباعهم له ترجيح، إذ ليس اتباعهم له بأولى من اتباعه لهم، وأما وجود المانع فباعتبار أنه آتاهم بالمحال مانع من قبول قوله: هذا عندهم دليل على بطلان قوله: فكيف يتبعونه على بطلان ما جاء به. قوله تعالى: {هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ (36)} قال ابن عرفة: كيف الجمع بين هذه وهي من أوعد وبين قوله تعالى: في أول الآية (أَيَعِدُكُمْ)، وهو من وعد، فأجاب: بأن الأول راجع إليهم في الحال والوجود، فلذلك قرنه بالوعد، والثاني: راجع لحالتهم بعد الموت والعدم، فناسب اقترانه بالوعيد. قوله تعالى: {إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا ... (37)} الضمير عائد على مطلق الحياة، وفسرها بحياة مخصوصة. قوله تعالى: {ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُونًا آخَرِينَ (42)} الإنشاء أخص من الابتداء، والقرن إما القطعة من الزمان أو الجماعة المجتمعون في وقت ما، فإن أريد الأول: كان على حذف مضاف، أي أهل قرون، والوصف بآخرين تأكيدا، وكان بعض الطلبة يجعله تأسيسا ويرده بأنك إذا قلت: رأيت رجلا

(43)

عالما، وآخر أنك تريد رجلا آخر مشاركا له في العلم، بخلاف قولك رأيت رجلا عالما وزيدا، فأفاد الوصف بآخر لمشاركتهم لهم في الظلم، قال: وكان بعض الطلبة يرد بهذه الآية على ابن الخطيب في احتجاجه في (المعالم) على أن الواو لَا تفيد الترتيب بقول القائل: جاء زيد وعمرو بهذه، وجاء زيد وعمرو قبله، أو لو أفاد الترتيب بقول القائل: لكان الأول تكرارا، والثاني: [تناقضا*] فقد أتت هنا لفظة تجد مع أن ثم للترتيب والمهلة، فلم يبق إلا توكيدا، قال: وتقدم الجواب بأن مهلة في ثم على قسمين حسية ومعنوية، فأفاد بعد احتمال إرادة المهلة المعنوية، أو يجاب بقول من دعم أن ثم كالواو فأفادت من بعد رفع إرادة ذلك الاحتمال، أو يجاب بأن من لَا ولا رسم أزمنة البعدية، فأفادت طول المهلة لَا قصرها، قال: ومن أريد بها أول أزمنة البعدية فتكون المهلة طويلة، لأنها عبارة عما بين أول من هلك منهم، وأكثرهم هلاكا، وإن كان أريد بها آخر أزمنة البعدية فالمهلة قصيرة بينها وبين آخر القرون. قوله تعالى: {مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ (43)} إن قلت: هلا قيل وما يستأخرون. قال ابن عرفة: تقدم لنا الجواب من وجهين: الأول: مراعاة رءوس الآي، الثاني: لو قيل وما يستأخرون، لأفاد أن مجموع الأمة لَا يستأخرون عن آجالهم، وما يلزم منه أن لَا يتأخر بعضهم، فعدل عنه إلى هذا التقييد، أن كل واحد منهم لَا يتأخر عن أجله فيكون كليا [ ... ] مع أن التقدم على الأجل مكروه للنفوس، والتأخر عنه محبوب لها من كل أحد؛ لأن كل أحد يكره الموت، فلذلك جمعهم؛ لأن كل أحد يحب أن يتأخر عن أجله، فقيل لابن عرفة: قد قالت المعتزلة: إن المقتول له أجلان. [ ... ] قوله تعالى: {ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (45)} قال ابن عرفة: يؤخذ من الآية صحة صدور المعجزة على غير يدي من تجرأ بها، [والآية*] إنما تجرأ بها موسى، وقد صدرت على يدي موسى ويدي هارون، فإما أن يكون هارون شريكا له، فيؤخذ منه جواز صدور المعجزة على يدي شخصين مشتركين فيها، أو نقول أنها صدرت على يدي موسى دلالة على صدقه في جميع ما جاء به موسى، [وأن*] أخاه هارون نبي، فتكون نبوة هارون ثبتت بقول موسى إنه نبي، مع ثبوث صدقه في مقالته، ونبوة موسى ثبتت بالمعجزة ورسالته ثبتت بالمعجزة، قال ابن عطية: والآية هي اليد والعصا، وسائر [آياتهما*]، كالبحر، والمرسلات الست.

(50)

قال ابن عرفة: إنما هي خمس، وهي (فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ)، والسادس الرجز، لقوله تعالى: (فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ). قوله تعالى: {وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ... (50)} قال الزمخشري: هي بيت أرض المقدس، وهي كبد الأرض، وأقرب الأرض إلى السماء ثمانية عشر ميلا، فينقص بعدها من السماء عن بعد غيرها منها ثمانية عشر ميلا. قوله تعالى قبل هذا (ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ). قال ابن عرفة: هذا على ما فسروه من عطف الصفات لَا من عطف الموضوعات، وكأنه يقول: وأرسلنا موسى بمعجزات وبسلطان مبين للاحتجاج بها والتحدي بها. قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا ... (51)} قال المفسرون: الخطاب هذا إما لعيسى وحده، أو لمحمد صلى الله عليهما وعلى آله وسلم وحده، ويكون من خطاب الواحد خطاب الجماعة اعتبارا باختلاف الآية كقوله: فقلت اجعلي ضوء الفراقد كلِّها ... يمينا ومهوى النّسر من عن شمالك وكما قال الفخر: (إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا)، أو يكون من قبيل الجمع عن تفريق، كقوله تعالى: (وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ)، أي قال: كل فريق منهم ذلك. قال ابن عرفة: وهذا كله على القول بمنع خطاب المعدوم، وأما الزمخشري فهو مذهبه، وأجابنا ابن عطية بكلامه بناء على أن هذا القول، وأما على القول بجوازه فيهم أن يراد بيانها جميعها، قيل له: القول بجواز خطاب المعدوم، إنما هو على تقرير وجوده مستوف فيه شرائط تكليفه، والرسل هنا حين نزول الآية قد مضوا وانقرضوا، وليسوا مقدرين الموجود إذ زمن تطبيقهم قد مضى وعودهم [محال*]، وقال: كلام الله قديم أزلي سابق على وجود جميعهم، وهذا أيضا حكاية عما كلف به كل واحد منهم، أن للأكل الطيب تأثيرا في العمل الصالح. قوله تعالى: (إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ). وعد ووعيد ولفظ الرسل غير مقصود هنا، بل المراد المرسلون والأنبياء أتباعهم.

(57)

قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (57)} إن قلت: الخشية الخوف، والإشفاق الخوف، فكيف هم خائفون من الخوف؟ قلنا: الإشفاق وقوع متعلق الخوف فهم خائفون من وقوع العذاب بهم خائفون، وذكر ابن عطية: إن من [لبيان الجنس*]، والصواب أنها للسبب، ويؤخذ منه جواز أن يقال: سبحان من تواضع كل شيء لعظمته، وتقدم نحوه في سورة الأنبياء في قوله تعالى: (وَهُمْ مِن خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ)، فإن التواضع للعظمة من حيث كونها صفة لله بالتواضع، إنما هو للذات فكذلك الخوف، وما وجه من منع أن يقال: سبحان من تواضع كل شيء لعظمته إلا أنه فهم اللام التعدية لَا للسبب، وإن جعلناها للسبب زال الإشكال، ويكون التواضع للذات لأجل العظمة، قال: سلك في الآية مسلك الترقي بالانتقال من حالة الوقف والتردد، وهي حالة العمل بالفروع، وبقى قوله تعالى: (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ ... (60) .. ، فالأول هو زمن النظر لهم فهم مشفقون خائفون من عدم العثور على الوجه الذي منه يدل الدليل على وجود الصانع، وكذلك اختلف الأصوليون في أول الواجبات، فقيل: النظر، وقيل: القصد إلى النظر، وقال أبو هاشم [الشَّكُّ*]. قال ابن عرفة: وأكد الثلاثة الأول: بضمير الجمع، لأنها لبيان الأصول المستلزم للسلامة من صغير الكفر المقطوع لتعذيب صاحبها، والرابع: إيمانه بالفروع المستلزم للسلامة من صفة العصيان التي تحتاجها في المشيئة غير مقطوع بتعذيبه، فلذلك لم يقل (وَالَّذِينَ يُؤتُونَ مَا آتَوْا)، أو (وَلَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا)، احتراس لقوله تعالى: (وَهُمْ لَهَا سَابقُونَ)، خشية أن يتوهم مسابقتهم إلى فعل ما لَا يطاق، ويؤخذ منه جواز تكليف ما لَا يطاق، وعدم وقوعه، قال الفخر: والتكليف إنما يقع بدون الوسع لَا بالوسع بقوله تعالى: (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ). قال ابن عرفة: [التكليف بالمتعذر ساقط، والتكليف بالمشقة*] واقع بوقوف الواحد للعشرة، وقد ورد التكليف به، وكوقوف المائة للألف يعني للجهاد. قوله تعالى: {بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا ... (63)}

(64)

قال ابن عرفة: يحتمل أن يكون إضراب إبطال؛ لأن قبلها (وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ)، فهو إبطال لمفهوم هذا، لأن مفهومه [ ... ] إتباع المخاطبين وموافقتهم على ما جاء به وإلزامهم حكمه، إذا نظروا النظر الصحيح السديد، وتأملوا فيه فأبطل هذا الملازم لكونهم عقلوا، ولم ينظروا فخالفوا حكمه وكذبوه، ويحتمل أن يكون إضراب المال من حكم إلى حكم، لقوله تعالى: (أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُم لَهَا عَامِلُونَ)، أي أعمال قبيحة، فإن قلت: ما أفاد قوله تعالى: (لَهَا عَامِلُونَ)، قلنا: أفاد نفي احتمال كونهم مأمورون بها أو تسببوا في فعل غيرهم لها فنسب إليهم، فما أن فاعل السبب فاعل المسبب، فنفى هذا الاحتمال بأنهم عاملون لها حقيقة. قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ ... (64)} قال ابن عطية: حتى حرف ابتداء لَا غير [وإِذا والثانية التي هي جواب تمنعان من أن تكون حَتَّى غاية لـ (عامِلُونَ) *]. قال ابن عرفة: انظر كيف يمنعان ذلك، قيل له:؛ لأن عملهم سابق على أخذهم بالعذاب، وليس مقارنا له بوجه حتى يقتضي دخول ما بعدها فيما قبلها (لَهَا عَامِلُونَ)، حين وقت أخذ مترفيهم بالعذاب. قوله تعالى: {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ ... (68)} [يفهم*] على عدم تدبير مطلق القول، فيستلزم ذمهم على عدم [تدبر*] قول الرسول، من باب [أحرى*] [**الصدقة وعلى منزلته]. قوله تعالى: {أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ ... (69)} أضافه إليهم. قال الزمخشري: لمعرفتهم به وكونه نشأ فيهم، وربا بينهم، ورده ابن عرفة: بأنه يلزم عليه أن لَا يكون رسولهم إلا من عرفوه، قال: وإنما أضافه لما عليه لهم؛ لأنه من جنس البشر، وليس بطائر، ولا ملك. قوله تعالى: {أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ ... (72)} قال ابن عرفة: وجه مناسبتها لما قبلها أنهم ذموا على إنكارهم رسالته، مع قيام الدليل المقتضي لصحتها سمعا، وعقلا، وقع نفي المانع منها، أما الاضطرار، [فبقوله*] تعالى: (أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ)، وأما الاختياري فبقوله تعالى: (أَمْ تَسْأَلُهُمْ)، هو جامع أن الكهان والسحرة كانوا يأخذون منهم

(76)

الرشوة على الإخبار بالمغيبات التي تقرها الجن في أذنهم وقر الدجاجة، فيكذبون عليها مائة كذبة، كما في الحديث. قوله تعالى: (فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ). أخذ منه الطلبة جواز أخذ الأجرة على إقراء الحديث، وترويته وتعليم العلم، لأن ظاهر الآية مرجوحية ذلك لَا تحريمه فدل على أنه جائز، وأن كان مرجوحا، وقرأ حمزة والكسائي: (أَمْ تَسْأَلُهُمْ [خَرَاجًا*] فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ)، وقرأ ابن عباس؛ (خَرْجًا [فَخَرْجُ*] رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ)، وقرأ الباقون (خَرْجًا فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ)، قال الشاطبي في سورة الكهف: [وَحَرِّكْ بِهاَ وَالمُؤْمِنينَ وَمُدَّهُ ... خَرَاجاً شَفَا وَاعْكِسْ فَخَرْجُ لَهُ مُلَا*] فاختصر اختصارا حسنا، وقال في الشعراء: [**وفي خراج مع الريح خلفهم، وكلهم فخراج بالثبوت قرا] (¬1)، وليس المراد أن الجميع اتفقوا على قراءتها بالألف، وإنَّمَا مراده أن الجميع اتفقوا على أن من قرأها بالألف يكتبها ألفا ثابتة لَا ألفا محذوفة، وهي في الخط ثابتة كسائر الألقاب المحذوفة في الخط. قوله تعالى: {فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ (76)} الاستكانة: الخضوع والتذلل، وأورد الزمخشري سؤالا قال: لأي شيء أتى الأول ماضيا، وبالثانية مضارعا، وهلا كانا ماضيين، أو مضارعين، فيقال: فما استكانوا وما تضرعوا، وفما يستكانون وما يتضرعون، وأجاب: بأنه نفى في الأول الاستكانة باعتبار الحصول، وفي الثانية نفى الخضوع باعتبار القابلية له في المستقبل، فإن قلت: هلا قيل: فما تضرعوا لربهم وما يستكينون، فلم خصصت الاستكانة بالماضي؟ فالجواب: أن الاستكانة أخص من سبب التضرع؛ لأن الخشوع يحصل بمجرد العذاب، والتضرع إنما هو يرد به العذاب الشديد، فالتضرع أخص، فإن قلت: نفي الأخص يستلزم نفي الأعم، قلت: نفي الأخص هنا يستلزم ذلك باعتبار سببه، فإن انتفى سبب الذي [ ... ] سمعي، فإن قلت: ما معنى الغاية في قوله تعالى: (حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ ... (77) .. ، فيلزم عليه إذا فتح عليهم العذاب الشديد تضرعوا، قلنا: نعم وكذلك هو لكن لَا يفيدهم التضرع. ¬

_ (¬1) هذا البيت ليس في الشاطبية، ولا أدري من أين أتى به محقق الكتاب؟؟!!!

(78)

وقال ابن عرفة: إنما [ألفينا*] مفهوم قوله تعالى: (فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ)؛ [أن*] نفي الاستكانة والتضرع يقتضي اتصافهم بالتكبر والتعنت، وعدم [ ... ].، فإذا أنزل بهم العذاب الشديد لنفي عنهم ذلك التكبر والتجبر، واتصفوا بالذلة حيث لَا ينفعهم ذلك. قال الزمخشري: وأخذهم بالسنين حتى أكلوا العلهز. ابن عرفة: هو الدم المخلط بالشعر، وقيل: إنه كبير. قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ ... (78)} ابن عرفة: الإنشاء أخص من الإيجاد أن يكون تقدير بإيجاد بعض الأجزاء [وكلها*] هو، فإن قلت: لم أفرد السمع؟ قلت: أجاب الزمخشري: بأنه إما مصدر أو اسم [مختص*]. ابن عرفة: وعادتهم يجيبون: بأنه أفرده؛ لأنه مفرد، ومتعلقاته متعددة، والبصر متعدد بتعدد متعلقاته، فكل جهة لها إبصار خاص بها بخلاف السمع، فإنه سمع واحد يسمع به من كل جهة، وليس المراد الخارجة وهي الأذن، فالمراد بالسمع السماع لا الحاسة، بدليل قوله في المدونة فيمن ضرب رجلا بآلة حادة فأذهب سمعه، أن عليه الدية، مع أن أذنه لم تزل أذنه باقية؟ والعطف هنا ترق؛ لأن عدم الرؤية أشد من الصمم، قيل له: قد كان يعقوب وشعيب عليهما السلام: لَا يبصران، ولم يكن أحد من الأنبياء عليهم السلام أصم بوجه، فقال: العمى طارئ عليهما وليس ابتدائيا بوجه، والمراد بالأفئدة هنا العقل؛ لأن الآية خرجت مخرج الامتنان بهذه النعم، ولا يكون الامتنان إلا بالعقل، لَا بمجرد الفؤاد. قوله تعالى: (قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ). قال ابن عرفة: كانت الطلبة يقولون: يحتمل أن يزيد القدر المتحرى من الشكر هو قليل، ويحتمل أن يرد الشكر الأعم، فعلى الأول: من صدق النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ولم يفعل الطاعات هو شاكر قليلا، وعلى الثاني: من وحد الله ولم يصدق بالنبي صلى الله عليه وسلم، هو شاكر مطلق شكر. قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ ... (79)}

(80)

قال ابن عرفة: يحتمل أن يريد (ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ) [ ... ]. ابن عرفة: بل المراد أفردكم فيها لئلا يلزم عليه التكرار، أي أقركم فيها بلا تناسل. قوله تعالى: (وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ)، تقديم المجرور إما للحصر أو لرءوس الآي أو للنشر. فقوله تعالى: (وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ .. (80) .. ، في إسناد الإحياء والإماتة إلى الله تعالى، رد على الحكماء القائلين بالطبع والطبيعة، وفيه دليل على أن الموت أمر وجودي، لخروجها مخرج الامتنان، والامتنان إنما يقع بالموجود لَا [بالمعدوم*]، أو؛ لأن الموت تفريق الأعضاء، والتفريق أمر وجودي. قوله تعالى: (وَلَهُ اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ). وانتقل من ذات الامتنان إلى الاستدلال بأمر خارجي عنه، وهو العالم العلوي. قوله تعالى: {بَلْ قَالُوا ... (81)} .. إضراب إبطال؛ لأن نتيجة ما تقدم الاعتبار والإنابة والخضوع، فأضرب عن ذلك، والإضراب عنه يستلزم فعل نقيضه، بل بمعني مسكون عنه محتملا لفعل النقيض ولعدم فعله، فقال: لم تفعلوه بل فعلوا نقيضه، والمثلية تقدم في الأصول هل هي بديهية أو نظيرية؟ والخلاف هل هي عملية، أو إضافية. قوله تعالى: {قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا ... (84)} قال ابن عرفة: حذف المقول له، إما لكونه معلوما من السياق، أو لدلالة حال سيقولون عليه، قال: والآية دالة على وجود الله ووحدانيته، قال: ويستفاد منها أمران: أحدهما: تقرير النعمة لنصب هذه المذكورات دليلا على وجود مالكهما ووحدانيته. الثاني: نفي القدر عمن خالف وجحد، قال: وخصص الأول بالتذكير؛ لأن الإنسان في أول أحواله يتذكر الدليل ليعلم ماذا تقرر عنده، فإذا تقرر عنده العلم حصلت له التقوى، فالقدرة ناشئة عن التذكر فهي في ثاني رتبة، وبدأ أولا بالأمر الحسي القريب، الوجود منهم ثم بالحسي العلوي الأعظم خلقه، فالمعنوي في قوله تعالى: (قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ ... (88) .. ، فقرن الأول بالعلم، وحذفها من الثانية

(91)

لبعدها عن الأول، ويؤخذ من الآية أن العلوم تذكيرية، وهو مذهب الفلاسفة، ومذهب الجمهور أنها إنشائية لَا تذكيرية. قوله تعالى: (قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ). قال ابن عرفة: الآية حجة المقول بإمكان معرفة حقيقة ذات الله عز وجل، والقول بالعلم بها، وهما مبطلان، ذكر الخلاف فيهما ابن التلمساني شارح المعالم فأما إمكان معرفة ذات الله تعالى، فقال الفلاسفة والحكماء: أنه محال، ومذهب الجمهور جوازه، وأما وقوع ذلك في مذهب الفخر وجماعة: أنه واقع، ومذهب القاضي أبي بكر، والأشعري، وجماعة: الوقف، والوقف ما وقف حياة، أو وقف استرشاد، والسؤال بمن إنما يكون على الحقيقة، والأفلاك من حيث الجملة، اختلف فيها فقيل: سبعة، وقيل: ثمانية، وقيل: تسعة، وقيل: عشرة، ومن حيث التفصيل اتفقوا أنها أربعة وعشرون فلك. قوله تعالى: (قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ). قال الشهرستاني، والغزالي: الفلك عبارة عما وجد في الخارج، مما هو مشاهد الموجود، والملكوت: عبارة عما وجدوه، مما لم تشاهده، ولم يوجد. وقال ابن عرفة: الملك أعم فيطلق على ما قدر وجوده سواء وجد أو لم يوجد، والملكوت: عبارة عما وجد في الخارج، فظاهر الآية أن المستحيل لَا يصدق عليه شىء. قوله تعالى: (وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ). أي هو يمنع غيره ولا يمانع فيما يفعل، يقال: أجرت فلانا من فلان أي منعته منه، وهذه الجملة إما في موضع الحال، أو معطوفة، أي ومن يجير، ولأن بعضهم يرجح العطف؛ لأنه يقتضي تعديد هذه الأدلة، وتقدر الدليل أولى من إيراده. قوله تعالى: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ ... (91)} يعني اتخاذ الولد أعم من نفي الولد، فيدل باللزوم عن نفي الولد. لأن نفي الأعم يستلزم نفي الأخص، وما ينفي الحال، والمراد به ما وقع ودام، والقرينة هنا تدل على عموم النفي في كل الأزمنة. قوله تعالى: (وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ).

(92)

وقال ابن عرفة: عدل عن الاستدلال عن عدم اتخاذ الولد، إذ دليله ظاهر [على وحدانية الله تعالى*]، وفي تقرير الاستدلال بهذه الآية إشكال لاقئضائها من لوازم الإله الخلق، وهو باطل؛ لأنه يلزم عليه قدم العالم. قال ابن عرفة: الجواب عن الإشكال، أن المراد وقوع الخلق بالفعل، وتقريره في الآية أنه لو فرض تعدد الآلهة مع [ضميمة*] وقوع الخلق منهم في الوجود الخارجي للزم عليه استقلال كل واحد منهم بمخلوقه، وعلى بعضهم على بعض، واللازم باطل باللزوم مثله بيان الملازمة، أن الفرض وجود المخلوقات، فهذه المخلوفات إما أن لا تضاف خلقها لواحد منهم، وهو باطل؛ لأنه خلاف الفرض، أو يكون معدودة للجميع وهو باطل لاستلزامه اجتماع أثرين على مؤثر واحد، أو تكون مقدورة لأحدهما دون الآخر، وهو ترجيح من غير مرجح، فلم يبق إلا أن يضاف بعضها إلى هذا، فيكون مقدراً له، وبعضها إلى الآخر والبعض الذي اختص به أحدهما، إما أن يكون الآخر قادر على إيجاده، وهو تحصيل الحاصل، أو على إعدامه فيلزمه التناقض والعجز، فصح أن كل واحد منهم إله للآخر فيما اختص به عنه، وهو معنى علو بعضهم على بعض. قوله تعالى: (سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ). راجع إلى اتخاذ الولد والأنداد. قوله تعالى: {فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (92)} راجع إلى نسبتهم لشريك الله. قوله تعالى: {قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ (93)} يحتمل أن يكون من وعد في الخير، أو من أوعد في الشر، وهي هنا من أوعد. قوله تعالى: {فَلَا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (94)} دعواه بذلك مع عصمته منه لَا يقال: إنه تحصيل الحاصل، بل هو إما من تعليمه لأمته، أو كما قال الزمخشري: إنه إظهار للتذلل والخضوع، قال: واقتران الفعل [بـ في*] دون (من)، إما مبالغة [في*] النفي؛ لأن قولك: زيد من الظالمين، فإنه يقتضي صحبته لهم أعم من أن [يكون*] شريكا لهم في الظلم، بخلاف قولك: زيد من الظالمين، فإنه يقتضي مشاركته لهم في وصفهم، ونفي الأعم يستلزم نفي الأخص. قوله تعالى: {وَإِنَّا عَلَى أَنْ نُرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ (95)}

(96)

قال إمام الحرمين في الشامل: مذهب أهل السنة، صحة تعلق القدرة والإرادة بما علم الله عدم وقوعه، ومذهب غيرهم امتناع ذلك. قال ابن عرفة: والآية حجة لأهل السنة لاقتضائها عموم تعلق قدرة الله تعالى، بأن جعل نبيه مبصر الجميع، ما وعد به من أنواع المهالك في الدنيا؛ لأن الرؤية بصرية، وقد مات النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قبل استيفاء ذلك، لهلاك جمع كثير منهم ممن ارتد بعد وفاته صلى الله عليه وعلى آله وسلم على يدي أبي بكر، وعمر رضي الله عنهما وقد نص الله تعالى على تعلق القدرة بذلك. قوله تعالى: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ ... (96)} المراد إما بالخاصة، أو بالحالة، أو بالفعلة التي هي أحسن، ويتناول الحالة القاصرة والتعدية، وهو أن يدفع عجزه عن الطاعة بنشاطه وعمله، وانتقامه لنفسه بعفوه عن الجاني. قوله تعالى: (نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ). هذا تسلية له صلى الله عليه وعلى آله وسلم، أي افرغ وسعك وقاتلهم بما في كسبك، وما سوى ذلك [مما*] لم يبلغه وسعك*] فنحن أعلم به ونجازيهم عليه، وكان بعضهم يأخذ من الآية ترجيح القول بتخفيف العقوية في المسائل التي اختلف في منتهى العقوبة فيها بالكثرة والقلة بنا، على أن المراد بالأحسن الأخف، ويحتمل أن يراد الأحسن شرعا فينعكس الأمر ويكون الأحسن الشديد. قوله تعالى: {مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ (97)} إما على [أن*] لكل شيطان همزة، أو لكل شيطان همزات. قوله تعالى: {وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ (98)} ئأسيس؛ لأن الحضور أعم من الهمز، وقد دعا بنفيه، ونفي الأعم أخص من نفي الأخص. قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ ... (99)} أمر وجودي أو عدمي، فإن كان عدميا، فالمراد بمجيئه مجيء [علة الموت*]، وإن كان وجوديا فهو عرض من الأعراض، كما أن الحياة عرض، وهي أمر وجودي،

(100)

والمراد بمجيء الحصول، وبعد حصول الموت هو الذي يطلب الرجوع؛ لأنه على مذهبنا انتقال من دار إلى دار، لَا إعدام لبقاء النفس الناطقة، والروح فيه تطلب الرجوع البدني لدار الدنيا، فلا تسعف بذلك. قوله تعالى: {وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ ... (100)} أي من أمامهم، وعبر بلفظ الواو إشارة إلى تحقيق وقوعه، وأنه أمر واجب لَا بد منه، فهو طالب [لهم*]، كطلب من يتبع الإنسان من [خلفه*]، لأنه لَا مفر له عنه بوجه، بخلاف من هو أمامه، فإنه قد [يجيئه*] شمالا ويمينا. قوله تعالى: {فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ (101)} أي الأنساب ثابتة أي نافعة، وإلا فالأنساب موجودة، ويحتمل أن يكون على التوزيع أو بين كل شخصين نسب، ويحتمل الجميع، لأنه قد يكون بين كل شخصين أنساب، فيكونان ابني عم وزوجان، أو أخوين، وإلا [فاللفظ*] عام للجميع، وقوله تعالى: (فَلا أَنْسَابَ)، إشارة إلى الآباء عدوهم الأصحاب، فلا يسأل أحدهما الآخر عن حاله، بل كل أحد مشغول بنفسه. قوله تعالى: {رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا ... (106)} يدل على اتصافهم بمذهب الجبرية القائلين: بأن لَا قدرة للعبد ولا كسب، لأنهم آتوا هذا عذرا لهم، أن هذا أمر قدر علينا لَا طاقة لنا به، كقول آدم لموسى صلى الله على نبينا محمد وعليهما وسلم: [تَلُومُنِي عَلَى أَمْرٍ قُدِّرَ عَلَيَّ قَبْلَ أَنْ أُخْلَقَ*]، وقولهم (رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا ... (107) يدل على اعتقادهم أن لهم كسبا [واختيارا*]. قوله تعالى: {اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ (108)} قال الزمخشري: وعن ابن عباس رضي الله عنهما [إنّ لهم ست دعوات: إذا دخلوا النار قالوا ألف سنة: رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا فيجابون: حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي*]. ابن عرفة: يحتمل أن يجابوا بذلك في كل مرة، أو في المرة الأخيرة، وهو وكذلك الحكم في الست دعوات إلى آخرها، قال ابن عطية: ونهيهم عن الكلام، وهم لَا يستطيعون الكلام مبالغة في المنع، [ورده*] ابن عرفة: بوجهين: الأول: أنهم يستطيعون الكلام وقد قالوا: [(يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ) *] وتكلموا بغير هذا، وقد ورد الدعاء بالواجب، فكذلك النهي عما هو غير مستطاع. قوله تعالى: (اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ).

(109)

كان بعض الطلبة يقول: دليل على أنه [ ... ] إذ ليس بواجب عقلا، وإنما واجب شرعا. قوله تعالى: {إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي ... (109)} [إِنَّ رُؤَسَاءَ قُرَيْشٍ مِثْلَ أَبِي جَهْلٍ وَعُتْبَةَ وَأُبَيِّ بْنِ خَلَفٍ كَانُوا يَسْتَهْزِئُونَ بِأَصْحَابِ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَضْحَكُونَ بِالْفُقَرَاءِ مِنْهُمْ مِثْلِ بِلَالٍ وَخَبَّابٍ وَعَمَّارٍ وَصُهَيْبٍ - رضي الله عنهم*] قوله تعالى: (يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا). ويؤخذ منه قول ترجيح، قول ابن سحنون: في إجازته قول القائل: من غير تقييد بالنسبة؛ لأن هذا إنشاء لَا خبر عن معنى والقطع فالمعتقد دوامه، وقد حكى عياض: أن رجلا ضرب الباب على ابن سحنون، فقال: كيف تقول أنا مؤمن؟ فقال: أنا مؤمن إن شاء الله فبصق في وجهه، فأصيب الرجل بلكمة واعورت أحد عينيه. قال ابن عرفة: والتحقيق أنه قصد الإعلام بحالته، فلا شيء فيه، وإن قصد الإعلام بعاقبة أمره فلا بد من الاستثناء. قوله تعالى: (فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا). دليل على التوبة غير مقطوع بقبولها إلا أن يجاب فيه بصحة الدعاء بالواجب إظهار التذلل والخضوع. قوله تعالى: (وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ). ولم يقل: أنت خير الغافرين؛ لأن الرحمة سبب في المغفرة، وإسناد الحكم إلى السبب أقوى من إسناده إلى سببه، ولذلك فرق الفخر بين [بُرْهَانِ اللِّمَ وبُرْهَانِ الْآنِ*]. قوله تعالى: {فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا ... (110)} أي خدمة وهو بضم السين، وقرئ بكسرها، أي فعله، واستهزاء وقيل: العكس. قوله تعالى: (حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي). قيل: حتى [للتعليل*]، وقيل: غاية، فإن قلت: مفهوم الغاية على أن نسيانهم ذكر الله واقع لاتخاذهم المؤمنين سخريا، قلنا: واقع العموم السخرية، ويبقي أخصها، وهي السخرية الأخصية الشديدة [ ... ] فهو آخر مدخر. قوله تعالى: {أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ (111)} وجه الحصر هنا إما باعتبار قسمهم وهم الكفار أو للمحصور فيهم فوز خاص وسائر المؤمنين حصلوا فوزا عاما.

(112)

قوله تعالى: {قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (112)} قال ابن عرفة: كلام الشاطبي هنا مشكل؛ لأنه قال: [وَفي قَالَ كَمْ قُلْ دُونَ شَكٍّ وَبَعْدَهُ ... شَفَا وَبِهَا يَاءٌ لَعَلِّيَ عُلِّلَا*] فقوله: [وَبَعْدَهُ*] يوهم بأن الخلاف في (قالوا) كما هو في (قال)، وإنما قرئ [(قالُوا*] لَبِثْنَا يَوْمًا أَو بَعْضَ يَوْمٍ)، فأجيب: بأن لفظ قال يدل على أن الذي بعده مثله، فما هو إلا قال الثاني، فقال: هذا أمر مردود، لقوله في باب الإمالة: [وَكَيْفَ الثُّلاَثِيْ غَيْرَ زَاغَتْ بِمَاضِيٍ ... أَمِلْ خَابَ خَافُوا طَابَ ضَاقَتْ فَتُجْمِلَا وَحَاقَ وَزَاغُوا جَاءَ شَاءَ وَزَادَ فُزْ ... وَجَاءَ ابْنُ ذَكْوَانٍ وَفِي شَاءَ مَيَّلَا*] مع أن حمزة يميل [جاء*] مفردا أو مثنى أو مجموعا، قيل له: يستدل على هذا، بقوله: "وكيف الثلاثي" معناه كيف ما كان مفردا، أو مثنى، أو مجموعا، وغلط ابن عطية النسبة لابن عامر أنه قرأ كنافع وليس كذلك، وإنما قرأ كابن كثير ونسب البزي أنه قرأ وهي قراءة ابن كثير من طريق البزي، وقيل: وكذلك غلط أيضا، فقال: ادعم أبو عمرو والكسائي (لَبِثْتُمْ). قوله تعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (115) فَتَعَالَى اللَّهُ ... (116)} في ظاهرها حجة للمعتزلة [بوجوب*] الإعادة عقلا، فالجواب: إن معنى (أَفَحَسِبْتُمْ) بعد بعثنا الرسل إليكم أنا خلقناكم عبثا؛ بل جعلنا خلقكم مرتبطا بثوابكم أو عقابكم [بالشرط*] الشرعي العادي؛ [لا أن*] ذلك واجب على الله عقلا، بل هو واجب شرعا، وإعادتكم جائزة عقلا، وهي بالشرع واجبة، قيل لابن عرفة: فلم عطف عليه (وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ)؟ فقال: لأن خلقهم عبثا يستلزم عدم إعادتهم، فلذلك عطف عليه قوله تعالى: (فَتَعَالَى اللَّهُ) هو أبلغ من على الله. قوله تعالى: (الْمَلِكُ الْحَقُّ)، هو القادر على كل شيء، النافذ أمره في كل شيء. وصلى الله على مولانا وسيدنا محمد النبي الأمي وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى سائر إخوانه ساداتنا من الأنبياء والمرسلين والملائكة والمقربين، وعلى آلهم وسلم تسليما كثيرا دائما إلى يوم الدين، آمين. * * *

سورة النور

سُورَةُ النُّورِ قوله تعالى: {سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا ... (1)} قال ابن عطية: سورة خبر مبتدأ، أي هذه سورة، أو هو مبتدأ و (أَنْزَلْنَاهَا) صفة، وخبره الجملة من (الزانِيَةُ وَالزانِي) ابن عرفة: وكان بعضهم يرجح كونه مبتدأ خبره أنزلنا؛ لأن سيبويه لم يشترط في الابتداء بالنكرة إلا [حصول*] الفائدة، ولا شك أن الفائدة أكثر من الفائدة في قولك: رجل من بني تميم قائم، وقرئ [بنصب (سُورَةً) فأعربه الفراء حالا*] من ضمير المفعول في (أنزلنا)، قيل لابن عرفة: وأين مفسر الضمير؟ فقال: لما أنزلنا الأحكام أو الشرائع حالة كونها سورة. قال ابن عرفة: و (أَنْزَلْنَاهَا)، إن أريد إنزالها إلى سماء الدنيا، فيكون ماضيا حقيقة. ابن عطية: فرضناها بتخفيف الراء ومعناه الإثبات والإيجاب بأبلغ وقوعه. ابن عرفة: ولذلك جعل أبو زيد الدبوسي الفرض ما نشأ عن دليل قطعي، إذ هو مأخوذ من الفرض في الخشية، والوجوب ما نشأ عن دليل قلبي إذ هو بمعنى السقوط، قال تعالى: (فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا)، وقرئ بالتضعيف لتكرر الأحكام فيها ما لم تتكرر في غيرها. قوله تعالى: (لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ). أي يفصل لكم على شبيه بما تحصل لمن تذكر شيئا نسيه أو تذكرون ما علمتم يوم [أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ*]، والحكماء القائلون بأن العلوم كلها تذكيرية يحملونها على ظاهرها. وفال الفخر: هذا إشارة إلى اشتمالها على الأحكام وعلى أدلتها، فقال ابن عرفة: ليس فيها أدلة، قال: فيها أدلة. قال: وفيها من علم البيان [ ... ]. السرقة من الرجل أكثر، [ووقوع*] الزنا من النساء أكثر، فإن قلت: هذا يتم في السرقة ولا يتم في الزنا، لأنها نسبة إضافية، فكذا المرأة يكثر منها الزنا مرات مع رجال كثيرين، والرجل في الأكثرين مرة واحدة، قلت: أو لكثرة النساء وقلة الرجال، قال ابن عطية: وهذه الآية عامة عند الجميع، وحكم المحصنين منسوخ، واختلفوا في النَّاسخ، فقالت فرقة: النَّاسخ: السنة المتواترة.

قال ابن عرفة: هذا عند الأصوليين تخصيص لَا ناسخ، لكن قالوا المخصص إذا ورد على العام بعد العمل به فهو ناسخ، وإن كان قبل العمل به فهو تخصيص، في قوله: السنة المتواترة. قال ابن عرفة: هذا عند الأصوليين مخالفا لما قال ابن الصلاح: لم يتواتر من الأحاديث غير حديثين: حديث "مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ". وحديث "إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ". والباقي أخبار آحاد.

(2)

ابن عطية: وقالت فرقة: بل النَّاسخ القرآن الذي ارتفع لفظه وبقي حكمه. ابن عرفة: وهو الشيخ والشيخة إن زنيا فارجموهما ألبتَّة. قوله تعالى: {وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ ... (2)} ابن عرفة: هل هذا من باب وروده على النفي [عن*] غير المخاطب، مثل [لا أرينك هاهنا*] للرأفة، فالأصل أن يقال: [لَا ترأفوا بههما*]، أو يكون من باب النهي عما هو أمر جلي، فيرجع إلى ترك أسبابه. قوله تعالى: (وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ). [جمعت الآية العذاب الحسي، والعذاب المعنوي*]، والطائفة اختلفوا في أقل ما يجزئ منها. ابن عطية: عن الحسن البصري عشرة، وعن ابن زيد أربعة، وعن الزهري ثلاثة، وعن عطاء، وعكرمة اثنان، وهو مشهور قول [مالك.*]؛ وعن مجاهد رجل واحد. ابن عرفة: وقيل: ستة لأنها أول العدد التام الأجزاء. قوله تعالى: {الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً ... (3)} فسره ابن عطية بأربعة أوجه: إما أن النكاح الوطء، فالزاني لَا يطأ إلا زانية، قال: ورده الزجاج بأن النكاح بمعنى الوطء، لم يرد في القرآن، وأجاب ابن عطية بوروده (حَتى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ)، ورده ابن عرفة بأن الصحابة إنما فهموه على العقد، ولذلك لما أرادت المرأة غير المدخول بها الرجوع لزوجها الأول منعها النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، بقوله: "حَتَّى تَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ وَيَذُوقَ عُسَيْلَتَكِ"، فلو كان قضى في الوطء لما احتاجت إلى تفسير الآية، فإن قلت:

معلوم أن الزنا لَا يكون إلا بزانية، وأن الزانية لَا يطأها إلا زان، قلنا: قد يزني الزاني بامرأة مكرهة على الزنا، فهو عام مخصوص ولا يلزم من عطف الزانية عليه تخصيصها؛ لأن الإكراه في الرجل غير مفهوم، لكن يقال: قد تكون المرأة عالمة بالزنا ويزني بها الرجل غالطا ظانا أنها زوجة، فإن قلت: لم بدأ أولا بالزانية في الجلد وبالزاني بالنكاح؟ قلنا: بدأ هنالك بالزانية لأنها هي المادة التي جاءت منها الجناية، لأنها لو لم تطع الرجل لم يطمع، والآية سيقت لعقوبة الجاني، والثانية سيقت لهذا النكاح، والرجل أصل فيه؛ لأنه هو الخاطب، وأيضا فلأن الرجل في الوطء فاعل، والمرأة منفعلة، فلذلك بدأ به. قوله تعالى: (وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ). وكان بعضهم يفسره بأمرين: إما أنه [حكم بالتحريم*]، وإمَّا إخبار عن الواقع، أي المؤمنون الكاملون الذين منعوا أنفسهم منه فلا يقعون فيه، ولا يفعله إلا مشرك أو ضعيف الإيمان، كما قاله: "لَا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن".

(4)

قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ... (4)} قال ابن عرفة: إنما ذكر قذف المحصنات دون قذف المحصنين؛ لأن لحوق المعرة للنساء أشد، بدليل قول الإمام مالك رحمه الله: قاذف الصبي الذي يطيق الوطء [إنه لَا يحد*]، بخلاف قاذف الصبية المطيقة للوطء، وما ذلك إلا للحوق المعرة لها. قوله تعالى: (فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً). مع أن مالكا رحمه الله، قال في الضد: إذا قذف إنه يجلد نصف الثمانين [وعقاب القاذف*] بثلاثة أمور: حسي: وهو الجلد وعدم قبول الشهادة، ومعنوي: وهو الحكم عليه بالفسق. قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ ... (6)} قال ابن عرفة: يؤخذ منها أنه إذا شهد أربعة على الزنا أحدهم الزوج أن الثلاثة يحدون؛ لأنه ألغى شهادة الزوج، بقوله تعالى: (وَلَم يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أنْفُسُهُمْ)، فإذا ثبت إلغاؤها مع انفرادها ثبت مطلقا، وهي مسألة المدونة في [أجزاء اللعان*]. قوله تعالى: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ... (10)} يؤخذ منه في مسألة الغيبة فيمن حلف على طائر أنه غراب، وحلف الآخر أنها حدأة، فغاب عنهما أنهما يَدِينَانِ ولا يحنث واحد منهما، وكذلك هذان المتلاعنان؛ لأن أحدهما على الباطل مع أن الله تفضل بأن يستر عليهما، وقد جاء في حديث ماعز بن مالك والغامدية، أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال لهما بعد تمام اللعان: "أحدكما كاذب"، وتركهما ولم يتعرض لهما، ولم يقل لهما ذلك قبل اللعان؛ لأن لعانهما أوجب لهما [حرمة*] يبقيا مهملين من العقوبة.

(11)

قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ ... (11)} ابن عرفة: كان بعضهم يقول: إن دل الدليل على الاعتناء بالمخاطب، فإنه يقال: لا تحسب زيدا قائما، وإن لم يقصد الاعتناء به، فيقال: ليس زيد قائما. قوله تعالى: {ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ (12)} وكان بعضهم يقول: إطلاق الألفاظ على مسمياتها تابع للتركيب الوجودي، ولا شك أن ظن الخير سبب في قوله: والسبب سابق على المسبب، هلا عطف بالفاء، فكان يقال: فقالوا هذا إفك، قال: لكن يجاب بأنه إذا كانت السببية ظاهرة جلية، لم يحتج إلى عطفها بالفاء، وإنما يحتاج ذلك في السببية الحقيقية. قوله تعالى: {فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ (13)} ابن عرفة: يؤخذ منه أن من قذفه رجل بالزنا، وعلم من نفسه صدق قاذفه، وأنه زان فلا ينبغي له السكوت عنه، بل يرفع أمره إلى الحاكم، ويقوم بحقه في ذلك حتى يجد قاذفه حد القذف بدليل قوله تعالى: (فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ)، فكل من لم يأت بالشهادة على صحة قوله فهو عند الله كاذب، وإن كان في نفس الأمر صادقا، يؤخذ من الآية أن من رمى عائشة رضي الله عنها، وكرم وجه أبيها بذلك، فهو كافر؛ لأنه كذب بالقرآن، ومن رمى غيرها من نسائه صلى الله عليه وعلى آله وسلم ورضي عنهن فهو فاسق؛ لأن الكل مبرءات [طاهرات*] غير أن تبرئة عائشة رضي الله عنها، وكرم وجه أبيها، وردت في القرآن بخلاف غيرها، ولم يكن هذا في زوجة نبي قط؛ لأنه مما يعيب الرجل أن تكون زوجته زانية.

(14)

قوله تعالى: في امرأة نوح وامرأة لوط: (كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا)، بأن كفرتا فقط لولا ذلك ما احتيج إلى قوله تعالى: (فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا). قوله تعالى: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ... (14)} قال ابن عرفة: إنعام الله تعالى على العبد له اعتباران: تارة يعتبر من حيث كونه واقعا فهذا يسمى تفضلا، وتارة يعتبر من حيث كونه مراداً فهذا يسمى رحمة، كذا كان بعضهم يقول: قال ابن الخطيب: الفضل باعتبار الإمهال في الدنيا، والرحمة باعتبار تخفيف العذاب في الآخرة. قوله تعالى: (لَمَسَّكُمْ). قال ابن عرفة: هذا أبلغ من أن يقول: لأصابكم، أو لأنالكم، أو لوقع بكم، لأن المس يقتضي تحقيق الإصابة. قوله تعالى: (فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ)، الإفاضة: هي استماع الحديث لإسماعه مع الإجابة ومنه المفاوضة. قوله تعالى: {إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ ... (15)} قال ابن عرفة: الباء للسبب، ومعناه قلتموه، والسبب مجرد سماعه من ألسنة بعضكم من غير طلب دليل على صحته والإسناد [ ... ]. قوله تعالى: {وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا ... (16)} فعبر بالكلام والقول أعم من الكلام، والقاعدة استعمال الأعم في النفي والأخص في الثبوت، قال: فالجواب: أن الأول في معرض الذم لهم، فذموا على إشاعة مطلق القول الذي يتناول القيد الخاص، وما دونه فأحرى أن يذموا على إشاعة القول المتناول للغيب الأخص، ثم قال تعالى (وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ)، فنفى، ولولا إذ سمعتم هذا القول الخاص سماعا مستكملا لشرائط السماع، قلتم: ما يكون لنا أن نتكلم بهذا فأحرى إذ سمعتموه مطلق سماع، وإن لم يستكمل بعضه أن ترجعوا وتقولوا: لا نتكلم به، قيل له: إنما هذا لو قيل: (وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ) كلاما فيكون في موضع الثبوت، وإنما أتى هنا بالكلام في سياق النفي، ونفي الأخص لَا يستلزم نفي الأعم،

(19)

فأجاب باسم الإشارة في قوله، بهذا يفيد مع قوله: تكلم أنه سماع كلام لَا سماع قول، فلما أثبت الأخص نفاه بقوله: ما (نَتَكَلمَ بِهَذَا). قوله تعالى: (هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ). قال ابن عرفة: البهتان أن تقول في الشخص ما ليس فيه، وهو هاهنا كذلك بزيادة مخالفته للضرورة، كقولك: الواحد نصف الاثنين لوصف البهتان بالعظم. قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ... (19)} قال ابن عرفة: يحتمل أن يكون قوله تعالى: (فِي الَّذِينَ آمَنُوا) كل أركانه. قوله تعالى: {وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (20)} الرحمة أخص من الرأفة، فإذا أطعمت فقيرين أحدهما مشرف للهلاك، والآخر معه بعض زمن يصدق عليك، أنك رحمت الأول ورأفت على الثاني. قوله تعالى: {فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ ... (21)} قال ابن عرفة: المنكر كل ما قبحه الشرع مما اشتَّد قبحه كالزنا، وشرب الخمر فهو منكر، وما كان دون ذلك، كالغيبة ونحوها فهو فحشاء. قوله تعالى: {وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ ... (22)} قالوا: يأتل إما من الإيلاء، أو بمعنى التقصير. ابن عرفة: وهو الصواب؛ لأنه إذا كان من الإيلاء لزم عليه تكليف ما لَا يطاق، ولأن إيلاء أبي بكر كرم الله وجهه وقد وقع وما وقع لَا يرتفع، ولا بد أن يرجح النهي لدوام الإيلاء وتقريره؛ لأنه إن قاله في قسمته، فكأنه حدده وهو مجاز وإلا فسد. قوله تعالى: (أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ). والسعة من عطف الخاص على العام؛ لأن الفضل هو الزيادة في المال أعم من أن يكون فيه اتساع أم لا. قوله تعالى: (أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ). قيل لابن عرفة: هذا دليل على إبطال القول بالإحباط؛ لأن مِسْطَحًا كان ممن خاض في حديث الإفك، وتولى كبره فلو كان إثمه يحبط لحصل له من ثواب الهجرة لها (والمهاجرين في سبيل الله)؛ لأنه من عطف الصفات.

(26)

قوله تعالى: (وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا). قال ابن عرفة: العفو عمن قصد الجناية عمدا كان أو خطأ، والصفح بالمتعمد، بدليل قوله تعالى: (عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ)، فإذا شككت في تعدي رجل عليك ثم تركته فهذا عفو، وإذا تحققت ذلك ثم تركته فهذا صفح. قوله تعالى: {الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ ... (26)} والمراد الكلمات الخبيثات للرجال الخبيثين، والفعلات الخبيثات للرجال الخبيثين. قوله تعالى: (أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ). قال: عادتهم يوردون: سؤالا، وهو أن تبرئتهم من هذا يقتضي عدم [احتياجهم للمغفرة*]، فيناقض قوله تعالى: (لَهُم مَغفِرَةٌ)، فأجيب بأنه يغفر لهم لثبوت ما يثبت بسبب رميهم مما هم برآء منه، وإما بأن قوله لهم يقتضي الحصر وخصوص هذه المغفرة الخاصة المعنى لهم بها وحدها، ولذلك قدم المجرور. قوله تعالى: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ ... (35)} قال ابن عرفة: ذكر القاضي ابن عبد السلام أنهم اجتمعوا للشهادة في ميدان في حقيقة هذه الآية، فامتنع الفقيه أبو إسحاق بن عبد الرفيع من الشهادة عنه حتى يذكر الآية كلها قال [باقي الآيةِ صفةٌ لـ (مصباح) *]. قال ابن عرفة: وهذا عندي مستحسن لَا واجب. قوله تعالى: {أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ ... (36)} ولم يقل: أمر الله أن ترفع، فالجواب: إن كان المطلق محبوبا للنفس، فيقال فيه: (أَذِنَ) لأنها بنعتها تطلبه وتفعله، والإذن خاص مما ترغب النفس في فعله، والأمر عام فيه وفيما تكرهه النفس وتعظيم هذه البيوت مما تفعله النفوس وتحرص عليه. قوله تعالى: {لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا ... (38)} إن قيل: ظاهره أنهم يثابون على الأحسن لَا على الحسن، فالجواب هنا: إن قلنا: إن المباح حسن فظاهر؛ لأن ما فوقه مندوب، وإن قلنا: إنه ليس بحسن، فيكون تهييجا على الاتصاف بأعلى الطاعة، فوعدهم بالثواب على أعلاها دون أدناها.

(39)

قوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ ... (39)} هذه اتباعهم المقلدين، لأنهم يظنون أن كبارهم على شيء كما يظن الناظر إلى السراب أنه ماء فلا يجده شيئا. قوله تعالى: {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ ... (40)} هذه في آلهتهم ورؤسائهم المتنوعين، لأنهم في الظلمات لأنهم يعتقدون أن ما هم عليه حق، فإذا هم يمشون في الظلمات لَا دليل لهم بوجه. قوله تعالى: {أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ... (50)} نقل ابن عرفة هنا كلام المفسرين، ثم قال: والظلم من معنى الآية أن الشيء بما يثبت بعد نفي الجرم بثبوت نقيضه، أو نفي الشك في ثبوت نقيضه، أو نفي لازم نقيضه، فقوله تعالى: (أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ)، راجع لنفي ثبوت الإيمان، وقوله تعالى: (بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ)، هذا ظلم الكفر لَا ظلم المعصية المذكور، في قوله تعالى: (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَم يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ). قوله تعالى: {وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ ... (59)} يحتمل أن يكون [نفس الْحُلُم*]، أو بلغوا أن يحتلموا في النوم، والظاهر الأول، لأن البلوغ [يقتضي*] قطع المسافة، وهذا يستدعى الزمان، فإِن قلت: لمَ لم يقيد استئذان المماليك بالعتق، كما قيد استئذان الأطفال بالبلوغ؟ فالجواب: أن الأطفال إن بلغوا فلا يزالون أولادا وقرابة، والمماليك إذا أعتقوا صاروا أجانب. قوله تعالى: (كَمَا اسْتَأذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِم)، المراد من قبلهم في الزمان؛ لأن الذين قبلهم في الزمان الأطفال، ولم يكونوا يستأذنون، وإنما المراد [القبلية*] في ذكر بيان الحكم، أي استأذن الذين تقدم بيان حكمهم قبل هؤلاء، والكاف للسبب أو للتعليل، مثل: وأحسن كما أحسن الله إليك. قوله تعالى: (كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ). وقال: بعدها وقبلها (كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ)، وأجيب بوجهين: الأول: قال ابن عرفة: هذه خاصة بالأطفال، والتي قبلها عامة في العبيد والأطفال، فأتى منها بالآيات مطلقا غير مقيد بالإضافة وهذه خاصة، فعبر فيها بلفظ خاص، ومنهم من أجاب بأن الخطاب للبالغين فأسند الحكم فيه لله تعالى تخويفا لهم وتشديدا عليهم.

(61)

قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ ... (61)} يحتمل أن يراد في التخلف عن الجهاد، ويحتمل أن يراد في الأكل من كل جهة، ويحتمل أن يراد نفي الحرج عمن يأكل مع الأعمى، وله أن يجعل يده في الإناء، فيكون إما على حذف مضاف، أي ليس على مُجالس الأعمى حرج، أو تكون على التعليل كما قال ابن مالك، أي ليس لأجله حرج. قوله تعالى: (وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ). نفي الحرج عن الإنسان في الأكل من البيوت معلوم، فما فائدته إلا التساوي بينه وبين نفي الحرج عن الأكل من بيت الآباء مع أن طاعة الأم آكد لتكرار [دخولَ الأبناءِ إياها*]؛ لأن النفقة واجبة على الآباء، وقدم العمة؛ لأن الحضانة لها عند الإمام مالك رحمه الله دون الخالة، فإن قلت: أفرد الصديق وجمع غيره، قلت: إنما أفرده لقلته أو أراد به الجنس. قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ... (62)} يحتمل أن يراد مطلق الإيمان، والكاملون الإيمان، وهو [الأعم*]؛ لأن الخبر عندهم أعم من المبتدأ؛ لأن في المحصور؛ لأنه أخص بقول: إنما العالم زيد، والخبر هنا مقيد بتوقيفهم على استئذانه، إذا كانوا معه على أمر جامع، فدل على أن المراد الكاملون في الإيمان، ولا يلزم منه أن يكون أويس القرني منهم، لأنه لم يرَ النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ولم يكن معه حتى يستأذنه. قوله تعالى: (فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ). لا يؤخذ منه أنه مجتهد؛ لأن هذا اجتهاد في محل الحكم لَا اجتهاد في إثبات حكم شرعي، كما استأذنه بعضهم في التخلف عن الجهاد، [فإن بدا له عذر يمنعه ويبيح له التخلف فيأذن له*]. قوله تعالى: {لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ ... (63)} والنهي للتحريم والمصدر مضاف إما للمفعول، أي دعاؤكم للرسول، وهو أن الداعي إذا دعا يقول: السلام عليك يا رسول الله، ولا يقول: السلام عليك يا محمد، فأمروا بالتأدب معه أو مضاف للفاعل، أي لَا تجعلوا دعاء الرسول لكم إلى أمر من الأمور كدعاء بعضكم لبعض بحيث تمتثلوا أمره تارة، وتخالفوه أخرى، فإن قلت: ما فائدة قوله (بَينَكُم)، [والأصل عدمه*]؛ لأن النهي على المطلق [أولى*] من النهي المقيد؟ فالجواب: أنهم إذا نهوا عن مخالفة أمره فيما بينهم، أي في حال غيبته عنهم، فأحرى أن ينهوا عن مخالفة أمره فيما بينهم وبينه، أي بحضرته معهم، فيعلق النهي بالأخص؛ ليدل على ما عداه من باب أحرى. * * *

سورة الفرقان

سُورَةُ الْفُرْقَانِ قوله تعالى: {تَبَارَكَ ... (1)} قال ابن عرفة: كلام أبي حيان يقتضي أن (تَبَارَكَ) مطاوع بارك، وكان بعضهم يرده بأن فعل المطاوعة [فاعله مغاير لفاعل فعله الأصلى*]، مثل: كسرته فانكسر، فالفاعل منها مختلف وهو هنا متحد، مثل: علا فتعالى، وقال: وأجيب: بأنه مختلف باعتبار اعتقاد المعتقد لَا باعتبار ما في نفس الأمر. قوله تعالى: {الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ... (2)} وجه مناسبتها لما قبلها أن تنزيل الفرقان عليه معجزة، منزل منزلته صدق عبدي، ومن شرط المرسِل أن يكون غنيا عن غيره موصوفا بالملك العام، والعزة عن الولد والشريك والإنصاف بالقدرة والإرادة. قوله تعالى: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً ... (3)} إن قلت: كيف هذا وقد قالوا: (هَؤُلاءِ شفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ) (مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى)، فالجواب بوجهين: الأول: من شرط الإله اختصاصه بالعبادة، فإذا شارك معه غيره فيها فكأنهم عبدوا شريكه من دونه. الثاني: أن ذكر الذين شركوه معه فيه عبدوا [ ... ] فيه من دون الله. قوله تعالى: {سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا (12)} [التغيظ معنوي*]، هو غير مسموع، كأنهم لما عبدوا الأصنام واتبعوا الشيطان صاروا كأنهم ملكا لهم، فاحترس عن ذلك بقوله: (عِبَادِي)، بخلاف قوله تعالى: (إِنَّ عِبَادِي لَيسَ لَكَ عَلَيْهِم سُلْطَانٌ)؛ لأنه إضافة تشريف. قوله تعالى: {مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا ... (18)} إن قلت: ما يفعل زيد كذا، نفيت الفعل، فإن قلت: ما كان لزيد أن يفعل كذا، نفيت القابلية للفعل، وإذا قلت: ما ينبغي له أن يفعل كذا، نفيت الفعل وجعلته محالا، وإذا قلت: ما كان ينبغي لزيد أن يفعل كذا، فهو أشد المحال وأبلغه، لأنك جعلت فعله كالمحال.

(19)

قوله تعالى: (حَتى نَسُوا الذِّكرَ) يوهم [أنه بالتمتع ارتفع نسيان الذكر*]؛ لاقتضاء الآية مخالفة ما بعدها لما قبلها. قوله تعالى: {فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا وَلَا نَصْرًا ... (19)} يحتمل بالصرف البرهان [الصارف*] لهم عن اعتقاد الباطل، وبالنص تصحيح أقوالهم. قوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا ... (21)} .. ، أبلغ من قوله: الذين يعتقدون عدم لقاءنا، لأن الأول يحتمل التكذيب باللقاء والشك فيه، وعدم الرجاء أبلغ من الجميع، لأنه لَا مطمع فيه بوجه. قوله تعالى: (لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا)، لف ونشر، والاستكبار راجع لإنزال الملائكة عليهم، [والعتو*] لمطلب الرؤية، فإن قلت: ما أفاد قوله تعالى: (فِي أَنْفُسِهِمْ)؟ فأجاب الزمخشري: بأنهم أضمروا الاستكبار في أنفسهم، وهو الكفر والفساد، كما قال تعالى (إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ). قال ابن عرفة: أو يجاب بأن المراد لقد استكبروا استكبارا راجعا إلى رؤياهم حيث جعلوا لها مسموعا على غيرها، وقد قال الله تعالى (وَاللَّهُ خَلَقَكُم وَمَا تَعْمَلُونَ) فهم مخلوقون لله فلا يمتنع أن يخص بعض خلقه بالنبوة والرسالة دون بعض. قوله تعالى: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا (30) وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ ... (31)} قال ابن عرفة: عادتهم يقولون: لم عطف، وكذلك هنا بالواو ولم يعطفها في قوله تعالى: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ)، قال: فكانوا يجيبون بأن الواو تقتضي الموافقة على ثبوت ما قبلها حسبما أشار إليه، في قوله تعالى: (وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنْهُم كَلْبُهُم)، فقالوا ثم إن هذا القول هو الصحيح، وهو أنهم سبعة ولا شك أن اتخاذهم القرآن مهجورا أمر ثابت صحيح، وتنزيل القرآن جملة واحدة غير ثابت، فلذلك عطف الأول دون الثاني، وأجيب: بأن كذلك الثانية دخلت في الجملة وهي تعليل وسبب لما قبلها، فلذلك لم يعطف بخلاف الأولى، قال ابن عطية: وروي عن أنس رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: " [من علق مصحفا ولم يتعاهده جاء يوم القيامة متعلقا به يقول هذا اتخذني مَهْجُوراً افصل يا رب بيني وبينه*] ".

(33)

قوله تعالى: {إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ ... (33)} أي بالحقيقة، والمعنى، وقوله تعالى: (وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا)، راجع للفظ، وكيفية دلالته على المعنى. قوله تعالى: {أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا ... (34)} قال: كان بعضهم يفسره: بأن طريقتهم التي يمشون عليها على وجوههم إلى جهنم صعبة المسلك. وقوله تعالى: (وَأَضَلُّ سَبِيلًا)، إشارة إلى بعدها، فهي بعيدة واعرة صعبة المسلك. قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرًا (35)} .. ، ظاهره أن هارون عليه السلامِ غير رسول، بل هو تابع لموسى عليه السلام، وظاهر قوله تعالى: [(فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ)، (فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ) *] أنه رسول لكن الرسالة مقولة بالتشكيك، قال: قصة موسى تكررت في القرآن لتكرر اليهود عليه ومنهم [ ... ] فلذلك كررت بألفاظ مختلفة. قوله تعالى: {وَكُلًّا ضَرَبْنَا لَهُ الْأَمْثَالَ ... (39)} قال ابن عرفة: هذه عندي دليل لمن يقول إن العقل لم يخلو من سمع، وأجيب: بأنها إنما دلت على ضرب المثل لمن ذكر [من القرون*] الذين بينهم، ويعني من قبل نوح، ومن قبل المذكورين، [وابن عرفة*] إنما يحتج كذلك، بقوله تعالى: (وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ). وقوله تعالى: (وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ ... (40) .. ، قال: ومنهم من قال إن مطر مصدر على حذف الزوائد، ومنهم من جعله اسم مصدر بخلاف قولك: أمطرت إمطارا فإنه مصدر بلا خلاف، وكذلك عذبته عذابا بخلاف قولك: تعذيبا. قوله تعالى: (أَفَلَم يَكُونُوا يَرَوْنَهَا). أي أغَفلوا فكأنهم لم يرونها.

(42)

قوله تعالى: (بَلْ كَانُوا). إضراب انتقال، ولا بد أن يكون المنتقل إليه أبلغ من المنتقل عنه، قال: وعادتهم يقررون الأبلغية قلنا: بأن حصول النتيجة بأحد أمرين: إما عن اللازم مقدمة، بمعنى أن المقدمة استلزمت نتيجة، أو عن قياس تمثيلي فكونها عن لازم مقدمة أقوى من كونها عن قياس تمثيلي، قال: فقوله تعالى: (أفَلَم يَكُونُوا يَرَونَهَا)، راجع للقياس التمثيلي، وهو أن مشاهدتهم [آباءهم*] المهلكين وآثارهم مع [أن*] الله تعالى [أوجدهم*] من عدم، ثم أهلكهم، وهو كذلك أنهم وجدوا من عدم وحالهم كحالهم في العصيان ألا ترى أن [ابن الحاجب*] استدل على إثبات القياس، بقوله تعالى: (فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ)، والثاني: أن هلاكهم بعد إيجادهم من عدم يستلزم اتصاف الله تعالى بالقدرة والإرادة، فدل على صحة قدرته على إعادتهم للحشر والنشر والحساب. قوله تعالى: {إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا ... (42)} شهادة منهم له بأنه قد أبلغ وسعه في تبليغ ما أمر به حتى قارب إضلالهم عن آلهتهم ولم يضلهم عنها، ومن قارب فعل الشيء ولم يفعله هو على نوعين: إما لعجزه عن طريق فعله، وإما لمانع وجده فيه يمنعه من فعله، والعجز هنا منتف فطريق الوجود، والمانع منهم يمنعهم من الضلال عن آلهتهم، فكذلك لولا أن صبرنا عليها، لأنها لَا تلزم إلا حيث يكون الكلام محتملا، تكون إن نافية ومخففة من الثقيلة، فيلزم اللام المخففة فرقا بينهما وبين النافية، والكلام هنا صريح أنها مخففة. قوله تعالى: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ ... (43)} قال الزمخشري: فيه تقديم وتأخير، أي: اتخذ هواه [آلهه*] وقدم لفظ الآلهة اعتناء به. ابن عرفة: الصواب ألا تقديم فيه بوجه؛ لأن المقدم في هذا التركيب منفي بثبوت المؤخر، كقولك: اتخذ زيد نومه مهجده، أي انسلخ عن نومه وصيره تهجدا، فهذا مدح، ولو عكستها تقول: اتخذ زيد تهجده نومه، أي انسلخ عن تهجده وصيره نوما، وكذلك قولك: اتخذ زيد تجارته عبادة فهذا مدح، ولو عكست لصار ذما، فالمراد هنا أنه انسلخ عن الآلهة وعبادته إلى اتباع هواه، ولو قال: اتخذ هواه آلهه لصار مدحا من ناحية أنه انسلخ عن هواه إلى عبادة آلهه، قيل لابن عرفة: إنما حمله الزمخشري على أنه جعل هواه حاكما عليه، فقال: إنما المعنى ما قلت لكم وهو الصواب، وكذلك

(44)

قوله تعالى: (وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا)، نقله من الاختصاص، بتسميه إبراهيم إلى الاختصاص بالخليل. قوله تعالى: (أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا). معطوف على مقدر، أي أنت تصده عن ذلك فتكون عليه وكيلا. قوله تعالى: {أَمْ تَحْسَبُ ... (44)} أم بمعنى بل والإضراب بها انتقال وتقدم، أن الانتقال إنما يكون من الشيء إلى شيء أبلغ منه في بابه إما مدح أو ذم، وبيان الأبلغية هنا أن الأول: ذم لهم بخطابهم في أمر تصديقي، وهو اتخاذهم آلهتهم هواهم، والثاني: ذم لهم بخطاياهم في التصور وهو أفج من الخطأ في التصديق، فإن قلت: [كيف عاند*] بين السمع والعقل وليسا بضدين؛ لأن السمع طريق للعقل، قلنا: أوجه المعاندة أن السمع أمر حسي، والعقل أمر وجداني. قوله تعالى: (إِنْ هُمْ إِلَّا كَالأَنْعَامِ). فرق كون الإنسان لَا يتصور حدوث العالم، وبين كونه يحكم بقدم العالم، فكونهم لَا يسمعون ولا يعقلون راجع لاتصافهم بقدم التصور القابل للزوال، وكونهم كالأنعام راجع لتصور النقيض الذي لَا يقبل الزوال، وهو الجهل المركب والأول بسيط. قوله تعالى: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا ... (50)} الضمير المفعول عائد على [مَاءً*] وتصرفه، إما أنزلناه بالفعل، أو بقدر، فالاتعاظ إنما هو بـ أنزلناه، فكان ابن عبد السلام يقول: هذا مصحح لما يقول المنطقيون من أن النتيجة ما تنشأ إلا عن مقدمتين فصاعدا؛ لأن تصديقه إنما هو بتنويعه، فالتذكر إنما حصل بتنوعه وتعدد أقسامه، فإن قلت: هلا قيل: صرفناه لهم، قال: عادتهم يجيبون: بأنه [إخبار*] بكمال خيبتهم؛ لأن تصريفه لهم فيه متعة لهم، مع أنهم حصل لهم بتصريفه نقيض ذلك، فلذلك قال بينهم. قوله تعالى: (فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا). [ولم يقل: فأبى أكثرهم*]، لأن العدول عن الضمير إلى الظاهر تأكيد في نسبة الكفر إليهم.

(51)

قال الزمخشري: وعن [ابن عباس*]: ما من عام أقل مطر من عام، بل الأعوام كلها متساوية، وإنما يختلف مجمل إنزال المطر، ينزل في بعض البلاد دون بعض، ويقل في بعض ويكثر في بعض. قال ابن عرفة: وهذا ما يمكن أن يقوله ابن عباس باجتهاده، وإنما هو مستند فيه إلى حديث سمعه من النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، قيل لابن عرفة: قد قال الزمخشري: إنه تلا هذه الآية، فكأنه استدل بها على ما قال، فقال ابن عرفة: لَا دليل فيها بوجه. قوله تعالى: {وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا ... (51)} أي لو شئنا، راحتك لبعثنا، ولكن أردنا تعبك في ذلك ليعظم لك الأجر والثواب. قوله تعالى: {فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ ... (52)} ليس المراد النهي عن طاعتهم، فيما يأمرونه، وإنَّمَا المراد النهي عن طاعتهم في لازم ذلك، كأنهم يأمرونهم باتباع آلهتهم، ومن لازم ذلك كفه عن جهادهم، وعن دعائهم إلى الإيمان بالله ورسوله. قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ ... (53)} البناء على الضمير للاختصاص، والإتيان بالموصول في الخير تأكيد في الاختصاص؛ لأن قولك: وهو الذي فعل كذا يفيد الاختصاص. قال ابن عرفة: فإن ابن عبد السلام حكى عن بعضهم في هذا، وفي قوله تعالى: (مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ) أنه كان يستشكل الآية، ويقول أولها مناقض لآخرها، فإن قوله تعالى: (مَرَجَ) يعني اختلاطهما، وقوله تعالى: (بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ) يقتضي افتراقهما، قال: [وأجيب*]: بأن افتراقهما بالذات لكون المالح لَا يزال عذبا، واختلاطهما بالحس والمشاهدة، وقد ذكروا أن في تضمنه واد يصب فيه البحر المالح أحيانا فلا يغيره، ويصب هو في البحر أحيانا فلا يغيره، قال: وعادتهم يقولون: الأصل يقال: لقيت رجلين أحدهما صالح والإتيان باسم الإشارة فرع عن اسم الظاهر، فلما قال: (هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ)، وكذلك في سورة القصص: (فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ

(54)

وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ)، قال: والجواب: أنه إن أريد التقسيم بالأمور العرضية فيؤتى باسم الإشارة، وإن أريد التعرض بالأمور الذاتية، فيقال: أحدهم كذا والآخر كذا، كما في حديث عبد الله بن عمر: " [فَاكْتَنَفْتُهُ أَنَا وَصَاحِبِي أَحَدُنَا عَنْ يَمِينِهِ، وَالْآخَرُ عَنْ شِمَالِهِ*] ". قوله تعالى: {وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا (54)} أي كان [ولم يزل*]، فإن أريد القدرة الصالحة فالمراد الدوام، وإن أريد القدرة الإيجادية فلا دوام لئلا يلزم قدم العالم.

سورة الشعراء

سُورَةُ الشُّعَرَاءِ قوله تعالى: {أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا ... (18)} قال ابن عرفة: إن قلت: ما وجه الربط بين هذه وبين قوله: (فِينَا)، قلت: أفاد الترتيب، تارة يكون للتعليم، وتارة يكون للاستخدام، فتربيته لنتخذه خديما فهذه نقمة، وتارة تكون نعمة، وهو أن يريه محبته وشفقته عليه، ولم يدخلها على ما بعد؛ لأنه يحنث عنه بالمخالفة، فإن قلت: ما أفاد قوله: (مِنْ عُمُرِكَ)، دلنا: لفظ العمر نعمة؛ لأنه مأخوذ من العمرى المذكورة في الفقه، فإنها هبة المنافع، وذلك نعمة، فإن قلت: هلا قال: ولبثت فينا من عمرك أعواما، فهو داخل في باب النعمة والامتنان، قلت: لفظ العمر تغني عنه. قوله تعالى: {وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ (19)} الظاهر أن الكفر فيه الإيمان، وحكى الآمدي وابن الحاجب عن المعتزلة امتناع اتصاف النبي بالكفر قبل النبوة وبعدها عقلا، وجوز عليهم ذلك أهل السنة عقلا، قالوا: لكنه لم يقع، وزعم فرعون أنه وقع، وهذا لَا أذكره بمحضر العوام، وهكذا هنا فإن الله تعالى عاصم من يريد بنبوته من كل بدع، ومن بعض الصغائر، وهي صغائر [الخسة*] فما بال الكفر، وهذا على أصل مذهبه. قوله تعالى: {قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ (20)} قال سيبويه: (إِذًا) جواب وجزاء، قال ابن الصفار: فهم الشلوبين على أنه شرط وجواب، فأخذ الجزاء بمعنى الشرط، فقوله: إِذًا أكرمك، لمن قال: أنا أزورك، معناه: إن تزرني أكرمك، قال في هذه الآية معناه: إن كنت فعلتها فأنا ضال، فلزمه إثبات الضلال لموسى صلى الله على نبينا محمد وعليه وعلى آلهما وسلم، وأجاب: بأن المعنى قوله: (وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ)، بالنعم فقال موسى عليه السلام: إن كنت كافرا بأنعمك فأنا ضال، أي جاهل بأن الوكزة تقتل القبطي، ورده ابن الصفار، بأن الكفر إذا ذكر مطلقا فهو ضد الإيمان، وإن أريد به [غيره*] قيد له، وكذلك إنما هو على هذا المعنى، ولو سلمناه ففيه عكس المعنى؛ لأنه إذا كان فعله ذلك كافرا بالنعمة عليه فليس من الضالين بل من المبين، وهذا [بناء*] على شرط وجواب، وقال: [لا يحتاج*] إلى هذا بل مراد سيبويه في (نعم) إنها عدة وتصديق، وذلك لَا يجتمع فيه بل هي تصديق لما مضى عدة في المستقبل، فقولك: نعم لمن قال: فعلت كذا تصديق، ولمن قال: افعله عدة، وكذلك إذا قال: أنا أزورك، فيقول: إِذًا أكرمك فهو جواب وجزاء، وإذا

(21)

قلت: لم أنا أكرمك، فهذا جواب خافيه، والآية لَا إشكال فيها على هذا؛ لأنه يقول: إذا فعلت وأنا جاهل فيكون قبيحا له واعتذارا بالجهل. [انتهي كلامه*]. قال ابن عرفة: عادتهم يفرقون بين نعم وإذا، وإن الجائية لازمة لإذا لَا تفارقها، وإنما اختلفوا في كونها جزاء بخلاف نعم، فإنها تارة تكون عدة وتارة تكون تصديقا، قال: وقول ابن الصفار لو كان كما قال الشلوبين لكان [ ... ] بإعادتهم يردون عليه بوجهين: الأول: مقصودة باعتبار حالها لَا باعتبار ما لها، ولذلك قال الفقهاء فيها: إذا ضرب الأب ولده يلكزه حتى مات أنه يقتص منه، خلاف غير الأب حتى أن بعض الطلبة يغلط ويقول: اللكزة لَا يقتص منها، إذا آلت إلى القتل، وليس كذلك، فقصد موسى الضربة ولم يقصد القتل. والثاني: أجاب بعض الطلبة: بأنه قصد القتل وظن أنه الحكم، ثم تبين له الحكم بخلاف ذلك. قال ابن عرفة: وعادتهم يقررون كونها جزاء، فإنها جزاء عن استغاثة من استغاثة من استغاثه، لقوله تعالى: (فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ)، فهي جزاء من استغاثة المستغيث له، قلت: قال صاحبنا ابن القصار: قوله واعتذاره بالجهل جزاء مشكل أن الجزاء غير الفعل، وهو هنا نفس الفعل، والمراد بالضالين إما المخاطبين والنَّاسين والذاهلين عن الصواب، وهذه معان متقاربة. قوله تعالى: {فَوَهَبَ ... (21)} الآن [نبوته*] ورسالته كان في زمن واحد. قوله تعالى: {أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (22)} قال الجوهري في الصحاح: التعبد الاستعباد، وهو أن يتخذه عبدا، وكذلك الاعتبار، وفي الحديث: "ورجل اعتبد محررا"، قلت: أي اتخذ عبدا وهو حر والاعتبار مثله، قال الشاعر: علام تعبدني قومي وقد كثرت ... فيهم أباعر ما شاءوا وعبدان قال ابن عرفة: وكذلك التعبد، قال الشاعر: تعبدني غير ابن سعد قطعته ... وغير ابن سعد لي مطيع ومقطع

(23)

أي اتخذني عبدا، وكان النَّاس يرونه عبدا مطيعا لأمري. قوله تعالى: {قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ (23)} إن قلت: لو أعاد الفاعل ظاهرا أو هو من تمام جملة تقدم ذكره فيها بدليل قوله: تقدم حرف العطف، قلنا: لقرابة مقالة القبح، ولذلك يقول ابن الحاجب: قالوا كذا، ويقول سيبويه: زعم الخليل فى قوله: انفرد به في الحسن والقبح. قوله تعالى: (وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ). وقال تعالى في طه: (فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى). قال ابن عرفة: السؤال بـ (مَنْ) عن الحقيقة باعتبار المعقول منها، والسؤال بـ (ما) عن الحقيقة على الإطلاق والإبهام. قال ابن عرفة: والحكماء قالوا: لَا يجوز إدراك [حقيقة الذات*] الكريمة والعلم، لأن ذلك [إما*] ضروري أو نظري، فلو كان ضروريا لعلمه كل، والنظري يعلم إما بالحد أو بالرسم، والحد مركب من الجنس والفصل، فيلزم عليه تركيب الذات الكريمة وهو محال، والرسم لَا [يفيد*] إدراك الحقيقة بوجه، ومذهب أكثر المتكلمين بأن إدراكها جائز عقلا غير واقع، قال ابن الخطيب في المطالب العالية: روي أن بعض الزنادقة قد أنكر الصانع عند جعفر بن محمد الصادق، فقال له جعفر: ما حرفتك؟ قال: التجارة، فقال: هل ركبت البحر؟ قال: نعم، قال: هل رأيت أهواله؟ قال: نعم، هاجت مرة رياح هائلة فكسرت السفينة، وغرق النَّاس، فتعلقت ببعض ألواحها وبقيت في ملاطم الأمواج حتى اندفعت إلى الساحل، قال له: فلما [ذهبت*] هذه الأشياء عنك أسلمت نفسك إلى الهلاك، أم كنت ترجوا النجاة؟ فقال: كنت أرجو النجاة، فقال: ممن كنت ترجوها؟ فسكت، فقال جعفر: من إلهك الذي كنت ترجو، هو الذي سلمك من الغرق، وهو مأخوذ من قوله تعالى: (فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ)، وكان أبو حنيفة شديداً على الدهرية، وكانوا ينتهزون الفرصة في قتله، بينما هو قاعد في مسجده يوما إذ هجم عليه جماعة بسيوفهم مسلولة وهموا بقتله، فقال: أجيبوا عن مسألة ثم افعلوا ما شئتم، فقالوا: هات، فقال: ما تقولون في رجل يقول لكم إني رأيت سفينة مملوءة بالأحمال والأثقال، أخذتها أمواج متلاطمة وأرياح مختلفة، وهي تجري مستوية ليس لها ملاح يجريها، هل يجوز ذلك بالعقل؟ فقالوا: لَا، فقال أبو حنيفة رضي الله عنه: يا سبحان الله، إذا لم يجز هذا، فكيف تجوز قيام هذه الدنيا على اختلاف أحوالها وسعة أطرافها

(30)

من غير مانع ولا حافظ؟! فسكتوا، وقال: صدقت، وقال: هذا مأخوذ من قوله تعالى: (اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيرِ عَمَدِ تَرَوْنَهَا)، ومن قوله تعالى: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ)، قال: وسئل الإمام الشافعي رضي الله عنه عن الدليلَ على [وُجُودِ الصَّانِعِ*] فقال: [ورق*] الفرصاد وطعمها ولونها وطيبها وريحها، تأكلها الدود فيخرج الإبريسم، ويأكلها النحل فيخرج [منه*] العسل، [وَتَأْكُلْهُ الظِّبَاءُ فَيَخْرُجُ مِنْهَا الْمِسْكُ*]، ويأكلها سائر الحيوانات، [فَتُلْقِيهِ بَعْرًا وَرَوَثًا*] (¬1)، قلت: الفرصاد هو التوت، فالذي دبر هذه الأحكام هو الله سبحانه وتعالى، قال: وسأل هارون الرشيد مالكا رضي الله عنه، فاستدل باختلاف الأصوات، وتردد النغمات، وتفاوت النبات، قال تعالى (وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ)، قال: وسئل أبو نواس عن هذا، فقال: تَأَمَّلْ في رِيَاضِ الرِّوضِ وانظر ... إلَى آثارِ مَا صَنَعَ المَلِيكُ عُيُونٍ مِنْ لجينٍ شاخصاتٍ ... بأحداقٍ كما الذَّهَب السَّبيك عَلَى قَضِيبِ الزَّبَرْجَدِ شَاهِداتٍ ... بأَنَّ اللهَ ليسَ لَهُ شَرِيك قوله تعالى: {قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ (30) قَالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (31)} قال الزمخشري: في هذه الآية دليل بها أنه لَا يأتي بالمعجزة إلا الصادق في دعواه، لأن المعجزة تصديق من الله تعالى لمدعي النبوة، [والحكيم*] لَا يصدِّق الكاذب، ومن العجب أن مثل فرعون عليه اللعنة لَا يخفى عليه هذا، ويخفى على ناس من أهل القبلة [حيث*] جوزوا [القبيح*] على الله تعالى حتى لزمهم تصديق الكاذبين [بالمعجزة*]. قال ابن عرفة: تقديره لو لم [يجزم*] العقل بحسن وبقبح؛ لصح صدور المعجزة على يد الكاذب، واللازم باطل والملزوم مثله، وأجاب الطيبي عن ذلك بأن قال: استقرأنا المعجزات كلها فوجدناها لَا تظهر إلا على يد الصادق. قال ابن عرفة: هذا الكلام دليل على ضعفه في أصول الدين، حيث لم يرد على الزمخشري إلا بالاستقراء، قال: والجواب عن كلام الزمخشري بوجهين: الأول: منع الملازمة؛ لأن دلالة المعجزة أن تنزلت منزلة صدق عبدي وظهورها على يد الكاذب كذب، فيلزم وقوع [الخلف*] في خبره تعالى، وهو باطل وإن لم يتنزل منزلة صدق عبدي فدلالتها إما عقلية أو عادية، والدلالة العقلية في العلوم العادية. الجواب الثاني: [بمنع*] الملازمة؛ لأن ظهور المعجزة على يد الكاذب يوجب [تباين الشيء بالشيء*]، وذلك باطل. ¬

_ (¬1) النص هكذا عند ابن كثير: "سُئِلَ عَنْ وُجُودِ الصَّانِعِ، فَقَالَ: هَذَا وَرَقُ التُّوتِ طَعْمُهُ وَاحِدٌ تَأْكُلُهُ الدُّودُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْإِبْرَيْسِمُ، وَتَأْكُلُهُ النَّحْلُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْعَسَلُ، وَتَأْكُلُهُ الشَّاةُ وَالْبَعِيرُ وَالْأَنْعَامُ فَتُلْقِيهِ بَعْرًا وَرَوَثًا، وَتَأْكُلْهُ الظِّبَاءُ فَيَخْرُجُ مِنْهَا الْمِسْكُ وَهُوَ شَيْءٌ وَاحِدٌ.". اهـ (تفسير ابن كثير. 1/ 197).

(32)

قوله تعالى: {فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ (32)} قال ابن عرفة: الرمي والطرح والإلقاء بمعنى واحد [ومن لغات القرآن الإلقاء*]؛ لأنه أبلغ في الدلالة على القصد، قال: وحمل الخبر على المبتدأ يكون على سبيل [المواطأة*]، مثل الإنسان عالم، ويكون على سبيل [التشبيه*] مثل: أبو يوسف، أبو حنيفة، والآية محتملة للثلاثة، قيل لابن عرفة: ليس فيها على سبيل المواطأة؛ لأن العصا ليست ثعبانا موجه، فقال: تدعى المواطأة باعتبار العصاة الملقاة [وهي ثعبان*]. قوله تعالى: {وَنَزَعَ يَدَهُ ... (33)} عبر بالنزع دون الإخراج، إشارة إلى أنه ينزل نفسه منزلة من فارق يده لشدة مخالفة [لونها للوْنِهِ*]. قوله تعالى: (فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ). قال: [وذَكَر في الأول ما لَمْ يذْكرْ في الثاني وبالعكس، فيحتملُ كونُهُ منْ حذْف التَّقابُلِ*]، أي ["ألقَى عَصاهُ فإذا هيَ ثعبانٌ مبينٌ لَلنَّاظرينَ، ونزَعَ يدَهُ فإذا هي بيضاءُ للناظرينَ مبينةٌ"*]، ومما يؤكد هذا أن المنطقيين ذكروا أنه لَا بد من الفاعل، [**والقائل لكرسي مثل خشبة فاعل، ونجاره فاعل]، وقوله تعالى: (فَإِذَا هِيَ)، صفة للفاعل، وقوله تعالى: (لِلنَّاظِرِينَ) صفة للفاعل الثاني؛ لأن الثعبان جرم كبير يدركه البصر؛ فلذلك قرن الأول بقوله تعالى: (مُبِينٌ)، والثاني بالنظر، والمعجزة أمر محسوس خارجي للعادة، والسحر أمر وهم محسوس، وقوله تعالى: (لِلنَّاظِرِينَ)، يشمل الحسي والمعنوي القلبي، فيكون من استعمال اللفظ المشترك في مفهوميه معا. قوله تعالى: {قَالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (34)} نص هذه المقالة لفرعون وحده، وقال في الأعراف (قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ) [نسبها*] للملأ دون فرعون، فأجاب أبو جعفر ابن الزبير: بأن المقابلة في تلك الآية وقعت بين موسى مع فرعون وقومه، وهنا وقعت بين موسى عليه السلام وفرعون فقط، وقال: [هنا*] [يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِ*]، وأسقطها في الأعراف، فأجاب: بأن القائل هنا فرعون، [وهو أحنق عليه من الملأ بجمعهم وأعظمهم بغضا له وكراهة لما جاء به موسى فأكد بقوله "بسحره"*] (¬1)، وهناك قالها الملأ من القوم؛ فلذلك لم يبالغوا في قولهم. قوله تعالى: {فَمَاذَا تَأْمُرُونَ (35)} ¬

_ (¬1) العبارة في المطبوع هكذا: "مراده ابن عرفة: يستحيل في قومه صالح في مقالته"، والتصويب من (ملاك التأويل. 1/ 215).

(36)

قال الزمخشري: هو في غاية [الإذلال*] من فرعون والانخفاض لَا سيما على مذهب المعتزلة، لأنهم يشترطون في الأمر [العلو*]، وخصوصيته ترجع إلى المتكلم بالأمر، وأهل السنة إنما [شرطوا الاستعلاء*] وخصوصيته ترجع إلى نفس الأمر. قوله تعالى: {قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ ... (36)} وقال ابن عرفة: إنما عبر بلفظ الإرجاء دون غيره دون لفظ التأخير والنظرة، مع أنهما مترادفان؛ لأن في مادة الإرجاء ما يدل على حصول الطمع؛ لأن الإنسان ما يترجى إلا ما يطمع في حصوله، قلت: ولهذا قال الإمام الغزالي رحمه الله: إن الطائع يترجى دخول الجنة، والعاصي يتمنى دخولها. قوله تعالى: {قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ (43)} قال ابن عرفة: عوائد الطلبة يقولون: إن المعجزة هي ظهور الأمر الخارق للعادة في الخارج وفي نفس الأمر، والسحر هو الأمر الوهمي المخالف لما في نفس الأمر، وجاءت هذه على عكس هذه القاعدة، لأنها إذا كانت بيضاء للناظرين فقط، فبياضها وهمي مخالف لما في نفس الأمر، وإن كان معجزة فهي بيضاء فقط؛ لأن بياضها موقوف على الناظرين من هولهم، ولما في نفس الأمر، قلت: لعل المراد بالناظرين النظر المعنوي، وهو التدبر فيها والتفكر في دلالتها. قوله تعالى: {فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (45)} قال ابن عطية: [روى البزي وفليح عن ابن كثير شد التاء وفتح اللام وشد القاف (تَّلَقَّفُ)، ويلزم على هذه القراءة إذا ابتدأ أن يجلب همزة الوصل وهمزة الوصل لا تدخل على الأفعال المضارعة كما لا تدخل على أسماء الفاعلين*]، مع أنه لم يقرأ بذلك إلا في الوصل. قوله تعالى: {فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (46)} قال الزمخشري: فاعل ألقي هو الله تعالى [بما خوّلهم من التوفيق. أو إيمانهم. أو ما عاينوا من المعجزات الباهرة*] ولك أن لَا تقدر فاعلا؛ لأن (أُلْقِيَ) بمعنى خروا وسقطوا. قال ابن عرفة: يريد أنهم ألقوا أنفسهم، وهذا يناسب مذهبه في أن الغالب خلق أفعاله. قوله تعالى: {قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (47)} انظر كيف [العلم*] كله حسن حتى السحر؛ لأن علمهم هو الذي هداهم إلى إيمانهم بموسى عليه الصلاة والسلام، والعالم إن كتم مِن علمه شيئا يختص به مما لا يجب له [**ليماريه على المعلم]، وحكي عن الشيخ أبي علي ناصر ابن البخاري: أنه كان

(49)

يقرئ ابن الحاجب [ ... ] فيه زيادات، فلما مات وجد عنده شرحه للشيرازي وفيه تلك الزيادات، ولقد دخلت على شيخنا ابن الحاجب في [**مرضه]، فجعلت أنظر في كتبه فمنعني من استيفاء النظر فيها، قال: لأن الشيخ يمتاز عن طلبته [بزيادات لأحراهم بها*]. قوله تعالى: {قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ ... (49)} قال ابن عرفة: كان [ابن*] عبد السلام ينقد على البرادعي في قوله في التهذيب [ويؤمر الْجُنُب*] بالوضوء قبل الغسل، فإن أخره بعده أجزأه، ويقال: إنما في أصل المدونة فإن غسل قبل وضوئه أجزأه، فظاهره أنه الغسل، وإن لم يؤمن [الحدث، فإن الوضوء*] أعم من الغسل، فبدل أبو سعيد اللفظ بلفظ لَا يدل على هذا، لأنك إذا قلت: جاء زيد قبل عمرو فإنه يقتضي الإخبار بمجيء زيد فقط، أعم من أن يكون عمرو جاء بعده ولم يجئ من أصل، ونظيره، قوله تعالى: (وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ) إذ لَا يقع بعد الطلاق مس، وكذلك قوله تعالى: (قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي)، لكن تلك الآية في جواب الشرط، والشرط لَا يدل على وقوع الشيء، ولا إمكان وقوعه، وهذه الآية من ذلك المعنى، لأن فرعون عليه اللعنة لم يقصد الإذن لهم بوجه لَا قبل الإيمان ولا بعده. قوله تعالى: {إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ (51)} لأن الموجب (أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ)، فالجواب: أنه أفاد الوعد بالنظرة مطلقا سواء اتبعهم أو لم يتبعهم؛ لأن الوعد بالنظرة إذا كان مطلقا غير مقيد بالإتباع لا تحصل الطمأنينة لإمكان كونه في نفس الآية يقدر بعدم الاتباع، فإذا هم ينصرون عليهم، وإن اتبعوهم، قيل لابن عرفة: سواء متعد، فإذا دخلت عليه الهمزة صار متعديا بنفسه، فلم جمع بين الهمزة والباء، فقال: ذكر الجوهري في [سرى وأسرى بمعنى واحد*]، وقال السهيلي: في أول سورة الإسراء ذكروا أنهما غير متعدين، وهو غير صحيح، وإنما زعموا ذلك لعدم ذكر مفعول أسرى مع أنه مقدر تقديره: (سُبْحَانَ الَّذِي أسْرَى)، أي بعبده، إلى أن قال: (لَيلا)، سلمنا أنه متعد لكن الباء هنا ليست للتعدية، فلذلك صح الجمع بينهما. قوله تعالى: {إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (54)}

(59)

الشرذمة تقليل لهم باعتبار العدد. قوله تعالى: {كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (59)} شبه حالتهم المعقولة بحالتهم المحسوسة. قوله تعالى: (أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ ... (63) .. ، ولم يقل فضرب فانفلق، وكذلك في سورة البقرة (فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ)، وفيِ الأعراف: {فَانْبَجَسَتْ)، ولم يقل: فضرب، وفي طه (أَلْقِهَا يَا مُوسَى (19)} فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى)، فذكر فعل المطاوع في طه، ولم يذكره في الآخر، قال: فعادتهم يجيبون: بأنه إن كان الحادث عن الضرب مما يعهد في الخارج صدوره منه لم يحتج إلى إبراز الفعل المطاوع، كالحجر يعهد عادة بخلاف صيرورة [الأجسام*]، [فإن*] انقلاب الأجسام غير معهود، وكان بعضهم يضمر في الآية فعلين [أي: ضربَهُ وفلقَهُ فانفلق*]؛ لأن فعل المطاوعة يفيد تقدم فعل عليه فهو مطاوع له، وقال تعالى (اضرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ). ينفلق فضربه فانفلق. قوله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً ... (67)} الإشارة إلى المجموع باعتبار الكلي والكلية، فهل كل جزء من ذلك أو مجموع ذلك آية؟ قوله تعالى: {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78)} قال أبو حيان: أجاز الْحَوْفِيُّ: أن يكون (الَّذِي) مبتدأ، و [(فَهُوَ يَهْدِينِ)] ابْتِدَاءٌ [وَخَبَرٌ فِي مَوْضِعِ الْخَبَرِ عَنِ الَّذِي*]، ودخلت الفاء لما في الكلام من معنى الشرط، ورد بأن الموضع هنا خاص، فليس فيه معنى الشرط، فليس نظير الذي يأتيني فله درهم، وأيضا فليس الفعل الذي هو (خَلَقَ) لَا يُمْكِنُ فِيهِ [تَحَدُّدٌ بِالنِّسْبَةِ*] إلى إبراهيم عليه السلام، قلت: وكذا قال أبو حيان، في قوله تعالى: (أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ) إن الفاء إنما تدخل في خبر الموصول إذا كان عائداً وفيه معنى التعليل، وعادتهم يردون عليه بهذه الآية؛ لأنه ليس يعلم وليس الخلق علة في الهداية، [وإلا*] لزم عليه مذهب المعتزلة في [أن*] خالق لجميع النَّاس عندهم منزه عن فعل القبيح وإرادته، ونحن نقول: خلق جميعهم ليهدي بعضهم ويضل بعضهم؛ لأنه يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد سبحانه وتعالى، وأجيب: بأن المراد الذي خلقني على هذه الصفة الخاصة فهو يهديني، فذلك الخلق الخاص سبب في الهداية، وانظر

(105)

ما تقدم في سورة قد أفلح، في قوله تعالى: (ثَقُلَتْ مَوَازينُهُ). قوله تعالى: {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ (105)} إنما جمع المرسلين بناء على أن آدم عليه الصلاة والسلام رسول، وكذلك إدريس عليه السلام رسول، وهو سابق على نوح عليه السلام، ولأنهم إذا كذبوا نوحا فقد كذبوا المرسلين، لأنهم جاءوا بمثل ما جاء به نوح عليهم السلام، ولأن المعجزات متحدة، فتكذيبهم لمن جاء بشيء منها تكذيب للجميع، [وجمعه*] باعتبار تفسير حالاته، فهو في حالة يدعوهم إلى الله بشيرا، وفي حالة يدعوهم إلى الله نذيرا مخوفا، كقوله: [فقلت اجعلي ضوء الفراقد كلّها ... يمينا ومهوى النّسر من عن شمالك*] قوله تعالى: {وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ ... (109)} .. ، ولم يقل: ما أقبل منكم عليه أجرا، فهو أعم؛ لأن الدعاء إلى الله تعالى وطلب الامتثال له يقتضي التشوف للأجر على ذلك، فلهذا قال: (وَمَا أسْأَلُكُم). قوله تعالى: {قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ (111)} أي أنؤمن لك حالة كونك اتبعك أراذل النَّاس؟ فلا يرضى بحالهم في الإيمان بك. قوله تعالى: {وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (112)} وتقرير هذا الجواب بوجهين: الأول: أنكم وقفتم مع الأمر العادي الدنيوي في كون قومي المتبعين [لي*] متصفين بأرذل الصنائع، وأنا وقفت مع العادي [الديني*]، لأنهم وإن كانوا أرذل في الظاهر، فهم أخيار في الباطن؛ لاتصافهم بالإيمان والعمل الصالح. الوجه الثاني: أنه تقرر في [العقول أن الأمرين إن تساويا*] يستحيل ترجيح أحدهما على الآخر، وهؤلاء رجحوا المرجوح؛ كأنهم رجحوا الاتصاف بأرذل الصنائع على أشرفها، فاختار الحياكة، والحجامة، والجزارة، وهي أرذل الصفات فلا عقل له، فكيف يتبع من لَا عقل له؟ فأجابهم نوح عليه السلام: بأنهم لعل لهم علما بالسبب المرجح لذلك غيره، أي: وما علمي بسبب ما كانوا يعملون، فما رجحوا علم ذلك إلا لسبب خفي ظهر لهم ولم يظهر لكم. قوله تعالى: {كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ (160)}

(165)

التكذيب إما لحكم بعدم مطابقة الخبر للمخبر عنه، أو عدم الحكم بالمطابقة، وينبني على هذا أن الشاك هل هو مكذب أم لَا؟ وفي الآية إشكال: وهو أن التكذيب لا يصح أن يكون متعلقه (أَلَا تَتَّقُونَ)؛ لأنه طلب غير محتمل للصدق والكذب، ولا يصح أن يرجع لقوله تعالى: (إِنِّي لَكُم رَسُولٌ أَمِينٌ)؛ لأنه تعليل لذلك الطلب وتابع له، وليس مقصود بالذات، والجواب أنهم كذبوه في دعوى الرسالة المستلزم لتكذيبهم في كل ما جاء به. قوله تعالى: {أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ (165) وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ ... (166)} قيل لشيخنا ابن عرفة: هذا استفهام في معنى الإنكار عليهم، فإن تسلط الإنكار على كل واحد من المحتملين لزم عليه مخالفة القاعدة الشرعية، وهي اعتقاد وجوب النكاح لأجل ذمه على تركه، والذم على الترك من خصائص الوجوب، وإن تسلط على مجموع الجملتين [يفيد*] الجملة الجمعية، لزم عليه مخالفة القاعدة الشرعية، وهي اعتقاد وجوب النكاح لأجل ذمهم إن كان كون الثاني منصوبا فنحذف النون، مثل: لا تأكل السمك وتشرب اللبن، وأجاب ابن عرفة: باختيار الأول، ويكون الذم على ترك وطء الأزواج التي انعقد عليهن النكاح؛ لأن ذلك يصير حقا لهن عليهم فهو واجب، ونقول: بأن النكاح كان واجبا عليهم، لأنهم تركوه وهم واجدون الطول، قادرون على [**تزويج الحرام] وقد وقعوا في الزنا واللواط، وإما بأن نقول تسلط الإنكار على الجملة الأولى فقط، وهو أحد وجهين: الرفع: من جواب الاستفهام أنه على الاستئناف، لكن فيه حذف الجملة الخبرية على الطلبية، وهو ممتنع عند أهل علم البيان، وأجازه جماعة من النحويين، قال ابن أبي الربيع: والصحيح منعه، قلت: هذا الجواب مجموع من كلام شيخنا ابن عرفة، وصاحبنا ابن القصار. قوله تعالى: (كَذَّبَتْ ثَمُودُ)، قال ابن عرفة: إنما هو في الخبر ومتعلقه هنا أمرا، لكن الجواب أن تكذيبهم له في دعوى الرسالة يستلزم عدم اشتمالهم أمره. قوله تعالى: (نَافَةٌ لَهَا شِرْبٌ). فيه الحذف من الأول لدلالة الثاني عليه، أي لها شرب يوم معلوم، ولكم شرب يوم معلوم.

(181)

قوله تعالى: {أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ (181) وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ (182)} عبر عن الأول بالوفاء؛ لأنه الزيادة للقدر الواجب إذ هو محتاج إلى محاولة وتكلف مما [لا يتوصل فيه إلى تحقيق الخروج من العهدة إلا بالزيادة*] من القدر الواجب بخلاف القسطاس، فإنه يمكن فيه بتحقيق الخروج من العهد من غير زيادة. قوله تعالى: {كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (200)} قال الزمخشري: أي على مثل هذه الحال من الكفر به، ومعناه في قلوبهم فلا يتغير وأعماهم عليه بوجه، قال: فإن قلت: كيف أسند السلك بصفة التكذيب إلى نفسه، وهو منزه عن القبائح؟ قلنا: أراد الدلالة على تمكنه في قلوبهم، وإنه أمر [جبلوا عليه*]. قال ابن عرفة: وعلى مذهبنا لَا يحتاج إلى هذا السؤال. قوله تعالى: {لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (201)} من باب نفي الشيء بإيجابه، أي حتى يروا العذاب فيؤمنوا فلا ينفعهم إيمانهم. قوله تعالى: {فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً ... (202)} قال ابن عرفة: عادتهم يقولون: إن فيها تناقضا؛ لأنهم إذا رأو العذاب لم يكن إتيانهم بغتة؛ لأن البغتة هو إتيان الشيء على [غفلة*] من غير شعور به، قال: وأجيب بأنهم يرونه بعيدا منهم فيظنون أنه غير واقع بهم فينزل بهم بغتة، أي يراد بإتيانه لهم بغتة، بمعنى أنهم لَا يرونه حتى ينزل بهم. قوله تعالى: {وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ (210)} وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ) قال ابن عرفة: تنزل بعض من نزل؛ لأنه يقتضي تكلف الفعل بمشقة، ونفي الأخص لَا يستلزم نفي الأعم، لكنه هنا يستلزمه من باب أحرى، لأنه إذا نفى تنزيلهم لهم بمشقة فأحرى بغير مشقة، لأنهم إذا لم يقدروا عليه بمشقة فأحرى بغير مشقة. قوله تعالى: {وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ ... (211)} أي وما يمكنهم فعله في أنفسهم، (وَمَا يَسْتَطِيعُونَ)، أي: ولا يجدون معينا على فعله، فالأول: يقتضي فعل قبولهم بفعله [بخاصة*] أنفسهم، والثاني: اقتضى تعين قبولهم بفعله [بمعينٍ*] عليه.

(213)

قوله تعالى: {فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ ... (213)} هو من باب السلب، مثل: الحائط لَا يبصر لَا من باب العدم والملكة، مثل: زيد لا يبصر. قوله تعالى: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ (221) تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (222)} أي هنا (تَنَزَّلُ) هذا مضارعا، وقال قبله، (وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ) فأتى به ماضيا، قال: والجواب: أن الماضي معلوم لكونه [مشاهدا مرئيا*]، والمستقبل غير معلوم، فلذلك أتى به في جملة الاستفهام المقتضية للجهل بالمسئول عنه. * * *

سورة النمل

سُورَةُ النَّمْلِ قوله تعالى: {هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (2)} ابن عرفة: لف ونشر، فمن حيث كونه قرآنا معجزا هو هدى، ومن حيث كونه كتابا مشتملا على البشارة والنذارة هو بشرى للمؤمنين. قوله تعالى: {تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ (1)} من عطف الصفات. قوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ ... (6)} وقال المفسرون: معناه تؤتى وتعطى. قال ابن عرفة: بل هو أخص من ذلك، فإن التلقي فيه الإيماء لتقدم سبب له في ذلك. قوله تعالى: (مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ). إشارة إلى كمال قربه منه قرب [منزلة ومكانة*]، فإن قلت: الحكمة تستلزم العلم بخلاف العكس، فهلا قال: (مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ)، فيكون تأسيسا، ثم أجاب ابن عرفة: بأنه قصد التشبيه على وصفه بالعلم مرتين: بالمطابقة وباللزوم. قوله تعالى: {سَآتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ ... (7)} وقال تعالى في القصص (لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ)، فإن كانت قصتان في موطنين [فلا سؤال*]، والظاهر أنها قصة واحدة، لكن الجواب: أن المخالفة بين الخبرين: تارة ترجع إلى نفس الخبر، وتارة ترجع إلى لازمه، مثال الأول: قد [قرئ*] في هذا البيت، ثم تقول: قرأ في البيت سورة يس، فهذا لَا تناقض فيها، لأنها مخالفة بالعموم والخصوص، وتارة تقول: قد [قرئ*] في هذا البيت لكن لَا يسمع، ويقول آخر: قد [قرئ*] في هذا البيت ليسمع، فهذا [تناقض*] ولا شك أن آية سورة النمل محققة لدخول [اليقين*]، وآية القصص [محققة لدخول الترجي*] بـ لعل. قوله تعالى: {يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9)}

(10)

قال الزمخشري: [الهاء في إِنَّهُ يجوز أن يكون ضمير الشأن*]، والثاني، [وأن يكون راجعا إلى ما دل عليه ما قبله، يعنى: أنّ مكلمك أنا، والله بيان لـ أنا*]، ورده أبو حيان: بأن الفعل إذا حذف لَا يصح عود الضمير عليه بوجه، ونودي لما بني للمفعول حذف فاعله، وأجاب بعض الطلبة: بقوله تعالى: (قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ (4) النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ (5) إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ)، وقوله تعالى: (وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ) عائد على القائلين، وحذف الفاعل، في قوله تعالى: (قُتِلَ)، فقال ابن عرفة: هذا في جملة أخرى، فظاهر كلام أبي حيان جوازه، وقول الزمخشري: [يعنى: أنّ مكلمك أنا*]، أي المناسب لمذهبه، أن يقول: أنا مناديك أنا؛ لأنه ينفي الكلام القديم. قوله تعالى: {فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ ... (10)} الاهتزاز أوائل الحركة. قوله تعالى: (كَأَنَّهَا جَانٌّ). قال ابن عرفة: بهذه الآية يقع الجمع بين قوله تعالى: (فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى)، وبين قوله تعالى: (فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ)، فشبهها بالثعبان في عظم جرمها، وبالحية، وإن كانت صغيرة الجرم في سرعة حركتها، فهو استعارة، أو يقال: إنها في أول حالها حية، ثم عظمت وصارت ثعبانا. قوله تعالى: (إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ). قال ابن عرفة: كان ابن عبد السلام يردد في هذا أن هذه قضية كلية، أي كل مرسل لَا يخاف، والقضية الأولى [موجبة جزئية*]، وهو قوله تعالى: (وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ)، فدل على أنه خاف، قال: وتقدم الجواب بوجهين: إما أنه لم يكن حينئذ رسولا، وإنما أرسل بعد ذلك. وإما أنه ليس المراد نفي الخوف؛ لأنه أمر [جِبلِّي*] لَا يقدر الإنسان على دفعه، وإنما المراد لازمه، أي كن آمنا مطمئنا، فإن رسلي يؤمَّنون من كل ما يخافون. قوله تعالى: {إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ... (11)}

(15)

قيل: إن (إِلا) بمعنى الواو، وكما قالوا في قوله تعالى: (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ). قوله تعالى: (ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ). ثم بدل لظلمه حسنا، ويؤخذ من الآية، أن قاتل النفس في المشيئة، ورده ابن عرفة بأن هذه عامة، وآية القتل خاصة، والخاص يقضي على العام. قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالَا ... (15)} [قال*] القاضي ابن عبد الرفيع: قال الفقيه أبو عبد الله محمد [**إنه كان مقصور القرى بالتنوين في الأصل]. قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ ... (18)} ابن عرفة: قالوا: إذا قلت: مشيت حتى إذا لقيت زيدا يقتضي أول الملاقاة، بخلاف قولك: مشيت حتى لقيت زيدا، قيل له: فسره ابن عطية بوجهين: أحدهما أنهم أتوا على جميع الوادي، وقطعوا مسافاته، فقال: هذا لَا يحمل على ظاهره ولا بد من تأويله؛ لأن النملة حذرت صواحباتها منه، فدل على أنهم حينئذ لم يكونوا قط مواشيا من الوادي، ولو أتوا عليه لما بقي للتحذير منهم فائدة. قوله تعالى: {وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ ... (20)} هذا إما من الفقاد كما يتفقد السلطان حالة رعيته، وإما من الفقدان وهو عدم الوجدان، ونقل ابن عطية أن نافع بن الأزرق قد سمع ابن عباس يقول: إن الهدهد نظر إلى باطن الأرض ورأى الماء من كذا كذا إقامة، فقال له: كيف يشاهد باطن الأرض ولا يرى الفخ، فقال: [إذا جاء القدر عمي البصر*]. قال ابن عرفة: إنما جوابه يرى الفخ والحب الذي فيه، وجهل ما فيه من [الحيلة*] ولا يرى ما عاقبة أمره. قال ابن عرفة: والظاهر أن المراد جميع جنس الهدهد؛ لأنه هدهد واحد بدليل ما حكوا أن أحد الهداهد كلم حبر بلقيس، وأعلم به نزل إليه [رئيس الهداهد*] وسلطانها، فأخبره بذلك أيضا لتحقق الخبر، فالظاهر أن جميع الهداهد مضت معه، فلذلك جلا موضعها، ودخلت منه الشمس انفرد يقول، وقالا: مصدر معطوف على علما، أي آتينا داود وسليمان علما، وقالا: الحمد له، قال: فقلت وقوله تعالى: (لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا)، أتى بالموجب ثم بالمانع.

(28)

قوله تعالى: {ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ (28)} يحتمل أن يكون من النظر أو من الانتظار. قال ابن عرفة: وعادتهم يوردون هنا سؤالا وهو: هلا قال: فانظر ماذا يجيبون؟ فإن الجواب للكتاب أخص من الرجوع، قال: وعادتهم يجيبون: بأن [الكاتب*] إن كان له اعتناء بالمبعوث إليه، [وأراد*] بعين الكتاب [الاعتبار*]، ونزل منزلة [المساوي له*] في درجته، سمي ما يصدر عنه بعد قراءة كتابه جوابا، [وإن [أراد*] بعين [الصغار والاحتقار*] جعله في رتبة الرسول الحامل للكتاب، وكان جوابه إنما هو الرسول، فسمي ما يصدر منه له مراجعة، وكذا سليمان عليه السلام حال بلقيس وملكها بالنسبة إلى ملكه، فجعل جوابها [كأنه*] لرسوله؛ [لا له]. قوله تعالى: {فِي أَمْرِي ... (32)} أي في شأني. قوله تعالى: {قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ ... (34)} جمعتهم إما باعتبار الملوك الماضية، وإمَّا باعتبار ما يأتي، وإمَّا باعتبار إنما لم يكن على تقدير أن لو كان كيف كان يكون. قوله تعالى: {وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ ... (35)} جمعتهم إما لرجوع الضمير للملوك، وإمَّا تعظيما لسليمان، وإمَّا اعتبارا به وبخاصته. قوله تعالى: {فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ ... (36)} وقرئ (وما آتاني الله خير). قال الزمخشري: والفرق بين العطف بالفاء والواو، أن الإنكار تارة يتسلط على السببية، كقولك: لَا تأكل السمك وتشرب اللبن، فإن أردت تجهيله في الكتب عطفته بالفاء؛ لأنه تارة يكون يشرب اللبن ظانا أنه ماء، فإذا هو لبن فهذا جهل السبب، وتارة يعلم أنه لبن ويجهل أنه إذا اجتمع في البطن مع السمك يضر، فهذا جهل السببية، وكذلك تقول: تعطي زيدا الدراهم وهو غني، فإن كان المعطي يجهل أنه غني فهو جاهل للسببية، وإن علم أنه غني، وجهل أن الغنى مانع من إعطاء الزكاة له فهذا يجهل السببية.

(38)

ابن عرفة: قال: وإن كان السبب أقوى من إنكار السببية، فهذا كالجهل المركب بخلاف العكس فلذلك عطفه في الآية بالفاء دون الواو. قوله تعالى: {قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا ... (38)} قال ابن عرفة: عبر بلفظ الملأ ولم يقل: يا أيها الجند؛ لأن الملأ هم الأشراف، وهو إنما خاطب بذلك من له قوة وعلم، ولفظ الملأ يشمل من جمع الأمرين ومن اتصف بأحدهما، ولم يتناول رعاع النَّاس بوجه. قوله تعالى: (أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا). إشارة إلى أنه علم أن فيهم من يأتيه بعرشها، وإنما طلب منهم تنبيه فقط، ولو قال: هل فيكم من يأتيني بعرشها لكان شاكا، هل فيهم من يقدر على الإتيان به أم لَا؟ قوله تعالى: {وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ (39)} ابن عرفة: قالوا: هذا يقتضي ذم الدعوى، وكل مدع فدعواه توقع إلا إذا كان لدعواه موجب، كقول يوسف عليه السلام (اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ)، فإن موجب ذلك القيام بالحكم الشرعي ليوصل كل ذي حق لما حقه. قوله تعالى: {لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ ... (40)} قال الأصوليون من أهل الفقه: أفعال الله غير معللة، وما ورد من تعليلها، فإنما هو باعتبار الربط العادي، وأحكامه فيها قولان: هل هي معللة أم لَا؟ ولهذا قال ابن الحاجب: مسألتان على التنزيل، أي على النزل مع الخصم إلى مذهبه في قاعدة التحسين والتقبيح. قوله تعالى: {قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا ... (41)} قال الأصوليون: إذا كان إسقاط بعض الألفاظ لَا يخل بالمعنى فإثباته حشو لا فائدة له، فحينئذ يقول: ما أفاد قوله لها؟ قلنا: أفاد أن تنكيره إنما هو لمن ينكر بعرف، ويحيط به بأنها نكرة لها لأنها أعرف النَّاس به. قوله تعالى: (نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ). وليس هو بمعنى التفكر، وإنما المراد [نختبر أو نعلم أو ننتظر اهتداءها*]، وأم هنا متصلة، وهي التي يقع بعدها المفرد، أو ما هو في قوته، فإن قلت: قال ننظر أتهتدي أم لَا، كما تقدم السؤال، في قوله تعالى: (أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ)، لكن

(42)

الجواب هنا عكس الجواب هناك، وهو أن تلك الآية خرجت مخرج التشديد على الهدهد، وهذه خرجت مخرج التلطف ببلقيس أنه هنا بمجرد كذبة واحدة يحصل في ملأ الكاذبين، والجواب هنا: أي في هذه العبارة رفق بها وتلطف، قال: لأن الحكم إذا كان موقوفا على أمرين متفاوتين، فإن كان جانب الذم فيها أشد وأرجح يحصل منها مطلق اهتداء ويتصف بأقبح ما يكون، فخرجت هذه الآية مخرج التلطف والتخفيف عليها. قوله تعالى: {قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ ... (42)} ولم يقل: هذا عرشك. قال الزمخشري: لئلا يكون تلقينا وتفهيما، وقال ابن عرفة: بل هو إشارة إلى أن السؤال عن مثل الشيء أخف على المسئول من السؤال عن ذات الشيء نفسه؛ لأنه أقرب إلى المعرفة، فيجد كثيرا من يقول: هذا مثل زيد، ولا يجد من يقول: هو زيد. قوله تعالى: (قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ). انظر هل المعنى كان هذا هو عرشي أو كان عرشي هو، هذا الظاهر الثاني لمشاكلة السؤال؛ لأن المعنى أعرشك مثل هذا؟ قالت: كان عرشي مثله. قوله تعالى: {قَالَ يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ ... (46)} قال ابن عرفة: السؤال بالهمزة عن ذات الفعل، والسؤال بقوله: لم عن علة الفعل وسببه، فما السر في العدول عن الهمزة إلى اللام؟ وأجاب بأنه تقدم. قوله تعالى: (فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ). ومن [نصب*] نفسه منصب المخاصمة، فهو عارف بالحجة، لذلك سألهم عن علة الاستعجال ودليله لَا عن نفسه. قوله تعالى: {أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (54)} أي تعلمون أنها فاحشة. وقال الفخر؛ العالم لَا تصدر منه معصية أصلا، فإذا عصى فهو جاهل؛ لأنه يرجح المرجوح، وترجيح المرجوح جهل، فلذلك قال لهم لوط عليه السلام (بَلْ أنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُون)، قال: والإطناب بـ بل إضراب انتقال، والانتقال في باب الذم، إنما يكون على أمر خفيف إلى ما هو أشد منه، وقدر بعضهم الأشدية هنا بأن الضرب عنه رافع

(59)

للقوة الحسية العملية، وهي منقطعة عن ذلك الفعل، والثاني: راجع للقوة العلمية، وهي دائمة؛ لأن العلم بالشيء دائم، والعمل به منقطع غير دائم. قوله تعالى: {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ ... (59)} الأكثرون على أنه خطاب للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ومثل هذا في القرآن، وهو صلى الله عليه وعلى آله وسلم مأمور بتبليغ لفظه لأمته وبالعمل به، وعرف الحمد بالألف واللام لجنسيته. قوله تعالى: (الَّذِينَ اصْطَفَى). أي اصطفى خاصا؛ لأن عموم الاصطفاء يصدق على الطائع وعلى العاصي، قال الله تعالى: (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ). قوله تعالى: {أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ ... (60)} قال ابن عرفة: كرر هذه اللفظة تنبيها لها على أن القدرة على الخلق فالاختراع صفة خاصة بالله تعالى بمنزلة تبيين الشيخ للتلميذ واختار أنها صفة معنوية، وأن الله تعالى ليست له صفة تخصه سبحانه وتعالى. قوله تعالى: (مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا). أي ما يمكنكم وما ينبغي لكم ذلك، وهذا استدلال على وحدانية الله تعالى بالحدوث، وفيه أربعة مذاهب للأصوليين: أحدها: أن دليلها لوحدانية الإمكان، الثاني: دليلها الحدوث، الثالث: بها والحدوث شرط، الرابع: هما والحدوث شرط. قوله تعالى: {أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا ... (61)} إن أريد أنها ذات قرار في نفسها فلا كلام، وإن أريد أنها قرار لغيرها أي محل الاستقرار عليها، فهي حال مقدرة؛ لأن الحكماء قالوا: إن المعمور البعض، لأن الاستقرار على أقلها وأكثرها غير معمور، فهي حياة الخلق حال مقدرة، أو يقال: إنها ليست حالا مقدرة، لأن الحكماء قالوا: إن المعمور منها أقلها وأكثرها يستحيل عمارته، فبعضه لشدة برده، وبعضه لشدة حره، إلا أن يجاب بما قال الفخر الرازي: إن الأرض على الماء، وفيها قولان: قيل: ساكنة، وقيل: إنها متحركة وليست بساكنة، فقد تبدل جهاتها فيصير غير المعمور فيها معمورا.

(63)

قوله تعالى: (وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا). قال ابن عرفة: بين إما ظرف وإلا مفعول، وهل البين بنفسه هو الحاجز، أو شيء آخر يحل فيه، وكان بعضهم يرجح الأول خوف التسلسل وتداخل الأجسام؛ لأنه إذا كان الحاجز بينهما شيئا آخر فما الحاجز بين ذلك الشيء وبينهما، فإِن كان شيء آخر فتسلسل الأمر، وإن لم يكن ثم حاجز لزم تداخل الأجسام وعدم الحاجز قرئ في كمال الفرد. قوله تعالى: {أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ ... (63)} قال ابن عرفة: عادة الطلبة يقولون: لأي شيء أعاد المسند إليه هنا ولم يعده، في قوله تعالى: (أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا). ولم يقل: ومن جعل خلالها أنهارا، وقال: وتقدم الجواب بأن المعطوفات في الأولين منحصرة في نوع واحد؛ لأن الهداية راجعة إلى القوة العلمية، وإرسال الرياح راجع إلى أثر القدرة. قوله تعالى: (عَمَّا يُشرِكُونَ). إنما ذكر الإشراك هنا، بقوله تعالى: (وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ)، فالإنسان في لجج البحار يستحضر مقام التوحيد، ويلقي اعتقاد التشريك، فناسب أن يعقب بتنزيه الله على نقيض ذلك. قوله تعالى: {ثُمَّ يُعِيدُهُ ... (64)} ابن عرفة: هو على تقدير مضمر، أي ثم يميته ثم يعيده، وأورد الزمخشري: أنهم ينكرون الإعادة، فكيف ينكر عليهم عدم الإيمان ممن يعيدهم؟ وأجاب: بأن الدلائل الدالة على الإعادة قائمة عليهم. قال ابن عرفة: وإذا بنينا على هذا الجواب يكون في الآية حجة على المعتزلة، لأنا أجمعنا نحن وهم على جواز الإعادة عقلا، واختلفنا في وجوب وقوعها، فهم قالوا: إنها واجبة عقلا بناء على قاعدة التحسين والتقبيح العقليين عندهم، ونحن نقول: وقوعها واجب بالسمع، وهو إخبار الشارع بوقوعها لَا بالعقل. قوله تعالى: (أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ).

(65)

إنما تم تقدير ذلك مع ظهور الدلائل العقلية على وجوب الإعادة، قيل لابن عرفة: يلزمك أن يكون ابتداء الخلق واجبا عقلا، ولم يقل به أحد، فقال: قد تقرر أن الثاني من الشرطيات لازم للأول، ولا يلزم من وقوعه وقوع الأول. قال ابن عرفة: إلا أن يجاب بالإعادة راجعة للأعراض على القول، بأن العرض لا يبقى زمانين إلا أن يقال: إنه لَا يعاد بعينه بل [يُعدم*] ويخلق مثله إلا على قول من يجيز [إعادة*] المعدوم بعينه، والخلق المراد به المخلوق. قوله تعالى: (قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ). قال الزمخشري: برهانكم على نفي الإعادة، فإن قلت: لنا في الشيء لَا يطلب بإقامة الدليل على نفيه، قلت: النفي على قسمين: نفي لما يثبت، فهذا لَا يطلب صاحبه بدليل. ونفي لما قام الدليل على ثبوته، فهذا يطلب صاحبه بالدليل. قوله تعالى: {قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ ... (65)} قالوا: سبب نزولها أن الكفار سألوا النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم عن وقت القيامة التي وعدهم بها. قال ابن عرفة: الألف واللام في الغيب للعهد، أي الغيب المسئول عنه، أو هو عام المراد به الخصوص، فهم ظنوا أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يعلم المغيبات، ولا يخفى عليه منها شيء فأخبر الله تعالى أنه لَا يعلم إلا ما علمه الله، وإن هذا من الغيب الذي استأثر الله بعلمه، ولم يطلع عليه أحد فيكون فيه حجة لأحد القولين، بأن الكرامة لَا تتعلق بعلم ذلك، ولا يطلع عليه ولي، ويحتمل أن يقال الغيب على نوعين: غيب ينصب عليه دليل وإمارة، وغيب لم ينصب عليه دليل، فالأول: كمن يمشي في طريق لَا يخبرها فيعلم مواضع الماء وقربه من بعد النبات. والثاني: كدفين في الأرض لَا يخبرها إلا الشق، فإنه لَا دليل له على موضعه، وهذا من الغيب الذي ينصب عليه دليل، وذكر ابن عرفة إعراب الزمخشري واستشكاله الآية، والسؤال الذي أورده وقرره، فإنه من المذهب الذي يؤتى فيه بالحكم مقرونا بدليل، قال: وحاصله أن المراد نفي علم ذلك عمن سوى الله، ولا يحتاج إلى إثبات العلم به لله تعالى، فإنهم لم يخالفوا به، قال: ويحتمل أن يكون من في السماوات والأرض مفعولا للعلم والغيب، إما حال منه بناء على القول بصحة إثبات الحال معرفة، وأما بدل منه بدل اشتمال؛ لأن الغيب مشتمل على من في السماوات والأرض

(66)

ومفعول بأن، ويعلم على بابه وعلى إعراب الزمخشري بمعنى المعرفة، والمعنى قل لا يعلم المخلوق في السماوات والأرض غيبه، أي الذي اشتمل عليه الغيب إلا الله، فإن قلت: بدل اشتمال لَا بد فيه من الضمير، قلنا: الألف واللام نابت مناب الضمير تقديره غيبه أو الغيب منه كما قدروه في صورة فالرجل الحسن الوجه، أي قل لَا يعلم غيب المخلوق في السماوات والأرض إلا الله، أي لَا يعلم المغيبات إلا الله من أمر المخلوقين إلا الله، وهذا أحسن من إعراب الزمخشري، وأبي حيان لما يلزم في إعرابها من المجاز، قلت: وذكرت هذا لصاحبنا الأستاذ أبي العباس ابن القصار فاستحسنه قال: لكن ظاهر اللفظ في حقيقته ولا يحتاج إليه؛ لأن سيبويه أجاز أن يقول: ما رأيت زيدا إلا عمرا، مع أن عمرا ليس خبر ومن زيد لكنه على نية طرح الأول، أي ما رأيت إلا عمراً، فالمعنى هنا: قل لَا يعلم الغيب إلا الله. قوله تعالى: (وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ). الشعور هو مبادئ العلم، ثم أضرب عنه، بقوله تعالى: (بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الآخِرَةِ)، فالأول: اقتضى نفي النظر عنهم، والثاني: اقتضى أنهم نظروا نظرتهم إلى عدم معرفة وقتها، وإنَّمَا لهم ظنون كاذبة أو هم في شك منها، والشاك غير حاكم بشيء فهم جاهلون لها جهلا بسيطا. قوله تعالى: {بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ (66)} حاكمون بترجيح المرجوح منها، جاهلون بها جهلا مركبا، لأن الناظر تارة ينظر نظرة إلى الشك واستواء الطرفين عنده، وتارة يحكم بترجيح الراجح وهذا عالم، وتارة يحكم نصهم على ترجيح المرجوح، فهذا وهم وجهل مركب، وأفاد الإضراب بـ بل أنهم أولا جاهلون، فليس بها شعور ألبتَّة، بل انتقلوا إلى النظر الموصل للعلم بها، ثم نظروا أو أداهم النظر إلى الشك فيها لم بعد ذلك قطعوا وصمموا على إنكار الإعادة، فكانوا بحيث تنفع فيهم الموعظة ويطمع في رجوعهم، ثم انتقلوا إلى حالة اليأس منهم والقطع بعدم رجوعهم، ويحتمل أن يكون ذلك باعتبار الأنواع، فمنهم جاهل، ومنهم عالم معاند، ومنهم شاك، ومنهم مصمم على إنكار البعث والإعادة. قوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا ... (67)} وهذا من إيقاع الظاهر موقع المضمر. قوله تعالى: {لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ ... (68)}

(73)

قال الزمخشري: لم قال في قد أفلح: (لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ)، وقال هنا: (هَذَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ)، ثم أجاب بأن التقديم دليل على أن المقدم هو الفرض المقصود، فهنا دل على إيجاد البعث هو المقصود في الآخر المقصود إيجاد المبعوث. قال ابن عرفة: فإن قيل: لم خصصت تلك بتقديم نحن، وهذه بتقديم هذا؟ قال: فعادتهم يجيبون: بأن تلك ذكر أحوال الكفار؛ لأن قبلها: (وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ)، ثم قال (حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ)، وهذه تقدم فيها أوصاف البعث، لقوله تعالى: (أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ)، (أَمَّنْ جَعَلَ الأَرْضَ قَرَارًا)، (أَمَّنْ يَهْدِيكُم فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ). قوله تعالى: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ ... (73)} إن أريد به العموم [فالأكثر عليه*]، والكافر على هذا منعم عليه باعتبار ما له في الدنيا، وإن أريد بالنَّاس الكفار والأكثر المراد به الجميع. قوله تعالى: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ (74)} إن قلت: هلا قال: ما تعلن ألسنتهم وما يسترون، فيكون تأسيسا؛ لأن العلم بالسر يستلزم العلم بالجهر بخلاف العكس، قال: والجواب: أنه قصد التنبيه على كمال إحاطة علم الله تعالى، وإن السماوات إن تعددت فعلمه بما فيها كلها كعلمه بما في السماء الواحدة ولا فرق بينهما. قوله تعالى: {إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (75)} إما حقيقة فهي مكتوبة في اللوح المحفوظ، وهو عبارة عن كمال إحاطة علمه بذلك. قوله تعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (76)} لأنهم يختلفون في أمر جلي، أو أمر خفي، فهو يقص عليهم الأمر الخفي. قوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (77)}

(78)

إما أن يراد الصائر إلى الإيمان كما قال الزمخشري، في قوله تعالى: (ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ)، وهو هدى للمؤمنين حقيقة باعتبار انتقالهم به من مقام إلى مقام أعلى منه. قوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ ... (78)} قال الزمخشري: أي بعدله، وليس المراد الحكم؛ لأنه لَا يقال: يضرب بضربة. قال ابن عرفة: الإضافة إلى الضمير يرفع هذا الإشكال، أي بمحكمه اللائق به، كما قال تعالى في (إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا)، وكذلك (أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أقْفَالُهَا). قوله تعالى: (وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ). أي العزيز الذي لَا يمانع ولا يدرى وجه حكمه، العليم بخفيات الأمور. قوله تعالى: {فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ... (79)} التوكل هو استحضار الحاضر ونسبة الحوادث كلها إلى الله عز وجل، ونقل بعض الطلبة عن بعضهم: أن التوكل هو الوثوق بالمظنون، وترك الحركة والأمثال على السكون. ابن عرفة: والأول أصوب وهو قسمان: ابتدائي وانتهائي، فبدئه لَا ينافي الأسباب العادية، ومنتهاه وهو الطريق الموصوفة ينافي الاشتغال بالأسباب العادية. ابن عرفة: وعطفه بالفاء لإفادة السببية، إشارة إلى أنه لما كان طريق الإيمان لا يمانع ولا يناط بحكمه أمر بالتوكل على الله والتفويض إليه في الأمور، ويحتمل أن يقال لما تقدم. قوله تعالى: (إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ). عقبه بما يفيد إفراده والاعتماد عليه في الأمور، فالذي يفيد انفراده بذلك، هو قوله تعالى: (الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ)، وهذه تفيد الاعتماد عليه في الأمور، قال بعضهم: وحاسة السمع أشرف من حاسة البصر، بدليل أنها لم يسلبها نبي بخلاف البصر، فإن قيل: ما أفاد قوله تعالى: (إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ)، قلنا: الأصم إذا كان فبأولئك يشير إليه فيهم عنك بالإشارة، بخلاف ما إذا صيرك خلفه، فإنه لَا يسمع ولا يرى، فوصف الكفار بأقبح صفات المخالفة، وعدم الانقياد إلى الحق، فلا يلزم منه أن يقال: نهى

(81)

النبي عن الحض مقيد بصفة لَا تعم؛ إذ مفهومه ثبوته لامتثالها مما لم يقيد بتلك الصفات. قوله تعالى: {إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (81)} ويحتمل أن يكون دليلا على أن الإيمان أخص من الإسلام؛ لأن معناه فالمؤمنون بآياتنا مسلمون، أي الحكم عليهم بالإيمان يستلزم عليهم الحكم بالإسلام. قوله تعالى: {وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ ... (82)} المراد بالقول متعلقه، ومدلوله، وهو ما وعدوا به من أشراط الساعة، ومن ذلك خروج الدابة، فلا بد أن يكون المعنى وإذ وقت وقوع القول عليهم أخرجنا لهم الدابة، والقول يقع عليهم ولهم؛ لأن فيهم المؤمن والكافر لكن روعي مقام التخويف والإنذار قال: وعوائد الطلبة يقولون: لما عبر في الأول بالقول وبالثاني بالكلام، وهلا قيل: وإذا وقع الكلام عليهم، أو يقال: أخرجنا لهم دابة تقول لهم، قال: وتقدم الجواب بأن القول بسيط والكلام مركب؛ لأنه أخص، والقول أعم، والشرط بسيط، والمشروط مركب؛ لأنه يستلزم الشرط، والشرط لَا يستلزم المشروط، فناسبت أن يجعل القول البسيط شرطا، والكلام المركب شرطا. قوله تعالى: {أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا ... (86)} ابن عرفة: فيها حذف التقابل وتقرير أن في سورة القصص (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ (71) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ)، فجعل السماع من خاصية الليل، والإبصار من خاصية النهار، والتقدير: ألم يروا أنا جعلنا الليل مظلما لتسكنوا فيه، والنهار مبصرا لتبتغوا فيه من فضله، فحذف من الأول نقيض ما ذكر في الثاني، ومن الثاني نقيض ما ذكره في الأول، وعبر عن السكون بالفعل، وعن الإبصار بالأصم؛ لأن الإبصار لازم النهار، والسكون غير لازم الليل، وليس من فعله، ألا ترى أن الصالحين لَا يسكنون بالليل، بل يقومونهم وهو نهارهم، ولذلك خرج الترمذي حديثا: "إن رجلا دخل على أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ورضي عنها فقدمت له طعاما، فقال: إني صائم، فقالت له: ألك زوجة؟ فقال: نعم، بل زوجتان سوداء وبيضاء، وانصرفت ثم وصفته للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فقال: هو الخضر عليه الصلاة والسلام، والزوجتان: الليل والنهار"، قوله تعالى: (لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ).

(87)

قوله تعالى: {فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ ... (87)} قال ابن خليل: وفيها دليل على إبطال القول بإثبات الجوهر المقارن، وهو موجود لَا متحيز ولا قائم بالمتحيز، وجعل من ذلك الملائكة والجن؛ لأن المفسرين قالوا: المراد بقوله تعالى: (إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ) جبريل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل عليهم السلام، فهم من في السماوات والأرض فجعلها خبرا، فقال ابن عرفة: يلزمه هذا في العرض؛ لأنه ليس بمتحيز، مع أنك تقول: رأيت في هذا البعث وفيه الجوهر والعرض القائم به. ابن عرفة: فإن قلت: ضل فيها على ابن عصفور؛ لأنه منع الاشتمال المحمول، فقال: لَا يجوز، فقال: رأيت القوم إلا رجالا، فشرط في المستثنى أن يكون معلوما، قال: والجواب: أن هذا معلوم عند المتكلم، وأما الممتنع الاستثناء بالجملة المتكلم، وأيضا فمن الموصولة معرفة، وفرق بين المعلوم والمعين، فاستثناء غير المعين جائزا إذا كان معلوما عند المتكلم. قوله تعالى: {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ ... (88)} قال: يحتمل أن يكون (وَهِيَ تَمُرُّ) حالا من فاعل تحسبها، أي تحسبها جامدة حال مرورها كالسحاب، فيكون الناظر إليها لَا يشعر بمرورها كالسحاب، ويحتمل أن يكون يشعر بذلك فيحسبها أولا جامدة، ثم يتأمل فيها فيجدها تمر مر السحاب فهو يعتقد الأمرين. قوله تعالى: (صُنْعَ اللَّهِ). يؤخذ منه إطلاق هذه الصفة على الله تعالى، وقد أطبق المتكلمون على وصفه بها، فقالوا: باب الكلام في إثبات العلم بوجود الصانع. قوله تعالى: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا ... (89)} أي فله خير من ثوابها، قلت: لفظ (خَيْرٌ) إما فعل أو أفعل من، أي فله ثواب أفضل من ثوابها، ومن إما سببية أو لابتداء الغاية فله ثواب سببها، أو ثواب ابتدائها منها، وهل هذا كقولك: زيد [خير من*] صديقه [ ... ]، أو كقولك: زيد [خير من*] عدوه [ ... ]. * * *

سورة القصص

سُورَةُ الْقَصَصِ قال ابن عطية: السورة مكية إلا (إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ) فإنها نزلت في الجحفة وقت هجرة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم إلى المدينة. ابن عرفة: بل هي كلها مكية كما قال الزمخشري؛ لأنه تقرر أن المكي ما نزل قبل الهجرة، والمدني ما نزل بعدها سواء كان في الجحفة [أو غيرها*]. (1) ابن عطية: والطاء من الطول، والسين من السلام، والميم من المنعم أو من الرحيم أو نحو هذا. قال ابن عرفة: ما هذه الدلائل؟ قلنا: تضمن، فقال: بل هي التزام وبينهما ارتباط ذهني. قوله تعالى: {نَتْلُو عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى ... (3)} ابن عرفة: (نَتْلُو عَلَيْكَ) أخص من (نَقُصُّ)؛ لأن نقص لم يرد في القرآن إلا مقيدا، قال تعالى (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ) وهذا ورد غير مقيد. قوله تعالى: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ ... (4)} تبكيت عليه، أي علا، وهو في محل التذلل والانخفاض، فلذلك قال في الأرض. قوله تعالى: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ ... (5)} ابن عرفة: ليس المراد حقيقة الإرادة لأنها قديمة، وإنما المراد ظهور متعلقها، فإن أريد به الإخبار بوقوع ذلك في بني إسرائيل قبل وقوعه، فهو مستقبل حقيقة، وإن أريد به الإعلام بها بوقوع ذلك بقوم موسى صلى الله على نبينا محمد وعليه وعلى آلهما وسلم، فهو من العبارة عن الماضي بلفظ المستقبل. قوله تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ ... (7)} حكى ابن العربي في سراج المريدين لما ذكر فضائل ابن فورك، أنه كان يرى الملائكة يكلمونه، وأنكره بعضهم محتجا بأن جبريل عليه السلام، قال للنبي صلى الله

(8)

عليه وعلى آله وسلم بقرب وفاته، هذا آخر مهبطي إلى الأرض، واحتج الآخرون بأنه بعض الصحابة أو بعض الملائكة. قوله تعالى: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا ... (8)} قال الزمخشري: هذه اللام للتعليل، مثل: جئتك لتكرمني، لكنه مجاز؛ لأن الداعي لالتقاطه إنما هو الصحبة، ولما كانت العداوة نتيجة التقاطهم شبهه بالداعي الذي يفعل فاعل الفعل لأجله، فاستعيرت له اللام كما استعير لفظ الأسد للشجاع، ابن عرفة: هي لام الصيرورة، وكان بعضهم يقول: بل هي على أصلها حقيقة، ويقدره؛ لأن [فعل اللقط*] تارة يعتبر من حيث كونه مكتسبا للعبد، وتارة يعتبر من حيث كونه مخلوقا لله عز وجل، فعلى الأول تكون اللام للصيرورة، لأنهم لم يلتقطوه؛ لأن الالتقاط أمر عارض غير مقصود، أي جعل الله تعالى التقاطهم له سببا في عداوته لهم، وجاءت العداوة هنا الثابتة مقابلة للخوف المنفي، في قوله تعالى: (وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي)، لأنها سبب فيه، والحزن الثابت مقابل للحزن المنفي. قوله تعالى: {وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ ... (11)} إن قلت: هلا قال: وقالت لابنتها قصيه؟ فالجواب [من*] وجهين: أحدهما: قال ابن عرفة: هذا من تعليق الطلب على الوصف المناسب له؛ لأن وصف الأخت يشعر بالحنان والشفقة على الأخ، بخلاف ما لو قال: وقالت لابنتها، فتذكيرها لها بأنه أخوها مذكور [**لحثها في البحث عنه]. الثاني: إن هذه الأخت يحتمل أن تكون أخته من أبيه، وهي ربيبة أمه وليست بنتها. قوله تعالى: {وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ ... (12)} ولم يقل: ومنعنا المراضع، إشارة إلى أن هذا أمر قديم مقدر في الأزل، ولو قال: منعناه، لتناول الأمر الظاهر الوجودي من غير اعتبار، فتقدمه في الأزل. قوله تعالى: (مِن قَبْلُ). أي من قبل قصها أثره. قوله تعالى: (يَكْفُلُونَهُ لَكُم). في زيادة لفظه (لكم) نعمة وإخفاء لئلا يتفطنون بها، أي؛ لأن كفالته ليس فيها منفعة للكافلين.

(13)

قوله تعالى: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (13)} إن كان من تمام المعلوم لأم موسى عليه السلام، فيكون الأكثر بمعنى الجمع؛ لأن جميع بني إسرائيل كانوا حينئذٍ كفارا، وإن كان من كلام الله تعالى خطابا للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فالأكثر على بابه؛ لأن من القبط من آمن به. قوله تعالى: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا ... (14)} إن قلت: ما الحكمة في تخصيص هذه الآية، بزيادة لفظة (استوى) دون آية سورة يوسف عليه السلام، فالجواب بوجهين: الأول: قال صاحب البرهان:؛ لأن يوسف عليه السلام باعه إخوته وهو صغير عمره خمسة عشر عاما أو عشرين عاما، ولم يمكث عند زليخا إلا أعوام يسيرة، ثم جرت قضيته معها، وقالت له: (هَيتَ لَكَ)، فغاية الأمر أن يكون في أول سن البلوغ الأشد، وهو إما عشرون، أو خمسة وعشرون، أو ثلاثون، فلذلك لم يقل فيها: (وَاسْتَوَى) وزادها في آية موسى عليه السلام. الثاني: قال ابن عرفة: وظهر لي أن الجواب بأن يوسف عليه السلام هم بالفعل، ولم يفعل، [وموسى عليه السلام فعل*]؛ لأنه وكز القبطي وقتله فناسب وصفه بأبلغ درجات القوة، فلذلك قال فيها: (وَاسْتَوَى). قوله تعالى: (آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا). ابن عرفة: يحتمل أن يريد بالحكم النظر الموصل للعلم، أي آتيناه طريق العلم، والعلم يحتمل أن يريد بذلك العلمية والعملية. قوله تعالى: {هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ ... (15)} تواضع منه؛ لأن [المقتول حربي*] مباح الدم يعدها هو خطيئة، وليست بخطيئة، وهذه الوكزه هي، [كما*] قال فيها الإمام مالك رحمه الله: [شِبْهُ الْعَمْدِ بَاطِلٌ، وليس بخطإ، وَإِنَّمَا [هُوَ*] عَمْدٌ، قال ابن عطية: أن يعقد يده ثلاثة وسبعين من حساب اللفظ، ثم يضرب بها. قوله تعالى: {بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ ... (17)} الباء للسبب أو للقسم، وقوله تعالى: (فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا)، أي فلن أكون معينا للمجرمين، قال ابن عطية: احتج العلماء بها على منع خدمة الظلمة ومعونتهم، قلت:

(18)

قال شيخنا أبو الحسن المطريني: سئل سيدي أبو الحسن المنتصر عن خياطة الثياب، قال: النظر في صانع الإبرة، وأما الخياط ففي قعر جهنم. قال ابن عرفة: يريد إن كان خائطهم كما قال ابن رشد فيمن يخيط للكافر. قوله تعالى: {فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ ... (18)} قال ابن عرفة: تقدم المجرور للاهتمام إشارة إلى أن له أثرا في الخوف، والألف واللام للعهد، وعبر في هذا الفعل؛ لأن المترقب متوقع وليس ثابت فيناسب الفعل المقتضي المتجدد. قوله تعالى: {وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ يَسْعَى ... (20)} وقال تعالى في سورة يس: (وَجَاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى). قال ابن عرفة: فكان شيخنا أبو عبد الله محمد بن سلمة، يقول من عنده: إنما قدم الرجل هنا تحوطا على قلب النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم من أن يناله روع أو حزن على موسى عليه السلام؛ لأنه لو قيل (وَجَاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى)، لأمكن أن يتوهم النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، أنه جاءه جماعة كثيرون يريهم الاستخفاف منه لأجل قتله القبطي، فما يصل إلى ذكر الفاعل إلا بعد حصول الروع منه والفزع في القلب، فبدأ بذكر الرجل احترازا من هذا، كما قال تعالى (عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ)، وأما سورة يس فأتت بعد ذكر الرسول فلا يؤثر فيها هذا التوهم [فزعا*] إذا جاء الجماعة يجيبون بالحض على إتباع الرسول، قيل لابن عرفة: هذا لَا حاجة به، بل يقال: هذه الآية وردت على الأصل، وما السؤال إلا في سورة يس. قال ابن عرفة: روى بعض الشيوخ المعمرين أن الأمير أبا عبد الله محمد، المدعو بأبي عصيرة، كان خليفة بتونس، وكان الأمير أبو يحيى زكريا والد الأمير ابن أبي بكر خليفة بجاية، وكان كثير الأسفار، وطويل الغيبات في سفره، وكان الأخوان: عمران، وموسى ابن أسرعين أحدهما: بتونس، والآخر: ببجاية، فبعث أبو عصيرة حسينا أميراً عليهم ابن أسرعين ببجاية في غيبة الأمير أبي يحيى زكريا، فدخل إلى أخيه موسى بكتاب من عند الملك، فأمره فيه أن يخلع بيعة سلطانه ويبايع لابن عصيرة، فامتنع، وقال: والله لَا أخونه فيما أمنني عليه، فلما قدم الأمير زكريا أخذ عليه في فتحه الباب لأخيه، وكونه أدخله، ثم بعد ذلك يؤثر في قتله، فكتب بعض الحاضرين إليه براءة

(29)

صغيرة بهذا النص: (يَا مُوسَى إِن) ولم يكمل الآية، ففطن بها موسى وهرب من جنبه. قال ابن عرفة: وذكر الغزالي في مثل هذا، إن لم يكن فيه تعرض [للتنقيص*] والاستهزاء فيما لَا يحل فهو جائز، وقد حكى فيه عياض في المدارك عن ابن العطار أنه يعلم بآيات في مثل هذا، قلت: نقل عياض عن أبي عبد الله محمد بن أحمد العطار: أنه أفتى في [فصل*] من السهو بالسجود، فقيل له: إن أصبغ بن [الفرج*] لم ير عليه سجودا، فقال (كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ)، قال: وبلغه أن ابن [ ... ] لم يشهد عليه حين دعا النَّاس للشهادة [**بحرصه]، فقال: (كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ). قوله تعالى: {فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ ... (29)} قال ابن عرفة: الظاهر المراد به أقصر الأجلين؛ لأن الألف واللام إن كانت للعهد فالمعهود القريب، وهو أقصاهما، لأنهما كالضمير العائد على أقرب مذكور، وإن كان للجنس فهو إما بمعنى الكل أو أكثرهما هو المجموع وهو الأقصى، وإن أريد الكلية تناولت اقتضائهما؛ لأنه كل فرد من أفراد الأجل. قوله تعالى: {وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ (31)} وفي الآية الأخرى (إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ) مع أنه خاف، فأجاب: بأن هذا الخوف أمر جبلي، فالمراد كن آمنا مما تخافه ولا تلتفت إلى ما يقع في نفسك من الجزع والهلع بوجه، قال: وفيها سؤالان: الأول: كيف أكد الخوف بـ (إِنَّ) والمخاطب عالم بخفيات الأمور وغير منكر لذلك القول؟ الثاني: كيف خاف مع وعد الله، لقوله تعالى: (وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ)؟ ثم أجاب عن الأول: بأنه أكده مراعاة لما رتب عليه، من قوله تعالى: (فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ). الثاني: أن المراد أن (لَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ)، فما يوحي إليك به فلا يكن في نفسك منه هلع وخوف، وأما ما لَا يرجع إلى الوحي، فلا يدخل في هذا. قوله تعالى: {إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (33)}

(36)

كيف أكد القتل بأن الله أعلم بخفيات الأمور؟ فأجاب ابن عرفة: بأن التوكيد اعتبار المعطوف، وهو خوف القتل. قوله تعالى: {مَا هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرًى ... (36)} قال الزمخشري: [سِحْرٌ مُفْتَرىً سحر تعمله أنت ثم تفتريه على الله. أو سحر ظاهر افتراؤه. أو موصوف بالافتراء كسائر أنواع السحر وليس بمعجزة من عند الله*]، زاد ابن عرفة: أو سحر اخترعته، وحيث فيه جديد مبتدأ غير معهود في السحر بوجه لم يعلم له نظير في السحر. قوله تعالى: {وَقَالَ مُوسَى رَبِّي أَعْلَمُ ... (37)} قرأ ابن كثير بحذف الواو، والباقون بإثباتها. ابن عرفة: وجهه أن من راعى كيفية اللفظ ومعناه فأثبتها. قوله تعالى: {وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ ... (39)} [أي*]: الاستكبار على شخص مع استحقار المستعلي [لمن تحته*]، وفي الأرض تنبيه على أن من هو في الأرض المحقرة الموطأة بالإقدام لَا ينبغي أن يستعلي. قوله تعالى: (بِغَيْرِ الْحَقِّ). إما سبب، والمعنى واستكبر هو وجنوده بسبب هو غير حق، فيرجع إلى متعلق الاستكبار، وهذا صواب لأنهم إذا ذموا على الاستكبار بسبب أحرى أن يذموا على الاستكبار بغير موجب بوجه. قوله تعالى: {وَلَوْلَا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ... (47)} قال ابن عرفة: من شرط الواقع بعد لولا أن يكون موجودا، كقولك: لولا زيد لهلكنا، وهو هنا [مقدرٍ محذُوفٍ*] [أي: لوْلاَ سبب أنْ تصيبهُمْ.] (¬1). ¬

_ (¬1) بياض، وهو خرم في المخطوطة من الآية 47 في سورة القصص إلى الآية 16 من سورة لقمان، ولعله سقط من النَّاسخ، وذلك لأن صفحات المخطوط متتالية في الترقيم والبياض المشار إليه بمقدار مصف صفحة، وهو أقل من السقط بكثير، والله أعلم. ومن باب الفائدة فقد رأيت أن أجبر هذا السقط من كتاب (نكت وتنبيهات في تفسير القرآن المجيد، لأبي العباس البسيلي التونسي (المتوفي 830 هـ) قال رحمه الله: "47 - {وَلَوْلَا أَنْ تُصِيبَهُمْ}: "لوْلا" هُنَا حرْفُ وُجُودٍ لامتناعٍ. فإنْ قلتَ: شرْطُ ما تدْخُلُ عليهِ أنْ يكونَ موْجوداً لَا مقدَّرَ الوجودِ، وهو في الآية مقدر الوجود. فالجوابُ أن "لولا" هنا دخَلتْ على مقدرٍ محذُوفٍ، أي: لوْلاَ سبب أنْ تصيبهُمْ. {وَعَمِلَ صَالِحًا}: العطفُ يقتضي مغايرَةَ العمَلِ للإيمانِ، إِلاَّ أنْ يُفَسَّرَ بالنوافلِ. وللمعتزِلَةِ في كونها من الإيمانِ قوْلانِ. فإنْ قلت: الأصلُ فيما فُصِلَ بأمَّا أنْ يتقدمهُ مجملٌ كقوله: "جاءَ القومُ، أمَّا الصُّلَحَاء فأكرمتهم، وأمَّا الطُّلَحَاء فأهنتهُمْ". وَلاَ بُدَّ مِنْ صدقِ المُفَضَّل على كلِّ قسمٍ، فلا تقولُ: "جاءَ القومُ، أمَّا الكلابُ فضربتهُمْ، وأَما الَدَّوابُّ فعلفتهم"؛ ولَمْ يتقدمْ هنا غيرُ قوله تعالى (فَعَميَتْ عَلَيْهِمُ الأنبَاءُ) وهو لا يَحْسُنُ لِمَا ذكرنا. قلت: هو تفصيلٌ لقولهِ تعالى (أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْداً حَسناً) الآية، أَوْ لِمفهومِ (وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ)؛ لأن المبعوثَ إليهم منهمْ منْ آمنَ وعملَ صالحاً، ومنهمْ منْ لمْ يومنْ. سُورَةُ الْعَنْكَبُوت 4 - {سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ}: لمْ يقلْ "مَا يعملونَ"، لاسْتلزامِ الحكم العمَل؛ لأن الحاكمَ عاملٌ دونَ عكسٍ. 8 - {وَوَصَّيْنَا}: هوَ أبلغُ مِنْ "أمَرْنَا"؛ لاقتضاءِ "وَصَّى" التَّكرارَ، بخلافِ "أَمَرَ". {وَإِنْ جَاهَدَاكَ} الآية: شبهُ احتراسٍ. 12 - {اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا}: أي: سبيلَناَ الواضحَ البَيِّنَ لنا ولغيْرنا، ولذا لَمْ يقولوا "اتَّبعونَا" وإنْ كانوا هُمُ الحاملينَ. {إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ}: تأسيسٌ لقولهِ (ومَا هُمْ بحَامِلينَ)؛ لأنهمْ قالوا (ولْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ). الزمخشري: "هذا إنْكار منهمْ للحشْرِ، فقال تعالى (وَمَا همْ بحاملينَ مِنْ خَطَايَاهُم) رَدّاً لظاهرِ قولهمْ (إنَّهُمْ لَكَاذبُونَ) في إنكارهم الحشر، بلْ هم غير حاملين خطاياهم، والحشر حق". وفي الآية رد على ابن قتيبة أنّ الكذبَ إنما يتعلق بالماضي، وأمَّا ما يتعلق بالمستقبل فخُلْفٌ لا كذب؛ وتقريرُ الردِّ أن اللَّه كذّبهم في قولهم (وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ) وعلَّقوا ذلك على اتِّباعِهم سبيلَهم؛ والصحيحُ أن الكذب هو "الإخبار بالأمر على خلاف ما هو" أعمّ مِن أن يكون متَعلَّقُه ماضياً أو مستقبلا. 22 - {وَلَا فِي السَّمَاءِ}: وفي آية الشورى، لم يقل "ولا في السماء"، فقال صاحب "برهان القرآن": "إنما قال هنا (وَلاَ فِي السَّمَاءِ)؛ لأن نمرودا صعد إلى جهة السماء، وآية الشورى ليس فيها ذلك". ع: "وهذا يحتاج إلى خبر صحيح؛ والفرق عندي بين الآيتين قَصْدُ الإطناب في هذه، لتَقَدُّم قوله (يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ) فعلَّق ذلك على المشيئة التي لا كسْب للعبد فيها، فناسَبَ الإطناب؛ وأما في آية الشورى فتقدَّمَها قوله (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ)، فعلَّقَ ذلك على كسبِ أيديهم، وعقَّبه بذِكْر العَفو، فناسب ذكر الأرض خاصّة". 52 - {قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا}: الواقعُ في آياتِ القرآنِ تقديم (شهيداً) إلا في هذه الآية، ووجْه تقديم الظرف هنا أنه الأهمُّ لتقدّم ذكر المجادلة المقتضِية للبيِّنة. 53 - {لَجَاءَهُمُ}: لم يقل "لعاجلهم" مع كونه المناسبَ لـ "يستعجلونك"، لئلا يُتَوهم أن سببَ نزول العذاب بهم هو استعجالُهم. سُورَةُ الرُّوم 30 - {حَنِيفًا}: فسروا الحنيفَ بالمائل، ولم يذكروا مُتَعَلَّقَ الميل، وهو باعتبار فروع الشرائع، فإنّ شريعتَنا مائلةٌ باعتبار الفروع؛ لأنّ فروعَها أخفُّ من فروع غيرِها؛ واتّفق الكلُّ على الوحدانية. 55 - {مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ}: هذا مُتَعَلَّق القسَم، ووجْه الرّدّ عليهم بقول الذين أوتوا العلم، أنّ المجرمين حصروا لُبْثهم في ساعة، فردُّوا عليهم بأنَّ لبثهم غيرُ محصور ولا موَقَّت، بل هو إلى يوم القيامة، وهو غيرُ معلوم. 63 - {الْقَوْلُ}: إِنْ قلت: لِمَ جَعَلَ التذَكُّرَ علَّةً للقولِ الذي هُوَ أَعَمُّ مِنَ الكلامِ؟. قلت: إنمَا جُعِلَ علَّةً له مِنْ حيثُ كونُهُ جزءَ كلام، ومَا لَزِمَ الجزءَ لزِمَ الكُل. 67 - {فَأَمَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ}: التوبةُ هنا الإقلاعُ عنِ الشِّرْكِ، والإيمانُ التصْديقُ بنبُوةِ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، فهو تأسيسٌ. سُورَةُ لُقْمَان 6 - {بِغَيْرِ عِلْمٍ}: عُدولٌ يقتضي وجود الموضوع، أي بشيء وهو غير علم، والمراد بـ "العلم" ما يستنبط بالعقل وبـ "الهدى" ما يستفاد من الغير وبـ "الكتاب" الدليل السمعي من القرآن والسنة. 7 - {وَلَّى مُسْتَكْبِرًا}: يقتضي سماعه الآيات تتلى وقوله (كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا): نَفَى السماعَ النافع. 17 - {وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ}: قول ابن عطية: "يريد بعد امتثَالِه في نفسِه"، اعتزال. 34 - {عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ}: وجْه حُكم الحصرِ في عِلْمُ الساعَةِ تقديمُ الظرف، وفي (يُنَزِّلُ الْغَيْثَ) من مفهوم (وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ ماذَا تَكْسُب غَداً)، فإنه إذا لم يَدْرِ ما له فيه كسب، فأحْرى ما لا كسب له فيه، وهو إنزالُ الغيث". اهـ (نكت وتنبيهات في تفسير القرآن المجيد، لأبي العباس البسيلي. 3/ 375 - 384).

سورة لقمان

سُورَةُ لُقْمَان قوله تعالى: {يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ ... (16)} قال ابن عرفة: اختلفوا هل ابتداء وصية أخرى من لقمان لولده، أو جواب عن سؤال مقدر سأله عنه ولده؛ لأنه لما أوصاه باعتقاد وجود الله تعالى ووحدانيته ونفي الشريك عنه، سأله عن صفاته من العلم والقدرة والإرادة، فأجابه بهذا. وقوله تعالى: (إِنَّهَا)، قال أبو حيان: إنها ضمير القصة، وقال الزمخشري: الضمير راجع للهيئة من الإساءة والإحسان، أي الفعلة، وقال ابن عطية: المضمر للفعلة. قال ابن عرفة: والظاهر أنه غير ماهية الشيء لتناول الجواهر والأعراض والفعلة عرض، وكذلك الهيئة والقصة. قوله تعالى: (مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ). وقال تعالى في سورة إذا زلزلت: (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ)، ولم يقل: (مِثقَالَ حَبَّةٍ)؟ فأجيب: بأن الخطاب هنا خاص بمعنيٍّ وهو ولد لقمان، فتناسب ذكر الحبة التي هي أظهر وأجلى وأخص من الذرة، والخطاب هناك عام، فناسب تعلقه بالذرة التي هي أعم من الحبة وأخف، فإن قلت: ما أفاد لفظة مثقال؟ قلنا: الخطاب بتعلق القدرة بالحبة خاص بها، والخطاب بتعلقها بمثقالها عام فيها، وفي كل ما هو في وزنها مما ليس بحبة، فإن قلت: هلا قال: مثقال حبة خردل بالإضافة، قلنا: نص التخصيص بعد الإبهام، كقوله (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ)، ولم يقل: قواعد البيت، فإن قلت: ما أفاد، قوله (فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ)، [وهلا قال (إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ)؟ *] قلنا: أما على قراءة فتكن بالتشديد فالفائدة ظاهرة، وأما على قراءة التخفيف فوجه [فائدته*] تظهر بما قال المفسرون، في قوله تعالى: (يَأْتِ بِهَا اللَّهُ)، إنه راجع إما لصفة القدرة، أو لصفة العلم، فإن كان لصفة القدرة، فيقول: ذكر الأصوليون أن الحادث قبل حدوثه لَا تعلق به قدرة بلا خلاف، وحين حدوثه فهي متعلقة به بلا خلاف وبعد حدوثه، قال في الإرشاد: اتفقوا على أنها غير متعلقة به فيكون قوله تعالى: (إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ)، فمعنى إن توجد مثقال حبة، وقوله تعالى: (فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ)، أي فتبقى في الصخرة.

(17)

وقوله تعالى: (يَأتِ بِهَا اللَّهُ)، إشارة إلى تعلق القدرة في الزمن الثاني عن إيجاده، فهو إشارة إلى نفي ما يتوهم من عروض النسيان له بعد إيجاده والذهول عنه، فلا يتعلق به العلم القديم حينئذ، فقوله تعالى: (يَأتِ بِهَا اللَّهُ)، أي بعلمها الله، قال: وخفاء الشيء يكون إما لبعد مسافة، وإما لحاجب بينه وبين الناظر إليه، وإما لاختلاطه بغيره، فقوله (فِي صَخْرَةٍ)، راجع لوجود الحاجب، وقوله (أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ)، راجع لبعد جهته، وقوله (أَو فِي الْأَرْضِ)، راجع لإخلاطه بغيره، أو راجع لموجود في ظلمة. قوله تعالى: {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ ... (17)} ابن عرفة: إن قلت: لم كرر النداء؟ قلت: عادتهم يجيبون: بأن الوصية إن كانت في موطنين فتكريره مناسب، وإن كان في موطن واحد فكرره لوجهين: إما تأكيد بعده القريحة واستحضارها لسماع هذه الوصية الثانية للولد، فإنه في الأولى أوصاه بأمر علمي اعتقادي، وفي الثانية أوصاه بأمر عملي، أمره بإقامة الصلاة دون غيرها من العبادات لتكررها في اليوم والليلة. قوله تعالى: (وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ). اعتزل ابن عطية هنا فقال: هذا إنما يريد به أن يمتثل هو في نفسه ويزدجر عن المنكر. قال ابن عرفة: هذا اعتزال، ولذلك كان شيخنا ابن عبد السلام يحرر من المطالب من نظر ابن عطية، فإنه سيئ لكنه ينقل كثيرا عن الرماني، وهو [معتزلي*] فيغفل أحيانا عن كلامه، فيعتزل من حيث لَا يشعر، ومذهب أهل السنة يجب عليه أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، وإن كان متصفا، لقوله تعالى: (كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ)، قيل لابن عرفة: لعل ابن عطية لم يرد بذلك الوجوب بل الاستحباب؛ لأنه أدعى إلى القبول، قال الأخطل: لاَ تَنْهَ عَنْ خُلُقٍ وَتَأْتِىَ مِثْلَهُ ... عَارٌ عَلِيْكَ إذا فَعَلْتَ عَظِيمُ قوله تعالى: (إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ)، قال البيضاوي: هو جزم تردد الإرادة، وقيل: توطين النفس على الفعل. قوله تعالى: {وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ ... (18)}

(19)

الأصل أن بعد لكن اللام، هنا ليست للتعدية بل للتعليل، أي لَا تمل خدك لأجل النَّاس. قوله تعالى: {وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ ... (19)} قال ابن عرفة: إنما لم يقل: واقصد في مشيك وصوتك؛ لأن المشي أقسام: مشي في غاية الضعف والبطء، ومشي في غاية السرعة والاستعجال، ومشي متوسط مقتصد، فأمر بالتوسط فيه، والصوت أحد طرفيه منتف هاهنا، وهو أضعفه وأخفى، لأن المقصود منه الإسماع، فلم يبق منه إلا القسم الثاني، وهو أعلاه وأبلغه المتناول لأقصى غاية الإجهاد، فأمره بالنقص من هذا والاتصاف بما دونه. قوله تعالى: (إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ). ولم يقل: لصوت الحمار؛ لأن ذلك خرج مخرج التقبيح، وأصوات الحمير مجمعه أشد من صوت حمار واحد. قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ ... (20)} قال ابن عرفة: مثل هذا في القرآن كثير، وإنما أتى بهذا البعض منكرا دون تعيين لوجهين: إما قصد التستر عليه، وإما قصد العموم [للتخويف*]، حتى أن كل أحد من المخالفين يظن أن الآية تتناوله، والمجادلة تتعدى باللام [وفي*]، والمجادل لله بحق، لأنه يجادل لإظهار دين الله ونصرته، والمجادل في الله مبطل، لأنه يجادل قادحا في دين الله لنصرة الإشراك بالله. قوله تعالى: (بِغَيْرِ عِلْمٍ). قال ابن عرفة: [يستفاد منها*] أن المجادل في الشيء تارة يكون جداله بعلم استعمله واستنبطه من عقله، وتارة يأتي بدليل استفاده من غيره ممن هو مثله، كمن يستدل بدليل ذكره القاضي الباقلاني، أو غيره، وتارة يأتي بدليل سمعي: كتاب، أو سنة، استفادها من نبي معصوم، أو بلغه عنه، فالأول: راجع لقوله تعالى: (بِغَيْرِ عِلْمٍ)، والثاني: بقوله تعالى: (وَلَا هُدًى)، والثالث: بقوله تعالى: (وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ). قوله تعالى: (مُنِيرٍ) إشارة إلى ذلك الدليل الذي من الكتاب والسنة قطعي الثبوت، وقطعي الدلالة، وأشار الفخر إلى بعض، قال: وفي الآية حجة من قاعدة المنطق واستعمال لفظه غير ذي الأولى، لأنها كالمعدولة المقتضية لوجود الموضوع،

(21)

فالمعنى: ومن النَّاس من يجادل في الله بشيء هو غير علم؛ لأن المجادل في الله قابل؛ لأن يستفيد علما بعقله، كقوله: زيد غير بصير، ولم يأت به في الثاني، لأن الدليل في إبطال دين الله المستفاد من العقل أو الكتاب أو السنة منتف غير ثابت في نفس الأمر فنفيه من باب السلب، مثل الحائط لَا يبصر. قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ ... (21)} قال الفخر: هنا الفعل أبلغ من القول. ابن عرفة: بل بينهما عموم من وجه، فالفعل أبلغ من القول باعتبار الحصول والقول أبلغ من الفعل باعتبار المتعلق؛ لأن متعلقه أمر كلي، ومتعلق الفعل خبر، أي ولذلك العالم يُقتدَى بقوله دون فعله، فإنه يترخص في نفسه بما لَا يفتى به لغيره. قوله تعالى: (قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا). فرق بعضهم بين [وجد وأيقن*] بأن الوجدان يكون اتفاقيا على غفلة من غير قصد ولا تقدم شهود، ومنه وجدان الضالة، واليقين يقتضي وجدان ما كان ثابتا دائما مستقرا، قال ابن عطية: الآية دالة على إبطال التقليد، وأجمعت الأمة على إبطاله في العقائد، انظر تمامها في البقرة والعقود. قوله تعالى: {وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ ... (22)} عداه باللام، فأجاب: بأن اللام تقتضي الاختصاص والقصد إلى الشيء التي لا تقتضيه. قال ابن عرفة: فوجه مناسبتها هنا أنه لما كان المخبر عنه فيما قبلها لم يخص به واحد بعينه بل أتى به مطلقا عقبه بحال من حصل منه مطلق استسلام لله تعالى، فإنه ممدوح ليتناول مدح من اتصف بالنص الاستسلام من باب أحرى، بخلاف قوله تعالى: (بَلَى مَنْ أسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ)، فأتى به خاصا لأجل ما رتب عليه من الثواب الجزيل الذي لهم في هذه القصة إلا بعضه. قوله تعالى: {وَمَنْ كَفَرَ فَلَا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ ... (23)} قال الظاهر في (مَنْ) أنها شرطية لَا موصولة، تقتضي وجود الموضوع.

(29)

الثاني: إنها معطوفة على قوله تعالى: (وَمَنْ يُسْلِم) وهي شرطية من باب [لا أرينك هاهنا*]، أي لَا تتذكر أسباب الحزن على كفره، فتحزن على كفره فإِنما أنتقم لك منه. قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ). قال ابن عطية: هذا مثل قولهم: [الذئب مغبوط بذي بطنه*]، وقولهم: ذو بطن بنت خارجة. قال ابن عرفة: وانظر هل الحزن على فوات أمر محبوب، كقوله تعالى: (وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ)، أو على وقوع أمر مكروه، كقوله تعالى: (وَلَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ)، وهو الظاهر من نص هذه الآية. قوله تعالى: [(وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ... (29) *] قال الزمخشري: إن قلت: تجري لأجل، وتجري إلى أجل مسمى، فهذا من تعاقب الحرفين، قلت: كلا ولا [نسلك*] هذه الطريقة إلا بدليل؛ لأن إلى لانتهاء الغاية، واللام للاختصاص، وكل واحدة منهما لها معنى لَا تصلح فيه الأخرى، نحو: أعطيت لزيد ثوبا وسرت إلى عمرو، ومنه قوله تعالى في سورة يونس عليه السلام (قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى). قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ ... (33)} الخطاب لجميع الإنس والجن، وعرف القرآن في النَّاس أنهم بنو آدم، لكن الخطاب التكليفي يتناول الجميع. قوله تعالى: (وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ). قال الزمخشري: لم أكد، قوله تعالى: (وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا)، ولم تؤكد، قوله تعالى: (لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ) شيئا، فأجاب: بأن الجملة الاسمية آكد من الفعلية، وقد انضم إليها، قوله (هُوَ)، وقوله (وَلَا مَوْلُودٌ) وهذا إنما يصدق على الوالد المباشر، بخلاف لفظ الولد، فإِنه يتناول ولد الصلب، وولد

(34)

الولد، وكذلك قوله تعالى: (يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ)، ورد ابن عرفة الأول بأنها ليست جملة اسمية بل فعلية، فمولود من قوله: (وَلَا مَوْلُودٌ)، فاعل مقدر، ولا تجزي مولود أو هو معطوف على الجملة الفعلية، وقوله (هُوَ جَازٍ)، في موضع الصفة لمولود، أي لَا يجزي مولود بلغ الغاية في الإجزاء، والنيابة عن أبيه، والقدرة على إنقاذه من المهالك، قال: وتقدم الجواب: أنها إنما كانت الجملة الثانية دون الأولى؛ لأن الأب يوجد فيه من الرأفة والحنان على ولده ما لَا يوجد في الابن على أبيه، بدليل أن الإمام مالك رحمه الله، قال فيمن قتل ولده عمدا إنه لَا يقتل به بل تغلظ عليه الدية، بخلاف ما إذا قتل الولد أباه عمدا، فإنه يقتل به فلا يجزي عن أبيه إلا الولد الجاني حقيقة، وهذا الباب مطيع له، فدخل النفي عليه مؤكدا فنفاه ولم يحتج إلى تأكيد الأول، واكتفى فيه بمطلق الإجزاء؛ لأن إجزاء الأب عن ولده معلوم بالوجود الخارجي. قوله تعالى: (شَيْئًا). تأكيد للنفي إلا إنه نفى الفعل المؤكد، فالتأكيد دخل بعد النفي؛ لأن النفي دخل عليه. قوله تعالى: (إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ). مناسب لقوله تعالى: (اتَّقُوا)، فلذلك لم يقل: [** (إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ)]. قوله تعالى: (وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ). من باب [لا أرينك هاهنا*]. قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ ... (34)} أورد الطيبي سؤالا، وهو لم قال: (وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ)، مع أنه ليس المراد الإعلام بأنه ينزل الغيث، وإنما المراد باختصاصه بعلم وقت نزول الغيث، وأجاب بوجهين: الأول: إنه على إضمار إن، كقوله: أَلا أَيُّهَذَا الزَّاجِرِي أحْضُرُ الوَغَى ... وَأَن أشْهَدَ اللَّذَّاتِ هَلْ أَنْت مُخْلِدِي الثاني: أن الإعلام بقدرته على تنزيل الغيث يستلزم علمه بوقته؛ لأن القادر على الشيء عالم به، ورد ابن عرفة: الأول بأنه شاذ، قال: وإنما عادتهم يجيبون بقوله تعالى: (وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا)، فإنه إذا [نفى*] عنها علمنا بمكتوبها الذي

هو من قدرتها، فأحرى أن ينفي عنها علمها بما يكسب غيرها مما هو من جنسها، فأحرى أن ينفي عنها علمها مما اختص بالقدرة عليه خالقها. قوله تعالى: (وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا). قال ابن عرفة: نقلوا عن ابن الطراوة: صيغة افعل أنها مختصة بالحال، وعن الزجاج؛ أنها مختصة بالاستقبال، وعن الجمهور: أنها مشتركة بينهما، احتج ابن الطراوة بأن المستقبل لَا يخبر به إلا عن أن أو عن مبتدأ عام كقوله: وكل أناسٍ سوفَ تدخلُ بَيْنَهُم ... دويهيةٌ تصفرُ منها الأناملُ قال: ولا يعترفن بقولك زيد يقوم غدا؛ لأن معناه ينوي أن يقوم ورد عليه [الغُبْرِيني*] وغيره بقول الشاعر: فَلَمّا رَأَتْهُ [أُمُّنا*] هَانَ وَجْدُها، ... وَقَالتْ: [أَبوكم*] هَكَذا كانَ يَفْعَلُ قال وأما قوله معناه ينوي إلا أن يقوم إذا فمردود بهذه الآية، لأن الإنسان لَا يدري ما ينوي إلا أن [**تنفر عند درايته]، قال [الغُبْرِينِي*]: يفسره [غيره*]. قال ابن عرفة: وعادتهم يجيبون: عن ابن الطراوة: بأن النية قسمان: صادقة، وهي التي طابقت ما آل إليه الأمر، وكاذبة، وهي [ما خالفت*] عاقبة الأمر، فالمنفي في الآية هي النية الصادقة، فهو لا يدري الآن أن ينوي ما يكسب [**غدائية] صادقة لا تتخلف، ويخرج الأمر على [وفقها*]. قوله تعالى: (وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ). قيل لابن عرفة: إن قلت: ما فائدة قوله (مِنْ شَجَرَةٍ)، ولو حذف لكان أبلغ، لأنه إذا كان جميع ما في الأرض من شجر، وحجر ومدر وعظام أقلاما، وكتب بها كلمات الله تعالى فلم [تنفد بنفود*] الأقلام، فأحرى أن [لَا تنفد*] حالة كتبها بالأقلام المصنوعة من الشجر فقط، والجواب: بأنه لو لم يقل من شجرة لزم منه المحال، لأن الأرض فيها الجوهر والعرض فيلزم صيرورة العرض [كلاما*] وهو محال، وكان يلزم عليه المحال، وهو [نفود كلمات الله تعالى*]؛ لأن المحال قد يستلزم محالا، ورده ابن عرفة في مختصره المنطقي: بأنه لو استلزم المحال محالا لما صدقت قضية تقدمها كاذب، مع أنه قد تصدق وقد تكذب، فإِن قلت: هلا قال: ولو أن ما في الأرض من شجر أقلام، فالجواب: أن الشجر أقرب إلى الأقلام من الحجر. * * *

سورة السجدة

سُورَةُ الْسَّجْدَةِ قوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ ... (4)} قال ابن عرفة: جاءت هذه الآية موصولة غير مفصولة بحرف العطف، لأنها بيان ما قبلها، ودليل عليه من جهة أن حقيقة رسالة المرسل يستدل عليها بالمعجزة، وبما هو من فعل مرسله الخاص به وهذه منه، قال بعضهم: من حقيقتها أن السماوات ليس بينهما خرق، ولو كان بينهما خرق، لقال: ما بينهما أو لقال: وما بينهن بضمير التأنيث، فلما أتى بضمير التثنية، دل على أن المراد ما بين السماء والأرض، وأجيب: بأن الشاهد منها ما بين السماء الدنيا والأرض، ورد بأن جميعها مشاهد لقوله تعالى: في سورة نوح عليه السلام (أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا (15) وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا)، فكأن قوم نوح عليه السلام لطول أعمالهم أدركوها بالرصد، وأجيب: بأن الشاهد أن في السماوات في أنفسها لَا ما بينها. قوله تعالى: (فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ). الظرف تارة يعتبر من حيث كونه محالا للفاعل، وتارة يعتبر من حيث كونه محالا للمفعول والفاعل، يقول ضربت زيدا في المسجد، وأنتما معا فيه وحده وأنت في الطريق، أو العكس، وتقول: ضربت زيدا يوم الجمعة، وأنتما معا فيه، كقوله: (فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ)، الظرف هنا منسوب للمفعول فقط، واليوم ليست حركة الفلك بالطلوع والغروب؛ لأن لَا يلزم الدور؛ لأن الفلك خلق فيه فاليوم سابق عليه، فالمراد مقدار حركة مقدرة، وقول ابن عطية: روي [أن الخلق ابتدئ يوم الأحد*]، وقيل: يوم السبت (¬1). ابن عرفة: فتسمية هذه الأيام أمور جعلية، والمحال المقدم في حملها على حقيقتها أمر عقلي. قوله تعالى: (وَمَا بَيْنَهُمَا). يؤخذ منه أن أفعال العباد مخلوقة لله تعالى. قوله تعالى: (مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ). ¬

_ (¬1) أورد المصنف في الحاشية: الصحيح ابتداء الله تعالى الخلق يوم السبت كما رواه الإمام مسلم في صحيحه مفصلا.

(5)

الولي: الحافظ، وهو الذي خيره بقوله: يدفع عنه بالمحاولة والرغبة، فالولي يمنعه من الملك لقوته، والشفيع: يمنعه منه بجاهه عنده ومكانته، وانظر ما تقدم في سورة الأنعام في قوله تعالى: (وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ). قوله تعالى: {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ... (5)} قال ابن عطية: عدة تأويلات فعن مجاهد وابن عباس وجماعة: [ينفذ الله تعالى قضاءه بجميع ما يشاؤه، (ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ) خبر ذلك (فِي يَوْمٍ) من أيام الدنيا (مِقْدارُهُ) أن لو سير فيه السير المعروف من البشر (أَلْفَ سَنَةٍ)؛ لأن ما بين السماء والأرض خمسمائة سنة، وقيل: يدبر: يلقى إلى الملائكة أمور ألف سنة من عندنا*]، وهو اليوم عنده، فإذا [فرغت ألقى إليهم مثلها*] إلى أن ينفذ الأمور عنده لهذه المدة، ثم تصير إليه أخرى، وكلها عن مجاهد، وقيل: يدبر الأمر من السماء إلى الأرض في هذه الدنيا، ثم يعرج إليه يوم القيامة، ويوم القيامة مقداره ألف سنة لشدة هوله، وهذا راجع لقوله تعالى: (خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ)، أي كل يوم منها ألف سنة، وعن أبي يزيد: أن الضمير في مقداره عائد على العروج، وهو الصعود، وقيل: يدبر أمر الشمس أنها [تصعد*] وتنزل في يوم، وذلك قدر ألف سنة، زاد الزمخشري [الْأَمْرَ المأمور به من الطاعات والأعمال الصالحة ينزله مدبرا (مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ) ثم لا يعمل به ولا يصعد إليه ذلك المأمور به خالصا كما يريده ويرتضيه إلا في مدة متطاولة، لقلة عمال الله والخلص من عباده وقلة الأعمال الصاعدة، لأنه لا يوصف بالصعود إلا الخالص*]، قال تعالى (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ)، قيل: ينزل الوحي مع جبريل إلى الأرض ثم يصعد إليه مع ما كان من قبوله أو رده في وقت هو ألف سنة، وهي [مسافة*] الطلوع والهبوط وسرعة سير جبريل. قال ابن عرفة: وظهر لي معناه، وأورده ابن عرفة في قوله (وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا)، سر الأفعال تقدير الآية لو شئنا إتيان كل نفس هداها لآتيناها هداها، فيلزم عليه أحد أمرين وهما: إما تحصيل الحاصل أو تقدم الصفة على الموصوف بيان ذلك أنه أن يراد بقوله تعالى: (شِئْنَا) الإرادة التنجيزية أو الصلاحية، فإن كان الأول وهو إيراد الإرادة التنجيزية، لزم تحصيل الحاصل، وأنه يصير المعنى حينئذ: لو أوقعنا الهداية بالفعل [لوقع الفعل*]، وإن كان الثاني وهو أن يراد الصلاحي لو تم تقدم الصفة على الموصوف، وبيانه أن الإرادة من الصفات التعليقية وهي قديمة والنفوس حادثة، فيلزم وجود التعلق الذي هو صفة في الأزل دون المتعلق، وذلك نفس تقدم الصفة على الموصوف، قلت: وهذا جواب بتقدير الإشكال المذكور في الأصل فتأمله. قوله تعالى: {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ ... (7)}

(13)

أي خلقا حسنا في صفته، والأعمى كذلك، وهذا إكمال نجد الصناع من الدهاقين والنجارين والخياطين يصنع بعضهم مثالا ينطبق على الصورة سواء، وآخر يصنعه غير مرتب فلا ينطبق على الصورة. قوله تعالى: {وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا ... (13)} قال ابن عرفة: عادتهم يقولون: المراد لو شئنا هداية كل نفس لهديناها فتعلق المشبه بالهداية، فالهداية إن [كانت تنجيزية*] لزم عليه تحصيل الحاصل وعدم الفائدة في التركيب؛ لأنه يكون المعنى لو حصلنا هداية كل نفس بالفعل لحصلناها بالفعل، وإن كان صلاحيا لزم عليه تناهي إرادة الله تعالى، لأن متعلقاتها وهي النفوس متناهية، وما ثبت لأحد المتلازمين ثبت للآخر، فالمراد لو أردنا الأزل هداية كل نفس هدايتها بالفعل، وكل ما دخل في الوجود متناه، وهو ملزوم للإرادة، وأجيب: بأنها متعلقة بخاص، والخاص متناه بالضرورة، فلا يلزم منه تنافيها. قوله تعالى: (هُدَاهَا). أي هداها اللائق بها، قيل: لابن عرفة: قال (وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ)، فهو المستلزم لحصول الهداية، وإنما إتيانها هداها، فقد يعطي الإنسان ولم يقبله، فقال: إنما ذلك في غير العالم، وأما العالم بخفيات الأمور فلا يعطي إلا لمن يقبل. قوله تعالى: {فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا ... (14)} النسيان [يأتي*] بمعنى الترك، قال الآمدي: منع المعتزلة إطلاق صفة الترك على الله تعالى، وأجازها أهل السنة بقوله تعالى: (وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ). قوله تعالى: {إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا ... (15)} قال ابن التلمساني في شرح المعالم: الآية إن تحدى بها فهي معجزة، وإن لم يتحدى بها فهي آية، ولفظ الآية أعم. قوله تعالى: (خَرُّوا سُجَّدًا). المراد به الخشوع للسجود الفعلي حقيقة؛ لأنه غير ملازم لهم. لأنه يلزم أن لا يؤمن بها إلا من سجد بالفعل، وسجد حال مقدرة لَا محصلة؛ لأن السجود إنما هو بعد الخرور. قوله تعالى: (وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ).

(18)

ولم يقل: سبحوا بنعمة ربهم؛ لأن النعمة غير ملازمة لهم. قوله تعالى: {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا ... (18)} قال ابن عطية: نزلت في علي والوليد بن عقبة بن أبي معيط؛ لأن الوليد قال لعلي كرم الله وجهه: " [أنا أبسط منك لسانا وأحد سنانا وأرد للكتيبة، فقال له علي بن أبي طالب: اسكت فإنك فاسق*] ". ابن عرفة: إن صح كيف أن نقول له هذا، وهو مسلم، فأجاب: باحتمال أن تكون هذه نزلت بعد آية الحجرات وهي (إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا)، لأنها نزلت في الوليد لما بعثه النبي صلى الله عَليه وعلى آله وسلم [إلى بني المصطلق، فقال له: إنهم لم يؤمنوا فأرسل إليهم عليا*] بن أبي طالب، فخرجوا بأجمعهم وآمنوا فنزلت الآية، وكان الوليد لما رآهم خرجوا بجماعتهم ظن أنهم يقاتلونه، وهو الذي ولاه عثمان على الكوفة، وعزل عنها سعد بن أبي وقاص مرة، ويقال: إن الوليد أخو عثمان - رضي الله عنه - لأمه فبقي واليا عليهم إلى أن صلى بهم الصبح أربع ركعات، وقال: إن شئتم أزيدكم، فقال ابن عباس: ما زال أمرنا في زيادة منذ وليت علينا، فإذا هو سكران فعزله عثمان، وأمر بجلده، فجلد وهو يعد أسواطه حتى بلغه أربعين، فأمره علي رضي الله عنه بالكف عنه، وقال: جلد رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم في الخمر أربعين، وأبو بكر رضي الله عنه وعمر ثمانين، فإني رأيت أن تقف على أربعين [ففعل*]، قاله أبو عمرو، في الاستيعاب، وهو خلاف ما نقله عنه الأصوليون من أن عليا كرم الله وجهه اختار في حد الخمر ثمانين، وقال: إذا شرب [سكر، وإذا سكر هذى، وإذا هذى افترى*] فأرى عليه [حد الضرب*] ثمانين، وذكر أنه شهد عليه رجل أنه شربها، وأخبر بأنه قاءها، فقال عثمان: ما قاءها حتى شربها. قال ابن عرفة: ولما تقدم الكلام على المؤمن ومدحه بأخص وصفه عقبه ببيان أن مطلق الإيمان ومطلق الفسق لَا يستويان، وهو دليل على أن المراد هنا بالفسق الكفر، لأنه جعله ضد مطلق الإيمان. قوله تعالى: {فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى ... (19)} قال ابن عطية: سميت جنة المأوى؛ لأن أرواح المؤمنين تأوي إليها إلى قناديل معلقة تحت ساق العرش، والعرش سقف الجنة، ولعلها تأوي إليها في الدنيا؛ لأن الشهيد تنعم روحه وجسده. قوله تعالى: (نُزُلًا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ).

(20)

قال ابن هشام الباهلي: مذهب أهل السنة للسبب، وعلى مذهب المعتزلة واجب، وكذلك السبب. قوله تعالى: {فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ ... (20)} .. المبتدأ مأواهم؛ لأنه أعرف، ولأنه مقدم ولإحصاره في الخبر لَا مأوى لهم إلا النار، بخلاف العكس. قوله تعالى: (ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ). قال ابن عرفة: عادة القراء يقولون: السورة المدنية وصف فيها عذاب النار بالمذكور، وهي سورة السجدة، وفي سورة سبأ وصف فيها عذاب النار [بالمؤنث*] [فانتسبت*] هنا للعذاب، وفي سبأ للنار، وأجاب الطيبي [وابن الزبير*]، بأن النار هنا تقدم ذكرها، فالأصل جاء ذكرها مضمرا، فيقال: مأواهم النار كلها. قوله تعالى: (كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا). وقيل لهم ذوقوا عذابها، فالظاهر هنا وقع موقع المضمر لَا ينعت، فلذلك قال (الذي كنتم به [تُكَذِّبُونَ) *]، النعت للعذاب لَا للنار، وأما سورة سبأ فقبلها (فَالْيَوْمَ لَا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ). قوله تعالى: (كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا). قال بعضهم: الإعادة تقتضي أن يكون الخروج أن يكون بمعنى كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها، ويجوز في لفظ الإعادة بأن يراد منها المنع من الخروج أو يكون المعنى أرادوا الخروج، وأخذوا في أسبابه، وروي عن الحسن: أنهم يصعدون من الطبقة السفلى إلى العليا، فيردون إليها. قوله تعالى: {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ ... (21)} قال الزمخشري: العذاب الأدنى عذاب الدنيا، من القتل والأسر وغيره، وعن مجاهد: هو عذاب الآخرة، زاد ابن عطية بلا خلاف. قال ابن عرفة: يحتمل أن يكون معا في الدنيا فالأصغر [بسبي ذراريهم [وسلب أموالهم*]، والأكبر [سبيهم*] في أنفسهم. قال الفخر: [وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى فِي مُقَابَلَتِهِ الْعَذَابُ الْأَقْصَى وَالْعَذَابُ الْأَكْبَرُ فِي مُقَابَلَتِهِ الْعَذَابُ الْأَصْغَرُ، فَمَا الْحِكْمَةُ فِي مُقَابَلَةِ الْأَدْنَى بِالْأَكْبَرِ؟ فَنَقُولُ حَصَلَ فِي عَذَابِ الدُّنْيَا أَمْرَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ قَرِيبٌ وَالْآخَرُ أَنَّهُ قَلِيلٌ صَغِيرٌ وَحَصَلَ فِي عَذَابِ الْآخِرَةِ أَيْضًا أَمْرَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ بَعِيدٌ وَالْآخَرُ أَنَّهُ عَظِيمٌ كَثِيرٌ، لَكِنَّ الْقُرْبَ فِي عَذَابِ الدُّنْيَا هُوَ الَّذِي يَصْلُحُ لِلتَّخْوِيفِ بِهِ، فَإِنَّ الْعَذَابَ الْعَاجِلَ وَإِنْ كَانَ قَلِيلًا قَدْ يَحْتَرِزُ مِنْهُ بَعْضُ النَّاسِ أَكْثَرَ مِمَّا يَحْتَرِزُ مِنَ الْعَذَابِ الشَّدِيدِ إِذَا كَانَ آجِلًا، وَكَذَا الثَّوَابُ الْعَاجِلُ قَدْ يَرْغَبُ فِيهِ بَعْضُ النَّاسِ وَيَسْتَبْعِدُ الثَّوَابَ الْعَظِيمَ الْآجِلَ، وَأَمَّا فِي عَذَابِ الْآخِرَةِ فَالَّذِي يَصْلُحُ لِلتَّخْوِيفِ بِهِ هُوَ الْعَظِيمُ وَالْكَبِيرُ لَا الْبَعِيدُ لِمَا بَيَّنَّا فَقَالَ فِي عَذَابِ الدُّنْيَا الْعَذابِ الْأَدْنى لِيَحْتَرِزَ الْعَاقِلُ عَنْهُ وَلَوْ قَالَ: (لَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الأصغر) ما كَانَ يَحْتَرِزُ عَنْهُ لِصِغَرِهِ وَعَدَمِ فَهْمِ كَوْنِهِ عَاجِلًا وَقَالَ فِي عَذَابِ الْآخِرَةِ الْأَكْبَرِ لِذَلِكَ الْمَعْنَى، وَلَوْ قَالَ دُونَ الْعَذَابِ الْأَبْعَدِ الْأَقْصَى لَمَا حَصَلَ التَّخْوِيفُ بِهِ مِثْلَ مَا يَحْصُلُ بِوَصْفِهِ بِالْكِبَرِ، وَبِالْجُمْلَةِ فَقَدِ اخْتَارَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْعَذَابَيْنِ الْوَصْفَ الَّذِي هُوَ أَصْلَحُ لِلتَّخْوِيفِ مِنَ الْوَصْفَيْنِ الْآخَرَيْنِ فِيهِمَا لِحِكْمَةٍ بَالِغَةٍ*].

(22)

قوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا ... (22)} وفي الكهف (فَأَعْرَضَ عَنْهَا). قال ابن عرفة: كان الطلبة يقولون: [ ... ]. ما أشد؟ هل ظلم من أعرض عقب التذكر بالآيات أو ظلم من أعرض بعد مهلة، وهل الإنكار على الأول أشد، والإنكار على من ظلم بعده مهلة أشد؛ لأن ظلمه أضعف فيستلزم الإنكار عليه الإنكار من باب أحرى. قوله تعالى: (إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ). قلت: أجاب الزمخشري: أنه [لما جعله أظلم كل ظالم ثم توعد المجرمين عامة بالانتقام منهم، فقد دلّ على إصابة الأظلم النصيب الأوفر من الانتقام*]، ولو قاله بالضمير لم يفد هذه الفائدة. قال ابن عرفة: هذا يحتاج إلى دعامة، وهو أن لفظ المجرمين يتناول الإنكار عليهم وعلى غيرهم ممن قد اتصف بالإجرام المطلق. قوله تعالى: {وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ (23)} .. هذا كقوله تعالى: (إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا)، فالكسب هدى لهم، ومنهم المؤمن به والكافر، هذا إن أريد به عموم بني إسرائيل، إن أريد المؤمنون فقط من بني إسرائيل، فهو هدى لهم حقيقة. قوله تعالى: {لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ (24)} قال ابن عرفة: اليقين هو الحق لقوله تعالى: (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ). قال ابن عرفة: إنما قدم الأنعام على الأنفس مع أن الأنفس آكد؛ لأنه كذلك في الوجود الخارجي؛ لأن أول ما يأكل [من الزرع الأنعام من عصفه*] ثم بعد ذلك الإنسان [من حبه*] فجاء على الترتيب الوجودي.

(27)

قال ابن عرفة: وقع الاعتناء هنا بأمرين بقوله تعالى: (أَوَلَم يَهْدِ لَهُم)، يشتمل على تخويف، قوله تعالى: (أَوَلَمْ يَرَوا)، يشتمل على نعمة فتخرج به زرعا، دليل على أن الزرع إنما يخلق من التراب، وقيل: من الماء، وقيل منهما معا، وكذلك اختلفوا في الجنين مماذا يخلق، [قيل: من ماء الرجل، وقيل: من ماء المرأة*]، وقيل: منهما، ولو كان إخراج الزرع من الماء لقال: فيخرج به زرعا. قوله تعالى: {أَفَلَا يُبْصِرُونَ (27)} فهو ترق. قوله تعالى: {لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ ... (29)} إن أريد في مكة، فالمراد من مات من الذين كفروا، فإنه لَا ينفعه إيمانه بعد ذلك، وأما من بقي حيا فينفعه إيمانه. قال ابن عرفة: ما ذكر الزمخشري في آخر سورة السجدة من الحديثين الذي ذكرهما كما جرت به عادته، لم يثبت منها حديث صحيح، والذي في الحديث الصحيح، خرجه الترمذي: أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم - كان لا ينام حتى يقرأ (الم تَنْزِيلُ)، و (تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدهِ الْمُلْكُ)، قلت: وذكره الطيبي هنا قائلا: رويناه عن أحمد والترمذى والدارمي. * * *

سورة الأحزاب

سُورَةُ الْأَحْزَابِ قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ ... (1)} قال ابن عرفة: قالوا: أكثر ما وقع في القرآن مخاطبته بصفاته فيقال: (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ) (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ)، وكذلك قوله تعالى: (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ)، وما وقع التعبير عنه باسم العلم إلا في نحو خمس آيات، وهو قوله تعالى: (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ)، وقوله تعالى: (مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ)، وقوله تعالى: (وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ)، وقوله سبحانه وتعالى (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ)، وقوله عز وجل (وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ)، قال: وسبب ذلك أن هذه الصفات ذكرت على سبيل المدح والتشريف، فلذلك كثر ذكرها، والتصريح باسمه العلم إنما هو يميزه عن غيره فقط. قوله تعالى: (اتَّقِ اللَّهَ). إن قلت: ما فائدة أمره بالتقوى مع أنه تحصيل الحاصل، قلنا: متعلق الأمر بالشيء لمن هو متصف به، إن كان متعلقه مقولا بالتشكيك ففائدته الترقي في أجزائه، والاتصاف بإعلام، وإن لم يكن كذلك ففائدته الدوام عليها. قوله تعالى: (وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ). قال ابن عرفة: فائدته عندي أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم كان يخفض جناحيه لهم، فيوافقهم على فعل ما يصل به إلى غاية ما يباح له [فعله*] شرعا استيلافا لهم وحرصا على إيمانهم، فقيل له لَا تفعل هذا، فإِن ذلك يندرج بهم إلى طمعهم فيك، وتعلق آمالهم لطلبهم منك ما لَا يباح لك فعله شرعا، وهذا كما يطلبه منك عبدك درهما، فإن سعفته به يتجاسر عليك، ويطلب منك دينارا. قوله تعالى: {مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ ... (4)} قال الزمخشري: لو كان قلبان لكان تاما أن يفيده أحدهما من العلم، ما أفاده الآخر أو غيره، فالأول: تحصيل الحاصل، والثاني: يلزم عليه اجتماع النقيضين. قال ابن عرفة: هذا على أن أصله أن الصفة إذا قامت بحدث أوجبت الحكم لجميع الذوات، وهو مردود بحاستي السمع والبصر واليدين، فإنه يسمع بالأذن مثل ما

(6)

يسمع بالأخرى، ويضع يده الواحدة على النار ويده الأخرى على المسخن، ويجاب: بأن قوله تعالى: (مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ)، كان بعضهم يقول: الحكمة في إدخال (مِنْ) أن صيغ الجموع، والتثنية كلمة [كل*]، فإذا قلت: الرجال قائمون معناه: كل واحد قائم، وكذلك الزيدان قائمان، فلو قال: ما جعل الله لرجل قلبين لأوهم نفي القلب الواحد، ولذلك قال تعالى (وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ)، فأكده بقوله (اثْنَيْنِ)، ليفيد أن المراد نفي مجموع القلبين من حيث هو مجموع لا نفي الواحد لأنها في النفس لاستغراق الجنس. قوله تعالى: (فِي جَوْفِهِ). قال الزمخشري: فائدته زيادة التصور المدلول عليه، لأنه إذا سمع به صور [لنفسه*] جوفا يشتمل على قلبين، فكان أسرع إلى الإنكار، وأجاب الزمخشري في سورة الأنعام في قوله تعالى: (وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ). قوله تعالى: (وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ). قال الزمخشري: إن قلت: ما معنى قولهم: أنت عليَّ كظهر أمي فكنوا عن البطن بالظهر؛ لأنه عمود البطن، ومنه حديث عمر، قلت: هو حديث ذكره ابن أنس عنه في كتاب التجارة بأرض الحرب، قال عن عمر: [لاَ حُكْرَةَ فِي سُوقِنَا، لاَ يَعْمِدُ رِجَالٌ بِأَيْدِيهِمْ فُضُولٌ مِنْ أَذْهَابٍ إِلَى رِزْقٍ مِنْ رِزْقِ اللهِ نَزَلَ بِسَاحَتِنَا، فَيَحْتَكرونَهُ عَلَيْنَا، وَلَكِنْ أَيُّمَا جَالِبٍ جَلَبَ عَلَى عَمُودِه كَبِدِهِ فِي الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ، فَذَلِكَ ضَيْفُ عُمَرَ, فَلْيَبِعْ كَيْفَ شَاءَ اللَّهُ، وَلْيُمْسِكْ كَيْفَ شَاءَ*]، فأباح ذلك عمر للجالب والزراع. قوله تعالى: (ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ) أي قول باللسان دون اعتقاد القلب. قوله تعالى: (وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ). وإنما يقال: قال الله الحق، ورد عليه النواوي رحمه الله بهذه الآية. قوله تعالى: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ ... (6)} قالوا سببها ما أخرجه البخاري ومسلم من أنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم: " [كَانَ يُؤْتَى بِالرَّجُلِ المُتَوَفَّى، عَلَيْهِ الدَّيْنُ، فَيَسْأَلُ: «هَلْ تَرَكَ لِدَيْنِهِ فَضْلًا؟»، فَإِنْ حُدِّثَ أَنَّهُ تَرَكَ لِدَيْنِهِ وَفَاءً صَلَّى، وَإِلَّا قَالَ لِلْمُسْلِمِينَ: «صَلُّوا عَلَى صَاحِبِكُمْ»، فَلَمَّا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ الفُتُوحَ، قَالَ: «أَنَا أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، فَمَنْ تُوُفِّيَ مِنَ المُؤْمِنِينَ فَتَرَكَ دَيْنًا، فَعَلَيَّ قَضَاؤُهُ، وَمَنْ تَرَكَ مَالًا فَلِوَرَثَتِهِ*]. وعلق الحكم هنا بالنبي، وهو أعم من الرسول ليدل على تناوله للرسول من باب أحرى.

(7)

قوله تعالى: (وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ). فيه حجة لأبي حنيفة رضي الله عنه، القائل إنهم أولى بالإرث عن بيت المال. قوله تعالى: (إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا). قال ابن عطية: قيل: استثناء متصل، وقيل: منفصل، وقال الزمخشري: إنه استثناء من أعم العام. قال ابن عرفة: تقريره أن العام هم المؤمنون والوصية؛ لأن العام في الأشخاص والأزمنة أولا، والمشهور أنه مطلق فيها، واستثنى من أحوال تلك الأشخاص الوصية، فهو استثناء متصل، وتقدم لابن التلمساني شارح المعالم أن الاستثناء قسمان يصدق على إخراج ما لولاه الموجب دخوله على إخراج ما لولاه لصلح دخوله، فلو استثنى من الخاص المؤمنين أو المهاجرين لكان إخراج ما لولاه الموجب دخوله، وأما المستثنى من أحوالهم أن إخراج ما لولاه لصلح دخوله؛ لأن أحوالهم صحيحة؛ لأن يكون إرثا أو عطية، بمعنى الهبة أو بمعنى الصدقة وبمعنى الإعمار والتحسين، وقد تقرر في الأصول الفرق بين الأعم والعام، وهذا كثيرا ما يقوله الزمخشري أنه استثناء من أعم العام، وذكر مثله في هذه السورة في قوله تعالى: (لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ)، وفي سورة يوسف في قوله تعالى: (لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ)، وتقدم نحوه، لابن عرفة في قوله تعالىَ: في سورة هود (لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ)، وفي قوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: " [لاَ تَبِيعُوا الذَّهَبَ بِالذَّهَبِ إِلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ، وَلاَ تُشِفُّوا بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ*] ". ابن عرفة: أي لَا تبيعوه في حال إلا في المماثلة، وقال الطيبي: إنه استثناء [مفرغ*] في الثبوت، وقاعدة [المفرغ*] إنما يكون في [المنفي*]. قوله تعالى: (كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا). المسطور هو حكم الوصية وغيرها، لَا متعلق ذلك. قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (7)} ابن عطية: [إِذْ يحتمل أن تكون ظرفا لتسطير الأحكام المتقدمة في الكتاب، كأنه قال كانت هذه الأحكام مسطرة ملقاة إلى الأنبياء إذ أخذنا عليهم الميثاق في التبليغ والشرائع، فتكون إِذْ متعلقة بقوله كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً، [الأحزاب: 6]، ويحتمل أن تكون في موضع نصب بإضمار فعل تقديره واذكر إذ، وهذا التأويل أبين من الأول*]. ابن عرفة: لأجل واو العطف إذ لو كان [معمولا*] لمسطور جاء موصولا غير مفصول بحرف العطف، قال: وإذا كان العامل اذكر، فلابد من تقدير مضاف، أي

(8)

اذكر حالهم إذا أخذنا، وأما ذكر الوقت نفسه، فلا يصح؛ لأنه ماض، فكيف يؤمر الآن بالذكر، إلا أن يكون مفصولا به فيكون أمر بذكره لَا بالمذكور فيه، مع أن ابن عطية جعله ظرفا، والنبي أعم من الرسول، وقيل: أخص واحتج ابن [رشد*] على كونه أخص بقوله تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ)، فعطف النبي عليه، دليل على كونه أخص ورد ابن عرفة: بأنه في سياق النفي فينتج له العكس؛ لأن النفي الأخص أعم من النفي الأعم، وقد ذكر محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم تشريفا له، وروي أنه قال: "كنت أول الأنبياء في الخلق وآخرهم في البعث"، قيل لابن عرفة: فجاء تقديمه على الأصل؛ لأنه أولهم خلقا حين أخرجوا من ظهر آدم [كالذر يوم (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ) *]، فقال: لزمك أن يكون خلق، قيل: آدم مع أنه أخرج من ظهره، قلنا: نلتزمه لما ورد أنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم كان ذرا قبل خلق آدم انتقل ذلك النور إلى ظهره، نقله عياض في الشفاء في الفصل السادس من الباب الثاني عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: [كَانَتْ قُرَيْشٌ نُورًا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ آدَمَ بِأَلْفَيْ عَامٍ يُسَبِّحُ ذَلِكَ النُّورُ وَتُسَبِّحُ الْمَلَائِكَةُ بِتَسْبِيحِهِ, فَلَمَّا خَلَقَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ آدَمَ أَلْقَى ذَلِكَ النُّورَ فِي صُلْبِهِ*]. قوله تعالى: (وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا). قال ابن عرفة: وكان شيخنا ابن عبد السلام يقول: إنما كرره؛ لأن المصدر تارة يعتبر من حيث إضافته للمفعول، وتارة يعتبر من حيث إضافته للفاعل، ومثاله إذا أخذ رجلان مالا بالسواء، أخذ أحدهما نصفه منه من عند رجل عظيم، والآخر نصفه منه من عند رجل حقير، فالأخذ بالنسبة إلى المفعول مسبق، وبالنسبة إلى الفاعل متفاوت، فقوله تعالى: (مِيثَاقَهُمْ)، إما مصدر مضاف للمفعول فلذلك لم يصفه بالغلظة، اعتبارا بنسبته للفاعل، وهو الله تعالى، ولما كرره لم يعرف بـ (ال) لكونه ذكر أولا معرفا على منكر. قوله تعالى: {لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ ... (8)} ذكر ابن عطية احتمال كون اللام للصيرورة، على أن الضمير في يسأل عائد على غير الله تعالى، إما على الملك أو نحوه؛ لأن لام الصيرورة تقتضي أن الفاعل جاهل بعاقبة الأمر. قوله تعالى: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا ... (9)}

(12)

قال ابن عرفة: إن كانت للسبب فظاهر، وإن كانت للتعقيب [فبكون الله تعالى أرسل عليهم الريح وأنها كانت إثر مجيئهم*]، وأمر الملائكة أن [**يتربصوا] عليهم بقدر ما تستوفي جنودهم، ويطمعون في أخذ المؤمنين، فهو [**إنكالهم]. ابن عطية: لما أرسل عليهم الريح، قال بعضهم: سحرنا محمد. قال ابن عرفة: كان بعضهم يقول: بموجبة ولكن سحرهم السحر الحلال، قيل له: هذا لَا يحل إطلاقه، فقال: ترى النَّاس إذا تعجبوا من شيء يقول: هذا هو السحر الحلال. قوله تعالى: (وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا). قرئ بتاء الخطاب، فهو وعد للمؤمنين الحفظ والنصر، كقوله تعالى: (لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى)، وقرئ [بياء الغيبة*] فهو وعيد للكفار بأنه يرى عملهم فيجازيهم عليه، وينتقم لكم منهم. قوله تعالى: {وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ... (12)} ابن عرفة: هذا من عطف الصفات، أي وإذ يقول الموصوفون بالنفاق ومرض القلوب، أو من عطف الموصوفات فيكون المنافقون قسمين: منهم من جزم بالكفر، ومنهم من في قلبه مرض، وفي سورة المدثر (وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا)، فقدم الذين في قلوبهم مرض، قال: وعادتهم يجيبون: بأن منشأ المقالة في هذه الآية، هو الجزم بالكفر والتصميم عليه، لقولهم (مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا)، وهذا الكفر صريح ومنشأ [المقالة*] في سورة المدثر، الشك في الإيمان لقولهم (مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا)، فروعي في كل آية منهما الأصل فيما سبق الكلام لأَجله، فقدم هنا المنافقون المصممون على الكفر، وقدم في المدثر مرضى القلوب، قيل لابن عرفة: لَا معارضة بين الآيتين، لأن المنافقين هم الذين في قلوبهم مرض، فقال (وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَرَضٌ)، أعم. قوله تعالى: {وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ ... (15)} قال ابن عرفة: هذا أخص من أن لو قيل: لَا يخلفون عن القتال، لأنهم إذا عاهدوا الله لَا ينهزموا ولا ينصرفوا عن المقاتلة، فأحرى أن لَا يتخلفوا عن حضور القتال، لتكثير السواد وإن لم يقاتلوا، أو أحرى أن لَا يتسببوا في خذلان المؤمنين

(16)

وصدهم عن القتال، فخالفوهم في ذلك واتصفوا بأشد ما يناقض عهدهم، وهو السبب في فشل المؤمنين وخذلانهم. وقوله تعالى: (قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ ... (16) قال ابن عرفة: المجرور متعلق بالفعل، وهو فررتم لَا بالفرار إما لقربه منه، وإما لأنه الأصل في العمل حسبما أشار إليه الزمخشري في (ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ)، [فإن قلت: بم تعلق مِنَ الْأَرْضِ أبالفعل أم بالمصدر؟ قلت: هيهات، إذا جاء نهر الله بطل نهر معقل*] [يريد*] وإن ذلك إنما هو حيث يكون المصدر جاريا على ذلك الفعل، مثل (دَعَاكُمْ دَعْوَةً)، وأما هذا فإن مصدر فررتم الجاري على المفر أن يكون الفرار إلا الفرار، وما كلام الزمخشري إلا حيث تجري فتأمله، قلت: وهذا الذي ذكر غير صحيح، فإن مصدر فررتم ما هو إلا الفرار فتأمله، وإمَّا لأن الفرار مصدر معرف بالألف واللام فهو موصول فلو تعلق به لوقع الفصل بين الصلة والموصول بأجنبي، ومعناه أن تعلق الفعل لن ينفعكم الفرار من كل شيء [إن*] فررتم من الموت أو القتل، لأنهم قد يفرون لحفظ أموالهم، كما قالوا (إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ)، وإن تعلق بالفرار فمعناه لن ينفعكم الفرار من الموت أو القتل إن فررتم منهما، قال: ومما يرجح تعلقه بالفرار أنه إذا تعلق بـ فررتم لم [يناقض*] أول الآية آخرها، بقوله تعالى: (وَإِذًا لَا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا)، فقد نفعكم الفرار مطلق نفع، وهو التمتع القليل، فلا يصح أن ينفي عنهم نفعه لهم مطلقا، إذا تعلق بالفرار لَا يكون فيه تناقض بوجه، فإن قلت: ما أفاد بقوله (إِنْ فَرَرْتُمْ) قلت: عادتهم يجيبون: بأن [السالبة عند المنطقيين ما تقتضي وجود الموضوع ولا عدمه*] كقولك: لَا شيء من الآدمي في هذا البيت [بمتنفس*]، فيصدق بأن يكون ليس فيه حيوان بوجه، والموجبة المعدولة تقتضي وجود الموضوع نحو: كل آدمي في هذا البيت متنفس، فيقتضي وجوده، وأنه محكوم عليه بعدم التنفس، فإما أن [تكون*] كاذبة أو يكون الآدمي ميتا، وكذلك ما لم يقل: (إنْ فَرَرْتُمْ)، [لأوهم أنهم إنما لم ينفعهم الفرار لعدم وقوعه، فلما قال: (إنْ فَرَرْتُمْ)، أفاد أنه وجد، ولم ينفعهم وجوده*]. قوله تعالى: {وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (17)} الولي: هو القريب الموالي، فهو أخص من الناصر؛ لأن الناصر قد يكون أجنبيا، ونفي الأخص لَا يستلزم نفي الأعم، فلذلك عطفه عليه، وكذلك قال ابن عطية في أوائل العنكبوت. قوله تعالى: {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ ... (18)}

(19)

كما قال الزمخشري (قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ)، قال: (قَدْ نَرَى) ربما نرى، ومعناه كثرة الرؤية كقوله: قَدْ أتْرُكُ الْقِرْنَ مُصْفَرًّا أنَامِلُهُ والكثرة في متعلق العلم؛ لأن علم الله متحد لَا يوصف بالكثرة، ولا بالقلة. قوله تعالى: (الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ). المجرور إما فاعل أو مفعول، أي المعوقين الذين بهم بعضكم، والمعوقين من غيركم لبعضكم فمعكم أو معوق مثل علمت المكرم، فـ (منكم) إما حال أو مفعول، وكونه مفعولا أقرب لإقبال الخطاب صرف الذم إليهم، ومدح المؤمنين لعدم إتباعهم، وإذا كان فاعلا يكون فيه تهييج على الفرار منهم فقط وما سيقت الآية لهذا. قوله تعالى: (وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا). عطف تفسير كقوله تعالى: (وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ) فهو من عطف الصفات أو من عطف الموصوفات. قوله تعالى: (وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا). يحتمل معنيين: أحدهما: أن فيهم نجدة، وشجاعة، وقدرة على القتال، لكنهم يتناحلون ويظهرون الضعف والعجز. والثاني: أنهم عاجزون عن القتال كالنساء لما يدركهم من الهلع والخور والخوف، وهو الظاهر أي من شأنهم أنهم لَا يأتون البأس ولا يستطيعونه ولا يقدرون عليه. قوله تعالى: {أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا ... (19)} هذه لنفي الماضي المقبل بزمن الحال. قوله تعالى: (فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ). ابن عرفة: يحتمل عندي أن يريد بالإحباط بتبكيتهم، وعدم اتصالهم بغرضهم في صدهم المؤمنين، وخذلانهم عن القتال، وأنهم لَا يسعفوهم بمطلوبهم في قولهم: [هَلُمَّ إِلَيْنَا*]، خلاف ما حمله عليه المفسرون. قوله تعالى: {وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ ... (22)}

قال ابن عرفة: الفرق بين قولك: جاء زيد فأكرمته، وبين قولك: لما جاء زيد فأكرمته، أن الثاني يقتضي المبادرة بالإكرام، بخلاف الأول فإن الفاء تكون للتسبيب، ويتأخر الإكرام عن المجيء. قوله تعالى: (هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ). قال الزمخشري: الإشارة إلى [الخطب أو البلاء*] فالمشار إليه معنى مفهوم من السياق وجعله ابن عطية حسيا، وهو الأحزاب. ابن عرفة: وعلى هذا يقال: كيف أشار إلى الجمع بلفظ المفرد، فيجاب بأنه قصد تقليل الجمع وتحقيره، كقوله تعالى: (إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ). قوله تعالى: (وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ). يحتمل أن يكون من [تمام*] كلام المؤمنين، وأن يكون من كلام الله تعالى تقريرا لكلام المؤمنين، وتحقيقا له، فإن كان من كلام الله تعالى فلا شيء فيه، وإن كان من كلام المؤمنين، [ففيه*] دليل على صحة إنكاره صلى الله عليه وعلى آله وسلم على الخطيب القائل "مَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ، فَقَدْ رَشَدَ، وَمَنْ يَعْصِهِمَا، فَقَدْ غَوَى، حيث قال له: "بِئْسَ الْخَطِيبُ أَنْتَ، قُلْ: وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ" [لاحتمال اعتقاد التسوية بينهما في المقام*]. قوله تعالى: (وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا). الإيمان عند المعتزلة يزيد وينقص؛ لأن الفعل عندهم جزء من الإيمان، وعندنا فيه ثلاثة مذاهب ثالثها أنه يقبل الزيادة، ولا يقبل النقص. ابن عرفة: والتحقيق فيه أنه باعتبار ذاته، وهو التصديق لَا يزيد ولا ينقص باعتبار عوارضه يزيد، فالإيمان من عرف الله بالدليل والبرهان المقابل للقول بالشكوك الواردة

(23)

عليه في التوحيد أزيد من الإيمان من لم يعرفه بالأدلة، وفي قول ابن أبي يزيد في الرسالة، يزيد بزيادة الأعمال، وينقص بنقصها مسامحة توهم مذهب المعتزلة، لكن قوله فيكون فيها النقص وبها الزيادة يهدي إلى تأويله. قوله تعالى: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ ... (23)} قال ابن عرفة: نص ابن مالك على أن الجملة إن كانت صحيحة الترادف لما قبلها أو صحيحة التباين له أتى بها موصولة غير مفصولة بحرف العطف، وإن كانت في [مقام التوسط*] فلا بد من حرف العطف ليزيل الإشكال، قال: وظاهر كلام سيبويه، وأكثر النحويين أن الأصل تقديم المبتدأ سواء كان نكرة لها مسوغ أو معرفة، وظاهر كلام الزمخشري: أن الأصل [تأخيره*] إذا كان نكرة؛ لأنه أورد سؤالا [في سورة الأنعام في قوله تعالى: (وَأَجَلٌ مُسَمى عِندَهُ)، قال: [فما أوجب التقديم*؟] [فإن قلت: المبتدأ النكرة إذا كان خبره ظرفا وجب تأخيره فلم جاز تقديمه في قوله وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ؟ قلت: لأنه تخصص بالصفة فقارب المعرفة، كقوله وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ. فإن قلت: الكلام السائر أن يقال: عندي ثوب جيد، ولي عبد كيس، وما أشبه ذلك، فما أوجب التقديم؟ فأجاب: بأن في تقديمه تعظيما لشأن الساعة.*] قوله تعالى: (صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ). إما أن يراد صدقوا فيما عاهدوا الله عليه، فيكون حقيقة بمعنى الوفاء بالعهد، وإن كان المعاهد عليه مصدوقا، فهي مجاز كقولهم: صدقني من بكره في رجل اشترى من رجل حمارا، فقال: إنه بكر، فلما رأى الإبل صوت بتصويت البكر، فقال مشتريه صدقني من بكره، قال الطيبي: يروى برفع النون [مجازا*]؛ لأنه جعل السن صادقا. قوله تعالى: (فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ). فسر بوجهين: إما وفاء بعهده، وإما مات، فعلى الثاني لَا سؤال، وعلى الأول يشكل مع قوله تعالى: (صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيهِ)؛ لأن صدقهم دليل على [توفية جميعهم بعهده، فكيف تقسمهم إلى من وفَّى*] بعهده ومن ينتظر، فالمنتظر لم يصدق. ابن عرفة: إلا أن يقال: إنه وفَّى بعض، وعزم [الوفاء الباقي*] فهو صادق بهذا الاعتبار. قوله تعالى: {لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ ... (24)} قالوا: اللام للصيرورة باعتبار أن فاعل الفعل المعلل غير فاعل للعلة المستفادة، أو باعتبار الفعل المعطوف عليها وهو ويعذب المنافقين، قال: وكان بعضهم لما ذكر سبب جزاء الصادقين، ولم يذكر جزاء المنافقين، فلم يقل: ويعذب المنافقين بنفاقهم، فقال: كان يجيب بالتهيج على فعل المأمور به، واكتفى في النهي عنه بمطلق النهي، وظاهر كلام ابن عرفة أنه جعله من حذف التقابل.

(25)

قوله تعالى: {وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ ... (25)} ابن عرفة: كان بعضهم يقول: الغيظ هو الغم اللاحق للنفس بوقوع مؤلم، فإِنها الأولى متعلقة بمؤلم، والثانية بوقوع، ولم يدخل فيها الحزن؛ لأن المؤلم الواقع بها غير مقصود وقوعه بها، بل هو أمر من الله تعالى كذهاب مال الإنسان بأمر من الله تعالى، وموت قريب له بخلاف ما لو ذهب ماله باغتصاب آخر له، فإن الحادث له حزن وغيظ. قوله تعالى: (لَمْ يَنَالُوا خَيرًا). انظر هل الخير والشر نقيضان أو بينهما واسطة، فكان بعضهم يحتج على [أنهما*] على طرفي النقيض بقول المتكلمين: الوجود خير كله، [والعدم*] شر كله، [والوجود والعدم*] نقيضان. ومنهم من قال أن بينهما واسطة. قوله تعالى: (وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ). قالوا في السير: إن المؤمنين قاتلوهم بالنبل والحجارة. ابن عرفة: وهذا قتال كيف يفهم أنهم كُفوا القتال، لكن يجاب: بأن السورة تقتضي [ ... ] ولا تنبيه فهي هنا للترتيب، بمعنى أنهم كفوا قتالهم بعد أن صدهم الله تعالى يفيد أنهم خائبين. قوله تعالى: (وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا). يحتمل له أن يريد، وكان رسول الله قويا عزيزا كقوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ)، وهو الأصوب؛ لأنه هو محل مخالفة الكفار، بخلاف الأول. قوله تعالى: {وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ ... (26)} أي [عاونوهم*]، وظاهر كلام المفسرين أن المعاونة والمظاهرة مترادفان، وكان بعضهم يقول: إن المعاونة تقتضي المباشرة في السبب الذي وقعت فيه، والمظاهرة لا تقتضي ذلك، بل تصدق على من دل على الفعل، وحض عليه وإن لم يفعله من المدلول عليه.

(30)

قال الزمخشري: وروي أن جبريل عليه الصلاة والسلام أتى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم صبيحة الليلة التي انهزم فيها الأحزاب، وقال ابن عطية: جاءه جبريل عليه الصلاة والسلام وقت الظهر. ابن عرفة: كذا في السير لقوله: " [لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة*] ". ابن عطية: [ووصلها*] قوم من الصحابة بعد العشاء وهم لم يصلوا العصر، فلم [يخطئهم*] رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم. ابن عرفة: فيه دليل على أن كل مجتهد مصيب. قوله تعالى: {يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ ... (30)} قيل لابن عرفة: كنتم أوردتم سؤالا في قوله تعالى: في سورة النحل (الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ)، قلتم: زيادة العذاب على مثله [ملزوم لاجَتماع الأمثال في المحل الواحد وهو باطل، وهذا السؤال بعينه يرد في هذه الآية، فيقال: تضعيف العذاب ضعفين ملزوم لاجتماع الأمثال في المحل الواحد*]، [وتقدم الجواب*] عن ذلك من وجهين*]: إما أن يزاد على جواهر أجسامهم جوهر آخر تكون محلا للعذاب الزائد الأول، وإما باعتبار تطاول أزمنة العذاب وقصرها، فكانوا مثلا يعذبون في ساعة واحدة، ثم صاروا يعذبون في ساعتين، وهذا يفهم قولهم في حد الحرابة مثلا: حد العبد، فحد العبد في القذف أربعون، وحد الحر ثمانون، وكما يفهم أن صيغ هذه [ ... ] لكونها [ ... ] صنعت من زمن أطول من زمن الأخرى، وتقدم نحوه في البقرة في قوله تعالى: (فِي قُلُوبِهِم مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا)، وفي مريم (وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى)، وفي سورة المدثر في قوله تعالى: (وَيَزدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا)، وهي في سورة الفتح والقتال. قوله تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ ... (33)} قرأ الجمهور بكسر القاف، ونافع وعاصم بفتحها، فالفتح على لغة من قال: قررت بفتح القاف في المكان. ابن عطية: وهي لغة ذكرها أبو عبيد في التقريب المصنف، والزجاج. ابن عرفة:؛ قال بعضهم: وأشار الشاطبي بقوله [وَقِرْنَ افْتَحْ اذْ نَصُّوا يَكُونَ لَهُ ثَوى ... يَحِلُّ سِوَى الْبَصْرِيْ وَخَاتِمَ وُكِّلَا*]

قوله تعالى: (وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى). ابن عرفة: كان بعضهم يقول: الصواب أن تكون هذه الجملة في معنى الأولى مفسرة لها، فيكون أمرهن بملازمة البيوت ليس نهيا عن مطلق الخروج، بل عن الخروج المخالف للشرع، وهذا خروج التبرج، قال: فبكت عائشة على خروجها في آخر عمرها يوم الجمل في حرب معربة عن تورع منها وندم على مخالفتها الأولى في حقها رضي الله عنها وأداها اجتهادها إلى حمل الآية على هذا المعنى. ابن عرفة: فإن قلت: مفهوم هذا النهي أن التبرج الذي لَا يبلغ تبرج الجاهلية مباح لهن، قلنا: ليس كذلك، وإنَّمَا جاء هذا من اعتقاد أن حرف النهي دخل على الفعل بعد تأكيده بالمصدر، فكان نهيا عن الأخص، وليس كذلك بل المصدر تأكيد [للذم*]، أو تعليل له، فليس هو نهيا عن التبرج المشابه لتبرج الجاهلية، بل نهي مطلق التبرج المعلل بكون جنسه أو نوعه من صفة فعل الجاهلية، فتبرج الجاهلية علة للنهي لَا تأكيد له. قوله تعالى: (الأُولَى). حكى البيضاوي في تفسيره (الأُولَى) قولين: إما أنه للذي لم يسبقه غيره، أو الذي هو متبوع شأن بعده. فقول الحكم بين عيينة: إنه ما بين آدم ونوح. وقول ابن الكلبي: ما بين نوح وإبراهيم. وابن عباس: ما بين نوح وإدريس. وقول غيره: ما بين موسى وعيسى يوافق التفسير الأول، وكذلك حديث الجمعة: "من راح في الساعة الأولى فكأنما قرب بدنة". القول في أبي بكر أول خليفة بعد رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: "وفي عمر أنه أول خليفة بعد أبي بكر، وفي عثمان أنه أول خليفة بعد عمر"، ولا يقال في علي لما في الحديث، ثم يعود ملكا يوافق التفسير الثاني؛ لأنه ليس بعد علي خليفة. قوله تعالى: (وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ). إما من عطف العام على الخاص، أو المراد طاعته فباعدا ما تقدم. قوله تعالى: (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ).

(34)

إن كان المقصود ظهور تعلق الإرادة، وهو التعلق [التنجيزي*]، فالفعل على بابه من الاستقبال، وإن كان المراد التعلق الصلاحي، فهو في معنى الماضي. قوله تعالى: (وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا). الطهارة عبارة عن التطهير الحسي في البدن أو غيره من نجس أو غيره، وإطلاقها على [التنظيف*] المعنوي من الآثام والذنوب مجازا. وقال المازري أول الطهارة في شرح التلقين: بل هو حقيقة لتأكيده بالصدق في هذه الآية، قال: وبه يحتج لأهل السنة في قوله تعالى (وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا)، يفيد وقوع الكلام منه حقيقة فكذا هذا. والله أعلم. قوله تعالى: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ ... (34)} ابن عطية: هذا وعظهن بأحد وجهين: فإما أن المراد تذكرنه [واقدرنه*] قدره وفكرن في أن مَن هذه حاله ينبغي أن [تحسن*] أفعاله. وإما أن المراد [احفظن وكررن*] فكره على ألسنتكن وامتثلن أمر الله. ابن عرفة: هذا كلام المفسرين وحمله المحدثون وحفاظ الفقهاء، على أنه أمر لهن بتبليغ ما حفظن من القرآن والسنة للناس، ومنه أخذوا جواز الشهادة على الصوت؛ لأنهن محجوبات عن الأعين، لقوله تعالى: (وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ) لكن يجاب: بأن القرينة تنزلت منزِلة الشهادة على الصوت؛ لأنهن محجوبات عن الأعين، لقوله تعالى: (وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ) المفيدة للعلم، وقوله تعالى: (مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ)، الآيات المعجزات من القرآن والسنة (وَالْحِكْمَةِ) آية الأحكام. قوله تعالى: (فِي بُيُوتِكُنَّ). فائدته توكيد ومبالغة في أمرهن بتبليغه؛ لأن تلاوته في بيوتهن مظنة لاختصاصهن بسماعه عن غيرهن من النَّاس، فينبغي أن يجيب عليهن بتبليغه وجوب فرض العين، لا وجوب فرض الكفاية. قيل لابن عرفة: بل هو مأمور بتبليغه للجميع، لقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ)، فقال: لَا بل يخرج من العهدة بتبليغه للبعض كما قال: ليبلغ الشاهد الغائب قال، وقال في قوله تعالى: (وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ

(35)

فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ)، [إذ*] في ذكر بيتها ترتيب ليوسف عليه الصلاة والسلام، وتعريف بأنه كان في حكمها مع ذلك فامتنع منها بخلاف ما لو راودته في موضع هو متمكن من الهروب. قوله تعالى: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ ... (35)} قال ابن عرفة: كان بعضهم يقدر وجه الترتيب في هذه المعطوفات ثلاثة أمور: وهو الظاهر والأظهر، والسبب والمسبب، [والتصديق والتصور*]، فقدم الإسلام ظهوره وخفاء الإيمان، وقدم الإيمان على القنوت؛ لأنه أظهر من القنوت؛ لأن القانت هو القائم بالطاعة الدائم عليها، فيعرف إيمان الشخص بمجرد المخالطة، ولا يعلم أنه قانت إلا بالمداومة على مخالطته، ولأن القنوت مطلق الطاعة، والإسلام شرط فيها، ورتبة الشرط أن يكون متقدما على المشروط، وقدم (وَالْقَانِتِينَ) على (الصَّادِقِينَ). (وَالصَّابِرِينَ)؛ لأن الصادق هو الذي يصدق في نيته وقوله وعمله، والصابر الذي يصبر على فعل الطاعة وعلى المعاصي، فحصول وصف القنوت لهم مع الإسلام سبب في اتصافهم بالصدق والصبر لاجتناب المنهيات؛ لأنه منع نفسه من شهواتها، وكلها متعلقات الطاعة فإثباتها بعدها شبه التفسير بهذا الإجمال، ثم قال تعالى (وَالْخَاشِعِينَ)، إشارة إلى من حصلت له هذه الأوصاف لَا ينبغي له أن يثق بعمله، بل لَا يزال خائفا خاشعا؛ لأن هؤلاء على فعلهم هذا كله مهما مالوا عليه ازداد خوفهم وخشوعهم، وأخّر المتصدقين إما لأن ما قبلها أوصاف قاصرة، وهي وصف بطاعة متعدية للغير، وإما حديث أول الطهارة من صحيح مسلم عن أبي مَالِكٍ الْأَشْعَرِيِّ من ["وَالصَّدَقَةُ بُرْهَانٌ"*]، فهو كالدليل على صحة ما تقدم من الطاعات، ورتبة الدليل أن يكون بعد المدلول، وأخر الصيام؛ لأنه أمر عدمي راجع لترك الأكل والاستمتاع، وجميع ما قبله أمر وجودية، والوجود أشرف من العدم، وقدم الصوم على حفظ الفرج؛ لأن الصوم غير دائم في زمنها، وهو النهار فقط، وحفظ الفرج ترك دائم في كل الأزمان، فالصوم أقرب إلى الوجود، وحفظ الفروج أبعد. قلت: وتقدم عن ابن عرفة أنه إنما أخرهما عن المتصدقين؛ لأن الصدقة مظنة، ومن حصل له الغَناء هو متمكن من شهوة بطنه وفرجه، فأفاد أنهم مع ذلك يتركون شهوة بطونهم بالصوم، وشهوة فروجهم يحفظها عن المحارم، فجاء هذا شبه

الاحتراس والتكميل وأخر (وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ)، إشارة إلى قوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: "من كان آخر قوله لَا إله إلا الله دخل الجنة". قلت: وتقدم لنا أنه إنما أخره؛ لأنه كالعلة الغائبة التي قال الحكماء فيها: أول الفكرة آخر العمل، فأفاد أن فعلهم ذلك إنما كان لذكرهم الله تعالى واستحضارهم مقام الهيبة والإجلال. قال الزمخشري: إن قلت: أي فرق بين عطف الإناث على الذكور، وعطف الزوجين على الزوجين. ابن عرفة: أراد أي فرق بين كل صنف من هذه المزدوجات من إناث وذكور على مجموع الصنف الآخر، وبين عطف إناث كل صنف على ذكوره. فأجاب: بأن عطف الإناث على الذكور عطف ذوات، وعطف المجموع على المجموع عطف صفات، قال: معناه أن الجامعين لهذه الصفات لهم مغفرة. ورده ابن عرفة بقوله تعالى: (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا)، فليس المراد أن لَا يأخذها إلا من اجتمعت فيه هذه الأوصاف، بل كل نوع من هذه المذكورات له فيها حظ. وكذلك قال مالك: فيمن أوصى بثلث ماله للعلماء والفقراء والمجاهدين والصلحاء، فإنه لَا يقصر على من جمع هذه الأوصاف، بل للعالم منه حظه، وإن كان غنيا غير مجاهد، وكذلك الفقير وإن لم يكن عالما ولا مجاهدا. قيل لابن عرفة: لما رتب عليه الأجر الأخص، وهو العظيم وجب قصره على الأخص، وهو من جمع الأوصاف كلها، قال: بل هو فضل الله واسع. قال ابن عرفة: وكان بعضهم يقول (وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ)، ولم يقل: وكانت من القانتات فأدخَلها في وصف الذكور وهم أشرف من الإناث، وهنا لم يكتف بقوله: إن المسلمين والمؤمنين والقانتين عن ذكر المسلمات والمؤمنات والقانتات، مع أن الجمع يتناولهن على جهة التغليب.

(36)

قيل لابن عرفة: قد قال المفسرون: سبب نزولها أن نساء النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ورضي عنهن، قلن له: قد ذكر الله في كتابه الرجال ولم يذكر النساء، فنزلت الآية، فقال: التصريح بذكرهن أدخل في مقام التطمين لنفوسهن. قوله تعالى: (أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً). وقال ابن عرفة: كان بعضهم يعارضه بقوله تعالى: (إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ)، وهذه الأوصاف كلها محصلة للثواب، فلم يبق ما يغفر. قال: وأجيب: بأنها سبب في المغفرة فغفر له نصا. قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ ... (36)} هذا لنفي القابلية، وهو الفرق بين قولك: ما يفعل زيد كذا، وما كان لزيد أن يفعل كذا، وهو خبر في معنى النهي، وليس بنفي ولا بخبر حقيقة؛ لأن زينب رضي الله عنها لما خطبها رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم لزيد امتنعت هي وأخوها عبد الله، فنزلت الآية، فأذعنت وامتثلت أمره، وكذلك أم كلثوم بنت عقبة لما وهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ورضي عنها، فيلزم عليه إما الخلف في الخبر أو كون المخالف غير مؤمن، فلذلك جعلناه نهيا، وبدأ بالمؤمن؛ لأنه لَا يلزم من امتثال ذلك امتثال المؤمنة لما ورد أن "النساء ناقصات عقل ودين". قال ابن عرفة: وهذه الآية مما يحسن أن يذكر مثالا للعام المتفق على عدم تخصيصه، وهو من آية الأحكام. وقد قال الفخر: عمومات القرآن مخصوصة إلا قوله تعالى: (وَاللَّهُ بكُلَ شَيءٍ عَلِيمٌ). فرده ابن التلمساني بعدم انحصاره في ذلك بل منه، قوله تعالى: (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا)، وقوله تعالى: (لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ)، وقوله تعالى: (مَا لَكُم مِن إِلَهٍ غَيرُهُ). قال: ونقلوا عن ابن الحاجب أنه كان يقول: الأولى تمثيلة بآية ينبني عليها حكم متفق عليه، وذلك قوله تعالى: (وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا)، قال: نقله عنه ابن عبد السلام، فقال: اختلفوا هل يصح أن يتولى المسلم عقد نكاح المشركة من المشرك أم لَا؟ والآية محتملة لهذا.

(37)

قوله تعالى: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ ... (37)} قال ابن عرفة: هذا الفعل المراد به المعنى لاقترانه بـ إذ، وأتى بلفظ المضارع للتصوير. قوله تعالى: (وَتَخْشَى النَّاسَ). لا ينبغي حمله على أنه خاف فقط، بل المراد عناية خلط خوفه من الله تعالى بخوفه من النَّاس، وأمره بأن لَا يخاف إلا الله فقط غير منسوب بشيء. قال: وكان بعضهم يقول: عقاب [المالك*] لمملوكه على عدم تصرفه في ماله اعتناء منه به، وكذلك عتاب الله تعالى نبيه صلى الله عليه وعلى آله وسلم على إخفائه ما وقع في نفسه [وحضه*] لزيد رضي الله عنه على إمساك زينب رضي الله عنها، وامتناعه من تزويجها، فإن الجميع ملك لله تعالى. قوله تعالى: (زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ). قال ابن عرفة: احتج الأصوليون على وجوب الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فيما يثبت فيه خصوصية، ولولا ذلك لما احتيج إلى تعليله بنفي الحرج عن المؤمنين، ومنهم من احتج به على عدم وجوب الاقتداء. وقال: التعليل بهذا دل على صحة الاقتداء به في هذه القضية فقط، فالخصوصية ثابتة حتى يدل الدليل على الاقتداء حسبما أشار إليه ابن الحاجب، وعلى هذا يكون من باب تخصيص العام بحكم العام. قوله تعالى: {مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ ... (38)} أي من نقص. قيل لابن عرفة: وكذلك ما عمل غيره من النَّاس من حرج فيما فرض الله له، أوجب الله له فيما نفى الحرج فيه، وإن كان معناه فيما قدر الله له فيدخل فيه المباح، فيكون نفي الحرج عنه لما قد يتوهم في حقه من أنه لعلو منزلته، قد لَا يفعل المباحات ويشدد على نفسه فيها كما يشاهد بعض أشراف النَّاس يتنزه عن أشياء يفعلها غيره. قلت: وانظر قوله تعالى: (وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ) قوله صلى الله عليه وسلم: " [لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ، وَأُصَلِّي وَأَرْقُدُ، وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي*] ".

(40)

قوله تعالى: (وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا). معناه إما لازما ملتزما، وإما قضاء مقضيا. قوله تعالى: {وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ) ... (40)} ومَن بفتح التاء وكسرها فهو إما اسم جامد أو صفة بمعنى اسم الفاعل، كالخاتم الذي يطبع الكتابة عند كماله. وكان بعضهم يقول في التاريخ: إذا كتبه في العشرين في الشهر يقول: الموفي عشرين، وفي الثلاثين يقول: الموفي ثلاثين والثلاثون هو نفس الشهر، فكأنه يقول: الموفي به شهر والعشرون بعض الشهر، فكأنه يقول: كتبته في اليوم الموفي عشرين من الشهر. قال ابن عطية: ولفظ الآية مع قوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: "أنا خاتم الأنبياء"، عند علماء الأمة نص صريح في أنه لَا نبي بعده. وما ذكره القاضي الباقلاني في كتاب الهداية من أنه ظاهر ليس [بصريح*]، وما ذكره الغزالي في الاقتصاد وتصدى إلى إفساد عقيدة المسلمين في جهة النبوة الشريفة. قال ابن عرفة: قال الغزالي في آخر الاقتصاد: الأكثرون على العمل بالإجماع فيما لم يرد فيه نص قطعي، وذهب النَّظَّام إلى عدم العمل به، قال: وهو مردود بقوله: وهو (وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ). قال ابن عرفة: فقوله هذا دليل على أن ختمه للنبيين إنما ثبت عنده بالإجماع. قال: وقال الفخر غير هذا أن الأدلة الشرعية لَا تفيد الظن، فضلا عن اليقين لإمكان تأويلها، فهي عنده ظاهرة وليست نصا، وسلمه له ابن التلمساني. قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ ... (43)} من عطف الجمل لَا من عطف المفردات، أي ملائكته يصلون عليكم؛ لأن المقامين مختلفان. قوله تعالى: (لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ). ولم يقل: إلى الضياء مع أنه أخص من النور. قلت: [ولو قال: إلى الضياء لما وجد في الأمة عاصٍ، ولكانت*] الدلائل الشرعية بديهية يدركها كل أحد بالضرورة.

(50)

قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ ... (50)} ابن عطية: عن ابن زيد: أي أحللنا لك جميع النساء، وعن ابن عباس: المراد أزواجه التسع التي في عصمته. ابن عرفة: وهذا كما يقول المنطقيون في العنوان والوصف: هل هو صادر عن الذات بالقابلية قاله الفارابي، والفعل قاله ابن سينا. وحكى النحويون في اسم الفاعل خلافا، هل هو حقيقة في الحال مجاز في الاستقبال؟ فعلى قول ابن زيد: هو مجاز فيمن هو قابل لتزويجه، ولا سؤال فيه، وعلى تأويل ابن عباس، هو حقيقة في الحال لكن فيه سؤال؛ لأنه تحصيل الحاصل، لأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، معصوم في اجتهاده، لَا يفعل إلا ما هو حلال له في نفس الأمر، وقد كان تزوجهن، فلا فائدة في إحلالهن له إلا على القول الثاني الذي حكاه ابن الحاجب عن بعض الملاحدة، من أنه جوز عليه الخطأ في اجتهاده. قال: ويحتمل الجواب عنه: بأنه ليس المراد حقيقة الإحلال، بل لازمه وهو الاعتناء بهن والتشريف بذكرهن، ففي ضمنه التوصية عليهن [بالرفق*] والإكرام]، وبدليل قوله تعالى: (لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ)، وبدليل تأكيد الإحلال. فإن قلت: فعلى هذا يكون خبرا لَا إنشاء، اخترناهن لك واصطفيناهن عن غيرهن وحجزنا عنك ما سواهن، والله تعالى لَا يختار لنبيه إلا الطيب، كما قال تعالى (وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ). قوله تعالى: (وَبَنَاتِ عَمِّكَ). ولم يقل: (اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ). [فإما أن يكون*] حذف من الثاني لدلالة الأول عليه، [**أو يكون كما]. ابن عرفة: يسير في العطف خلافا، هل يشرك في الإعراب والمعنى؟ وحملنا على أنه أراد إذا قيد أحد المعطوفين يقيد في صفة أو عدمها، هل يدخل فيه الإحرام؟ لا كقولك: [جاء*] العاقل وعمرو. فإن قلت: لم أفرد العم والخال، وجمع العمات والخالات؟ فالجواب: أن بنات العم وبنات الخال منسوبات إلى الأب، وهو واحد في جنسه ونسبه، وبنات العمات

(51)

والخالات منسوبات للأم، والأولاد يختلفون، فيهم الشريف والوضيع والمتوسط [وأشرفهن من جهة أمهاتهن*]؛ لاختلاف آبائهن في النسب. قوله تعالى: (اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ). هذا جار على الخلاف في النعت والاستثناء إذا تعاقب جملا، هل يرجع إلى الآخرة أم لَا؟ والقرينة هنا تعين رجوعه للجميع. قوله تعالى: (إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا). هل هو شرط في الثاني، وهو جوابه شرط في الأول، وجواب الثاني جواب لهما معا، يحتمل الأمرين والمعنى واحد كقوله تعالى: (وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ). قوله تعالى: (خَالِصَةً لَكَ). حجة لمن يقول بوجوب الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ولولا ذلك لما كان لقوله تعالى: (خَالِصَةً لَكَ) فائدة. قوله تعالى: (وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا). أي لما قد تقع المخالفة بما بينه له وحدده. قوله تعالى: (قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ). ابن عرفة: كان بعضهم يرد بها على الزمخشري في جعله قد عرف توقع مع أن التوقع هنا من الفاعل محال، فما هي إلا حرف تحقيق بخلاف قوله تعالى: (قَدْ أفلَحَ الْمُؤْمِنُونَ). قالوا: وكانوا يجيبونه: بأن التوقع من المخاطب، قيل له: علم الله محقق غير متوقع، فقال: باعتبار ظهور متعلقه وإبرازه هو التعلق [التنجيزي*] لَا باعتباره في ذاته. قوله تعالى: {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ ... (51)} ابن عرفة: إن قلت: لم أخر في الجملة الأولى المجرور الذي هو مفعول في المعنى وقدمه في الثانية؟ فهلا قيل: ترجي منهن من تشاء، أو يقال: تؤوي من تشاء إليك. قال: والجواب: أن تقدم المجرور بـ إلى في الثانية تشريف له صلى الله عليه وعلى آله وسلم.

(52)

قوله تعالى: (ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ). أي أقرب لأن تقر أعينهن، فقروا أعينهن فيما حصل لهن، وعدم حزنهن على ما فاتهن؛ لأن الحزن على فوات الماضي، والخوف على توقع المستقبل ورضاهن، فما آتين إشارة إلى من حصل لها منه حظ، وحصل لغيرها أكثر منه لَا تتشوق إليه، بل ترضى بما حصل لها، وإن كان الحاصل لغيرها أكثر، [وكأنه تأسيس*] لَا تأكيد فيه بوجه. قوله تعالى: {لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ ... (52)} ابن عرفة: إن قلت: ما الفرق بينه وبيَنَ أن يقال: حرمت عليك النساء؟ فالجواب: أن نفي الحلية تقتضي رفع الإذن ابتداء ولا يستلزم المنع بعد الفعل، والتحريم يستلزم المنع ابتداء وبعد الفعل، فهذا أخف، فلذلك خوطب به النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم. قوله تعالى: (وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ). يحتمل أمرين: أحدهما: ولا أن تبدل بهن من نسائهم زوجات لغيرك، فيكون نهيا على ما كانت عليه الجاهلية، من أن كل من الرجلين ينزل لصاحبه عن زوجته ويتبادلا، وهو ظاهر قول عيينة بن حصين للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: إن شئت نزلت لك عن أحسن نساء العرب جمالا. وإن كان ابن عطية قال: ليس بمبادلة ولكنه اختص عائشة رضي الله عنها. ابن عرفة: فيكون على هذا نهيا أخص وإطلاق الأزواج هنا حقيقة. الثاني: أن المعنى ولا أن تبدل بهن من نساء تتزوجهن بإطلاق الأزواج، هنا مجازا باعتبار إلى الأمر. وما حكاه ابن عطية من أنه نظر إلى أسماء بنت عميس، وأعجبته لم يرد في الصحيح، والمحل ضيق فلا ينبغي نقله. قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ ... (53)} قال ابن عرفة: اقتضت الآية النهي عن دخول بيوت النبى صلى الله عليه وعلى آله وسلم للإقامة فيها.

قيل: لانتظاره بعده للاستئناس فيها بالحديث، فمقتضاها جواز دخولها للطعام، بشرط عدم فيها، ولفظها يقتضي بأنه مشروط بالإذن، وتقدم الإقامة فحينئذ يرد فيها ثلاثة أسئلة. الأول: [ ... ]. الثاني: أن الدخول بإذن مشروط بعدم الإقامة قبل الطعام وبعده، وقد تأخر عنه ففيه تأخير الشرط على المشروط، وجوابه: أن الشرط متأخر ودليله متقدم، وهو عدم الضرر، فالدخول مشروط بعدم الضرر، أعني بالعزم عليه، وهذا كما قال مالك في كتاب الإيلاء فيما إذا [طلق عليه*] القاضي ثم راجع في العدة فوطئها بعد الثلاثة أشهر، فإنه لَا يقال لها [رجعة تامة*] لانتفاء الضرر. والسؤال الثالث: أن فيه تكليف الإنسان بفعل غيره؛ لأن تأخير الطعام من فعل غير الداخلين، فيتعلق جواز دخول المأذون فيه على عدم انتظاره من باب التكليف بفعل الغير؛ لأنهم إذا دخلوا قد لَا يتهيأ حضور الطعام حينئذ، وجوابه: أنهم لا يدخلون إلا إذا علموا أن الطعام حضر أو قرب حضوره. فإن قلت: لم جمع البيوت؟ قلت: لئلا يكون النهي خاصا ببيت زينب، إذ هي السبب في النهي. قوله تعالى: (إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ). الإذاية هنا [مغايرة*] للإذاية في قوله تعالى: (وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)، لأن الأولى مقصورة، وهذه غير مقصورة. قوله تعالى: (وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا). عبر بـ إذا دون إن؛ لأن سؤال المتاع من مصالح التكليف المرغب فيها شرعا. ابن عطية: المتاع جميع ما يطلب من مرافق الدين والدنيا. ابن العربي: متاعا قيل: عارية، وقيل: حاجة، وقيل: فتوى، وقيل: مصحف القرآن. ابن عرفة: وفي التفسير بلفظ السؤال تعظيم لهن، لقول صاحب الجمل الطلب من الأدنى إلى الأعلى دعاء ومسألة.

قوله تعالى: (مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ). ظاهره ولو [كن*] ملتحفات بساتر، فإنه لَا بد من حجاب آخر يحول بينهن وبين السائل، ألا ترى إلى ما حكى ابن عطية من قول عمر رضي الله عنه لما توفيت زينب بنت جحش رضي الله عنه: لَا يشهد جنازتها إلا ذو محرم، حتى أشارت عليه أسماء بنت عميس بسترها [في النعش في القبة*]. قوله تعالى: (ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ). إن قلت: هلا عكس العطف، إذ لو قيل: ([ذَلِكُم أَطهَرُ لِقُلُوبِهِنَّ وَقُلُوبِكُمْ) *]. لكان تأسيسا؛ لأن كونه أطهر لقلوبنا، يستلزم كونه أطهر لقلوبهن من باب أحرى. لأن قلوبهن أقرب للسلامة من الإدناس من قلوب غيرهن، فكل ما ينزل عن قلوبهن يزيله عن قلوبنا. قال: والجواب: أن ذلك من أسبابها هي، وهو جهة للفظ، فيقول: إنه قصد الاهتمام بتقديم تطهير ما هو أقرب للوقوع في الدنس على ما هو أبعد منه؛ لأن قلوب غيرهن أقرب للدنس من قلوبهن. فإن قلت: أطهر أفعل وشرطها ألا تنبني إلا فيما يبنى منه فعل التعجب مع أنه لا ينبني إلا من الخلق التي تزيد وتنقص، وطهارة القلوب راجعة لسلامتها من الأدناس فهي أمر عدمي، والأمور العدمية لَا تزيد ولا تنقص. قال: والجواب: أن الزيادة لأسبابها وهي وجودية للأمور المنافية للطهارة التي وقع التكليف بها شرعا، كما يقول: وجود المنافي للغيبة في عمر بن الخطاب رضي الله عنه أقرب من وجود المنافي لها في غيره. قلت: وأجاب بعض الطلبة: بأن المراد متعلق ذلك العدم أو إنماء ذلك إذا اتحد العدم، أما إذا تعددت الأمور العدمية فلا، كما يقال: قلب فلان الطائع أطهر من قلب فلان العاصي، تعلقت به أدناس، سلم الآخر من بعضها. قوله تعالى: (وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ). الإذائة أخف من الضرر، قال الله تعالى (لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى)، وقال تعالى (لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى)، فنفي [الإذاية*] يستلزم نفي الضرر مع أن هذا اللفظ يقتضي نفي الصحة والقبول [للإذاية لَا نفي وجود الإذاية*].

(55)

قوله تعالى: {لَا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ ... (55)} المراد به نفي التحريم فقط، وقوله تعالى: (وَاتَّقِينَ اللَّهَ). والتقوى فيكون عطف تأسيس لَا تأكيد، وقدم الآباء لأن حرمتهن آكد من حرمة الأبناء، وحرمة الأبناء آكد من حرمة الأخوة، بدليل أن آدم عليه السلام كان يزوج الأخ لأخته، والتي تزايدت قبله أو بعده من بطن آخر، ولم ينقل أن ابن تزوج أمه قط، فهو تدلي. هكذا كان ابن عبد السلام يقرره، لأنه لَا يلزم من نفي الحرج عليهن في دخول من تحريمه عليهن أشد نفيه في دخوله من تحريمه أخف. وأورد الفخر سؤالا، قال: خوطب أولا الرجال بقوله تعالى: (فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ)، ثم نفى الجناح عن النساء في دخول محارمهن عليهن، فهلا نفى الجناح عن الرجال، فيقال: لَا جناح على آبائهن ولا أبنائهن في الدخول إليهن. وأجاب ابن عرفة: عنه بأنه اعتبر أولا حال الفاعل، وهنا حال المنفعل؛ لأن المنفعل قسمان: منه موصوف بالشدة، ومنه موصوف باللين، ونسوة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم من القسم الأول، بحيث لَا يتجاسر أحد محلهن إلا بإذن، فكان الدخول عليهن من فعلهن إذ لَا يتصور إلا بإذنهن، فالحرج فيه وعدمه مصروف لهن فلذلك نفى عنهن الجناح فيه. قوله تعالى: (وَلَا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ). ابن عرفة: العام في الأشخاص مطلق في الأزمنة والأحوال، فلذلك قال مالك رحمه الله في العبد: أنه لَا يرى [شعر*] سيدته إلا إذا كان وغدا. قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ ... (56)} قال ابن عرفة: لما تقدم التنبيه على تعظيم أزواجه صلى الله عليه وعلى آله وسلم، أمر سائر الأمة بتعظيمهم، حيث نهوا أن يسألوهن إلا من وراء حجاب، وأن لا ينكحوهن من بعده، عقبه ببيان تعظيمه صلى الله عليه وعلى آله وسلم بما هو أقوى من ذلك وأعظم، وهو صلاة الله عليه وملائكته، وقرر الفخر وجه المناسبة بغير هذا، وعلى الصلاة عليه بالوصف الأعم، وهو النبوة فيستلزم الصلاة عليه من حيث اتصافه بالأخص، وهو الرسالة من باب أحرى.

ابن عطية: وما ورد عن الخطيب القائل: من يطع الله ورسوله فقد رشد ومن يعصهما فقد غوى، فقال له النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: "بئس خطيب القوم أنت، قل: ومن يعص الله ورسوله"، وأجيب بوجوه منها: قال ابن عرفة: قال [ابن هشام المصري*] على قراءة من قرأ (وَمَلائِكَتَهُ) بالرفع فهو محمول عند البصريين على الحذف من الأول لدلالة الثاني عليه، أي إن الله يصلي وملائكته يصلون، وليس عطفا على الموضع، و (يُصَلُّونَ) خبر عنهما لئلا يتوارد عاملان على معمول واحد، والصلاة المذكورة بمعنى الاستغفار، والمحذوفة بمعنى الرحمة. قال: والصواب عندي أن الصلاة لغة بمعنى واحد، وهو العطف ثم العطف بالنسبة إلى الله تعالى الرحمة، وإلى الملائكة الاستغفار، وإلى الآدميين دعاء بعضهم لبعض، وأما قول الجماعة [فبعيد من*] جهات: أحدها: الاقتضاء والاشتراك، والأصل عدمه. الثانية: وَالثَّانِيَة أَنا لَا نَعْرِف فِي الْعَرَبيَّة فعلا [وَاحِدًا*] يخْتَلف مَعْنَاهُ باخْتلَاف الْمسند إِلَيْهِ إِذا كَانَ الْإِسْنَاد حَقِيقِيًّا. [وَالثَّالِثَة*]: أَن الرَّحْمَة فعلهَا مُتَعَدٍّ وَالصَّلَاة فعلهَا قَاصِر وَلَا يحسن تَفْسِير الْقَاصِر بالمتعدي. [وَالرَّابِعَة*]: أنه [لَو قيل*]: [مَكَان*] [صلى عَلَيْهِ*] انعكس الْمَعْنى وَحقّ [المترادفين*] صِحَة حُلُول كل مِنْهُمَا مَحل الآخر. قلت: ظاهر هذا أن الحذف من الأولى لدلالة الثاني عليه، وهو مذهب سيبويه، وأبطله أبو حيان في براءة. وعادتهم يجيبون: بأن الآية في سياق الثبوت، وكلام ابن الخطيب في سياق النفي؛ لأن العصيان أمر سلبي، وهو عدم امتثال المأمورات، فيحتمل أن يكون الوعيد إنما هو لمن عصاهما من حيث الاجتماع، لَا من عصى أحدهما فقط؛ لأن المضمرات على المعروف كل لَا كلية بخلاف ما لو قال (وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ). وانظر قول عبد الوهاب في حد القياس: أنه حمل معلوم على معلوم في إثبات حكم لهما أو نفيه عنهما، وانتقاد النَّاس عليه أو يحتمل أن يجاب: بأن الواو للترتيب، فلذلك قال (وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ).

(57)

ونقل ابن العربي في العارضة قولا في المذهب بوجوب الصلاة عليه صلى الله عليه وعلى آله وسلم في كل مجلس. ونقل [ابن*] عرفة عن المفسر المشرقي: أنه احتج بالآية على أن الْمَلَك أشرف من بني آدم لأن [ ... ]. المشروف، فرده ابن عرفة: بقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا). وبقوله صلى الله عليه وسلم " [إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ قِيلَ لِلْعِبَادِ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ وَيقَالُ لِأُوَيْسٍ: قِفْ فَاشْفَعْ فَيُشَفِّعُهُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي مِثْلِ عَدَدِ رَبِيعَةَ وَمُضَرَ يَا عُمَرُ وَيَا عَلِيُّ إِذَا أَنْتُمَا لَقِيتُمَاهُ فَاطْلُبَا إِلَيْهِ أَنْ يَسْتَغْفِرَ لَكُمَا، يَغْفِرِ اللهُ تَعَالَى لَكُمَا*] مع أنها أشرف منه. ابن عرفة: ووقع وجوب [ ... ] في زمن الأشياخ البخاري مختصرا منه الصلاة وكنت [ ... ] لم يعلم به إلا بعد انعقاد السمع، فحكم لمشتريه بأنه [ ... ] يرجع به على تابعه. قال ابن عرفة: وكان ابن عبد السلام يكفي إذ يقال صلى الله عليه وسلم، ولا يحتاج إلى زيادة تسليما. وكان الفقيه أبو عبد الله محمد الزبيدي أنكر ذلك، وقال: بل يحتاج إليه وكتب له براءة به فأبى أن يجيب عنها. قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ ... (57)} قال ابن عطية: عن الجمهور [إذاية*] الله كفر، ونسبة الصاحبة والولد والشريك، ووصفه بما لَا يليق، وعن عكرمة بتصوير الصور وفعل ما لَا يفعله إلا هو، وعن فرقة: أنه على مضاف إلى يؤذون أولياء الله. قال ابن عرفة: وكان بعضهم يقول: إن احتيج إلى هذا المضاف؛ لأن الفعل المتعدي على قسمين: فعل له أثر في المفعول كقتلت زيدا لو ضرب عمراً، أو فعل لا أثر له في المفعول، كعرفت زيدا وسمعت صوت عمرو، وتصورت ذات زيد، وفعل الإذاية لَا أثر هنا له، فلا حاجة إلى تقدير المضاف، ولما كانت إذاية الله لَا أثر لها فيه، قابلها بالنفي الذي هو المفرد، والإبقاء وهو مجرد ترك، وإذاية الرسول فيه فقابلها بالعذاب المهين؛ لأنه جزاء عن إذايته، وإذاية الله تعالى. قال: وجعل من يقول: إن الذين يؤذون رسول الله ورسول رسوله. قوله تعالى: {بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا ... (58)}

(59)

قال ابن عرفة: هذا هو الذي في الحديث: "إذا قلت في أخيك ما ليس فيه فقد غبته، وإذا قلت فيه ما فيه فقد اغتبته"، وهو إذايته بما اكتسب. [كتاب*] الرجم من المدونة سئل [هَلْ يُنَكَّلُ فِي قَذْفِهِ هَؤُلَاءِ الزُّنَاةَ*]؟ فقال: [إذَا آذَى مُسْلِمًا نُكِّلَ*]، قال: وإذا علم المقذوف من تغيبه أنه وإن قاله العباد على قاذفه لخوف المعرة. قوله تعالى: {يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ... (59)} (مِنْ) للتبعيض إما في أنواع الجلاليب أو في أجزاء كل واحد منها وهو الظاهر؛ لأن كل امرأة لها جلبابان. قوله تعالى: {لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ ... (60)} ابن عرفة: هذه كالمقيد لما قبلها، أو كالسبب مع مسببه؛ لأن قبلها (ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ). والإذاية إما في الفروع أو في الأصول الراجعة لأمور الدنيا والآخرة، فإن أريد نفي لم ينتهوا عن إذايتهم على العموم، فيتناول الفروع والأصول. قوله تعالى: {يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ ... (63)} ابن عرفة: وجه مناسبتها لما قبلها، أنها تقرير لما لحق رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى آله وسلم في قومه من المشاق، فمنها إذايتهم له في بدنه [ومنها إذايتهم له بقولهم تزوج بزوجة وولده من الشبق*]، وفي إطالتهم الجلوس في بيت زينب رضي الله عنها، وفي التكلم في تسلية، وفي سؤالهم له عن الساعة، وهي ما استأثر الله بعلمه، فاليهود سألوه امتحانا. قوله تعالى: (لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ). [لَمَّا كَانَ الْمَذْكُورُ مِنْ قَبْلُ أَقْوَامًا ثَلَاثَةً نَظَرًا إِلَى اعْتِبَارِ أُمُورٍ ثَلَاثَةٍ: وَهُمُ الْمُؤْذُونَ اللَّهَ، وَالْمُؤْذُونَ الرَّسُولَ، وَالْمُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ، ذَكَرَ مِنَ الْمُسِرِّينَ ثَلَاثَةً نَظَرًا إِلَى اعْتِبَارِ أُمُورٍ ثَلَاثَةٍ أَحَدُهَا: الْمُنَافِقُ الَّذِي يُؤْذِي اللَّهَ سِرًّا وَالثَّانِي: الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ الَّذِي يُؤْذِي الْمُؤْمِنَ بِاتِّبَاعِ نِسَائِهِ وَالثَّالِثُ: الْمُرْجِفُ الَّذِي يُؤْذِي النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِالْإِرْجَافِ بِقَوْلِهِ غُلِبَ مُحَمَّدٌ وَسَيَخْرُجُ مِنَ الْمَدِينَةِ وَسَيُؤْخَذُ*]، [وسألوا*] سؤال تعنت واستهزاء.

(65)

قال ابن عرفة: [وانظر ما هو العدم*]، قيل: عبارة عن وقت فناء العالم الأول، وعن إنشائه النشأة الثانية بعد العدم لقوله تعالى: (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ). قوله تعالى: (وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا). ابن عرفة: كان بعضهم يقول: فرق بين قولك: لعل مجيء زيد قرب، وبين قولك هل مجيء زيد يكون قريبا؟ فالأول: تقوله إذا أخذ في أسباب المجيء ولم يحضر، والثاني: تقوله إذا أراد أن يجيء ولم يسرع في أسباب المجيء، بل يكون مجيئه مستقبلا. قيل لابن عرفة: هذا مردود بقوله [في الآية]، [(وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ (17) يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا) *]. قوله تعالى: {لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (65)} الولي هو الموالي، وقد يكون نصيرا دون وجه. قوله تعالى: {وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا ... (67)} ابن عرفة: إن أريد الكبراء في السن، فالعطف تأسيس، وإن أريد في المنزلة والقدر فتأكيد، إلا أن يريد بالسادة من هو سيد في ذاته، وبالكبراء من أسلافه سادة، وإن لم يكن مثلهم. قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ ... (70)} التقوى عند المتقدمين هي الإيمان، وعند المتأخرين أخص منه. وقال الإمام مالك رحمه الله في المتعة في قوله (حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ) و (عَلَى الْمُتقِينَ). وقال: إن كنت متقيا [فمتع*]، فإن كانت بمعنى الإيمان فتعني الأمر بالتقوى، أما المداومة عليها كقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا)، [يَا أَيُّهَا*] الذين آمَنوا ظاهرا بألسنتهم آمِنوا باطنًا بقلوبكم. قوله تعالى: (سَدِيدًا). أي مستقيما. كقوله:

(71)

أعلِّمه الرماية كل يوم ... فلمَّا اشتدَّ ساعدهُ رماني على روايته بالسين المهملة. قوله تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ... (71)} المراد من يفعل جميع الطاعات أو أكثرها، وليس المراد مطلق الطاعة، لئلا يكون فيه حجة للمرجئة القائلين: بأن مجرد النطق بالشهادتين كافٍ في دخول الجنة. قوله تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ ... (72)} العرض إما الاختبار أو الإعطاء، وعرض ذلك على السماوات، إما بعد خلق التمييز فيها والإدراك، وإمَّا عرضه على ملائكتها. قوله تعالى: (فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا). من باب تقديم المسبب على سببه، لأن الإشفاق سبب في [الإباية أو يكون الإشفاق علة وغاية*]. قوله تعالى: (وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ). هو آدم عليه السلام أو الجنس، والمراد بعضه لَا كله، وفيه أن عدم الدخول في العهدة أولا كقول مالك رحمه الله في أهل الكتاب، وترك الحكم بينهم أحب إليَّ. قيل لابن عرفة: المراد عرضناها على الإنسان فحملها، قال: لَا بل حملها لأن الله تعالى يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد. ولذلك كان الشيخ ابن عبد السلام يحكي أن الفقهاء اجتمعوا في جنازة، فقال بعضهم: هذا عليه دخلنا، فقال الآخر: بل عليه أُدخلنا. قوله تعالى: {لِيُعَذِّبَ اللَّهُ ... (73)} اللام للصيرورة على قراءة، (وَحَمَلَهَا). بتخفيف اللام، وللتعليل حقيقة على قراءة التشديد في اللام.

سورة سبإ

سُورَةُ سَبَإٍ ذكر سيبويه في قولهم (لَهُ ... (1) .. ، في علم [**الفقهاء] أن الرفع يقتضي عموم الجنس. قوله تعالى: (وَمَا فِي الْأَرْضِ). إنما أعاد لفظ (مَا) [لمخالفة نوع*] (مَا فِي الأَرْضِ) لنوع ما في السماء. ابن عرفة: وهذا من العام الباقي على عمومه. فإن قلنا: إن العام في الأشخاص عام في الأزمنة والأحوال، فسيكون قوله تعالى: (وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الآخِرَةِ) تأكيدا. وإن قلنا: إنه مطلق غير عام، فيجاب بثلاثة أوجه: الأول: جواب الزمخشري على قاعدته بأن الحمد الأول [واجبٌ*] له في الدنيا على نعم متفضل بها. والثاني: (فِي الآخِرَةِ) على نعم واجبة الإيصال إلى مستحقها؛ لأنهم يقولون: إن الطائع يجب على الله أن يثيبه. ورده ابن عرفة: بأنه باطل على مذهبه؛ لأنهم يقولون بوجوب رعاية الأصلح، فكيف يقولون النعم متفضل بها؟ الجواب الثاني: أنهما مختلفان باختلاف المتعلق والفاعل فحمد الآخرة أكثر لدوامه، إذ هي حياة لَا موت فيها، قال الله تعالى (وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ) وحمد الدنيا منقطع بموت صاحبه، ثم تموت جميع الخلائق عند النفخ في الصور. الجواب الثالث: أنهما مختلفان باختلاف السبب، فحمد الآخرة أعظم لتبيين الحقائق فيه وصيرورة الأمر [بالنظر*] ضروريا، فالمحق يرى ما أعد الله له، وما نجاه منه عيانا، فحمده حينئذ أعظم وأجل. قال ابن عرفة: وكان بعضهم يقول في قوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم "لا أحصَي ثناء عليك". لَا ينبغي لنا أن نقوله كذلك، إنما نقول: [لَا يُحْصَى*] ثناءٌ عليك؛

(2)

لأن سيد الأولين والآخرين صلى الله عليه وعلى آله وسلم، هو الذي اعترف بعجزه عن إحصاء الثناء عليه، مع أنه في منزلة يتوهم فيها قدرته على إحصاء الثناء عليه، إذ هو معصوم محفوظ وقع هذا فاعترف بالعجز، وإنما قال: لَا يُحْصَى ليكون النفي عاما في القائل وغيره فيكون أبلغ. قوله تعالى: (وَهُوَ الحَكِيمُ). قيل: المتقن، وقيل: واضع الأشياء في [محالها*]. قوله تعالى: (يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا ... (2) .. هذا كقوله (يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخفَى)، فيرد فيه السؤال من جهة أن العطف تأكيد، والجواب كالجواب إما أنه قصد التسوية في علمه بالنوعين، وإما الاهتمام بتقديم الأخبار، فمعرفة ما هو في مظنة الخفاء، وإما الدلالة على معرفة بالمطابقة وباللزوم. قيل لابن عرفة: ليس هذا مثله بل هو كقوله: فلان يعلم أن زوجته حامل، ولا يعلم ما في بطنها، ويعلم ما يخرج من بطنها عند خروجه، فقال: لَا بل هو مثله. قوله تعالى: (وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا). ولم يقل: وما يعرج إليها؛ لأنه لو قال: إليها لتوهم أن أعمال العبادة تعرج إلى سماء الدنيا فقط، والمنقول أنها تعرج إلى السماوات السبع، وتصعد إلى أعلاها. قوله تعالى: (وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ). ابن عرفة: من رحمته بهم مغفرة ذنوبهم. قيل لابن عرفة: قال بعضهم في الفرقان أربع سور استفتحت بالحمد، وخمس بالتسبيح، وسورتان بالبركة، ولم تذكر فيه لَا حول ولا قوة إلا بالله، لما ورد أنها كنز

(3)

من كنوز الجنة، والكنز من شأنه الخفاء، فرده ابن عرفة بقوله تعالى: (وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ). قوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ ... (3)} ابن عرفة: كل واحد منهما لصاحبه آتٍ؛ كقوله تعالى: (قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ)، لكن الصواب استناد الإتيان إلى الموجود، وهو الذين كفروا. لأن الساعة معدومة. قوله تعالى: (عَالِم الْغَيْبِ). ابن عرفة: لَا خلاف أن العلم القديم لَا يختلف، وفي الحادث خلاف، فإن قلنا: إنه يتفاوت بالمبالغة في العلم القديم بالنسبة إلى العلم الحادث. وإن قلنا: لَا يتفاوت، فالمبالغة باعتبار متعلقه، فإن قلت: ما أفاد قوله (لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ)، مع أن (عَالِمِ الْغَيب) يكفي عنه؟ فالجواب: أن هذه المذكورات إن كانت كبيرة الجرم [فهي ظاهرة معلقة*] فعزوبها عن المخلوقات، إنما هو حالة كونها في الغيب لم تخلق ولم تظهر للوجود، فدخلت في قوله تعالى: (عَالِمِ الْغَيبِ)، [وإن*] كانت موجودة فعزوبها، إنما هو باعتبار رجوعها في خفية عن أعين الناظرين، [ولَا تخفى*] على الله. قوله تعالى: (إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ). انظر تعقب أبي حيان على الزمخشري. وقال ابن عرفة: الصواب أن هكذا من تأكيد المدح بما يشبه الذم. كقول النابغة: ولا عيبَ فيهم غيرَ أنَّ سيوفَهم ... بهنَّ فلولٌ من قراعِ الكتائبِ قوله تعالى: {وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (6)} وجه مناسبة القراءة هنا أن (الْعَزِيزِ) هو الذي لَا يمانع، فإما أن يراد أن كلامه لا يقدر أحد على ممانعته، وإما أن يكون أشار إلى أنه لَا تهتدي إلى المطالب القلبية الخفية الممتنعة عن الإدراك إلا به، و (الْحَمِيدِ) إشارة إلى حمده هذه النعمة العظيمة التي أنعم بها، وهو القرآن العظيم الهادي إلى طريق الحق. قوله تعالى: {وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ ... (20)}

(31)

قال ابن عرفة: وجه مناسبتها لما قبلها أنها نزلت تخويفا لقريش، لأنهم اتبعوا الشيطان فيما اتبعه فيه [آباؤهم*] من الكفر، وقد هلكوا وعذبوا، [فلم [يتوقعوا*] أن ينزل بهم ما نزل بآبائهم، كعبدين عصى أحدهما سيده فعذبه، ثم عصاه الآخر فهو متوقع [عذابه*]، وأطلق قول إبليس بفعله المستقبل صدقه وهو قوله (فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ)، ففيه دليل على أن من يعتقد صدقه من الأولياء إذا أخبر بشيء قبل وقوعه أن يقال فيه: صدق فلان في مقالته. قوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ ... (31)} ابن عرفة: يشار بلفظ القريب للبعيد تعظيما لأمره في قلبه، إما مدحا أو ذما، كقوله تعالى: (فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ)، وعكسه أن يشار [بالبعيد*] للقريب تحقيرا له في بابه، مثل (أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا)، وكذلك هذا هم [يحتقرونه*]، واستعمل لفظ [إذا*] في المستقبل، وهو ظرف لما مضى. وأجيب: بأنه أمر تقديري أي لو حضروا بين يديك ورأيتهم لرأيت عجبا، لأنه يخلص الفعل للماضي أو يكون المراد من مات منهم. قال: وعدم إيمانهم بالقرآن [إما راجع لعدم التصديق لكونه معجزا*]، أو لعدم التصديق لما [تضمن*] من رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، فالأول عقلي، والثاني سمعي نظري. قوله تعالى: (يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ). القول دليل على أن البعض يطلق على النصف وأكثر منه. قال: وعادتهم يقولون: عبر عنهم أولا بوصف الكفر (وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ)، والظلم أعم من الكفر لصدقه عليه، وعلى ما دونه من الماضي، قال: وحكمة ذلك أنه أسند لهم المخاصمة والمراجعة وهي مبادئ التعنت والاختلاف، فلذلك قرنها بمطلق الظلم لَا بأخصه، فإن قلت: لم قال: [(يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا) *]، بلفظ المضارع، ثم عقبه بقوله تعالى: (قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا)، بالماضي؟ فالجواب: إما بأن الأول مضارع لتكرره منهم وتجدده المرة بعد المرة، فلما تكرر منهم المرة بعد المرة حينئذ أجابهم

أكابرهم بهذا الجواب، وإما أنه بدل وتفسير لقوله تعالى: (يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ)، وهو مضارع يفسره بالمضارع. قوله تعالى: (فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ). قال الزمخشري، وابن عطية: (دَابَّةُ الْأَرْضِ) هي الأرضة، قالا: وروي أن الجن أرادوا أن يعرفوا وقت موته، فوضعوا الأرضة على العصا فأكلت منها في يوم وليلة مقدارا، فحسبوا ذلك النمو المقدر فوجدوه قد مات منذ سنة. قال ابن عرفة: ما يتوهم هذا إلا لو كانت الأرضة شرعت في أكل العصا منذ سنة، ولعلها ما بدأت الأكل إلا بعد مدة طويلة. قوله تعالى: (جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ) اليمين والشمال نسبة وإضافة فاعتبر حاصل الوادي بالنسبة إلى الهابط من أعلاه، والطالع من أسفله، ويمين الإنسان في الأكثر هو اليد القوية السريعة الحركة غالبا والشمال ضدها، وقد تكون العكس فيمن يخلق شيئا، وهو الأيسر ويكون أعسر أيسر فالأعسر الذي يبطش بيساره دون يمناه، والأعسر الأيسر الذي يبطش بهما يديه جميعا وهو الأضبط. قوله تعالى: (فَأَعْرَضُوا). أول الآية أشد من آخرها، لأن ظاهر أوطان العقوبة نالتهم بنفس إعراضهم، فيتناول العاصي والكافر، لقوله تعالى: (وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ). قوله تعالى: (وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ). قال أبو حيان: المجرور بالباء هو المأخوذ المعوض وغيره. وقال ابن عرفة: الصواب أنك تقول: بدلت الدار بالجنان، أي أخذت الدار عوضا عن الجنان، ثم قال: الحاصل أن المقدم هو العوض، والمؤخر هو المعوض قلت: [ ... ].

فيها عن ابن عبد السلام القاضي ما نصه قوله تعالى: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ)، قال: تعقيب الحكم بالوصف المناسب ويشعر أنه علة؛ لأن كل ما في السماوات وما في الأرض مستحق للحمد. فإن قلت: ظاهر الآية أن السماء بسيطة إذ لو كانت [كورية*] لاكتفى بقوله تعالى: (لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ) عن قوله (وَمَا فِي الْأَرْضِ). قلنا: مقام الاستدلال حقه من فيه الاستئناف فالصريح بدلالة المطابقة دون دلالة الالتزام، إذ هو أقوى منها، وإنما تقدم علمه بما يلج في الأرض على علمه بما ينزل من السماء؛ لأن النزول بمنزلة الخروج والعروج كالولوج. قوله تعالى: (قُل بَلَى وَرَبِّي لَتَأتِيَنكُمْ). لما نفوا الساعة بدعوى مجردة عن الدلائل، قوبلوا بدعوى مقسم عليها، وإن كان القسم لَا يثبت دعوى. قوله تعالى: (لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ). قال ابن عرفة: بدأ هنا بالسماوات، قال تعالى (أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ). بدأ بالسماء لأن إتيانها أعظم، فلما أراد بالثاني التخويف من العذاب بدأ بالأرض، لأنها المشاهدة في حصول العذاب، وقوله تعالى: (إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ)، دليل على أن الرؤية في قوله تعالى: (أَفَلَم يَرَوْا)، علمية لَا بصرية، قوله تعالى: (وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ)، المراد به العلم لَا حقيقة الكتاب، لئلا يلزم عليه التسلسلَ؛ لأن الكتاب إما أصغر أو أكبر، وكل أصغر وأكبر من كتاب فيلزم أن يكون من كتاب، وينتقل الكلام لذلك الكتاب فيتسلسل. قوله تعالى: (لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ). قال ابن عبد السلام: هذا الترتيب على الأصل، لأنه لَا يلزم من نفي الملك في الأقوى، وهو السماء، نفي الملك في الأضعف وهو الأرض، وقوله تعالى: (وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ) فعلى عكس ذلك؛ لأن ما لَا يملك مثقال ذرة فيهما كيف يكون شريكا فيهما أو ظهيرا؟ وأجاب: بأن ذلك استعظام لنقصان عقولهم، وأنهم يعتقدون الإعانة والشرك فبين من لَا يملك مثقال ذرة، فكأنه لَا يملك مثقال ذرة، الذي هو أحرى أن يكون شريكا ولا ظهيرا كيف يعبد من دون الله؟ فإن

(33)

قلت: إذا انتفيت الشفاعة وانتفى النفع الحاصل عنهما فما أفاد قوله تعالى: (وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ). قلت: هو كقوله عَلَى لَاحِبٍ لَا يَهْتَدِي بِمَنَارِهِ أي ليس ثم شفاعة ينتفع بها. قوله تعالى: (وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى). (أو) تعني الواو [ففيه اللف والنشر*] وعلى بابها تكون من تجاهل الفارق. قوله تعالى: (لَا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا). نزلت بمكة فبل شريعة الجهاد، وسائر الأحكام، لأن هذا الأمر لم يبق بعد كذلك. قوله تعالى: (كَلَّا بَلْ هُوَ اللَّهُ). الكلام إما وقع في إثبات الشركاء له في إثبات الله تعالى أو نفيه، حتى يضرب عن مقالتهم إلى إثباتهم، وإنما المعنى بل الوحدانية لله تعالى. قوله تعالى: (مَتَى هَذَا الْوَعْدُ). المراد به متعلقه، والوعد والوعيد بمعنى واحد بخلاف [الميعاد*]. قال: وعبر عن المراجعة [بالقول*] دون الكلام، لأن القول غير مقيد، قيل له: لم عطف، (وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا ... (33) .. بالواو، والأصل في المراجعة عدم العطف، كما في قوله تعالى: (قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ) الآية، وقد جعله ابن مالك في المصباح من البديع وأنشد عليه، فأجاب: بأن الجملة التي دخلت عليها معطوفة على كلامهم، وليست جوابا عما قبلها، فلم تدخل واو في المراجعة وبتقدير أن يكون جوابا، وأنها دخلت في المراجعة فليس بممتنع، ولم يثبت امتناعه عن القرب، والشعر الذي ذكره ابن مالك مولد، وإنما وقع ذلك في آية موسى عليه السلام مع فرعون عليه اللعنة. قلت: هكذا ذكره السكاكي، وذلك منه قوله تعالى: (هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ (24) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ)، قال: لما قال (فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ)، كأنه قيل: فما قال لهم، قال المجيب: (قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ)، ثم قال (فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ)، فكأنه قيل: فما قالوا له حين رأوه، كذلك قال (قَالُوا لَا تَخَف).

(35)

قال ابن عبد السلام: قوله تعالى: (بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ) أضاف المكر إلى الليل، وإن كان لَا يصح منه ذلك تنزيلا للمكر فيه منزلة الماكر. قوله تعالى: (ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ) شدد عليهم في التوبيخ، لأنهم عبدوا غير الملائكة، فإذا وبخوا على عبادة أكرم خلق الله فأحرى أن يوبخوا على ما دون الملائكة انتهى. قوله تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافةً لِلنَّاسِ). قال شيخنا ابن عرفة: فرد أن رسالة نوح عليه السلام عامة أيضا، ويجاب: إما بأن محمدا صلى الله عليه وعلى آله وسلم، بعث للإنس والجن، ورسالة نوح عليه السلام خاصة بالإنس، وأما نبينا صلى الله عليه وعلى آله وسلم آمن به من قبله، لأن كل نبي أخبر به بخلاف نوح عليه السلام. قوله تعالى: {وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (35)} قال الزمخشري: (وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ) بالفقر لكثرة أموالنا. وضعفه ابن عطية قال: وإنما المراد نحن في الآخرة لكثرة أموالنا وأولادنا، إما اعتناء بنا وإكراما من الله تعالى لنا، وإكرامه لنا في الدنيا دليل على رضاه عنا، وعلى إكرامه لنا في الآخرة بعدم العذاب، فهو قياس منهم فيكون (وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ)، نتيجة عن قولهم (نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا). وقيل: إنه استئناف [مستقل*] بنفسه فعقبه بقوله (قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ)، فيبسط الرزق ليس منحصرا في الإكرام، بل قد [يكون إملاء*]، كقوله تعالى: (إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا). قوله تعالى: {وَمَا أَمْوَالُكُم وَلَا أَوْلادُكُمْ ... (37)} قال ابن عرفة: تكرير (لا) في العطف محض تأكيد، إذ لو جعلناها تأسيسا لزم عليه المفهوم، إذ لَا يلزم من نفي التقريب عن كل مرفوع منهما نفي التقرب عنهما مجتمعين. قوله تعالى: {ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ (40)}

(41)

قرر عليهم عبادة الكفار لهم على جهة الاستهزاء بالكفار، فأجابوا: بأنهم كانوا يعبدون الجن إما لإتباعهم في عبادة الملائكة ووسوسة الشيطان، فكأنهم عبدوا الجن، وإما لكون الملائكة غير راضين بعبادتهم لهم. وقوله (أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ (41) إشارة إلى الأتباع والمتبوعين، وهم رؤساؤهم وسوس لهم الشيطان فاتبعوه وآمنوا به واتبعوهم مقلدون لهم، فلم يؤمنوا بالجن قبل ذلك رؤساؤهم في ذلك. قوله تعالى: {لَا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا ... (42)} الأقسام أربعة: جلب النفع والضر ودفعهما معا، وجلب النفع ودفع الضر وعكسه، والنفي متسلط على الجميع، وهل المراد بالبعض الثاني حقيقة له، فكأنه يقول: لا يملك بعضكم لغيره نفعا، أو المراد به العموم، أي لَا يملك بعضكم لإنسان بالإطلاق، أي لا يملك لنفسه ولا لغيره، وهذا أولى لعمومه، وقدم النفع على الضر لأن جلب النفع مهم، ودفع الضر أهم، وعدم الاتصاف بالمهم لَا يستلزم عدم القدرة على ما هو أهم منه، فجاء هذا على الأصل، لأن الأصل أنه لَا يملك، وعلى تقدير ابن عطية فيقال لهم: يكون معطوفا عليه (بَيِّنَاتٍ) يدل على أن القرآن لَا ينسخ [بالسُّنَّة*]، لأن النسخ بيان، والآية دلت على أنها بينة في أنصبتها. قوله تعالى: {مَا هَذَا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ ... (43)} [يرد عليه*] القول بالموجب، وهو أنه كذلك هو في نفس الأمر وهو الذي أراد، لكن وجه احتجاجهم بهذا أنه من الدليل السوفسطائي، وقد ذكر المناطقة أنه لم ترد في القرآن ولا في كلام فصيح، لكن مرادهم أنه لم يرد من كلام الله تعالى، وهذا إنما هو حكاية عن هؤلاء، وتقريره أنهم اعتقدوا أن الخروج عن ملة الآباء قبيح، لَا يحل ولا يجوز، وهذا النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قصد صدهم عن ملة آبائهم، فلذلك كفروا به وابتدءوا هم بهذه المقالة من باب إثارة الغضب كقول القائل: يا ابن الذي طاعته عصمة ... وحبُّه مفترض واجب إن الذي شرفت من أجله ... يزعم هذا أنه كاذب قوله تعالى: (مُفْتَرًى). إن قلت: ما فائدته، فالجواب: بين وجهين: الأول: الإفك، قول الباطل عمدا أو سهوا، والافتراء تعمد الكذب.

(44)

الثاني: الإفك، هو القول الباطل في [نفسه*]، وإن كان قائله صادقا في مقالته مثل أن يخبرك شخص عن [**عمرو يقام زيد]، وهو صادق في الإخبار عن عمرو، ولكن ذلك الكلام في [نفسه*] كذب، فلما قال: (مفترى)؛ أفاد أن الكلام في [نفسه*] كذب، وأن ناقله كذب أيضا على المنقول عنه في حكايته. قوله تعالى: (لِلْحَقِّ). الزمخشري: [لامان الجر ولام التعريف*] (¬1). قوله تعالى: {وَمَا آتَيْنَاهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا ... (44)} دلت الآية على أنهم في تكذيبهم للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم غير مستندين إلى كتاب منزل، ولا إلى إخبار رسول، ولا إلى خبر تواتر، لأن الذين من قبلهم قد كذبوا، وإذا كذبوا انقطع التواتر، لأن شرطه صدق المخبرين، أما المكذبون فلا. فإن قلت: إنهم لم يشترطوا في التواتر صدق المخبرين، بل قالوا: إن خبر الكفار البالغين عدد التواتر يفيد العلم، فالجواب: إنما ذلك إذا أخبروا عن أمر شاهدوه، وأما النقل فلا، لأن الكفار البالغين عدد التواتر نقلوا لهم ذلك عن قوم كذبوا بينهم، فلا يعتمد على قولهم بوجه لقوله (وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبلِهِمْ). وإنما احتيج إلى ذكر الثلاثة، لأن الرسول لَا يستلزم الكتاب، إذ قد يكون رسولا بغير كتاب منزل عليه. فإن قلت: لم وصف الكتب بـ يدرسونها، مع أن نفي الأخص لَا يستلزم نفي الأعم، فيبقى المفهوم، فالجواب: أن الكتب ما ينتفع بها إلا بالنظر وبالدرس وإلا فوجودها كالعدم، فهذه لازمة أو هو مفهوم خرج مخرج الغالب فلا يعتبر. قوله تعالى: {فَكَذَّبُوا رُسُلِي ... (45)} إن قلت: ما أفاد بعد قوله تعالى: (وَكَذبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ)، فالجواب: بوجوه: الأول: أن هذا مقيد، والأول مطلق. الثاني: والمراد بالأول تكذيبهم المعجزات، وبالثاني تكذيب الرسل. ¬

_ (¬1) النص هكذا في الكشاف: "لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ وما في اللامين من الإشارة إلى القائلين والمقول فيه، وفي لما من المبادهة بالكفر: دليل على صدور الكلام عن إنكار عظيم وغضب شديد، وتعجيب من أمرهم بليغ، كأنه قال: وقال أولئك الكفرة المتمرّدون بجراءتهم على الله ومكابرتهم لمثل ذلك الحق النير قبل أن يذوقوه". اهـ الكشاف. 3/ 588).

(46)

وأجاب الزمخشري: بأنه لما كان معنى قوله تعالى: (وَكَذبَ الُّذِينَ مِن قَبلِهِمْ)، [وفعل الذين من قبلهم التكذيب، وأقدموا عليه: جعل تكذيب الرسل مسببا عنه ونظيره*] أقدم فلان على الكفر فكفر بمحمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم. قوله تعالى: {مَثْنَى وَفُرَادَى ... (46)} إن قلت: قدم (مَثْنَى) على (وَفُرَادَى) وكان العكس، فالجواب: أن مفعول التكذيب بالنظر والاستدلال مع الجماعة أقرب من حصوله حالة الانفراد، والآية خرجت مخرج الوعظ والتذكير، فكان تقديم الاثنين من الواحد. قوله تعالى: {قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ ... (47)} إما أن يقتضي النفي [نفى مسألة الأجر رأسا*]، [والثاني: أن يريد بالأجر ما أراد في قوله تعالى قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا*]، وفي الآية دليل بجواز أخذ الأجرة على رواية الأحاديث. وفيه خلاف حكاه ابن الصلاح، قيل: تجوز، وقيل: لَا تجوز، واختار بعض المتأخرين إن كان يشغله عن [معاشه*] فجائز، [وإلا لم يجز*]، وأما الحديث الواحد فلا يجوز أخذ الأجرة على تبليغه، وانظر بما تقدم في آخر سورة البقرة، ووجه الدليل من هذه الآية أن الأصل الناشئ حين يدل الدليل على التخصيص، والنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لَا يتوهم سؤاله إلا عن ما هو جائز. قوله تعالى: (وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ). إن أريد بالشهادة مجرد العلم والكشف والإطلاع فهو عام باق على عمومه، ويكون فيه دليل على تعلق علمه بالجزئيات والكليات، وإن أريد بها الشهادة الملزومة للمجازاة مستثنى، فلا يصح كونه بدلا، وأيضا فقد فرقوا بين العطف على مواضع أن، وبين العطف على مواضع إن واسمها، فالعطف على مواضع اسمها لَا يجوز عند الأكثر، لعدم [المجوز*]؛ لأن الرفع امتنع بدخول (إن) والعطف على موضعها هي واسمها جائز، لأن موضعها رفع، فالصواب: أن (عَلَّامُ) خبر ابتداء مضمر، أي هو علام، والمبالغة إما باعتبار كثرة معلوماته، أو باعتبار الكيفية، وأنه في [أعلى*] درجات العلم. قوله تعالى: {قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ (49)} يحتمل أن يكون فيه حذف التقابل. قوله تعالى: (قُلْ جَاءَ الْحَقُّ). [والمعنى: جاء الحق وهلك الباطل، كقوله تعالى: جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ وعن ابن مسعود رضى الله عنه: دخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة وحول الكعبة ثلاثمائة وستون صنما، فجعل يطعنها بعود نبعة، ويقول جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً، جاءَ الْحَقُّ وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ*]

(50)

قوله تعالى: {فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي ... (50)} إن قلت: فيه دليل أنه عليه السلام غير مجتهد، فالجواب: أن اجتهاده راجع إلى الوحي. قوله تعالى: {آمَنَّا بِهِ ... (52)} إنشاء لا خبر. قوله تعالى: (مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ). أي كيف يصح إيمانهم، والدار ليست دار تكليف، فلا ينفعهم إيمانهم بحال. قوله تعالى: {مِنْ قَبْلُ ... (53)} تدل على أول الأزمنة القبلية، فأفادت الآية أنهم ماتوا على الكفر، لأن ابتداء الغاية بحسب مآلهم، وحالهم حينئذ أمر الآخرة، فأفادت من أن ابتداء أمر الآخرة حينئذ في حقهم الكفر، وهو انتهاء أمر الدنيا، فهم ماتوا كفارا في شك، والمراد به الشك اللغوي لَا استواء الطرفين كما هو اصطلاحا، فيتناول الظن، وهو تنبيه بالأدنى عن الأعلى، لأنه إذا كان الشاك يناله هذا الوعيد فأحرى من جزم. * * *

سورة فاطر

سُورَةُ فَاطِرٍ تقدم الكلام على الحمد في أول الفاتحة. قوله تعالى: {مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ ... (1)} لم يعتبر مفهوم العدد هنا مع أنه قوي عندهم. الزمخشري: [(أُولِي أَجْنِحَةٍ) أصحاب أجنحة، وأولو: اسم جمع لذو، كما أن أولاء اسم جمع لذا، ونظيرهما في المتمكنة: المخاض والخلفة*] انتهى، أراد مخاضا جمع خلفه، نص عليه عياض في كتاب الزكاة من الإكمال (مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ)، مشتقة من اثنين وثلاثة وأربعة، ومنع صرفها العدل [والوصفية*]. الزمخشري: منعها تكرار العدل فيها وتقدم بيانه في النساء، قال: ولا فرق في [الوصفية بين المعدولة والمعدول عنها*]، كنسوة أربع ورجال ثلاثة، واعترض بأن شرط الوصف المانع من الصرف، أن لَا تكون مؤنثة بالتاء، وأن لَا يكون مع التأنيث؛ فلا يلزم من عدم اعتبار الصفة اعتبارها في المعدول [لفقد*] شرطها فيها. وأجيب: بأن مراده أنه لم يجتمع فيه علتان، فليس فيه الوصف، لأن شرطه عندهم ألا يمنع الصرف إلا في أفعل فعلاء، كأحمر حمراء أو فيها مؤنثة بغير تاء، وأما الصفة التي في مؤنثها التاء الفارقة بينها وبين المذكر، فلا يمنع الصرف [فيها*] بوجه. قيل: وكذلك أيضا عنده لَا يمنع الصرف إلا فيما كان اسما، ومثله ابن عصفور بأربعة: فإنها اسم العدد بخلاف غيره. القرافي في شرح المحصول قال: التصريف الذي نقل عن جماعة أن الواو [ترد بمعنى (أو) *]؛ كقوله (أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ)، انتهى. ابن هشام: زعم قوم أن الواو تخرج من [إفادتها لمطلق الجمع*]، وتستعمل بمعنى (أو) ذلك على ثلاثة أوجه: أحدها: أن يكون معناها في التقسيم نحو الكلمة [اسْم أَو فعل أَو حرف*]، وممن ذكر ذلك ابن مالك في التحفة. والصواب أنها في ذلك على معناها الأصلي، إذ الأنواع مجتمعة في الدخول تحت الجنس، ولو كانت (أو) هي الأصل في التقسيم، لكان استعمالها فيه أكثر من استعمال الواو. والثاني: أن معناها في الإباحة، قاله الزمخشري: وزعم أن يقال: جالس الحسن وابن سيرين، أي أحدهما وأنه لهذا قيل: (تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ)،

(2)

بعد ذكر ثلاثة وسبعة، لئلا يتوهم إرادة الإباحة، والمعروف من كلام النحويين أنه لو قيل: جالس الحسن وابن سيرين كان [أمرا*] بمجالسة كل منهما، وجعلوا ذلك فرقا بين العطف بالواو والعطف بـ أو. الثالث: يكون معناها في التخيير. قاله بعضهم في قوله: وقالوا نأتْ فاخترْ من الصَّبر والبُكا ... فقلتُ البُكا أشفى إذاً لغليلي فقال: معناه أو البكاء إذ لَا يجتمع مع الصبر، ونقول: إن الأصل فاختر من الصبر والبكاء، أي أحدهما، ثم حذف (مِن)؛ كما في قوله تعالى: (وَاخْتَارَ مُوسَى قَومَهُ)، [**ويؤيده أن بها على القاف من]. وقال الشاطبي في باب البسملة، وقيل: [وَاسْكُتَنْ*]، فقال شارحوا كلامه: إفراد التخيير ثم قال محققوهم: ليس ذلك من قبل الواو، بل من جهة المعنى، وقيل: إن شئت. قال أبو شامة: وزعم بعضهم: أن الواو تأتي للتخيير مجازا. قوله تعالى: {لِلنَّاسِ ... (2)} إن قلت: [مَا يَفْتَحِ*] ما أفاد، قلت: لأن الفتح المطلق لَا حسد فيه، وإنما يحسد في الفتح في شخص معين. قوله تعالى: (وَمَا يُمْسِكْ). قال شيخنا ابن عرفة: يؤخذ منه أن العدم الإضافي السابق متعلق للقدرة، وجعله بعض الأصوليين متعلقا للإرادة. قوله تعالى: (مِنْ بَعْدِهِ). إن قلت: ما أفاد، وهو خص بالقسم الثاني دون [الأول*]، فالجواب: أنه إشارة إلى ما قرره المتكلمون: من أن ما أراد الله تعالى كونه فلا بد من وقوعه باتفاق بين الجميع، ولذلك لم تحتج إلى تأكيد الأول بقوله (مِنْ بَعْدِهِ)، ولم يرد وقوعه، فنحن نقول: لَا يقع أصلا وفريق من المعتزلة يقولون بصحة وقوعه، لأن العبد عندهم يخلق أفعاله، والله

(3)

تعالى عندهم لَا يريد الشر ولا الكفر بوجه، فلذلك احتيج إلى تأكيد الثاني بقوله تعالى: (مِنْ بَعْدِهِ)، وما لم ترد وقوعه فنحن نقول: لَا يقع أصلا. وجواب الفخر: بأنه إشارة إلى أن الرحمة في الآخرة لَا تزول، وأن العذاب فيها زائل منقطع، يرد بأن الآية عامة في الدنيا والآخرة، [والناس*] عام في المؤمن والكافر. قوله تعالى: (وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ). من اللف والنشر المخالف، وهو قليل لأن (الْعَزِيزُ) راجع لقوله تعالى: (وَمَا يُمْسِك) إذ العزة هي الامتناع و (الْحَكِيمُ)، لقوله (مَا يَفتَحِ اللَّهُ). قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ... (3)} النَّاس عام في بني آدم، فإن كان ذكروا للوجوب فخص العموم بالصبيان والمجانين، وإن كان للندب فلا تخصيص. قوله تعالى: (هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ). هذا كالنتيجة بعد المقدمتين، لأن المقدمة الأولى أفادت أن لَا معطي إلا الله، والثانية: أفادت أن لَا مانع إلا الله، فإذا ثبت اختصاصه بالمنع والإعطاء أنتج ذلك أن لا خالق إلا الله. قوله تعالى: (يَرْزُقُكُمْ). كالتتميم للدليل، والأولى كونه ابتدأ كلام وبعد كونه صفة لخالق لئلا يلزم عليه المفهوم، أن [ثَمَّ خالقًا لَا يرزق*]. قوله تعالى: (يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ). وفي سورة والذاريات (رِزْقُكُم) بالحصر، والجواب: أن أصل الرزق من السماء، وتشارك فيه الأرض باعتبار النبات. قوله تعالى: (لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ). تلقين للمخاطب بأن يصرح بنتيجة الدليل المذكور. قوله تعالى: {فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا ... (5)} من باب [لَا أرينك ها هنا*]، أي لَا تركنوا إليها فتغرقكم.

(6)

فإن قلت: لم ذكر في الثاني ما وقع الغرور عنه، وهو الله تعالى، ولم [يذكره*] في الأول، إذ لم يقل: فلا يغرنكم بالله الحياة الدنيا، فالجواب من وجهين: الأول: أنه حذف من الأول لدلالة الثاني عليه، وهذا كثير في لسان العرب، وإنَّمَا القليل عكسه. الثاني: أن الحياة الدنيا إنما [تغر*] في شهواتها والمأكل والمشرب والشهوة البهيمية والملبس فقط، وأما الشيطان فإنما يغر ويوسوس في الشرك بالله والكفر، فلأجل ذلك ذكر معه اسم الله عز وجل. قوله تعالى: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ ... (6)} وهذا من النسب الغير متعاكسه، لأنه قد يكون الإنسان [عدوا*] لشخص، ويكون الشخص ذلك صديقا له، لكن هذا ما يتأتى إلا فيمن لَا يعرف منه ذلك. قوله تعالى: (فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا). فإِن قلت: كيف يتأتى ذلك، مع أن هذا لَا يمكن إلا في شخص معين تراه بحيث تتحرز منه وتتحرر، وأما الشيطان فهو خفي لَا يظهر، فكيف التحرز منه؟ فالجواب: أن هذا كما قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: إن يكن خيرا فمن الله وإن يكن غير ذلك [فمن*] من الشيطان، فالإنسان مكلف بأن يزن أعماله بالميزان الشرعي، فإن رآها جارية على ما أمره الشرع به، علم أنها كلها من الله، وإن رآها مخالفة للشرع علم أن ذلك من وساوس الشيطان. قوله تعالى: (إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ). حزبه هم الذين انقطعوا إليه وصاروا قوة، وهم الشياطين، ويكون المراد بالشيطان إبليس لعنة الله عليه، فالمعنى أن أصدقاءه الذين لَا عداوة بينه وبينهم، إنما يدعوهم ليكونوا من أهل النار، فما [بالك*] فيمن هو عدو لهم هو يدعوهم إلى النار من باب أحرى. فإن قلت: إذا كان حزب الشيطان بعض أصحاب السعير، فمَن البعض الآخر؟ فالجواب: أن أصحاب السعير هو وحزبه ومن تابعهم من بني آدم. قوله تعالى: {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا ... (8)}

(9)

الهمزة للإنكار لَا للتقرير، وفيه دليل للمعتزلة القائلين: بأن [العقل*] يحسن ويقبح، وجوابه: أن المعنى ظنه حسنا من جهة الشرع، أي اعتقد أن الشرع حسنه. وفيه دليل ما يقول الفخر: أن العاصي لَا يعصي وهو جاهل، ولا يتصور من العالم حين علمه عصيانه بوجه، فهو يظن أن الأرجح فعل المعصية لقوله تعالى: (فَرَآهُ حَسَنًا). قوله تعالى: (حَسَرَاتٍ). [الزمخشري*] جعله مفعولا من أجله، وهو على مذهبه إذ [شرط*] المفعول من أجله، أن يكون مفعولا لفاعل الفعل المعلل، فالحسرات إذًا من فعل النفس لَا من فعل غيرها، وهو أيضا جائز على مذهب أهل السنة القائلين بالكسب، وأما من ينفي الكسب هنا [يجري*] على هذا الإعراب على مذهبه، وتحتمل كونه حالا. وقول الزمخشري: لَا يتعلق بـ[حسرات*]، لأنه مصدر فلا تتقدم صلته عليه، يرد بوجهين: الأول: إن ذلك إنما هو في المصدر والمقدر بـ أن والفعل، حسبما ذكره ابن هشام شارح الإيضاح في قوله تعالى: (أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا). الثاني: أن المصدر إذا ثنى وجمع بعد عن التقدير بـ أن والفعل، فلا يكون موصولا وهذا بمجموع. قوله تعالى: {الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا ... (9)} أتى بالأول ماضيا، والثاني [حالا*] للتصوير، لأن الأول ليس بمشاهد، وإثارة السحاب [مشاهدة لنا*]، ولأن إرسال الرياح غير مكرر، وإثارة السحاب متكررة. قوله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ ... (10)} [**لا مفهوم]. قوله تعالى: (إِلَيْهِ يَصْعَدُ). مجاز لأن الصعود قطع المسافة من أسفل إلى فوق، إلا أن يكون باعتبار الصحف. قوله تعالى: (وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ).

(12)

قيل: الضمير على الكلم الطيب، أي ليرفعه الكلم الطيب. فإِن قلنا: المراد بالكلم الطيب الشهادتان فقط فظاهر. وإن قلنا: المراد به التسبيح ونحوه فلا يتأتى إلا على مذهب المعتزلة القائلين: أن مجرد كلمة الإسلام لَا تنفع العاصي. قوله تعالى: {وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ ... (12)} حمله ابن عطية على الحقيقة، والزمخشري على المجاز. فإن قلت: لمَ لم يذكر في الثاني عند الوصف المذكور في الأول، فتقول: ملح الأجاج صعب تناوله، فالجواب: من وجهين: الأول: يستلزم الملح الأجاج لوصف كونه صعب التناول [الجبلي*] وأظهر من استلزام العذب الفرات، لكونه سائغا شرابه، فلذلك اكتفى به، في الثاني: دون الأول، لأنه قد يكون عذبا شرابه، ولا يسوغ شرابه لما فيه من الغثاثة، وتقرر أن اللازم بوسط نظري وبغير وسط ضروري، وباستلزام الشيء للشيء تارة يكون نظريا وتارة يكون ضروريا، ومنه الخلاف في لازم المذهب، هل هو مذهب أم لَا؟ والخلاف في تكفير المعتزلة بلازم مذهبهم. الجواب الثاني: أن الأول أمر ملائم، والثاني أمر مؤلم، والأمور المؤلمة تكفي في التعبير بأول أوصافها، بخلاف الأمور الملائمة، فإن حصول الإقبال عليها حالة المبالغة في أوصافها، أقوى من حصوله مع عدم المبالغة. قوله تعالى: (تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً). إن قلت: لم ذكر في الثاني الحلية تفرد له بسببها، وهو الإخراج، وذكر في الأول الأكل دون سببه وهو الاصطياد، مع أن الحوت لَا يتوصل إلى أكله إلا بعد تكلف وموته في اصطياده، لاسيما على المذهب الشافعي القائل: بأن طافي الحوت لَا يجوز أكله، فالجواب: أن السبب في استخراج الحلية من البحر أشق على النفوس من سبب الاصطياد، لأن الاصطياد يتأتى من الأطفال والنساء وغيرهم، وأما استخراج الجوهر واللآلئ من البحر فلا [يعلمه*] إلا غواص الجواهر من النَّاس في بعض الأقطار. حتى قال المسعودي في مروج الذهب: إنهم يجعلون على وجوههم أغشية من كروش ويغلف سائر بدنه وتثقل رجليه بحجر وتهبط إلى قعر البحر، فيمكث الأيام يرصده، [**وأما فيه عوائدها] تمكث جالسة على محل الجوهر

(13)

استلذاذا لبرده، فإذا قامت غرف منه وجعله في قفاف، وحرك الشرائط المربوطة فيها، فيرفعها من يكون يرصده وألقى الحجر الذي في رجله، فيصعد حينئذ فوق الماء، انتهى كلامه، فذكر الأول دون سببه لسهولته حتى كأنه تحصل بلا سبب بخلاف الثاني. قوله تعالى: {يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ ... (13)} أي يأخذ من الليل ويزيد في النهار، ويأخذ من النهار ويزيد في الليل، وهذا في القطر الواحد في غير الاستواء. وقال الفخر: الإيلاج [باعتبار*] أن نفس الليل عندنا هو نهار عند قوم آخرين، وهذا باعتبار جميع الأقطار. قوله تعالى: (وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ). هذا من اللف والنشر، إما مخالف لأن الشمس أمة النهار، أو المواقق باعتبار المولج، فالمولج فيه أولا هو النهار. ابن عطية: اختلفوا في الألف واللام في الشمس والقمر، هل هما زائدتان أو للعهد، انتهى. قال شيخنا: كانوا يختلفون هل يصح ورود الزائد في القرآن أم لَا؟ فقيل: يصح، وقيل: لَا يصح، لأنه معجز، فكل لفظ منه معتبر لَا زائد، والذين قالوا بالصحة، هل يصح أن يقال: زائد لغير معنى، أو ما فيه زائد إلا المعنى؟ فكلام ابن عطية مخالف لقول ابن التلمساني أن الشمس والقمر من الكل، فإذا كانا من الكل فالألف واللام فيهما للعهد لَا زائدة، لأن فائدة العهد إنما هي أنها خصصت ذلك الكل بنوع واحد مشخص. قوله تعالى: (مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ). أي ما يملكون دفع ضرر ولا جلب نفع، وهم يفتقرون إلى الله تعالى، وشرط المعبود الاستقلال بنفسه وفيه استقلال الله تعالى بجميع الكائنات، خلافا للمعتزلة بأن الغير يخلق أفعاله. قوله تعالى: {وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ ... (14)} إن [بنينا*] أن الاستيجاب لَا يطلق إلا على الإجابة بالموافقة فبين، والمعنى ولو سمعوا لَا يجيبون إلا بنقيض ما تدعونه إليه، وإن قلنا بالإطلاق فالمعنى ولو سمعوا لا

(15)

يردون عليكم بجواب لعدم رضاهم ما أنتم تدعون، ولا يرد في هذه الآية الإشكال الوارد في قوله تعالى: (وَلَو عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيرًا لأَسْمَعَهُم)، لأن تلك استثنى فيها عن التالي، ومنه جاء الإشكال، وهنا استثناء نقيض التالي، لأن السمع في تالي الصغرى منفي وفي مقدمة الكبرى مثبت، ولما اشتملت الآية على دليلين عقلي ونقلي. قوله تعالى: (وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ). وهذا الكلام محمول على المعنى، لأنك إذا قلت: لَا تفعل هذا مثل عمرو ففعله منفي عن مثل عمرو، فيلزم نفي الإنباء عن مثل الخبير، وليس لذلك [بل*] المراد ولا ينبئنا أحد مثل خبير، وهذا إن أريد به الله تعالى فيتعين أن [تكون*] سالبة، والسالبة عند المنطقين ما تقتضي وجود الموضوع بوجه، بخلاف [المعدد له*] والله تعالى لَا مثل له، فلذلك كانت سالبة، لأن مثله غير موجود. قوله تعالى: {أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ ... (15)} مفهوم الحصر من اللقب منتف، بل هو تنبيه بالأدنى على الأعلى، لأنه إذا كان الحيوان العاقل الذي به الاستقلال بنفسه إلى الله تعالى، فأحرى من دونه من الحيوانات والجمادات، فهو مفهوم موافقة لَا مخالفة. قوله تعالى: {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ ... (16)} أي [إن يشأ*] إذهابكم يذهبكم. قوله تعالى: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ... (18)} فيها سؤالان: الأول: أنه تقرر أن نفي الأخص لَا يستلزم نفي الأعم، فهلا قيل: لَا تزر نفس وزر أخرى، لأن النفس قد تكون وازرة وقد تكون غير وازرة، فيلزم المفهوم، وجوابه: أن مفهوم (أُخْرَى) لأن النفس الوزارة هي العاصية المتحملة للذنوب، فإن كانت النفس العاصية لَا تحمل وزر غيرها فأحرى الطائعة، لأن حمل الوزر عقوبة. الثاني: [ما الجامع بينها وبين حديث: "مَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً حَسَنَةً، فَعُمِلَ بِهَا بَعْدَهُ، كُتِبَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِ مَنْ عَمِلَ بِهَا، وَلَا يَنْقُصُ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْءٌ، وَمَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً سَيِّئَةً، فَعُمِلَ بِهَا بَعْدَهُ، كُتِبَ عَلَيْهِ مِثْلُ وِزْرِ مَنْ عَمِلَ بِهَا، وَلَا يَنْقُصُ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْءٌ"، وقوله تعالى: (وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ) "*]، وجوابه: أن الحديث وتلك الآية في صناديد الكفار الذين كفروا وتسببوا في كفر أتباعهم، لأن فاعل السبب فاعل للمسبب، وهذه الآية في الأتباع، ومن اختص بفعله ولم يتسبب في معصية أحد.

(19)

قوله تعالى: (وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ). قيل: المفعول إنما حذف لقصد العموم، فالمراد وإن تدع أحدا، وهو عام في القريب والبعيد، فما أفاد ولو كان ذا قربى. وأجيب: بأنه نفي لما قد يوهم قربه فيذب عنه ويرعاه. قوله تعالى: (إِنَّمَا تُنْذِرُ) أي الإنذار النافع. قوله تعالى: {وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ (19)} قال شيخنا: هو قياس معنوي وهو كثير في القرآن، لأنه تمثيل لحال المؤمن والكافر، وليس القصد التفريق بينهما؛ كما يفرق بين الأعمى والبصير، وإنما القصد التنبيه على قبح الكفر وحسن الإيمان. أبو حيان: استوى هنا [لـ فاعلَين*] انتهى، يرد بأنه من السبب لمعاكسته، فلا يطلب فاعلين، ويدل عليه قولهم استوى الماء والخشبة، والأول فاعل، والثاني مفعول، وقدم في الأولين الوصف القبيح، وعكس في [الآخرين*] ليحصل، انظر للزمخشري. قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ ... (22)} الاقتران المراد الإسماع النافع، لأنه عام ورد على سبب. قوله تعالى: (وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ). هذا زيادة في التقبيح، لأن الميت الذي في القبر أبعد عن الإسماع من ميت على وجه الأرض، ونفاه بلفظ الاسم، لأنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم، لَا يسمع الإسماع الأخص فنفاه على حقيقته. قوله تعالى: {إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ (23)} أي لهو الكفر ولذا عقبه بقوله [(بَشِيرًا وَنَذِيرًا) *]. الزمخشري: وفي حدود المتكلمين الأمة هي المصدقة بالرسول دون المبعوث إليهم، وهم المعتبر إجماعهم. انتهى. قال شيخنا: هذا إنما علمت من قاله من المتكلمين، لكنه حسبه بقوله: وهم المعتبر إجماعهم، لأن الإجماع في حياة صلى الله عليه وعلى آله وسلم، غير معتبر إلا بعد وفاته.

(25)

قوله تعالى: {وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ ... (25)} قيل: أفادت هذه بعد التي قبلها في معناها، أجيب: بأن [تحسر الرسل واغتمامهم إما على أنفسهم بتكذيب قومهم لهم*]، وإما على قومهم بامتناعهم عن الإيمان، وبأن الأولى تضمنت تكذيبه في نفسه، وهنا وفيما جاء به فهو أبلغ. قوله تعالى: {وَغَرَابِيبُ سُودٌ (27)} الأصل سود غرابيب، لكنه عكس إشارة لشدة السواد. قوله تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ... (28)} ابن عطية: قال بعض: الخشية رأس العلم، والصحيح العكس انتهى، بل الصواب الأول للحديث الذي ذكره. قوله تعالى: (عَزِيزٌ غَفُورٌ). ووجه مناسبتها أن العزة هي الامتناع، وكذلك خشية الله قليلة في أعلى المراتب و (غَفُورٌ) إشارة إلى الواصلين إليها من العلماء، لم يسلموا من تقصير اتصفوا به ونقص في أعمالهم فوصولهم بمغفرة الله وعفوه عنهم، وانظر هل يؤخذ من الآية [تقديم الأصلح الأصلح*] في إمامة الصلاة؟ قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ ... (29)} عبر في الأول: بالمضارع إشارة إلى سهولة مصدره، وفي الثاني: بالماضي إشارة إلى محقق وقوعه مع عدم سهولته. قوله تعالى: {شَكُورٌ (30)} تَجَوُّزٌ لأنه تعالى هو المنعم على الجميع. قوله تعالى: {وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ ... (36)} قيل: [ما وجه الجمع*] بينه وبين قوله تعالى: (كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا)؟ وأجيب: بأن عذابها يكون شديدا، فإذا خبت لَا يزال ألمها شديدا حالًّا بهم، لكنه يكون أولا يزيد فإذا خبت [يقف حاله، ولا يزيد ثم تشتعل بعد ذلك فيزداد عليهم الألم*]، فهي في نفسها تسكن لَا أن الألم النازل بهم يخفف عنهم. قوله تعالى: (كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ).

(40)

فيه سؤال، وهو أن المشبه لَا يقوى قوة المشبه والأول كافر، وهذا كفور، فكيف شبه جزاء الكفور بجزاء الكافر؟ ولا جواب فيه إلا أنه من عكس التشبيه كقوله تعالى: (إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا). قوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ ... (40)} حكى أبو حيان عن بعضهم: أنه بدل من الأول، ورد بأن همزة الاستفهام دخلت على الأول دون الثاني، [ويجاب*]: باحتمال كونه حذف من الثاني لدلالة الأول [عليه*]. ذكر ابن عصفور خلافا فيه يلزم معه تكرار، فأدخل على المبدل منه أم لَا؟ وحكى أبو حيان عن بعضهم أيضا: بدل جملة من جملة. ورده أبو حيان: بأنه بدل فعل من فعل، ويجاب: بأنهم فرقوا بين بدل الفعل من الفعل، وبدل الجملة من الفعل، وهو إذا كان الفاعل في الفعلين متحدا، إما ضمير متكلم أو ضمير غائب، نحو إن قمت أكرمت زيدا فأتني، أو يكون المفعول متحدا، فإن اختلف الفاعل فيكون في أحدهما ظاهرا وفي الآخر مضمرا، أو يختلف الضمير أو يختلفا في المفعول كان بدل جملة من جملة، مثل إن قمت يخرج أبوك فأتني، وهذان الفعلان وإن اتفقا في الفاعل فهما مختلفان في المفعول. قال أبو حيان: وأيضا فالبدل على نية تكرار العامل، وهو لم يتكرر هنا انتهى، إنما ذلك إذا كان العامل موجودا، وأما إذا لم يكن ثم عامل فليس ثم ما يكرر. قوله تعالى: (مَاذَا خَلَقُوا). قال شيخنا: كان وقع في زمن الأستاذ أبي زكريا يحيى بن فرج النعر نزاع [فيها*]. فقال بعضهم: إنها تقتضي التكثير، واحتج بحديث: "ماذا أنزل الليلة من خير". وقال بعضهم: إنما يكون التقليل، واحتج بهذه الآية، وهنا إشكال وهو أنها تقتضي أن من لوازم الإله اتصافه بالخلق، مع أن مذهبنا أن الذي من لوازمه اتصافه بالقدرة وصلاحية الخلق لَا اتصافه بالخلق بالفعل، وإلا يلزم عليه قدم العالم، لأن الله تعالى في الأزل لم يخلق شيئا بالفعل، وجوابه: أن الألوهية أمر نظري لَا ضروري، والاستدلال عليها إنما يتم بأثرها، فلذلك قال (أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا)، فمعناه لو كانوا آلهة لظهر لنا أثر قدرتهم، فلما لم يظهر لنا أثر قدرتهم، دل على أنهم ليسوا بآلهة. قيل: لَا يلزم من عدم العلم بالدليل عدم العلم بالمدلول، أجيب: بأنه كذلك،

(41)

قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا فَهُمْ عَلَى بَيِّنَتٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِلَّا غُرُورًا ولكنه يلزم من عدم العلم بالدليل عدم العلم بالمدلول. قوله تعالى: (أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ). فيه سؤالان: الأول: المستدل، يأتي أولا بما هو مستلزم لغيره، ثم يأتي بمستلزمه ولا يأتي باللازم قبل الملزوم، فيقول: إن كنت ذا مال فأعطه دينارا أو أعطه درهما، ولا يقول: إن ذا المال فأعط لزيد درهما أو دينارا؛ لأن العجز عن الدرهم يستلزم العجز عن الدينار، [وهو لَا يجوز*]، والعجز [الاستقلالي*] بالخلق، وما يلزم من ذلك عجزهم عن الخلق مع الشريك المعين لهم في ذلك. السؤال الثاني: أن المذهب على امتناع اجتماع مؤثرين على أثر واحد، حسبما ذكر الأصوليون في مسألة [الكسب*]، حيث قالوا: هو فعل فاعل معين، وقد قرروا في دلالة التمانع امتناع ذلك، فكيف يصح الرد عليهم بعجز آلهتم عن خلق السماوات مع الشريك، والجواب: أن الاستدلال قسمان: عقلي لَا يفهمه إلا الخواص، وآخر يفهمه العوام، فالعلماء منعوا اجتماع قدرتين على مقدور واحد، والعوام يتصورون اشتراك رجلين وثلاثة في فعل. قوله تعالى: (أَمْ آتَيْنَاهُم كِتَابًا). هذه إشارة إلى الدليل السمعي، والأول: إشارة إلى الدليل العقلي فهم يستندوا في عبادتهم الأصنام لَا إلى عقل ولا إلى سمع، ثم عقب ذلك بالدليل السمعي الدال على وحدانية الله تعالى، وهو قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ). قوله تعالى: {وَلَئِنْ زَالَتَا ... (41)} فيه سؤال، وهو أن الجزاء لَا يجوز كونه موافقا بشرط، لعدم الفائدة ولا مناقضا له، بل يكون مخالفا فلا يقال: إن قام زيد قام زيد، ولا إن قام زيد لم يقم زيد، وإنَّمَا يقول: إن قام زيد قام عمرو، والجواب: ليس يترتب على الشرط، والجواب: أنه ترتب على جواب مقدر، وتقديره (وَلَئِنْ زَالَتَا)، فلا راد لهما ولا مستمسك. وحكي ابن عطية هنا أن إن تعني لو، وهو على جهة التوهم والفرض، أي وليس فرضنا إلا العكس. وقال ابن التلمساني: إنَّ إنْ تدخل على المحقق وعدمه، واستحالته وإن غالب دخولها على المشكوك، وقد تدخل على المحقق.

(42)

قوله تعالى: (حَلِيمًا). لا يعجل لعقوبة الكفار. وقوله تعالى: (غَفُورًا). للمؤمنين المخالفين في فروع الشريعة. قوله تعالى: {أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ ... (42)} أي من المحق في الأمم. قال ابن رشد في كتاب الإيلاء [من "البيان" وفي "المقدمات"*]: إذا حلف أن لَا يطأ زوجته أكثر من ستة أشهر، فإنه مولي، وإن قال: وطئتها لأكثر من أربعة، فكل مملوك أملكه حر، فإنه إذا وطئها ينعقد عليه اليمين، ولا يكون موليا، قال: وهذا مثل ما لو قال: والله لَا آكل أحد هذين الرغيفين، فأكل أحدهما فإنه لَا يحنث، بل ينعقد عليه اليمين في الآخر، فإذا أكله حنث. قوله تعالى: {فَلَنْ تَجِدَ ... (43)} نفى الوجدان مع أن الأبلغ نفي التبديل زوال الشيء من أصل، وتعويضه بخلافه، [والتحويل*] تغيير حاليه بزيادة أو نقص أو تخصيص مع بقاء ذاته الأصلية، فنفى أولا تبديل السُّنَّة من الأصل، وثانيا تغيرها فهو تأسيس. قوله تعالى: {أَشَدَّ مِنْهُمْ ... (44)} ثم أقوى منهم، إشارة إلى الاشتراك في الفسق، كما قال الزمخشري في قوله تعالى: (أوْ أَشَدُّ قَسْوَةً). قوله تعالى: (مِنْ شَيءٍ). باق على عمومه بخلاف قوله تعالى: (وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) استثنى منه الواجب والمستحيل، أما الواجب فاختلفوا هل يصدق على شيء أم لَا؟ وأما المستحيل. فقال ابن التلمساني: لَا يصدق عليه لفظ شيء. قوله تعالى: {النَّاسَ ... (45)} يحتمل الإنس فقط أو الإنس والجن. * * *

سورة (يس)

سُورَةُ (يس) في جامع العتيبية لَا ينبغي لأحد أن يتسمى بـ ياسين. ابن رشد: الكراهة [مراعاةً*] للخلاف، لأنه قيل: من أسماء الله تعالى، وقيل: من أسماء القرآن، فعلى هذا لَا يجوز التسمية به. [وقال*] ابن عباس: [معناه بالحبشية يا إنسان*]. وقال مجاهد: هو مفتاح افتتح به الله تعالى به [كتابه*] فعلى هذا تجوز التسمية به. قوله تعالى: (الْحَكِيمِ). قيل: بمعنى المحكم، فيكون فيه دليل لمن يقول بعدم وجود النسخ فيه، وينبني على كون لفظ العرب اسم جنس أو لا، وهل يصدق على البعض أو الكل؟ قوله (لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3) [دلالة المعجزة*] تثبت بالعقل، ولو ثبتت بالسمع للزم عليه إثبات السمع بالسمع. قوله تعالى: (مُسْتَقِيم). إما صالح حسن فهو صفة مدح، أو المراد به القرب؛ لأن المستقيم أقرب من المعوج، وهو طريق قريب من الجنة لَا بعيد. قوله تعالى: {الْعَزِيزِ ... (5)} هو الذي لَا يمانع، فدلت الآية على أنهم [لَا تنفعهم*] [الشفاعة*] و (الرَّحِيمِ) في تخصيصه الرسالة بالنبي صلى الله عليه وسلم رحمة به وبأمته. قوله تعالى: {لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ ... (7)} إنذارهم مع الإخبار بأنهم لَا يؤمنون، ليس يبيح التكليف به اعتبارا بها عن الأمر والإلزام أن تكون التكاليف كلها لَا تطاق ولا فائدة؛ لأن المكلفين قسمان: فمن علم الله تعالى أنه لَا يؤمن، فلا فائدة من أمره بالإيمان إذ لَا يطيقه. ومن علم أنه يؤمن فلا فائدة في إنذاره وأمره بالإيمان إذ لَا يطيق عدمه، وضمير (هم) عائد على الأكثر أو على المجموع من حيث هو مجموع على أن الضمائر كل لا كلية.

(9)

قوله تعالى: {مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا ... (9)} وفي آية أخرى (لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ)، فتلك أعم من هذه، إلا أن يجاب بأن هذه كقولهم: ضربت الظهر والبطن، ومطرنا السهل والجبل، أو شبه هذا على ما هو المقصود، لأن الأمام والخلف هو محل المقابلة، والحركة بخلاف اليمين والشمال. قوله تعالى: {إِنَّمَا تُنْذِرُ ... (11)} أي الإنذار النافع. فإن قلت: لم قدم السبب على سببه، لأن الخشية والخوف سبب في الطاعة والإتباع؟ فالجواب: أنه إشارة إلى تأكد الأمر بالخوف، وأن المكلف إذا أطاع واتبع لا يكتفي بطاعته ويركن إليها، بل لَا يزال خائفا خاشعا، وإن كان طائعا. قوله تعالى: {فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ ... (14)} فيه دليل على القول باعتبار الكثرة، وقد اختلفوا في عدد التواتر والمشهور، أنه غير محدود ولا محصور، قيل: حد بلوغ العلم، وقيل: أربعة، وقيل: أكثر من ذلك، فهذا دليل اعتبار الكثرة في العدد، قيل: ليس المراد هنا تعدد الأشخاص، بل تعدد الأدلة والبراهين، أجيب: بأن الأدلة [إذا*] تعددت [فمرجعها*] إلى شيء واحد. قوله تعالى: {مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا ... (15)} مذهب هؤلاء كمن يذكر عن البراهمة في نفيهم الرسالة، وعدلوا في نفيها عن التصريح إلى الكناية إلى نفي أبلغ، زعما منهم أن البشر لَا يكون رسولا ألبتَّة، وإلا فالبشرية في اعتقادهم [إنما هم*] سواء [فالرسالة*] من الله، لَا من رسول الله. قوله تعالى: {وَجَاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ ... (20)} وفي القصص (وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ)، وأجيب: بأن تلك على الأصل، وهذه تفيد أن مجيئه من أطرافها وأعاليها، إشارة إلى استغراب ذلك، وأنه المقصود لَا كونه رجلا. وأجاب بعضهم: بأن تقديم (رجل) في تلك لئلا يظن النبي صلى الله عليه وسلم، لسماعه أول الخطاب، أن الذي جاء هو فرعون أو غيره من أعداء موسى عليه الصلاة السلام [فيحزن*] لذلك بخلاف [هذه*] لتقدم ذكر المرسلين فيها. قال شيخنا: هذا كان مع شيخنا أبي عبد الله بن محمد بن سلامة.

(21)

قوله تعالى: {اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا ... (21)} ابن عطية: فيه دليل على تحريم الأخذ للأجرة على مثل هذا. انتهى، يرد بأن الآية اقتضت مدح تاركها لَا ذم آخذها. قوله تعالى: {وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (22)} يراد بالعبادة إما الاعتقاد القلبي والإنابة، أو العمل والطاعة، فيكون فيه حجة للمعتزلة القائلين: بأن شكر المنعم واجب لاقتضاء الآية، أن الاختصاص بالخلق والإعادة موجب للعبادة بالفعل، إلا أن يجاب: بأن الآية إنما اقتضت تكميل العبادة، وأن موجب العبادة كان عنده مستفادا بالسمع من شرع الأمم السالفة قبله، وأتى هذا على سبيل التكميل لذلك، لَا أنه مستقل بالوجوب، واقتضت الآية الاستدلال بالوحدانية والمعاد؛ أما الوحدانية فأمر عقلي، وأما المعاد فنحن نقول بجوازه من جهة العقل، ووقوعه من جهة السمع، والذي بقاعدة التحسين والتقبيح هو عنده واقع عقلا، وفي الآية دليل له؛ لأنه جعل [الخلق*] كالدليل على الإعادة، لأنه رتبها عليه وأتى بها بعده، والوحدانية تقرر أن دلالة المعجزة لَا تتوقف. قلنا: عند الأكثر، [يدل*] على مجرد وجود الصانع، فالوحدانية يصح استفادتها من السمع، قيل: لو أتت الآية على أسلوب واحد، وما لكم لَا تعبدون الذي فطركم، فلم عدل عن ذلك مع أن معلوم اتصافه بالعبادة، فلا تحتاج إلى أنه يخبر بها؛ أجيب: أنه إشارة بـ إلى أنه لم يأمرهم إلا بما فعله هو في خاصة نفسه، ويحتمل أن يكون في الآية حذف التقابل أي [وما لكم لا تعبدون الذي فطركم*]. قوله تعالى: {إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ ... (23)} فيه المبالغة في عجزهم من وجهين: الأول: لفظ (الرَّحْمَنُ)، أي إذا عجزوا عن دفع الضر الواقع ممن هو في مقام الرحمة فأحرى، الثاني: تنكير (ضُر) للتنكير. قوله تعالى: (وَلَا يُنْقِذُونِ). الإنقاذ أعم من إغناء الشفاعة؛ لأنه لَا يكون بالمحاربة وغيرها، فنفيه أخص فهو من عطف الأخص على الأعم.

(25)

فإن قلت: هو من تحصيل الحاصل، لأن مراد الله لَا بد منه، فالجواب: ليس أراد بهذه الإرادة التخصيص بالمعنى إن وقع في الضرر، ولا شك أن ما أوقعه الله تعالى بالعبد يمكن رفعه. قوله تعالى: {بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ (25)} ولم يقل: بربي أي حالنا في عبوديته مستو، وكان حقكم الإيمان به. قوله تعالى: {ادْخُلِ الْجَنَّةَ ... (26)} صيغة افعل هنا للإكرام. قوله تعالى: {مِنَ الْمُكْرَمِينَ (27)} إشارة إلى رفع الدرجات أخص من قوله تعالى: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ). قوله تبارك وتعالى (وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّمَاءِ ... (28) أورد الفخر سؤالين: الأول: لم قال من السماء مع أن الإنزال كله معلوم أنه من السماء؟ إذ لَا يكون إلا من فوق إلى أسفل؟ وأجيب بوجهين: الأول: أنه قصد التعظيم والتشريف للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، بذكر لفظ السماء التي هي من أشرف المخلوقات وأعظمها. الثاني: أن المراد السماء المعهودة، والإنزال إنما يتناول ما كان فوق إلى أسفل بالإطلاق. السؤال الثاني: ذكر الفاعل هنا. وقال: قبل (قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ)، فحذف الفاعل، وجوابه: أن تلك في حبيب النجار، وهذه في حبيبنا محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم. ابن عطية: عن ابن مسعود: [أراد لم يحتج في تعذيبهم إلى جند من جنود الله تعالى كالحجارة والغرق والريح وغير ذلك*] انتهى، يوم أن غيرهم احتيج إلى ذلك فيه وهو باطل، ومذهبنا أن قدرة الله تعالى على خلق السماوات والأرض كقدرته على خلق الذرة، وليس بينهما تفاوت أصلا، فلذا كان كلام الزمخشري هنا أحسن.

وأورد الزمخشري هنا سؤالا هو: ما الفائدة في قوله تعالى: (وَمَا كُنَّا مُنْزِلِينَ)؟ مع أنه أغنى عنه قوله تعالى: (وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ)، وأجاب: بأن معناه ما كان يصح في حكمنا أن ننزل إهلاك قوم حبيب بجند من السماء بناء على ما تقتضيه الحكمة وأوجبته المصلحة، وهو بناء على مذهبه الفاسد، وهل هو راجع إلى قاعدة التحسين والتقبيح أو لقاعدة تعليل أفعال الله تعالى؟ وهو الظاهر؛ لأن الأولى إنما يكون غالبا في الأمور الشرعية، وهذا أمر فعلي فهم يقولون: إنه يفعل للغرض، ونحن نقول: يفعل بما يشاء، ويحكم ما يريد لَا لأغراض؛ لأن ذلك إنما يكون من العاجز؛ فيفعل الأسباب الموجبة للغرض. ولم يذكر الطيبي هنا شيئا فيبطل الجواب على مذهبنا، ويبقى السؤال واردا، فيجاب عنه بوجهين: الأول: أن النفي في قوله تعالى: (وَمَا أَنْزَلْنَا)، دخل على أخص مقيد، بقوله تعالى: (مِنَ السَّمَاء)، وهو أعم وفي (وَمَا كُنَّا مُنْزِلِينَ)، دخل على الأعم فهو أخص. الثاني: أن الثاني أفاد نفي القابلية، وهي راجعة إلى الأسباب والأحوال التي اتصف بها غيره. ابن عطية: (ما) يحتمل كونها نافية أو موصولة. فرده أبو حيان: بأنه ليس مذهب البصريين؛ لأن مذهبهم أن (مِنْ) الزائدة لَا تدخل على الموصول، انتهى، إنما يتعقبه بمثل هذا على من لم يعرف إلا بمذهب الكوفيين، وترك مذهب البصريين، وابن عطية إنما قال: يحتمل كذا أو يحتمل كذا. وقد قال الفارسي في (وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ) يجوز كون (مِنْ) و (مِنْ) الأخرى زائدتين، فتجوز الزيادة في الإيجاب. وقال ابن جني في (لَمَا آتَيتُكُم مِن كتَابٍ)، على تشديد [(لَمَّا) *]: (مِنْ) زائدة. وقال ابن مالك في من الداخلة على قبل وبعد: أنها زائدة؛ لأن كونها لابتداء الغاية على ما ذهب إليه الجمهور يلزم منه دخولها على الزمان، فتأولوا قوله تعالى: (مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ)، أي من تأسيس أول يوم.

(29)

ورده السهيلي بأنه قيل: هكذا لما احتيج إلى تقدير الزمان، وأجيب: عن دخول (مِنْ) على قبل وبعد، بأنهما غير متأصلين في الظرفية، وأنهما في الأصل صفتان للزمان، إذ معنى حيث قبلك جئت زمانا قبل زمن مجيئك، فلهذا سهل ذلك. وأيضا قلنا: أن تجعل (مِنْ) للتبعيض لَا زائدة، كما زعم، وهو أولى (مِنْ) قول المختصر: إنها نكرة موصوفة؛ لأنه إذا انتفى إنزال بعض الجند انتفى إنزال الجند من باب أحرى؛ لأن إنزال الجميع يستلزم إنزال البعض، ونفي إنزال البعض يستلزم نفي إنزال الجميع، ويحتمل أن تكون الواو في (وَمَا كُنَّا)، واو القسم، وهو راجع لما يجد قبله، أو لما بعده، ويكون الله أقسم بما كان منزلا على عدم إنزاله على قومه جندا من السماء، أو المعنى: وحق ما كنا منزلين إن كانت إلا صيحة. ابن هشام: جوز الزمخشري في (وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ)، الآية .. [كَون*] المعنى: ومن الذي كنا منزلين، فجوز زيادتها مع المعرفة، وتوالي مثل هذه الضمائر، نص صاحب المثل السائر: على أنه مستقبح في كلامهم، وأنشد عليه شيوخ لها منها عليها [شواهد*]، نص أبو الإصبع على أنه متضمن. الزمخشري: وفضل سيدنا محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم على سائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، [بكل شيء على كبار الأنبياء وأولى العزم من الرسل، فضلا عن حبيب النجار*] (¬1). قال الطيبي: يقع في بعض النسخ (على)، ويقع في أخرى فضلا (عن) حبيب، قال: [فعن*] تقتضي [السلب*]، وأن الثاني ليس له فضل، و (على) تقتضي ثبوت الفضلية للثاني، انتهى، وفي المعالم لو كان احتمال الاشتراك متساويا لاحتمال الانفراد لنا، أفادت الدلائل السمعية الظن فضلا عن اليقين. قال شيخنا: ورأيت تأليفا للقرافي ذكر فيه أنه بحث، وما وجد من يعربها، ويقول: فما رأيت الشيوخ يقولون: إنها مصدر موضع الحال، بمعنى مفعول، مثل: قتلته صبرا، أي مصبورا، وكذلك قوله في المعالم: فضلا عن اليقين وإلا فلا يصح أن يقال فضلت اليقين فضلا، لما يلزم عليه من كون الظن أفضل من اليقين. قوله تعالى: {إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً ... (29)} قرئ بنصب (صَيحَة) ورفعها. ابن عطية: لَا يصح ذلك إلا على إن كانت تامة، انتهى. ¬

_ (¬1) النص هكذا في الكشاف: "ولكنّ الله فضل محمدا صلى الله عليه وسلم بكل شيء على كبار الأنبياء وأولى العزم من الرسل، فضلا عن حبيب النجار، وأولاه من أسباب الكرامة والإعذار ما لم يوله أحدا، فمن ذلك: أنه أنزل له جنودا من السماء، وكأنه أشار بقوله: وَما أَنْزَلْنا، وَما كُنَّا مُنْزِلِينَ إلى أن إنزال الجنود من عظائم الأمور التي لا يؤهل لها إلا مثلك، وما كنا نفعله بغيرك". اهـ.

(30)

قال شيخنا: هذا لَا يفيده جوابا وترجيحا، وحقه أن يبطله بقولهم: إن الفعل تابع للفاعل في تذكيره وتأنيثه ما لم يفصل بينما بـ إلا، فحينئذ لَا يجوز التأنيث إلا في شاذ كقوله: وما بقيت إلا الضلوع [الجراشع*] قال وكنت رأيت نقدا على المعري لابن الصائغ، لما ذكر فيه قول ابن عصفور في الفاعل: إذا فصل بينه وبين الفعل فليس إلا التذكير، قال: ولم تكن جوابا عن سؤال، كقولك لمن قال: من قام من النساء؟ فتقول: ما قامت إلا هند، قال شيخنا: ويحسن أن يجاب هنا بذلك، فيقال: إن الآية جواب عن سؤال مقدر، فكأنَّ قائلا يقول: فكيف كانت أخذتهم؟ فقيل له: (إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيحَة)، أي إن كانت الأخذة إلا صيحة واحدة. قيل لابن عصفور: [إنه*] ينازع في ذلك ولا يسلمه، فقال: كلام الزمخشري هنا يقتضيه بدليل قوله؛ لأن المعنى مما وقع من (إِلَّا صَيحَةً) فقدر الفاعل مذكرا فإذا تقدم عليه السؤال مؤنثا كان يعتبر مؤنثا. قوله تعالى: {يَا حَسْرَةً ... (30)} ابن عطية: فسر بعضهم قراءة التنوين بأن الحسرة من العباد أنفسهم وهو بعيد، انتهى، وجه بعده أن التنوين ظاهره أن الحسرة منكرة ليست منهم، بل من غيرهم يتحسر عليهم، ولو كانت منهم لأتى بها مضافة دون تنوين، وأتى لفظ العباد هنا على خلاف الأصل؛ لأن غالب استعماله في الطائعين، وجاء هنا في الفاسقين، لكنه غير مضاف، ولا يقال في الفاسقين عباد الله. قوله تعالى: {أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ ... (31)} هذه الآية وعظ وتخويف وأمر نظري استدلالي. الزمخشري: (أَلَمْ يَرَوْا)، ألم يعلموا أو هو معلق، لأن كم لَا يعمل فيها عامل قبلها، كَانَتْ لِلِاسْتِفْهَامِ أَوْ لِلْخَبَرِ؛ لِأَنَّ أَصْلَهَا الِاسْتِفْهَامُ. ورد أبو حيان الأول بأنه قد يدخل حرف الجر، فتقول [كَمْ عَلَى: كَمْ جِذْعٍ بَيْتُكَ*] وبكم درهم اشتريت ثوبك، انتهى، هذا لَا يليق به؛ لأن حرف الجر ليس بعامل، ألا تراهم يقولون: ما العامل في هذا المجرور وبماذا يتعلق؟ وبدليل صحة دخول حرف الجر على ما الاستفهامية، يحذف منها الألف، وما ذاك إلا لأنه ليس بعارض حقيقة.

ورد أبو حيان الثاني: بأنها لَيْسَ أَصْلُهَا [الِاسْتِفْهَامَ*]، ولا يحمل عليها بوجه، وأجاب: بأنه إن كان أراد الزمخشري جعلها مأخوذة منها [إلا أن معناه نافذ في الجملة، كما نفذ في قولك: ألم يروا إن زيدا لمنطلق، وإن لم يعمل في لفظه*] فهو لا يقوله الزمخشري بوجه، وإن أراد أنها محمولة عليها فهذا صحيح. قال شيخنا: وقد كان بعض النَّاس يلغي على كتاب سيبويه من ناحية أنه جمع بين النحو والأصول؛ لأنه نص فيه على قياس الشبه، إذ جعل كم الخبرية محمولة على كم الاستفهامية، وهذا هو قياس الشبه. وذكر أبو حيان في إعراب الآية ستة أوجه، فنقل عن الزمخشري أنه قال: (أَنَّهُمْ إِلَيهِمْ لَا يَرْجِعُونَ)، بدل من كم على المعنى لَا على اللفظ، أي أولم [يروا*] كثرة إهلاكنا القرون كونهم أنهم غير راجعين. ورده أبو حيان وقال: لَا يصح أن يكون بدلا على اللفظ ولا على المعنى، أما على اللفظ فلأنه زعم أن يروا [مُعَلَّقَةٌ*]، فَيَكُونُ كَمِ اسْتِفْهَامًا، وَهُوَ مَعْمُولٌ لَأَهْلَكْنَا، وَأَهْلَكْنَا لَا يَتَسَلَّطُ عَلَى أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لَا يَرْجِعُونَ، [وَأَمَّا عَلَى الْمَعْنَى، فَلَا يَصِحُّ أَيْضًا، لِأَنَّهُ قَالَ تَقْدِيرُهُ، أَيْ عَلَى الْمَعْنَى: أَلَمْ يَرَوْا كَثْرَةَ إِهْلَاكِنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَوْنَهُمْ غَيْرَ رَاجِعِينَ إِلَيْهِمْ؟ فَكَوْنُهُمْ غَيْرَ كَذَا لَيْسَ كَثْرَةَ الْإِهْلَاكِ، فَلَا يَكُونَ بَدَلَ كُلٍّ مِنْ كل، وَلَا بَعْضًا مِنَ الْإِهْلَاكِ، وَلَا يَكُونَ بَدَلَ بَعْضٍ مِنْ كُلٍّ، وَلَا يَكُونُ بَدَلَ اشْتِمَالٍ، لِأَنَّ بَدَلَ الِاشْتِمَالِ يَصِحُّ أَنْ يُضَافَ إِلَى مَا أُبْدِلَ مِنْهُ، وَكَذَلِكَ بَدَلُ بَعْضٍ مِنْ كُلٍّ، وَهَذَا لَا يَصِحُّ هُنَا. لَا تَقُولُ: أَلَمْ يَرَوُا انْتِفَاءَ رُجُوعِ كَثْرَةِ إِهْلَاكِنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِهِمْ*]، انتهى كلامه، وهو قصور. وقد ذكر سيبويه في باب ما يكون فيه أن بدلا من شيء غير الأول متصلا بقوله تعالى: (وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ)، وبقوله تعالى: (أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لَا يَرْجِعُونَ). قال ابن خروف في شرحه: يريد أنه بدل من المعنى، كقولك: عرفت زيد أبو من هو، أي عرفت كنية زيد أبو من هو، وكذلك هذا بدل من المعنى، انتهى، ومعنى ما قال الزمخشري؛ لأن عدم الرجوع هو بمعنى الإهلاك والكون، فيصدق على الكثرة وعدمها، وهو لَا ينافي الكثرة فيصح [لأنه بدل شيء من شيء*]، وبدليل قول الزمخشري في الوجه الذي بعده، والبدل على هذه القراءة بدل اشتمال، ويظهر من كلامه أن تمثيله بـ ألم يروا كثرة إهلاكنا [بدل معنى لَا بدل إعراب*]، وليس مراده البدل على هذا المعنى. قيل: بدل الاشتمال يشترك على تفسير الإعراب، [وهو أَلَمْ يَرَوُا كَثْرَةَ إِهْلَاكِنَا*]، وهذا يصح إضافته إذ يصح أن تقول: ألم يروا انتفاء رجوع كثير أهلكنا على أن شرط

الإضافة في بدل الاشتمال فيه نظر، [**هل هو نظر وفي جميع بدل الاشتمال، أو إنما هو إضافي]. قال شيخنا أبو العباس ابن القصار: ولا أعلم أحد اشترط ذلك من النحويين. قال ابن هشام: كم على وجهين: خبرية بمعنى كثير، واستفهامية بمعنى [أي عدد*]، ويشتركان فِي خَمْسَة أُمُور الاسمية والإبهام والافتقار إِلَى التَّمْيِيز وَالْبناء وَلُزُوم التصدير، وأما قول بعضهم في (أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لَا يَرْجِعُونَ)، أبدلت (أن) وصلتها من (كم)، فمردود بأن عامل البدل هو عامل المبدل منه، [فإن*] قدر عامل المبدل منه (يرَوا)، فكم لها الصَّدْر، ولا يعمل فيها ما قبلها، وإن قدر أهلكنا، فلا تسلط له في المعنى على [الْبَدَل*]، [وَالصَّوَاب*]: أن كم مفعول لأهلكنا، والجملة إما معمولة ليروا، على الله [أنه*] علق عن العمل في اللفظ، وأن وصلتها مفعول لأجله، وإما معترضة بين (يروا) وما سد مسد مفعوليه، وهو أن وصلتها. انتهى، وهو أيضا [قصور*]. وحمل ابن عطية أنهم بدلا من كم، وهي خبرية، والرؤية بصرية. ورده أبو حيان بأن كم مفعول لأهلكنا، ولا يصح غيره، والبدل على نية تكرار القائل ولو سلط أهلكنا على أنهم لم يصح كلامه. فإن قلت: يتخرج قول ابن عطية على أن كم معمولة ليروا، وليس لها صدر الكلام وهي لغة قليلة، حكاها الأخفش، فيكون أهلكنا صفة لكم، وحذف العائد جائز في الصفة كما هو جائز في الصلة، وإن كان في الصلة أكثر. قلت: قال ابن هشام المصري: قول ابن عصفور: (أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا) أن (كَمْ) فاعل مَرْدُود [بِأَن كم لَهَا الصَّدْر]، وقوله: إن ذلك جاء على لغة رديئة حكاها الأخفش عن بعضهم أنه يقول: ملكت كم عبيد [فيخرجها عَن الصدرية*]، وهو خطأ عظيم [إِذْ خرج كَلَام الله سُبْحَانَهُ على هَذِه اللُّغَة*]، وإنما الفاعل على ضمير [اسم*] الله سبحانه، أو ضمير العلم أو الهدى المدلول عليه بالفعل، أَو جملَة (أهلكنا) *]، على القول بأن الفاعل يكون جملة إما مطلقا، أو [بشرط*] كونها مقترنة بما يعلق عن العمل [وَالْفِعْل قلبِي*]، نحو: [ظهر لي أَقَامَ زيد*]، [وجوز*] أبو البقاء كونه [ضمير الإهلاك*]، المفهوم من الجملة، وليس هذا من المواضع التي يعود فيها الضمير على [الْمُتَأَخر*]. انتهى.

(32)

وذكر أبو حيان عن الفراء: أنه أعمل يروا في الجملتين دون إبدال، قال: [وَقَوْلُهُمْ فِي الْجُمْلَتَيْنِ تَجُوزُ، لِأَنَّ أَنَّهُمْ وَمَا بَعْدَهُ لَيْسَ بِجُمْلَةٍ، وَلَمْ يُبَيِّنْ كَيْفِيَّةَ هَذَا الْعَمَلِ.*]، ونقول: إنها جملة في تقدير المفرد، وأما كيفية العمل فبأن يكون كم مفعولا أولا ليروا، إذ أهلكنا صفة حذف منها العائد كما تقدم، وأنهم مفعول ثاني، [**والأذية] على هذا عليه أو يكون (يروا) مطلقا عن العمل [و*] (كم) في موضع المفعول الأول، وأنهم في موضع المفعول الثاني، وهذا إن لم يكن فيه نص، [والعبارة تقتضيه*]. الزمخشري، وفي قراءة [ابن مسعود*] (ألم يروا من أهلكنا)، قال: وهذا مما يردُّ قول أهل الرجعة. قال الطيبي: هم القائلون بالتقبيح انتهى. قال شيخنا: خرج البخاري في أول كتابه عن [**الجعفي] وانتقدوا عليه التخريج عنه؛ لأنه فيمن يقول بالرجعة، واختلفوا حينئذ ما معنى القول بالرجعة، قال: ولغيرهم عندي التصالح، وأما هو كقول بعض الخوارج أن عليا رضي الله عنه لم يمت، بل رفع إلى السماء، وهو في السحاب لم يزل حيا. وقد ذكره ابن السيد في أسئلته في المسألة الثامنة والستين في قول علي رضي الله عنه حين قتل عثمان: [**ألا فإن الله قتله وأنا معه، فذكر ابن السيد أن للناس فيه تأويلات، فقيل: معناه سيقتلني ثقة، وقيل: معناه وأنا] [ ... ]، وقال: وتأوله [**الجذورية] بما قدره الله علينا، وذكر بعضهم، واعترض تفسير سيقتلني ثقة، وأنكره ذلك في علي رضي الله عنه، انتهى، [ومعنى التناسخ*] عند قائليه هو أن الإنسان يموت وترجع روحه في ذات أخرى، فإذا ماتت تلك الذات أجلت أيضا لذات أخرى، لكن لفظ الإهلاك هنا ما يقتضي أن استدل به الزمخشري إلا بقول بالتناسخ لَا للقول الذي ذكرناه. وانظر استدلال الزمخشري بقول ابن عباس: بئس القوم نحن إذا أنكحنا نساءه، واقتسمنا ميراثه، فهذا لما يقضي إلا على أنه حي. وقال الفخر: ويحتمل أن يكون الضمير في أنهم يعود على الأحياء، وفي الخبر يعود على القرون الماضية، انتهى، هو يرد بأنهم منسوبون إلى الأموات. قوله تعالى: {وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ (32)} هذا كالاحتراس؛ لأنه لما نفى عنهم الرجوع، قد يتوهم عدم حشرهم [ ... ]

(34)

وأورد الزمخشري سؤالا قال: كيف أخبر عن (كل) بـ (جميع) [ومعناهما واحد*] مع أن الفارسي نص على أنه لَا يجوز أن [**الذاهبة قاربته صاحبها]، واستشكلوا قوله تعالى: (فَإِنْ كَانَتَا اثنَتَينِ)، لأنه يعبر عن ضمير الاثنين بالاثنين، فلا فائدة فيه، وأنشد بعض النَّاس على الفارسي، وقال: إن الجارية مضافة، والإضافة بكونها وفي ثلاثة، فلا تدل إضافة الجارية إليه على أنها ملكه، بل قد تكون جارية، فإما جاء باعتبار الجواز فقط، ثم قال صاحبها: فأفاد أنها ملكه. وأجاب الزمخشري عن السؤال: بأن لَا يقتضي الجمع بخلاف الجميع، وهذا قد نص عليه ابن عصفور لما ذكر أن كلا لَا يؤكد بها إلا ما [تبعض في نفسه*] إذ يقابله، قال: ولا يؤكد بها ما يستقل بمعنى الكلام بالدلالة عليه، فلا يقال: تقابل الزيدان كلاهما، إذ المفاعلة لَا تكون إلا بين اثنين، قال: بخلاف أجمع فإنها يؤكدها ذلك. ونقل في الشرح الكبير عن أبي الحسن الأخفش، أنه أجاز أن يقال: تقاتل زيدان كلاهما فناسبا على التأكيد بالجمع بعد التأكيد. فإن قلت: قد [فرق*] ابن عصفور بين أجمع وجميع، فأجمع لَا تقتضي الجمعية، وجميع تقتضيها، أجيب: بأن ذلك إنما هو في حالة النصب، جاء الزيدان جميعا أي مجتمعين، وأما في الرفع قد فرق بين: جاء الزيدان أجمعون، أو الجميع يصح أن ما قال الزمخشري باطل، وأن جميعا لَا تفيد الجمعية، إلا إذا انتصبت على الحال، فيبق السؤال واردا. لكن أجاب الفخر عنه بجواب حسن، وهو إذا كان في الخبر زيادة صفة أو إضافة أو تقييد فصح أن يؤتى بلفظ المبتدأ أو معناه كقولك: [الرَّجُلُ رَجُلٌ عَالِمٌ*]. قوله تعالى: {مِنَ الْعُيُونِ (34)} عرفها، ونكر الحب والنخيل والأعناب؛ لأن هذه يتجدد شيئا بعد شيء فتكون للتكثير، و (الْعُيُونِ) لما كانت تجري دائما صارت كالشيء الواحد وأخر (الْعُيُونِ) مع أنها سبب في الجنات وأصل لها؛ لأنها علة [غائية*] لَا مقصودة بالذات، بل المقصود بها الجنات، وضمير ثمرة النخيل؛ لأنه اسم جمع مذكر بخلاف (الْعُيُونِ) فإنها مؤنثة أولا، لأن النخيل المراد به الشجر والأعناب إنما المقصود ثمرها فقط، فلا يصح

(36)

عود الضمير على الثمر، فيقال: ليأكلوا من فم الثمر، وأول الآية وعظ وتخويف لعموم النَّاس عوامهم وخواصهم، وهذه تذكير ونظر واستدلال لخواصهم، وأنشد أبو حيان هنا بيتا، وإنما ذكره سيبويه فى باب الضرائر. قوله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي ... (36)} اعتراض، لأنه تقدم عنها آية بذكر قدرة الله تعالى، وتأخرت عنها آية أخرى، فأتت هذه إنباء بأن فاعل ذلك مستحق للتنزيه. وقال الفخر: وجه المناسبة أنه تقدمها (وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِم أَفَلا يَشكُرُونَ)، فحقهم الشكر على هذه النعم، فتركوه وزادوا في الضلال، بأن عبدوا غير الله تعالى، فأتى هذا على معنى التنزيه لله تعالى عما فعلوه، وليس في الآية تعرض لعبادتهم غير الله، بل [**وعزا] (¬1) فيها على عدم الشكر، ومن يشكر على قسمين: تارة يعبد الله عز وجل، وتارة يعبد غيره. قال الفخر: واستدل بها من يقول: إن الأعمال ليست من الأرواح ولا من الأنفس، والآية اقتضت حصر المخلوقات [في*] هذين، وأجاب الفخر بالفرق بين قولك: خذ كل المال من العبيد والخدم والعروض، فهو عام مفسر بعض أفراد، وذكرها يكفي عن ذكر الباقي، انتهى، إنما ذلك فيما علم دخوله أو خروجه باتفاق، وأما المختلف فيه والمشكوك فيه، فلا بد فيه من التنصيص على دخوله أو خروجه، والأعمال مختلف فيها، فلو أريد دخولها لنص عليها، ومِن في [(مما تنبت) *]، إما للتبعيض أو لبيان الجنس. قوله تعالى. (وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ) ليست قضية حقيقية؛ لأنه تقدم ذكر النفوس وأزواجها، هي مجهولة لَا تعلم حقيقتها، ولا قضية خارجية؛ لأن بعض المتقدم ذكره موجود في الخارج، ونحن نتصوره ولا نعلمه إذ لم [نره*]، فلم يبق إلا أن تكون بين الحقيقة وهي أخص الوصف، والخارجية الذهنية، وهي أعم الوصف فيكون بينهما، فالمراد به ما هو معلوم الوجود، ولم [نره*] كما نعلم وجود أشياء في الجنة، ولم نرها، بل رأينا نظير تلك الأشياء في الدنيا لكن لَا يتم هذا على قاعدة الزمخشري؛ لأنه يقول: إن الجنة غير مخلوقة الآن. قوله تعالى: {نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ ... (37)} قيل: (النَّهَارَ) زمان [مستقل*] بنفسه، وكذا (اللَّيْلُ)، فليس انسلاخ أحدهما من الآخر أولى من عكسه، أجيب: بأن مذهب أهل السنة أن الضوء ليس من طبيعة الشمس ولا من لوازمها ذهنا، وإمَّا هو أمر عادي خلقها الله تعالى عندها لَا بها. هذا ¬

_ (¬1) النص في مفاتيح الغيب هكذا: "وَوَجْهُ تَعَلُّقِ الْآيَةِ بِمَا قَبْلَهَا هُوَ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَالَ: أَفَلا يَشْكُرُونَ [يس: 35] وَشُكْرُ/ اللَّهِ بِالْعِبَادَةِ وَهُمْ تَرَكُوهَا وَلَمْ يَقْتَنِعُوا بِالتَّرْكِ بَلْ عَبَدُوا غَيْرَهُ وَأَتَوْا بِالشِّرْكِ فَقَالَ: سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ وَغَيْرُهُ لَمْ يَخْلُقْ شَيْئًا فَقَالَ أَوْ نَقُولُ، لَمَّا بَيَّنَ أَنَّهُمْ أَنْكَرُوا الْآيَاتِ وَلَمْ يَشْكُرُوا بَيَّنَ مَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ الْعَاقِلُ فَقَالَ: سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها أَوْ نَقُولُ لَمَّا بَيَّنَ الْآيَاتِ قَالَ: سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ مَا ذَكَرَهُ عَنْ أَنْ يَكُونَ لَهُ شَرِيكٌ أَوْ يَكُونَ عَاجِزًا عَنْ إِحْيَاءِ الْمَوْتَى". اهـ (مفاتيح الغيب. 26/ 274)

(38)

مذهب أهل السنة، وإذا كان كذلك ففي الجائز أن تكون الشمس في الأرض، ويبقى ضوئها عاما في الأفق والليل على سطح الأرض، ونحن نرى الضوء بالبعد في الأفق، وكون ذلك لم يقع كذلك هو انسلاخ النهار من الليل؛ لأنه قد كان الليل وسطا وضوء النهار دائر بأفق ذلك الموضع الذي فيه الليل، وقد ذكروا في كتب العينية أن الليل يحدث من ظل الأرض حين كون قرص الشمس تحتها، وأنه شكل مستدير ضوء يرى مخروط ينتهي رأسه إلى فلك عطارد وبه يكون الكسوف، وانظر هل في الآية دليل على أن لَا واسطة بين الليل والنهار؛ خلافا لمن أثبت الفضلة؟ وانظر ما تقدم في سورة آل عمران في قوله تعالى: (تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ). قوله تعالى: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ... (38)} ذكر المفسرون في مستقرها أقوالا، الظاهر منها قولان: أحدهما: أن مستقرها، يوم القيامة، والثاني: زوالها، حكاه ابن عطية؛ لأن الغاية تكون تابعة لها مخالفا لما قبلها، ويوم القيامة تتقدم فلا يكون لها جري، وكذلك حين الزوال، وأما القول بالطلوع والغروب فلا يستقيم؛ لأنها لَا تقدم ولا تزال تجري. وقال بعضهم: معناه أن الموضع الذي تطلع منه إذا أكملت الدورة [جارية*] فذلك هو مستقرها، والدورة عندها أربع وعشرون ساعة، فإذا استكملت بين اليوم والليلة أربعا وعشرين ساعة وصلت إلى مستقرها وهو كإنهاء الدورة، وابتدأت دورة أخرى، وانظر كيف يفهم حديث أَبِي ذَرٍّ في الشمس: "حتى يؤذن لها فتسجد تحت العرش مع قواعد المسبحين"، فيحتمل أن تكون الشمس في دورتها بعرض أنها تسلمت جزءا معلوما من الشمس فتسجد حينئذ، أو تقول: إن وافق المدينة لَا إن نشأت دائرته جزءا من العرش، فعندما تقرن الشمس، وتسلمت ذلك الجزء من العرش الصامت لجميع دائرة الأفق فتسجد ولا تزال متناسبة في الفصول؛ لأن الشمس لَا تخرج عن دائرة الأفق، ألا تراه أراد أيما منطقة ذلك البرج، فإن قيل في الجواب: أنها أبدا فيها جزء [ساجد*] كما هي ابتداء طالعة على قوم، وغاربة على آخرين؛ رد بأنه ينافي الحديث؛ لأن ظاهره أنها قيل: لم تكن ساجدة، وانظر كيف يفهم طلوعها من [مغربها بانقلاب*] الفلك بها، فتطلع هي والقمر والنجوم من المغرب؟ وكيف يفهم مع أنها إذا طلعت على قوم تغرب على آخرين، فإذا طلعت من مغربها في قطر تكون في قطر آخر طالعة من مشرقها، فإن أخذنا الحديث على [عمومه*] كان تصادما بعلم الغيب، وقواعد المنجمين، إلا أن نجعله خاصا بقوم، وكيف تطلع الشمس من مغربها في الجزء أو

الخالدات حيث يكون ستة أشهر، والليل ستة أشهر، فيحتمل أن يكون ذلك في قومين ففي قوم تطلع على قطرين آخرين، وفي غيره تطلع على أهل القطر الآخر من المغرب، وأجيب في الأول: بأن حركة الشمس يسترها في الفلك من المغرب إلى المشرق، وحركة الفلك بعكسها من المشرق إلى المغرب، وهي تقطعه في سنة، فيمكن أن تسرع هي إذ ذاك في سيرتها حتى تسبق حركة الفلك وتضعف حركة الفلك، حتى تكون أقل من حركتها، فعند ذلك تطلع من المغرب، وهذا ما ورد في بعض الآثار، أن تلك الليلة طويلة بعد، أو نقل أبو عمرو وعثمان الصقلي عن ابن العربي الطائي: أن المراد به طلوع شمس الحياة من مغرب الأبدان، قلت: هذا لَا ينبغي اعتقاده. وسئل الفقيه المفتي أبو عبد الله ابن السكري، كيف يتقرر الصيام بالنسبة إلى أهل الجزائر والخالدات الذين ليلهم ستة أشهر ونهارهم ستة أشهر، فقال: لعلهم لم تبلغهم الدعوة. قال بعضهم: على الصواب أن يقال: أن الشمس لاقت جزءا من الفلك الذي هو ثلاثمائة وستون درجة، فإذا عادت إلى محاذاة ذلك الجزء فهي الدورة وبها يحسبون الليل والنهار، وكذلك لو كان زمانهم كله ليلا أو كله نهارا، واعلم أن الشمس بها [ ... ]. يسمى الفلك الحامل، وذلك آخر يحرك الفلك الحامل من المشرق إلى المغرب يسمى الفلك المدور، وآخر تحركه من الشمال إلى الجنوب يسمى الفلك المائل، وبه فرق الميل الكلي، وهو نقص عند أول الأزمان وهو رصد الشيخ عبد الخالق في عام أحد وسبعين وسبعمائة كحاجب ثلاث وعشرون درجة واثنان وعشرون دقيقة، وفلك آخر خارج عنها حامل لتلك الأفلاك أعلاه يسمى الأوج، وهو الذي به أوج الشمس، وأسفله يسمى الحضيض، وكل كوكب لَا بد له من أربعة أفلاك حامل ومدور ومائل وفلك الأوج، ولذلك وضع أهل العدالة يسمى ذات الخلق، واعلم أنه إذا كان بلد عرضه ستة وستون درجة؛ فالميل فيه أربعة وعشرون، فإذا كان الميل جنوبا؛ فوقت الزوال عند طلوع الشمس وبنفس طلوعها تغرب، وإن كان شماليا؛ كان ارتفاع الزوال خمسين، أو نحوه، فكان النهار طويلا جدا، وإذا تماثل عرض البلدين، واختلف طولهما فأكثرهما طولا تغرب والآخر، وإن اختلف الجمع، فإن كان أحدهما أقل عرضا وأكثر طولا فهو جنوب كمكة، وتونس، وإن كان أكثر عرضا وأقل طولا فهو شمالا.

(39)

قال [ ... ] في زيجه: انظر حيث تكون مكة في سمت الأرجل ما هي القبلة لأهل ذلك الموضع، والظاهر أنه الخط الخارج من سمت أرجلهم وتصير جهاتهم كلها قبلة، كمن صلى في الكعبة نفسها. قوله تعالى: {وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ ... (39)} أي قدرنا سيره منازلا. الزمخشري: [ينزل*] منزلة كل ليلة. ابن عطية: يقطع بعض المنزلة، انتهى. والصواب: أنه تارة يسرع سيره ويكثره، وتارة يقل، وانتهاء سيره في اليوم خمس عشرة درجة ودقائق؛ أقل سيره إحدى عشرة درجة ودقائق، وذلك بحسب حصته، والمنازل منها كبير وصغير؛ ولكنهم جعلوا لكل منزلة ثلاثة عشر درجة، فإذا سار في اليوم خمس عشر ودقائق يقطع منزلة وسدس الأخرى بتقريب. قوله تعالى: (كَالْعُرْجُونِ). الزمخشري: قرئ العِرجون [كالفِرجون*] انتهى، هي جريدة يمشط بها شعر البهيمة. الزمخشري: لو قال: كل مملوك لي قديم حر، فإنه يعتق عليه؟ قاله عنده بسنة، انتهى، هذا مذهب أبي حنيفة، لأن الزمخشري حنفي، وكلام الفخر فيها يرد على الزمخشري بالفرق بين التبتيل ويريد الوصفية يرجع فيها إلى عرف الاستعمال، فإن لم يوجد عرف نظر فناسب الاجتهاد. قال شيخنا في مذهبنا: فيها نص إلا أنه يرجع فيها إلى الفرق، كما قلنا في الغاية في قوله تعالى: (حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ)، راجعة إلى سير القمر لَا للتقدير، لأن تقدير الله تعالى لَا غاية له، ولا انقضاء له بوجه. قوله تعالى: لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا ... (40) أي يمكن، وهو الإمكان المادي لَا العقلي؛ لأن الله تعالى أراد عدم إدراكها القمر وقدره في الأزل، وهذا هنا مجاز، لأن هذا إنما تقرر فيمن يعقل. قوله تعالى: (وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ). عبر في الأول بالفعل وبالثاني بالاسم، إشارة إلى أن القمر أسرع سيرا من الشمس، فكأن السبقية والإدراك ملازما له فنفى عنه الملازمة، والشمس أقل سيرا من القمر، فنفى الإدراك عنها بالفعل المقتضي للتجرد.

(41)

قيل: نفى أولا إدراك الشمس للقمر، ونفى ثانيا سبقية الليل للنهار، ولم ينف سبقية القمر للشمس، مع أن هذا هو المطابق للأول؟ أجيب: بأنه إذا كان أحد الشيئين سابقا على الآخر؛ فتعلق طلب المتأخر بينهما، بأن يلحق بالسابق، أكد من تعلق طلب السابق بأن يزيد في مسافة سبقيته مسافة أخرى؛ فلذلك لم يقل: ولا الليل سابق الشمس، ومعنى السبقية والإدراك في هذا أن فلك الشمس غير فلك القمر، فلا بد جعل أحدهما على الآخر، ولا يسبق أحدهما الآخر في جريه؛ فالمراد أن الشمس لا تزداد في جريها حتى تصير تقطع الفلك في أقل من عام، والقمر لَا يزداد جريه حتى يصير يقطع الفلك في أقل من شهر. قوله تعالى: {وَآيَةٌ لَهُمْ ... (41)} قال بعضهم: فيه ضمير تقديره وآية هي لهم، لأن الابتداء بالنكرة لَا يصح. فتعقبه أبو حيان: بأنه إضمار ما لَا فائدة فيه. ونص ابن عصفور في زيد قائم؛ أنه لَا يجوز أن تقول: التقدير زيد هو قائم إذ لا فائدة فيه، وهو خلاف ما يقول المنطقيون، فالرابطة أنها لابد من تقديرها. ابن هشام: [الْجِهَة الْعَاشِرَة*] إخراج الكلام على خلاف الأصل، أو على خلاف الظاهر [لغير مُقْتَض كَقَوْل مكي فِي {تُبْطِلُوا صَدقَاتكُمْ بالمن والأذى كَالَّذي} الْآيَة إِن الْكَاف نعت لمصدر مَحْذُوف أَي إبطالا كَالَّذي وَيلْزمهُ أَن يقدر إبطالا كإبطال إِنْفَاق الَّذِي ينْفق وَالْوَجْه أَن يكون كَالَّذي حَالا من الْوَاو أَي لَا تُبْطِلُوا صَدقَاتكُمْ مشبهين الَّذِي ينْفق فَهَذَا الْوَجْه لَا حذف فِيهِ*]، [وقول*] بعض العصريين في قول ابن الحاجب: الكلمة هي لفظ [أَصله الْكَلِمَة هِيَ لفظ*]. ومثله قول ابن عصفور في شرح الجمل: إنه يجوز في زيد هو [الفاصل أن [يحذف*] مع قوله وقول غيره: إنه يجوز حذف [العائد*] [فِي نَحْو جَاءَ*] الذي هو في الدار]، لأنه لَا دليل حينئذ عليه. قوله تعالى: (أَنَّا حَمَلْنَا). يؤخذ جواز أن يقال: إن الله حمل فلانا، ومثله في الحديث: "لم أحملكم عليه، ولكن الله حملكم"، وامتنع النووي رحمه الله تعالى من إطلاق ذلك. قال ابن الخطيبفوقَ الماء إنما هو بالفاعل المختار*]. قوله تعالى: {مِنْ مِ: وفي الآية حجة على [الطبائعيين*] القائلين: بأن الجرم الثقيل بطبعه [ينزل*] إلى أسفل فترى [السفن*] ثقيلا، وهو بطبعه يصعد إلى فوق (¬1)، انتهى، هذا أمر قد شاهدوه، ولهم أن يجيبوا عنه بأن ذلك مع عدم [التعارض*]، وهنا عارض طبع الثقل طبع الهوى، [رُدَّ بإثباته، فَتَعَيَّنَ أنّ حفظَ الثّقيل ثْلِهِ ... (42)} (مِن) لبيان الجنس. ¬

_ (¬1) النص في مفاتيح الغيب هكذا: "قَوْلُهُ: الْمَشْحُونِ يُفِيدُ فَائِدَةً أُخْرَى غَيْرَ مَا ذَكَرْنَا وَهِيَ أَنَّ الْآدَمِيَّ يَرْسُبُ فِي الْمَاءِ وَيَغْرَقُ، فَحَمْلُهُ فِي الْفُلْكِ وَاقِعٌ بِقُدْرَتِهِ، لَكِنَّ مِنَ الطَّبِيعِيِّينَ مَنْ يَقُولُ الْخَفِيفُ لَا يَرْسُبُ فِي الْمَاءِ، لِأَنَّ الْخَفِيفَ يَطْلُبُ جِهَةَ فَوْقُ فَقَالَ: الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ أَثْقَلُ مِنَ الثِّقَالِ الَّتِي تَرْسُبُ، وَمَعَ هَذَا حَمَلَ اللَّهُ الْإِنْسَانَ فِيهِ مَعَ ثِقَلِهِ، فَإِنْ قَالُوا ذَلِكَ لِامْتِنَاعِ الْخَلَاءِ نَقُولُ قَدْ ذَكَرْنَا الدَّلَائِلَ الدَّالَّةَ عَلَى جَوَازِ الْخَلَاءِ فِي الْكُتُبِ الْعَقْلِيَّةِ، فَإِذَنْ لَيْسَ حِفْظُ الثَّقِيلِ فَوْقَ الْمَاءِ إِلَّا بِإِرَادَةِ اللَّهِ". اهـ (مفاتيح الغيب. 26/ 284)

(43)

قوله تعالى: {فَلَا صَرِيخَ لَهُمْ ... (43)} أي لَا مغيث ولا مستغيث وهو أبلغ؛ أي لم يبق لهم قدرة على الاستغاثة. قوله تعالى: {إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ (44)} هذا استثناء يعقب جملا، وهو تفرقهم (فَلَا صَرِيخَ لَهُمْ وَلَا هُمْ يُنْقَذُونَ)، ثلاث جمل. قوله تعالى: {لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (45)} أجمعوا على أن التوبة من الكفر [مقطوع*] بقبولها، فالترجي ليس على بابه، وأيضا فهو من الله تعالى [واجب*] (¬1). قوله تعالى: {إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (47)} إما من كلام الله أو من كلامهم. قوله تعالى: {الْوَعْدُ ... (48)} جعله ابن عطية بمعنى الوعيد، ويحتمل كونه على بابه على سبيل التهكم بهم. أي متى يحل بكم الخير الذي أنتم تنتظرونه من هلاكنا ونجاتكم وعذابنا ونعيمكم. قوله تعالى: {فَلَا يَسْتَطِيعُونَ ... (50)} الفاء للتسبيب، وهذا تتمة وتكميل لما قبلها؛ لأنه لَا يلزم من عجزهم بالصحة عن الخصومة عجزهم بها عن الوصية لأنها أخف. قوله تعالى: {الْأَرَائِكِ ... (56)} الزمخشري: جمع أريكة، [وهو السرير في الحجلة*]، [وقيل: الفراش فيها*]. الطيبي: هي البيت المزينة؛ كبيت العروس انتهى. الذي ذكره الثعلبي في فقه اللغة في الألفاظ الغريبة، قال: الكأس لَا يسمى كأسا، إلا إذا كان فيه الشراب، والمائدة لَا تسمى مائدة إلا إذا كان عليها الطعام، وإلا فهو خوان، [والأريكة*] لَا تسمى كذلك إلا إذا كانت عليها الحجلة، فدل على أن الحجلة هي [الفُرُش*]. قوله تعالى: {وَامْتَازُوا ... (59)} الأصل تقدم النداء على الأمر، لكنه قدم الأمر هنا؛ لأن في النداء إقبالا على المنادى فبدأ بالأمر؛ لأن المقام مقام خزي لهم، وتبكيت وإعراض عنهم. ¬

_ (¬1) في المطبوع النص هكذا: "فهو من الله تعالى راجع ورسوله فهو واجب". اهـ

(60)

قوله تعالى: {أَلَمْ أَعْهَدْ ... (60)} بدأ بالاستفهام، إما لأن له صدر الكلام أو لما ذكر قبل، وقال (يَا بَنِي آدَمَ)، ولم يقل: يا أيها النَّاس، إما إشارة إلى يوم [أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ*]، أو لدخولهم في دعوة آدم عليه السلام إلى الإيمان. وقال ابن عطية والفخر: العهد إما يوم [أَلَسْتُ*] أو على ألسنة الرسل. قال الزمخشري: [ما ركزه فيهم من أدلة العقل*] يناسبهم على وجوب النظر عقلا. قوله تعالى: (أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ). إما حقيقة، لأن الشيطان في الأصنام، أو بمجاز باعتبار قبول وسوسته، وقدم النهي على الأمر، لأن اجتناب المنهي عنه [أولى من*] فعل المأمور به. قوله تعالى: {وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ ... (65)} نسب الكلام إلى الأيدي والشهادة إلى الأرجل، وفي سورة النور (يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ)، وفي فصلت (شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ)، انظر الفخر، وأضاف الكلام إليه دون الشهادة مع أنها أشرف، فلم يقل: وشهد لنا، أو عندنا، وتقدم كلام الأيدي على شهادة الأرجل، وجواب الأول: أنه لو قال: لنا؛ لتوهم النفع بالشهادة، ولو قال: عندنا؛ لطال الكلام دون فائدة، وجواب الثاني: أن الأيدي أشرف من الأرجل، ويحتمل أن يكون في الآية حذف التقابل؛ أي: تكلمنا أيديهم وتشهد، وتكلمنا أرجلهم وتشهد. قوله تعالى: {وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا ... (66)} فيه سؤال، وهو أن [الجملة الفعلية*] إذا أريد أن يرتب عليها مستبعد الوقوع، فإنما يؤتى فيه بمسببها لَا بنقيض سببها، فتقول: زيد فقير، فكيف يتصرف، وزيد عاجز فكيف يجاهد، ولا تقول: زيد فقير فكيف يستغني، ولا زيد عاجز فكيف يقدر وزاد هذا في الآية إن كان يقال: فأنى تبصرون، وما هو إلا كالتكرار؟ والجواب: أن الطمس على الأعين سبب في عدم الإبصار، وعدم الإبصار سبب في عدم الاهتداء، فقوله تعالى: (فَأَنَّى يُبْصِرُونَ)، سبب عن ما ترتب هو عليه، وهو الطمس، وهو منطو على سبب في ضمنه، وهو الاهتداء؛ لكن [يبقى*] السؤال لم عدل عن ترتيب المسبب الثاني، وهو الاهتداء على الطمس إلى المسبب الأول؟ فيجاب عنه: بأنه لو قيل: فأنى يهتدون؛ لتوهم أن لهم أبصارا ضعفا لم توصلهم إلى الاهتداء؛ فأفاد هذا

(67)

أنهم لَا يبصرون شيئا ألبتَّة لَا قليلا ولا كثيرا؛ فيستلزم أنهم لَا يهتدون ألبتَّة من باب أحرى. قوله تعالى: {وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ ... (67)} يحتمل حقيقة فلا يستطيعون زوالا عن ذلك المسخ، وانتقالا إلى حالهم الأول، وأما المسخ بأنهم أقعدوا ومنعوا عن القيام؛ فلا يستطيعون مضيا ولا رجوعا إلى حالتهم الأولى بوجه. فإن قلت: قد قال السكاكي: في مفعول شاء أنه يحذف ولا يذكر إلا إذا كان مستغربا لقوله: ولو شئت أن أبكي دما لبكيته وهذا مستغرب فهل ذكره؟ فالجواب: أن الفاعل هو الله تعالى، ولا يستغرب إلا ما ينسب إلى المخلوق، وأما الخالق فليس شيء عنده بغريب أصلا. قوله تعالى: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ ... (69)} قيل: معناه وما ينبغي له أن يقوله، وقد ورد بأنه قد قال: "أنا النبي لَا كذب، أنا ابن عبد المطلب"، وورد في القرآن (لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ)، (وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ)، (إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى) الآية، وأجيب: بأن ذلك غير مقصود الوزن والتقفية، وشرط كونه شعرا القصد لذلك. قال شيخنا: وهذا مما ينازع فيه الخصم، فنقول لعله قصد ذلك، وإنما الجواب: أن المعنى وما ينبغي له تعلمه، فهو وإن قاله فإنما قاله اتفاقيا من غير تعلم، وهذا مشاهد من أرباب الصنائع، أن الرامي قد يصيب الغرض في ابتداء تعلمه اتفاقيا. كما قال الإمام مالك رحمه الله تعالى، وقد سئل عن عجوز باعت واشترت على سبيل الصواب، هل يعطيها مالها، أم لَا؟ فقال: رب رمية من غير رام. وكان الشيخ ابن عبد السلام يقول: المعنى وما ينبغي له أن [يتعاطى*] ما لَا علمه الله.

(70)

قال شيخنا: وإما بلغ من الشعر خوفا أن يظن أن القرآن ما اشتمل عليه من البلاغة من صاغه، وإنما المذموم الإكثار من الشعر، وقد ذكر المبرد في أول كتابه الكامل عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال: [علّموا أولادكم العوم والرماية ومروهم فليثبوا على الخيل وثبا، وروّوهم ما يجمل من الشعر*] قوله تعالى: {لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا ... (70)} أي قابلا للحياة التي هي الإيمان بالفعل لَا تحصيل الحاصل. قوله تعالى: (وَيَحِقَّ الْقَوْلُ). أي الوعد. قوله تعالى: {أَيْدِينَا ... (71)} جمعها هنا وأفردها في آية أخرى، إشارة إلى أن المراد مجازها، وهو القدرة لا حقيقتها حسبما تقدر في أصول الدين. قوله تعالى: {رَكُوبُهُمْ ... (72)} عبر عن الركوب بالاسم، لأنه دائم، وعن الأكل بالفعل، لأنه غير دائم؛ لأنهم قد يأكلون من غيرها، وأما الركوب فلا يركبون إلا من الأنعام المذكورة. قوله تعالى: {وَاتَّخَذُوا ... (74)} إخبار عنهم أنهم زادوا مع عدم شكرهم عبادتهم غير الله. قوله تعالى: {لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ ... (75)} مصدر مضاف إما للفاعل أو للمفعول، والضمير عائد عليهم أو على الأصنام؛ أي لا يستطيعون هم نصر آلهتهم، أو أن آلهتهم لَا يستطيعون نصرهم؛ هذا على أنه مضاف للمفعول، وتقدير إضافته للفاعل؛ أي لَا تستطيع آلهتهم النصر الذي نسبوه إليهم في قوله تعالى: (لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ). قوله تعالى: {فَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ ... (76)} ونسبة هذا الفعل إلى القول مجاز. قوله تعالى: (إِنَّا نَعْلَمُ). قرئ بكسر إن وفتحها.

(77)

وأورد الزمخشري: سؤالا على قراءة الفتح، وهو لزوم الكفر لاقتضائه أنه عليه الصلاة والسلام حزن لأجل علم الله تعالى بسرهم وعلانيتهم، وأجاب: بأن إنا بدل من قولهم، أو تعليل للأول، فيكون تعليلا لنفي الحزن لَا نفي حزن معلل، قيل: أو يجاب: بأنه تعليل باعتبار لازمه؛ لأن لازم علم الله تعالى سرهم وعلانيتهم، مدخلا في الحزن أم لَا؟ فإن لم يكن له مدخل فيه فباطل، لأنه يلزم عليه اعتبار لازم اللفظ دون ملزومه، ولا قائل إذ لَا يصح استعمال اللفظ دون ملزومه بوجه، وإن كان له مدخل لزم أنه يحزن بعلم الله تعالى وهو كفر. قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ ... (77)} المراد إما الجنس، أو أجل معين، ونرجحه. قوله تعالى: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ ... (78)} والخلق إن أريد به الكامل حسا ومعنى وذاتا [وصفة*]؛ [فالمنشآت*] حقيقة، وإن أريد به لمجرد تكوينه من النطفة [فمجاز*]؛ لأنه لَا يصير خصما إلا بعد ذلك بزمان طويل، وإذا الفجائية معناها الحال لَا الاستقبال، وهي عند الزجاج ظرف زمان. واختاره الزمخشري، وزعم أن عاملها فعل مقدر مشتق من لفظ المفاجأة، قال في قوله تعالى: (ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ)، أي [فاجأكم*] الخروج في ذلك الوقت ولا يعرف هذا لغيره؛ وإنما [ناصب*] عندهم الخبر الملفوظ به، أو المقدر في نحو: فإذا الأسد، أي حاضر، وإن قدرت أنها الخبر فعاملها مستقر، أو استقر، ولم يقع الخبر معها في التنزيل إلا مصرحا به، وهي عند الأخفش [**يعرف]، واختاره ابن مالك، وعند المبرد ظرف مكان. واختاره ابن عصفور، وفي الآية سؤال، وهو أن سبب نزولها أن بعض الكفار أنكر الإعادة ورفع عظما رميما في يده، وقال: محال أن يرجع هذا كما كان، فما أنكر واستبعد، إلا إيجاد المعدوم، فهلا قيل (أَوَلَم يَرَ الإِنْسَانُ أَنا خَلَقنَاهُ)، بعد أن لم يكن، كما قال تعالى في سورة مريم (وَلَم يَكُ شيئًا)؟ وجوابه: أنه قصد الاستدلال على الإيجاد عن عدم سابق مع التعرض لتحقير المعاند في ذلك، وأن أصله نطفة فأنتجت الآية صحة إمكان الإعادة؛ وهذا دليل على أنهم أنكروا مكانها وصحتها لَا وقوعها بالفعل، وهو كفر، [وهذا لنفيهم عن*] الله تعالى صفة القدرة على ذلك. قوله تعالى: {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا ... (79)}

(81)

قال أبو الإصبغ: المذهب الكلامي الاحتجاج على المقصود بحجة عقلية؛ لأنه من علم الكلام، وهو إثبات أصول الدين بالبراهين ونسبت تسميته إلى الجاحظ. وزعم ابن المعز أنه لَا يؤخذ في القرآن، وهو محشو به، ومنه قوله تعالى: (وَحَاجَّهُ قَومُهُ)، إلى قوله تعالى: (وَتِلكَ حُجتُنَا). وقوله تعالى: (أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ ... (81) وقوله تعالى: (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا)، وقوله تعالى: (قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ)، وتقدير القياس من [الشكل الأول*] أن يقال: الحادث منتقلٌ من حالة إلى ضدها، وكل منتقل من حالة إلى ضدها يمكن إيجاده بعد إعدامه، فالحادث يمكن إعادته الصغرى ضرورية، وبيان الكبرى أن أصل وجود الحادث من عدم وبأمر جزئي، وهو خروج نار الزناد من الشجر الأخضر الرطب، وليس هذا [بقياس تمثيلي*]؛ لأنه لَا ينتج إلا الظن، وهذا قطعي ولعدم شروطه هنا. قوله تعالى: (أَوَلَيْسَ الَّذِي). هو انتقال بين الدليل بما يتعلق بنفس المخاطب إلى دليل خارج عنه، وانتقال من دليل جلي إلى أجلى منه؛ وهو الأرتب في الاستدلال، وتقرير المعطوف عليه اتصف بالعجز [**وليس الذي]، وقال: [** (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ)، فخاطبهم على سبيل التكلم]، وهنا على سبيل الغيبة، ولم يقل: أولسنا، وجوابه: أن الخطاب [لجزء*] معين، وهم كفار قريش والتكلم مناسب [للجزء*]، والخطاب هنا لجميع النَّاس فناسب الغيبة. فإِن قلت: هلا قيل: قادر على أن يعيدهم لأنهم إنما أنكروا إيجاده المعدوم لإيجاد مثله، فالجواب: أنه تقرر في علم أصول الدين أن المثل مساو لمماثله في الحكم؛ فإذا استويا في الحكم فالقادر على المثل قادر على تماثله. قوله تعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ ... (82)}

(83)

اقتضت (إنما) حصر الأمر في مضمون القضية الشرطية لَا حصر الإرادة وحدها، والخطاب بـ (كن) إما للمعدوم على تقدير وجوده، بناء على أن شيئا يطلق على المعدوم، أو خوطب حالة إيجاده لَا قبل؛ لأنه معدوم، ولا بعد لأنه تحصيل الحاصل. قوله تعالى: {مَلَكُوتُ ... (83)} قال ناصر الدين البيضاوي في خطبة كتابه: "المطلع على مشاهدات الملك ومغيبات الملكوت": فجعل الملك راجعا إلى العلم بظواهر الأمور، والملكوت راجعا إلى العلم بخفياتها. وقال الزمخشري: الملكوت هو الملك العظيم. وفرق القرافي بينهما بما أشار إليه البيضاوي. * * *

سورة (والصافات صفا)

سُورَةُ (وَالصَّافَّاتِ صَفًّا) قوله تعالى: {وَالصَّافَّاتِ صَفًّا (1)} قيل: الملائكة صافات أقدامها وأجنحتها في الهوى، وقيل: الطير، وقيل: العلماء العمال يصفون أقدامهم في التهجد. الزمخشري: وقيل: الغزاة في سبيل الله تعالى التي تصف الصفوف، وتجرد الخيل للجهاد، وتتلوا الذكر مع ذلك، لأنه لَا يشغلها عنه شاغل، كما يحكى عن علي. قال الطيبي: إن عليا رضي الله عنه كان يمشي بين الصفوف وسيفه يقطر دما، ولا يفتر عن خطبته. قال ابن عرفة: إنما [مراده*] ما في الحديث الصحيح أن عليا رضي الله عنه في [حديث "أَلَا أُعَلِّمُكُمَا خَيْرًا مِمَّا سَأَلْتُمَا"*] مَا تَرَكْتُهُ مُنْذُ سَمِعْتُهُ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قِيلَ لَهُ: وَلَا لَيْلَةَ صِفِّينَ؟ قَالَ: وَلَا لَيْلَةَ صِفِّينَ.، قال: والاصطفاف هو كون الكتائب على خط مستقيم، وهل يشترط مع ذلك تلاصقها، ومقاومتهما إلى مجرد كونها على خط، وإن تباعد بعضها عن بعض، وهكذا قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ). قال ابن عرفة: وهذه المعطوفات، قيل: إن عطفها ترق، وقيل: إنه بدل، والصواب أنه ترق؛ لأن الاصطفاف يكون من الجماد وغيره، وهو قاصر غير متعد للغير، والفعل المتعدي أقوى من القاصر مع أن الزجر يكون في الخير والشر، فقد يزجر الإنسان غيره عن الخير، وقد يزجره عن الشر، بخلاف تلاوة الذكر؛ فإنه مجرد طاعة فمتعلقه ذات الخالق وصفاته، وهو بالضرورة أشرف وأبين، وإذا جعلته ترقيا كان عطفها تأسيسا، وإن كان تدليا كان العطف تأكيدا. قال: وحكى الفخر في المعالم الخلاف هل الملائكة أفضل من البشر، أو لَا؟ وحكى في الأربعين والمحصل هل الملائكة بالإطلاق أفضل من الأنبياء أم لَا؟ قال الزمخشري: والعطف بالفاء إما على الترتيب في الوجود، كقوله: [يَا لَهْفَ زَيَّابَةَ لِلْحَارِثِ ... الصَّابِحِ فالغَانِم فَالْآيِبِ*] كأنه قيل: الذي صبح [فغنم فآب*]. ابن عرفة: صوابه الذي [**ورد اسم الفعل] اسم الفاعل عنه، وذكروا منه، أيفع الكلام فهو يافع، وأورش الشجر فهو وارش؛ بخلاف صبح فلم ترد فيه صابح.

(4)

قوله تعالى: {إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ (4)} الإله هو المستغني بذاته المفتقر غيره إليه. قوله تعالى: {إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا ... (6)} التزيين هو زيادة وصف في الماهية بعد كمالها، يوجب حسنها احترازا من زيادتها قبل كمالها، فإنه ليس بتزيين. قوله تعالى: {وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ (7)} قال الزمخشري: المارد الخارج عن الطاعة، [المتملس*] منها. وقال ابن عطية: [المارد» المتجرد للشر، ومنه شجرة مرداء لا ورق عليها*]. قال ابن عرفة: المارد هو القوي؛ فيحتمل أن يرجع إلى [قوة نفسه*]، وإلى قوته على التخيل، وإن كان في نفسه ضعيفا؛ فإن رجع إلى قوة نفسه فحفظ السماء من يستلزم حفظها من دونه من باب أحرى، وإن رجع إلى قوته إلى التخيل مما يلزم حفظ السماء منه، حفظها ممن لَا يقدر على التخيل، وإن كان في ذاته قويا هذا ينبنى على الخلاف في السماء، هل هي الآن محفوظة من جميع الشياطين، المارد، وغيره، أو من المردة فقط. قوله تعالى: {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (27)} قال ابن عرفة: قالوا: الجملة الثالثة تارة تكون مفسرة لما قبلها، كقولك: أخذ زيد يثني على عمرو، قال: كذا وكذا، وتارة تكون أجنبية، كقولك: خطب زيد، وقال: كذا وكذا، وهذه تحتمل الأمرين، وأتت على المعنى الثاني؛ لأن قبلها (احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ). قوله تعالى: (يَتَسَاءَلُونَ). قال ابن عرفة: عادتهم يقولون: السؤال طلب [قال صاحب الجمل*]. الكلام: إن دل على طلب الفعل كان مع الاستعلاء أمرا، ومع الخضوع دعاء، ومسألة، [ومع*] التساوي التماثل، قال: والجملة الثانية مفسرة له، فيلزم [أحد*] أمرين: إما تغيير الشيء بنقيضه؛ لأن الثانية خبرية؛ أو إبطال ما قاله [صاحب الجمل*]، وأجيب: بأن السؤال هنا المراد به التوبيخ، وليس بسؤال حقيقة، وقد قال المفسرون فى قوله تعالى: (وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ). قوله تعالى: {أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَدِينُونَ (53)}

(55)

زاد هنا عظاما وأسقطها في سورة (ق)، فقال تعالى (أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ). فأجاب بعضهم: بأن هذا كلام ابتدأ به المسلم، فقال (أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا)، [نحيا ونُبعث*]؛ فأنكر ذلك عليه [قومُه*]، وأعاد كلامه على ما هو عليه بأداة الإنكار، والمسلَّم كلام النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أن عظام بني آدم كلها تفنى إلا [عَجْب الذَّنَب*]، وهو قُدِّر بغرز إبرة؛ فلذلك قال: (عِظَامًا) في سورة (ق) حكاية عن كلام كافر ابتدأ من غير أن يتقدمه شيء. قوله تعالى: {فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ (55)} قال المفسرون: إنما عرفه بعد مدة طويلة. ابن عرفة: عادتهم يقولون: العطف بالفاء يقتضي التعقيب، وأجابوا: بأنه دله ولم يعرفه، ثم عرفه بعد مدة طويلة؛ كما تنظر صاحبك في السجن، فقد تبدلت سجيَّته وتغيرت حاله؛ فما تعرفه إلا بعد التأمل، وتكرار النظر. قوله تعالى: {قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ (56)} كان بعضهم يقول: هذا دليل على [أن*] القياس التمثيلي المستعمل في الكلام؛ لأن المعنى قاربت أن ترديني على مثل دينك؛ وقد نزل بك العذاب؛ فكان يترك في مثل ما نزل بك؛ والقسم بالتاء للتعجب. قوله تعالى: {وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي ... (57)} أي: شاملة لنا. قوله تعالى: {أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ (58) إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولَى ... (59)} ابن عرفة: ظاهر الآية يقتضي ما قال المفسرون. لأن الاستفهام بمعنى التقرير [يصير*] المنفي مثبتا، والمثبت منفيا، مثل (أَلَمْ تَرَ كَيفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ)، فيقتضي إثبات الموت والعذاب؛ أي نحن ميتون غير الموت الأول ومعذبون، وليس المراد [ذلك*]، فلا بد من إضمار، بل المعنى: نحن مبعوثون غير ميتين غير الموت الأول ومعذبون، فلم تدخل أداة الإنكار على المنفي، بل على مثبته، ونفي العذاب يستلزم [نفي الإعادة*]. قوله تعالى: {إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ (64)}

(65)

هذا تعليل لكونها مثبته لَا سيما إن كانت جعل بمعنى خلق، وفيه إبطال للقول بوجوب مراعاة الأصلح. فإِن قلت: هلا قال: إنها شجرة تنبت في أصل الجحيم. قلنا: عادتهم يجيبون: بأن النبات فيه إشعار بالماء والتراب؛ وهو أقرب للمعجزة؛ لأنه نبات أخضر رطب فيما يناقضه وهو النار. قال ابن عرفة: وهذه الشجرة يحتمل أن تكون واحدة بالنوع؛ فتكون على جهة من جهات جهنم فيها شجرة، أو تكون واحدة بالشخص. قوله تعالى: {طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ (65)} الزمخشري: هذا استعارة إما لفظية أو معنوية. قال الطيبي: اللفظية جعلك الشيء نفس الشيء وليس به، وهو أن يطلق اسم المشبه على [المشبه به*] [من غير أداة تشبيه*]، مثل: رأيت أسدا تريد رجلا كالأسد، والمعنوية جعلك الشيء للشيء وليس له، كقولك: إذا أصبحت بيد الشمال زمامها فهذا مدع أن للريح الشمال يدا، وللسحاب [زماما*]، وأيضا خفى الأول بحسن الرجوع للتشبيه، فيقال: رأيت رجلا كالأسد، وفي الثاني لَا يحسن ذلك، فقال: [ ... ] أما اللفظية فهي أن المطلع موضوع لحمل الشجرة مع قصد أن تكون نخلة باستعمال هنا غيرها، كالرسن، فإنه موضوع للأنف بشرط أن يكون فيه رسن، فإِذا استعمل في أنف الإنسان كان مجازا لفظيا، وللمعنوي هو أن يشبه حمل تلك الشجرة بالطلع الحقيقي تشبيها بليغا، ثم يطلق على ذلك الحمل اسم الطلع؛ فاستعير لحمل شجرة الزقوم اسم الطلع، وشبهه برءوس الشياطين، وفي المرئي بينهم بالقول. كقول امرئ القيس: أَيَقْتُلُنِي وَالْمَشْرَفِيُّ مُضَاجِعِي ... وَمَسْنُونَةٌ زُرْقٌ كَأَنْيَابِ أَغْوَالِ ولم تر الغول ولا أنيابها. فهذا حاصله. قال ابن عرفة: وعادتهم يقررونه قبل وصول كتاب، الطيبي لنا: بأن الاستعارة على ما قال ابن مالك في استعمال اللفظ في غير موضوعه؛ كضرب من التأويل؛

(66)

فاللفظية هي استعمال اللفظ مطلقا من غير استحضار لثبوت المعنى المجازي فيه ولا نفيه، والمعنوي إطلاق اللفظ مستحضرا فيه المعنى المجازي. كإطلاق لفظ الأسد على الرجل، فتارة يطلقه عليه غافلا عن معنى الشجاعة، وكتسمية [رجلٍ*] بكلب مع الغفلة عن استحضار صفة الذم فيه؛ فإنه لَا يكون ذما؛ فهي استعارة لفظية، وإذ أطلقت لفظ الأسد على الرجل الشجاع مستحضرا عنه المعنى الذي لأجله أطلقته عليه؛ كان استعارة معنوية، وكذلك لفظ كلب على رجل تريد به الذم، قال: وكانوا يتلونه عن مستعير فرسا طريا، وآخر يستعيرها بسرحها، ولجامها، وجهازها كله. قوله تعالى: {فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ (66)} ولم يقل: بطونهم مع أنه الأصل. قال: وكان يجيبون: بأنه إشارة إلى واحد منهم، فملأ منها بطنه بالفعل وبطن ولده، ومن يعز عليه بالحض على الأكل منها ظانا أنها تنفعه وتنفعهم؛ فيريدون عذابا ومضرة. قوله تعالى: {أَلَا تَأْكُلُونَ (91)} قال ابن عرفة: الأصل كان بعجزهم ما ينافي الألوهية من القدرة والإرادة، وأما الأكل، [فالإله*] غني عنه لَا يحتاج إليه، ثم أجاب: بأنه أتاهم على وفق دعواهم؛ لأنهم يتقربون إليهم بالذبائح يذبحونها ويعتقدون أنها تأكل. قوله تعالى: {مَا لَكُمْ لَا تَنْطِقُونَ (92)} لما خاطبهم فلم يجيبوه، قال (مَا لَكُمْ لَا تَنْطِقُونَ). قوله تعالى: {فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ (101)} ابن عرفة: الصبر استحضار المؤلم وعدم التأثر له على تركه، والعفو استحضاره وعدم [الالتفات*] إليه؛ [وهذا*] أعلاها. قوله تعالى: (فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ). وقال [قبله*] (فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ).

(112)

قال صاحب البرهان: لما تقدمها (قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا)، وهو أمر حسي يقتضي العلو والارتفاع، قابله بنقيضه حسا، فقال (فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ)، بخلاف قوله تعالى: (وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ)، فإن الكيد أمر معنوي فقابله بالمعنوي. قوله تعالى: {وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (112)} ابن عرفة: [الحاكم إذا حكم بحكم مستدلا له، [قرينة*] على أن الحكم مختلف فيه، ولو كان مجمعا عليه لما احتاج إلى استدلال على صحته. وقال الفخر في أجزاء المعالم اللدنية: الدليل على أن النبي أفضل من الولي وأشرف؛ أن النبي كامل مكمل، والولي كامل فقط؛ فإن الكامل المكمل أشرف. الثاني: أنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: " [مَا طَلَعَتِ الشَّمْسُ، وَلَا غَرَبَتْ، عَلَى أَحَدٍ بَعْدَ النَّبِيِّينَ وَالْمُرْسَلِينَ أَفْضَلَ مِنْ أَبِي بَكْرٍ*] "، فقوله: "بَعْدَ النَّبِيِّينَ"، دليل على أن النبي أشرف، وهذا لم يخالف فيه أحد. قيل له: لعل بعض الملاحدة أو المبتدعة خالف فيه، فقال قوله تعالى: (مِنَ الصَّالِحِينَ)، قد يتوهم منه ذلك، ولولا ذلك لما كان لذكره بعد النبوة [فائدة*]. قال: وعادتهم يجيبون عنه: أن النعت تارة يكون مرادا به الثناء، وهذا يكون فيه الثاني أعلى من الأول، وتارة يراد به حقيقة ذلك الوصف، كقوله تعالى: (أَعْلَمُ حَيثُ يَجعَلُ رِسَالَتَهُ)، وكوصفك طعاما طيبا بأنه [حسن*]، وتارة تصفه بأنه قبيح، [فهذا لحقيقة ذلك الوصف*]؛ فهو إشارة إلى أنه ممن يستحق أن يوصف بتلك الصفة. وأجاب بعض الطلبة: بأن ذكر الصالحين تنبيه على إبراهيم لمطلوب، لقوله (رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ)، أو يكون الصلاح مقولا بالتشكيك؛ وصلاح النبي أعلى من صلاح الولي. قوله تعالى: {إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ (135)} هي زوجته، [ولوط*] هو ابن أخت إبراهيم عليهما الصلاة والسلام، وقيل: ابن أخيه. ابن عرفة: ولا يبعد أن يكون جمع الأمرين؛ فيكون أخوه من أبيه تزوج أخته من أمه؛ [فولد*] له لوطا عليه السلام.

(137)

قوله تعالى: {وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (137) وَبِاللَّيْلِ ... (138)} الأصل تقديم الليل؛ لأن العرب تؤرخ بالليل؛ لكن إنما قدم الصباح لكي ينظروا ويتأملوا من مواضعهم، فإِذا مروا عليهم بالليل تذكروا، [وما*] كانوا نظروا بالنهار. قلت: أو لأن مرورهم بالنهار أكثر، وتأكيد بـ إن مثل: جاءَ شقيقٌ عارضًا رُمْحَه ... إِن بني عَمِّكَ فيهم رِمَاحُ لأن حالتهم في الغفلة وعدم التذكر والاعتبار شيهة بحالة من لم تمر عليهم؛ ولا نظر لمساكنهم ولا لمصرعهم؛ فهو من نفي اللازم لنفي ملزومه فلذلك أخره. قوله تعالى: {إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (140)} قال ابن عرفة: قال الفقيه أبو عبد الله محمد بن نزار: يوم جمعة في الكتبيين: أبِق بكسر الباء فأنكرتها عليه وأنا صغير؛ فاحتشم مني ثم أتاني في الجمعة الأخرى بصحاح الجوهري ضبطها بالفتح والكسر والفتح أشهره. وقال الثعالبي: من فقه اللغة أن يقال: أبق إلى كذا، ولا يقال: أبق بالإطلاق، وإنما يقال مقيدا.

سورة (ص)

سُورَةُ (ص) قال ابن عطية (1): هو مفتاح أسماء الله تعالى، (ص) صادق الوعد صانع المصنوعات. ابن عرفة: أسماء الله تعالى توقيفية؛ ولذلك استشكل النَّاس قول أصول الدين بأن الدليل على وحدانية الصانع إلا أنه يريد في القرآن معناه، ورد في القرآن في سورة الأحزاب (وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ)، وفي سورة النمل (صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ). قوله تعالى: (وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ) ذكروا فيه تأويلات. قال ابن عرفة: ويحتمل عندي والقرآن المذكور على ألسنة الخلق إلى يوم القيامة، لقوله تعالى: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ)، فهو المعرف بالذكر الدائم بخلاف غيره من الكتب؛ فإنه لم يبق مذكورا لما وقع فيه من التغيير. قوله تعالى: {بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ (2)} كان بعض الطلبة يورد على هذا قوله تعالى: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزةَ فَلِلَّهِ الْعِزةُ جَمِيعًا)، وأجيب: بأن العزة المختصة بالله بمعنى الرفعة والعلو، والعزة المسندة للكافرين هي بمعنى الممانعة [والتعنت*]. قال: والفرق بين العزة والشقاق؛ أن العزة مانعة فقط، والشقاق [ممانعةٌ مع*] ومكابرة ومجاهرة بالسوء، قال: ومن كلامهم [من عزَّ بزَّ*] أي من غلب سلب. قوله تعالى: {كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ ... (3)} ابن عرفة: لما تقدم التنبيه على إنعاتهم بالعزة والمكابرة، عقبه ببيان غفلتهم عن فعل مثل فعلهم نزل به العذاب والهلاك. قوله تعالى: (فَنَادَوْا). هذا يرد فيه ما أورد ابن عصفور في قوله تعالى: (وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا)، لأن النداء سابق على الإهلاك، كما أن مجيء البأس سابق أيضا عليه، والجواب كالجواب: إما أردنا إهلاكهم فنادوا، ويرد عليه ما قال [ابن هشام المصري*]: من أن الإرادة قديمة تقتضي التعقيب؛ فيلزم إما قدم العالم أو حدوث

(4)

الإرادة، وإما أن يجاب بأن الإهلاك نزل أولا ببعضهم، وهم رؤساؤهم، فنادى الأتباع (وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ)، مستغيثين؛ أي لَا مخلص لهم؛ فلم ينفعهم ذلك، والمناص المخلص والمنجا والفرار. قوله تعالى: {وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ ... (4)} الضمير عائد على قوله تعالى: (بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا)، لأن المتعجبين ليس هم السابقة؛ بل المعاصرون للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم. قوله تعالى: (فَقَالَ الْكَافِرُونَ). أتى بالفاعل ظاهرا غير مضمر؛ والأصل أن يقول: فقالوا؛ لأن خبر المبتدأ تارة يكون عاما صالحا لكل واحدة، وتارة يكون خاصا لَا يصح إلا لذلك المبتدأ. قوله تعالى: (وَعَجِبُوا). العجب يصلح أن يقع من كل أحد فأتى بفاعله مضمرا، وقوله تعالى: (هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ)، كلام [مختلق*] لَا يصح أن ينسب لإلههم، وقولهم: (كَذَّابٌ)؛ إما أن يريدوا أنه كاذب في سحره، أو أنه عالم بالسحر كذاب في أموره على العموم، قيل له: لعل عندهم ساحر في شيء كذاب في شيء، كما قال تعالى (فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ)، وعطف العجب هنا [بالواو*]، وفي (ق) بالفاء؛ لأن التعجب بالقول سبب على التعجب بالفعل، كقوله تعالى: (فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ)، بخلاف السحر والكذب؛ فإنه غير مسبب عن التعجب بالفعل. قوله تعالى: {وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ ... (6)} هم الأشراف، الأصوب تعلق (منهم) بالملأ لَا بـ (انطلق) يشعر بأنهم أشراف فقط، وتعلقه بـ[(انطلق) *] يشعر بأنهم أشرافهم؛ وإن كان في غيرهم من هو أشرف منهم. قلت: جعله عكس ما قاله البصريون في إضافة الصفة المشبهة؛ أنه في معنى الحسن الوجه. وقال الكوفيون: إنه في معنى الحسن وجهه. قوله تعالى: {وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ (25)}

(26)

قال ابن عرفة: إن قلت: ما فائدة تأكيده بـ إنَّ والمخاطب به غير منكر له؟ قلنا: هو مستغفر، والمستغفر عادته أن يتمنى مطلوبه ويستبعد الزيادة على مطلوبه من الإحسان والإنعام، فذلك أكده بـ إنَّ. قوله تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ ... (26)} وقال تعالى في سورة البقرة (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً)، فقدم المجرور على خليفة، فأجيب بوجهين: الأول: قال ابن عرفة: عادتهم يجيبون: بأن أحد أسباب التقديم الشرف، وكان آدم عليه الصلاة والسلام حينئذ معدوما والأرض موجودة، والوجود أشرف من العدم، وأما هنا فالمخاطب داود عليه الصلاة والسلام وهو موجود، وهو أشرف من الأرض بالضرورة. الثاني: قال بعض الطلبة: هذه الآية في معرض التشريف لداود عليه الصلاة والسلام تقدم فيها ما يقتضي التشريف وهو الخلافة، وآية البقرة خرجت مخرج الاعتناء بالأرض، فجعل [الخلافة*] الموجبة لإزالة الفساد عنها، وتغيير المناكر. قوله تعالى: (فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ). ابن عرفة: انظر ما أشد هل هذه أو آية العقود في قوله تعالى: (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ)، (فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ)، فقالوا: تلك أشد لأنهم توعدوا على عدم الحكم بالحق، وهذا الوعيد على الحكم بالهوى، فالحكم يتناول من حكم بالباطل، ومن حكم بالحق لمفارقتها غير مقصود، فآية العقود الوعيد فيها على عدم الحكم بالحق أعم من الحكم بالباطل، أو من ترك الحكم من أصل، وهذه الآية الوعيد فيها على الحكم بالهوى؛ أعم من أن يكون بالباطل متبعا للهوى، أو بالحق متبعا. قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ). ابن عرفة: قد يؤخذ منه جواز تعليل الحكم بعلتين [منتقلتين*]؛ لأن حلول العذاب بهم [يعلل*] باتباعهم الهوى المضل عن سبيل الله، ونسيانهم يوم الحساب سبب في ضلالهم، فالعلتان متداخلتان [في*] علة واحدة. قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ... (27)}

(28)

أخذ عنه نفي الجوهر المفارق؛ لأن الملائكة في السماء وهم فيما بينهما؛ فدل على أنهم في حيز. ورده ابن عرفة: بأن الجوهر المفارق غير متحيز؛ كما أن [العرض*] غير متحيز، وكذلك النفوس البشرية عند الحكماء بعد مفارقتها للأجسام، والمراد: وما خلقنا [السماوات*] والأرض عبثا، ولا لغرض مقصود؛ بل خلقنا ذلك مصاحبا لمنفعة الخلق ومؤخرتهم لا لقصد ذلك. قوله تعالى: (ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا). احتج بها الآمدي على العنبري القائل بأن الكافر غير المعاند لا [يخلد*] في النار، بخلاف المعاند فإنهم اتفقوا على أنه مخلد في نار جهنم. والعجب من البيضاوي كيف لم يذكر غير مذهب باطل؟ ونقل نحوه عياض في الشفاء عن الغزالي، قلنا: قاله الغزالي في كتاب التفرقة بين الإيمان والزندقة، وفي كتاب الحقائق. قال ابن عرفة: وكلامه في كتاب الاعتقاد، كمذهب أهل السنة. قوله تعالى: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ ... (28)} عبر عن المؤمنين بالفعل، وعن المفسدين بالاسم؛ إشارة إلى من اتصف بمطلق الإيمان والعمل الصالح؛ مخالف لما اتصف بأبلغ الفساد، فأحرى أن مخالفة من اتصف بأبلغ العمل الصالح هذا في ظرف الإيمان، ويبقى من اتصف بمطلق الفساد في الأرض، فيجاب عنه: بأن المراد من ثبت على فساده؛ لئلا يدخل فيه من أفسد وتاب؛ فإنه من قسم من آمن. فإن قلت: [لم قدم*] تفاوت المؤمن للمفسد، وهلا عكس، كما قيل (لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ) لأن أسباب الفساد أكثر من أسباب الصلاح، بدليل ما تقدم في قوله تعالى: (وَجَعَلَ الظلُمَاتِ وَالنورَ)، قالوا: جمع الظلمات وأفرد النور؛ [لكثرة*] تشعب طرق الشرك [واتحاد*] الهدى، ونفي ما يتوهم ثبوته أو قرب ثبوته أولى، فالجواب: أنه بدأ بالمؤمنين اعتناء بهم وتشريفا لهم. قوله تعالى: (أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ).

(29)

إن قلت: لم عبر في (الْمُتقِينَ) بالاسم، وعبر في قوله تعالى: (وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ)، بالفعل؟ قلت: لأن التقوى أمر اعتقادي تجدده خفي غير ظاهر، وهو أقرب للثبوت؛ فاللزوم والعمل الصالح أمر فعلي يتجدد شيئا فشيئا، وتجدده ظاهر يدرك بالحس. فإِن قلت: هلا قيل: أم نجعل المتقين في الأرض كالفجار؟ قلنا: التقوى أمر علمي معنوي غير [مرئي بالحس*]، والعمل الصالح أمر فعلي محسوس فناسب ذكر محله، ولذلك قالوا: الإنسان له قوتان: علمية وعملية. قوله تبارك وتعالى (لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ ... (29) قال ابن عرفة: النظر مطلوب في الجميع؛ والنتيجة إنما تحصل لأولي الألباب منهم، وظاهر الآية حجة لبعض المبتدعة، في [قولهم*]: إن [**المعلوم تذكرته]. وهو مذهب باطل لما يلزم عليه من قدم العالم، ويحتج بالآية من [**رجح] تنزيل القرآن على سرده، كما قال تعالى (وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا)؛ وتحتج لمن [يرى*] سرده، بقوله (وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ)؛ [**قوله: جواز العجل فيه بعد استبقاء الملك له (وَحْيُهُ) عن الله تعالى]، وكذلك حديث عائشة في [ركعتي*] الفجر: قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخفف فيهما حتى نقول هل قرأ فيهما [أم لَا*]، وفي بعض [الروايات*]، أن ولد أحمد بن حنبل، قال لأبيه: أنت تسرد القرآن ولا ترتله، فقال: ما سردته حتى فهمت مواعظه وزواجره. قوله تعالى: {وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ ... (30)} قال ابن عرفة: إن قلت: هلا قيل: ووهبنا سليمان لداود؟ فالجواب: أنه قصد الاعتناء بداود والتشريف له؛ وأيضا إنما أخر سليمان ليعود الضمير عليه، في قوله (نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ)، والضمير إنما يعود على أقرب مذكور. قوله تعالى: {وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ ... (34)} الفتنة الاختبار، قال الله تعالى (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ)؛ فاقتضت أن الأنبياء والأولياء يفتنون فيفتنون على دينهم، وكذلك سليمان عليه السلام وما يزيدهم ذلك إلا إيمانا وتسليما كسورة الأحزاب؛ وفي آخر سورة براءة.

(35)

وما حكاه ابن عطية والزمخشري من قضية؛ [المرأة*] التي طلبت أن تحكم لأختها على خصمه فمن كلام القصاص لَا يليق ذكرها؛ والأنبياء معصومون منه، والأنسب في هذه أن تكون فتنة في [قوله*]: [لَأَطُوفَنَّ اللَّيْلَةَ عَلَى مِائَةِ امْرَأَةٍ، أَوْ تِسْعٍ وَتِسْعِينَ كُلُّهُنَّ، يَأْتِي بِفَارِسٍ يُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَقَالَ لَهُ صَاحِبُهُ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فَلَمْ يَقُلْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ*]. قوله تعالى: (وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا). وقال تعالى في سورة يونس لفرعون (فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ)، ولم يقل: بجسدك، ففرق تقطعهم بأن البدن ينطلقَ على ما كثرت أجزاؤه، ولذلك يقال: فلان بدن، وفي الحديث أن عائشة رضي الله عنها وكرم وجه أبيها قالت: فلَمَّا بَدَّنَ رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، أي فلما طعن في السن، وفرعون كان قد بلغ الغاية في السن، وأما الجسد فيصدق على الصغير الناقص الأجزاء، ولذلك قال: لم تحمل من نسائه إلا واحدة ولدت شق ولد. قوله تعالى: {وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي ... (35)} نقلوا عن الحجاج، أنه قال: لقد كان حسودا. قال ابن عطية: وهذا من فسقه. قال ابن عرفة: كان بعضهم يقول: بل هذا من جهله؛ فإن الإنسان تارة يطلب من أن يعطيه شيئا يخصه به دون غيره، وتارة يطلب منه شيئا علم منه أنه لَا يعطيه إلا رجلا واحدا؛ فيرغب منه أن يكون هو ذلك الرجل، والأول: طلب الإعطاء والخصوصية، والثاني: طلب الإعطاء فقط؛ فلعل الله تعالى أوحى إلى سليمان عليه الصلاة والسلام أن هذه الهبة لَا ينالها إلا رجل واحد يكون نوعه منحصرا في شخصيه، فرغب من الله تعالى أن يكون هو ذلك الرجل، فليس في هذا حسد؛ إنما الحسد على طلب الإعطاء والخصوصية؛ لأنه يطلب منه شيئا؛ ويحرم منه غيره. قوله تعالى: {فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ ... (36)} الفاء للسبب، أي لسبب قوله (وَهَبْ لِي مُلْكا)؛ (سَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ). قال القشيري: ومن الدليل على فضل نبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم؛ أن بعض الأولياء من شبه قدرة الله تعالى على أن تحمل الريح؛ فيقطع المسافة الطويلة في الزمن القصير.

(37)

قال ابن عرفة: وعادتهم يوردون سؤالا تقديره؛ أن تأثير الفعل تارة يكون بوقوع أثره في الفاعل، وتارة بوقوع أثره في المنفعل، ويمثلونه بحائط عليه بنيته فحدث فيه اختلاف، فذهاب الخلل منه إما بإعدامه وبنائه، وإما بتخفيف الثقل الذي عليه، فالأول: تأثير في الفاعل وهو [الحامل*] للثقل، والثاني: في المنفعل وهو المحمول. قال: وتوهم بظاهر الأثر الحاصل في الشيء المفارق، فهلا قيل: فأقدرناه على الريح؛ لأنه يكون تأثيرا في الفاعل راجع إلى ذاته؛ وأما تسخير الريح فهو تأثير في المنفعل بأمر خارق لذات الفاعل؛ وهو سليمان عليه السلام، وكذلك أيضا [عمل الحديد*] في قصة داود، في قوله تعالى: (وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ)، ولم يقل: وأقدرناه على عمل الحديد، قال: والجواب: أن هداه [دعاه إلى الخالق بالتذكير بالنعمة*]، وهو أن الإنسان إذا أنعم عليه بصفة في غيره. فإنه يتوهم في كل وقت [زوالها*]، فهنا لو [وجدها*] باقية شكر الله على دوامها، بخلاف ما إذا كانت صفة له ملازمة لبدنه، فإنه قد يثق بها [ويأبى*] الشكر عليها؛ ويقبل عن تذكر زوالها؛ فتذكر زوال النعمة المفارق للبدن أقرب من تذكر زوال النعمة المخالطة للبدن. قوله تعالى: {وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ (37)} قال ابن عرفة: هذا من باب مطرنا السهل والجبل، فالمراد بالبناء: من يعمل منهم العمل المرتفع على الأرض، وبالغواص: من يعمل منهم العمل المنخفض في الأرض من حفر الآبار وغيرها. قوله تعالى: {وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ (38)} وليس المعنى سخرنا له آخرين؛ بأن المقرن في الأصفاد غير مسخر للخدمة. قوله تعالى: {مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ (41)} وقال تعالى في سورة الأنبياء (مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ)، فأجيب: أن آية الأنبياء أتت في معرض الامتنان؛ فذكر النعم لأن قبلها (وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ)، ثم قال تعالى (يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا)، ثم قال تعالى (وَلُوطًا آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَنَجَّيْنَاهُ

(42)

مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ)، وقال تعالى (وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ)، (وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا)، وهذه الآية خرجت مخرج ما عنى بالأنبياء لأن قبلها (وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ)، ثم قال (وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ)، ومنهم من أجاب: بأن (مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ) فيما هو الأصل الأهم. قوله تعالى: {ارْكُضْ بِرِجْلِكَ ... (42)} ابن عرفة: يؤخذ منه جواز التداوي للمرض، أو ترجيحه مع الإجماع على عدم وجوبه؛ إلا إذا أدى تركه إلى الإخلال بالفرض؛ فإنه يجب كمن يمنعه المؤمن من الصلاة قائما، فيجب عليه التداوي. وهنا جعل له الماء دواه. وذكر ابن عطية في سبب نزول الآية: أنه دخل على بعض الملوك فرأى منكرا فلم يغيره، قال: وروي أنه ذبح شاه وطبخها؛ وله جار جائع فلم يطعمه منها. قال ابن عرفة: أما الثاني: [فخفيف*] إذ لعله لم يعلم بحاجة جاره، وأما الأول: فشديد لا يحل نقله وإسناده إلى الأنبياء. قال الزمخشري: فإن قلت: لم نسبه إلى الشيطان؛ ولا يجوز أن يسلط على أنبيائه؟ قلت: لما كانت وسوسته سببا فيما مسه من المرض نسبه إليه؛ وقد راع الأدب حيث لم [ينسبه*] إلى الله تعالى في دعائه مع أن الله تعالى فاعله. قيل لابن عرفة: كيف وهو يقول إن العبد يخلق أفعاله، فقال: لعله ممن يقول بالاعتزال؛ ولا يقول بالتولد، وتخرج من كلام الزمخشري أنه قرئ بِنُصْبٍ، ونَصَبٍ. ابن عرفة: وهو خطأ، ولا يقرأ [**كما أخذوا الذي] ذكر ابن عطية، [وأبو*] حيان من خفض عن عاصم نصب، والقراءة المشهورة عن [الجميع (بِنُصْبٍ) *]. قوله تعالى: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا ... (44)} قال تعالى في طه (فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى)، (قَالَ خُذهَا وَلَا تَخَف)، ولم يقل: خذها بيدك. قال ابن عرفة: أجيب: بأن هذا من تمام النعمة على أيوب عليه السلام إشعار بأنه ردت له قوته وصحته كما كانت، فلذلك قال تعالى (وَخُذ بِيَدِكَ)؛ لأن أعضاءه كلها كانت معطلة. قوله تعالى: {أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ (45)}

(47)

إشارة إلى القوة العلمية والعملية. قوله تعالى: {لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ (47)} [**في الاصطفاء]؛ فإِن المصطفين متفاوتون في الأخيرية. قوله تعالى: {وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيَارِ (48)} إنما عطفه بالواو تنبيها على دخول [**من دخول] زمن ذكر قبلهم تفهم في وصف الأخيرية. قوله تعالى: {هَذَا ذِكرٌ ... (49)} كان بعضهم يقول: معناه هنا ذكر على سبيل التشريف لهذا لَا بالتعيين على سبيل العموم؛ وتشريف آخر وثواب تعميم. قوله تعالى: {وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ (52)} يؤخذ منه مرجوحية تزويج الشابة للشيخ، أو الشاب للعجوز هذا على تفسير من قال: المراد أنهن أتراب لأزواجهن أسنانهن كأسنانهن. قوله تعالى: {هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ ... (59)} قال أبو حيان: (معكم) ظرف متعلق بـ (مُقْتَحِمٌ)، ولا يصح أن يكون حالا من (هَذَا فَوْجٌ)، فيكون تعديا على مقتحم. قال [**ابن عرفة: المختصر في هذا: انظر ابن عرفة] امتنع جعله حالا من (هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ)، لأنه يكون المعنى: هذا فوج حالة كونه مقتحم، وعلى تلك الحالة غير مقتحم؛ لأنه قد دخل ووقع منه الاقتحام، لأنه لَا يصح أن يقول لزيد وهو معك في الدار: هذا زيد داخل الدار في الزمان والاقتحام في المكان، فتقول الخزنة لرؤساء الكفار عند وردوها هذا الفوج، وقبل دخوله عليهم (هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ)، أو [يقوله بعض الطاغين*] لبعض؛ [أى: يقولون هذا. والمراد بالفوج: أتباعهم الذين اقتحموا معهم الضلالة، فيقتحمون معهم العذاب لا مَرْحَباً بِهِمْ دعاء منهم على أتباعهم. تقول لمن تدعو له: مرحبا، أى: أتيت رحبا من البلاد لا ضيقا: أو رحبت بلادك رحبا، ثم تدخل عليه «لا» في دعاء السوء.*]

سورة الزمر

سُورَةُ الزُّمَرِ قوله تعالى: {لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لَاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ ... (4)} ابن عطية: أي اتخاذ التشريف [والتبني*]، وأما الاتخاذ المسمى المعلوم؛ فلا يتوهم ولا يستقيم عليه الاصطفاء، قال: وقوله تعالى: (وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا)؛ توهم اتخاذ ولد واتخاذ الاصطفاء، فأما الأول [فبالمعقول*]، وأما الثاني فبخبر الشارع. وقال الزمخشري: أي لو أراد اتخاذ الولد لم يصح لكونه محالا، [ولم يتأت*] إلا أن يصطفي بعض خلقه ويختصهم ويقربهم؛ كما يختص الرجل ولده، وقد فعل ذلك بالملائكة فغركم ذلك وزعمتم أنهم أولاده [جهلا*] منكم. قال ابن عرفة: فحمله ابن عطية على اتخاذ التشريف، [وحمله*] الزمخشري على اتخاذ الولد حقيقة، فكان جواب الشرط على قول الزمخشري مشكلا؛ لأن القضية الشرطية المتصلة يلزمها منفصلة مانعة الجمع من غير مقدمها، ونقيض بالهاء ومانعة الخلو من نقيض مقدمها وعين تاليها، فيدخلها نفي الملزوم مع صحة وجود اللازم، وهذا خلاف إجماع النظام، لأنه قال: لو أراد الله اتخاذ الولد لامتنع ذلك، لكونه محالا؛ [فلم يبق*] إلا أن يصطفي من خلقه ما يشاء، وقد فعل ذلك بالملائكة والأنبياء عليهم السلام مع أن (لَوْ) إذا دخلت محل نفي عاد ثبوتين وبالعكس، وهنا دخلت على ثبوتين فيعودا [نفيين*] فيعود أحدهما: وهو الأول نفيا، والثاني ثبوتا. وأجاب شيخنا: بأن المثبت الاصطفاء الواقع من الله تعالى للأنبياء؛ لَا الاصطفاء الذي هو [التبني*] وهو المراد من اللازم، والمراد نفيه فينتفي الملزوم، وتقديره لو أراد الله اتخاذ الولد للاصطفاء اصطفاء [التبني*] واللازم باطل والملزوم مثله، قيل له: عبر في اللازم بالإرادة وفي الملزوم بالمشيئة؛ وهما معنى واحد، فأجاب: بأنه تفنن في الخطاب، قيل له: هل [يدل*] لفظ التكوير على أن السماء كورية؟ فقال: نعم؛ لأن تكويرها مع [فلكها*] عن محله محال، ومن لوازمه تكور فلكها لاستحالة تعلقها دون مكان. فإن قلت (5): [**معهم التكوير مع البساطة؛ لأن المراد تداخل الزمانين والباء من أحدهما للآخر]، قلت: مسلم لكن مع إشعار لفظ التكوير؛ [يريد تكويرا ككور العمامة*] بعضه على بعض.

(6)

فإن قلت: بدأ بالليل على النهار في التكوير على العادة عند العرب، وبدأ بالشمس في التسخير، والمناسب كان الابتداء بالقمر لمقابلته الليل، لأنه فيه يظهر، فلم عدل [عن*] ذلك؟ قلت: لأن آية الشمس أبدع في النفوس بخلاف القمر. فإن قلت (6): إذا كان المراد من النفس آدم؛ فيكون لفظ (خلق) استعمل في حقيقته ومجازه؛ لأنه في أولاد آدم المباشرين حقيقة، وفي غيرهم مجاز، ثم إنه عبر عن الخلائق بالخلق، وعن جواب الجعل. قلت: لأن الزمخشري كان تقدم له أنه خلق بمعنى أبرز من العدم إلى الوجود وجعل معنى صير وهو [تكوين*]. قال شيخنا: قالوا: إن حواء عليها السلام خلقت من ضلع أعوج، قال: و [ ... ]. الآخرة مسألة [**الخشي]، قال: وهذا خلاف مذهب أهل التشريع؛ لأنهم قالوا: لو وقع بالآخر لوجد؛ لأنه مما يدرك بالبصر ولم يدرك ولم يوجد؛ واختار التراخي في الزمان. قوله تعالى: (ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ). كقوله تعالى: (فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ) (فِيهِ) الإشارة للتعظيم. قوله تعالى: {إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ ... (7)} الخطاب لمن في قولكم، والمراد من هذا الكلام، في قوله تعالى: (غَنِيٌّ عَنْكُمْ)، لازمه، وهو أن الضرر الناشئ عن الكفر إنما يعود عليكم، لأن الله تعالى غني على الإطلاق؛ فكفركم إنما يعود بالوبال عليكم. قال: والمنفي في قوله تعالى: (وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ)، على ظاهره من الرضى الذي هو الحب لَا الإرادة، قال: وأما الوجه الثاني في أن المراد بالعباد المؤمنين فقط، بخلاف الظاهر. فإن قلت: [ما ذكرتموه يتلزم عليه الإضمار، وما ذكرناه يلزم عليه التخصيص*]، وهو خير من الإضمار، قلت: ذكره آخر الشكر، في قوله تعالى: (وَإِنْ تَشْكُرُوا)، يدل على الأول دون الثاني.

(32)

فإن قلت: هل ينتفع بـ (إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ)، في مسألة علمه بالجزئيات؟ فقلت. نعم. قوله تعالى: {وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ ... (32)} قال الشيخ ابن عبد السلام: يدخل في هذا جميع من كذب على الله من أكثر الفقهاء، إذا لم تحكم بمستند التنزيل [**وهو الداء إذا لم يستحقها]. قيل: هل في الآية دليل على تكفير من يكفر بالذنب؛ لأنه سجل عليهم بوصف الكفر، فقال: قد لَا يؤخذ ذلك وقد يؤخذ، قيل له: قوله تعالى: (وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ)، وهل فيه حذف الفاعل تقديره: والذي جاءوا فيكون المراد بالذي الجنس، فقال: ما ذكرته إنما يصح إذا جاء بالموصول مجموعا، فحينئذ تؤتى بالصلة مفردة حذفا لما ذكرت، وهنا ليس كذلك فليس من ذكر الباب، وإنما المراد بالذي الجنس، دليله قوله تعالى: (أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ)، قيل: هل يتناول العصاة أو لا؟ فقال: لَا لأنه يلزم عليه أن يكونوا موعدين بأن لهم ما [يشاءون*] عند ربهم، وذلك باطل إجماعا. قيل له: أجمع أهل السنة على أنهم لَا بد لهم من الجنة، فقال: وأجمع المسلمون ما عدا الجبرية على دخول طائفة النار، وإلا فيلزم أن يوصف ذو الكبيرة بالرحمة، وأنه يعبد الله كأنه يراه، وذلك باطل بالإجماع. قوله تعالى: {أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا ... (35)} قال: لما كانوا في غاية الورع كانت تصدر منهم بعض الحسنات يعدونها سيئات، وليست بسيئة، وإنما هي حسنة، وليس المراد بقوله (أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا) أسوأ السيئات، وإنما المراد التشبيه في اعتقادهم أنها سيئة. فإن قلت: لم قال هنا (بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ)، وقال تعالى في النحل (بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)، قلت: في النحل تقدم ذكرها، وهنا تقدم ذكر الذي في قوله (وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ). قوله تعالى: {وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ ... (45)} [وجه نظم هذه مع التي قبلها، ما قرره الأصوليون والجدَلِيُّون، أنّ وجه الترتيب في المناظرة أن يبدأ المستدلُّ بإبطال مذهب الخصم، ثم يصحِّحُ مذهبَه، ثم إنْ كان في مقالة خصمِه تناقضٌ أو تهافتٌ بيَّنَه له؛ وعلى هذا الترتيب أتتْ هذه الآيات؛ أنكَرَ أوّلا على الكفار مُدَّعاهم، مقْرونا ذلك الإنْكارُ بالدّليل الدالِّ على بطلان تلك الدعوى، وهو قولُه (أَم اتَّخَذُوا) الآية؛ ثم ذكَر مُدَّعى المومنين مقرونا بدليل صحّته، فقاَل (قُل للَّهِ الشفَاعَةُ جَميعاً)؛ ثم أكّد دليلَ إبْطال مُدَّعَى الكفار بتناقضهم في دعْواهم فقال (وَإِذَاَ ذُكِرَ اللَّهُ)؛ وبيانُ التناقض أنهم زعموا أن تلكَ الآلهةَ تشْفع لهم عند اللَّه تعالى، والمشفوعُ عنده أعلى رتبةً من الشفيع، فالمناسبُ إذا ذُكر اللَّه وحده أن تطمئن قلوبُهم إليه، فنفورُها عند ذلك مع كونه مشْفوعا له تناقض منهم] (¬1). قيل: له قوله تعالى: (وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ (47) .. ، هل كقوله في الحديث: "لهم فيها ما لَا عين رأت ولا أذن سمعت"، بالنقيض أم لَا؟ فقال: لَا لأنه إنما نفى ما لم يحتسبوه، وإلا فهو محسوب عند غيرهم، لأنه من جنس ما يقع منهم، ¬

_ (¬1) تم جبر هذا السقط من كتاب (النكت والتنبيهات للبسيلي. 3/ 489).

(53)

أما قوله: "فيها ما لَا عين رأت" فنقيض أنهم سيروا لهم في الآخرة ما لم يقدر أحد ولا يخطر على قلب بشر. قوله تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ ... (53)} حصول الغفران مطلقا، أو لمن تاب. قال الشيخ: والظاهر أن هذا العموم مخصوص؛ لأنه إن لم يخصه يلزم [عنه*] مذهب المرجئة، قال: ومن نظر [وعقل سبب النزول أدرك*] ما قلناه من التخصيص. قيل: لم أسقط البغتة في الأول (54)؟ فقال: فيه حذف التقابل، قيل له: المفهوم من قوله تعالى: (وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (55) .. ، هو المفهوم من قوله تعالى: (بَغتَة)، فقال: تأكيد وانتقال من [التزام المطابقة*]. قوله تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ... (62)} قال: الآية مخصوصة بالإجماع بالواجبات كلها، قيل له: هل ينتفع بها في مسألة خلق الأعمال؟ فقال: لَا لوجهين: الأول: أن المخصوص هل يبقى حجة أم لَا؟ فيه خلاف، وإذا قلنا: [لا يبقي حجة*]، فالمسألة من قواعد العقائد؛ فلا يثبت بمثل هذا. الثاني: أن المراد خالف المعنى؛ فيقتضي إن ما وجد مخلوقا فالله خالقه؛ وعلى هذا لَا دليل فيه ألبتَّة؛ لأن خلقها لله محل النزاع، والمنسوب في الآية ما هو منسوب لله. فإِن قلت: هل يؤخذ من الآية أن المعدوم شيء أو لَا؟ قال: قلت: لَا يؤخذ؛ وإنما المراد ما وجه مخلوقا لله فالله خالقه. قوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ ... (63)} [أَوْرَدَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» سُؤَالًا، وَهُوَ أَنَّهُ بِمَ اتَّصَلَ قَوْلُهُ (وَالَّذِينَ كَفَرُوا)؟ وَأَجَابَ عَنْهُ بِأَنَّهُ اتَّصَلَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا) [الزُّمَرِ: 61] أَيْ يُنَجِّي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ بِمَفَازَتِهِمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ وَاعْتَرَضَ مَا بَيْنَهُمَا أَنَّهُ خَالِقٌ لِلْأَشْيَاءِ كُلِّهَا، وَأَنَّ لَهُ مقاليد السموات وَالْأَرْضِ. وَأَقُولُ هَذَا عِنْدِي ضَعِيفٌ مِنْ وَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ*]

(67)

الطول؛ لأن فيه عطف جملة اسمية على فعلية وهو قليل. وأما الثاني: فلأن الكافرين هم بعض النَّاس [ ... ]. قال: والصواب أنها كلية مستقلة بنفسها، قيل له: وهل ينتفع بها الملائكة في القول بالإحباط بمجرد الردة؟ قال: إن قلنا: إن المراد من خوطب به خاصة؛ فلا يلزم ذلك إذ لَا يلزم من إحباط المخاطب مجرد الردة إحباط غيره، لأن عقوبة [المقربين أشد*]، قال: والأظهر أن المراد بقوله تعالى: (بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ). قوله تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ ... (67)} يدل على تعظيمه الممكن المقدور عليه؛ المأمور هو به، أما تعظيمه حق تعظيمه؛ فلا يستطيع أحد عليه؛ ولهذا كان بعض شيخونا ينهى أن يكتب في الصدقات: الحمد الله حق حمده، والحمد لله كما يحب لجلاله؛ لأنه قد يقول ذلك ولا يعرف جلاله. قال الفقيه أحمد بن سيدي الفقيه أبي القاسم أحمد الغبريني قال: ورد على صداق وأنا قاضي بباجية فيه أعلم بثبوته على ما هو عليه. ابن عبد السلام ابن يوسف الهواري: فلم أجد في الصداق موجبا لذلك إلا الحمد الله حق حمده، قال ابن عبد السلام: وما حكاه عن جبريل هو تصحيف، وإنَّمَا هو جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم. قوله تعالى: (نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ). الظاهر أن النسيان ضد الشرك لَا ضد الذكر، لأن ترتيب الذم عليه أشد، والأول يرجع إلى ترك الأسباب. قوله تعالى: (لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ). قال: ضم الياء أحسن من فتحها، لأن الفتح إما أن تكون اللام لام العلة، أو لام الصيرورة؛ والقسمان باطلان، أما الأول فلأن من جعل لله أندادا قد حصل في أشد الضلال في تعيبه، وجعل الله أندادا يقتضي تقدم الضلال؛ فيلزم تصيير ما سبق تصييره وذلك باطل، قيل له: ما المانع أن يكون المراد بصيرورة الضلال مداومة وجوده؟ فقال: يحتمل ويفضله قوله تعالى: (قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا)، إن التمتع به المداومة.

قال الشيخ: ومَن في قوله تعالى: (أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ)، لَا يصح أن تكون استفهاما لامتناع اجتماع حرفي الاستفهام في كلمة واحدة؛ فلا بد أن تكون من موصولة، قيل له: ما المانع من كونها منادى والهمزة حرف نداء؟ فقال: يحتمل على [ ... ]. وقرئ (أَمَّنْ) بالتشديد. فإن قلت: هل البداية بالسجود يدل على أنه أشرف أحوال الصلاة؛ لأنه قدم على القيام الذي هو أول؟ قال: المراد في تفضيل العملين على غيرهما من العبادة، لقوله تعالى: (سَاجِدًا وَقَائِمًا). قوله تعالى: (اتَّقُوا رَبَّكُمْ). قيل له: هل هو النفاق؛ لأنه كان يقول (اتَّقُوا رَبَّكُمْ)، فقال: لَا نسلم لأن الأمر بالتقوى صادر منه عليه السلام، فحسن أن يقول ربكم، قيل له: يعكس عليك قوله تعالى: (يَا عِبَادِيَ)، وهو السلام لَا نخاطبهم بذلك، فقال: الأول على جهة الحكاية، قيل له: أيما أبلغ هذه أم قوله تعالى: (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى)، فقال الثانية لأنها أعم من أن تكون في الدنيا أو في الآخرة، قيل له: ما مناسبة قوله تعالى: (وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ)؟ قال: فكأن القائل يقول: فإن بعض الإحسان في بعض البلاد في العمل، فقال تعالى (وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ). قوله تعالى: (قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ). قال: ظاهر كلام الزمخشري في جواز العطف؛ إنما لاختلاف الجهة دفعا للسؤال؛ والسؤال لَا يزول، ولابد الإخبار بالجملة الثانية لَا معنى له إذ هو مستفاد من الأولى بالضرورة؛ لأن عبادة الله منه مخلصا؛ لَا بد أن يكون ذلك أول الإسلام لاستحالة وقوع ذلك بدون الإسلام، فالأولى أخص؛ والثانية أعم، والأخص يستلزم الأعم، فلما ذكر اللازم الثاني، قيل له: لاختلاف الجهة، فقال: اختلافها إنما هو بالنسبة إلى اللفظ في حق غيره؛ وهذا السؤال إنما ورد من جهة المعنى، ومن جهة اختصاصه به. قوله تعالى: (قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ). بوقوعها في العذاب الدائم؛ وليس لهم من الحور العين أو في الدنيا حصول.

قوله تعالى: (ظُلَلٌ). الظلل إنما يكون لدفع حرارة الشمس، وهذه تجلب قوة الحرارة. قوله تعالى: (لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ). فإن قلت: ما معنى (مَبْنِيَّةٌ)؟ قلت: رد لما يتوهم من أنها كالدنيا من أن الغرف التي على الأرض مبنية، والتي فوقها من القصب والخوص والرؤية في الأثر بصرية. قوله تعالى: (مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ). قوله تعالى: (ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا). وقال تعالى في الحديد (ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا)، فأجاب: بأنه لما كانت هذه الأفعال هنا مضافة إلى الله تعالى عز وجل حسن أن يقول: [(ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا) *] ولما كانت في تلك غير مصرح بها حسن أن يقول: (ثُمَّ يَكُونُ)، قيل له: هل ينتفع بها من يقول: إن الإسلام والإيمان بمعنى واحد؛ لأن شرح الصدر إنما يكون ما محله القلب، وقد جعل هنا أن الإسلام محله القلب؛ لأنه مشروح له، فدل على أن المراد بالإسلام الإيمان. قوله تعالى: (أَحْسَنَ الْحَدِيثِ)، اختار الشيخ بالحديث الكتب الأربعة المنزلة وأحسنه القرآن و (كِتَابًا) [بدل من أحسن الحديث*]. قوله تعالى: (مُتَشَابِهًا). أي متشابه الأجزاء من أقاصيص وأخبار. قوله تعالى: (أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ). قال: هذا [تهكم*]؛ لأن الوجه في العادة إنما يتقي عنه لَا به؛ وهو هنا به لَا عنه. قوله تعالي: (وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ). الخطاب في الدار الآخرة؛ لأنها ليست دار تكليف؛ وإنما إخبار بخلودهم. قوله تعالى: {كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (25)}

[**الآية]، فيكون عذابا في عذاب؛ وجعل النَّاس كأنهم علموا أولا أشياء ثم نسوها، فضرب الأمثال؛ ومن كلامه في سورة الزمر، قوله تعالى: (قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ)، وجه مناسبتها لما قبلها؛ أن الاشتراك في الأمر المشق المؤلم أهون على النفوس من الاختصاص به، كمن ضاع له دينار ولم يضع لغيره شيء، وآخر ضاع له ولغيره، وكذلك فعل [الطاعات*]. قال: ووقوعنا من بئس القوم ابتداء أقرب إلى الإنذار به فيها والإتباع، فلذلك قال (أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ)، ثم قال (وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ). قال الزمخشري: يعني أن الله تعالى أمرني أن أخلص له الدين بدليل العقل والسمع، فإن عصيت ديني لمخالفة الدليلين استوجبت عذابه. قيل لابن عرفة: هذا اعتزال، فقال: هذا تنبيه يصدر من السني والمعتزلي، فالمجرور في قوله بدليلي العقل تعلق بالفعل، وهو (أمرني) وهو اعتزال، وإن تعلق بقوله: (أخلص) فليس باعتزال، قيل له: قد نص [الضرير*] في أرجوزته على اعتقاد وحدانية الإله واجبة بالعقل والفروع، والشرائع هي الواجبة بالسمع، لأنه قال: ما نصه فخالق الأشياء وجداني، وشاهد العقل بذلك [يشهد*]. قال ابن عرفة: هذا خطأ لأن الأصوليين حكموا الخلاف في النظر؛ فمذهب أهل السنة أنه واجب بالسمع، ومذهب أهل المعتزلة أنه واجب بالعقل على أن كلام المفسرين يمكن تأويله، فيحتمل أنه يريد به قصر معرفة ذلك في الدليل والإدراك، أو رجوعه إلى الأمر التكليفي. قيل له: ما عمله شارحه ابن خليل في شرحه: أن السلطان وأميره إذا دعا إلى معصية؛ فإنه يجب اتباعه، قال: وهذا خطأ طرح؛ وحديث مسلم في كتاب الإعادة يرد عليه. قوله تعالى: (قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُم)، أي الخسران الأخص، أي خسروا لذة أنفسهم ونعم أنفسهم؛ لأن خسران الشيء هو ضياعه، وأنفسهم لم تزل باقية. قوله تعالى: (لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ).

إن قلت: ظلل النار عليهم لَا لهم، فالجواب: أنه استغنى عن على بكلمة فوق، فلو أتى بعلى لكان تكراره أتى ليفيد اختصاصهم بعذاب العذاب العظيم، وإدخال من على فوق ليفيد أول مواضع الفوقية؛ فيشعر بكمال ملاصقة النار لهم من غير فاصل. قوله تعالى: (وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ). جعلت النار ظله باعتبار أن لهيبها يصعد إلى فوق؛ فيعلو عليهم ويصيرون تحته، أو باعتبار أن النار تدور بهم كالكرة فيصير الأعلى أسفل؛ والأسفل أعلى، فهي ظلة باعتبار ما كانت عليه، فكل جهة منها فوقهم وتحتهم وفوق آخرين. قوله تعالى: (وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا). قال الزمخشري: (الطَّاغُوتَ) مبالغة؛ وقدر وجه المبالغة أنه إما مصدر المراد به الجنس، فعبر فيه عن شخص معين؛ وهو الشيطان أو غيره من معبوداتهم، الثاني: فيه القلب؛ لأن أصله [فعلوت من الطغيان كالملكوت والرحموت، إلا أن فيها قلبا بتقديم اللام على العين*]. قال ابن عرفة: ليس في القلب مبالغة. قوله تعالى: (وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ). قال ابن عرفة: عادتهم أنهم يقولون: الإنابة سبب في اجتناب الطاغوت، والأصل تقديم السبب على مسببه، فكان بعضهم يجيب: بأن الانتقال من الشيء لغيره لأحد وجهين: إما لوصف في المنتقل عنه ونحوه. قال ابن التلمساني في باب الأوامر في المسألة الثانية عشر في اعتراضه على مذهب: [الأمر بالشيء عين النهي عن ضده*]؛ [**قد يكون مقصود الطالب أعلى الخبر الأول]؛ فيكون الطلب منه نهيا، وقد يكون مقصوده [امتثال*] الخبر الثاني فيكون الطلب فيه أمرا [مقدرا*] هنا، السبب إشغال بأن اجتنابهم الطاغوت لمحض ما فيه من المفسدة الدائمة لَا لكونهم رأوا الإنابة إلى الله أحسن منه؛ إذ الاشتراك بينهما في الحسن بوجه، فكان الابتداء به أهم وأولى. قوله تعالى: (لَهُمُ الْبُشْرَى).

قدم المجرور للحصر إما للتشريف، وإما لأجل الآي، وإما باعتبار تقابله. قوله تعالى: (يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ). ابن عطية: قيل: هو كتاب الله. ابن عرفة: فعلى هذا يكون في القرآن حسن وأحسن منه وفيه خلاف، هل يصح أن يقال: بعض العذاب أعظم من بعض؟ أو أوضح من بعض؟ وهو بمعنى لفظ القرآن بالعجز، وإنما معناه القديم الأزلي فلا تجوز فيه ذلك بإتقان، وإما أن يراد بأحسنه أبينه؛ وهو عند المتشابه، وأما تعليم التكاليف التي عليها الثواب عند المباح الذي لا ثواب فيه. قوله تعالى: (أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ). ابن عرفة: هذا من باب إطلاق المسبب على السبب، لأن المراد: فمن دام على الكفر وضمير (عَلَيهِ) فأنت تنقله عنه وتصرفه إلى الإيمان، فالكفر سبب في العذاب، والإيمان سبب في الإبعاد. قال ابن عطية: وأسقط الثاني في الفعل إما للفصل، مثل: حضر القاضي اليوم امرأة، وإما لتأنيث الكلمة غير حقيقي. ابن عرفة: كان بعضهم يقول: وإما لأن العذاب مذكور، فتوحي إضافة الكلمة إليه؛ لأنه الأهم المقصود بالذات. قوله تعالى: (لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ). يحتمل أن يريد من فوقها غرف لهم أيضا، كما ورد "أن أهل الجنة يرون الغرف كما ترون الكوكب الدري في السماء"، والظاهر الأول إذ به تتم النعمة، والأنهار تجري من تحت الجميع، أو تجري تحت الغرف العليا كما تجري تحت السفلى، فهو أكمل في باب النعمة. قوله تعالى: (مَبْنِيَّةٌ). ابن عرفة: وكان بعضهم يقول: بل هو إشارة إلى وجودها الآن، وأنها مخلوقة خلافا لمن أنكر ذلك. قيل لابن عرفة: أو هذا إشارة إلى تنويعها إلى أصناف من الذهب والفضة والياقوت والزبرجد، كما أن البناء في الغرف يتنوع إلى الحجر والجص والجير، فليس الحائط كله زجاجا خالصا، ولا ذهبا خالصا، وإنما هو منوع فهو أعظم وأعجب.

قوله تعالى: (وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ). أما فيما يرجع إلى الثواب فظاهر إذ لَا خلاف فيه، وأما فيما يرجع إلى العقاب، ففيه خلاف بيننا وبين المعتزلة في المعاصي؛ فنحن نقول: إنه في المشيئة، والمعتزلة يقولون: بتخليده في نار جهنم؛ فيكون عندنا مخصوص بالمعاصي. قوله تعالى: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً) فإن قلت: لم عبر في (أَنْزَلَ) وسلكه بالماضي، وقال (ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا)، فعبر بالمستقبل؟ فالجواب بوجهين: الأول: أن إنزال الماء في الأرض سبب في إخراج النبات، فناسب جعل السبب ماضيا ومسببه مستقبلا لتأخره عنه في الوجود. الثاني: أن الماء إذا حصل في الأرض لَا يستغرقها ولا يتغير، والنبات إذا خرج يتغير وييبس فناسب أن يعبر عن الأول بالماضى المقتضي للتحقيق والثبوت، وعن الثاني بالمستقبل المقتضي للتجدد والاختلاف. قوله تعالى: (أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ). إشارة إلى اتصافه بالمقدمات والدلائل المرشدة إلى الهداية. قوله تعالى: (فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ). إشارة إلى حصول النتيجة عن ذلك، وأنه نظر فاهتدى. قال: وفي الآية حذف التقابل، أي فيرى له (فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ)، فهم على ضلال من ربهم، وأسند الشرح إلى الصدر مبالغة وتخصيصا على الاتصاف بأسباب ذلك. قوله تعالى: (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا). ابن عرفة: لما تقدمها (فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم) عقبه ببيان أن قساوة قُلُوبِهِم أمر ذاتي لها؛ لَا بسبب غموض الذكر والقرآن الملقى إليهم؛ بل هو أحسن الحديث وأبينه. وذكر ابن عطية في سبب نزول الآية غير هذا. ونقل الزمخشري، عن ابن مسعود: أن أصحاب النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ملوا ملة، فقالوا [حدثنا*] فنزلت.

ابن عرفة: وفي هذا اللفظ [بعد*]، والصواب ما قلناه]. قوله تعالى: (مُتَشَابِهًا). قال المفسرون: أي متماثل المعاني في الصحة والكلام والصدق، ونفع الخلق وتناسب ألفاظه. ابن عرفة: وكان بعضهم يقول: يحتمل أن يريد بالتشابه أن آياته متشابهات باعتبار الحفظ؛ بحيث تشتبه على من هو ضعيف الحفظ. قوله تعالى: (مَثَانِيَ). جمع مثنى أي مكرر ومردد لما بين من قصصه وأحكامه، أو إشارة إلى أنه مهما كرر في التلاوة يزداد حلاوة ولا يمل. ابن عرفة: ويحتمل أن يراد به الدوام، يعني أنه محفوظ لَا يزال دائما يكرر ويقوى إلى آخر الدهر؛ بخلاف غيره من الكتب المنزلة. قوله تعالى: (تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ). الزمخشري: إن قلت: [لم ذكرت*] الجلود وحدها أولا، ثم كرر [معها*] القلوب ثانيا؟ فأجاب: بأن ذكر الخشية أولا أغنى عن ذكر القلوب؛ لأنه محلها. ابن عرفة: وكان بعضهم يقدر الجواب: بأن وجوب السبب يستلزم وجود المسبب؛ فوصف الجلود بكونها مقشعرة مسبب عن وصف القلوب بالخشية والخوف، ووصف الجلود باللين [يقتضي نفيه*] عنها، ونفي المسبب لاستلزام السبب؛ فلذلك ذكرت القلوب ثانيا. قوله تعالى: (وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ). قال ابن عرفة: ذكر اسم الإشارة، وإن كان مستغنى عنه؛ إشارة إلى تحقيق القرآن، [المعجز*] المشتمل على أخبار الصدق والمواعظ الحسنة، فلذلك فرقوا في باب الإيمان بين من حلف لَا آكل طعام فلان فأكله بعد انتقاله عن ملك فلان، قالوا: لا يحنث، وبين قوله: لَا أكلت هذا الطعام؛ فأكل منه أنه يحنث على كل حال. قوله تعالى: (مِنْ كُلِّ مَثَلٍ). يؤخذ منه جواز القياس، ولاسيما القياس التمثيلي؛ لأنه تشبيه معلوم في إثبات حكم لهما، أو نفيه عنهما.

قوله تعالى: {غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (28)} إما تعليل التعليل أو تعليل بعد تعليل، فعلى الأول: المعنى رجاء أن يتذكروا؛ فيكون تذكرهم سببا في ترجي تقواهم. وعلى الثاني: المعنى رجاء أن يحصل لهم التذكر والتقوى. قيل لابن عرفة: فهلا عطف؟ فقال: الحكمان إذا كانا في غاية الاتصال، أو في غاية الانفصال لَا يعطفان. قوله تعالى: (غَيْرَ ذِي عِوَجٍ). قالوا إذا قلت: زيد ذو مال، فهو دليل على كثرة ماله، ومنه قوله تعالى: (عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ (13) أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ)، ونحوه للقاضي عياض في حديث: "قد بلغ علي من الوجع ما ترى وأنا ذو مال". وقال السهيلي في الروض الأُنف في حديث هرقل في قول أبي سفيان: [هُوَ فِينَا ذُو نَسَبٍ*] [**والانخفاض منه]. قوله تعالى: (ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا). لما تقدم أن القرآن يشتمل على ضرب الأمثال عقبه ببيان أن من حمله ذلك هذا المثل. قوله تعالى: (فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ). ذكر ابن عرفة كلام المفسرين، ثم قال: وكان بعضهم يحمله على أن طريق الحق واحدة، والضلال متعددة، فنسب ما أفصح به الزمخشري، في قوله تعالى: (وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ) فالمحق يتبع دليلا واحدا؛ والمبطل من نفسه [عنده*] الشهوات متعددة. قوله تعالى: (الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ). إشارة إلى أن من ليس فيه [استثارة قابلة*] للعلم فجهله نعمة، لأن الحمد إنما هو على [النعم*]. قيل لابن عرفة: اختار جملة نعمة لغيره؛ لأنه نعمة به.

(74)

فإن قلت: لم قال فيه شركاء [فعداه بـ في، و (سلما لرجل) *]: فعداه باللام، قلنا: اللام تفيد الاختصاص، وهو مناسب للمؤمن، والمشرك مناسب للظرفية؛ لأن كل واحد له فيه جزاء مظروف منه. قوله تعالى: (وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ). قال ابن عرفة: اعلم إنه تارة يكون المقصود نفي الثاني، والمقصود هنا ملزوم الشرطية، وهو أنه لَا يجتمع وجود ملكهم لما في الأرض ومثله وجه؛ مع عدم اقتدائهم به من سوء العذاب. قوله تعالى: (وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ). ابن عرفة: يحتمل أن يريد ما عظموه [حق*] تعظيمه، وهو مقتضي كلام المفسرين، ويحتمل أن ما عظموه مطلق تعظيمه؛ وهو الصواب، لقوله تعالى: في سورة الأنعام (إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ) فهم أنكروا الرسالة، فلو عظموه [في مطلق التعظيم] لصدقوا الرسول الوارد عنه، والقرآن يفسر بعضه بعضا. قيل لابن عرفة: تأكيده بالمصدر دليل على أن المراد أخص تعظيم، فقال: التأكيد يشعر بأن المراد التعظيم الواجب التكميلي. قوله تعالى: (وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ). قال ابن عرفة: عادتهم يوردون: فيه سؤالا، وهو أنه ما المناسبة لتعقبه بهذا مع هذا لَا يعقب إلا بما يناقضه، فيقال: ما عظمت زيدا؛ وهو شجاع عالم محظي عند الأمير؛ فتأتي بما يناقض عدم تعظيمك له في الحال لَا في المستقبل، ولا تقول: ما عظمت زيدا وهو بعد عشرين متصف بالشجاعة والعلم والحظوة، فالمناسب كان عدم تقييد الجملة بيوم القيامة، وأجيب: بأن العلم بتحقيق وقوع ذلك في المستقبل كاف في حصول التصديق به، واتصاف فاعله بكمال القدرة؛ لأن بعثة الرسول عندنا جائزة، وقد أخبر الرسول بوقوع المعاد الدار الآخرة، وهو حاصل بالدليل السمعي، ونسب الطي للسماوات دون الأرض لعظمتها، فكبر جرمها بالنسبة إلى الأرض؛ فليس وجوب المعاد مستفاد بالدليل العقلي إلا عند المعتزلة القائلين بالتحسين والتقبيح. قوله تعالى: {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ ... (74)} ابن عرفة: قالوا: لم عطفه بالواو؟ فأجابوا: بأنه لو لم يعطفه لتوهم إنه من تمام المقاولة مع الملائكة، كأن قائلا يقول: بالذي أجابوا به الملائكة، فيقال (الْحَمْدُ

(75)

لِلَّهِ)، فلما عطفه بالواو دل على أنه معطوف على قوله تعالى: (وَفُتِحَت أَبْوَابُهَا)، وما بينهما جملة اعتراض. فإن قلت؛ هل قال: (صَدَقنَا) في خبره؟ فالجواب: أن الصدق في الخبر واجب، والوفاء بالعهد مختلف فيه، قيل: يجب، وقيل: لَا يلزم؛ وإذا صدق حيث لا يلزم الصدق، فأحرى أن يصدق حيث يلزم الصدق، فهو من التنبيه بالأدنى على الأعلى. قوله تعالى: {وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ ... (75)} يحتمل أن يريد حوله في [مقعَّره*] من داخل، [أو في مخْرجه من خارج،*]، وهو الذي تقدم لنا؛ هل خارجه [الخلا والملا*]؟ قوله تعالى: (حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا). كان بعضهم يأخذ من هذه الآية أن جاء لَا يصدق إلا على من مضى ووصل إلى الشيء، بخلاف قولك: مضى زيد لعمرو، فإنه يحتمل أن يكون رجع من الطريق، وبقي المعنى مستفاد من قوله (وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا)، فما أفاد جاء إلا لدخول المحل. * * *

سورة غافر

سُورَةُ غَافِرٍ (الْمُؤْمِن) قوله تعالى: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ ... (7)} قال الزمخشري: قيل: خلق الله تعالى خلقا يقال له: [إسرافيل*]: زاوية من زوايا العرش على كاهله. ابن عرفة؛ إنما هذا إذا قلنا: إن السماء بسيطة، وأما إن كانت [كورية*]؛ فلا يحتاج إلى حامل، لأن الكورة تحمل بعضها بعضا، نعم إن مجموعها محتاج أن تحل بمستقر. ابن عرفة: وهذا دليل على أن الملائكة أجسام لطيفة، وهو مذهب أهل السنة. قوله تعالى: (وَمَنْ حَوْلَهُ). يحتمل أن يكون حاملا ولا محمولا، أي لَا يكون ظلا؛ فيكون معطوفا على الذين يحملون العرش وخبره يسبحون. قوله تعالى: (وَيُؤمِنُونَ بِهِ). الزمخشري: ما فائدة قوله تعالى: (وَيُؤمِنُونَ بِهِ)؟، فأجاب: بأن فائدته إظهار شرف الإيمان والحض عليه. قال ابن عرفة: وعادتهم يجيبون بجواب آخر: وهو احتمال عود الضمير المجرور بأن على الحمد، أي ويؤمنون بحمد ربهم، بمعنى أنهم يعتقدون أنه المستحق للحمد؛ فإنا قد نجد في الدنيا بعضنا يحمد بعضا في الظاهر دون الباطن. قوله تعالى: (رَحْمَةً وَعِلْمًا). العلم عام، والرحمة إما عامة فما من عذاب منزل إلا وفي علم الله تعالى ما هو أعظم منه، وإما أنه مخصوص بذلك وبالغائب. قوله تعالى: (فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا). احتج بها المعتزلة، ونحن نقول: إما أن المعاصي أقل والتوبة هنا من الكفر لقوله تعالى: (وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا)، وإما أن التوبة من الذنوب والمعاصي مسكوت عنه، وهذا الدعاء مقبول من البعض قطعا.

(8)

قوله تعالى: (وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا). أي وجبت. قوله تعالى: (أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ). حجة لمن يقول من المحدثين: إن الصاحب هو من دام الصحبة معك، خلافا لأكثر المحدثين في قولهم: إن الصاحب من رأى النبي صلى الله عليه وسلم وجلس معه ولو لحظة. قوله تعالى: (الَّذِينَ كَفَرُوا). [المراد*] من قريش، وشبه حالهم في عذابهم وإهلاكهم، [بحال*]: أممهم السالفة أو عام فيهم، وفي الأمم السالفة، وشبه إهلاكهم في الدنيا إهلاكهم في الآخرة الموعود بوقوعه بهم. قوله تعالى: {رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ ... (8)} قال ابن عرفة: عادتهم يقولون: إن الدعاء تحصيل الحاصل؛ لَا يجوز إذ لَا فائدة فيه؛ ووعد الله حق واجب وقوعه، وقال تعالى (جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا)، قال: وأجيب: بأن الدعاء يتم لمن اتصف بالتوبة، واتباع سبيل الحق والدعاء لمن أحل بعض ذلك؛ لكن يلحقه بروحه في وفاته، ويدخله الجنة التي وعد المتقين، وراعى في هذه المعطوفات السبقية في الزمان، فالأب أنسب ثم الزوجات ثم الأولاد. وقوله تعالى: (إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ). مع أن المناسب الغفور الرحيم إشارة أن هذه النعمة محض تفضل منك ولا يجب عليك شيء. قوله تعالى: {الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ ... (17)} قال ابن عرفة: هذا احتراس أو تتميم، أما تقرير كونه احتراسا فلأنه لما تقدمها (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ)، فقد يتوهم مَن [وُصف الزيادة*] في الحدود، فاحترس من ذلك بما يتضمن أن من [صفته*] العدل؟ فيجزي كل نفس ما كسبت لَا يزيد عليها ولا ينقص، وأما تقدير كونه تتميما، فلأنه لما تقدم اختصاص الله تعالى يومئذ بالملك والقهر والغلبة تممه بأن السلاطين والجبابرة أذلاء محكومون، فهو ينصف المظلوم من ظالمه؛ وإن كان جبارا عنيدا، [**وخبره بما كسبت وما كسب؛ فعلى قراءة

(18)

السالكون]: المراد نجازي كل نفس بسبب كسبها الذي كسبت، فيرجع [سببه للجزاء*] وهو الثواب والعقاب، والجزاء يطلق على الإثم وهو المجزى به، وعلى المصدر، وهو [المجازاة*] وهي المحاسبة. قوله تعالى: (لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ). مع أن الظلم منفي عن الله تعالى في الدنيا والآخرة، لكن التقييد بالظرف راجع إلى النَّاس فيما بينهم، أي لَا يظلم بعضهم بعضا يوم القيامة بخلاف الدنيا. قوله تعالى: {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ ... (18)} يحتمل أن يكون الظرف والعامل فيها ما في (الآزِفَةِ)، أي يوم الواقعة القريبة إذ الحناجر، ويكون عبر بإذ عن المستقبل بالتحقيق، كقوله تعالى: (أَتَى أَمْرُ اللَّهِ). فإن قلت: المضاف إليه لَا يعمل، قلنا: قد عملت الجوامد، كقوله: أنا ابن جارية إذ حد النظر؛ وأحرى المضاف إليه، وجعله أبو حيان بدلا من قوله (يَوْمَ الآزِفَةِ) وأعرب (يَومَ الآزِفَةِ) مفعولا؛ فأخرجها عن الظرفية، وجعله من عمل الفعل في المفعول به لَا في الظرف. قوله تعالى: {وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ ... (20)} يحتمل أن يريد بالقضاء الحكم فقط، ويحتمل الحكم والفعل، فيكون فيه شبهة للمعتزلة في أنه لَا يفعل القبائح؛ يحتمل أن يريد بالحق الأمر المستلزم للثواب، فحينئذ ترك هذه الشبهة، ويحتمل أن يريد به نفس الحق الذي هو ضد الباطل، وهذا إما في الدنيا والآخرة فهو الصواب، كقوله تعالى: (وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ)، أو هو في الدنيا فقط. قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَسِيرُوا ... (21)} يحتمل السير الحسي بالنظر في آثار الأمم السالفة وفي مساكنهم، وحمل السير المعنوي بالنظر في كتب التاريخ، ويؤخذ منه أن التواتر يفيد العلم، وأن العلم الحاصل عن التواتر نظري لَا ضروري؟ وفيه خلاف، قيل: إنه نظري، وقيل: إنه ضروري، وهذه الآية تدل على أنه نظري، كقوله (فَيَنْظُرُوا)، لكن هذا إن أريد به النظر بالفكر، إما أن أريد به النظر بالبصر والسير الحسي؛ فلا يؤخذ منه ذلك. قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (23)}

(24)

ابن عرفة: كررت هذه القصص في القرآن كثيرا؛ وذلك لكثرة الوفود الواردين على النبي صلى الله محليه وعلى آله وسلم؛ [فيسمعها*] قوم، ولم يسمعها آخرون، فأنزلت القصة عليه لأجلهم بلفظ آخر، إما بحسب اختلاف الأذهان والعقول، وإما لأن الإخبار بها إذا أنزلت بلفظ آخر خاص بالنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لَا يسمع من غيره، بخلاف ما لو نزلت بلفظها الأول لكان يقول بعض الصحابة ممن سمعها قبل ذلك يشارك النبي صلى الله محليه وسلم في الإخبار بها للوفود الواردين عليه. قال: والآيات المعجزات والسلطان المبين راجع إلى التحدي بها والاحتجاج، فهو من قبيل الإرجاع، كقولك: جاءني الشيخ والرجل الصالح، أو يكون السلطان راجع إلى ظهور المعجزة إلا المقترح، قال: وليس من شرطها ظهورها أو راجع إلى نتيجتها، قوله تعالى: (لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ) يحتمل أن يكون من باب العدم والملكة؛ فهم يعبدون ولا ينفعهم، أو من باب السلب والإيجاب؛ مثل الحائط لَا يبصر فهم لَا قدرة لهم على العبادة بوجه. قوله تعالى: {فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (24)} إما أن بعضهم، قال (سَاحِرٌ)، وبعضهم قال: (كَذَّابٌ)، أو كل واحد منهم قال ذلك، وهل المراد (كَذَّابٌ) ب الإطلاق، أو كذب في سحره إشارة إلى أن سحره توبة وتقوى وليس بحقيقي؛ لأن السحر عندهم محمود، إذ هو علم من العلوم، وعلى هذا فيكون أطلق الكذب على الفعل، وقد تقدم في حديث سليمان؛ حيث كان يظهر أنه يفعل ولا يفعل، أنه يؤخذ منه عدم إطلاق الكذب على الفعل، وظاهر كلام ابن التلمساني في باب الإخبار في صحة إطلاق الكذب عليه ونحوه لابن عطية في قوله تعالى: (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا). قوله تعالى: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنَا ... (25)} مع ما قبلها إشكال. لإيهامه أنه قبل ذلك [لم يكن جاءهم*]، كقولهم: جئت زيدا، فلما أخبرته بقصة عمرو خرج مسافرا، فمفهومه أنه قبل المجيء لم يخبره بذلك، فيلزم منه أنه يجيبهم بالحق، قيل ذلك بدليل قوله تعالى: (فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذابٌ)، والجواب: إنه أولا لم يدعهم إلى الإيمان، بل أتى بالمعجزات فقط، ثم لما دعاهم إلى الإيمان، قالوا ذلك، واعلم أن المبتدأ لَا يحذف إلا إذا كان الخبر لَا يصلح له؛ وكذلك هذا هو عندهم لَا يصح أن يوصف بالسحر إلا هذا الرجل. قوله تعالى: {وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ ... (27)}

(38)

من باب عطف الصفات لَا الموصوفات، لئلا يلزم عليه تعدد الآلهة. فإن قلت: هلا قال: ربنا، فيغلب ضمير المتكلم، لأنه الأصل؟ فالجواب: إنه قال (وَرَبِّكُمْ)، ليدخل فيه فرعون وقومه، ولو قال: وربنا، ما دخل فيه فرعون. قوله تعالى: {يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ (38)} ابن عرفة: اتبعوني بالإيمان، كقولك: قال الصالح: اتبعوني في الصلاح. وقال الفقيه: اتبعوني في الفقه. قوله تعالى: {إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ ... (39)} أي تمتع زائد، والتمتع أمر عرضي، والعرض لَا يبقى زمنين، والقرار وهو دائم لأن مذهبنا: أن الأجسام فانية؛ ولابد لها من مستمر، والمتاع راجع إلى نفي المانع، والقرار راجع إلى وجود المقتضي؛ لأن التمتع مانع من الزهد في الدنيا والتقشف، وكون الآخرة دار مستقر تقتضي وجود الحرص على [الأسباب الموصلة*] إليها. قوله تعالى: {بِغَيْرِ حِسَابٍ (40)} أي رزقا كثيرا دائما غير منقطع؛ لَا يحاسبون على كثيره بشيء. قوله تعالى: {فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ ... (44)} ابن عرفة: كان بعضهم يقول في مثل هذا، وفي قوله تعالى: (مَا وَعَدَ الرَّحْمَن وَصَدَقَ الْمُرسَلُونَ)، إنما المخبر بالشيء قبل وقوعه؛ تارة يخبر به لموجب ودليل عام عنده، وتارة يكون خبره لغير موجب، فإن أخبر به لموجب ثم وقع نحو ما أخبر به كان خبره صدقا، وإلا كان اتفاقيا ولم يكن صدقا، وكان يستشهد على ذلك بقول مالك رحمه الله فيمن حلف بالطلاق؛ لتمطرن السماء غدا فأمطرت؛ فإنه تطلق عليه زوجته؛ لأن ذلك أمر اتفاقي لَا دليل عليه، فمعنى الآية سيظهر لكم صدقي وتندمون على اتباعي فيه؛ وتعلمون أني إنما قلته لكم لدليل ظهر لي وخفي عنكم. قوله تعالى: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا ... (46)} نقل ابن عطية، عن الأوزاعي، أنه قال له رجل: [إني رأيت طيورا بيضا تغدو من البحر ثم ترجع بالعشي سودا مثلها، فقال الأوزاعي: تلك هي التي في حواصلها أرواح آل فرعون يحترق رياشها وتسود بالعرض على النار*].

(47)

قيل لابن عرفة: وكيف تغدو من الغد [بيضا*]؟ فقال: لعل تلك الأرواح تنتقل من الغد إلى حواصل طيور أخرى بيض، أو لعل تلك الطيور نبت لها من الغد ريش أبيض؛ لأن ذلك خرق. قوله تعالى: {وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ ... (47)} قال ابن عرفة: عادتهم يقولون: المحاجة مفاعلة واقعة من الجانبين؛ وهي هنا واقعة من الضعفاء فقط، وأما المستكبرون فإنهم قالوا: [إِنَّا كُلٌّ فِيهَا*]، وهذا ليس باحتجاج ولا جواب مع أن قول الضعفاء أتى كالتفسير للمحاجة، قال: وتقدم الجواب بأن الجملة المفسرة إنما تأتي غير معطوفة، والعطف يقتضي المغايرة إلا في قليل، كقوله تعالى: (وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ) فهذا ما خرج عن ذلك؛ فلم يفسر والآية مخاطبتهم، بل ذكر ما يقولون بعد تمامها. قيل لابن عرفة: أو يكون قول المستكبرين: إن الله قد حكم بين العباد هو الجواب: أي حكم بمساواتكم لنا في العذاب، فلا طاقة لنا على [تخفيفه*] عنكم. قوله تعالى: {وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (50)} يؤخذ منه منع أهل الذمة من الخروج مع المسلمين للاستسقاء في دار الدنيا، وقد قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، لمعاذ لما بعثه إلى اليمن [وأهلها*] كفار: "واتق دعوة المظلوم فإنها ليس بينها وبين الله حجاب". قوله تعالى: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ... (51)} ابن عطية: هذا إما عام مخصوص؛ لأن في الأنبياء من قتله قومه ولم ينصر عليهم كيحيى، وإما لأن المضرة واقعة بين وفاة من قتل منهم بالانتقام له في قومه في الدنيا. ابن عرفة: فإن قيل: أن يحيى عليه السلام ليس برسول فالمقام باق على عمومه، قلنا: هو داخل في عموم قوله تعالى: (وَالَّذِينَ آمَنُوا). قوله تعالى: {وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ ... (52)}

(53)

الأصل [أن*] يقال: وعليهم اللعنة، لكن كان بعضهم يقول: عبر باللام المقتضية للملك والاستحقاق وإشعار استحقاقهم اللعنة، كأنهم حائزون لها [حوز المالك لها*]. قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى ... (53)} ابن عرفة: هو [التوراة*] وأسباب الرشاد. قوله تعالى: (وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ). عبر بالوراثة؛ لأن بني إسرائيل طوائف تنتقل فيهم التوراة من جيل إلى جيل، فكان بعضهم يرثها عن بعض. ابن عطية: والوراثة في حق الصدر الأول منهم مجاز. ابن عرفة: بل حقيقة؛ لأنهم ورثوها عن موسى عليه السلام؛ وصاروا بعد موته هم القائمين بها؛ وعنهم أخذها أولادهم. قوله تعالى: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ (55)} إن أريد به حقيقة الذكر؛ فيكون من باب ضربته الظهر والبطن، فالأمر بالتسبيح عام في كل الأزمنة، وإن أريد به الصلوات الخمس؛ فيكون على ظاهره وحقيقته، واختلفوا، ما الأفضل: فالصحيح أن الفكر في أوقاته المعينة في الحديث أفضل من قراءة القرآن في غير ذلك الوقت أفضل من الذكر. قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ ... (56)} قال ابن عرفة: فإن قلت: ما فائدة قوله تعالى: (أَتَاهُم)، مع أنه مستغن عنه؟ قال: عادتهم يجيبون: بأن السلطان المراد به الموجب، أي بغير شبهة توجب لهم عذر. قيل لابن عرفة: السلطان هو الدليل لَا الشبهة، فقال: بل المراد به هنا الموجب، ومنهم من أجاب: بأن المراد الدليل النقلي والعقلي، فقوله تعالى: (بِغَيرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُم) إشعار نفي الدليل السمعي، وقوله تعالى: (إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ)، إشعار بنفي الدليل العقلي، فدل على أن كفرهم [عناد*]. قوله تعالى: (وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ). قال ابن عرفة: إن قلت: لم كرر (لَا) في قوله تعالى: (وَلَا الْمُسِيءُ (58) .. ، ولم يذكرها في قوله تعالى: (وَالْبَصِيرُ)؟

(60)

قال: عادتهم يجيبون: بأن عدم مساواة الأعمى والبصير ظاهرة لَا تخفى على أحد، وعدم مساواة المسيء للصالح خفية لَا يدركها إلا من اطلع على حالهما معا، فلذلك كرره. قوله تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ... (60)} قال: عادتهم يقولون: القرآن كله [قول الله تعالى*] فتخصيصه بنسبته إليه لَا بد له من فائدة، وهي الاعتناء بهذا، [وأن سُؤلك*] لَا يسوغ تركه، وقوله تعالى: (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ)، ولفظ الأمر فيه زيادة الإشعار بتأكد الطلب. قال ابن عطية: ومعناه إن شئت ذلك. قال ابن عرفة: لَا حاجة إلى تقييده بالمشيئة، لأن هذه الشرطية مطلقة كما تقدم لنا في الجواب عن الإشكال الوارد في قوله تعالى: (وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ)، قال: وبيان ذلك أن القائل لزوجته: [إن دخلت الدار*] فأنت طالق، فلا تطلق [بالدخول*] إلا مرة واحدة، ولا يتكرر عليه الطلاق بدخولها مرارا، فالمطلق يصدق وقد وجدنا بعض [الداعين*] يستجاب، فتصدق الشرطية بذلك، أو يجاب: بأن كل داع يستجاب له، ومن لَا يستجاب له لم يكن أخلص النية، أو استجيب له بإدخال الثواب باستجابة الدعاء وحفظه الليل والنهار ونقصه، والخبر هو المبتدأ لكن أفاد بما ذكر معه من الأوصاف، وقدم هنا صفة الخلق على كلمة التوحيد، وعكس في الأنعام لتقدم ذكر المخلوقات هنا. قوله تعالى: {فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (62)} استغراب وتعجب من صرفهم على الإيمان به، ثم قال: كذلك [يؤفك*] على وجه التسلية للنبي صلى الله عليه وسلم، و [يؤفك*] حكاية حال ماضية، أي كذلك فعل الذين من قبلهم. قوله تعالى: {وَالسَّمَاءَ بِنَاءً ... (64)} ابن عرفة: انظر هل يؤخذ أنها [كورية*]، وأنها كالقبة، فهي [نصف*] دائرة، لكن يقال: لو كانت نصف دائرة لانكشف عنه دورانها. قوله تعالى: (وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ). قالوا: الإنسان هو أحسن الحيوانات خلقا، كما قال الله تعالى (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ).

(66)

فإن قلت: إنه غير عام فإن فيه الأعرج والأحدب والأعمى، قلنا: أحكام الخلق لها اعتبارات، فإن اعتبر بالنسبة إلى المفعول فيرد ما قلتموه، وإن اعتبر بالنظر إلى الفاعل فإِنه عام؛ لأنه فعل كله بحكم متقن دال على [اتصاف*] فاعله بالقدرة والإرادة وصفات الكمال، وتفاوته لَا يقدح في إبداعه، ويحتمل أن يقال: إن كل أحدب هو أحسن من غيره من الحيوانات، فمن هو أحدب وأعمى من النَّاس أحسن من أعمى من غيره. قوله تعالى: {قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ... (66)} قال ابن عرفة: التعبير عن المنع عن الشيء بلفظ النهي يشعر بأن المكلف بذلك كان ملتبسا به قبل النهي، والنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لم يعبد آلهتهم قط، وفرق بين قولك: لَا تفعل كذا، وبين قولك: نهيتك من فعل كذا، فالأول: يقتضي المنع المطلق، والثاني: يقتضي المنع مما أنت فاعله. قال: والجواب: أن النهي عن المنتهي يقتضي اتصاف أمثاله به، والنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، كان بين أظهر المشركين فنهي عن أن يتصف بصفاتهم، قال: وعادة الشيوخ يذكرون سؤالا موردا في حسن الائتلاف؛ وهو لم [أسند*] لفظ العبادة ولفظ الدعاء لآلهتهم، وهلا قال: أن أعبد الذين تعبدون، أو يقول: أن أدعو الذين تدعون، أو يقول: إن الذين تعبدون فما السر في ذلك؟ قال: فأجابوا: بأن المراد بالعبادة الخضوع، أي نهيت أن أخضع للذين [دعوتموهم*] آلهة، والخضوع يستلزم أن يدعوهم آلهة بل هو أعم، فناسب إسناد النهي للأعم المطلق؛ لكونه يستلزم النهي عما فوق من باب [أحرى*]، فاستعمل الأخص في الثبوت والأعم في النهي. فإن قلت: قوله تعالى: (لَمَّا جَاءَنِيَ الْبَيِّنَاتُ مِنْ رَبِّي)، مفهومه أنه كان متصفا بذلك قبل مجيء البينات؟ فالجواب: بأن النهي له والمراد غيره، وإما أن يراد بالبينات مطلق الوحي المنزل عليه وعلى من قبله من الأمم، ولا شك أنه كان حين بلوغه متشرعا بشريعة إبراهيم صلى الله عليه وعلى آلهما وسلم، وإنما يرد السؤال لو قلنا: المراد لما حضر زمن إرساله ونزول الوحي عليه. قوله تعالى: (وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ).

(69)

المراد بالإسلام العملي الراجع للصلاة والصوم والزكاة، والأول أمر عملي اعتقادي، والنهي عما تقدم إما بالشرع أو بالعقل أو بهما، فيرجع إما للحكم فهو شرعي، أو للدليل فهو عقلي أو لهما معا. قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ ... (69)} قال ابن عرفة: لما تضمن الكلام السابق التنبيه على كمال الله تعالى بالقدرة، وأخرج عالم الإنسان من العدم للوجود، وتصويره ونقله من حال إلى حال، ثم نقل إلى حالة العدم، واتصافه بالحياة والوحدانية عقبه بذم حالة المجادلين في آيات الله مع وضوحها، وآيات الله إما القرآن وإما المعجزات. ابن عرفة:، وتقدم في الآية سؤالا قد خفي ظهوره، وهو أن الجملة المتضمنة لمعنى إذا؛ عقبت بالإنكار، فإنما يريد فيها نقيض لازم ذلك المعنى، ولا يتكرر فيها عين لازمه، تقول: أحسنت إليك فكيف تكفرني، ولا تقول: أحسنت إليك فكيف تشكرني، لأن الشكر من لوازم الإحسان والإنكار هنا تسلط على صرفهم عن الآية وهو عين لازم المجادلة فيها، قال: والجواب: أن ذلك إذا كان هو العجب بأمر خارجي عن المعنى الأول، فحينئذ تؤتى فيه بعين اللازم، كقولك: من لم يعلم إنتاج الشكل الأول فكيف يدرك بعقله إنتاج الشكل الثاني، وهنا التقدير كيف تجادلون فيها وأنى يصرفون عن المانع من خبر الذم. قلت: وقال ابن عطية في قوله تعالى: (لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ) أي كيف تصرفون عن طريق النظر والهدى. وقال الزمخشري: كيف ومن أي وجه تصرفون عن عبادته إلى عبادة الأوثان. قوله تعالى: {فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (70)} وفيه الفاء للتعقيب وسوف للتنفيس، فكيف صح الجمع بينهما؟ فالجواب: إن التعقيب لذات الشيء، والتنفيس للعليم بذلك، وفرق بين كون الأغلال في أعناقهم وعلمهم قبل نزوله بهم ليس كعلمه بعد حلوله بهم. قوله تعالى: {وَالسَّلَاسِلُ ... (71)} بالخفض. ابن عطية: على [النصب*]، أي إذ أعناقهم في الأغلال والسلاسل، مثل: أدخلت القلنسوة في رأسي.

(74)

قال ابن عرفة: وكان يمشي لنا أنه على ظاهره وليس على القلب، والمراد أن الأغلال في السلاسل، والسلاسل في أعناقهم، فالأغلال في أعناقهم، وقد أراني الفقيه أبو سعيد الغبريني أثر القيد في عبد تهادت ساقه [**طرفا] لهم، وهم يجرونها. قوله تعالى: {بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُو مِنْ قَبْلُ شَيْئًا ... (74)} قال ابن عطية: فدعوا إلى الكذب وهذا من أشد الاختلاط وأبين الفساد. وقال الزمخشري: أي شيئا، أي نبين لهم أنهم لم يكونوا شيئا، كما تقول: حسبت أن فلانا شيئا، فإذا هو ليس بشيء. قوله تعالى: (كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ). ابن عرفة: مثل ضلال الأصنام وغيبتهم عنهم في الآخرة، يضل الله الكافرين في الدنيا [حين*] طلبوا الآلهة وطلبتهم الآلهة [لم يتعارفوا*]. قلت: والمعنى على ما قال ابن عطية، أي مثل ضلالهم في الآخرة بكذبهم في إنكارهم عبادتهم الأصنام فضلهم الله في الدنيا لعبادتهم لها. قوله تعالى: {ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ ... (75)} ابن عرفة: [يوجب*] أن الفرح بغير الحق كبيرة لترتب العقاب الأبدي عليه. فإِن قلت: العقاب عليه وعلى المدح بعاقله هل هو على كل واحد منهما بانفراد؟ قال: وانظر هل الفرح بغير المباح داخل في ذلك أم لَا؟ قلنا: تجري على الخلاف في المباحِ هل هو حكم شرعي أو لَا؟ وتقدم [نظيره*] في قوله تعالى: (أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا). قوله تعالى: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ ... (77)} قال ابن سلامة في شرح أسماء الله الحسنى: صرح مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا قام من الليل يصلي، يقول: "اللهم لك الحمد أنت نور السماوات والأرض" الحديث، وفيه: "أنت الحق، ووعدك الحق، وقولك حق، ولقاؤك حق، والجنة حق، والنار حق والساعة حق"، فلما ذكر ذات الله وصفاته عرف الحق بالألف

(78)

واللام، ولما ذكر لقاء الله والجنة والنار نكر الحق ليظهر الفرق والله أعلم مبين ذاته وأفعاله، وأنه الحق الذي لم يكن لغيره وإن كان حقا سواه قائما هو به وبإثباته لولي. ابن عرفة: أراد أنه عرف الحق الذي هو صفة ذات وصفة نفس، لأن الوعد هو الكلام وكلام الله نفسي لَا لفظي لكن ترد عليه تنكيرا في هذه الآية. قوله تعالى: (فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ). قال ابن عرفة: هذه شرطية متضمنة مانعة الخلو من غير مقدمها ونقيض تاليها، أي فإما نرينك قبل وفاتك وبعض الذي نعدهم أو نتوفينك قبل ذلك فإلينا يرجعون فتنتقم لك منهم على كل حال لهم، قوله تعالى: (وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ ... (78) .. أي إلا بأمر الله أو لَا يخلق الله القدرة على ذلك. قوله تعالى: (قُضِيَ بِالْحَقِّ). راجع إما للحكم أو التنفيذ، والمراد به تنفيذ الحكم الواقع أزلا وهو إظهاره. قوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا ... (79)} قال الزمخشري: [الإبل خاصة*]. وقال ابن عطية؛ هي الأزواج الثمانية. وقال الطبري: إن الأنعام في هذه: يعم البقر، والإبل، والغنم، والخيل، والبغال، والدواب، وغير ذلك. ويحكي ابن [رشد*] في البيان قولا: بأن الأنعام يدخل تحتها الظباء. قوله تعالى: (لِتَرْكَبُوا مِنْهَا). كان بعضهم يقول للفعل لأنه فعل للعلة لأن الله تعالى لَا يفعل [للغرض*]، لكن أفعاله معللة شرعا. قوله تعالى: (وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ). هذا من عطف العام على الخاص لأن المركوب خاص ببعض النَّاس، وخاص بالإبل والأكل عام في جميع النَّاس، وعام في جميع الأنعام. قوله تعالى: {وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ ... (80)} من عطف الخاص على العام؛ لأن المنافع خاصة في جميعها من الصوف والوبر وغيره.

(82)

قوله تعالى: {كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ ... (82)} راجع إلى الملائكة، وقوله (وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ) للكيفية وشدة القوة تارة يظهر آثارها، وتارة لَا يظهر لها أثر، ويؤخذ منه أن التواتر يفيد العلم لأنا نشاهد آثار من مضى وأعمالهم وآنيتهم ولا نعلم إنها آثارهم إلا بخبر التواتر. قوله تعالى: (فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ). إما نفي أو استفهام على سبيل الإنكار والعجب. قوله تعالى: {فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ ... (83)} حكى الزمخشري فيه [وجوها: منها: أنه على طريق التهكم في قوله تعالى بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ: وعلمهم في الآخرة أنهم كانوا يقولون لا نبعث ولا نعذب*]. * * *

سورة فصلت

سُورَةُ فُصِّلَتْ قوله تعالى: {وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ ... (5)} قال ابن عرفة: هذه إشارة إلى إنكارهم الدليل العقلي الدال على وجود الله ووحدانيته. قال الشيخ: اليوم قطعة من الزمان. فإن قلنا: الزمان حركة الفلك فما معني اليومين إذ ذاك، فإن قلت: الزمان عبارة عن مقارنة حادث لحادث ولا يلزم عليه ما ذكرت، قلت: ذلك كلام خرج من قائله على غير تحصيله وإلا فيلزم إن كان زمان مضى زمان أصلا؛ لأنه قد انقضى ولم [يزل*] الحادثان، ويلزم أن نكون نحن صحابة؛ لأن زمانهم لم يزل يطلق على زمان مع حدوثنا نحن، وهذا كله باطل. قال الشيخ: وسؤال الزمخشري هنا أنه لم ينثني عمل انحصاره، قلت: فيما قاله [نظر*] بل ينبغي أن [نفسر*] الآية بغير ذلك ولا يلزم عليه سؤال، وهو أن قوله تعالى: (وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا) الآية ليس معطوفا على خلق الأرض وإنَّمَا ذلك كلام قديم، وثَمَّ محذوف تقديره فعل ذلك واسمها (وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ). إن قلت: خطابه لهما هل هو حقيقة أم لَا؟ قلت: اقتران الأمر بذلك الطوع والكره دليل على أن كلامه لهما حقيقة، لأن الطوع والكره لَا يكون إلا من المخاطب حقيقة الموصوف بالحياة، وكذلك قوله تعالى: [(أَتَيْنَا) *] دليل على أن كلامهن حقيقة. قوله تعالى: (وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ) إنكار منهم للدليل السمعي الدال على وجود المعاد والدار الآخرة. قوله تعالى: (وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ). إنكار للمعجزات المرسلات بالبصر، فأنكروا المعقول والمسموع والمبصر. قوله تعالى: {فَإِنْ أَعْرَضُوا ... (13)} ابن عرفة: علقه بالإعراض وهو أخف من التكذيب ومن التولي ليفيد العقوبة على ما فوقه من باب أحرى.

(14)

قال: وفي الآية دليل على وجوب النظر، قال: والتعبير بلفظه أن فعلهم حتى كأنه غير واقع منهم اعتبارا بالأمر الشرعي لَا العادي مثل صاعقة [عاد وثمود*]. قال ابن عرفة: إن كانت صاعقة ثمود مثل صاعقة عاد لزم التكرار من غير فائدة، وإن كانت مخالفة لها لزم مماثلة الشيء بواحد لأمرين مختلفين وهو باطل، قال: والمثلان عند الفقه باعتبار العادة هما المتساويان في الأمور الأعمية من جميع الوجوه، وعند المتكلمين هما المتفقان في صفات النفس وإن اختلفا في الأمور الأعمية فإِن كانت هذه الصاعقة فلأنها في تشبيهها بصاعقة ثمود، وإن كانت مماثلة لأحدهما ومخالفة للأخرى فلا يصح التشبيه، قال: وتقدم الجواب بأن التعدد في التشبيه مبالغة في تأكد العذاب وتكرره، وإنه يحل ببعضهم صاعقة كصاعقة عاد، ويحل ببعضهم أخرى كصاعقة ثمود. قلت: فالمماثلة في وقوع الصاعقة من حيث كونها آية والمخالفة في صفتها. قوله تعالى: {إِذْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ ... (14)} ابن عطية: أي في أول تكليفهم، (وَمِنْ خَلْفِهِمْ) أي في آخر عمرهم. الزمخشري: (مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ) أي من بين أيدي الأمم ومن خلفها الرسل المرسلين إليهم، أي جاءتهم رسل بعد رسل. قوله تعالى: (لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً). ابن عرفة: الصواب تفسير لها أي لو شاء الله إرسال الرسل لأنزل ملائكته لكنه لم ينزل فلم يرسل رسلا. ولكن كما قال أبو حيان: لما صح الاستثناء لأنه يكون التقدير: لكنه لم ينزل ملائكة فلم يرسل إلينا ملائكة، والغرض أنه كذلك وقع فلم يتم له، فالصواب أنه يرد مفعول بشاهد غير جواب لواو لازمة. قوله تعالى: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا ... (16)} قال ابن عطية: (صَرْصَرًا) هو من صر يصر إذا صوت صوتا يشبه الصاد والراء، وكذلك يجيء صوت الريح أكثر الأوقات. قال ابن عرفة: قالوا: الطباق هو موافقة اللفظ للمعنى إما في الإفراد، كقولهم: [صرصر البازي*]، [وصرصر العصفور*]، وإما في التركيب، كقوله تعالى: (وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى (1) وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى (2) وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (3) إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى (4).

(17)

قال: (اللَّيْلِ) [مفارق*] للنهار، و (الذَّكَرَ) مفارق للأنثى، وكذا (سَعْيَكُم) متفرق مخالف بعضه لبعض. قال ابن عطية في الحديث: إن الله أمر خزنة الريح ففتحوا على عاد قدر حلقة الخاتم ولو فتحوا بقدر منخر الثور لهلكت الدنيا. قال ابن عرفة: وكان بعضهم يقول: إن عادا كفروا لقولهم: (مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً) فعذبهم الله تعالى بأضعف شيء من العناصر لأن الريح أضعف من جنس التراب والحجر وغير ذلك من العناصر تعجيزا لهم في افتخارهم بالقوة. ابن عرفة: قال: وهنا أيام نحسات، وفي سورة القمر: (فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ) فدل على صحتها. قال الأصوليون: في الواحد بالشخص، والواحد بالنوع، قيل لابن عرفة: هذا دليل على أن الزمان موجود لأن حلول الريح فيه دليل على أنه موجود، فقال: وكذلك هو عندنا لأنه حركات الأفلاك أو مقارنة حادث لحادث. قوله تعالى: (عَذَابَ الْخِزْيِ). مقابل لقولهم: (مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً) لأن الخزي هو الاحتقار. قوله تعالى: (لِنُذِيقَهُمْ). تعليل للفعل لأنه فعل العلة، أعني أنه ليس بفعل [للغرض*] فهو تعليل شرعي جعلي عقلي. قوله تعالى: {فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ ... (17)} قال ابن عرفة: تحامل الزمخشري هنا على أهل السنة وسماهم قدرية، فقال: ولم يكن في القرآن حجة على القدرية الذين هم مجوس هذه الأمة بشهادة النبي صلى الله عليه وسلم وكفى به شهيدا إلا هذه الآية. قوله تعالى: {وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ ... (19)} قال ابن عرفة: الظاهر لمن يقول لشخص: يا عدو الله إنه لَا يقتل لأنه إنما يقصد به المبالغة والمعصية، وربما يقوله بعضهم على جهة المدح، قيل له: مقتضى قوله تعالى: (مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ) إنه كافر، فقال الظاهر: إنه غير كافر. قوله تعالى: (فَهُمْ يُوزَعُونَ).

(20)

أي يجلس أولهم حتى يجيء آخرهم وكذلك مقتضى الجمع. قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا ... (20)} زيادة (مَا) للتأكيد أي حتى إذا جاءوها. وقيل: لتأكيد ملزومية الشرط للجزاء لأنها لتأكيد الشرط وحده. قال ابن عرفة: وحاسة البصر أفضل من حاسة السمع بدليل أن موسى عليه الصلاة والسلام أكرم بسماع الكلام الأزلي ولم [يحظ بالرؤية*]. قيل لابن عرفة: لم يكن في الأنبياء أصم، وقد كان شعيب عليه السلام أعمى فدل على أن الصمم عيب بخلاف العمى. قوله تعالى: (فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى). فهدى [ثمود*] بالضلال الذي هو مقابله. قلت: هو من حذف التقابل، فحذف من الأول لدلالة الثاني عليه، والتقدير: (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى). قوله تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ ... (33)} وقال تعالى (وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ)؟ ويجاب: بأنهما متساويان في الحسن، كما تقدم في قوِله تعالى: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ) (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ). قوله تعالى: {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ... (34)} إما ضدان أو نقيضان أو خلافان، فلا يصح أن يكونا نقيضين لأن عدم المساواة بين النقيضين معلوم بالبديهة، فهما ضدان لصحة ارتفاعهما عن الشيء الواحد فلا يكون حسنة ولا سيئة، ويحتمل أن يكون المراد لَا تستوي الحسنة ولا عدمها، وإن الحسنات في ذواتها متفاوتة فهي غير مستوية والسيئات كذلك بعضها أعظم من بعض. قوله تعالى: (فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ).

(35)

إن قلت: لم عبر بهذا ولم يقل: فإذا الذي هو عدوك؟ فالجواب: أن هذا يفيد حصول العداوة من الجانبين، وكل واحد منهما عدو لصاحبه، ولو قيل: فإذا الذي هو عدوك لَا، فإذا العداوة من أحد الجانبين فقط. قوله تعالى: {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35)} أي من الصبر أو من العقل ولا يحصل ذلك إلا من اتصف بالصبر، وهذا أخص من الأول. قوله تعالى: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ ... (36)} الزمخشري: النزغ هو النخس. ابن عرفة: وهذا على سبيل [الفرض*] كان ملزومية المقدم للتالي لَا يدل على وقوعه، مثل: (قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ)، ولذلك أتى فيه بكلمة إن قلت: هو حقيقة، قال: أو هو مجاز، وشبهه بعضهم بطائر مؤذ أغار على بستان فلا يؤذيه ولا يقصد إذايته لعلمه أنه لَا يقبل الإذاية لكنه يمر عليه ويقصد إذايته، ويمنعه من ذلك مانع، وتارة يقصد إذايته فيؤذيه، فالأول: حالة الشيطان عليه اللعنة مع الأنبياء عليهم السلام، والثاني: حاله مع الأولياء يوسوس لهم فلا يعطونه، والثالثة: حالة مع سائر النَّاس من العصاة. قوله تعالى: {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ ... (42)} ابن عطية: أي مما قبله من الكتب و (مِنْ خَلْفِهِ) أي مما بعده من نظر ناظر أو فكرة عاقل، أي لَا يتعلق به إبطال مبطل متقدم ولا متأخر. ابن عرفة: (مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ) على هذا متعلق بالباطل لَا يتأتى لأن يأتي مستقبل، و (مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ) مأمن له، قلت: أو يكون حالا من الباطل. قوله تعالى: {مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ ... (43)} فسر بمعنيين: أحدهما: [ما يقول لك كفار قومك إلا مثل ما قال للرسل كفار قومهم*]. الثاني: ما يقال لك من الوحي في الكتاب المنزل عليك إلا ما قد قيل للرسل في الكتب المنزلة عليهم، أو ما يقال لك من الوحي بالأحكام والشرائع إلا ما قد قيل [لغيرك*]، فالمقول له على هذا مثل ما قد قيل لغيره لأنه غير ما قد قيل لغيره.

(47)

ابن عرفة: ويحتمل أن يراد ما يقال لك من كلمة التوحيد واعتقاد ما يجب لله وما يستحيل عليه إلا ما قد قيل لغيرك من الرسل، فالمقول على هذا نوعين: ما قيل لغيره وهو كلمة لَا إله إلا الله. قوله تعالى: (إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ). ولم يقل: ذو مغفرة شاملة، كما قال تعالى (وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ) تغليبا للخوف على جانب الرجاء. قوله تعالى: {وَمَا تَخْرُجُ مِنْ ثَمَرَاتٍ مِنْ أَكْمَامِهَا ... (47)} أما معطوف على الساعة، أي داليه يرد علم الساعة، (وَمَا تَخْرُجُ مِنْ ثَمَرَاتٍ) فما موصولة فهو منحصر في علم الله، وإمَّا متصل بما بعده وما نافية. قال ابن عرفة: والثمرات بعد حصولها في الأكمام قد يدعي أحد علمها، وكذلك الحمل بعد ظهوره، وأما قبل حصول الثمرات في الكم فلا يقدر أحد أن يدعي علمها، وكذلك النطفة حين حصولها في الرحم لَا يعلم أحد لها بوجه، فلذلك أسند العلم إلى الله تعالى في حالة إمكان ادعاء العلمِ بها فأحرى في حال عدم ادعائه. قوله تعالى: (وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ ... (51) قال ابن عرفة: النأي عن الشيء البعد منه أقوى من الإعراض عنه، فلذلك عطفه عليه أو يكون الاعتراض من صفة المؤمن، والنأي من صفة الكافر أو هو قدر مشترك بين الجميع، وعبر هنا بالفعل مبالغة في ذمه بمطلق الإعراض، ثم عبر بالاسم، في قوله تعالى: (فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ) مبالغة في ذمه بكثرة الإلحاح وملازمته له عند نزول الشدائد به. قوله تعالى: (وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ). لأن العرض يستلزم الطول فكل عريض طويل والطويل قد لَا يكون عريضا. ابن عرفة: هذا لَا يصح، فإن الطول والعرض أمران نسبيان، فالشيء لَا بد له من طول وعرض، وكذلك الخيط لَا بد له من طول وعرض، والصواب كأن يقول: عظم العرض يستلزم الطول، والطول لَا يستلزم العرض، بدليل المفتول والحبل فإنهما طويلان قليلا العرض بخلاف [ما لو*] كان الشيء كثير العرض، فإن طوله إما أن يكون قدر عرضه، أو أعظم منه، ولا يكون أقل منه أصلا بوجه.

(53)

قلت: وأفصح ابن عطية في سورة آل عمران (وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ) فقال: الطول لَا يدل على قدر العرض بل قد يكون الطويل قليل العرض كالخيط، وانظر على الذم على مجموع أو على كل واحد منهما. قيل لابن عرفة: لو كان الذم على مجموعها للزم عليه المفهوم، فقال: يكون مفهوم أحرى لأنه إذا ذم على الإعراض عند النعمة والدعاء عند الشدائد، فأحرى أن يلزم عن الإعراض عند النعمة، وعدم الدعاء عند الشدائد. قوله تعالى: (عَرِيضٍ). إشارة إلى أنه ذو دعاء لكنه يعظم دعاءه، والحاجة عند الشدائد، وفرق بين قولك: هذا الثوب ذو عرض، وهذا الثوب عريض، فعريض أبلغ فعبر في الأول، بقوله: (إِذَا أَنْعَمْنَا)، وفي الثاني بالقسم إشارة إلى المبالغة من حيث إنه يعرض عند حلول كمال النعمة به، ويصح في الدعاء عند نزول أوائل السور، وأسند النعمة إلى الله تعالى [والمس*] إلى الشر على جهة الأدب. قيل لابن عرفة: بل هو حقيقة عند المعتزلة، فقال: لَا لأنهم يقولون: إن الأمراض والعلل ليست من فعل العبد، وعطفه هنا وفي الأحقاف بالواو، قوله تعالى: (مَنْ أَضَلُّ). ابن عرفة: جوابها إما مفهوم من الأول أي من أضل هو أو من [** (حس)]، وهذا مع قوله تعالى: في الأحقاف: (وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ) ينتج أنهما مستويان في الضلال. قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (53)} إن أريد بالشهادة لازمها وهو العقوبة والانتقام، فلفظ (شَيءٍ) خاص بالحادث، وإن أريد بها العلم والحضور فيعم القديم [والحادث*] وهذا خطاب للكفار والمراد به رؤساءهم، وأما العوام والأتباع فلا يعلمون ذلك حتى يقرأ عليهم عملهم بهمزة الاستفهام، قلت: بدليل حديث ابن مسعود في كتاب القدر عند مسلم اجتمع عند البيت ثلاثة نفر قرشيان وثقفي أو ثقفيان وقرشي قليل فقه قلوبهم كثير شحم بطونهم،

(54)

فقال أحدهم: أترون الله يسمع إن أخفينا، وقال الثالث: إن كان يسمع إن جهرنا فهو يسمع إن [أخفينا*]. قوله تعالى: {أَلَا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ ... (54)} المراد بذلك الدار الاخرة وإلا فالموت تحقيق عندهم. قوله تعالى: (إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ). ابن عرفة: وجه مناسبتها لما قبلها إنه لما اتصف الله تعالى بالجزاء، في قوله تعالى: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا) وأنه حكم عدل ليس بظلام للعبيد، قد تتشوق النفوس لمعرفة الوقت الذي يقع فيه الجزاء، فقال: علم ذلك معروف له لَا لغيره، والألف إما للجنس فالمراد به: يعلم ساعة بعد ساعة أو [ ... ] فهي ساعة واحدة وهي [القيامة*]. ابن عرفة: وقد تقدم لنا في الآية سؤالان أن إلى لانتهاء الغاية وما [بعدها*] غير داخل فيما قبلها فيفيد أن رد الفعل منتهى إليه وهو غير داخل مع أنه في نفس الأمر داخل؟ وأجيب بوجهين: أحدهما: أن تكون القرينة هنا صيرته داخلا، كما قالوا في: اشتريت الشقة التي طرفها. الثاني: أن الرد ينشأ عند الثبوت والاستقرار، فالثبوت والاستقرار هو الداخل والرد غير داخل. السؤال الثاني: أن الرد يقتضي انفصاله بعد انفصال، قال تعالى (فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ) وكان موسى عليه السلام انفصل عن أمه ثم رجع إليها، وأجيب: بأن المراد إليه معرف علم الساعة. قوله تعالى: (وَمَا تَخْرُجُ مِنْ ثَمَرَاتٍ مِنْ أَكْمَامِهَا). إما لكل ثمرة كم، أو لكل ثمرة أكمام، كما في النور فإنه أولا يفتح عنه النوار ثم يلبس، فيزول عنه القشر ثم يكنز، فيزول عنه القشر الآخر. قوله تعالى: (وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ). ولم يقل: وما تضع، فأجيب: [بأن (لا) للنفي*]، والوضع متأخر عن الحمل. قوله تعالى: (وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَائِي).

ابن عرفة: هذا السؤال تبكيت لهم وخزي، فلا يستحق جوابا؛ [لأنهم*] كانوا في مقام الدهش [وعدم العلم*]، أجابوا بقولهم: (آذَنَّاكَ) ولم يطلب منهم جواب بوجه، وعلى هذا لَا حاجة بسؤال الزمخشري، في قوله: [فإن قلت: آذَنَّاكَ إخبار بإيذان كان منهم، فإذ قد آذنوا فلم سئلوا؟ *] لأنه سؤال تبكيت. قوله تعالى: (آذَنَّاكَ). أي [أعلمناك*]. قال ابن عرفة: كان بعضهم يقول: الآذان أقوى في الإعلام من العلم لأنه يقتضي الشهرة والإذاعة بذلك، قال الله تعالى: (وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الحَجِّ الأَكْبَرِ أَنَ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكينَ وَرَسُولُهُ) ومنه الآذان لأنه يرفع الصوت فهل هو إخبار عن إعلام مضى أو إنشاء، ومنه مسألة المدونة في أول كِتَابِ الْأَيْمَانِ بِالطَّلَاقِ، قال: ومن طلق زوجته، فقال له رجل: ما فعلت؟ فقال: هي طالق، فقال: إن نوى إخباره فله نيته. قوله تعالى: (لَا يَسْأَمُ الإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ). السآمة هي الكسل عن الدوام على مشقة لما حصل إتعاب النفس في بعضه من أمور التكاليف فنهى عن الكسل عن ذلك، [وأراد*] الامتناع منه، واليأس أمر [عدمي*] عبارة عن تعلق النفس بالرجاء، والرجاء ضده، فهو تعلق الأمل لحصول الأمر المحبوب، والقنوط عبارة عن ظهور أثر ذلك المكلف. * * *

سورة الشورى

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ سُورَةُ الشُّورَى قوله تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا ... (13)} ابن عرفة: كلام متعلق الخبر مستقبلا سمي وصية، وإن كان حاليا سمي واجبا، ولما كان دينا مستقبلا عن دين نوح وغيره من الأنبياء، أطلق على الدين المؤيد إليهم به وصية، وأطلق على الدين المنزل إلينا وحي لأنه حالي ليس بعده شيء، ولما كان نوح غائبا عنا، فقال تعالى (مَا وَصَّى) بلفظ الغيبة، ثم قال: (وَالذِي أَوْحَيْنَا) بلفظ التكلم لأنه خطاب للحاضر، فغلب فيه خطاب الحاضر على الغائب فأدخل بعده فيه، فقال تعالى (وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ). قوله تعالى: {لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ ... (15)} إن قلت: نفيت الحجة مع أنها ثابتة، بقوله تعالى: (فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ) قلت: معناه لَا يحاجه. فإن قلت: (وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ ... (16) .. حصول المحاجة منهم، فكيف نفيت عنهم؟ قلنا: المنفي عنهم إنما هي المفاعلة والمثبت إنما هو قوله: (يُحَاجُّونَ) ويفاعلون لَا يقتضي المفاعلة من الجانبين لأنك إذا قلت: تضارب اقتضى الفاعل منهما، وإذا قلت: [تضارب لم يقتضِ*] التفاعل بل حصول المعرفة [بالبادئ منهما*] واختار أن يفاعل يقتضي [المفاعلة*]، ويلزم حصول التعب والغضب، فأما في حق الكافر فصحيح، وأما في حق المؤمن فيدل على أن النظر يحرم في علم الكلام وقد قال به جمع كبير، وأيضا يلزم أن يكون الجمع في الضلال. قوله تعالى: (وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ). لأنها إذا كانت داحضة عنده من حيث كونه رءوفا رحيما، فأحرى أن تبطل من حيث كونه قادرا قاهرا منتقما. قوله تعالى: {يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا ... (18)} ابن عرفة: قال بعض شراح سيبويه في باب الإحالة [**فرق بين الخبر المتهافت في نفسه، وبين الخبر المتهافت، مثال الأول: سأحمل لك هذا الطعام أمس]، ومثال الثاني:

(21)

هذه الآية لأن استعجالهم بها وطلبهم تقدمها يقتضي إيمانهم بها فهو مناقض للإخبار عنهم بأنهم كذبوا بها. قوله تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ ... (21)} وقال ابن عرفة: لما تضمن الكلام السابق ذمهم بكفرهم بالله عقبه ببيان أنهم ليس لهم في ذلك شبه. فإِن قلت: المطابقة تقتضي أن يقال لهم: شرعوا من الدين ما لم يشرعه الله، كما قيل: [وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (6) يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا*]، وأجيب: بأن الإذن أعم من الشرع، ونفي الأعم أخص من نفي الأخص؛ لأن الشرع يقتضي ثبوت ذلك وجعله شريعة مستمرة، والإذن يقتضي الأمر به. قوله تعالى: (وَلَوْلا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ). ابن عرفة: عادتهم يقولون الفرق بين هذا وبين قوله: (وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ) قال وأجيب: بالفرق بين اعتبار المستقبل من حيث نسبته للفاعل وبين اعتباره من حيث نسبته للمفعول، فقوله تعالى: (وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ) أتى فيها الخبر منصوبا للفاعل، وقوله تعالى: (وَلَوْلا كَلِمَةُ الْفَصْلِ) الخبر فيه منصوب للمفعول، أي (وَلَوْلا كَلِمَةُ) الموجبة للفصل بين النَّاس، فالفصل بين النَّاس منعزل للكلمة. قوله تعالى: {تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا ... (22)} ابن عرفة: عادتهم يقولون: ترتيب الوصف المناسب [يشعر*] بكونه علة له، فهلا أتى معبرا عنه بلفظه، فيقال: (مُشْفِقِينَ) من ظلمهم. قال: وأجيب: بأن الكسب أعم من العلم فهم لأجل ظلمهم يخافون من كل ذنب [عملوه*] وإن قل. وأورد الفخر: أن الإشفاق هو الخوف ومتعلقه مستقبل، فكيف قال وهو واقع بهم؟ وأجيب: بأنها حال مقدرة، ويحتمل أن تكون محصلة، قيل له: الضمير يعود على قوله تعالى: (مِمَّا كَسَبُوا) أي وما كسبوا واقع بهم فيرد الإشكال، فقال: [واقِعٌ بِهِمْ يُرِيدُ أَنَّ وَبَالَهُ وَاقِعٌ بِهِمْ سَوَاءٌ أَشْفَقُوا أَوْ لَمْ يُشْفِقُوا*] وهم خائفون من تزايده وتراكمه عليهم شيئا بعد شيء [فيكون*] من باب عندي درهم ونصف، قالوا: [واقِعٌ بِهِمْ*] عذاب مثله وهم مشفقون من تزايده. قوله تعالى: (فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ).

(23)

إما لكل واحد روضة، أو لكل واحد روضات، ويكون الظرف مجازا، كقولك: زيد في المدينة، وإنما هو في موضع واحد منها، فالظرف أوسع من المظروف. قوله تعالى: (لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ). ابن عرفة: قد ورد "أن في الجنة ما لَا عين رأت ولا أذن سمعت"، فأجيب: بأنها لَا تقتضي الحصر إلا لو قيل: ليس لهم إلا ما يشاءون وما لم يكونوا [يشاءوه*]، وفي الآية دليل على أن العاصي في الجنة [لأن*] المؤمن الصالح في روضات وهي أعلى روضة فيها، كما فسره الزمخشري؛ والعاصي فيها فقط، وهذا تفسير الزمخشري. قوله تعالى: (ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ). دليل على أن دخول الجنة محض تفضل من الله عز وجل. قوله تعالى: {ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ ... (23)} قال الزمخشري: الإشارة إلى التبشير. قيل لابن عرفة: والضمير المقدر عائد على المصدر المفهوم من بشر، أي [البشرى*]. قوله تعالى: (قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا). إن قلت: هلا قيل: لَا أقبل لكم أجرا، فهو أخص من السؤال لأنه قد [يأخذ*] الأجر من غير سؤال؟ فأجيب: بأنه إنما يعدل عن ذلك لأجل الاستثناء لأنه سأل منهم تحصيل المودة القرابية. وذكر الزمخشري هنا أحاديث ولم يتعرض لها الطيبي بوجه. لكن ذكر الترمذي حديثا يرجع معناه إلى معنى بعضها، وفيه التوصية على العباس عم النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ورضي عنه، وأن عم الرجل صنو أبيه. قوله تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا ... (24)} ابن عرفة: المراتب ثلاثة: أدناها الكذب، وفوقها الافتراء، وأقبح منه افتراء الكذب. قوله تعالى: (فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ). [فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ فإن يشأ الله يجعلك من المختوم على قلوبهم، حتى تفترى عليه الكذب فإنه لا يجترئ على افتراء الكذب على الله إلا من كان في مثل حالهم*]. (¬1) ¬

_ (¬1) من الكشاف، وعبارة الكتاب المطبوع هكذا [أي فإن يشأ أن يختم على قلب].

(29)

ابن عطية: قيل: بالصبر على آذاهم [وقيل: ينسيك القرآن*]، وكان بعضهم يقول: الآية دليل على إبطال قولهم وصحة قول النبي صلى الله عليه وسلم، وتقريره أن كل ما أتى به الناقل منسوبا للمنقول عنه بحضرته فهو غير مفترى، إذ لو كان مفترى لأنكر عليه نسبته إليه، ولما لم ينكر نسبته إليه دل على أنه من عند الله حقيقة، لقوله: (وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ). قوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ ... (29)} ابن عرفة: في الدليل الدال على وحدانية الصانع، فقيل: الحدوث، وقيل: الإمكان، ويؤخذ من الآية أن الدليل على وحدانيته [هما معًا لأن (مِنْ) في*] قوله تعالى: (وَمِنْ آيَاتِهِ) للتبعيض فدل على أن حدوث هذه المخلوقات بعض الدلائل لَا كلها. * * *

سورة الزخرف

سُورَةُ الزُّخْرُفِ قوله تعالى: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا ... (45)} قيل: إنما أُمر أن يسأل جبريل عليه السلام، أو يسأل الرسل ليلة الإسراء. ابن عرفة: الصواب أن يقال: (اسْأَلْ) أتباع الرسل [تقريرًا*] لتقيم به الحجة عليهم، وإلا فهو عالم بذلك غير محتاج إلى السؤال عنه، وسؤال جبريل والرسل لا يصح لقول [صاحب*] الجمل: إن الطلب من الأدنى إلى الأعلى هو مسألة ودعاء، والنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أعلى من غيره. وقد قال بعضهم: إن السؤال يقتضي أن يكون عند المسؤول عنه علما. قيل لابن عرفة: من يسألهم عن هذا هل وقع في الموجود أم لَا؟ وقيل: الأمر بسؤالهم عن جواز هذا عقلا وهو أبلغ، فقال: تنزل بعضهم على قدر عقولهم. قوله تعالى: {وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا ... (48)} أورد الزمخشري فيه سؤال التناقص أو التسلسل إذ الآية الأولى ليس [قبلها*] آية، وإن كانت مما بعدها أكبر منها لزم التناقض، وأجيب: بمثل ما أجيب في قوله تعالى: (وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ) أن هذا يزيد على هذا الشيء ويزيد عليه المفضول لشيء آخر، فكذلك الآية أكبر من أختها في شيء، وأختها أكبر من أختها في شيء آخر، أو بالنسبة إلى المخاطبين، أو واحد يعتقد أن هذه أكبر. وآخر يعتقد أن هذه أكبر، وآخر معتقد العكس، فالمراد من واحدة من أخواتها بالنوع لا بالشخص؛ لأنها أكبر من التي قبلها. قوله تعالى: {فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ ... (55)} أي فلما [أغضبونا*]، وليس المراد حقيقة الغضب بل هو بمعنى إرادة الانتقام منهم، أو عبارة عن فعل ذلك بهم. قيل لابن عرفة: يلزم عليه أن يكون المعنى: فلما انتقمنا منهم، فقال الأول: انتقام أعم، أي فلما انتقمنا انتقمنا منهم. قوله تعالى: {وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ (57)} أي يصدوهم [عن*] عبادة محمد كما عبدت النصارى عيسى؟ وذلك لما نزل: (إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ)، ونزل قوله

تعالى: (مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ) على ما فسروه هناك من أنه [كناية عن الاحتياج لأن*] الغائط والبول كان ذلك سببا لنفور المشركين عن عبادتهم وترجيحهم عبادة الأصنام على عبادة عيسى عليه السلام، قوله تعالى: [(بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلَاءِ وَآبَاءَهُمْ) *] ابن عرفة: أي هذا إضراب إبطال؛ لأن بقاء الكلمة في عقب إبراهيم سببا في تعلق أصله برجوعهم فهو إبطال تشبيه، فالكلمة باقية في عقب إبراهيم على أنه لم يخل زمان عن توحيد الله عز وجل، لكن بقاء ذلك لم ينفع في إيمان قريش؛ بل لم يزالوا كفارا. قال: وتقدم لنا هنا سؤال وهو هلا قال: بل متع هؤلاء وآباءهم؟ وأجيب: بأنه إخبار عن أمر ماض ويمتنع الإنباء عن مستقبل. ابن عرفة: وذكر ابن عطية في غير هذا الموضع: أن قريشا كان منهم سبعون رجلا ملك كل واحد منهم القناطير من الذهب والفضة، قال: والغاية تقتضي مخالفة ما بعدها لما قبلها ولا [عكس*]، فالجواب: أن الإيمان بالرسول إنما هو لأجل مجيئهم بالحق فتكذيبهم بالحق الذي هو مقصد يستلزم تكذيبهم بالرسول، قال: وتقدم لنا هنا سؤال، وهو أنه قال تعالى في سورة المنافقين: (لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ) فأجابهم بالقول الموجب، وهنا لم يخاطبهم بالموجب، فكان يقول لهم قد نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم وهو أعظم من كل عظيم. قال: وعادتهم يجيبون: بأنهم لو أجيبوا بذلك لأوهم أن لهم حظا في القسمة كما وافق هنا على العزة والذلة، فقيل هنا: ليس لهم حظ في القسمة كما وافق هنا على العزة والذلة، فقيل هنا: ليس للعظيم حظ في القسمة، وليس لكم قدرة على القسمة بحيث تجعلون ذلك العظيم. وأجاب بعضهم: بأنهم فهموا العظم في الدنيا باعتبار كثرة المال وكثرة اليسر [والحركة*]، وليس كذلك بل المراد العظيم القدرة عند الله. قوله تعالى: (وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ). إن أريد الذكر الابتدائي، إما بالقلب أو باللسان، فالمصدر مضاف للفاعل، فالمراد [بالذكر*] القرآن [**المقول]؛ لاستحالة وقوع ذلك من الله لأنه ليس بجسم، وإن أريد الذكر الناشىء عن سببه، فالمصدر مضاف للفاعل، فالمراد [بالذكر*] القرآن، أي ومن يعش عن سماعها والاتعاظ بها.

(58)

قوله تعالى: (أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ). قال الحجاج: فرعون افتخر بملك مصر وليست [كذلك*]، وإنما المحمودة دمشق [**على مصر أقل البلاد قدرا]. وقد رد ابن طاهر على الحجاج في مقالته هذه، قيل له: (أَفَلَا تُبْصِرُونَ) راجع، لقوله: (لِي مُلْكُ مِصْرَ)، ولقوله تعالى: (الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي) أو إلى المجموع، فقال: لَا يصح الأول، وأما الثالث فيلزم فيه استعمال اللفظ الواحد في حقيقته ومجازه، والثاني ظاهر قوله تعالى: (فَلَمَّا آسَفُونَا)، كقوله تعالى: (يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ) أي آسفوا رسلنا. قوله تعالى: {مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا ... (58)} يقتضي ذم الجدال في العلم ولا شك في ذمه، فيقتضي ذم جميع الجدال؛ لأن الآية عامة. قيل له: الجدال [المذموم*] ما كان في [ ... ] الحق والمخالطة فيه، فقال [هو*] طريق لهما: أعني لإظهار الحق والباطل، والذم تسلط على الأعم، فلا موجب لتخصيصه مع أنه ليس من العلم في شيء؛ لأنه يوجد عالم غير جدلي، وجدلي غير عالم، وأيضا فالعلم محله لَا يطل عليه مانع لأن محله إما العمل أو التكليف، والجدل محله استعماله قد يطل عليه مانع بأن ينسل لسانه فيبقى عدمه ووجوده شيئان فالعلم غير معروض، والجدل معروض. قال الشيخ: ومن قوله: (وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ) إلى قوله: (وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى) فإن قلت: لم قال: تشتهيه الأنفس ولم يقل أنفسنا؟ قلت: إشارة [إلى*] التعميم، فإن [كل ما يشتهى*] هو فيها. فإن قلت: لم ذكر الأنفس والأعين دون الإسماع؟ قلنا: لأن لذة السمع أقرب إلى النفس من البصر، وجمع الأنفس جمع قلة إشارة إلى قلتها في النسبة إلى كثرة ما أعد الله لها من النعيم، ولم يجمع في القرآن جمع كثرة، إلا في قوله تعالى: (رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ) إشارة إلى عموم علة، وهي قوله تعالى: (وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (7). قوله تعالى: {وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ ... (71)} لأنها طريق إلى لذة النفس، لأن النفس لَا لذة لها بدون العين بدليل الأعين، ولم يذكر حاسة السمع؛ [لأن النسبة إلى غيره*].

(64)

قوله تعالى: {وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا ... (72)} [سماها*] ميراثا إشارة إلى الجمع بين هذه الآية، وبين قوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: "لن يدخل الجنة أحد بعمله"، فدل ذلك على أن دخول الجنة من غير عوض؛ فأشبه الميراث الذي هو عن غير عوض. فإن قلت: الآية نص في دخولها بالعمل؟ قلنا: العمل حق لله تعالى وهو الذي أقدر المكلف عليه، فلا وجود له إلا بخلق الله تعالى فليس [بعوض*] بوجه. وقول ابن عطية: إن دخولها بفضل من الله، ورفع الدرجات بالعمل باطل؛ بل الجميع بفضل الله عز وجل. قوله تعالى: (وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ). ابن عطية: بعض بمعنى [كل*] وضعفه، قال: وذهب الجمهور إلى أن الاختلاف في أمور كثيرة دينية ودنيوية لَا مدخل لها في الدين، والنبي إنما [يبين*] الأديان فقط. وهو بعض ما يختلف [فيه*]. ابن عرفة، يقول: الأولى في تفسير هذا أن يقال: [الاختلاف: الخوض في التناقص، وأنه*] اختلاف قضية بالإيجاب والسلب بحيث يقتضي أن آية صدق أحدهما وكذب الآخر فالمختلفان أحدهما [محق والآخر مبطل*]، فالنبي إنما بعث لتبيين الحق، فإِن بينه علم بالضرورة [أن*] ما عداه باطل، وكذلك قوم عيسى عليهم السلام بعضهم يدعي أن مع الله شركاء، ويثبت له الولد والزوجة، وبعضهم يوحده وينفي عنه الشريك، فجاء عيسى عليه السلام [مُبيِّنًا*] أن الحق مع من يوحده، وهذا بعض من كل. معناه، ولأبين لكم منه ما هو الحق فيتبعونه ويترك ما سواه. قوله تعالى: (فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ). ابن عرفة: هذا دليل على أن من شرط الإيمان التمكن من النظر لَا نفس النظر، إذ لو كان كذلك لقال: انظروا. وأورد ابن عرفة: بأن الأمر بالتقوى يستلزم الأمر بالنظر. قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ ... (64)} أكده هنا بالضمير ولم يؤكده في سورة آل عمران ولا في سورة مريم.

(65)

فأجاب أبو جعفر بن الزبير: بأن آية آل عمران ومريم تقدمها نحو عشرون آية ذكر فيها ما يدل على الربوبية والتوحيد، وهذه ليست كذلك، [فاقترنت فيها*] بزيادة الضمير. قوله تعالى: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ... (65)} هذا أبلغ، من قوله تعالى في سورة مريم (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا) لأن ما لزم الأعم لزم الأخص من باب أحرى. قوله تعالى: {وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (66)} أورد الزمخشري: أنه تأكيد؛ لأن إتيانها لهم بغتة يغني عنه، ثم أجاب: بأن معنى قوله تعالى: (لَا يَشْعُرُونَ) أنهم غافلين لاشتغالهم بأمور دنياهم، ويجوز أن يأتيهم بغتة وهم يظنون. ونقل الطيبي عن القاضي -يريد به البيضاوي- على عادته أنه أجاب: بأنهم قبل إتيانها لهم بغتة لَا يشعرون أنها تأتيهم بغتة. قوله تعالى: {بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ... (67)} إن أريد به عداوة الجماعة منهم للشخص الواحد كعداوة قوم فرعون لفرعون، فالبعض صادق على الأكثر، وإن أريد به عداوة كل فرد لخليله فلا يلزم فيه ذلك. قوله تعالى: {يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (68)} إن قلت: لم نفى الخوف بالاسم والحزن بالفعل؟ قلنا: قال ابن عرفة: عادتهم يجيبوا بوجهين: أحدهما: أن سبب الخوف مستقبل، والمستقبل ما يعقل فيه التجدد إذ هو غير واقع، وسبب الحزن ماض والماضي واقع حادث فيعقل فيه التجدد شيئا بعد شيء وحدوث بعد حدوث وهو أنه [كلما يتذكره الإنسان يتجدد حزنه*]. الثاني: أن الماضي متناه، والأمور المستقبلة غير متناهية، والنكرة في سياق النفي عامة، فناسبت اقترانها بغير المتناهي ليكون أبلغ في النهي، وإنَّمَا أخر النعت، ولم يقل: يا عبادي الذين آمنوا لَا خوف عليكم، ليكون أنكى للعدو وأشد حسرة عليهم في العذاب حيث يطمع ويرجو الدخول بهم في ذلك ثم [يبلس*] بعد ذلك، وفي الآية التفات بالخروج من الخطاب إلى الغيبة، إذ لم يقل: الذين آمنتم بآياتنا وكنتم مسلمين. قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ (81)} قال ابن عرفة: فسروه بوجوه:

(83)

أحدهما: أنه من [الفرض*] على المحال لكن يرد عليه أن القياس يستثنى فيه نقيض التالي تفيد المقدم، إلا أن [ ... ] قال: يحتمل أن يراد (أَنَا أَوَّل الْعَابِدِينَ) للولد، فيكون المعنى لكن لست أول العابدين فليس للرحمن ولد. قوله تعالى: {فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا ... (83)} ابن عرفة: الخوض إما الاشتغال بما لَا فائدة فيه فقط، واللعب الاشتغال بما لا فائدة فيه مع زيادة ضرر فيه، وأما الخوض المقاولة والمجادلة، قال تعالى (وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ) واللعب بالاشتغال بما لَا فائدة فيه فقط. قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ ... (84)} قيل لابن عرفة: القاعدة أن الاسم إذا أعيد نكرة يقتضي التعدد، وبه يفهم قول عمر، في قوله تعالى: (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (6)، لن يغلب عسر يسرين، مع أن الإله هنا واحد فكأن الأصل مقترنا بالألف واللام. فأجاب ابن عرفة: بأن التعدد هنا في الصفة لَا في الذات، كقولك: زيد أكل في الدار ضاحك في السوق، فهما صفتان لموصوف واحد. قوله تعالى: {وَتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا ... (85)} ابن عرفة: وعادتهم يقولون فيه حجة للفلاسفة القائلين بأن السماوات متلاصقة ليس بينهما خرق، إذ لو كان بينهما خرق، لقال: وما بينها، قيل لابن عرفة: لعل مراده ما بين الأرض أعلاها، وبين الأرض، وما بين الثانية بينها وبين الأرض، وما بين الثالثة وبينها وبين الأرض فثناها اعتبارا بذلك، فقال: لو أراد ذلك، لقال: وما بينهن، قال: وإنما عادتهم يجيبون: بما في سورة الطلاق (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ) قيل: فلم خصت تلك الآية بالجمع وهذه بالتثنية؟ فقال: أجابوا: بأن هذه خرجت مخرج التذكير بالنعمة، فاعتبر فيها ما فضل منه النعمة إلى الإنسان وهي السماء الدنيا وما بينها وبين الأرض من الأمطار والرياح، وما ينشأ عن ذلك في الأرض من النبات والفواكه وغير ذلك، وتلك الآية خرجت مخرج الإعلام بكمال قدرة الله تعالى، فاعتبر فيها مجموع السماوات وما يكون فيها من الأمور. قيل لابن عرفة: وفي الآية دليل على نفي الجوهر المفارق، وهو قسم ثالث لا متحيز ولا قائم بالمتحيز، فليس هو في السماوات ولا في الأرض؛ بل هو خارج عنها،

(86)

فلو كان موجودا، لقال هنا: (لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا) وما يخرج، لأن الآية خرجت مخرج الإعلام لجميع مملوكات الله تعالى. قوله تعالى: {إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (86)} نقل ابن عطية، عن قتادة: أن الاستثناء متصل فاستثنى من عُبِدَ من دون الله عيسى، وعزير، والملائكة. وقال مجاهد: من [المشفوع فيهم*] أي لَا يشفع الملائكة وعيسى إلا فيمن شهد بالحق. قال ابن عرفة: يحتمل عندي أن يكون منفصلا، والمراد به ما تضمنه، قوله تعالى: (شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) فهؤلاء لَا يملكون الشفاعة. ابن عرفة: وهذا رد عليهم في قولهم: (هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا) * * *

سورة الدخان

سُورَةُ الدُّخَانِ قوله تعالى: {أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (5)} قال ابن عرفة: جملة الإرسال متقدمة بالنسبة علي الإنذار يجري مجرى العلة فهلا قدمت في الذكر؟ فأجاب: بأن الإنذار يجري مجرى العلة القائمة المتقدمة وهنا المتأخر وجودها. قوله تعالى: {وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ ... (17)} سئل ابن عرفة عن تكرير القصة في القرآن في مواضع بألفاظ مختلفة يزيد بعضها على بعض؟ فأجاب بثلاثة أوجه: الأول: أن الأعراب كانت تأتي أفواجا فبعضهم يحضر القصة وبعضهم لم يحضرها. الثاني: أن بعض النَّاس قد لَا يحفظه كله، [فما حفظ حصل فيه القصة*] وما لَا فلا. الثالث: أن ذلك لطف من الله بنا، فبالغ في الوعظ والتذكير والتحذير رفقا بنا، فلذلك كرر ذلك لأن [مثلنا*] إذا كان له ولد [**حرامي] فإنه يزجره مرة ويعظه مرة أخرى وثالثة ورابعة، ولا يقتصر في وعظه على مرة واحدة. قوله تعالى: {فَدَعَا رَبَّهُ ... (22)} قال هنا في قصة موسى: (فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ)، وقال تعالى في قصة نوح (أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ) مع أن سبب الدعاء فيها عدم إيمان قومهما؟ فالجواب: أن نوحا عليه السلام أول رسول بعث إلى الأرض من المؤمنين، ولم يقرر [له*] أناس فيستعين، فطلب النصر من الله ليظهر على عدوه ليرجع من يرجع ويهلك من هلك، ولما تقرر لموسى أناس لم يطلب ذلك. قوله تعالى: {وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (26)} لم يقل: مقامات [مجموعا*]؛ كما جمع غيرها، يكون مقام مصدر يصدق على القليل والكثير. * * *

سورة الجاثية

سُورَةُ الْجَاثِيَةِ قوله تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (30)} قال ابن عرفة: الإشارة إما إلى الإيمان والعمل الصالح، أو إلى إدخالهم في الرحمة، وكان بعضهم يرجح الثاني، بوصف الفوز، بقوله: (الْمُبِينُ) لأن حصول الفوز الأول مظنون وحصوله الثاني محقق. قوله تعالى: {فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْمًا مُجْرِمِينَ (31)} إن قلت: هلا قيل: فأجرمتم وكنتم قوما مستكبرين؟ فالجواب: الاستكبار أمر معنوي، والإجرام أمر فعلي حسي، فناسب التعبير عنه بالاسم المقتضي للثبوت. قوله تعالى: {إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ (32)} قال الزمخشري: أصله [نَظُنُّ ظَنًّا*]، ومعناه إثبات الظن فقط؛ دخل حرف النفي والاستثناء ليفيد إثبات الظن ونفي ما سواه، ثم أكد نفي ما سوى الظن، بقوله تعالى: (بِمُسْتَيْقِنِينَ). وقال أبو حيان: لَا يجوز أن تقول: ما ضرب إلا ضربا لعدم الفائدة، وأجابوا بثلاثة [أوجه*]: أحدها: أنه على حذف الصفة، أي إلا ظنا ضعيفا. ابن عرفة: وأول ما ورد في مختصر أبي حيان [ ... ] أبو الفضل ابن أبي مدين، فنظرنا فيه هذه المسألة. فقال بعض نحاة التونسيين حينئذ: ما [**أصر] أحد على منع هذا، وكتاب سيبويه والفارسي وأبي [ ... ] وابن عصفور وغيرهم [لم أرَ*] أحدا منهم منع أن يقال: ما ضرب إلا ضربا، وعلى تقدير تسليم هذا فإنما ذلك في الماضي لوقوعه على صفة واحدة وانقطعت بحيث لَا يعلم لها التغيير، وأما المضارع فيكون تغييره وتبدل صفة المقدرة الوجود لعدم. [ ... ] فيتطرق إليه الاختلاف والتنويع، فلما [كرر*] أفادنا كفرهم أنهم لا

(33)

ينقلون عن ذلك الظن، بل لَا يزالون ظانين، ومنهم من أجاب: بأن تنكيره وتنوينه يفيد التعليل. قال: وفي الآية اللف والنشر، فقولهم: (إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا)، راجع لقوله تعالى: (وَالسَّاعَةُ لَا رَيْبَ فِيهَا)، وقوله تعالى: (وَمَا نَحْنُ بمُسْتَيْقِنِينَ) راجع لقوله تعالى: (إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ) قال: والعطف يدل أنه لم يجعلَ لنا منها إلا الظن، بل لم يجعل إلا لنا عدم اليقين الذي هو أعم من الظن والشك. قوله تعالى: {وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا ... (33)} [ما*] مصدرية أو موصولة، وكان بعضهم يرجح [كونها*] موصولة، لأن إضافة الأثر إلى المفعول وهو المؤثر بعد إضافته إلى الفعل، فإذا أبدت لهم سيئات الشيء الذي عملوا، فأحرى أن تبدو لهم سيئات عملهم، وإن كان [أحدهما*] يستلزم الآخر. قال: وفي الآية حسن الائتلاف، فاقتران به سيئات عملهم، واقتران حاق بـ يستهزءون، لأن البدأ عبارة عن أول ما يظهر من الشيء، و (سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا) يقتضي مطلق الذنوب الناشئة عن مطلق ما اتصفوا به من العمل، والاستهزاء عبارة عن شدة ما اتصفوا به من القبيح، والحوق: الإحاطة، قلت: ومنه قولهم: الطائفة محوقة بهذا الرقم، ففرق الأشد بالأشد، والأحق بالأحق. قوله تعالى: {وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ ... (34)} قال ابن عرفة: ذكروا في المجاز أنه لَا بد له من علاقة، وإن علاقة ترجح الحمل على المجاز مع جواز الحمل على الحقيقة، قالوا: وقد تكون العلاقة توجب الحمل على المجاز مع جواز تحريم الحمل على الحقيقة، ويسمى هذا عندهم الدال البرهاني، ومنه هذه الآية؛ لأن النسيان بمعنى الذهول، فيستحيل على الله تعالى، ففسر هنا بمعنى الترك، واقترانه باليوم يمنع حمله على الحقيقة لاستحالة نسيان الأمر الحالي؛ إذ هو مرئي ومشاهد، وإنما نسي الغائب. والكاف في قوله تعالى: (كَمَا نَسِيتُمْ) للتعليل، مثل: (وَأَحْسِنْ كَمَا أحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ). * * *

سورة الأحقاف

سُورَةُ الْأَحْقَافِ قوله تعالى: {وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً .. (12)} قال ابن عرفة: وجه مناسبتها لما قبلها أنه لما تضمن قوله تعالى: (فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ) تقبيحهم إياه بأنه إما كذب في نفسه أو شبيه بما قبله من الأكاذيب، [والقرآن*] عينه ببيان أنه إما صدق في نفسه، وشبيه بما قبله من الكتب الصادقة الواردة على يدي الرسل. قوله تعالى: {فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (13)} نفى الخوف بالاسم، والحزن بالفعل؛ لأن سبب الخوف والأمور المستقبلة [متكررة*] غير متناهية؛ لعدم وقوعها، فتذهب النفس بها كل مذهب، وسبب الحزن ماض، والماضي متناه لانقطاعه، فعبر عن الأبلغ بالأبلغ، وعن الأخف بالأخف. قيل لابن عرفة: هذا صحيح لو كان في الثبوت، وأما في النفي فنفي الأعم أخص من نفي الأخص، وأجيب: بأنهم [ما*] قالوا هذا إلا في باب الإخبار، وهو أن الإخبار بالاسم [**أخير] من الإخبار بالفعل، والاسم هنا مخبر عنه لا مخبر به. قوله تعالى: [(أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ ... (14) *] اختلف المحدثون هل من شرط الصحبة طول الملازمة أو لَا، وظاهر الآية حجة لمن لم يشترط ذلك، لقوله تعالى: (خَالِدِينَ)، وقوله تعالى: (جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُون) هو جزاء شرعي تفضلي لَا أنه عقلي. قوله تعالى: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا ... (15)} عداه هنا بالباء، وقال تعالى في سورة النساء: (يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ) فعداه بـ في. قال ابن عرفة: عادتهم يجيبون بوجهين: الأول: متعلق الوصية هنا بسيط مفرد وهو بر الوالدين فقط، ومتعلقها هناك متعدد وهي أمور كثيرة، والقاعدة أن التعدد يحتاج في حفظه إلى [وعاء*] يكون فيه، والبسيط لا يحتاج في صورته إلى ظرف كمن عنده أمتعة، فإنه [**يستعد لها مسند وقالوا: ومن عنده مقطع واحد في صورته إلى ذلك].

الثاني: أن متعلق الوصية هنا مطلوب شرعا، وهو البر ومتعلقها هناك غير مطلوب لأن الأولاد غير مطلوبين شرعا، إنما المطلوب الفصل بينهم وما يقع به الفصل وهم محل لذلك الفصل، فالوصية فيهم بالفصل بينهم بكذا وكذا. قوله تعالى: (بِوَالِدَيْهِ). ولم يقل: بأبويه إشارة لمن وقعت صفة الولادة، وتغليبا لحق الأم على حق الأب، وفيه تنبيه على أن حقها أكثر من حق الأب، فإذا أمرته أن يكلف لها بحاجة وأمره أبوه بحاجة، فإنه يجعل ثلاثة أرباع لأمه، وربعه لأبيه. قوله تعالى: (حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا). يريد مشقة الحمل من زمن الإحساس به لَا من أوله. فإِن قلت: ذكر أسباب الأمر بطاعة الأب، فقد قال في سورة البقرة (وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ)، وفي سورة الطلاق (فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ) فهلا قال: وأنفق عليه أبوه وكساه، فعادتهم يجيبون: بأن أسباب طاعة الأم راجعة إلى مشقة بدنها، وأسباب طاعة الأب راجعة إلى مشقة بذل المال، وجنس الأول أشرف من جنس الثاني؛ لأن حفظ النفوس آكد من حفظ الأموال، ولذلك أكد الأمر بطاعة الأم فذكر سببه لشرف جنسه، ولم يؤكد الأمر بطاعة الأب بذكر سببه. قوله تعالى: (حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ). اختلفوا في حد بلوغ الأشد. فقال ابن إسحاق: ثمانية عشر، وقيل: عشرون، ابن عباس وقتادة: ثلاثة وثلاثون، الجمهور: ستة وثلاثون. وقال: أربعون. ابن عرفة: فعلى أنه ثمانية عشر يكون المعنى: العجز عن القيام بنفسه، وعلى أنه أكثر يكون التقدير في كامل خلقه (حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ). قوله تعالى: (وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً). عطف تفسير، [كقوله*] تعالى: (وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ) واحتج علي بن أبي طالب بهذه الآية على أنَ أقل الحمل ستة أشهر، فأتت امرأة بولد لأقل من ستة أشهر فألحقه عمر بالثاني، فرد عليه عليٌّ فرجع إليه وألحقه بالأول، واستدل بهذه الآية، وكذلك حكم عمر بإقامته على امرأة

(16)

حامل، فقال له علي: كيف تقيم الحد على ما في بطنها وبعد لم يكن شيئا فرجع إليه، وقال: لولا عليٌّ لهلك عمر. قوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا ... (16)} قال ابن عرفة: تقدم لنا فيها سؤالان: الأول: (أَحْسَنَ) أفعل من، فيقتضي أن في عمله أحسن، وحسن لَا يتقبل منه إلا الأحسن، مع أن الحسن قد يتقبل؟ قال: والجواب: أن المراد بالحسن هنا [**نفس] الشيء وهو المباح، فهو غير متقبل إذ لَا ثواب فيه، قيل له: ثم حسن وأحسن منه، وأحسن منهما، كقولك: أوصى فلان [لأعلم النَّاس*]، فإنها تعطى لمن هو في الدرجة العليا من العلم لَا لمن هو أعلم من غيره بالإطلاق، وإن كان هناك من هو أعلم منه. فقال ابن عرفة: فرق بين قولك: اعط هذا لأعلم النَّاس، وقولك: أعط هذا للأعلم من النَّاس، فالأول: يقتضي أن يعطى لأعلاهم درجة في العلم، والثاني: يقتضي أن يعطى لمن هو أعلم من غيره بالإطلاق، و (مِن) في قوله: من النَّاس في موضع الحال دخلت على المفعول بل هي للتبعيض لابتداء الغاية، أي أعطيه للأعلم من غيره؛ حالة كونه من النَّاس. قيل لابن عرفة: الآية من القسم الأول: وهو مثل قوله: أعط هذا لأعلم النَّاس فيلزم أن لَا يتقبل إلا ما هو أحسن أعمالهم على التوزيع في كل زمن، فإذا عمل في صبح يوم الخميس عملين مباحا ومندوبا قبل المندوب؛ لأنه أحسن العملين، ثم إذا عمل بعد ذلك عملين مباحا وواجبا، قبل: الواجب فيهما، ثم إذا عمل مباحا وغيره قبل المطلوب دون المباح، فالمراد أنه يتقبل من كل مسلم في كل زمن أحسن ما عمل في ذلك الزمان بعينه، وليس المراد أنهم يتقبل عنهم أحسن ما عملوه، وأعمالهم كلها. السؤال الثاني: أن يتقبل إنما يتعدى بمن قال: (رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا)، وقالت؛ (رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي)؟ وأجيب: بأن (عن) أفادت قبول مطلق العمل الحسن وإن كان فيه نقص ما، لأن (عن) تقتضي المجازاة [ولو عداه*] بمن لما أفادت هذا المعنى. وأجاب ابن حمدون: أنه عداه بـ في مطابقة لقوله تعالى: (وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيَئَاتِهِم) لأنه [عداه أيضا بـ[عن*]، وتضمن هذه الآية قوله تعالى: في سورة التوبة (لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)، وكذا في الزمر.

(19)

قوله تعالى: (فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ). فمن هم أصحابها؟ فقال الملائكة والنبيون. قوله تعالى: {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا ... (19)} قال ابن عرفة: اختلفوا في الإيمان هل يزيد وينقص على ثلاثة أقوال: ثالثهما: أنه يزيد ولا ينقص، ولم يذكروا ما في الكفر خلافا؛ بل هو [مسكوت عنه*]، وظاهر الآية أنه يزيد وينقص، لقوله: (وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا) قيل له: إن ابن عطية قال: الدرجات قريبة في أنها للمؤمنين، وأما الكافرون فإنما لهم دركات، فقال: لَا بل لفظ الدرجات أعم بدليل قوله تعالى: (وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ). قلت: وكذلك قوله تعالى: (وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ). قوله تعالى: (وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ). ظاهر التوفية هنا الإتيان بالمطلوب من غير زيادة عليه. قوله تعالى: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا ... (20)} قيل: المراد بالطيبات المستلذات، أي الأسباب التي توصلون بها إلى سبل المستلذات في الدار الآخرة، أذهبتموها في الدنيا، أي تركتموها في الدنيا ولم تفعلوها. قوله تعالى: (بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ). ابن عرفة: مفهومه صحة الاستكبار بالحق، قلنا: نعم وهو كذلك وهو أن نستكبر على الظالم والجائر. فإن قلت: ما فائدة قوله تعالى: (فِي الأَرْضِ)، قلنا: فائدته تحقير المستكبر إشارة إلى استكباره في الأرض التي توطأ بالأقدام، وتوضع فيها الأقذار والنجاسات، وقد خلق منها ويعود إليها، فكيف يستكبر فيها؟!. قوله تعالى: {فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا ... (24)} إن قلت: هلا قال: (هو مُمْطِرُنَا)، قلت: إشارة إلى أنه في نفس الأمر على خلاف اعتقادهم لأنهم اعتقدوا أنه رحمة وهو عذاب. قوله تعالى: {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ ... (25)}

(28)

مع أن (مَسَاكِنُهُمْ) لم تدمر؟ فيجاب: بأن بقاءها خالية منهم تدمير لهم، وهو عام مخصوص. قوله تعالى: {فَلَوْلَا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آلِهَةً ... (28)} ابن عطية: آلهة بدل من قربانا. أبو حيان: فيه نظر. ابن عرفة: النظر أنه تناقض؛ [لأن*] اتخاذهم آلهة مناقض لعبادتهم على أنهم قربان. قوله تعالى: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا ... (29)} ابن عطية: العامل في [(إِذْ) *] مضمر أي اذكر. ورده أبو حيان: بأنها غير متصرفة. ابن عرفة: بأنها لَا يريد التحامل فيها بذاتها؛ بل العامل فيها أضيف إليها مما يقتضيه الكلام أي اذكر نعت (إِذْ صَرَفْنَا إِلَيكَ) ولا خلاف أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بعث إلي الإنس والجن، واختلف هل بعث إلى الجن رسول منهم قبل بعثته هو إليهم، وإنَّمَا بعث إليهم من الإنس. قال: وقضايا الأمم السالفة تارة تحكي على سبيل الإنذار، كقصة عاد وثمود، وتارة تحكي على سبيل الإخبار بها في نفسها كقصة يوسف عليه السلام، وتارة على سبيل الثناء والمحمدة لفاعلها، [كقوله*] تعالى: (وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أحْصَنَتْ فَرْجَهَا). قوله تعالى: {يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ (30)} ابن عرفة: تقدم لنا نظيره بوجهين: أحدهما: أن (الْحَقِّ) راجع إلى الأمور الاعتقادية، و (طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ) راجع إلى الأمور الفعلية العملية. والثاني: أن الحق راجع إلى الأحكام الشرعية، والطريق المستقيم راجع لأدلتها. قوله تعالى: {يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ ... (31)} قال ابن عرفة: استجاب يقتضي [إجابة*] الموافق فهو أخص من أجاب فهلا عبر بالأخص؟ وأجيب: بأن عطف: (وَآمِنُوا بِهِ) فلو قيل: استجيبوا لـ (دَاعِيَ اللَّهِ)

(33)

لكان (وَآمِنُوا بِهِ) تأكيدا، فلما عبر بالأعم، كان قوله تعالى: (وَآمِنُوا بهِ) تأسيسا. قوله تعالى: {وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ ... (33)} ابن عرفة: فيه إيماء إلى صحة إعادة خلق الإنسان فإن الإعادة إيجاد عن عدم، وأن المعدوم يعاد بعينه؛ لأن المعاد مثله، وليس عينه؛ إذ لو كان دوام بقائه حيا موجبا لأعي الله تعالى بقاء جرم السماوات والأرض مع عظمها، فهذا يعدم ويعاد على ما هو عليه، قال: وقوله تعالى: (وَلَم يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ) من باب السلب والإيجاب مثل الحائط لَا يبصر. قوله تعالى: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ ... (35)} نقل ابن عطية عن مقاتل: أنهم ست نوح أنه صبر على أذى قومه طويلا، وإبراهيم صبر على النار. ابن عرفة: كان بعضهم يقول: إنما صبر إبراهيم على الرمي في المنجنيق كما في النار فإِنها صارت عليه بردا وسلاما. قوله تعالى: (لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ). إن قلت: هلا قال: إلا ساعة من ليل، فهو أبلغ لأن العرب إنما يؤذون بالليل؟ فالجواب: أن ساعة النهار يعقبها ظلام الليل، وساعة الليل يعقبها ضوء النهار غلبت ساعة من الليل يعقبه [المرح*] بخلاف العكس. * * *

سورة محمد

سُورَةُ مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - (الْقِتَال) قال الزمخشري، عن مجاهد: أنها مدنية، وعن الضحاك، وسعيد بن جبير: مكية. ابن عطية: مدنية بإجماع غير أن بعضهم قال في قوله تعالى: (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ) أنها نزلت بمكة وقت دخول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لها عام الفتح أو سنة الحديبية. قال: وما كان مثل فهو مدني لأن المراعى في ذلك ما كان قبل الهجرة فهو مكي، وما كان بعدها فمدني. وقال ابن عطية: تلك الآية إنها نزلت إثر خروج النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم من مكة في طريق المدينة، وقيل: بالمدينة، وقيل: بمكة بعد الحديبية، وقيل؛ عام الفتح وهذا كله مدني. قيل لابن عرفة: فما [نزل*] حين الهجرة بعد خروجه من مكة وقبل وصوله إلى المدينة؟ فقال: لم ينقل ذلك، ولو نقل فالمراعى [ما بعد*] الهجرة، فبعد خروجه من مكة كل ما كان نزل عليه مدني. قوله تعالى: {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ... (1)} ابن عطية: (صَدُّوا) إما قاصر أي صدوا في أنفسهم، أو متعدٍّ أي صدوا غيرهم. ابن عرفة: فعل أنه قاصر، يقال: ما في فائدته بعد قوله تعالى: (كَفَرُوا) قال: عادتهم يجيبون: بأن الكفر قسمان: إكراه، وطوع، فأفاد قوله تعالى: (وَصَدُّوا) أن كفرهم اختياري لَا اضطراري. قوله تعالى: {فَضَرْبَ الرِّقَابِ ... (4)} ابن عرفة: تقدم لنا سؤال: وهو أن دلالة الخاص على الخاص أقوى من دلالة العام على الخاص، فهلا قيل: اضربوا رقابهم؟ وأجيب: بأن (إذا) عند مالك [**لَا تقتضي بخلاف كلما]، فلو قيل: كذلك [لكان*] مطلقا فيصدق بلقائهم مرة واحدة، فلما أتى به عاما كان [قرينة*] في عموم الشرط تكراره. قوله تعالى: (حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا). إما غاية للغاية الأولى فقط، أو غاية لها أو لما [بعدها*].

(5)

قوله تعالى: (وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ). أي ليبلو المسلم بالكافر. قوله تعالى: {سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ (5)} أما على قراءة (قاتلوا) فظاهر، [والمراد*] (سَيَهْدِيهِم) لأداء الفرائض (وَيُصْلِحُ بَالَهُم) بأفعال المندوبات، أو (سَيَهْدِيهِم) لطاعته (وَيُصْلِحُ بَالَهُم) بخير ما نقص منها أو تتميم ما بقي عليهم من أفعال البر والإعانة أو بمغفرة ذنوبهم، وأمَّا على قراءة (قُتلوا) فالمراد سيهديهم في الدار الآخرة إلى طريق الجنة بالفعل ويغفر ذنوبهم ويدخلهم الجنة. قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ ... (7)} قال ابن عرفة: المذاهب ثلاثة: مذاهب المعتزلة أن العبد يخلق أفعاله، وأهل السنة يقولون بالكسب، والجبرية يقولون إنه كالميت بين يدي الفاعل ولا فعل له [بوجه*]، والآية حجة على المجبرة؛ لأنه يلزم عليه أن يكون الشرط غير الجزاء إن ينصركم الله، قال: والجواب: باختلافهما باعتبار المتعلق، أي (إِنَّ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ) في موطن (يَنْصُرْكُمُ) في مواطن أخر، مثل: (هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلَّا الإِحْسَانُ)، وإما أن الأول: باعتبار ابتداء القتال والصبر على مشقته، أي تقدموا على القتال أو تصبروا على مشقته يظفركم الله بعدوكم، فالثاني: باعتبار الظفر بالعدو أي إن يخلق لكم القدرة على القتال والصبر عليه يخلق لكم الظفر بعدوكم. قال ابن عرفة: وتقدم لنا أن القضية الشرطية المتصلة يلزمها منفصلة بالغة الخلو من نقيض مقدمها وعين تاليها، ومانع الجمع من غير مقدمها ونقيض تاليها، فمنع الخلو هنا مقصورتين، وأما منع الجمع ففيه إشكال لأنها لَا تقتضي أنه لَا يجتمع نصرهم دين الله مع عدم نصر الله مع أن ذلك قد وقع في غزوة أحد، وغزوة صفين وغيرها، إلا أن يجاب: بأن يكون النصر في الآخرة باعتبار الثواب، أو النصر مطلقا أي إن تنصروا دين الله مرة ينصركم مرة أخرى فهو مطلق يصدق على تلك المرة وعلى غيرها ويكون ذلك باعتبار الأعم الأغلب. قوله تعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ ... (10)}

(12)

إن كان التقدير ... (أَفَلَم يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ)، فالجملة موصولة غير مفصولة وتقرر أنها ما يؤتى بها مفصوله إلا لكمال الاتصال أو لكمال الانفصال، وعطف هنا بالفاء لظهور السببية، وفي غير هذه الآية قالوا أو لعدم ظهورها. قوله تعالى: (وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا). الكافرون من تقدم ومن تأخر ومن هو موجود في الحال، وجميع الأمثال، إما على التوزيع أو لكل كافر مثل ذلك، أو لكل كافر أمثال ذلك باعتبار التجدد شيئا بعد شيء. قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا ... (12)} أسند إدخالهم الجنة إلى نفسه تشريفا لهم، وقال في الكافرين: [ ... ] (وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُم) زيادة في [النعي*] عليهم، كما قال تعالى: (وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ). قوله تعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ ... (13)} ابن عرفة: كان بعضهم يقول: كم الخبرية [لتكثير*] آحاد العدد ذاته، (وَكَأَيِّنْ) [تكثير*] له باعتبار صفته بدليل قوله تعالى هنا: (هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ) فهي تكثير لها باعتبار أوصافها الشديدة. قوله تعالى: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ ... (15)} ابن عطية، والزمخشري: أي صفة الجنة. وقال القرطبي: إن المثل بمعنى الحديث ذكره في سورة المدثر. قوله تعالى: (وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ). قال ابن عطية: أي [وتنعيم أفادته المغفرة وسببته، وإلا فالمغفرة إنما هي قبل دخول الجنة*]. وقال ابن عرفة: هو عند إشارة إلى أن هذا النعيم ليس خالصا بمن [لم يقترف*] السيئات، بل هو عام يدخل فيه من خلط العمل الصالح بالسيئ. قوله تعالى: (كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ). ابن عطية: هنا سؤال: وهو أنه لَا يحتاج إلى [التشبيه*] على المخالفة بين الشيئين إلا إذا كان ممن يقارنهما، أما إذا كانت المخالفة بينهما معلومة بالبديهة فلا فائدة [بالتشبيه*]

(16)

على مخالفتهما، قال: وعادتهم يجيبون: بأن فائدة التبشير والمحمدة والثناء لقوم والتخويف والإنذار لقوم آخرين تقبيحا على الحرص على أسباب المقام الأول والبعد عن المقام الثاني، قال: وقوله تعالى: (كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ) أخص من قوله: كمن هو في النار خالد، لأن إتيان الخبر مقيد بصفة أخص من إتيانه مع صفة، فقولك: زيد ضاحك في الدار ضاحكا لَا خبر بعد خبر، فوصفته بالأمرين فما يلزم منه أن يكونا مجتمعين إلى حالة واحدة. قوله تعالى: (فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ). قالوا: هو أخص من قولك: قطعت أمعاءهم. قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ ... (16)} أي ومن النَّاس المستمعون هم المنافقون. قوله تعالى: {فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً ... (18)} ابن عرفة: انظر هل المستقبل هو الذي يأتي للحال أو الماضي، والحال، هما اللذان يأتيان للمستقبل، قال: والصواب أن المستقبل هو الآتي للحال، فيقال: زيد أتاه أجله، ولا يقال: زيد أتى أجله، قال: ووجهه أن الماضي معدوم والمستقبل صار موجودا فالموجود هو الآتي. قيل لابن عرفة: إنما ذلك بين زمنين [**والتعاند] هنا بين الإنسان والساعة وهما موجودان، فقال: الإنسان لَا يوجد إلا في زمان، فزمانه الحالي الذي كان فيه وكان فاصلا بينه وبين الساعة صار حين إتيان الساعة معروفا، قال: وعادتهم يستشكلون الآية من ناحية الجمع بين إتيانها بغتة مع مجيء أشراطها؛ لأنها بعد مجيء أشراطها حصل لهم الشعور بها، فلم [تأتهم*] بغتة، لَا يقال: هلك زيد بغتة إلا إذا لم يكن عنده بأسباب الهلاك شعور. قيل لابن عرفة: حصل لهم العلم بها جملة لَا [بتعيين*] وقتها، فقال: إنما يصدق لفظ البغتة عليها مع العلم جملة، قيل له: قد قال تعالى في آخر الأعراف: (ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً) وهي خطاب للمسلمين وقد حصل لهم العلم بأشراطها، فقال: لم يذكر هنالك معها مجيء أشراطها؟ قال: والجواب أنه لم يقل: فقد جاء أشراطها؛ بل حذف المفعول، وأشراطها إنما حصل بها لنا لَا للكفار، فهي للكفار بغتة حقيقة.

(21)

قيل لابن عرفة: في هذا إشكال لأن ينظرون بمعنى ينتظرون، والمنتظر قاصد، والقاصد للشيء المنتظر له لَا تأتيه بغتة؛ لأن الانتظار جاء في البغتة، وأجيب: بأن المراد فهل حالهم، قيل: إلى إتيان الساعة بغتة لأنه شبهه بمن ينتظر إتيانه بغتة. قوله تعالى: (فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا). أي من باب استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه؛ لأن بعض أشراطها وهو: بعث النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وانشقاق القمر والدخان وباقيها لم يقع فهو مثل: (أتَى أَمْرُ اللَّهِ) أو يكون عاما مخصوصا. قوله تعالى: {فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ ... (21)} ابن عرفة: وجه مناسبتها لما قبلها أنه لما تقدمها: (رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ) ومقتضاه كراهية المنافقين هذا الدين عقب بيان دوامهم على ذلك؛ إذ قد يتوهم أنهم إذا عزم الأمر لَا يدومون بل [يسمعون ويطيعون*] ظاهرا وباطنا. قال الزمخشري: والعزم بمعنى الجد. قال ابن عرفة: ليس كذلك لأن الجد في الشيء يقتضي التلبس به، والعزم إنما هو [قبل*] التلبس، [والعزم*] على الشيء إنما هو بتحصيل أكثر أسبابه، ولذلك قالوا في المسافر إذا عزم على إقامة أربعة أيام أنه يتم، وإن عزم على أقل منها فلا يتم، وتقدم الخلاف في الوجوب هل يتعلق بأول الوقت أو بآخره، واختلفوا في الواجب الموسع هل ينتقل عنه إلى بدل أم لَا؟ والبدل عندهم العزم على الفعل، وهو أن يعرض مثلا عند الزوال على أن يصلي الظهر في نصف الوقت. قوله تعالى: (فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ). قيل لابن عرفة: كيف يفهم هذا على قاعدة [لو نفيها إيجاب*]، وإيجابها نفي، وإنما ينتفي فيها الثاني لانتفاء الأول، فيقال: لأنهم لم يصدقوا الله فلم يكن صدقهم خيرا لهم، مع أن الصدق كله خير بالإطلاق؟ فأجاب: ابن عرفة بأنها سالبة والسالبة لا تقتضي ثبوت [الموضوع*] بوجه؛ بخلاف المعدولة. قوله تعالى: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ ... (22)} هذا [نعي عليهم أوليست لكم قدرة بوجه*] بحيث لو كانت لكم ولاية وسلطنة في الأرض لما قدرتم على الفساد بوجه.

(24)

قوله تعالى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ ... (24)} ولم يقل: أفلا يتذكرون القرآن، أو أفلا يتفكرون القرآن؛ لأن التذكر والتفكر هو استحضار أمر مستقبل يتوقع مجيئه، والكفار لم يكن لهم شعور بالقرآن في وجه؛ لأنه ينزل شيئا بعد شيء. قوله تعالى: (أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا). ابن عرفة: جمع القلوب جمع كثرة، والأقفال جمع قلة، [والقليل*]: إذا وُزع على الكثير لَا يقوم به، قال: وعادتهم يجيبون بوجهين: أحدهما: أن كل قلب عليه أقفال. والثاني: أن أقفالا مصدر لَا جمع؛ كما هو في قراءة إقفالها بكسر الهمزة. قوله تعالى: {سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ ... (26)} ابن عرفة: هذا البعض هو الذي كانوا مخالفين لهم فيه، والبعض الآخر كانوا موافقين لهم. قوله تعالى: (وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ). قرئت بفتح الهمزة وكسرها، فهو بالكسر مصدر، وبالفتح جمع سر، والمصدر أبلغ لأن علم المعنى يستلزم علم اللفظ المعبر به عن [ذلك*] المعنى. قوله تعالى: {يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ (27)} ضمير الفاعل في (يَضْرِبُونَ) إما عائد على الملائكة وهو أظهر، أو على الكفار أي يضرب بعضهم وجه بعض. فإن قلت: قد نهى في الحديث عن الضرب في الوجه في الجهاد وغيره. ابن عرفة: وجهه أنه قد [يسبيه المسلمون فيجدونه معيبا فينقص منه*]. قلنا: إما بأن تلك عقوبة دنيوية، وهذه عقوبة أخروية، وليست الدار دار تكليف، وإما أنه من باب مطرنا السهل والجبل، والمراد به التعميم. قوله تعالى: {اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ ... (28)} وهو عذابه، و (اتَّبَعُوا) ما أراد وقوعه من العذاب، أو يكون المعنى اتبعوا منهيات الله تعالى الموجبات لإيقاع السخط بهم. قوله تعالى: {وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ ... (30)}

(31)

رؤية ظاهرة لَا شك فيها بحيث تصفهم لغيرك، والواحد منا إذا رأى شيئا تارة يكون لو سئل عنه لوصفه لغيره؛ كأنه يشاهد، فهذا أحاط بصفته، وتارة لَا يقدر على وصفه لغيره. قوله تعالى: (وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ). هو مقتضاه، وهو نحو قول الأصوليين: لحن الخطاب، وهو عندهم دلالة اللفظ التزاما على ما لَا يستقل الحكم إلا به: (أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ) أي فضرب فانفلق، وقد أطال أبو علي [القالي*] في الأمالي الكلام في لفظ اللحن. انظر فيه. قال ابن عرفة: فاقتضت الآية أن الله تعالى لم يريهم لنبيه صلى الله عليه وعلى آله وسلم ولا أعلمه بهم لكن جعل له علامة على معرفتهم وهو أنهم يتكلمون بمحضره كلاما يفهم منه عنهم النفاق من غير أن [يقصدوا*] به إفهامهم. قيل لابن عرفة: تقدم لنا هنا أن هذه الآية دالة على صحة الشهادة على [الخطأ*] في الكلمة الواحدة، لقوله تعالى: (فِي لَحْنِ الْقَوْلِ) ولم يقل: لحن الكلام، والقول أعم من الكلام. قوله تعالى: (وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ). قال ابن عرفة: يدخل فيه النظر والنية كما تقدم في قوله: "إنما الأعمال بالنيات"، أنه يستثنى منه النية والنظر. قوله تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ ... (31)} قال ابن عرفة: هذا ترق في العلم فأظهرها العلم بالجهاد، ثم العلم بالصبر، وأخفاها العلم بالإخبار، فإن الأقوال فيها الحقيقة والمجاز، والعموم والخصوص

(32)

والاستعارة والتعريض والرموز، والظاهر والمأول والكنايات الظاهر والكناية الحقيقية، فالعلم بها أخفى من العلم بالصبر. قال ابن عرفة: وفيه سؤال: وهو أن قوله تعالى: [(وَنَبْلُوَ) *] معطوف على (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ) أو على قوله تعالى: (حَتى نَعْلَمَ) وكونه منصوبا دليل على أنه معطوف على (حَتَّى نَعْلَمَ)، فإن كان قوله: [(وَنَبْلُوَ) *] بمعنى قوله: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ) لزم أن يكون الشيء غاية لنفسه، وإن كان أخص منه لزم كون الكلي غاية للجزئي، وهو باطل عنه، والجواب: أنه خاص لَا أخص، كقولك: والعورة من السرة إلى الركبة؛ لأنه ليس المراد إظهار المطلق بل المقيد بالأقوال، أي ولنخبرنكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونختبر أقوالكم. قوله تعالى: {لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا ... (32)} وهذا إما على ظاهره، أو المراد (لَنْ يَضُرُّوا) رسول الله، مثل (إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يبايِعُونَ اللَّهَ) و (شَيْئًا) مصدر مؤكد للنفي لا للفعل المنفي، فهو داخل بعد النفي لَا قبله. قوله تعالى: {أَطِيعُوا اللَّهَ .. (33)} تقدم الخلاف في الطاعة، هل هي موافقة الأمر وعدم مخالفته، فمن عجز عن فعل ما أمر به [مطيع*] على الثاني دون الأول. قوله تعالى: (وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ). يتناول الأعمال الموجبة؛ كمن شرع في نافلة لَا يحل له أن يقطعها، ويتناول البشرية؛ كمن يتصدق بدرهم ثم آذى الفقير، أو مَنَّ به عليه، قال تعالى (لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى). قوله تعالى: {ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ ... (34)} العطف بـ ثم إما نعي عليهم إشارة إلى أنهم أمهلوا وأخروا لكي ينزجروا [وينظروا*] النظر السديد فلم يؤمنوا، وإما البعد ما بين مطلق الكفر والموت على الكفر. فإن قلت: ما الفرق بين قولكم: ماتوا كافرين، وبين قولك: و (مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ)؟ فالجواب: كان بعضهم يقول: الثاني أبلغ لأنه تصديق، والأول راجع لقسم التصور، لأن الثاني جملة إسنادية خبرية، والأول قيد في الجملة فهو مفرد. قوله تعالى: (فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ).

(35)

مفهومه أن من لم يمت كافرا يجوز أن يغفر الله له، بقوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ) أي ليس إرجاء من هذه الآية لأنه أثبت لهم المغفرة حقيقة. قال ابن عطية: روي أنها نزلت بسبب عدي بن حاتم، قال: يا رسول الله، إن حاتما كانت له أفعال برٍّ فما حاله؟ فقال: هو في النار فبكى وولى، فبدأ رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقال: أبي وأبوك وأبو إبراهيم في النار"، فنزلت هذه الآية في ذلك. قال ابن عرفة: هذا لَا ينبغي أن يكون نقله بحضرة العوام، والأولى تركه والوقوف عنه، وعدم السؤال عليه لأنه ليس بأمر اعتقادي، ولا يمس الإنسان من تركه شيء على أن الحديث مذكور في المصنفات. قوله تعالى: {فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ ... (35)} إما أن يكون انتقال من قصة إلى إنشاء حكم، فلا يحتاج فيه إلى مناسبة، وكان بعضهم يقرر وجه المناسبة: بأن عدم مغفرة لهم فيقتضي إبعاده لهم وإبقاءه لهم، يؤذون بفشلهم وضعفهم وتكاسلهم عن اتباع التكليف، فنهى المؤمنون عن الاتصاف بصفتها التي أوجبت لهم الطرد والإبعاد عن رحمة الله عز وجل. قوله تعالى: (وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ). هذا احتراز من أي أنتم الغالبون والله معينكم وناصركم عليهم ولو كنتم أقل منهم. قوله تعالى: (وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُم). وهو مأخوذ من الوتر وهو [الدَّحْلُ*]. ابن عرفة: في صحاح الجوهري بالحاء والدال المهملتين، قال: [والدَّحِلُ: الخَدَّاعُ*]، وفي مختصر العين بالدال المهملة: هو النار، وبالذال المعجمة: هو البيت الصغير، وفي صحيح مسلم في كتاب اللباس لَا يبق في رقبة بعير قلادة من وتر إلا قطعت. قال المازري: يلزم قصر النهي على الوتر خاصة، وأجازه ابن القاسم بغير الوتر. قال عبد الوهاب: يكره للمسافر الأجراس والأوتار لحديث لَا يصحب الملائكة رفقة فيها جرس، وأما الأوتار فقد تؤدي إلى الاختناق بها [وحمل*] بعضهم النهي عن اتخاذ الأوتار الدخول.

(36)

قال ابن عطية: وقيل: مأخوذ من الوتر وهو الفرد، أي أنه أفردكم من ثواب أعمالكم. قوله تعالى: {إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ ... (36)} قال ابن عرفة: كان بعضهم يقول إذا قلت: هذا الثوب أسود فتارة تريد الحقيقة بمعنى أنه لَا بياض فيه بوجه، وتارة تطلقه مجازا بمعنى أن بعضه أسود وإن كان بعضه أبيض، فقوله (الدُّنْيَا) إن كان على معنى الأول فهي حياة لَا حظ فيها للآخرة بل هي كلها مشغولة بالأمور الدنيوية فقط، فالوصف بالدنيا [للحصر*] والقصر على شهواتها، وإن كان على المعنى الثاني فهي حياة دنيوية وإن خالطها بعض أسباب الآخرة فوصفها بالدنيا مجازا، [واللعب*] كان بعضهم يقول: هو الاشتغال بما لَا فائدة فيه مطلقا، كلعب الأطفال واللهو والاشتغال مما يسلي النفس ويلهيها عما نالها من الغم والهم والحزن، كلعب المسجونين، وقدم في الأعراف والعنكبوت اللهو على اللعب، وفي غيرها عكس ذلك بحسب الوقائع، فإن كان حال [الإنسان*] حين نزول الآية عليه مشغولا بما لَا فائدة فيه كالأطفال قدم اللعب، وإن كان العكس قدم اللهو. قوله تعالى: (وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ). قيل لابن عرفة: مفهومه (وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ) مع أنه لَا أجر لهم هنالك بوجه، فقال: السالبة لَا [تقتضي*] وجود الموضوع بوجه، قيل له: يبقى مفهوم آخر وهو أنه إن لم يؤمنوا [ولم يتقوا*] سألهم أموالهم، يقال: مال الحربي غير محرم، أو تقول: الكفار مخاطبون بالفروع. قوله تعالى: {ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ (38)} يؤخذ منه صحة ما قاله الأصوليون من أن الغيرين يصدقان على المثلين. قيل لابن عرفة: كيف هذا وقد ورد في الحديث: " [لَوْ لَمْ تُذْنِبُوا لَذَهَبَ اللهُ بِكُمْ، وَلَجَاءَ بِقَوْمٍ يُذْنِبُونَ، فَيَسْتَغْفِرُونَ اللهَ فَيَغْفِرُ لَهُمْ*] ". فأجاب بمفهوم: قوله تعالى: (تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا) معا. * * *

سورة الفتح

سُورَةُ الْفَتْحِ قوله تعالى: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (1)} قالوا: التأكيد بـ (إِنَّا) إما لأن المخاطب منكر أو عليه [مخايل*] الإنكار، فإن لم يكن منكرا فالأظهر عليه [مخايل الإنكار*]، فالتأكيد لمجرد التعظيم والتفخيم لهذه الآية، وأجمعوا على أن السورة مدنية، وإنما اختلفوا في محل نزولها، وحاصل الجميع أنها نزلت بعد الهجرة. قوله تعالى: {مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ ... (2)} قال: الذنب ما استلزم الذم والعتب أو العقوبة، وعذابه بمعنى المؤاخذة وعدم المؤاخذة يبطل لازمه فيبطل الذنب فلا ذنب هنالك ونظيره، قوله تعالى: (وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ) وليست الدار دار تكليف فليس فيها ذنب يغفر؛ بل هو راجع لعدم المؤاخذة بما يفعلون، فهو دليل لما قلناه. وقيل: المغفرة تطلق على ستر المعصية بمعنى الحفظ منها، وعلى ستر المرتب عليها بمعنى التجاوز عنه. قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ ... (4)} إشارة إلى شدة ثبوتها واستقرارها في القلب؛ لأن الإنزال يقتضي الثبوت لَا سيما من موضع مرتفع بعيد. قوله تعالى: (لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ). احتج بها الفخر على أن الإيمان يزيد وينقص، وأجيب: بأن زيادته بحسب متعلقات، يزيد بزيادة الأعمال، قال: المزيد غير المزيد عليه وليس مثله، بدليل قوله تعالى: (مَعَ إِيمَانِهِمْ) ولم يقل: إلى إيمانهم، كما في التوبة (وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ). قوله تعالى: {وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ ... (5)} مع أن تكفير السيئات سابق على دخول الجنة؟ وأجيب: بأن المراد تكفيرها سترها، فمعناه يستر عنهم سيئاتهم حتى لَا يرونها ولا يتأسفوا عليها. قوله تعالى: {سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ ... (11)}

(18)

السين للاستقبال أو التحقيق، فإِن قلت: هلا قال: (الْمُخَلِّفُونَ) لأن العبارة باسم الفاعل أبلغ في الذم؟ والجواب: أنه قصد التنبيه على الاستغناء عنهم، وأن الله تعالى خلقهم، كما قال تعالى (وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ) وإن كان التخلف في ظاهر الحال منهم فهو في الباطن منسوب إلى المؤمنين بمعنى أنهم تركوهم ولم ينالوهم. قوله تعالى: (يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ). فيه سؤالان: الأول: قال في آل عمران: (هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ) قلب القول للأفواه كما لا لَلألسنة؟ فالجواب: أن قولهم هنالك أكثر وأعظم وأشنع لأنهم قالوا: (لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ)، وبدليل قول الله تعالى: (وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكتُمُونَ) فدل على كثرة قولهم، فنسب الكثير للأفواه إذ هي أوسع من الألسنة. الثاني: قالوا يؤخذ من الآية الرد على إمام الحرمين، في قوله: إن الْكَلَام فِي [الْفُؤَاد*] وَإِنَّمَا ... جعل اللّسانُ على الْفُؤَاد دَلِيلا وردوا عليه بأن ابن العربي إنما يحتج بقوله: فيما ينطق فيه بطبعه من رفع ونصب وخفض، أما ما يحكم فيه فلا، وأجيب: بأن هذا حكم على اللغة والعربي إذا تكلم بكلمة ويقول: معناها عندي كذا، فالمرجع لقوله على وجه الدليل من الآية، أن الله تعالى قال (يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ) والضمير في [(لَيْسَ)] عائد على القول، فلولا أن ذلكَ القول قابل لأن يكون قال (فِي قُلُوبِهِمْ) والضمير عائد على المذكور، والمذكور إنما هو القول، قال: ونسبها لقول اللسان مع أن مخارج الحروف غير منحصرة في اللسان لكنه هو أعمها. قوله تعالى: (إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا). يقال: بفتح الضاد وضمها، وهما راجعان لمعنى واحد، أحدهما حسِّي والأخرى معنوي. قوله تعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ ... (18)}

(21)

ابن عطية: كان سبب هذه الآية كذا وكذا، ثم قال: وحيث جعل رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يده على يده، وقال: "هذه عن عثمان وهو خير من يد عثمان". قال ابن عرفة: أراد بذلك إزالة النقص المتقدم بحق عثمان من كونه لم يحضر ولم يبايع، فمعناه أن بيعة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم عنه خير من بيعته هو لنفسه مباشرة. فإن قلت: وإنما بايعوا على الموت وعثمان قد شاع عندهم حينئذ موته، فكيف يبايع النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم عنه على الموت وهو يعتقد أنه ميت؟ قلنا: قد يكون سبب البيعة [إثر سماعهم*] الخبر بموت عثمان، ثم في أثناء الأمر ورد [**يحيونه]. قوله تعالى: {وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا ... (21)} فيها حجة على المجبرة القائلين: بأن العبد لَا قدرة له ولا كسب لأجل نفي القدرة عنهم في هذه، فمفهومه ثبوت القدرة لهم على غيرها، وإلا فلا فائدة لتخصيص هذه بنفي القدرة، والمراد غنيمة أخرى أو نعمة أخرى. ابن عرفة: أي غنيمة مغايرة الأولى، أو غنيمة مغايرة لها، أو سابقة عنها في الزمان، كقوله: [ ... ]. قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ ... (24)} قال ابن عرفة: يؤخذ منه أن القدم الإضافي متعلق به القدرة، وتقدم لنا مثله في قوله تعالى: (مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ) قيل [لا حجة فيه؛ لاحتمال*] أن يرجع إلى الإرادة، فقال: والإرادة مؤثرة؛ لأن من شأنها الاختصاص. قيل له: الأشهر عندهم أنها غير مؤثرة، قال: وعادتهم يقولون: الآية خرجت مخرج الامتنان والنعمة في كف أيدي الكفار عن المسلمين ظاهرة، وأما كف أيدينا عنهم ففيه عكس النعمة، وأجيب: بأن المراد لازم ذلك وهو إسلامهم فبإسلامهم وانقيادهم [حصل*] كف أيدينا عنهم؛ لَا بالعجز عن قتالهم. * * *

سورة الحجرات

سُورَةُ الْحُجُرَاتِ قوله تعالى: {لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ... (1)} الآية دالة على حرمة الاجتهاد بحضرته عليه السلام؛ لأن معنى التقدم في غيبة [ ... ]. قوله تعالى: {فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ ... (2)} قال: وكذا مثله في القدْر أو دونه. قوله تعالى: {مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ ... (4)} حال من المنادي. قوله تعالى: (أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ). قال ابن عرفة: يعود على ضمير (الَّذِينَ) فتبين أن المراد بالذين مدلوله الضمير فلا يكون مدلوله الأول داخلا في النداء. قوله تعالى: {أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ ... (5)} عداه بحتى دون إلى؛ لأن معنى حتى المراد به حقيقته وظهوره، وفي إلى الانتهاء إليه فقط. قوله تعالى: {فَاسِقٌ بِنَبَإٍ ... (6)} قال ابن عرفة: النبأ أخص من الخبر، فإذا رتب التبين على الأخص المخبر به فأحرى الأعم الذي لَا يتحفظ في نقله. قوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ ... (7)} عبر هنا بالرسول وفيما قبل هذا بالنبي؛ لأن المراد هنا شرف الرسالة، وشرف النبي تبعا لها وبقاء التعظيم في ذاته، ولما كانت المحبة قد تزول ولا تدوم أخبر تعالى بأنه مزين راسخ لَا يزول، فهو تأسيس، ولهذا عبر مع التزيين بـ[(في) *]، ومع حبب بـ (إلى) إشعارا بهذا. قوله تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا ... (9)} قال ابن عرفة: في الآية استشهاد واستشكال، أما الاستشهاد فيدل على أن الفسق لا يسلب صدق الإيمان على صاحبه، كقوله تعالى: (فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى) مع إطلاق الإيمان عليها، وأما الاستشكال فهو في الجمع بينهما وبين قوله

(10)

عليه الصلاة والسلام: "سباب المسلم فسوق وقتاله كفر"، والآية دلت على عدم تكفيره بالقتل، الجواب: أن الحديث مأول فيمن استحل [ونحوه*] لَا يدل على الكفر. قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ ... (10)} قال ابن عرفة: الأخوة إما باعتبار الحكم فظاهر، وإن كانت باعتبار [وجوده*] الخارجي فكان بعضهم يقدره بأنه تمثيل لأن الأجنبي يكون بالاشتراك في الإيمان أو في أحدهما، وهو هنا بالاشتراك في كلمة الشهادتين فهي تمثيل، كقوله: زيد أسد، والأول كقوله: زيد قائم. قوله تعالى: (وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ). ولم يقل: لعلكم تفلحون إشارة إلى قوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: "الراحمون يرحمهم الرحمن"، فالأمر بالصلح [إنما*] بالتراحم بينهم والشفقة والحنان ليكون ذلك سببا في رحمة الله لهم.

(11)

قوله تعالى: {لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ ... (11)} قال ابن عطية: [يَسْخَرْ معناه: يستهزئ*]، والاستهزاء أخف من السخرية، فالاستهزاء عدم المبالاة به مع استحضاره، قال تعالى (وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ). قال: ورأيت نحوه للسهيلي في الروض الأنف، قلت: قال الزمخشري: في قوله تعالى: (فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا) هو بالضم والكسر مصدر كالسخر إلا في باب النسب بزيادة قوة في الفعل كما فعل بالخصوصية والخصوص. عن الكسائي والفراء: أن الكسر من الهمزة والمضموم من السخرية والعبودية والأول مذهب الخليل وسيبويه. قوله تعالى: (عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ). ابن عرفة: هذا إما تعليل للنهي أو نفي للفعل المعلل، فهو إما راجع للإسخار، أي لَا تسخروا بقوم لتكونوا خير منهم ولا تسخروا بقوم، وعلى الثاني حمله الزمخشري وغيره، والقوم الرجال. قيل لابن عرفة: يخرج منه سخرة الرجال بالنساء والنساء بالرجال، فالصواب جعل القوم صادق على الرجال والنساء. وقال ابن عرفة مرة أخرى: للقائل أن يقول لَا يصح فغير القوم على الذكور لدلالة قوله تعالى: (وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ) لئلا يلزم عليه عدم استيفاء الآية للأقسام الممكنة فيها، وهي أربعة: رجال من رجال، ونساء من نساء، ورجال من نساء، ونساء من رجال، فإن خصصنا القوم بالذكور خرج الأخيران، فإِن جعلناه شاملا لهم وللإناث شمل الجميع ويكون قوله تعالى: (وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ) تأكيدا وهو أولى من كونه تأسيسا المستلزم لعدم كمال الفائدة. قوله تعالى: (وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ). نقل الزمخشري: هنا عن الحسن أنه قال في الحجاج أتانا أخيفش أعيمش إلى آخره. قال ابن عرفة: هذا لقوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم "لَا غيبة في فاسق". قيل لابن عرفة: هذا لَا يصح لأن القاضي عياض حمل الحديث على غيبة الفاسق فيما كان به فاسقا، يقال: ظلم في كذا بأفعاله الكسبية؛ لَا بصفاته الخلقية التي لم يكن

بها فاسقا، فقال يصح ذلك بمعنى أبدا المانع جهالة عن الفسق، كما قال: "أشد النَّاس عذابا يوم القيامة الشيخ الزاني، والعالم المستكبر، والأمير الكذاب"، لأن الداعي لهم إلى الفسق معدوم في حقهم، قال: [ولمز الإنسان على غيره*] من باب لمزه نفسه. ابن عطية: لأنه يطعن بعضكم على بعض بذكر النقائص وقد تكون اللمز بالقول وبالإشارة، والهمز لَا يكون إلا باللسان وهو مشبه بالهمز [بالعود*]. قيل لأعرابي: أتهمز الفأرة، فقال: الهر همزها. انتهى. ذكر هذا ليستدل به على أن الهمز يكون بالفعل، ومعنى قوله أتهمز الفأرة، أي تقول: بالهمز، فأجابه الأعرابي مستخفا به؛ لأن الهر يهمزها، وهمز الهر لها بالفعل. وما ذكر ابن عطية: من أن سبب نزول الآية [ ... ] بما يكره ضعيف؛ لأنه مسرع فيبعد أن يترك ردا عليه. ابن عطية: [كأن المؤمنين كنفس واحدة*] فإِذا لمز أحدهم صاحبه فكأنه لمز نفسه، انتهى. والمراد النهي عن سبب اللمز، أي لَا تفعلوا من المعايب ما يكون سببا في لمزكم، فإِن فعلتم ذلك فكأنكم لمزتم أنفسكم بفعلكم سببه فإِنه من إطلاق اسم المسبب وهو اللمز على سببه وهي العيوب. الزمخشري: وعن الحسن رضي الله عنه في ذكر الحجاج: [أخرج إلى بنانا قصيرة قلما عرقت فيها الأعنة في سبيل الله ثم جعل يطبطب شعيرات له ويقول: يا أبا سعيد يا أبا سعيد، وقال لما مات: اللهم أنت أمته فاقطع سنته، فإنه أتانا أخيفش أعيمش يخطر في مشيته ويصعد المنبر حتى تفوته الصلاة، لا من الله يتقي ولا من الناس يستحي*]. انتهى. ابن عرفة: وهذه غيبة لكن في فاسق وقد ورد "لَا غيبة في فاسق" إذا تظاهر بالمعاصي فلا تحرم غيبته، ولقد سئل بعضهم عمن حلف بالطلاق أن الحجاج من أهل النار، فقال: قل له يبقى مع زوجته فلان غفر الله للحجاج، فهو راحم به إذا بقي مع زوجته في الحرام وهي سيئة من سيئات عبد الملك بن مروان. قوله تعالى: (بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ). فسره الزمخشري بثلاثة أوجه: أحدها: استقباح ما بين الإيمان وبين الفسق الذي يأباه الإيمان ويمنعه، وهذا توقيف على مذهبه في أن الفاسق كافر وليس بمؤمن، ولو صدر هذا الكلام من سني

(12)

لأمن فيه التأويل، وقد قال بعض النَّاس فيمن تأول كلام الفارسي في رهبانية ابتدعوها على مذهب أهل السنة: أنه [لو سمع*] تأويله لبصق في وجهه. قال: الوجه الثالث: أن يجعل من فسق غير مؤمن، كما تقول [للمتحول*] عن التجارة إلى الفلاحة بئس الحرفة الفلاحة بعد التجارة، انتهى. أراد بئس الانتقال من الإيمان إلى الفسوق، وهذا على مذهبه أيضا؛ لأن الفاسق عنده كافر، ولذلك [ ... ]. بالانتقال من التجارة إلى الفلاحة؛ لأنه سلب عنه اسم التجارة ووصفه بالفلاحة، ونحن نقول: المراد بئس الانتقال من الإيمان الخالص الكامل إلى الإيمان المخالط. وظاهر كلام الزمخشري أن التاجر أحسن من الفلاح، وقال غيره: الفلاح أحسن لما يحصل من الأخروي فيما يصنع ويؤكل، والتاجر لَا يخلوا من تطفيف في الوزن أو حيف أو زيادة في الثمن بخلاف الفلاح، وكان أكثر أهل المدينة فلاحين، وأكثر أهل مكة تجارا، وظاهر الآية أن التحدث في النَّاس بالمعايب، وذكر ما لهم حرجه تسقط شهادة المتكلم بذلك لأن الآية دلت على أنه من الكبائر لأن الكبائر ما توعد على [فعلها*]. قوله تعالى: {اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ ... (12)} إن قلت: لم قيل: (اجْتَنِبُوا) بلفظ الأمر، ولم يقل: لَا تظنوا بلفظ النهي، لأن اجتناب [المنهي*] أشد من فعل المأمور، لقوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: " [إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ، وَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَدَعُوهُ*]، ولأن النهي عند الأكثرين للتحريم بخلاف الأمر فإن فيه خلافا، فالجواب: أنه لو قيل: لَا تظنوا كان النهي عاما في جميع الظن، والمراد إنما هو [بعض*] الظنون، فأتى فيه بلفظ الأمر وفي ضمنه النهي، لأن مادة الاجتناب تدل عليه، وعلق النهي بأكثر الظن لَا بجميعه، ولأن

لفظ افعل أحق في التكليف من صيغه لَا تفعل، والظنون منها الجائز والمحرم والواجب والمندوب والمحرم بعضها ... ، فلذلك قرنه بأخف العبارات. ابن عطية: قال سلمان الفارسي: إني لأعد [عُراق*] قدري مخافة الظن، انتهى، أراد أنه يختم على [**البومة مخافة أن يظن بمن تكلف بها ظن السوء وهو أولى من عدة اللحم]، فإنه قد يظن أنه قطع له من كل لحمة طرفا. قال: وقال ابن مسعود: الأمانة خير من الخاتم، والخاتم خير من سوء الظن، انتهى، أراد أن وضع الشيء عند الأمين غير مطبوع عليه أطيب لنفسه ما لو ختم عليه، ووصفه عنده أمانة. الزمخشري: فإن قلت: ما الفرق بين كثير حين جاء نكرة وبينه لو جاء معرفة؟ قلت: مجيئه نكرة يفيد معنى البعضية وإن في الظنون ما يجب أن يجتنب من غير تعيين لئلا [يجترئ*] أحد على ظن إلا بعد نظر وتأمل، وتمييز بين حقه وباطله بإمارة بينه مع استشعار [للتقوى*]، ولو عرف لكان الأمر باجتناب الظن [منوطا*] بما يكثر منه دون ما يقل، ووجب أن يكون كل ظن متصف بالكثرة مجتنبا، [وما اتصف منه بالقلة*] مرخصا فيه، انتهى. تقديره أن الكثير المعرف بالألف واللام كل يقتضي اجتناب كثير الجمع بغير الجمعية، وقوله: كثير الظن يفيد تعلق الكلية بالكثير، فيقتضي اجتناب الكثير مع تتبع الأفراد، كما تقول لرجل: أكرم الكثير من الضيوف، فلا يلزمه إلا إكرام الجماعة الكثيرين المجتمعين لأن الألف واللام [لتكثير الجنس*]، ولو قلت له: أكرم كثيرا من الضيف فأتاه ضيف واحد أو ضيفان [لزمه*] إكرامهما، ثم كذلك لَا يزال مطلوبا بإكرام ما زاد عليهما إلى أن يبلغ حد الكثرة، بخلاف الأول فإنه لَا يلزمه إكرام الضيف الواحد ولا الاثنين، قيل: يؤخذ من الآية أنه إذا اختلط شاة محرمة بشاة محللة أنه يحرم الجميع، ووجه الاستدلال أنه حرم الكثير [لأجل*] تحريم القليل، فالاجتناب معلل، بقوله تعالى: (إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ)، أجيب: بأن الآية لم تتضمن اجتناب على الظن لكون بعضه إثما، وإنما تتضمت اجتناب بعضه، وتعلق النهي بالبعض المجتنب لكونه إثما، فالمراد بقوله تعالى: (بَعْضَ الظَّنِ) ذلك البعض المجتنب، فالمعنى إن كثيرا من الظن إثم فهو تعليل للكثير المجتنب لَا للظنون التي بعضها مجتنب وبعضها غير مجتنب، والظن الذي في مصلحة واجبة أو مندوبة غير مراد في الآية وإنما تناولت الآية ظنونا متماثلة في عدم المصلحة الأخروية، وزاد أحدهما بكونه إثما، فالكثير بعض ذلك ظن الذنب لَا مصلحة فيه وهو المعلل بكونه إثما وهو المأمور باجتنابه وما عداه جائز لَا إثم فيه، وفي آخر جامع التنبيه حدثني أشهب، عن نافع بن عمر

الجمحي، عن أبي مليكة، أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: "لَا يحل لامرئٍ مسلم يسمع من أخيه كلمة أن يظن بها سوء وهو يجد لها في شيء من الخير" مصدر ابن رشد هذا صحيح يشهد له، قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ). قوله تعالى: (وَلَا تَجَسَّسُوا). ابن عطية: لَا تجسسوا: أي: [لا تبحثوا على مخبآت أمور الناس واجتزوا بالظواهر الحسنة*]، انتهى. قال شيخنا: ووقع النظر بين فقهاء الزمان في بعض قضاة المغرب كان يرد الديار على النَّاس يتجسس عليهم فمن رأى عنده أمارة المعصية من شرب الخمر ونحوه عاقبه، فاختلف في ذلك الفقهاء فمنهم من خطأه وجعله من التجسس المنهي عنه، ومنهم من صوب فعله [لغلبة*] الفساد على النَّاس، والصواب فيه أن من اشتهر بذلك فالتجسس عليه مطلوب وواجب، ومن هو مستور الحال فلا يحل التجسس عليه، وهؤلاء الذين يغتابون النَّاس في حقائق الفقهاء لم أرهم كذلك قديما وحديثا، والصواب فيه أنه إن [اغتاب*] من هو في نسبة الشهادة أو القضاء أو الإمامة أو خطة من الخطط الشرعية فلا بأس للفقيه أن يسمع ذلك ويصغي إليه، وحيث تتقرر عنده عدالة ذلك الشخص المقول فيه ذلك أو [جرحه*] فيقدمه في تلك الخطة أو يؤخره عنها سواء كان ذلك الفقيه السامع للغيبة قاضيا أو غيره؛ لأنه قد يستشار معه، ويقلد في الأمور ولا يحل سماع ذلك إلا لمن هو بتلك المنزلة، ومن ليس كذلك إذا سمع ذلك فليخرج ويتركه، وأما غيبة من ليس فيه قابلية الخطة فلا يحل سماعها لأحد بوجه. ابن عطية: وحكى الزهراوي، عن جابر بن عبد الله، عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، أنه قال: "الغيبة أشد من الزنا لأن الزاني يتوب الله عليه والذي يغتاب فلا يتاب عليه حتى يستحل"، انتهى. قال شيخنا: هذا الحديث لم يصح، وقيل: الزنا أشد من الغيبة بثلاثة أوجه: الأول: إمكان التحلل في الغيبة بخلاف الزنا فإِنه إذا ولدت منه فنسب ذلك الولد ثابت لَا يرتفع. الثاني: أن الغيبة حق لآدمي والزنا حق لله وحق الله [آكد*]. الثالث: أن الغيبة استثنى منها بعض العلماء بعض الصور فأجازوها بخلاف الزنا فإنه يحرم مطلقا.

ابن عطية: [ولم يبح*] في هذا المعنى إلا ما تدعو الضرورة إليه من تجريح [في الشهود*]، [وفي التعريف لمن استنصح في الخطاب ونحوهم*]، انتهى، ولما عرف عياض في المدارك بالشيخ العابد أبي إسحاق إبراهيم بن أحمد بن علي السجستاني، قال: قال أبو الحسن القابسي: لما خرجنا عنه هربت من يد صبي دابة كان يمسكها لنا، فقلت: أعطيتموها لصبي لم [يقم*] لها فضاعت، فقال لي أبو إسحاق: قد [اغتبته*]؟ فقلت له: وصفته بحاله، وفي السنة ما يبيح ذلك، وهو قوله عليه السلام للتي شاورته في النكاح: "أَمَّا أَبُو جَهْمٍ، فَلَا يَضَعُ عَصَاهُ عَنْ عَاتِقِهِ، وَأَمَّا مُعَاوِيَةُ فَصُعْلُوكٌ لَا مَالَ لَهُ"، فقال لي: لا حجة فيها لأن المستشار مؤتمن، وأيضا فإِنما شاورته لتنكح في أنه يدخلها في النكاح أو يصرفها عنه، ومسلما ليست كذلك؛ بل في السنة، وذلك أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أتاه طبيبان وكانا نصرانيين فلما خرجا، قال: "لولا أن يكون غيبة لأخبرتكم أيهما أطب". قال أبو الحسن: ولم أكن أعرف أنهما نصرانيين قبل ذلك، ثم قال لي: أرأيت هذا الصبي لو سمعك لكان توجهه نفسه، وإنما كان أحب إليك [تجده*] في صحيفتك أولا، فقلت: له صدقت، انتهى. قال شيخنا ابن عرفة: يحتمل أن يكون معنى الحديث في الطبيبين أنهما استويا في القدر المجزئ منهما المحتمل [للفرض*]، وزاد أحدهما بأمور تكميلية لَا يضر تركها ولا ينقص من معرفة العلاج والمعاناة، فزاد بعلم الطبيعيات، فحينئذ يكون تفضيل أحدهما على الآخر غيبة، وأما حيث يكون المرجوح منهما لَا يحصل المقصود منه في التطبيب، فالظاهر أن التعريف بذلك ليس بغيبة. قوله تعالى: (أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا). الهمزة للإنكار على غير المخاطبين؛ لأن المخاطبين لم يفعلوا ذلك، وهذا من [**الخطاب الشعري]. الفخر، وفيه معنى آخر وهو أن [الِاغْتِيَابَ كَأَكْلِ لَحْمِ الْآدَمِيِّ مَيْتًا، وَلَا يَحِلُّ أَكْلُهُ إِلَّا لِلْمُضْطَرِّ بِقَدْرِ الْحَاجَةِ، وَالْمُضْطَرُّ إِذَا وَجَدَ لَحْمَ الشَّاةِ الْمَيِّتَةِ وَلَحَمَ الْآدَمِيِّ الْمَيِّتِ فَلَا يَأْكُلُ لَحْمَ الْآدَمِيِّ، فَكَذَلِكَ الْمُغْتَابُ إِنْ وَجَدَ لِحَاجَتِهِ مَدْفَعًا غَيْرَ الْغِيبَةِ فَلَا يُبَاحُ لَهُ الِاغْتِيَابُ*]، انتهى. لو أريد هذا المعنى لقيل: أيأكل أحدكم، والذي في الآية إنما هو: (أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ) والمضطر يأكل الميتة وهو كاره لها غير محب لها، فصدق نفي المحبة مطلقا مع الاختيار والاضطرار. الفخر، (مَيْتًا) حَالٌ [عَنِ اللَّحْمِ أَوْ عَنِ*] الْأَخِ.

(13)

فَإِنْ قِيلَ اللَّحْمُ لَا يَكُونُ مَيْتًا، قُلْنَا بَلَى، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا أُبِينَ مِنْ حَيٍّ فهو ميت»، انتهى. قلت: وبدليل اختلاف الفقهاء في العظام هل يحلها الحياة أم لَا؟ واختار المازني في الجوزق أنها يحلها الحياة بدليل وجود الإحساس والتالي بها والطب يقتضي ذلك [فحلول الحياة فيها*]؛ دليل على اتصافها بالموت. ابن عطية: وقال الرماني كراهية هذا اللحم يدعو إليها الطبع، وكراهية الغيبة يدعوا إليها [العقل*] وهو أحق أن يجاب لأنه [بصير عالم*]، والطبع أعمى جاهل، انتهى. قلت: هذا اعتزال عقل عنه، ابن عطية: لأنه [بناه*] على قاعدة التحسين والتقبيح حكَّم العقل وجعله [يحسن ويقبح*]، ومذهبنا بطلا ذلك. قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ). يحتمل أن يكون ردعا عن الغيبة، كأنه قيل: إن الوصف الذي وقعت به الغيبة في الشخص المخبر عنه معروض للزوال بالتوبة فتنقلب الغيبة مباهتة، ولهذا [صدَّره*] بقوله: (وَاتَّقُوا اللَّهَ). قوله تعالى: {إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى ... (13)} ابن عطية: يحتمل أن يريد بالذكر والأنثى آدم وحواء فيكونا شخصين، ويحتمل أن يكونا كليين واقعين على ما [تناسل*] منه كل واحد منا؛ لأن كل إنسان له أب وأم، انتهى. قيل: يترجح الثاني لأنه حقيقة والأول مجاز، قيل: بل الأول أولى بوجهين: أحدهما: أنه مفيد إذ [إنه*] إخبار بمغيب بخلاف الثاني. الوجه الثاني: أن الآية رد على من يريد [التنقص*] بأخيه تقرير كونهما متساويبن في الأبوين، وعلى الثاني قد [ ... ] أحدهما [ ... ] أشرف، و (من) للتبعيض كما هي في حديث و"لست من دد ولا دد مني" ومعناه ليست من الغناء واللهو ولا هو مني إبعاد [لنفسه*] عن اللعب والغناء. قوله تعالى: (وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ).

ذكر القاضي عياض في الشعب والقبيلة في كتاب النكاح من التنبيهات ورتبها كما رتبها ابن عطية والزمخشري، هنا. الزمخشري: والشعب [الطبقة الأولى من الطبقات الست التي عليها العرب، وهي: الشعب، والقبيلة، والعمارة، والبطن، والفخذ، والفصيلة، فالشعب يجمع القبائل، والقبيلة تجمع، العمائر، والعمارة تجمع البطون، والبطن تجمع الأفخاذ، والفخذ تجمع الفصائل: خزيمة شعب، وكنانة قبيلة، وقريش عمارة، وقصى بطن، وهاشم فخذ، والعباس فصيلة.*]، انتهى. قلت: أعلاها خزيمة، وأخصها العباس، والقبيلة متقدمة على الشعب في الوجود، والشعب متقدم عليها في التسمية، وبيان ذلك أن أباك وأمك متقدمان عليك في الوجود، ولكن اسم الأبوة والأمومة ما صدق عليهما إلا بعد ما تزايد لها الولد فكانا موجودين دون وصف الأبوة [والأمومة*]، وكذلك القبيلة أول وجود خزيمة لم تكن يقال لها قبيلة ثم لما تزايد لها الأولاد والأحفاد صارت قبيلة، ثم لما كثروا وانتشروا صارت شعبا، ثم لما امتدت فروعهم واشتهروا صارت عمارة، ثم تزايدوا في الكثرة فصارت فصيلة، وإذا كانت القبيلة متقدمة في الوجود، فكان الأصل أن يقدم في الذكر لكن الشعب أهم من القبيلة والقبيلة أخص منه؛ لأن مسمى الشعب وأفراده، وأجاب لكثر من مسمى القبيلة، وتقرر أن المعرفات يبدؤوا فيها بالأعم ثم الأخص. وقال: (وَجَعَلْنَاكُم) ولم يقل: وخلقناكم؛ لأن الشعب والقبيلة لم يكونا في أصل الخلقة؛ بل هما صفتان عارضتان، فناسب لفظ جعل بمعنى صير. قوله تعالى: (لِتَعَارَفُوا). إشارة إلى أن الاختلاف بينهم إنما ليعرف هو بعضهم بعضا لَا لكون بعضهم أشرف وأحسن من بعض. قوله تعالى: (إِنَّ أَكْرَمَكُم عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُم). في المدونة في كتاب النكاح الأول، قيل: [أَرَأَيْتَ إنْ رَضِيَتْ بِعَبْدٍ*] قال: قد قال [مالك*] " [أَهْلُ الْإِسْلَامِ كُلُّهُمْ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ أَكْفَاءٌ*] "، [وقيل*]: إن بعض هؤلاء فَرَّقُوا بَيْنَ عَرَبِيَّةٍ وَمَوْلًى فاستعظم ذلك، وقال: (إِنَّ أَكرَمَكُم عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ). قال الشيخ أبو الحسن اللخمي: والحديث الصحيح الذي فيه، قال: " [فَعَنْ مَعَادِنِ العَرَبِ تَسْأَلُونِي» قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: «فَخِيَارُكُمْ فِي الجَاهِلِيَّةِ خِيَارُكُمْ فِي الإِسْلاَمِ إِذَا فَقُهُوا*"] اعتبر فيه

(14)

الكفاءة الظاهرة الدنيوية، وهذه الآية اعتبر فيها الكفاءة في الدين خاصة، انتهى. والحديث الذي ذكر في البخاري. وقال عياض في التنبيهات: جواب ابن القاسم في المسألة يحتمل، وظاهره الجواز، وكذا أطلق أبو محمد، عن ابن القاسم إجازة ذلك، وذهب بعضهم إلى أن ابن القاسم لَا يخالف غيره في عدم الإجازة، واستدل بمسألة ما إذا رضي الولي بزوج ثم طلقها ثم أرادت مراجعته أنه ليس له منعها إلا أن يحدث فيه فسق ظاهر أو [ ... ] أو يظهر أنه عبد ولم أسمع العبد [من مالك*]. قلت: لأنه [لم يرضَ*] به أولا إلا ظنا منه أنه حر، وقد منع المراجعة واعتبر رضى الولي. وقال آخرون: إن رضيَ به أولا فلا كلام له، قال: واستدل أيضا بمسألة تزويج العبد ابنة سيده برضاه ورضاها، واشتراطه الرضى فيها يدل على أن لكل واحد منهما [ ... ]، ووقع في كلام الفخر هنا: أن سام ابن نوح أبو الأعاجم. وقال الزمخشري في سورة الصافات: سام أبو العرب وفارس والروم، وحام [أبو السودان*] ويافث أبو الترك، ويأجوج ومأجوج. قوله تعالى: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا ... (14)} ابن عطية: قال أبو حاتم، عن ابن [عباس*]، سمع النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم رجلا يقرأ: (قَالَتِ الْأَعْرَابُ) بغير همزة، فرد عليه بهمز وقطع. انتهى، صوابه أنه قرأها: (قَالَتِ الْأَعْرَابُ) (¬1) على صورة ألف الوصل فهي قراءة ورش بنقل الحركة، وقد سئل مالك رحمه الله في التنبيه في رسم مساجد القبائل من سماع ابن القاسم في كتاب الصلاة عن [النَّبْرِ*] في القرآن في الصلاة، فقال: إني لأكرهه وما يُعجبني [ذلك*]. ابن رشد يريد بالنبر إظهار الهمز، وروي أنه أتى [بأسير*] يُرْعَدُ فقال: ["أدْفُوهُ"*] يريد ["أدفئوه"*] من [الدفء*]، فذهبوا به فقتلوه فَوَدَاهُ من عنده، ولو أراد قتلَه لقال: دافوه أو دافوا عليه، ولهذا المعنى كان جاريا بقرطبة قديما لَا يقرأ الإمام في الصلاة إلا برواية ورش. قال: ويحتمل أن يريد بالنبر [الترجيع*] الذي يحدث في الصوت معه نبرا، [والتحقيق*] الكثير في [الهمزات*]. قوله تعالى: (آمَنَّا). ¬

_ (¬1) قال البسيلي: "صوابه: يقرأ "قالتَ العُرْبُ"؛ وما نَقَلَهُ فهى قراءةُ ورش بنقل الحركة. اهـ (نكت وتنبيهات في تفسير القرآن المجيد. 3/ 555).

خبرا (آمَنَّا) بدليل تكذيبهم فيه، وفيه دليل لجواز أن يقول الإنسان: أنا مؤمن دون استثناء؛ خلافا لمن قال: لَا بد من زيادة إن شاء الله، وتقدم الكلام على ذلك في سورة آل عمران. الزمخشري: الإيمان هو التصديق مع الثقة، وطمأنينة النفس، انتهى، هذه غفلة عن مذهبه؛ لأن مذهب المعتزلة أنه مشروط بالأعمال الصالحة، وأراد بالطمأنينة، كمال التصديق القلبي مع السلامة من [إباية*] النطق بالشهادتين عند التمكن من ذلك. قال شيخنا ابن عرفة: هو كاف ولا أعلم فيه [خلافا*]، فإِن من آمن وأمكنه النطق فلم ينطق ولم يدعه أحد إلى النطق حتى مات، فهو مؤمن وإن دُعي إلى النطق فامتنع، فهذا هو الكافر العنادي. وقد قال في العتبية في كتاب الطهارة في سماع موسى، من ابن القاسم في النصراني: يغتسل ويصب السنة في الغسل ثم يُسلم بعد ذلك، أنه لَا يجزئه الغسل، فإِن اغتسل وقد أجمع على الإسلام بقلبه، ثم أسلم بعد ذلك أجزأه. ابن رشد: لأنه إذا اعتقد الإسلام بقلبه فهو مسلم عند الله حقيقة؛ إلا أننا لَا نحكم له بحكم الإسلام حتى يظهره لنا بلسانه لنجري عليه في الدنيا [أحكامه*]، ولو اخترمته المنية قبل أن يتلفظ بكلمة التوحيد بعد أن اعتقدها لكان عند الله مؤمنا، إلا أن الذي لَا يتكلم يصح إيمانه لأنه من أقفال القلوب. ابن العربي في تأليفه في أصول الدين المسمى بالمتوسط، وفي سراج المريدين، وفي العارضة أجمعوا أنه لَا بد من النطق بالشهادتين بين، وأن الاعتقاد القلبي غير كافٍ من القادر على النطق. قال شيخنا: ولا أعلم أحدا [حكى*] ذلك غيره، قد قال ابن زيد في الرسالة: وإن الإيمان قول باللسان، وإخلاص بالقلب، وعمل بالجوارح، فقال: يريد الإيمان الكامل والذي عليه السنة أنه يكفى في حصول الإيمان مجرد التصديق بالشهادتين والمعاد بكل ما جاء به النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم على الجملة وشرط الأكثرون استحضار المعاد مع الشهادتين وما عداه يكفي فيه التصديق الجملي، وأما النطق بالشهادتين هو عمل من الأعمال، ولم يشترط العمل مع الإيمان إلا المعتزلة. وحكى ابن العربي فيمن آمن وعصى: بترك الفروع قولين لأهل السنة فأكفرهم لا يسميه كافرا، وبعضهم سماه كافرا؛ لكن غير مخلد في النار، وهو عند المعتزلة مخلد فيها، وهذا خلاف لفظي راجع إلى مجرد التسمية، وهذا هو قول [عجيب*] في التكفير

بترك الصلاة وحدها دون ما سواها من قواعد الإسلام؛ لأنها مما علم وجوبها بالضرورة. وحكي عن الحكم بن عتيبة: أنه أضاف إليها الزكاة وخطؤه في ذلك، وعلى قول الأكثرين بالفرق بين الإسلام والإيمان لَا إشكال في الآية، وعلى قول الأقلين؛ لأن الإيمان الشرعي مشروط بفعل الطاعات يرجعان إلى شيء واحد، فكيف رد عليهم بأن قيل لهم: قولوا أسلمنا لكن القول مرغوب عنه، والحديث الصحيح في مسلم يرد عليه. حكى القاضي عياض في المدارك، عن أبي محمد عبد الله بن إسحاق المعروف بابن [التبَّان*]: أنه أخرج رأسه من الطاق ليلة عاشوراء فرأى خلقا كثيرا مجتمعين للتبرك فبكى، فسئل عن موجب بكائه، فقال: والله ما أخشى عليهم من الذنوب لأن مولاهم كريم، وإنما أخشى أن يشكوا في كفر بني عبيد فيدخلوا النار لأن الشك في الكفر كفر، انتهى. قال شيخنا: وهذا كما قال: ولقد كنت جالسا عند الشيخ الفقيه أبي عبد الله محمد ابن سلامة فوقع جزء رسم له المهلة فجاءه رسول صاحب الجزء بدينار ناقص فرده عليه، وقال: ما هذا التشكك، فقال الرسول: يا سيدي، هذا حق واجب، فأنكر عليه غاية الإنكار وألزمه الكفر باعتقاد وجوب الحرام، أو شكه فيه واستحلاله له، وما زال يؤنبه ويكرر حتى تاب من ذلك الاعتقاد ورجع إلى الحق، انتهى. ونص كلام ابن العربي في المتوسط: ولما كان الإيمان أمرا باطنا لَا يعلمه إلا الباطن جعل الشارع عليه علامات، وقضى الرب سبحانه وتعالى بأن لَا يكون مؤمنا إلا باستخدام اللسان كاستخدام القلب، فمن العلامة الإقرار بالشهادتين، فمن اعتبرها بقلبه وعبر عنها بلسانه فهو مؤمن عند الله وعندنا، ومن أقر بها بلسانه دون قلبه فهو المنافق. وذهب الكرامية إلى أنه مؤمن حقا، وهو أفسد من أن يتكلم عليه، ومن اعتقد ذلك بقلبه ولم يصدق به لسانه [فمؤمن عندنا*] إذ [حال*] بينه وبين النطق [جهل*] أو عذر وهي مسألة اجتهادية هذا أظهر الأقوال فيها، لأن الأمة أجمعت على أن ذا العذر الذي لا يستطيع النطق مؤمن باعتقاده التسليم، فلو اعتقد الحق وعاند بالامتناع من النطق هو كافر؛ إذ الإجماع منعقد على اشتراط النطق بالشهادتين في العصمة الدنيوية والأخروية جميعا، ومن الطاعات تجرد الاعتقاد عن سجود الصنم أو نحوه]، أو [الاستخفاف*] بحق الرسول أو بشيء من الشريعة.

قال بعضهم: أو أكل لحم الخنزير ولا يقوى عنده إلا أن يأكله مستحلا فيستوي في ذلك [هو*] وسائر المحرمات، وجعل بعضهم من ذلك فعل الصلاة، فمن تعمد تركها كفر، تناقضوا فيه، والقول فيه بعيد، ومن أصحابنا من قال: الإيمان هو جميع الطاعات في رسمها ونقلها، ووردت إطلاقات الشرع بذلك وهو مجاز يرجع إلى الاعتقاد بتأويل لما قام عليه من الدليل، وهو ما قالوا بزيادة الإيمان ونقصانه وهو الحق عندي والأوائل امتنعوا منه، انتهى. وقال الشيخ أبو الحسن [عليٌّ*] المتيطي في أواخر تأليفه إذا شهد الشهادتين وقف على شرائع الإسلام وحدوده، فإن أجاب: تم إسلامه، وإن أبى لم يقبل إسلامه وترك على دينه، ولا يعد مرتدا، [**أو أن يوقف على شرائعه حين أسلم، ولا] [ ... ] ولا صلى حتى رجع عن الإسلام، فالمشهور أن يشدد عليه ويؤدب، فإن تمادى مرتدا ترك ولا يقتل؛ لأن الإسلام قول وعمل، وقاله مالك وابن القاضي وغيرهما، وبه أخذ ابن عبد الحكم وعليه العمل والقضاء. وقال أصبغ في كتاب ابن حبيب يقتل [ ... ] بتأكد سواء رجع عن قرب أو بعد، قال: وإن اغتسل بإسلامه ولم يصل إلا أنه حسن إسلامه، ثم رجع فإنه يؤمر بالصلاة فإن صلى وإلا قتل. وقال ابن القاسم: لَا يقتل حتى يصلي ولو ركعة، فإذا صلى ثم تركها أدب، فإن لم يصل قتل، وإن ثبت أن إسلامه كان عن إكراه أو خوف، فله الرجوع إلا أن يثبت بقاؤه مسلما بعد زوال الخوف والإكراه، فصلى صلاة فما فوقها، وإن أسلم صغيرا ثم رجع قبل البلوغ وعنده توعد وأدب ولا يبلغ به القتل، انتهى. ابن القطان أجمعوا على أنه إذا نطق بالشهادتين، قال: [أبرأ من*] كل دين خالف هذا الدين أنه يكون مسلما، وإذ ارتد عن ذلك [**متصل] بعد أن يدعى إلى الإيمان، انتهى. وهذا خلاف ما قال المتيطي، وفي التهذيب في كتاب النكاح الثالث ما نصه قال ربيعة في الكافر: ينكح مسلمة ويزعم مسلم فلما خشي الظهور عليه أسلم وقد بنى بها فلها الصداق ويفرق بينهما، وإن رضي أهل المرأة، إن رجع إلى الكفر قتل؛ لأنه بتزوجه يعد ملتزما لشرائع الإسلام، فإن قلت: يلزم على هذا إذا نطق بالشهادتين وصلى ثم ارتد، قلت: التزويج فيه حق للغير، فقد التزم شرائع الإسلام لذلك الغير بخلاف الصلاة. قوله تعالى: (وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ).

(15)

ليس بتكرار لأنه قوله: (لَمْ تُؤمِنُوا)، نفي لماض منقطع، وقوله (وَلَمَّا يَدْخُلِ) نفي لماض متصل بالحال فهو أبلغ. وقال الفخر: الأول نفي للإيمان الكسبي، والثاني نفي للإيمان الإلهامي الذي يقع بقلب المؤمن من قبل أن يكفر، أي [كيف تقولون*] آمنا وما آمنتم إيمانا كسبيا، ولا يدخل الإيمان في قلوبكم إلهاما من غير فعلكم فلا إيمان لكم. الزمخشري: ما في (لَمَّا) من معنى التوقع دال على أن هؤلاء قد آمنوا فيما بعد. فأبطله أبو حيان بأن (لَمَّا) لنفي قد فعل فهي تنفي التوقع، ويجاب: بأنها لنفي الفعل الذي كان متوقعا وقوعه لَا لنفي التوقع فلم يزل التوقع ثابتا متعلقا بالمستقبل. قوله تعالى: (وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ). قيل: لم أتى بـ (إن) دون [إذا*] مع أن القاعدة أن الفعل إذا كان [محققا*] وقوعه فالمناسب له (إذا)، وإن كان [محققا*] عدمه أتى بـ إن؟ أجيب بوجهين: الأول: أنه أشار إلى كمال استغناء الله تعالى عنهم. الثاني: أنه يستحيل عليهم [جعل*] طاعتهم في حيز المحال، وإخراجها عن حيز الإمكان، فضلا عن أن تكون محققة الوقوع، ورد هذا بأن الزمخشري ذكر فيما تقدم أنهم آمنوا بعد ذلك. قوله تعالى: {ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا ... (15)} [ارتاب مطاوع رابه*] فارتاب فهو مرتاب عليه، فالارتياب أخص لأنه لَا يكون إلا مطاوعا، والريبة تكون ابتداء وتكون بعد تقدم سببها، فيرد السؤال وهو أن نفي الريبة أبلغ، ومثله وقع بين الشيخ ابن عبد السلام وابن الحباب، في قول ابن الحاجب ينقسم. فقال ابن الحباب: انقسم المطاوع لَا يكون إلا فيما يقبل القسمة وما لَا فلا، والجواب: أنه قصد الرفق بالمؤمنين لأن كل واحد منهم لَا يخلوا من خطور ريبة بقلبه، فمنهم من يسأل حتى يهتدي إلى الصواب، ومنهم من يدوم على ذلك حتى توجب تلك الريبة عنده ارتيابا في الإيمان فيكفر، فنفى هذا الثاني دون الأول؛ لأن الأول حصلت عنده الريبة ثم زالت، ولم توجب عنده ارتيابا في الإيمان.

(16)

وحكى عياض في الإكمال في حديث الذي أمر أهله أن يحرقوه ويذروا نصفه في البر ونصفه في البحر، وقال: لئن قدر الله تعالى عليَّ ليعذبني عذابا شديدا، في تكفير من شك في الصفات قولين، وكذلك حكى الأصوليون في تكفير من جحد الصفات أصلا قولين متفقين على مسألة اختلف فيها القاضي أبو بكر الباقلاني وإمام الحرمين وهي هل الإيمان بالله مشروعا مشروطا بالايمان بصفاته أم لَا؟ وقدم الأمر إلا على الأنفس لأنه كذلك في الوجود الخارجي، ولأن الجهاد بالأموال هو الأعم الأغلب لأن كثير يبدل ماله دون نفسه. قوله تعالى: (أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ). نظير قوله تعالى في الأعراب: (قُل لَمْ تُؤمِنُوا) أي قل لهم: (أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) وأنتم الكافرون. قوله تعالى: {قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ ... (16)} لما تضمن الكلام السابق تكذيبهم في قولهم: (آمَنَّا) [تبعه*] ببيان أنهم على تقدير صدقهم في ذلك فإِخبارهم به لمن هو عالم بضمائر هم تحصيل الحاصل، وهل هذا يشكل قول الإمام مالك رحمه الله في كتاب الأيمان والنذور من المدونة من حلف لرجل [إنْ عَلِمَ أَمْرَ كَذَا وَكَذَا لَيُخْبِرَنَّهُ أَوْ لَيُعْلِمَنَّهُ ذَلِكَ فَعَلِمَاهُ جَمِيعًا*] لم يبر حتى يعلمه أو يخبره، مع أنه تحصيل الحاصل. قوله تعالى: (وَاللَّهُ بِكُل شَيْءٍ عَلِيمٌ). تأسيس لتناوله الظرف والمظروف وشموله الموجود والمعدوم شيء. قوله تعالى: {بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ ... (17)} إن كان [للإضراب*] عن قولهم فهو إبطال، وإن كان حق مقول [للنبي صلى الله عليه وسلم وعلى آله وسلم*] فهو انتقال. فإِن قلت: هلا قيل: بل أنت تمن عليهم؛ لأن مقاولتهم مع النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم؟ قلت: في إسناد المن إلى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم إيحاش. لأنه مستقبح بخلاف إسناده إلى الله تعالى لأنه خالق الأشياء وفاعلها حقيقة فلا يصح [نسبة*] الشيء إليه. قوله تعالى: {وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18)}

هذا أخص بما قبله لأن (بَصِيرٌ) أحق من يعلم، فإِن قلت: لم عبر عن صفة العلم بالفعل وعن صفة البصر بالاسم؟ قلت: لأن العلم في الشاهد معلوم دوامه وثبوته وأنه لَا يتبدل، فلم يحتج فيه إلى التعبير بالاسم الدال على الثبوت، لأنه معلوم أنه إذا لم يتبدل في الشاهد فأحرى الغائب، وغير في (بَصِيرٌ) بالاسم الدال على الثبوت إشارة إلى أنه في الغائب مخالف للشاهد؛ لأن من أبصر شيئا في الشاهد لَا يدوم نظره إليه بخلاف علمه إياه. * * *

سورة (ق)

سُورَةُ (ق) قوله تعالى: {ق وَالْقُرْآنِ ... (1)} قال: مكي (وَالْقُرْآنِ) قَسَمٌ جوابه قبله وهو ما دلت عليه (ق) والتقدير والقرآن المجيد لقضي الأمر، انتهى، تقديم جواب القسم عليه ممتنع لكنه جعله دليل عن الجواب لَا أنه نفس الجواب. قوله تعالى: {بَلْ ... (2)} إضراب انتقال قبل تمام المنتقل عنه إلا أن يكون الجواب مقدم. قوله تعالى: (أَنْ جَاءَهُمْ). مفعول من أجله، فإن قلت: قد تقرر في المنطق أن التعجب لازم الإنسان بغير وسط فلا يقال: تعجبت لأجل كذا، قلت: التعجب زيادة في وصف الفاعل خفى سببها فنفس التعجب بغير واسطة؛ لكنه لَا بد له من سبب ولا يسمى ذلك السبب واسطة. قوله تعالى: (فَقَالَ الْكَافِرُونَ). العطف بالفاء إشارة لمبادرتهم بالإنكار وتعجبهم الأول شك وارتياب، والثاني استهزاء وتصميم على كفرهم. قوله تعالى: {قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ ... (4)} رد على قولهم: (أَئِذَا كُنَّا) ولم يقرر المفسرون وجه الرد، وتقريره أن إعادة الشيء تنبيه من شرطها قدرة الصانع وعلمه وكونه سبحانه وتعالى قادرا معلوم له بالضرورة لَا ينازعون فيه فبين لهم اتصافه بالعلم، ولما كان العلم بما ينقص في المستقبل أبلغ من العلم بما انتقص في الماضي [قيل (تنقص) دون نقصت*]. قوله تعالى: {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا ... (6)} لما تضمن الكلام السابق أنهم في أمر ملتبس مختلط قد يتوهم أن هذه الضلالة لعدم وضوح الدلائل التي تهديهم إلى طريق الحق، فأتى بهذه الآية شبه الاحتراس والتقدير [أغفلوا*] فلم ينظروا، وتقدير المعطوف عليه قبل الهمزة أولى من جهة المعنى لأن المقصود [إنكار*] عدم النظر وتوبيخهم عليه، وأما الغفلة فهي ثابتة مقدرة، ولكنه عند النحويين مقدر بعد الهمزة.

(7)

قوله تعالى: (إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ). قالوا: فوق إما حال أو ظرف، ويرد كونها حالا فإِن من شرطها الانتقال، فإِن قلت: هي هنا في حكم المنتقلة. قالوا: في خلق الله تعالى الزرافة يديها أطول من رجليها إنها حال غير منتقلة لكنها في حكم المنتقلة؛ لأنها كانت قابلة لأن تخلق على غير تلك الصفة، قلت: لَا يمكن ذلك هنا؛ لأن السماء من حيث كونها سماء غير قابلة لأن تكون أسفل، ولا جواب عنه إلا بما قال ابن هشام، وغيره: من أن الأولى عدم اشتراط الانتقال في الحال، [ويرد*] أيضا على كونه شرطا أنهم شرطوا في الظرف كونه محلا للفاعل وفعله، فإِذا قلت: جلست فوق زيد، فالقول فيه محل لك ولجلوسك، والسماء هنا ليست محلا للناظر بل لنظره فقط، وجوابه: أن ذلك في الفعل الذي لَا يطلب مفعولا، وأما الفعل الذي يتعدى فقد يكون الظرف محلا لفاعله، وقد لَا يكون، فإن قلت: قد تقرر في مبادئ العربية أن قول القائل: السماء فوقنا والأرض تحتنا غير مفيد، فما أفاد قوله تعالى: (فَوقَهُم)، قلت: هو إشارة إلى تمكن كل واحد منهم من النظر إليها، وهو أبلغ من قوله تعالى: (أَفَلَم يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ) لأنهم وبخوا هنا على [عدم النظر*] مع تمكنهم منه في محالهم دون تكلف وسير، وهذا هو الذي يقوله الأصوليون: إن المعقولات فرع المحسوسات. قوله تعالى: (وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ). الفخر. هنا احتج بها الحكماء القائلون: بأنها ليست قابلة للخرق، والجواب: أن الآية أفادت إمكان الخرق فيها، فلذلك احتيج إلى نفيه، انتهى. فصار أمره أنه بطل استدلالهم بها فقط، ونحن نقول الآية حجة عليهم لَا لهم، وأفادت أنها قابلة للخرق، ولولا ذلك لما احتيج إلى نفي الخرق؛ لأن المحال لَا يحتاج إلى نفيه. فإِن قلت: قد ثبت أن للسماء أبوابا، قلت: لها أبواب تفتح وتغلق، وليس فيها خرق [بوجه*]، وجمع خروق فروج، إشارة إلى كثرة الأفلاك التي فوقها والكواكب بحيث [لو تصورت*]، فما يكفي في رؤيتها خرق [واحد*] في السماوات بل [انشقاقات*]، وخروق جملة ليكون تحت كل واحد خرق يظهر منه. قوله تعالى: {وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ ... (7)}

(8)

قيل: يؤخذ من الآية فيمن حلف أن لَا يستقر في أرض أنه يستقر على الجبال ولا يحنث؛ لدلالة الآية على أنها ليست من الأرض؛ اعتبارا بمجرد اللفظ دون اعتبار العرف العادي. وصوب ابن عطية هنا مذهب من يقول: إنها بسيطة. قال الشيخ: والصحيح أنها عندهم [كورية*]، وعليه تبنى مذاهب المنجمين. قوله تعالى: {تَبْصِرَةً وَذِكْرَى ... (8)} مفعول من أجله وهو بين على مذهبنا لاتحاد الفاعل، ولا يجري على مذهب المعتزلة القائلين: بأن العبد يخلق أفعاله. وقال أبو العز: المقترح لما حكى القول بأن النظر بخروج أشعة من العين إلى المنظور، نرد هذا القول بأن الناظر [إذا قلب*] حدقته، فيرى نصف كثرة العالم وما عسى أن تبلغ من أشعة عينه من كثرة العالم، قال: وإنما النظر إدراك يخلقه الله تعالى للناظر عند تقليب الحدقة، انتهى. على تنازعه في رؤية الناظر نصف كثرة العالم بل يقول: يرى خلقا كثيرا خاصة لَا أنه نصف كثرة العالم بوجه. فإِن قلت: لم قيل: إلى السماء فوقهم؟ ولم يقل: إلى الأرض تحتهم، كيف مددناها؟ قلت: لأن السماء بعيدة هنا لَا نشاهدها إلا بعد تقليب الحدقة إلى فوق، بخلاف الأرض فإنا لَا نحتاج في رؤيتها إلى تكلف تقليب الحدقة إلى فوق. قوله تعالى: {بَاسِقَاتٍ ... (10)} حال مقدرة. قوله تعالى: (لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ). إن كانت حالا متداخلة فهي [مجملة وإلا مقدرة*] كالأولى. ابن عطية: [«الطلع» أول ظهور التمر في الكفرى وهو أبيض منضد كحب الرمان. فما دام ملتصقا بعضه ببعض فهو نَضِيدٌ، فإذا خرج من الكفرى تفرق فليس بنضيد*]، انتهى؛ [الكفرى*] [**مواظف] الذي فيه العرجون، ووصف في الآية اسم الجنس بالجمع وهو جائز، ونص [الآبذي*] في شرح الجزولية، وابن مالك في التسهيل على جواز وصف اسم الجمع واسم الجنس بالفرد، وهو جائز، ونص المبرد في المقتضب على جواز جمع التكسير بالمفرد. قوله تعالى: {بَلْدَةً ... (11)}

(12)

أفرد البلدة وجمع (جَنَّاتٍ) لما يقوله الزمخشري في غير ما [موضع*]: إن الأشياء الظاهرة المعلومة بالضرورة يكفي فيها التنبيه على واحد منها؛ بخلاف الأمور الخفية، ولما كان نبات الربيع من غير استنبات، ونبات الجنات بالاستنبات، فالأول ظاهر في كل موضع أنه من الماء خاصة؛ بخلاف ما كان بالاستنبات، فإن السبب في نباته الماء والاستنبات ووصف البلدة بـ (مَيْتًا) مع أنه معلوم من مادة الإحياء إشارة إلى ما سبقت الآية لأجله من الاستدلال على جواز إحياء الموتى وإعادتهم، وإخبار الشارع بوقوع ذلك يوجب التصديق به. قوله تعالى: {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ ... (12)} الزمخشري: هو تسلية للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وتخويف كفار قريش، انتهى. ويحتمل كونه تسلية للمؤمنين وإزالة ما يوسوس به إليهم الشيطان من كفر غيرهم من قريش، فبينت الآية أن كل نبي آمن به قوم، وكفر به آخرون، وفي الآية رد على ابن قتيبة بأن القبيلة تقتضي الاشتراك في التكذيب، والأمم السالفة إنما كذبوا بالرسالة، وهذه الآية رد على من كذب بالمعاد، وهو أمر مستقبل فأطلق عليه لفظ التكذيب فهو كذب لَا خلف، وجوابه: أنهم كذبوا بالرسالة، ومن لوازم ذلك التكذيب بالمعاد فأطلق التكذيب وهو الرسالة ودخل المعاد في ضمنه. قوله تعالى: {وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ ... (14)} قرئ "ليكة" و"الأيكة"، ابن عطية: الألف واللام من "الأيكة" غير معرفتين لأن أيكة اسم علم كطلحة، يقال: أيكة وليكة فهي كالألف واللام في الشمس والقمر، وفي الصفات الغالبة قال: وفي هذا نظر، انتهى. أراد بالنظر أن ليكة عَلَم، فالألف واللام فيه زائدتان؛ كما هي في الزيد [والْعَمْرو*] [في قوله:*] [بَاعَدَ أُمَّ الْعَمْرِو مِنْ أَسِيرِهَا*]، [بخلافهما في*] الشمس والقمر، فإن الألف واللام فيهما للتعريف لأنهما كانا نكرتين. قوله تعالى: (كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ). قول أبي حيان: إفراد الضمير على لفظ كل لأن مفرد الفخر إن كانت الألف واللام في الرسل للعهد، فيكون على التوزيع أي كل أمة كذبت رسولها ويكون تكذيبها رسولها واحدا، فقد كذب جميع الرسل لاتفاقهم على الأمر بتوحيد الله تعالى، وإن كان للجنس أن المراد جميع الرسل، فالتكذيب للجميع مطابقة لعجزنا عن الإعادة. قوله تعالى: {أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ ... (15)}

(16)

إضراب انتقال، فإن قلت: يكون [إبطالا*] [**للآتي قولهم] وهي نفي الإعادة، قلت: أبطلته همزة الإنكار. قوله تعالى: (مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ). الزمخشري: إن قلت: لم عرفوا (الْخَلْقِ الأَوَّل) دون الثاني؟ فأجاب: بأن التنكير لتعظيم الخلق الجديد إشارة إلى أنه خلق له بيان عظيم وحال شديد يجب أن يهتم ويخاف ويبحث عنه، انتهى. إن قلت: يلزم على هذا بطلان القياس في الآية، فإنه إذا كان الخلق الثاني أعظم من الأول [لما*] يلزم من القدرة على الأول القدرة على الثاني، قلت: إنما جعله أعظمها باعتبار ما يعرض له من العذاب والنعيم، وما يرى فيه من الأهوال؛ لَا باعتبار الجرم والكبر والصغر، وقد يجاب [بوجه آخر*] وهو ما قال عمر رضي الله عنه، في قوله تعالى: (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا) لن يغلب العسر يسرين، وفسره النَّاس بأن التعريف يقتضي الوحدة والتنكير يقتضي التعدد، فعرف الأول لأنه أول لم يسبقه مثله فهو واحد، ونكر الثاني لأنه مسبوق بخلق آخر قبله مثله. فإن قلت: هذا المعنى مستفاد من وصفه بجديد، قلت: الوصف بجديد أتى ردا على من يقول بقدم العالم، فأفاد أن العالم جديد ليس بقديم؛ لَا أنه مسبوق بخلق آخر قبل. قوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ ... (16)} قلَّ ما تجد آية في القرآن ذكر فيها وصف القدرة إلا مع وصف العلم وبالعكس، وهو إشارة إلى إسناد كل [المعلومات*] إلى الله تعالى، ففيه إبطال الطبيعة لأن الذي يفعل بالطبيعة لَا يحتاج إلى العلم بل القدرة تكفيه، فإن قلت: لم أقسم على ذلك مع أنهم مقرون به، قال تعالى (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ)، قلت: من لوازم الإقرار بذلك الإقرار بالمعاد ونفي اللازم يستلزم نفي الملزوم. أبو حيان: الواو في (ونعلم) للحال، وأبطله المختصر بأن المضارع لَا يقع حالا بالواو إلا قليلا، كقوله: قمت وأمك، ويبطل أيضا بلزوم المفهوم الباطل وهو معنى اشتراط الانتقال في الحال، وقال: (تُوَسْوِسُ) بلفظ المستقبل فليس إلا السوس فأين الموسوس؟ قلت: الجواب: من توسوس بلفظ المستقبل وجهين: الأول: أن ابن يونس نقل عن ابن حبيب: أن الروح والنفس ما داما في الجسد هما شيئان فإذا خرجا منه صارا شيئا واحدا، فنقول: أن النفس توسوس الروح.

(17)

الثاني: إن هذا السؤال إنما يرد على تفسير الزمخشري حيث جعل (ما) مصدرية فيعود الضمير في به على الإنسان، ولنا أن نجعلها موصولة بمعنى الذي والضمير في به عائد عليها، والتقدير ويعلم الشيء الذي توسوسه به [نفسه*] أي الذي تتحدث به نفسه، ويكون المراد الخواطر التي يخطر لنفس أو يراد بالنفس الشهوة، وإنها توسوس العقل عند المتكلمين علوم ضرورية فلا يقبل أن يخاطب النفس، وفي سورة طه: (وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى) فالسر أظهر من الوسوسة؛ لأنه كلام النفس أو كلام اللسان سرا، والوسوسة ما في القلب فيحتمل أن تكون الوسوسة هي المرادة من السر، أو يكون الأول الجهر، والثاني: دونه وهو السر، والثالث أخفى منهما وهو الوسوسة. قوله تعالى: (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ). تنبيه على كمال تعلق علم الله تعالى بجميع الكائنات وأنك كما تفهم علم الواحد منا بأحوال من هو في المسافة منه بمنزلة (حَبْلِ الْوَرِيدِ) الذي هو في عنقك، كذلك وينبغي أن يعتقد في علم الله تعالى. فإِن قلت: القرب بالنسبة إلى الله تعالى مجاز وفي (حَبْلِ الْوَرِيدِ) حقيقة فيلزم عليه استعمال اللفظة الواحدة في حقيقتها [ومجازها*]، وهو ممتنع عند الأصوليين نص عليه الفخر، وابن التلمساني في المسألة الخامسة من الباب الأول، قلت: في الكلام حذف مضاف أي من قرب (حَبْلِ الْوَرِيدِ) فيكون القرب المضمر حقيقة والمظهر مجازا. قوله تعالى: {إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ (17)} الزمخشري: العامل فيه أقرب؛ لأن معاني الأفعال قد تعمل، انتهى، وذكر ابن هشام في شرح الإيضاح خلافا عمل أفعل من ذكر ذلك، في قوله تعالى: (اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ). ابن عطية: ويحتمل أن يكون العامل فيه مضمرا، أي ذكر (إِذْ يَتَلَقَّى)، قال: ويحسن هذا؛ لأنه أخبر خبرا مجرداً بالخلق والعلم بخطرات الأنفس والقرب بالقدرة والملك، فلما تم الإخبار أخبر [بتلك*] الأحوال التي تصدق هذا الخبر، فمنها (إِذْ يَتَلَقَّى) المتلقيان، ومنها مجيء سكرة الموت والنفخ في الصور، ومجيء (كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ)، انتهى. وهو حسن؛ لأنه إذا كان يعلم الوسوسة حين التلقي فيكون نفيا لما يتوهم من أنه إنما [يصل*] إلى علم ذلك من جهة الملائكة الحفظة فإذا

(18)

أعلمه حين يلقى الحفظة له كان دليلا على أنه غني عنهم، فإِن قلت: ما أفاد: (يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ) وهو كقولك: تضارب فيَّ المتضاربان؟ قلت: تفيد إما بتقييده باليمين والشمال، وإما بأن ذلك إنما يكون غير [مقيد*] إن لو كان المراد أن كل واحد يلقى صاحبه، وليس المراد الإخبار بلقاء كل واحد منهما صاحبه؛ بل بلقائهما معا المكلف. قوله تعالى: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ ... (18)} ذكر القول دون الفعل؛ لأنه أكثر، فإذا [أحصى*] القول فأحرى الفعل، فإِن قلت: هذا [لا يتناول*] حديث النفس، ولو قيل: ما يصدر من قول لتناوله، والعبد إذا هم بحسنة ولم يعملها كتبت له حسنة، فإن عملها كتبت له عشرا، وإن هم بسيئة فلم يعملها ولم يوطن نفسه عليها لم تكتب، فإِن وطن نفسه عليها كتبت عليه سيئة، قلت: هذا راجع إلى العمل لَا إلى القول. قوله تعالى: (رَقِيبٌ عَتِيدٌ). يحتمل أن يكون صفتين لموصفين، فيكون ملك الشمال رقيبا أي مراقبا عليه؛ لأنه يكتب السيئات، وملك اليمين عتيدا أي حافظا يحفظ له ما يصدر عنه من الحسنات فيكتبها ولا يضيعها، ويحتمل أن يكونا صفتين لموصوف واحد. قوله تعالى: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ... (19)} حكى الفخر في [المحصول*]: الخلاف في الموت هل هو أمر وجودي أو أمر عدمي؟ واحتج لمن قال: إنه وجودي، بقوله تعالى: (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ)، وأجيب: بأن يكون خلق بمعنى قدَّر، والتحاكم في هذا إلى اللغة هل ورد خلق بمعنى قدَّر؟ وفي الآية رد على الفلاسفة [والطبائعيين*] القائلين بأن هذه الأجسام بطبعها فانية لَا تقبل البقاء لما فيها من العفونات، إذ لو كانت كذلك لما احتيج إلى نفي نفع [المحيد*] من ذلك، ولما احتيج إلى زيادة (بالحق)، وجعل الموت سكرة تشبيها له بالسكر من الخمر؛ لأنه يغيب العقل والحواس. قال الإمام الغزالي رحمه الله: ولا يذوق من شدة مرارة الموت إلا لمن سوى الأنبياء والأولياء، قال: وأما الأنبياء والأولياء فتألمهم بمفارقة النفوس لأبدانهم كما يتألم المحب بمفارقة محبوبه؛ لأن نفوسهم كانت [زكية*] شريفة وخالطت [ ... ] شرف بها، فعند انفصالها يتألم من الانفصال والمفارقة لَا بسبب الوجع الذي يجده من الانفصال والمفارقة، انتهى. ويرد هذا ما ورد في حديث مسلم: أن رجلا رأى النبي صلى الله

(21)

عليه وعلى آله وسلم يوعك، فسأله، فقال: [أَجَلْ إِنِّي أُوعَكُ كَمَا يُوعَكُ رَجُلَانِ مِنْكُمْ» قَالَ: فَقُلْتُ: ذَلِكَ أَنَّ لَكَ أَجْرَيْنِ"*]. قوله تعالى: [(مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ (21) *] الزمخشري: [ومحل (مَعَها سائِقٌ) النصب على الحال*] من (كل) لتعرفه بالإضافة إلى ما هو في حكم المعرفة، انتهى، أراد أنه تخصص فصارت إضافية محضة؛ لأنه كما يجوز الابتداء به إذ هو في معنى العموم، كذلك صح إتيان الحال من المضاف إليه. وتعقبه أبو حيان غير صحيح. ابن عطية: وقرأ طلحة بن مصرف بالحاء مثقلة، أبو حيان: وقرئ [مَعَهَا*] بإدغام العين في الهاء، انتهى. وقال ابن عصفور في شرحه الصغير: لَا تدغم العين في الهاء إلا بعد تحويل الحرفين بقول في [ ... ] لأنك لو قلبت العين هاء لكنت قلبت [ ... ] في الفم إلى جنس [ ... ] في الحلق وذلك لَا يجوز ولو قلبت الحاء عينا لاجتمع لك عينان، وذلك ثقيل لأن العين قريبة من الهمزة، فكما أن اجتماع الهمزتين ثقيل فكذلك العينان، فلذلك لم تدغم الهاء في العين، قال: وإذا أريد إدغامها قلبا معا حائين وأدغمت الحاء في الحاء. قوله تعالى: {أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ ... (24)} ابن عطية: هو كقول [الزجاج: يا حارسي اضربا عنقه*]، ابن هشام في [**شرح الشذور] ابن دريد. يستدل بكلام الحجاج في اللسان لَا في الأديان. قوله تعالى: {مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ ... (29)} ظاهر الآية وجوب إبقاء الوعيد، كما [يقوله المعتزلة*]؛ لأنها عامة في الكفار والعصاة، والسبب خاص، والعام إذا أورد على سبب فالمشهور بقاؤه على عمومه ولا يقصر على سببه، فإِما أن نقول: عمومه مخصوص، بقوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ

يُشْرَكَ بهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ)، وإما أن نقول هذه الآية في الكفَار وليست في العصاة. قوله تعالى: (وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ). الزمخشري: ما معناه أن ذلك كيف قال: (بِظَلَّامٍ)، ولم يقل: بظالم مع أن نفي الأخص لَا يستلزم نفي الأعم؟ ثم أجاب بوجهين: الأول: أن الظلم باعتبار التعلق، فيقال: ما زيد بظالم لغيره لأنه عبد واحد، وما زيد بظلام لعبيده، فتبالغ في النفي لأنهم عبيد كثيرون، فالمبالغة باعتبار المتعلق، انتهى، يلزم عليه سبب النفي المفهوم وهو أن لَا يكون ظالما لمجموع عبيده فيكون ظالما لبعضهم. قال: الجواب الثاني: أن الكبير العظيم من النَّاس إذا اتصف بقليل الذم فهو في حقه عظيم، فلو تصور الظاهر من الله تعالى لما كان عظيما، قال الشاعر: [الْعَيْب فِي الخامل المغمور مغمور ... وعيب ذِي الشّرف الْمَذْكُور مَذْكُور*] كفوفة الظّفر تخفى من مهانتها ... ومثلها في سواد العين مشهور انتهى. وقال امرئ القيس: يغطّ غطيط البكر شدّ خناقه ... ليقتلني والمرء ليس بقتَّال معناه: لَا يقدر على قتلي إلا من هو قتال لَا من هو قاتل، فلا يقتلني إلا من اتصف بأبلغ القتل وأعلى درجاته، وهذا الذي يطمع نفسه بقتلي لم يبلغ إلى أن يوصف بقتال. وقال [الآبذي*] في شرح الجزولية: فإن قيل: يظهر من قوله تعالى: (وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) أن فعالا ليس للمبالغة إذ لو كان كذلك لاقتضى مفهومه إثبات قليل الظلم، فالجواب: أن التكثير في الفعل على وجهين: أحدهما: أن يكون المفعول جماعة، تقول: جرحت الزيدين ولم يتكرر الفعل في كل واحد، والآية من هذا، والمراد من أن تكون كررته في المفعول، تقول: جرحت زيدا، ولما خفي هذا على الحريري. قال في درة الفؤاد: له الصفة المذمومة قليلها في حق العظيم كثير، كقوله: العيب في العالم المحقور محقور، والصحيح ما تقدم، انتهى، بل الصحيح ما قال الحريري

(30)

بدليل ما خرجه مسلم: ["ثَلَاثَةٌ لَا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ -قَالَ أَبُو مُعَاوِيَةَ: وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ- وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ: شَيْخٌ زَانٍ، وَمَلِكٌ كَذَّابٌ، وَعَائِلٌ مُسْتَكْبِرٌ"*] والظلم فسره بعض المتكلمين بأنه وضع الشيء في غير محله. وقال آخرون: هو التصرف في ملك الغير، قال بعضهم: وإنما يضع الشيء في غير محله جاهل، فالظلم لَا يقع إلا من جاهل. وقال الأكثرون: يصدر من العالم والجاهل، [واحتج*] الأولون بأن وضع الشيء في غير محله يقتضي ترجيح المرجوح وجعل الراجح مرجوحا، وهذا جهل لَا علم، وأما على الوجه الآخر فيتوجه مطلقا؛ لأن جميع الخلق ملك لله تعالى، فإِن قلت: كون الظلم وضع الشيء في غير محله مع منع اتصاف الله تعالى بذلك إنما يجري على مذهب المعتزلة في قاعدة التحسين والتقبيح، لأن وضع الشيء في غير محله قبيح، قلت: إذا وضع الله تعالى شيئا في أي محل كان، فهو محله [**إجزاء] [إذ لَا يوجد شيء في غير محله*]، [ووجوده*] أشد عشقا. قوله تعالى: {وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ (30)} ابن عطية، عن الرماني، تقوله: (خَزَنَتُهَا) ابن عطية: وكونها هي القائلة أظهر، انتهى، حقه أن يبين أن قول الرماني مخالف لمذهب أهل السنة؛ لأن مذهبهم عدم اشتراط الحياء والهيبة في الكلام، ومذهب المعتزلة اشتراط ذلك. قوله تعالى: {مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ ... (33)} الزمخشري: (بِالْغَيْبِ) حال من المفعول أي خشيه وهو غائب [لم يعرفه،*] لم يعرفه، وكونه معاقبا إلا بطريق الاستدلال. فتعقبه أبو علي عمر بن خليل السُّكُوني بأن فيه سوء أدب من جهة إطلاقه على الله تعالى لفظ الغيبة، وإطلاقه عليه لفظ مفعول، وتعقبه غير لازم إذ لم يزل إمام الحرمين، وغيره يقولون: قياس الغائب على الشاهد بالجوامع الأربعة فهو إطلاق معهود عند الأصوليين، ويحتمل أن يكون المراد أنه يخشاه حالة كونه غائبا عن النَّاس وهي حالة الانفراد والانقطاع. والزمخشري: (مَنْ خَشِيَ) بدل بعد بدل تابع لكل فألزمه أبو حيان تعدد الأبدال، قال: وهو غير جائز عندهم، انتهى، ووجه المنع أن البدل على نية الطرح عن جهة المعنى، فلا تتعدد المبدلات، واختاره [ابن بابشاذ*] في مقدمته، والإبدال أنه ليس على نية الطرح فعلى هذا يصح [تعدد*] الإبدال، وقد يجري ذلك على الخلاف في تعدد الحال وخبر المبتدأ بغير حرف عطف، فمنع الفارسي، وابن عصفور، والمحققون [تعدد*]

(35)

الحالات إلا أن بدل الغلط والبداء والنسيان، قال: وينضاف إليها رابع، وهو أن يقصد الإخبار عن رؤية زيد وعمرو على أن يبتدئ بذكر رؤية زيد ثم تضرب [عنه*]، وتذكر رؤية عمرو من غير بدء يلحقك في ذلك، وهو كالعطف في المعنى، وقد حكي عن العرب: أكلت خبزا لحما تمرا، فحمله بعض النحويين على حذف حرف العطف، والأولى [عطفه على هذا النوع*]، وحذف حرف العطف ضعيف ولو جاز حذفه لجاز، اختصم زيد وعمرو ولا [يقوله أحد*]، وقد حمل عليه ابن خروف، قوله تعالى: (قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ (4) النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ)، فقال: (النَّارِ) بدل إضراب من الأخدود، وجعله الفارسي بدل اشتمال، انتهى، وهذا نص في صحة تعدد الأبدال. الزمخشري: ويجوز أن يكون بدلا من موصوف: (أَوَّابٍ حَفِيظٍ) ولَا يجوز أن يكون في حكم (أَوَّابٍ) و (حَفِيظٍ) لأن من لَا يوصف به ولَا يوصف من بين سائر الموصلات إلا بالذي [وحده*]، انتهى. يريد بقوله في حكم (أَوَّابٍ) أي صفة لأواب، ونقل ابن حيان في شرح تسهيل الفوائد لابن مالك، عن الزجاج: أنه أجاز وقوع (مَن) صفة. قوله تعالى: {وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ (35)} ابن عطية: وفي الحديث الصحيح يقول الله تعالى: "اعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر [بل ما أطلعتهم عليه*]، وروي عن جابر، أن المزيد النظر إلى وجه الله عز وجل، انتهى، (بل) من ألفاظ الاستثناء بمعنى دع. قال الترمذي: معنى الحديث سوى ما أطلعتم عليه، وقيل: دع ما أطلعتم. قوله تعالى: {أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشًا ... (36)} لم يقل: أبطش منهم مع أنه ثلاثي يصح [بناء*] أفعل منه، فما الحكمة في ذلك؟ وجوابه: أنه قصد التنبيه على اتصاف المفعول بشدة البطش؛ لأن أفعل من تقتضي الشركة في مادة الفعل، وتقدم نحو هذا للزمخشري في سورة البقرة في: (أَو أَشَدُّ قَسْوَةً). قوله تعالى: {وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ... (38)}

(44)

[عود*] الضمير على (السَّمَاوَاتِ) بمعنى الكلية والنوع، فيدخل ما بين كل سماء وسماء، ويكون ذكر [ما عدا*] الأولى والأخيرة من السماوات مرتين بالمطابقة وبالتضمين أو الفرد. قوله تعالى: {ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ (44)} مقابل لقولهم: ذلك [رَجْعٌ بَعِيدٌ*] وهو جارٍ على الأمثل في استعمال الأخص في الثبوت، والأعم في النفي؛ لأن كلامهم يجري مجرى النفي، وقد استعمل فيه الرجع المطلق الذي هم من كونهم مجتمعين أو مفترقين، وقيل في الجواب ذلك حشر؛ لأن الحشر عبارة عن إعادتهم بقيد الاجتماع فهو أخص من الأول، فأفاد الإعادة وزيادة، فإن قلت: المطابق لقولهم ذلك حشر علينا قريب، فالجواب من وجهين: الأول: أن القريب أعم من كونه سهلا أو صعبا، ويسير يفيد القرب، وزيادة. الثاني: أن المراد بالبعد في كلامهم الاستحالة لَا بعد المسافة، وضد الاستحالة الإمكان. * * *

سورة الذاريات

سُورَةُ الذَّارِيَاتِ قوله تعالى: {وَالذَّارِيَاتِ ... (1)} قال ابن عرفة: أكد (وَالذَّارِيَاتِ) بالمصدر ولم يذكر مفعولها، وذكر مفعول الحاملات ولم يؤكدها بالمصدر، فما السر في ذلك؟ قال: والجواب: أن الحمل لما كان حامله محسوسا مشاهدا حصل العلم بمحمول ما بالإطلاق، ولما كانت القرابة في شدة المحمول وقوته، صرح بمفعول يناسبه، وهو العظيم الثقل، فيستلزم قوة حامله، ولما كان لقاء الذاريات صالحا للقوة، والفعل أكده بالمصدر ليفيد أنها بالقوة والفعل. قوله تعالى: {إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ (5)} وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ) أخذ من هنا بعضهم [أن*] اللازم في قول القائل: أنت طالق فأنت طالق فأنت طالق واحدة، وتقريره أن هذه الألفاظ مقتضيات للطلاق، وألفاظ القسم مقتضيات للجواب، والأصل تعدد المقتضي لتعدد المقتضى، فلما اكتفى [بهذا*] القسم هنا بجواب واحد؛ لزم كذلك في الطلاق، قال: والجواب: عن هذا بأن اقتضاء القسم للجواب أمر لغوي لفظي، لأن عند قوله تعالى: (فَالْحَامِلاتِ) [لو لم يأت*] الجواب لما أفاد شيئا. قال ابن عرفة: [فائدة اقتضاء الطلاق*] لزوال العصمة أمر شرعي، بدليل أنه لو سكت عند قوله أولا أنت طالق لترتب الحكم عليه بالطلاق، ولو سكت عند قوله: (وَالذَّارِيَاتِ) (فَالْحَامِلاتِ) ولم يأت الجواب لما أفاد شيئا. قال ابن عرفة: وفي هذه الآية رد على من يقول لَا يلزم المجتهد أن يحفظ من القرآن إلا [آيات*] الأحكام لاحتمال استنباط هذه الحكم، أعني لزوم واحدة الطلاق، فهذا الوجه وهو حكم شرعي وعدم حرمة اليمين بغير الله تعالى. قوله تعالى: {وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ (6)} لا شك في وقوع الموعود به للزومية صدق الوعد سمعا، فما السر في التصريح به. قوله تعالى: {إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ (8)} .. ولم يقل: إنكم لذو قول مختلف مع أن ذو تدل على اتصاف القائل باختلاف القول حقيقة، فإنما عدل إلى اللفظ في الدال على ظرفية القول للقائل لأنه يلتزم اختلاف القائلين في القول، ويلزم التناقض بقوله: مختلف فهو أبلغ في القرابة، ولذلك أكده باللام [ولو*] أريد مجرد الاختلاف لما كان فيه قرابة؛ لأن مطلق اختلاف القول معلوم عندهم.

(12)

قوله تعالى: {يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ (12)} ابن عرفة: السؤال على قسمين: سؤال استرشاد، وسؤال لفت واستهزاء، فالأول: يستدعي الجواب، والثاني: لَا يستدعيه وهذه الآية من الثاني، فلذلك عدل عن الجواب. قوله تعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (15)} وجمع الجنات وأفردها في سورة التوبة، فقال تعالى (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ) فالجواب: عن الأول أن آية الطور تقدمها: (إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ)، فناسب تعقيبه بنقيضه وهو النعيم، وعن الثاني أنهم باعوا أنفسهم في مرضاة الله تعالى، فأقل ما يصدق عليه جنة، وكان أبلغ في مدحهم فناسب إفرادها، وأما هنا فلما كانوا في غاية [الإتيان*] بالتكاليف ناسب الجمع. قوله تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ (16)} هذا تعليل [آخر*]؛ أي المتقون في جنات ذات عيون لتقواهم وإحسانهم، قال ابن عرفة: وكان يمشي لنا سؤالا وهو ما السر في ذكر القبلية مع أن لفظة (كانوا) يدل عليها. قال: والجواب: إن كان يدل على اقتران الفعل بالجملة في الماضي، وهي ظاهرة في الدوام فيحتمل عدمه، [فلما لم يقبل ذلك*] أفاد أن يكون في كون قبلية سابقة، وإنَّمَا قال: (وَبِالأَسْحَارِ ... (18) .. ولم يقل: وفي الأسحار؛ لأن الفاء تفيد أن الأسحار من وقت تحققها ظرفا للاستغفار، ولا تدل على أن الاستغفار يكون منهم قبلها بيسير، والباء تفيد الإلصاق وأفادتها [للاستغفار*] أبلغ. قوله تعالى: {وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (19)} وقال تعالى في سأل سائل (حَقٌّ مَعْلُومٌ)، قال: والجواب أنه لما صدر في سأل سائل بذم الإنسان في كونه (إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا)، وأخرج منهم المسلمين بمدحهم فناسب ذلك الإطناب بذكر المعلومية أو ما تبرئه الذمة، وهنا لم يصدر بمدحهم في كل الأحوال وارتفاع درجتهم حتى كان أموالهم كلها للسائل لم يخص معلوما فكان عدم ذكره أبلغ، فقال: كذا كان يمشي لنا. قوله تعالى: {مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ (23)}

(24)

ابن عرفة: كان يمشي لنا ما السر في تخصيص جواب القسم بنطقهم، ولم يقل: مثل ما أنكم تسمعون أو تبصرون أو تعقلون؟ فالجواب: بها ذكر في اللوامع أن النطق الذي هو مشتق من المنطق خلق في الداخل ونطق في الخارج، والداخل كان المراد به الذات وذات كل أحد الشعور بها وإدراكها ضروري بديهي، فصار التشبيه بها في غاية إفادة التحقيق للقسم له بالمقسم عليه، أي هو حق مثل: (مَا أَنَّكُمْ) أنتم بخلاف غيره فإِنه لَا يفيد هذا المعنى. قوله تعالى: {أَتَاكَ حَدِيثُ ... (24)} فيه سؤالان: الأول: لم قال هنا: (حَدِيثُ)، وفي سورة ص (وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ)؟ وجوابه: أن تلك فيها غرابة فناسب التعبير بالنبأ. الثاني: لم أتى بهذه الجملة غير معطوفة وعطف تلك؟ وجوابه: أن تلك تقدم ذكر بعضها بخلاف هذه. قوله تعالى: {فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ ... (25)} قال السكاكي وغيره من البيانيين: سلام إبراهيم أبلغ لأنه عبر بالاسم المقتضي للثبوت، وسلام الملائكة بالنقل فجرى على أسلوب قوله تعالى: (وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا)، انتهى، ويعترض هذا التأكيد فإن سلام الملائكة مؤكد بالمصدر المفيد إزالة الشك من الحديث، [فناب*] التأكيد مناب الثبوت الذي زاد به سلام إبراهيم فاستويا فليس أحدها أبلغ من الآخر، وجوابه: أن التأكيد بالمصدر إنما يفيد إزالة الشك عن الحديث في الخبر لأنه غير مشاهد، فإذا قلت: قام زيد، احتمل الحقيقة والمجاز، فأتى بالمصدر لرفع المجاز وتعيين إرادة الحقيقة، وأما الإنشاء فلا يزيد المصدر فيه، وذلك أن الإنسان إذا [قال:*] بعت لزمه البيع، وليس فيه مجاز، وهذه الآية السلام فيها من قبيل الإنشاء لَا من قبيل الخبر، فلم يزد فيها المصدر زيادة؛ فبقى الأمر على ما كان عليه من اقتضاء الفعل التجدد والاسم الثبوت، فسلام إبراهيم عليه الصلاة والسلام أبلغ من سلام الملائكة، فإن قلت: المصدر إنما يفيد إزالة الشك عن الحديث فهو يفيد تحقيق وقوع السلام منهم على ما هو عليه، وهو مدلول عليه بلفظ الفعل المقتضي للتجدد، فكان قبل المصدر

(26)

محتملا؛ لأن يكونوا أرادوا السلام حقيقة، أو معنى آخر يقاربه، وعلى تقدير أن يريدوه فهو سلام لمجرد [ ... ] فأزال المصدر الاحتمال الأول وبقي الثاني، قلت: التأكيد بالمصدر يزيل الشك عن الحديث فقط، والأمر أن يصيره كلام إبراهيم ويقوم مقام الثبوت فيه، فلما كان أبلغ فلا جواب عنه إلا ما قلنا، وتقدم في سورة هود تمام الكلام في هذا. الفخر في سورة براءة عند قوله تعالى: (وَصَلِّ عَلَيْهِمْ) في قول الرجل لغيره: (سلام عليك) لطائف، قال: ذكرتها وإن كان لا يناسب ذكرنا هذا الموضع خشية أن تضيع. قال: قوله: (سَلامٌ) نكرة فيها معنى التعظيم الابتداء به؛ لأن في الكلام حذف صفتها، أي سلام تام كامل والخبر عليكم، أو هو صفة لسلام والخبر مقدر أي [كأئن*]، وقد يترجح حذف الخبر لقصد التهويل والتعظيم، وجوابه وعليكم السلام على عكس الترتيب الأول، وسببه قول سيبويه: إنهم يقدمون الاسم وأيضا فلدلالة على الحصر فيكون الجواب أبلغ، لقوله تعالى: (وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا)، وأما [مقول الرجل لغيره السلام عَليك معرفا*]، فالسلام لفظ مفرد يحلى بالألف واللام لَا يفيد إلا أصل الماهية ولا إشارة له بالأحوال العارضة لها، فإذًا كان التنكير أبلغ، وكذلك حيث ما جاء لفظ السلام من الله تعالى ورد منكرا، وإنما ورد معرفا من قول [عيسى*] صلى الله على نبينا محمد وعليه وسلم: (وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ)، وكذا اختار الشافعي في التشهد تنكير السلام، قال: وسبب مشروعية السلام بين المتلاقيين ليحصل به لكل واحد منهما اعتقاد سلامته من الآخر؛ لأن الأصل في طبع الجيران الشر على الصحيح، ودفع الشر أهم وآكد من جلب الخير، قلت: ومنه قول المتنبي: الظُلْمُ من شيَمِ النّفوسِ فإن تجِدْ ... ذا عِفَّةٍ [فلِعلَّةٍ*] لا يظْلِمُ قال: وقوله: (عليكم) تقتضي مخاطبة جماعة، وذلك أن الإنسان لَا يخلو عن الحفظة من الملائكة وأرواح مجانسة له. قوله تعالى: {فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ (26)} يدل على أن هذا العجل كان مشويا [ ... ] منه أهله، وأنه كان من عادته تهيئة الطعام [**برسم] من يرد عليه، أو أتاهم بما كان معدا لأهله. قوله تعالى: {فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً ... (28)}

(31)

ذكر هنا الخوف منه، وقال في موسى: (فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً) فلم يذكر صفة الخوف فيه؛ لأن قائلا لَا تخف هنا الملائكة، وهناك الله تعالى فناسب عدم ذكر المخوف منه وعدم الامتثال به. قوله تعالى: (بِغُلَامٍ عَلِيمٍ). دليل على شرف العلم، ونقل ابن العربي في سراج المريدين، عن ابن فورك: أنه رأى الملائكة، ونقل أبو نعيم في الحلية، عن سفيان الثوري، أن الملك خاطبه في حكاية الحية، قال كاتبه، وخبر ابن عم والدي وهو الشيخ الصالح العابد الزاهد أبو فارس عبد العزيز البسيلي: أنه [كان*] حين يقوم إلى صلاته بالليل يرى أن الملائكة تدخل عليه بيته وتسلم عليه في صفة طيور ذوي أجنحة. قلت: ولما توفي رحمه الله صبيحة يوم الخميس الثامن والعشرين من شعبان عام أربعة وثمانين وسبع مائة رأيت كأني بين السماء والأرض وإذا برقعة هابطة من السماء، فيها مكتوب بخط بين: عبد العزيز البسيلي من أهل الجنة ودفن رحمه الله بمقبرة خالد أبو إسحاق إبراهيم البسيلي. قال لي شيخنا أبو مهدي عيسى الغبريني: لم أر أحدا في زماننا على طريق السلف الصالح غيره. قوله تعالى: {فَمَا خَطْبُكُمْ ... (31)} قدم المقول للمخاطب على ندائه؛ لأنه المقصود بالذات، ولما فهم من القرائن أنهم نزلوا للعذاب عبر بالخطب، وقال: (أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ) فعبر بالوصف الأعم فيهم وفي بني آدم، ولم يقل: أيها الملائكة فعبر بالوصف الأخص؛ لأن وصف الرسالة عند الله تعالى فيه تشريف وتعظيم، ولأن فيه إيماء إلى المرسل إليهم. قوله تعالى: {إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (32)} تنكير (قَوْمٍ) إما تعظيما لوصف الإجرام، أو ليفيد عموم تعلق العذاب بكل من اتصف بصفاتهم، لأن تعليق الحكم على الوصف المناسب في النكرة يفيد قوة الشعور بما به ذلك الوصف للحكم أكثر من إفادته له في المعرفة. قوله تعالى: {لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً ... (33)}

(36)

لم يقل: لنرمي عليهم حجارة؛ لاقتضاء مادة الرمي كونه بقصد، وقوة الإرسال تقتضي أن يكون عن غير قصد، فهو إشارة إلى أنهم قوم لَا [يُؤْبَهُ بهم*]، يشهد لهذا التفريق ما ذكره الفقهاء في رمي [الجمار*] وإرسالها. وفي المدونة قال ابن القاسم: إن وضع الحصاة وضعا أو طرحها لم يجزه. قوله تعالى: {غَيْرَ بَيْتٍ ... (36)} أتى بدلالة الاقتضاء، ولم يقل: غير أهل بيت تشريفا للبيت، قيل على مذهب أهل السنة: أن الإيمان والإسلام متغايران يلزم أن يكون المخرج غير المخرج منه واللازم باطل فالملزوم مثله، إذ لَا يجوز أن يقول: أخرجنا من فيها من النَّاس فما وجدنا فيها غير البقر، وأجيب: بأنهما متغايران تغاير الأعم والأخص، كقولك: زيد عالم وزيد عليم، فتقول: أخرجت العلماء فما وجدت فيها إلا العليم أو العلامة، قيل: هذا في المثال يصح حيث يخرج شيء ويبقى شيء، وأما هنا فالمخرج منه إذ لم يبق فيها أحد من المؤمنين، أجيب: باحتمال أن يكون فيها بيوت جملة مؤمنين، لكنهم متفاوتون، بعضهم مؤمنون مسلمون، وبعضهم مؤمنون فقط، فأخرجوا في جماعة الأيك، فإِن قلت: لعل المراد أنهم كانوا منقسمين إلى مؤمن وكافر ولم يكن فيهم منافق يظهر الإسلام ويبطن الكفر، بل إنكارهم الكل كانوا متظاهرين بالمخالفة، قلت: هذا بعيد لأن العبرة بالباطن لَا بالظاهر. قوله تعالى: {وَفِي مُوسَى ... (38)} كررت قصة موسى عليه السلام في القرآن [لتكرار سؤال اليهود*] إلى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم. قوله تعالى: (إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ). [قدم*] ذكر فرعون على السلطان المبين؛ لأنه المقصود بالتخويف به. أبو حيان: وهذا مثل: علفتها تبناً وماء باردا أي وسقيتها ماء، انتهى، يريد لأن مدينة قوم لوط تركت بحيرة مالحة يراه النَّاس اليوم على طريق الشام إلى الحجاز فتركت فيها آية، ولم يترك موسى عليه السلام آية بل جعل آية، فجاء التقدير: وجعلنا في موسى آية، مثل وسقيتها ماء. قوله تعالى: {وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ (41)}

(42)

سلك في أول الآية مسلك التسلية بذكر اسم النبي، وإنما ذكر قومه الذي نزلت بهم العقوبة، وظاهر هذه الآية أن عاد أهلكت، خلاف ما يقتضيه قوله تعالى: في فصلت (صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ). قوله تعالى: {مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ ... (42)} إما على حذف الصفة، أي من شيء منهم ومن أنعامهم، أو عام مخصوص بالمخالفة؛ لأنهم مسلمون. قوله تعالى: (إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ). إن قلت: هلا قيل: جعلته رميما فهو أبلغ؟ قلت: الرميم هو الحالة التي يؤول إليها العظم والنبات، والمقصود هنا أن الريح أهلكتهم في الحال، لَا أنها صيرتهم إلى [الحال التي تؤول*] بهم إلى الرميم، ولم يقل: جعلته رميما [لاحتمال*] أمرين: أحدهما حقيقة، وهو أنهم صاروا في الحال رميما. والثاني: مجاز، وهو أنها أماتتهم فصاروا إلى حالة يؤول أمرهم فيها إلى الرميم، فلما قال: (كَالرَّمِيمِ) أفاد نفي احتمال ذلك المجاز، وأنهم في الحال شبهوا الرميم الذي تفتت من عظم وإنبات بطول القدم والمكث. قوله تعالى: {حَتَّى حِينٍ (43)} ما بعد حتى داخل فيما قبلها، فالحين جواز زمنه التمتع. قوله تعالى: {فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ ... (44)} دليل على أن النهي عن الشيء أمر بضده؛ لأنهم كلفوا تكليفا عاما في الأمر والنهي، أو يقال: إن جميع ما كلفوا به نهي وسمي أمرا. قوله تعالى: {وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ ... (46)} إن قلت: لما أخرت قصة نوح عليه السلام مع تقدم زمانه على أزمان أهل القصص المتقدمة؟ قلت: لأن رسالته لما كانت عامة لأهل الأرض حقت به تلك القصص كما حقت النبوة نبينا صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فإن قلت: لم علل هلاك قومه بنسفهم ولم يعلل إهلاك غيرهم؟ قلت: لتطاول زمانه وشدة مقاساته قومه. فإِن قلت على قراءة حفص: إن كانت الواو للترتيب بطل قول الأصوليين، إن قولك: جاء زيد وعمرو قبله تناقض، وإن لم تكن للترتيب فما أفاد من قبل، قلت: إما أن يقول هي للترتيب في الذكر وإنَّمَا يلزم التناقض، وإن لم تكن للترتيب فما أفاد

(47)

(مِنْ قَبْلُ)، قلت: أما إذا كانت ظاهرة فيصح التصريح، بخلاف الظاهر فلا تناقض أو تقول: إنها ليست للترتيب، وذكر القبلية ليعلم إذ لَا يعلم ذلك عقلا والتاريخ فما اشتمل عليه القرآن العظيم. قوله تعالى: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ ... (47)} برهان ودليل بعد الوعظ والتخويف، فإن قلت: لم أفرد السماء والمناسب باعتبار الفهم الجمع؛ لأنه إذا كان خلق السماوات بقوة فأحرى السماء الواحدة، قلت: الآية إنما سيقت لبيان أن الله تعالى خلق السماوات والأرض، وأن ذلك دليل على كمال اتصافه بالقدرة والقوة الشديدة، فإذا كان خلق السماء الواحدة دليل على اتصافه بالقوة الشديدة، فأحرى أن يدل على ذلك خلق السماوات كلها، وقرئ برفعِ السماء والواو على ذلك [واو*] الحال لَا عاطفة، كما قال سيبويه في قوله تعالى: (وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ) والمعنى أن قوم نوح أهلكوا حالة وجود الدليل الدال على كمال قدرة الله تعالى وشدة بطشه. ووقع في كلام القاضي الباقلاني ما يدل على أن السماء [كورية*]، لأنه لما دخل بلاد الروم رسولا عن الملك ناظره بعض النصارى، فقال له: كيف تزعمون أن القمر انشَّق لنبيكم ودخل نصفه تحت الأرض وبقي نصفه في السماء لو كان كذلك لرآه كل أفق؟ فقال له القاضي: يلزمكم هذا في المائدة التي نزلت على نبيكم هل انفردتم برؤيتها أو رآها جميع أهل الأرض، فانقطع الرومي، فقال له القاضي أبو بكر: الجواب: ما قلته أنك كما تشاهد كسوف الشمس والقمر في قطر دون قطر، وفي موضع صلاة الظهر وفي آخر وقت صلاة العصر، وكذلك يتصور اختصاص رؤية انشقاق بقطر دون قطر، انتهى. وهذا إنما يتم له على أن السماء [كورية*] وكذا الأرض، وأقوى أدلة المنجمين على أنها [كورية*] اختلاف أزمان الكسوف في الأقطار، [فتكسف*] الشمس عند باب تونس مثلا في أول النهار وفي أقصى المغرب بعد مضي ساعتين أو ثلاثا، ولو كانت بسيطة لزم استواء الجميع في وقت رؤية الكسوف، والأرض أصلها [كورية*] لكن [تتحدب*] بأشياء وضعت على أجنابها كما تؤخذ الكرة فتصير مثمنة أو مربعة فتتحدب. قوله تعالى: {وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ ... (49)} المراد بذلك النقيضان كالحركة والسكون، والاجتماع والاقتران، والحياة والموت، والإسلام والكفر، والغَناء والفقر.

(50)

فإن قلت: فيه دليل لأهل السنة في أن الكفر مخلوق لله عز وجل ومراد له في كل شيء، قلت: إنما يتم ذلك لو قيل: وكل شيء مخلوق منه زوجان فنحن خلقناه، أو يقال: وكل شيء خلقنا زوجين مخلوقان لله تعالى، والآية إنما دل عمومها على أنه لم يقل شيئا منفردا؛ بل مع زوج مناظر له، فإن قلت: فلم يخلق الإسلام منفردا بل مع الكفر [المناقض*] له؟ قلت: المعتزلي يقول: إن العبد مستقل بفعله فلم يخلق له الإسلام ولا الكفر. قوله تعالى: (لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ). الزمخشري: [إرادة أن تتذكروا فتعرفوا الخالق وتعبدوه*]، انتهى، هذا اعتزال، فإنهم يقولون: إن الله تعالى أراد من جميع الخلق الإسلام، ونحن نقول: لو أراد ذلك لما وقع منهم كفر، ومعنى التذكر إما لأن التعدد مظنة الافتقار والحاجة في الشاهد فيتذكر أن الله تعالى غني بذاته؛ إذ هو واحد لَا ثاني له، أو لأن التعدد من لوازم الحادث والقديم واحد لَا يتعدد. قوله تعالى: {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ ... (50)} راجع إلى الإقرار بوجوده (وَلَا تَجْعَلُوا) راجع إلى الإقرار بوحدانيته وهو من باب الإتيان بالنتيجة عقب الدليل. فإن قلت: يؤخذ منه أن ارتباط الدليل بالمدلول غير عقلي وإلا لما احتيج إلى ذكر ذلك؟ قلت: بل نقول إنه عقلي لكن من النَّاس [من يمعن*] النظر ويستجد القريحة فيصل إلى الوجه الذي منه يدل الدليل، وآخر لَا يفعل ذلك. وفسر الزمخشري هنا الآية على صريح مذهبه، والآية تدل أن لفظ الإله كلي كما يقوله المنطقيون. قوله تعالى: (إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ). ليس مدلول ذلك في الموضعين واحدا كما قال بعض المعبرين؛ لأن الأول: إنذار من المعاصي وعذابها غير دائم، والثاني: إنذار من الإشراك وعذابه دائم. قوله تعالى: {كَذَلِكَ ... (52)} في هذه الآية دليل لمن يقول: إن اتحاد المعلول يوجب اتحاد العلة؛ لأنه جعل إليهم على الكفر معلولا باستوائهم الكل في الطغيان لَا بوصية بعضهم لبعض. قوله تعالى: {وَذَكِّرْ ... (55)}

(56)

احتراس بعد قوله: (فَتَوَلَّ) بمعنى أن توليه إنما هو بمعنى عدم [**التمالك عليهم] لا محض المشاركة بين أن التذكر ينفع لمن حصل له الإيمان بمعنى إقامة حدوده، وطاعاته، وفروع تكاليفه، ويحتمل المراد من سيحصل له الإيمان، والأول أظهر، ... (56) .. ثم أكد الأمر بالتذكير بكون الجن والإنس خلقوا للعبادة لَا غير، وظاهر الآية مشكل لأنهم خلقوا لغير ذلك عقلا إذ فيهم كثير من العصاة، والدليل الظني السمعي إذا خالف الدليل العقلي يجب تأويله عند المحققين، فاضطر المفسرين إلى تأويل الآية فذكروا [وجوها*]. فإِن قلت: في الآية دليل المعتزلة في تعليل أفعال الله تعالى، قلت: التعليل قسمان، تعليل بمعنى أن الفعل مقصود به الفرض، ولو لم يكن لما حصل ذلك الفرض، فهذا عندنا لَا يجوز في حق الله تعالى لاستلزامه النقص والافتقار، وتعليل بمعنى ربط الأسباب بمسبباتها، ولو شاء أن يقع دونها لوقعت؛ [فهذا*] جائز في حق الله تعالى وهو المراد في الآية. الزمخشري: فإن قلت: لو أراد العبادة منهم لكانوا كلهم عبادا، قلت: إنما أراد منهم أن [يعبدوه*] مختارين للعبادة لَا مضطرين إليها؛ لأنه خلقهم [ممكنين*] فاختار بعضهم ترك العبادة مع كونه مريدا لها، ولو أراد على [القسر*] والإلجاء لوجدت من جميعهم عبادة، انتهى. هذا السؤال مشكل، وجوابه مشكل والعجب من الطيبي كيف لم يتعرض لذلك، لأن هذا السؤال إنما يتوجه على مذهب أهل السنة إذ هو باطل عند المعتزلة والمورد للسؤال إنما يأتي فيه بما هو باطل عنده فيورده على معنى الشبهة على مذهبه. والزمخشري: لَا يقول أنه لو أراد العبادة لكانوا كلهم عبادا، وإنما يقوله أهل السنة فكيف نورد عين مذهبه بسؤال على مذهبه، وإنما كان نورده أن لو كان مخالفا لمذهبه فيورده شبهة على مذهبه، ثم أجاب الزمخشري: بجواب غير مطابق للسؤال لأن الإرادة عندهم إنما تتعلق بفعل المريد، والعبد عندهم [يخلق*] أفعاله وفعله الاختياري مخلوق له، فهو غير مراد الله؛ بخلاف فعله القسري الإلجائي. فإِن قلت: لم عدل في الآية عن صريح الحقيقة إلى المجاز، ولم يقل: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا) لأكلفهم العبادة؟ قلت: تهييجا على العبادة وعلى الاتصاف بها بالفعل. ابن العربي في سراج المريدين في اسم العابد خفيت هذه الآية على المبتدعة وأهل السنة، فقال بعض المبتدعة: أراد منهم العبادة ففعلوا ما أرادوا.

(59)

وقال أهل السنة: إن كان خلقهم ليعبدوه فقد وجد من لَا يعبده ولا يصح أن يكون في خبره خلف، وأيضا فإِنه غني عن عبادتهم، وظاهر الآية أنه خلقهم لما هو غني عنهم، قال: والمعنى الصحيح في الآية: (لِيَعْبُدُونِ) أي لتجري أفعالهم على مقتضى قضائي فيكون فعل العبد على مقتضى حكم المولى، وقد فهم بعض الصالحين هذا، فقيل له: ما أراد الله من الخلق؟ فقال: ما هم عليه، قال: والغافلون ظنوا أن العبادة في الآية بمعنى الطاعة، ورأوا بعض الخلق عصاة فطلبوا [للآية معنى غير معناها*]، فخلطوا، ولو فهموا معنى السجود، في قوله تعالى: (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا). قال: كافر يكفر بلسانه وجوارحه كلها مؤمنة، نعم ولسانه الكاذب شاهد لله عليه ما بدله، وقال تعالى (إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ)، فأضافهم إلى نفسه مما وهبهم من الحفظة، وأطال الكلام في ذلك بما هذا حاصله، فإن قلت: هلا قيل: وما أريد منهم إطعاما، كما قال: (مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِنْ رِزْقٍ)، قلت: قصد التمثيل بحال الخلق في الشاهد لأن الرزق في الشاهد دائم، والإطعام إنما يكون شيئا بعد شيء ووقتا دون وقت، فهو متجدد والرزق دائم. قوله تعالى: {ذَنُوبًا ... (59)} أي [حظًّا*]، وظاهر استعمال الأدباء له أنه خاص بالشر، ويصح أن يكون مشتركا بينه وبين الخير، ومنه حديث الموطأ: " [أَمَرَ بِذَنُوبٍ مِنْ مَاءٍ، فَصُبَّ عَلَى بول الأعرابي*]، وفي البخاري ومسلم في فضائل عمر: "فَنَزَعَ ذَنُوبًا أَوْ ذَنُوبَيْنِ"، ويؤخذ من الآية أن الصحبة تصدق بمطلق المشاركة في الوصف، والمتحدثون مطبقون على منع ذلك وإنما اختلفوا، فمنهم من يطلقها على المشاركة في الزمان ويجعل الصحابي من عاصر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وإن لم يره، ومنهم من يقيد ذلك بالرؤية فإن هذه لغة وذلك اصطلاح، قلت: بل هذا عرف فيصح فيمن اتصف بالكفر والعصيان يقال: هذا صاحب فرعون. قوله تعالى: {مِنْ يَوْمِهِمُ ... (60)} هو واحد بالنوع، فصدق على كل ما فسره به المفسرون، وعبر بالكفر الذي هو أخص ومنعهم؛ لأنه رتب عليه الوعيد الأخص. * * *

سورة الطور

سُورَةُ الطُّورِ قوله تعالى: {وَالطُّورِ (1)} ابن عطية: قال بعض اللغويين: الطور اسم لكل جبل أجرد لَا ينبت [شجرا*]. وقال مجاهد: الطور الجبل [بالسريانية*]، انتهى. إن [أرادها عُرِّبت*] فحق، وإن [أرادها*] لم تزل سريانية فباطل، والظاهر أن المراد بالكتاب القرآن؛ لأن القسم بالشيء تعظيم له، وإذا تعلق التعظيم بواحد من أمور متعددة قد احتملها اللفظ فالأولى [الحمل*] على أعظمها وأشرفها، ولا شك أن القرآن له من التعظيم والشرف بالنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وبالإعجاز ما ليس لغيره. قال الزمخشري: وقيل: إنه القرآن ونكر؛ لأنه كتاب مخصوص من بين جنس الكتب، كقوله تعالى: (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا)، وقال في تلك الآية: نكرت (نَفْسٍ) لأحد وجهين: أحدهما: أن يريد نفس خاصة وهي نفس آدم عليه الصلاة والسلام كأنه قال: وواحدة من النفوس. والثاني: أن يريد كل نفس والتنكير لإرادة الخصوص؛ لأن ما به التعظيم نظير ما قال تعالى في سورة الفجر (وَلَيَالٍ عَشْرٍ)، ويرد بأن التنكير فيها إنما هو [للإبهام*] والشيوع لَا للخصوص. ويجاب: بأن التعظيم يقتضي الخصوص؛ لأن ما به التعظيم خاص بالمعظم، وكذا التنكير لإرادة التعظيم، ثم وصف ما سوى الطور؛ لأن الطور علم لَا اشتراك فيه. فإن قلت: وكذا الكتاب علم، قلت: لَا يلزم من الوصف هو الاشتراك للموصوف بدليل (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ). قوله تعالى: {وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ (5)} ابن عطية: هو السماء والسقف طول في انحناء، ومنه أسقف النصارى، وهو عالمهم، انتهى، ظاهره أنها عنده [كورية*]، وفي وصفه بالمرفوع إشارة إلى أنه العرش لأنه فوق كل مخلوق، وما تحته من السماوات بالنسبة إليه [مخوضة*] لَا مرفوعة. قوله تعالى: {إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ (7)}

(9)

إشارة إلى تغليظ العذاب وشدته، وأنه إذا كان بتحقق وقوعه مع استحضار مقام التربية والحنان والشفقة، فأحرى مع استحضار مقام الجبروت والعزة والقوة والانتقام. وقال الفخر: ذكر الرب إشارة إلى أن المكلف لَا يزال طامعا في رحمة الله راجيا عفوه. قوله تعالى: {يَوْمَ تَمُورُ ... (9)} قال مكي: العامل فيه (واقع) ولا يصح أن يعمل فيه (ما له من دافع). قال أبو حيان: ولم يبين له وجها، انتهى. توجيهه أن القضية السالبة عند المنطقيين لَا تقتضي وجود الموضوع ولا إمكان وجوده. فإذا قلت: ليس زيد بقائم أمكن أن يكون جالسا وأن يكون معدوما، فأثبت أولا وقوع العذاب بالإطلاق أعم من أن يكون في ذلك أو غيره، ثم أخبر أنه ليس له [دافع*] في ذلك اليوم، ونفي [الدافع أعم من وجود المدفوع*] في ذلك اليوم وهو العذاب أو عدم وجوده، وإذا كان العامل فيه أن عذاب ربك لواقع اقتضت الآية إثبات وقوع العذاب في ذلك اليوم، وفي الآية رد على [الطبائعيين*] القائلين بأن هذه السماوات لَا تقبل الانفطار ولا الزوال، بدليل [تأكيد*] تمور بالمصدر فدل على أنه حقيقة لَا مجاز. فإن قلت: قدم هنا السماء على الجبل، وعكس في أول السورة فقدم الجبل على السماء؛ لأنه قدم الطور على السقف؟ فالجواب: بما أجاب به ابن مالك، في قوله تعالى: (أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ)، قال: العادة أن الإنسان إذا [أحسَّ] بأمر مهول مخوف فأول ما ينظر إلى جهة فوق ثم ينظر إلى أسفل، وهذه الآية جرت مجرى التخويف فابتدأ فيها بما [ينظر*] إليه الإنسان أولا، واليوم يحتمل أن يراد به اليوم المعهود والذي هو دورة أو نصف دورة، والمقدار الحالي من الزمان كما أراد زهير في قوله: وأعلم علم اليوم، فيكون المراد مقدار زمن المور والسير، والظاهر الأول ليكون اليوم أوسع من ذلك يسعه ويسع غيره. قوله تعالى: {يَوْمَ يُدَعُّونَ ... (13)} بدل من اليوم الأول، إما بدل شيء من شيء إن كان الأول بمعنى الدورة أو نصف الدورة، وإما بدل بعض من كل إن كان الأول بمعنى المقدار من الزمان، ويكون الأول أوسع زمنا من الثاني. قوله تعالى: {أَفَسِحْرٌ هَذَا ... (15)}

(16)

أي يقال لهم: (أَفَسِحْرٌ)، والمعطوف عليه مضموم، والتقدير أنتم مقيمون على إنكار [أفهذا*] سحر أم أنتم مقرون أنكم كنتم لَا تبصرون. قوله تعالى: {اصْلَوْهَا ... (16)} صيغة أفعل هنا للإهانة، قال ابن التلمساني: وفي (فَاصْبِرُوا) التسوية. الزمخشري: فإن قلت: لم علل استواء الصبر وعدمه، بقوله تعالى: (إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) قلت: لأن الصبر إنما يكون له مزية على الجزع لنفعه في العاقبة بأن يجازى عليه الصابر جزاء الخير، فاما الصبر على العذاب الذي هو الجزاء ولا عاقبة له ولا منفعة فلا فائدة فيه، انتهى، تقرير السؤال أن المشاهد في الدنيا أن الصابر على البلاء أحسن حالا من الذي لم يصبر، فمساواة الصبر لعدمه سبب في مدح الصابر لَا في التخفيف عليه في العذاب ولا في تشديده عليه، فأجاب: بأنه قد يتوهم أن الصبر سبب في المكافأة عليه بتخفيف العذاب، فقال: إنما تجزون عملكم موجب، ويحتمل أيضا أن يجاب بأن قوله تعالى: (إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) تعليل للحكم بمساواة الصابر لغير الصابر في العذاب، والسؤال إنما يرد إذا جعلناه تعليلا للمساواة، وتعليل الحكم بالمساواة لأنا نجد بعض النَّاس يصيبه الألم فيعظم قلقه ولا يصبر، وآخر يصبر على الشدائد العظام فيكون ذلك سببا لحقة الألم عنه وهو أحسن حالا من الأول، فأخبر الله تبارك وتعالى أن هؤلاء عوقبوا بأمرين بالعذاب، ويجعل صبرهم مساويا لعدم صبرهم في أنه لَا فائدة تنشأ عنه، ومعنى (إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي جزاء عملكم، وفيه من الترك فعلي، وهي مسألة اختلف فيها في الأصول والفروع. قال الفخر في المعالم: مذهب المعتزلة أن الترك فعل، ويلزم منهم عليه الكفر، وهو أن البارئ عز وجل [بكون*] الأزل فاعلا فيلزم عليه قدم العالم، [وعدم حدوثه*] [وحرر*] في كتاب القيد من ذلك مسائل كثيرة، وعبر في تعملون بلفظ للتصوير. قوله تعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ (17)} الزمخشري: أي في (جَنَّاتٍ)، (و) أي (نَعِيمٍ) بمعنى الكمال في الصفة، أو في جنات ونعيم مخصوص بالمتقين، انتهى، أراد أنه إذا صدق مقيدا صدق مطلقا، كما قال المنطقيون في سفينة من حجراتها يصدق عليها سفينة، وقوله (فِي جَنَّاتٍ)

(18)

مجاز لأنهم الآن ليسوا فيها إذ الخطاب للكفار أو للمتقين في الدنيا، وعطف (نَعِيمٍ) من عطف الصفات، كقولك: أعجبني زيد وحسنه. فإِن قلت: لم قال هنا: (وَنَعِيمٍ)، وفي الذاريات (وَعُيُونٍ)، فالجواب: أنه تقدم هنا ذكر العذاب فناسب تعقيبه بذكر النعيم بخلاف تلك. قوله تعالى: {وَوَقَاهُمْ ... (18)} الأرجح كون الواو للحال؛ لأن كونها للحال سلم من تقديم جلب الملائم على دفع المؤلم، وإن كان المعنى إنهم لَا يدخلون النار بوجه فيكون المراد بالمتقين المعنى الأخص [والأعم*] المراد به الأعم، أو المراد بالجحيم طبقات من طبقات جهنم. قوله تعالى: {كُلُوا وَاشْرَبُوا ... (19)} [ظاهره حقيقته*]، وحمله الفخر على التنعيم المعنوي وهو نزعة فلسفية، وفي الآية سؤال وهو أن الأمر الخارجي مقدم على الأمر [التكميلي*]، وجاءت الآية على العكس فقدم فيها التفكه الجاري مجرى الأمر التكميلي على الأكل والشرب الجاري مجرى الضروري، وجوابه أن المعنى كما تقدم أنهم يخالطون بأن يقال: (كُلُوا) زيادة في تفكههم والأكل حاصل لهم قبل التفكه وهو أعم من أكل التفكه والأكل ضروري. قوله تعالى: (بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ). نص في صدق العمل على القول والفعل، كقوله: "إنما الأعمال بالنيات"، وجعل ابن عطية الزيادة في الدرجات باعتبار العمل ونفس دخول الجنة فضلا من الله تعالى، وهو [تحكم*]، وهلا كان الأمر بالعكس، فإِن قلت الحديث: "لن يدخل الجنة

(20)

بعمله" هنا معناه نفي استقلال العمل بإيجابه دخول الجنة بل به مع كونه فضلا من الله تعالى. قوله تعالى: {مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْنَاهُمْ ... (20)} جاء على هذا الترتيب الوجودي في الدين؛ لأن أهم الأمور على الإنسان الأكل والشرب، ونص الأطباء على أن الوطء عقب ذلك في غاية [القوة*]. للبدن فهم يأكلون ثم يستريحون باتكاء ثم ينالون من أزواجهم، وقوله تعالى: (عَلَى سُرُرٍ) إما على التوزيع أو على كل واحد سرر. قوله تعالى: (بِحُورٍ عِينٍ). ابن عطية: قرئ بالإضافة، والحور هي البيضاء الشديدة [بياض العين والشديدة سوادها*]، انتهى. فهو من إضافة الأعم إلى الأخص ومن إضافة الموصوف لصفته، وفي سورة الأحزاب (فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا) [فعداه*] بنفسه، وعدَّ أبو حيان: هذا الفعل من أخوات اختار واستغفر، ذكر ذلك في سورة الأعراف، وفي آخر سورة يونس. قوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ ... (21)} قال بعضهم: المراد (الَّذِينَ آمَنُوا): المتقون المتقدم ذكرهم المتصفون بأخص الإيمان لَا بأعمه، ولو كان المراد الأعم لزم الترجيح من غير مرجح، والثاني باطل فالمقدم مثله بيان لملازمة أن المعنى المجهول عليه للإلحاق وهو الإيمان، فإذا فرض مساواته للتقوى فليس إلحاق الذرية بالآباء بأولى من العكس. فإذا قلنا: الإيمان أعم من التقوى لم يلزم الترجيح من غير مرجح لأن الأخص أقوى، وجوابه: لَا نسلم لزوم الترجيح من غير مرجح بل المرجح سبقية إيمان الآباء لأن زمن إسلام الجميع غير متحد وأيضا للآباء شرف التقدم في الوجود وفي جامع التنبيه في سماع أصبغ، وعن ابن القاسم في ولد المسلمين يولد مخبولا أو يصيبه الخبل قبل أن يبلغ العمل، قال: ما سمعت فيه شيئا إلا قوله تعالى: (وَالَّذِينَ آمَنُوا

وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ) وأرجو أن يجعله الله منهم، فأما من أسلم وجرى عليه القلم ثم أصيب بعد ذلك، فقال بعض أهل العلم والفضل: يطبع على عمله بمنزلة من قد مات. ابن رشد ما رجاه ابن القاسم من إلحاقهم بآبائهم، يروى عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وروي عن ابن عباس رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: "إن الله ليرفع ذرية المؤمن معه في جنته وإن لم يبلغها في العمل ليقر بهم عينه"، ثم قرأ (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ) الآية. ابن العربي في أحكام القرآن: فأما اتباع الصغير لأبيه في أحكام الإسلام فلا خلاف فيه، وأما تبعيته لأمه فاختلف فيه العلماء أو [اضطرب فيه قولهم*]، والصحيح أنه في الدين تبيع من أسلم من أبويه، للحديث الصحيح عن ابن عباس، أنه قال: "كنت أنا وأمي من المستضعفين من المؤمنين" [وذلك أن أمَّه أسلمتْ قبل أبيه العباس، فتبِع أمَّه في الدِّين"*]. ["هذا خلافُ ما في كتاب الديات من "المدونة"، قال فيه: "مَن أسلمتْ تحت نصراني ففي جنينِها ما في جنينِ النصرانية، وذلك نصفُ عُشُرِ ديةِ أبيه"*] انتهى. وظاهر الآية إلحاقُ جميع الذرية [وإنْ بَعُدُوا، لقوله (ذُرِّياتِهِمْ) بالجمع،*]، وأفرد في قوله: (وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ) وهذا في الدار الآخرة، وليس في الآية دليل على أن المرء يلحق الأكرم [والأرفع*] من جهة جدِّه لأمه في الدنيا. وقال بعضهم: الآية تدل على عدم الولد بالأب في الدين لأنها اقتضت أن الولد لا يلحق بالأب بمجرد الإيمان بل [بإيمان*] عظيم؛ لأن التنكير في الإيمان للتعظيم. قوله تعالى: (كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ). احتراس من مثل مذهب المرجئة؛ لأنه لما ألحقت الذرية بالآباء في الثواب فقد يتوهم المتوهم أنه لَا يضر مع ذلك من المعاصي فأتى بهذا الكلام احتراسا، وكان المناسب أن يقول: (ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ) فعدل عنه لما ذكرنا، ويحتمل كونه من [المرسل التمثيلي*] لقوله تعالى: (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا)، وفي سورة المدثر (كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَة إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ) فإن كان الزمان واحداً فهذا عام مخصوص بتلك، وإن كان مختلفا فيكون زمان هذه متقدما فيكون في الحشر وعند الحساب ومرتهنين بأعمالهم، ثم بعد ذلك يدخل بعضهم الجنة، وبعضهم النار.

(22)

وقال بعضهم: إن هذه الآية تدل على أن الذرية [الملْحَقين بالآباء*] هم الذين آمنوا وماتوا على الإيمان وهم غير عاصين أو عاصين تائبين، وأما غير التائبين فإنهم لا يلحقون بآبائهم بل (كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ). فإِن قلت: هل تدل الآية على الكسب الذي ينسبه أهل السنة للعبد؟ قلت: لَا لأن الكسب هنا مما يذكرونه، فإِن قلت: لم عدل عن صريح المطابقة فلم يقل بما عمل رهين، كما قال تعالى (وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ) فالجواب: أن العمل أعم والكسب أخص، [ولَا يطلق إلا على عمل المكلف*]، ولما كان الأول اتصافا [وتقريرا لنعم الله*] وفضله على العبد ذكر العمل الذي هو أعم، إذ هو أبلغ في مقام الامتنان ولما كان الثاني في معرض التهديد علقه بالأخص. قوله تعالى: {وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (22)} جاء هذا مطلقا، وفي سورة الواقعة (وَلَحْمِ طَيْرٍ)، فيحتمل هذا الإطلاق [أن*] يقيد بتلك، وفي ذكر الفاكهة، واللحم أنه جاء بأن طعام الجنة إنما هو للتفكه، لأنه لَا يطلب اللحم والفاكهة، إلا من شبع وأراد التفكه. فإِن قلت: هلا قيل: ممن يشتهى، فهو أعم وأبلغ، قلت: المراد حصول مرادهم في كل شيء. قوله تعالى: {يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْسًا ... (23)} إن قلت: ذكر التنازع في شرب الخمر دون الأكل، قلت: لأن عادة [العرب بيسارة*] الأكل دون شرب الخمر، فذكر التنازع في الخمر المقتضي للاستنكار منها دون الطعام والماء جريا على المألوف، والتنازع أن يطلب كل واحد من صاحبه الكأس ليشرب منها، ثم لما كان التنازع قد يؤدي التشاجر بين النداء ما في الدنيا احترز منه، بقوله تعالى: (لَا لَغْوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ)، ولذا قيده إلى التنازع، بقوله: فيها دون ما قبله، فلم يقل: وأمددناهم فيها، إشارة إلى مخالفة حال الآخرة، لحال الدنيا، وأن التنازع السالم عن اللغو والقائم إنما هو في الجنة، وتنازعهم إنما هو في الخمر، لَا في الكأس، فهو من باب تسمية المحل باسم الحال فيه. قوله تعالى: {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ ... (25)}

(26)

حمله ابن عطية على الإقبال الحسي، والصواب حمله على الإقبال المعنوي، لأن الأول فيه كلفة عليهم باعتبار القيام والمشي. قوله تعالى: {قَالُوا إِنَّا كُنَّا ... (26)} (إِنَّا) تفسير لـ يتساءلون، فيكون السؤال [إما*] مجازا لأنه طلب، وهذا خبر، وإما تفسير للازم السؤال وهو الجواب، ويؤخذ من الآية جواز التحدث على الطعام. قال ابن عبد البر في جامع "الاستذكار": إنه مستحب، قال: [وتركه من فعل [المجوس*]، وكذا قال المحقق النووي: رحمه الله في الأذكار وحجة الإسلام الغزالي رحمه الله: أنه مستحب انتهى، ويتحدث بما يناسب لَا بما [لا يُكَدِّرُ الأكلَ مما يُستَقْذر"*]، وإذا رأى لَا يذكر له حديث "المؤمن يأكل في معيٍّ واحد". قوله تعالى: (فِي أَهْلِنَا). إن قلت: ما أفاد؟ قلت: لأن الكون في الأهل مظنة الغفلة والذهول، ولفظة (كان). ذكر ابن الصفار: أنها تقتضي الدوام لذاتها. وذكر ابن خروف: أنها لَا يلازمها الدوام. وكذا قال الباجي: إنها قد ترد للدوام. قال [الباجي*] في كشف الحقائق: إنها قد ترد لله للدوام وتأكيدهم ذلك، بأن مع أنه لَا منكر حينئذٍ [ ... ]، إما لأن ترتب ذلك التعبير جزاء عن السبب الذي قدموه في الدنيا مستبعدا؛ لكثرة النعيم بالنسبة إليه، وإما للبون بين حالتي الدنيا والآخرة، وأنهم لكثرة أموال الآخرة يذهلون عن جميع ما [كانوا*] عملوه في الدنيا. قوله تعالى: {فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ ... (29)} قيل: فما فائدة الإتيان بالفاءين مع أن مدلول فعل الأمر بدونهما يرد [مدلولهما*]؟ وأجيب: بأنه لما تيسرت أحوال الفعل بالنسبة إلى المادة، وحال الفاعل كان الفاءان مسببين عن هاتين الحالتين، أما كون المادة ميسرة، فهو أن أسباب الهداية كانت [للنبي*] صلى الله عليه وعلى آله وسلم سهلة، كأنه طبع على ذلك، وأما حال الفاعل فهو كمال العلم، والعقل، ولذا نفى [عنه الكهانة والجنون*]، لَا على الخبر، والنعم قسمان: نعم

(30)

رفع المفاسد، ونعم جلب المصالح، ونعم الدفع [أعظم*] وآكد من نعم الجلب، وهي المذكورة في الآية فعدم الجنون [راجع*] إلى الدنيا، وعدم الكهانة راجع إلى الدين. قوله تعالى: {أَمْ ... (30)} أبو حيان: منفصلة، وحكى فيها ابن الصائغ ثلاثة أقوال: المشهور فيها تقدر بـ بل والهمزة، وذهب الكسائي إلى أنها تقدر بـ بل خاصة، وذهب فيه غيره إلى أنها [تقدر*] بالهمزة خاصة. قوله تعالى: (نَتَرَبَّصُ بِهِ). خصص التربص هنا بوصف الشعر، وفي آية أخرى بقي على وصف الجنون في قوله تعالى: (إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ)، وهذا كلام من [خبر علم المناظرة*]. قوله تعالى: {فَإِنِّي مَعَكُمْ ... (31)} لم يقل: فإني بكم؛ كما قالوا به إشارة لعدم المبالاة بهم، أتى (مع) المقتضية للمشاركة لهم في تربصهم به، ويكون من باب القول بالموجب، والمعنى أقول موجبه [**ولكن] تربصكم بانتظاركم ما يسوؤكم. قوله تعالى: {أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلَامُهُمْ بِهَذَا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ (32)} الفخر: (أَمْ) هنا متصلة بعطف المتصلة عليها، إذ لَا يصح تقديرها بـ بل انتهى، راعى المعنى، وغفل عن قواعد النحو، فإن المتصلة لَا يليها إلا المفرد، وهذان بعدهما الجملة فهما منفصلتان، تقدر أن بـ بل والهمزة، وإنما يلزم ما قاله عند من يقدره بـ بل فقط، لأنه يفسد المعنى حين إذ وأما على تقدير بل والهمزة فيهما، فالمعنى صحيح لأنا لم نثبت لهم بل الاستفهام في معنى النفي، ومعنى الأول: أنهم جاهلون جهلا مركبا، أو جهلا بسببها، ثم قال (أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ)، أي كافرون طغيانا وعنادا. فقول الزمخشري المنقول أشد من الكذب انتهى، بيان قوله أشد أن الكذب [الخلف*] فيه من جهة واحدة، [والخلف*] في المنقول من وجهين يتناوله أن القائل: حدثني زيد بكذا الحديث يرويه زيد، ولكنه لم يحدث به هو كاذب، فإن قاله في حديث لم يروه زيد، بل إنما رواه عمرو فهو منقول على زيد، لأنه كذب في أمرين: هما نسبته إليه ما لم يروه، وفي تقوله عليه أنه حدثه به، ولم يحدثه به.

(33)

قوله تعالى: {بَلْ لَا يُؤْمِنُونَ (33)} عام مخصوص، لأن منهم من آمن، وإن أريد به من حضر في دار الندوة، فهو باق على عمومه. قوله تعالى: {فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ ... (34)} في فصاحته وإعجازه، قال شيخنا رأيت للمعري تواليفا وأشعارا في غاية الفصاحة، ورأيت له تأليفا في معارضة القرآن في غاية السقوط والغثاثة، ويكاد ألا يكون من قوله، عارض فيه السور التي في المفصل ومن نظر [معارضة*] سورة (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ)، (إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ)، يستهزئ، وهذه ضحلة، وذكر إمام الحرمين في الإرشاد معارضة القرآن، وعد منها سورا، ونقل في المعارضة كلاما يكاد أن لَا يقوله ناقل. وقال المازري في كتاب الفضائل من العلم: في حديث أنس، جمع القرآن على عهد رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم أربعة كلهم من الأنصار، معاذ بن جبل، وأبي بن كعب، وزيد بن ثابت، وأبو زيد، لَا يتوهم من لفظ الحديث شبهة للملاحدة المنكرين لتواتر القرآن، وقد اعتمد عليه بعض المتنصرة، وصنف تصنيفا في كثير من الآيات والأحاديث زعم تناقضها. وحكي أن المازري: كان يوما بمجلس تدريس وبه طاقة يدخل شعاع الشمس، فإذ شيء في تلك منع منها دخول الشعاع، فرفع المازري رأسه فإذا هو سفر فنظره، فوجده الكتاب المسمى بالواضح، الذي أشار إليه في المعلم، فسأل عنه، فقيل: إنه كان ينصر بعض من كان يقرأ العلم، ووضع هذا الكتاب، فشوش على النَّاس، فأراد المازري أن يضع عليه رداء وتوقف عن ذلك لأن نصرانيا كان يتقرب من أمير بلده، وهو المعري، فخاف على نفسه منه، لأنه لم يرد ذلك ثم بعد ذلك أمره الأمير يحيى بن المعز، أن يضع عليه تأليفا، وقال: أنا أضمن لك ردك الأمير ففعل، وسماه زجر النابح في الرد على الكتاب المترجم بالواضح، وإنَّمَا قال المترجم: تبرأ من الإخبار بوضوحه، كذا نص عليه، وللشيخ أبي إسحاق بن عبد الرفيع رد على كتاب المنتصر المذكور فإنه لما رأى المازري أحال عليه في شرح التلقين في المعلم، وصرح به في شرح الجوزقي تشوفت نفسه إلى الوقوف عليه قال: فما وجدت إليه سبيلا بإفريقية، فأرسل إلى بلاد المشرق، فبعث له بأصل المنتصر دون رد المازري، [فنهض*] الشيخ إلى الجواب بأن يذكر الآيات المشكلة في الظاهر، وتفسيره تفسيرا يدفع الاعتراض، ولا يذكر لفظ المعترض تنزها منه، وهذه طريقة شيخنا ابن

(35)

عرفة: في تفسيره للقرآن، وذكر لنا هذه الحكاية في تفسير قتل موسى للقبطي في سورة القصص. وحكى ابن عطية: عياض في الشفاء القول بالصرفة وعد أنهم قادرون على معارضته، ثم صرفوا من ذلك، ولكنه شاذ وصرفهم عنه ببعثه النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ومن نظر خطب الفصحاء الجاهلية قبل بعثة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، لَا يجد فيها ما يبلغ إلى نظم القرآن وإعجازه وفصاحته بوجه، وظاهر هذه الآية أنهم أمروا أن يأتوا بآية أو بعض آية [لقول مثله*]؛ خلافا للأصوليين القائلين بأنهم لم يؤمروا ببعض آية. وقول بعضهم: إن أقل ما أمروا به سورة، يرد بأن السورة مطلقة في جميع السور، فيصدق على البقرة، وكذا قولهم أن أقل ما أمروا به آية، لأن الآية مطلقة تصدق على [آية الدَّين*]، وهي كثيرة؛ بل أقل ما أمروا به بفعل آية، وقوله تعالى: (قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ). قال القاضي عياض: الإنسان كثيرا ما يستطيع العبارة عن ما يريده ولا يقدر على العبارة عما يطلب منه إلا القليل من النَّاس، فعجز الكفار عن الإتيان بمثله مفترى على أي معنى يريدونه لَا على معنى تقدم وسبق، مع أنه أهون، فدل على اتصالهم بغاية العجز انتهى، ولهذا لما قدم الحريري صاحب المقامات على بغداد ذكر له أمرها وقائع وأخبارا وأمورا، وطلب أن يدخلها في ترسلات يكتب فيها إلى البلاد فعسر عليه ذلك، ثم إنه أنشأ ذلك، فلما استكمله وعرضه على الأمير، بمحضر الكتاب وأهل الإنشاء، سقط من أعينهم واحتقروه لقبح ما جاء به عندهم، لأنه لما أنشأ المقامات إنشاء على معان نقلها من عند نفسه، وهذه إنشاءات على معان طلبت منه، فلا يقدر عليها إلا الإمام النحرير. وقول الفخر في الآية دليل على من يقول أن القرآن مخلوق، لأنهم دعوا إلى الإتيان بمثله، يرد بأن المعجزة من شرطها عندنا الحدوث، والإعجاز لَا يقع إلا بالحادث، فلا دليل في الآية، وتحقيق ذلك أن القراءة مخلوقة، والقرآن قديم، ومنهم من [**أطلق الخلق على القرآن بمحضر القوم سدا للذريعة]، وهو مذهب عبد الله بن محمد الذهلي، شيخ البخاري، ومنهم من لم ير بذلك بأسا، وهو مذهب مسلم والبخاري، ومن أجله [**لما مع الذهلي القضية المشهورة]، ذكرها الخطيب في تاريخ بغداد. قوله تعالى: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ ... (35)}

(36)

ابن عطية: قيل: [أم خلقوا خلق الجماد من غير حي فهم لا يؤمرون ولا ينهون كما هي الجمادات عليه*]، أي هم أحياء وبلا أرواح لتصميمهم على الكفر، وعدم إنابتهم واعتبارهم، وقيل: [أم خلقوا لغير علة*] انتهى، هذا اعتزال أغفله ابن عطية، فإِن الله سبحانه وتعالى لَا يفعل شيئا لعلة ولا لغرض. فإِن قلت: أطلق العلة على البارئ جل وعلا، والمراد (أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ) موجد أي من غير خالق، قلت: لَا يصح تسمية البارئ سبحانه علة، والصحيح أن المعنى من غير خالق، لأنهم لما عجزوا عن الإتيان بمثل القرآن وأداموا على تكذبيهم لم يكن تكذيبهم راجعا إلى الرسالة، بل إلى ما تتوقف عليه، وهو وجود المرسل، فرد عليهم ذلك بأنه يلزمهم أن يكونوا خلقوا من غير خالق لذاته، ولا خالق استقلالا، ولا خالق لَا لغيره، فنفي الخالق لذاته بقوله (مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ)، واستقلالا بقوله (أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ)، أي مستقلون بخلقهم أنفسهم، والخالق لغيره بقوله (أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ)، أي ألم يخلقهم أحد؛ بل أخلقوا أنفسهم، قيل: أخلقوا غيرهم، وقد تقرر أن المتقدمين يجعلون صحة الرسالة متوقفة على وجود المرسل ووحدانيته، والمتأخرون يجعلونها متوقفة على وجوده فقط، وهو اختيار الفخر، والمقترح فيثبتون الوحدانية بالسمع. وقوله تعالى: (أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ). وقال الشيخ ابن عبد السلام: إضراب إبطال وأبطل الملزوم بثبوت اللازم، لأن لازم قولهم أنهم هم الخالقون. وقال الشيخ ابن عبد السلام: المعنى أم خلقوا لغير شيء، ولا تكون من لابتداء الغاية، لأنهم خلقوا من غير شيء، لإيجادهم عن العدم. قوله تعالى: {بَلْ لَا يُوقِنُونَ (36)} إن قلت: اليقين أخص من العلم، ونفي الأخص لَا يستلزم نفي الأعم، [قال*] لا قيل: لَا يفعلون، فالجواب: [إنما*] اليقين المراد به: العلم الضروري، ومعناه من العلم النظري ينبني على [مقدمات ضرورية*] وهو لَا يسلب عنهم العلم الضروري، فأحرى أن ينتفي عنهم العلم النظري بعدم اهتدائهم، لكونهم في مقام من لَا يميز ولا يفعل، ولو نظروا في أنفسهم، وفي خلق السماوات والأرض التي إدراكها وحدوثها وتغيرها ضروري لحصل لهم العلم بأن لها خالقا ومحدثا، وأنه موجود، فلما تركوا ذلك صاروا كالجاحدين لوجود الصانع، فجحدوا ما هو معلوم بالضرورة؛ لأن دعواهم أنهم هم الخالقون لأنفسهم، أشنع من دعوى خلقهم أنفسهم نفي الخالق لهم

(38)

بالأصالة، وادعوا أنهم خلقوا السماوات والأرض، أشنع من دعوى خلقهم أنفسهم، لأن خلقهم أنفسهم أمر نظري؛ بدليل مخالفة المعتزلة في بعض ذلك، لقولهم: إن العبد يخلق أفعاله، ودعوى أنهم خلقوا السماوات والأرض يعلم كل عاقل بطلانها للضرورة، إذ لم يخالف في ذلك أحد. فإن قلت: لم يقل أحد بنفي الخلائق أصلا؟ قلت: ذكر ابن الخليل في مناظرته أن الباقلاني رأى بعض الدهرية وناظرهم. قوله تعالى: {فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ ... (38)} أسند الاستماع أولا إلى جميع الكفار، [وأخرى*] إلى بعضهم؛ لأن جميعهم يطلب الاستماع، فلا يصل إليه [إلا*] بعضهم، وإنَّمَا الحاصل لهم إنما هو استماع إن حصل لا علم. قوله تعالى: {أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ ... (39)} أتى بضمير الغيبة [لخسة*] المعادل له، وإلا فالأصل التكلم، وظاهر الآية تشريف مقام الجلالة عليهم. وقال ابن عطية: الآية تشريف وتعظيم للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وتفضيل [له*] عليهم. قوله تعالى: {أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (40)} عبر أولا بلفظ المغرم بالنسبة إلى مقامهم واعتقادهم بطلان ما أتاهم به، ويؤخذ عدم جواز أخذ الأجرة على تعليم القرآن، لأن فيه إهلاك بالمغرم، لأن بعض النَّاس يتعذر عليه ما يعطي للمعلم. قوله تعالى: {فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ (42)} عبر بالاسم الظاهر، ولم يقل [فهم المكيدون*] ليفيد العموم في كل من اتصف بصفاتهم؛ وليخرج بذلك من أسلم منهم، [فلا يكون مكيدا*]. قوله تعالى: {أَمْ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ ... (43)} هم [مقرون*] بوجود الله [المقر بوجود*] نعمته، فلما ادعوا الشريك كان من لوازم ذلك نفي الآلهة، ويؤخذ منه أن لازم المذهب مذهب. قوله تعالى: (سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ).

(44)

تأكيد نفي الشريك، والظاهر في ترتيبه هذه المعطوفات، أنه على حسب الواقع منهم في التقديم والتأخير، وكرر (أم) هنا في خمسة عشر موضعا، وهي إما أن كلها جمل مستقلة، وإمَّا معطوفة، وقول من قال فيها وفيها بعيد. قوله تعالى: {وَإِنْ يَرَوْا كِسْفًا ... (44)} هو إشارة إلى قوله في سورة الإسراء (أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا)، فأخبر قوله تعالى: أنهم لَا يصدقون، ولو فعل لهم ذلك ولقالوا فيه (سَحَابٌ مَرْكُومٌ). ونقل السفاقسي هنا عن أبي البقاء: (إن) بمعنى (لو) وتعقبه فإنها لم ترد بمعناها بوجه، ونقل شهاب الدين الحلبي في شرح ألفية ابن مالك: أنها ترد بمعناها، واحتج بحديث البخاري في الإحسان، قال: "أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ". قال: وذلك لأن (إن) هنا ملغاة لم تنصب، نقله عن قول ابن مالك: أن لو حمل على أن في الشرطية، وأن تحمل على لو في الإلغاء، ولم يذكر هذا ابن هشام المصري في كتابه [مغني اللبيب*]. قوله تعالى: {فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلَاقُوا ... (45)} ابن عطية: [هذه مشاركة منسوخة بآية السيف*] انتهى، قيل: هذا [في*] سياق الثبوت، وهو مطلق يصدق بأدنى الأزمنة، وأجيب بأن أبا حنيفة، وغيره يقولون: إنه عام، وأيضا فالغاية تدل على عمومه. قوله تعالى: {يَوْمَ لَا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ ... (46)}

(47)

قيل: إنما توهموا أن كيدهم يغني عنهم في الدنيا، وأما الآخرة فلم تخطر ببال لأنهم يجحدونها، ولا ينتفي إلا ما يدعيه الخصم، فكيف نفى عنهم الانتفاع بكيدهم في الآخرة؟ أجيب: بأن النفي على قسمين: تارة يتعلق بما هو ثابت باعتبار دعوى الخصم، وتارة يتعلق بما يقتضي الحال ثبوته، والنفي هنا تعلق [بالثاني*] لَا بالأول، لأنهم [لا*] ينتفعون به إلا في الآخرة. قوله تعالى: {عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ ... (47)} أي قريب الوقوع لَا أخف، كما قال الفخر: إذ لَا يناسب مقام الوعيد والإنذار. قوله تعالى: (وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ). (الأكثر) إما على بابه أو بمعنى الجميع، وعاقبهم على الجهل لتمكنهم من العلم. قوله تعالى: {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ ... (48)} الحكم قسمان: أحدهما: الإرادة القديمة الأزلية. والثاني: متعلقها وآثارها. قوله تعالى: (بِأَعْيُنِنَا). جمع هنا الأعين، وفي سورة طه (وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي)، والجواب: أن الخطاب [هناك*] لموسى صلى الله على نبينا محمد وعليه وعلى آلهما وسلم، والخطاب هنا لنبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، والجمع زيادة في حفظه وتعليمه. وقال الزمخشري: جمع الأعين هنا لإضافتهما إلى ضمير الجمع، وأفردها في طه، لأن الإضافة إلى مفرد. * * *

سورة النجم

سُورَةُ النَّجْمِ قوله تعالى: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1)} ذكر ابن عطية: نزولها، وأجاد الطيبي نفي بعضهم. الزمخشري: فسأله عن العامل في إذا، فقال له: مقدر أي أقسم بالنجم إذا هوى، فقال له: فعل القسم حال، وإذا ظرف لما يستقبل فيتناقضان، فأجاب الزمخشري: بثلاثة أوجه: الأول: أن العامل مضاف مقدر، أي وهوى النجم إذا هوى. والثاني: أن تكون إذا مجرورة عن الزمان [كقولهم*]: أينك إذا احمر البسر، أي وقت احمراره. والثالث: أن المستقبلات باعتبار علم الله تعالى كلها ماضية انتهى، الجواب الأول: يرد بعدم الفائدة والصواب، أن يقدروا حركة النجم إذا هوى، لأن الحركة أعم من الهوى، فحينئذ يكون، قوله تعالى: (إِذَا هَوَى)، مفيدا، وأما جوابه الثاني: يرد بأن الاستقبال في المثال يتصور بخلافه في الآية. ولما ذكر [الآبذي*] في شرح الجزولية: أن إذا لَا يستعمل إلا في المقطوع بوقوع المعلوم وقت وقوعه، مثله في المثال المذكور، وأما الثالث: فيرد بالفرق بين علم الله تعالى بالشيء وبين وجود الشيء كما قالوا: في (أَتَى أَمْرُ اللَّهِ) جعله ماضيا لتحققه، ثم قال: (فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ)، وإنما الجواب بما قاله ابن مالك: في قوله تعالى: (وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُم)، أن إذا ظرف زمان لما مضى، لأن نزول الآية كان بعد وقوع ذلك في الوجود، فرد عليه: بأنه يلزمه التناقض فإن إذا ظرف لما مضى وانقطع، وفعل الحال مناقض للماضي المنقطع، فيجعل هنا إذا للحال كما جعلها ابن مالك للمعنى، وليس من القياس في اللغة. قوله تعالى: {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2)} الزمخشري: الضلال ضد الهدى، والغي ضد الرشاد، انتهى، فيؤول الأمر إلى أنهما بمعنى واحد، وليس كذلك، فالصحيح ما فسره ابن عطية، فالضلال [نسيانه*] وغلطه، أي ما خبركم به عن الله فهو خبر صحيح، وليس بخبر غير منوي ولا مقصود بوجه، إذ لَا يفعل ذلك إلا مجنون، والغي أن يقصد الإخبار بشيء لَا مصلحة فيه ولا

(3)

منفعة، بل فيه المفسدة، أي ما أخبركم عن الله لقصد مفسدة بل لقصد المنفعة والهداية، وفرق السهيلي بين صاحب وذو بأن صاحب، إنما يضاف إلى ما هو أشرف منه فتقول: أبو هريرة صاحب رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ولا تقول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم صاحب أبو هريرة وذو إنما تضاف إلى ما هو أشرف منه، قال تعالى (وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا)، وقال (وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ)، وهذه الآية ترد عليه في ذكر صاحبكم، [أنها*] للعلة أي هو بين أظهركم ورُبِّيَ ببلدكم وفي صحبتكم فإنكم عالمون به، وما جربتم عليه [كذبا قط*]. قوله تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3)} غير بلفظ المستقبل وما قبله بالمعنى، فالجواب: أنه إن كان المراد لزوم الشيء أو جعله كالثابت اللازم، أو المحقق الوقوع أتى به ماضيا، [أو بلفظ (أو) وما يراد به التصوير، والتحديد*] يؤتي به مضارعا إشارة إلى ثبوت الضلال وتحققه وتجدد النطق به مرة بعد مرة، لأن نفي الضلال ضده ثبوت الهداية، وهي لازمة مطلقا بخلاف النطق، فإنه تارة ينطق، وتارة [يسكت*]. قوله تعالى: {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4)} قيل: يدل على أنه عليه الصلاة والسلام، غير مجتهد، أجيب: بوجهين: الأول: الضمير عائد على القرآن، وهو منحصر في الوحي لَا اجتهاد فيه. والثاني: سلمنا عوده على جميع ما يأتي به من قرآن وغيره، [لكن عمله باجتهاده مستند*] إلى الوحي، لأنه أوحي إليه الإذن في العمل باجتهاد. قوله تعالى: {عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (5)} إن قلت: هلا قيل: علمه العليم فهو أنسب من شديد القوى، لأن الكلام في العلم لَا في القوة، قلت: هو إشارة إلى أنه كلام معجز. قوله تعالى: {ذُو مِرَّةٍ ... (6)} تأسيس لأن الوصف به [يفيد*] المبالغة والكثرة، حسبما ذكر عياض في الإكمال في حديث الوصية في قول سعد بن أبي وقاص: "وأَنَا [ذُو*] مَالٍ " فأفاد شديد القوى المبالغة في ذوات القوة، وأفاد ذو مرة المبالغة في عددها وكثرة آحادها. قوله تعالى: (فَاسْتَوَى).

(7)

قيل: جبريل، وقيل: النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وقيل: الله تعالى، وهو مشكل لاقتضائه المكان فمنهم من تأوله، ومنهم من وقف فسأل ابن التلمساني في مثل هذا من وقف أنها أمور علمية اعتقادية، والأمور العلمية لَا يكتفى بغلبة الظن والتأويل، إنما ينتج الظن لكنا نقطع بنفي ما يوجب النقص. قوله تعالى: {بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى (7)} الزمخشري: هو أفق الشمس فملأ الأفق انتهى، يريد سمت الرأس، لكن عبارته قلقة. قوله تعالى: {دَنَا فَتَدَلَّى (8)} تدلى أخص من دنا لوجهين: الأول: أن تدلى خاصة بالتحرك من فوق إلى أسفل، والدنو يكون بالهبوط وبالصعود، وفي سائر الجهات. الثاني؛ أن التدلي في العرف إنما يكون لما هو قريب، [فلذا قدم الدنو*] على التدلي، أو أدنى قيل: بمعنى بل وأورد أنها للإضراب فهو إما إبطال أو انتقال، وكلاهما مشكل، فإن كلامه تعالى حق وصدق لَا إبطال فيه ولا انتقال، أجيب: بأن كلا الأمرين المنتقل عنه وإليه حق الإبطال بناء على ما يليق بالمقام على ما جرت به عادة العرب في تعاليها في نهاية الأوصاف. قوله تعالى: {فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ ... (10)} في قوله سبحانه وتعالى (إِلَى عَبْدِهِ) إشارة إلى أن النبوة والرسالة محض تفضيل، وقوله تعالى: (مَا أَوْحَى)، مبالغة في الوحي فلذلك [أبهم*]. قوله تعالى: {أَفَتُمَارُونَهُ ... (12)} لما تضمن الكلام السابق تحقيق وقوع الرؤية، أي هذا إنكار [لإنكار*] قريش ذلك. فإن قلت: تمارونه من المماراة، والمفاعلة ما تكون إلا من الجانبين، فكيف تسلط الإنكار على الجانبين مع أنه عليه السلام محق؟ فالجواب: من وجهين: الأول: أن الماضي منه مارى على وزن فاعل، وهذا الوزن البادئ فيه بالفعل هو الفاعل فتسلط الإنكار على ضمير الفاعل البادئ [بالمماراة*]. الثاني: الإنكار تسلط على مماراتهم فقط لأنها في الباطل، الفخر: أي ليس يزول يقينه، ويشكك بتشكيكم، ومن تيقن شيئا فقد يكون، بحيث لَا يزول يقينه بتشكيك

(14)

المشكك، وقد يكون بحيث يزول، أي كيف يجادلونه فيما رآه على وجه لَا شك فيه انتهى، الشك من صفة الناظر والتشكيك من صفة المناظر، فإِن قلت: هلا قيل: على ما أرى، فهو أبلغ لأنهم إذا وبخوا على المماراة فيما [مضى*] وانقطع فأحرى أن يوبخوا على إنكار ما هو حاضر حالي مشاهد له بخلاف العكس، ومع أن القضية ماضية، فالجواب: إنه قصد في الآية الإيماء إلى القياس الخفي على الجلي، وهو أن جعلت رؤية النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لذلك، وهو ماضي كرؤيته شيء مشاهد محقق فيه، فمماراتهم فيه كالمماراة فيما هو مشاهد في الحال، فأنكر عليهم المماراة في رؤيته الحاضرة، إشارة إلى ذلك، وكأنه قيل: رؤيته الخفي الماضي كرؤيته الجلي الحاضر، فالمماراة فيه تستلزم المماراة فيما حاضر، واللازم باطل فالملزوم مثله. فإِن قلت: أو يجاب بأنه إشارة إلى ما ذكروا في القصة من أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم كشف بصره، فرأى بيت المقدس، فكان يخبرهم بصفاته، وأحواله فيخبرهم حالة الرؤية، قيل ذلك: احتجاج منه وترجيح لصحة ما أخبرهم به من رؤية جبريل أو عمره لَا أنه هو عين ما أخبرهم به، أو يجاب بأنه للتصوير. قوله تعالى: {عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى (14)} إن كان المرئي جبريل فواضح، وإن كان الله تعالى فالعندية راجعة للرائي لا للمرئي، وانتقد القرافي على الفخر ابن الخطيب في تسمية كتابه [المحصول*]، لأن فعله لا يتعدى إلا بحرف جر، ومثله [لا يتأتى*] منه اسم المفعول إلا مصحوبا بالمجرور، فكان يقول المحصول فيه، وجوابه أن ذلك في نظر الكلام، وأما في التسمية فيجوز لأنه يصح تسمية الإنسان ببعض الاسم، فأحرى أن يسمى باسم المفعول غير مصحوب بحرف الجر، كما سميت هذه الشجرة سدرة المنتهى، ولم يقل المنتهى إليها. قوله تعالى: {إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ... (16)} ولم يقل: إذ يغشاها لئلا يتوهم عود الضمير إلى الجنة، ولأن البناء الظاهر لفخامته. قوله تعالى: {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى (17)}

(19)

لم يقل: ما زاغ بصر محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، إشارة أن ذلك المرئي [ ... ]. نفسه، بحيث أن لو كشف عن بصر كل أحد من النَّاس، قال شيخنا: نقلت أيضا من خطه ما طغى ليس بتكرار، لأن الزيغ إدراك بعض المرئي، وميل البصر عن إدراك باقيه، والطغيان إدراك الشيء أكثر مما هو عليه، أو أكثر مما هو في عدده انتهى، وتكرير [لفطة*] (ما) لوجهين: الأول: أن عدم ذكرها يوهم ثبوت المعطوف. الثاني: إفادة [نفيهما*] مجتمعين ومفترقين، كما قال السهيلي. قوله (أَفَرَأَيْتُمُ ... (19) .. ، ابن عطية: هي من رؤية العين، أي أفأبصرتم، أبو حيان: أي أفعلتم، ومفعولها الأول (اللَّاتَ)، والثاني: (أَلَكُمُ الذكَرُ وَلَهُ الأنْثَى)، الطيبي: قال الزجاج: إن المعنى أخبروني عن اللات والعزى ومناة أهن كسائر المخلوقات، أو لهن [خصوصية*] انتهى، والمعطوف عليه بالفاء مقدر تقديره على قول الزجاج: أنظرتم وتأملتم فرأيتم اللات والعزى ومناة، أي فأخبروني عن هذه الجمادات، وعلى قول ابن عطية: أعرفتم ما دلت عليه هذه المخلوقات فأبصرتم اللات، الطيبي: والأخرى ليست تأنيث آخر، لأنه لَا يوصف بآخر إلا ما كان من جنس الأول في اللفظ، تقول: رأيت رجلا ورجلا آخر، وعالما وعالما آخر، ولا تقول: رأيت رجلا وثورا آخر، قال: هو مجازا لَا حقيقة. قوله تعالى: {تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى (22)} أي اختصاصكم بالذكور، وإن كان قسمة فهي أفادت قسمة [جائرة*]، فإن قلت: ما أفادت إذا قلت الدلالة على الجزاء، فإن قلت: الجزاء من فعل المخاطب، كقولك لمن قال: [آتيك غدا*]: إذا أكرمك، فالجواب: من فعل المتكلم كقولك: لمن قال: آتيك إذا تجدني، قلت: وقد يكون الجزاء من فعل المتكلم، كقولك لمن قال: آتيك غدا [تصب*] خيرا، وكذلك هنا جوزوا على فعلهم بالتهديد [ ... ] بأنها قسمة ضيزى. فإِن قلت: هذا كما يقول ابن الحاجب: مسلكان على [الشرك*] فقبح عليهم [نسبتهم*] الأولاد إلى الله، ثم على [فرض*] تسليم ذلك جدلا، فإنما حقهم كان أن ينسبوا إليه الأشرف لَا الأدنى. قوله: (إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ ... (23) .. ، قالوا: يحتمل أن يعود الضمير على مجرد الأسماء المتقدمة، أو عليها من حيث مدلولاتها، فالمعنى أن هذه

(24)

الأسماء اخترعتموها، وليست لها مسميات حقيقية، أو المعنى إلا [أسماء*] اخترعتموها من غير إسناد منكم إلى برهان، ولا دليل شرعي ولا عقلي، وعلى الثاني يكون على حذف مضاف، أي إن هي إلا ذوات أسماء، الأول أشنع عليهم، وفائدة التأكيد بـ أنتم زيادة في القبيح عليهم، وإلا فالفصل بالمفعول قائم مقام التأكيد، وفي الآية حجة لمن يقول إن الاسم غير المسمى، وقال ابن الخطيب: لو كان الاسم غير المسمى للزم عليه حدوث أسماء الله تعالى؛ لأنها لم تكن في الأزل، لأن المراد بالاسم على هذا اللفظ. انتهى، الاسم يطلق ويراد به المعنى المدول عليه، أعني الصفة، كقوله تعالى: (وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا)، أي الصفات الحسنى، وقوله (سَمَّيْتُمُوهَا)، يدل على [أن*] الأسماء اصطلاحية. قوله تعالى: (وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ). لم يقل: [وما تهوى أنفسهم*]، إشارة إلى اتباعهم هوى نفوسهم ونفوس آبائهم، كما قال تعالى (سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ)، وهذا أشد عليهم وأشنع. قوله تعالى: (وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى). ذمنهم على اتباعهم هواهم مع وجود الهادي لهم، وهو أقبح من اتباع الهوى حالة عدم المرشد إلى الحق. قوله تعالى: {أَمْ لِلْإِنْسَانِ مَا تَمَنَّى (24)} ابن عطية: معطوف على (وما تهوى الأنفس)، وقوله تعالى: (وَلَقَدْ جَاءَهُمْ)، اعتراض. انتهى، بل هو معطوف على (ولقد جاءهم)، والمعنى بل يتبع الإنسان أمنيته مع وجود الوازع والهادي له إلى الحق. قوله تعالى: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ ... (26)} وجه مناسبتها أنها رد على الكفار في اتخاذهم الأصنام، وقولهم: (هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ)، فقيل: إن الملائكة من أشرف المخلوقات، ومع هذا فلا تغني شفاعتهم شيئا، إلا بإذن الله، فمفهومها إذن بعضهم يشفعون، وتغني شفاعتهم، والثابت في نفس الأمر أنه لَا يغني شفاعة أحد من الملائكة بوجه فهلا قيل: وكل الملائكة لَا تغني شفاعتهم، فهو أبلغ، وأجاب: بأن المقصود الرد عليهم في قولهم: هذه الأصنام تشفع، وذلك يحصل ببيان أن ملكا من الملائكة لَا تقبل شفاعته، فاكتفى بذلك، ولم يقل ما منهم أحد، لأنه أقرب إلى المنازعة فيه، من قوله كثير، مع أن المقصود حاصل به. انتهى هذا السؤال، إنما يرد إذا جعلنا الإذن في قوله (إِلَّا مِنْ

(27)

بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ)، راجعا إلى الإغناء، فليزم عليه أن يكون بمعنى الملائكة يعني غير إذن، ولنا أن نقول: الإذن إنما هو راجح إلى الشفاعة فكثير من الملائكة لَا يشفعون إلا بإذن، وباقيهم، وهم أيضا بأنه إذا سلب إغناء الشفاعة عن الكثير من العالم العلوي، مع كونه مظنة للقبول، فأحرى عن معبودهم الأرضي. قوله تعالى: (لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى). راجح للشافع والمشفوع فيه، [ويرجع*] لمعنى الكلام والإرادة، فالإذن الكلام والرضى للإرادة، وقال ابن العربي: المشيئة مرادفة للرضى والإرادة، وأفاد من بعد أول أزمنة العبودية فيقتضي شدة [امتثالهم*] وسرعة مبادرتهم بنفس الإذن، لأنك إذا قلت: جاء زيد بعد عمرو يحتمل أن يكون بينهما مهلة طويلة أو قصيرة، فإذا قلت: جاء زيد من بعد عمرو فالمعنى جاء عقبه في أول أزمنة البعدية، الزمخشري: يعني أن الملائكة لو شفعوا بأجمعهم لأحد لن تغني شفاعتهم عنه شيئا، إلا إذا شفعوا من بعد أن يأذن لهم في الشفاعة لمن يشاء ويرضاه أهلا لمن يشفع له، فكيف تشفع الأصنام إليه لعبدتهم؟ انتهى، هذا الاعتزال فيه؛ بل هو موجبه [حمل*] السني على مذهبه، فالشفاعة عند المعتزلي في تعجيل الحساب وعلو الدرجات في الجنة به، وعندنا يجيء فيهما وفي خروج طائفة من النار. قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ ... (27)} أكد بـ (إِنَّ) مع أنهم لَا يخالفون في صدور ذلك منهم، لأنهم لما وردت الآية للإنكار عليهم والتقبيح لفعلهم، فهم معرض الإنكار لذلك، وقال: (لَا يُؤْمِنُونَ)، ولم يقل: يؤمنوا إشارة إلى أن هذا الوعيد إنما يتناول من ختم عليه بالكفر منهم. قوله تعالى: (تَسْمِيَةَ الْأُنْثَى). لم يقل: يسمون الملائكة إناثا؛ لأنهم ما سموهم إناثا، وإنما سموهم بأسماء الإناث، فقالو هم بنات الله. قوله تعالى: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ ... (28)} .. أي الظن الباطل، (وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا). أي لَا يكفي الظن في الأمور الاعتقادية العلمية، ابن التلمساني: النظر والاستدلال في الأمور الاعتقادية فرض [كفاية*] ونحوه، ونقل المسيلي في التذكرة عن الغزالي: وفي كلام الغزالي في الاقتصاد ما يدل عليه، وقال الإسفراييني، وابن العربي، والباجي: إن النظر فرض عين على كل، واختلف هؤلاء فالأكثرون على أنه ليس [يشترط*] في الصحة

(31)

الإيمان، فالمقلد عندكم عاص عندهم بعدم النظر، وهو من حقيقة، وقيل: [إنه*] شرط في صحة الإيمان، والآية حجة لمن يقف على تأويل الآيات والأحاديث الموهمة فنقول: يعتقد أن الوجه المحال غير مراد، لأن التأويل لَا [يحصل*] علما، وإنما ينتج النظر عن ذكرنا هذه الإضافة إما للفعل أو للمفعول. قوله تعالى: {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا ... (31)} إن قلت: لم عدل عن المطابقة، فلم يقل: ليجزي الذي أساءوا بإساءتهم. كما قال تعالى (وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى)، قلت: لأن العمل أعم من الإساءة، وتعليق الحكم بالعقوبة على الأعم أبلغ من تعليقه على الأخص، بخلاف الثواب؛ لأن الإساءة المطلوب نفيها، فكان ذلك من باب النفي، والإحسان المطلوب ثبوته، فصار ذلك من باب الثبوت، وإلا بلغ استعمال الأعم في النفي، والأخص في الثبوت، ويجاب أيضا: بأن السيئات مذمومة شرعا، فكره إعادتها بلفظ الخاص بها، وأعيدت باللفظ الأعم، والحسنات مندوب إليها، فاستعملت بأخص لفظها، ابن عطية: راجح لقوله (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ)، الآية، وما بينهما اعتراض. انتهى، ووجه إفادة تحقيق [المجازاة*] إنما هي ممن هو مالك لجميع الأشياء، فينتصف من الظالم للمظلوم، ولا يعجزه شيء، والذين أساءوا مخصوص بالصغائر، لأنها مغفورة باجتناب الكبائر، ومخصوص بالتوبة من الكبائر، ومخصوص بالكافر يسلم، أو نقول إنه غير مخصوص، بل يتناول هذه الأشياء عموم قوله تعالى: (وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى)، ومن مجازاتهم بالحسنى مغفرة الكفر وذنوب الكبائر بالتوبة والصغائر باجتناب الكبائر، فإن قلت: عبر عن إحسان الذين أحسنوا بالفعل الماضي، وحين فسر بقوله (الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ) عبر بالمضارع، قلت: المراد بالدوام على الإحسان وتجدده وعدم انقطاعه، والإحسان من قبل المشكك أعلاه في الحديث "أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ" وأوسطه ما في الآية. قوله تعالى: {وَالْفَوَاحِشَ ... (32)}

يحتمل أن يراد بها السبع الموبقات، فيكون من عطف الخاص على العام، ووقف الشيخ عز الدين عن التفريق بين الصغيرة والكبيرة، وفرق غيره بينهما بأن الكبيرة ما رتب الشارع على فعله حد شرعيا من ضرب أو سجن أو نحوه، أو ما لُعِن فاعله، أو ما توعدهم عليه، والصغيرة ما عدا ذلك، قال الشيخ عز الدين: وإذا وجدت غير هذا فانظر عقوبته، فإن كانت مساوية [لهذه*] الثلاثة فهي كبيرة، [وإلا*] فهي صغيرة، انظر ابن عطية في سورة النساء في قوله تعالى: (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ). قوله تعالى: (هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ). وجه مناسبتها لما قبلها أن الواحد منا في الشاهد إذا عفى عن ظالمه، فإِنما يعفوا عنه عالما بجهله بحقيقة ما فعل، ولو تحقق ذلك لما عفى عنه، فأشار إلى أنه تعالى واسع المغفرة، مع كمال علمه بحقائق الأمور، وتفاصيلها، وأعلم هي على بابها من المشاركة، أو هما متباينان، فإِن قلت: [إذ أنشأكم*] معمول (أعلم) ولا مشاركة حينئذ، قلت: الملائكة يتشاركون، فإن قلت: كيف والملائكة تقول: أي رب مضغة، أي رب علقة، أما الرزق ما الأجل وشقي، أو سعيد، وذكر أو أنثى، قلت: كل علم إنما هو [بخلق الله تعالى*]، فالملك يسأله ويعلمه حينئذ. قوله تعالى: (فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ). إفادة الإشارة إلى تطور الخلق بعد آدم في الأرحام، وفيه مبالغة في تعلق علم الله بالخفي، فإن قلت: هلا علق علمه تعالى في الظهور فهو أخفى، وقال تعالى (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ)، وهي حالة لم [يدَّعِ أحدٌ*] مشاركة في العلم؛ بخلاف حالة كون الإنسان في بطن أمه، فإن بعض أهل [العلم*] يزعم أنه يعلم كونه ذكرا أو أنثى، ويعلم هيئته التي هو عليها، والجنين [**ما يصير] في البطن حتى يكون في الظهر، قلت: أخبر عن تعليق علم الله تعالى بحالة ابتداء الإنسان، ولتلك الحالة ثلاثة أمور: حالة الإنشاء، وحالة كون النطفة، وحالة انتقالها إلى البطن، فأخبر بتعليق علمه بأول ابتداء وآخره، ليفيد عموم التعلق بما بينهما [كقولهم*]: مطرنا السهل والجبل، لَا فائدة إلى الإحاطة. قوله تعالى: (فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ). استثنوا منها التعديل، قالوا: وينبغي للإنسان أن يخبر نفسه، وذكروا الخلاف في التزكية، هل تكون في السر والعلانية؟ أو في السر فقط؟ أو في العلانية فقط؟ قال: في كتاب الأقضية من المدونة ولا [يقضي*] بشهادة الشهود حتى يسئل عنهم في السر أو

(33)

في العلانية، قال [ابن رشد*] في [الشهادات*] إذا رفع الشهود شهادتهم بالتزكية فمذهب المدونة أنه يقتصر على التزكية الظاهرة، وقال مطرف وابن الماجشون: لَا يقضي حتى يسأل في السر، واختاره أبو الحسن اللخمي، قال: لأن النَّاس [لا يبغون*] أن [يزكوا في العلانية، خشية العداوة*]. قوله تعالى: (بِمَنِ اتَّقَى). لم يقل: بالأتقى؛ ليفيد عموم التعلق بحصول [من*] حصل مطلق التقوى، وفي الآية إيماء إلى الإنسان لَا ينبغي له أن يظهر نفسه بين يدي [من هو أعلم منه*]. قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى (33)} بمعنى أخبرني، وتقدير المعطوف أعلمت الذي تولى، فأخبرني عن حاله، والهمزة للتنبيه أو للاستفهام حقيقة، لأنه في حق الله تعالى محال، وقيل: نعت لمصدر محذوف، المفعول محذوف ويترجح الأول [ ... ]، لأن المصدر كونه نعتا للمفعول، بأنه يلزم من كون المعطي قليلا كون الإعطاء قليلا ولا ينعكس، لأنه قد يعطي الشيء الكثير في مرة واحدة، قلت: هذا مقابل بعكسه، لأنه يعطي الشيء القليل في مرات متعددة، وعبر بالأكثر تشبيها بحال البهيمة التي منعتها كدا الأرض من المشي، وأضرت بحافرها. قوله تعالى: {أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ ... (35)} أي أعند المحتمل عليه؟ وهو الذي أعطى القليل وأكد في المحتمل، وهو الذي أخذ القليل، أي أعلم الغيب فتيقن أن ذلك محمل عنه إثم كفره وردته، يغني عنه وينفعه تحمله، قال ابن فورك: والغيب هو العلم النظري الذي لم ينصب عليه دليل، وأما العلم الضروري، أو النظري الذي ينصب عليه دليل فليس بغيب. قوله تعالى: (فَهُوَ يَرَى). [الرؤية*] تحتمل أن يكون علمية، أو بصرية، فمعنى العلمية عنده طرف الغيب وأسبابه؛ فهو يعلم الغيب، كما علمه النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم من الوحي وغيره، ومعنى البصرية فهو تيقن الغيب وتبصره وشاهده، فإن قلت: هذا أمر أخروي مستقبل ليس بحاصل في الحال، قيل: المراد التنبيه على أن النبي صلى الله عليه وعلى آله

(36)

وسلم على ذلك، يقينا علما مشابها لعلم من يبصره، وينظر إليه، أو أقوى، لأن البصر يعرض له التخيلات والشكوك، أبو حيان: (فهو يرى) جملة اسمية واقعة موقع الفعلية، فلو عطف الفعل على الفعل لصح رفعه ونصبه على جواب الاستفهام، السفاقسي: لا حاجة إلى ارتكاب وضع الجملة الاسمية موضع الفعلية، بل هي معطوف على قوله (أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ)، فهي داخلة في خبر الإنكار، وليس المراد هنا إثبات الرؤية له. انتهى، يرد بأن الرفع على إضمار المبتدأ، أو التقدير، فهو يرى، فلا فرق بين الضمير، وعدم ذكره؛ لأنه مراد، وإنَّمَا قالوا: إن الفعل، إن عطف على الجملة الاستفهامية كان ثبوتا، وإن عطف الفعل على الفعل كان دخلا تحت الإنكار، مثل: ما تأتينا فتحدثنا. قوله تعالى: {أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى (36)} قال الحريري: أم هنا مظنة؛ لأنها لأحد الشيئين، لأنه ليس عنده علم الغيب، لكنه أُخبر بما في صحف موسى، إما على لسان نبينا صلى الله عليه وعلى آله وسلم إشارة أو تصريحا، أو لما أمره نبينا لزمه حكم ما في شريعة موسى وغيره، لأن من لوازم الإنكار أن يكون ذلك تبييناً لما في صحف موسى، انتهى، هو قولك: إذ [ ... ] ذو خصومة، في أنها واقعة في غير محلها. قوله تعالى: {مُوسَى وَإِبْرَاهِيمَ ... (37)} قوله تعالى: {أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى (38)} ابن عطية: [وأنث الوازرة؛ إما لأنه أراد النفس وإما أراد المبالغة كعلامة ونسابة وما جرى مجراها*].انتهى. فإن قلت: على أن الثناء للمبالغة، يرد السؤال لأنه لَا يلزم من عدم حمل النفس الثقيلة وزر غيرها، عدم حمل النفس [الخفيفة*] وزر غيرها، قلت: هذا مشترك الإلزام في عدم المبالغة أيضا، لأنه لَا يلزم من كون النفس المتصفة بمطلق وزر عين الغير، عدم حمل النفس التي لَا وزر لها، الوزر عن الغير، وجوابك عنه جوابنا نحن، والجواب عن السؤالين، أن تقول: المفهوم في الآية مفهوم موافقة، وهو أن حمل الوزر على قسمين: حمل تكليفي، وحمل اختياري، [فلا يلزم السؤال*] إلا لو كان الحمل في الآية تكليفيا، وإنما هو في الآية اختياري، ولا شك أنه إذا كانت النفس المذمومة ذات الأوزار غير متمكنة من فعل ما تريد من حمل الوزر عن الغير، مع حقارتها وذمها، وكونها أهلا لذلك، فأحرى أن لَا تتمكن منه النفس الشريفة التي لَا وزر لها بوجه، ابن عطية: قال عكرمة: كان هذا الحكم في قوم إبراهيم وموسى، وأما هذه

(40)

الأمة فلها سعي غيرها. انتهى، يرد بأن الأول [خبر*]، والخبر لَا ينسخ، كما رد ابن عطية قول ابن عباس: أنها منسوخة، بقوله تعالى: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ)، الآية وهذا عام باق على عمومه، فإن قلت: هو مخصوص بالعاقلة، لَا تحمل الدية وهي ناشئة عن الوزر، قلت: لَا وزر فيها، لأنها إنما تجب على قتل الخطأ، وقد جاء في الحديث "رفع عن أمتي خطأها ونسيانها"، فإن قلت: على القول بأن الآية نزلت في عثمان مع عبد الله ابن أبي سرح رضي الله عنه قبل إسلام عبد الله، كيف صح الاستدلال بها مع وجود الخلاف في شرع من قبلنا، هو شرع لنا أم لَا؟ فالجواب من وجهين: الأول: أنه أنكر على عثمان اتباعه لعبد الله بن أبي سرح في أمر هو باطل في شريعتهم. الثاني: أن الأصل عدم النسخ، وأن شرع من قبلنا شرع لنا، حتى يرد ما ينسخه. ووزر وأخرى مفعول لَا مصدر لئلا يلزم عليه تحصيل الحاصل، إذ لَا يصح أن يقال: لا تقوم قيام زيدا، ولا يقوم أحد قيام أحد، ولا يفعل أحد فعل أحد، فالمعنى أن ذنب كل واحد لَا يحمله عنه غيره، وأن لَا تزر جعلوه مبتدأ [مضمرا*]، أي هو أن لَا تزر، والظاهر أنه مبتدأ [وخبره مجرور*]، وتقديره منه أن لَا تزر؛ لأن ذلك ليس هو كل ما في صحف موسى بل بعضه، فيحتاج أن يكون عاما مخصوصا، أو عموما على جهة المجاز، وعلى ما قلناه لَا يحتاج إلى ذلك، الزمخشري: فإن قلت: أما صح في الأخبار الصدقة عن الميت، والحج عنه وله ثوابه؟ قلت: فيه جوابان: أحدهما: أن يسعى غيره لما لَا ينفعه إلا على سعي نفسه، وهو أن يكون مؤمنا صالحا، ولذلك الثواب كان سعي غيره كأنه سعي نفسه، لكونه تسبب في ذلك بالإيمان. الثاني: أن سعي غيره لَا ينفعه إذا عمله لنفسه، ولكن إذا نواه به فهو [بحكم الشرع*] كالنائب عنه، والوكيل القائم مقامه انتهى، الأول: حسن، والثاني: غير صحيح، لأنه إذا تصدق نوى به الغير. قوله تعالى: {سَوْفَ يُرَى (40)} الفاعل المحذوف، إما ضمير عائد إلى الله تعالى، أو على الإنسان، فإن قلت: على أنه الإنسان يحتاج إلى إضمار مضاف إلى سوف يرى، هو آخر سعيه، قلت: لا يحتاج لهذا إلا على مذهب المعتزلة، وأما على مذهب أهل السنة، فهو يرى سعيه

(41)

وجزاء سعيه، لأن كل موجود عندنا يصح أن يرى، فيرى ذاته وصفاتها وعملها الذي كانت تعمل في الدنيا، وجزاؤه. قوله تعالى: {ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى (41)} [الأوفي عام*] في الثواب والعقاب، فيجب تخصيصه عندنا [بالمشيئة، أي إن شاء، لأن العاصي عندنا في المشيئة*]؛ خلافا لمن يقول: بوجوب إنفاذ الوعيد. قوله تعالى: {وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى (42)} تقديم المجرور للاهتمام وللحصر لحصوله مع عدم تقديمه، لأن ابن هشام في شرح الإيضاح وغيره: نصوا على أن المبتدأ لَا يكون إلا أخص من الخبر، أو مساويا له، ويكون أعم منه بوجه، ولذلك قالوا في قوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم "تَحْرِيمُهَا التَّكْبِيرُ، وَتَحْلِيلُهَا التَّسْلِيمُ"، أن التكبير مبتدأ وتحليلها خبره، لأنه أعم منه، والمنتهى هنا ليس إلا [لله*] ولا يتوهم أنه لغيره، وهو أخص أو مساو فهو المبتدأ أو المبتدأ انحصر في الخبر، وذكروا الخلاف في المضمرات، هل هي كلية أو جزئية، واختاروا أن ضمير المتكلم والمخاطب جزئيان، قال ابن مالك: فإن أريد بالمضمر الشيوع، أو كان الكلام يدل عليه، فهو كلي. انتهى، وبهذا [فإنه*] يصلح أن يقال: الكل مخاطب (وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى)، واستعمال لفظ الرب هنا تغليبا لجانب الرحمة والإحسان. قوله تعالى: {وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى (43)} هذا وما بعده تفسير، لقوله (وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى)، لأن ذلك لما تضمن افتقار الجميع إليه بيَّن أحوال المفتقرين العارضة لهم، وهي إما خاصة كالضحك والبكاء، وعرض عام كالموت والإحياء، أو لازم للماهية كالخلق المخلوق، ما دام مخلوقا، وقدم الضحك تغليبا لجانب الرحمة، ويحتمل أن يريد بالضحك والبكاء حقيقتهما، ومطلق [الحزن*] من باب حالة الالتزام أو هو مجاز على سبيل الاستعارة، الزمخشري: أي خلق القوة على الضحك والبكاء انتهى، إن قلت: هذا اعتزال بناء على مذهبه، في أن العبد يخلق أفعاله، وهو يوافقنا في الداعي أنه خلق الله، قلت: عادة الشيوخ أنهم [لا*] يحملون على الاعتزال، إلا ما منع فيه، وأما المحتمل الذي يوجهه السني على مذهبه والمعتزل على مذهبه، فلا، وهذا منه، بل فسر الزمخشري أولى، لأن الآية حينئذ تكون عامة تتناول ما إذا كان الإنسان غير ضاحك ولا باك، ووجود الضحك عند التعجب، والبكاء عند الحزن، [فنقول نحن*]: إنه أمر عادي خلقه الله تعالى عند ذلك لَا به، وتقول المعتزلة: إنه أمر عادي من قبل العبد وطبعه.

(44)

قوله تعالى: {وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا (44)} يدل على الموت أمر وجودي، وهو مذهبنا خلافا للمعتزلة، وهذا بناء على أن العدم الإضافي لَا يصح كونه أثراً للقدرة، وأما على القول بصحة [كونه*] أثرا لها، فلا يتم الاحتجاج بالآية، وإنما يتم الاحتجاج بقوله تعالى: (خَلَقَ الْمَوْتَ)، لأن خلق لَا يتعلق إلا بالوجود. وقال الفخر: في الكلام تقديم وتأخير، أي أحيا وأمات، ولا يحتاج إليه، لأن الواو لَا ترتب، وقدم الموت مع أنه هو لم [يخالف*] ما سبق من تقديم الملائم، إما لرءوس الآي، وإما لأن الدنيا سجن للمؤمن، والخطاب للمؤمنين، فهو ملائم. قوله تعالى: {وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ ... (45)} السهيلي: لم يؤت في هذه بضمير الفصل كما أتى به فيما قبلها، لأن بعض الجهال قد نسب تلك الأفعال لغير الله تعالى، كقول النمرود (أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ)، وأما هذا فلم يدعه أحد. انتهى، تقريره أنه سلك في الآية المتقدمة طريق الحصر بالبناء على المضمر، فقال: وأنه هو كذا، ولم يفعل ذلك هنا، والجواب: أنه لما وقع الخلاف بين النَّاس في مدلول تلك الآيات، فالمعتزلة يقولون: إن العبد يخلق أفعاله، فيخلق الضحك والبكاء، وفرقة أخرى ينكرون الآخرة والبعث، وفرقة أخرى قالوا: ما يهلكنا إلا الدهر، وأنكروا أن الموت والحياة مخلوقان لله تعالى، [احتيج*] في ذلك لأداة الحصر، بخلاف خلق الذكر والأنثى، فإنه لم يخالف فيه أحد، والحاصل أن الآيات المتقدمة مجرد دعوى مقرونة بدليلها، وهو خلق الضدين الذكر والأنثى، إذ لم يخالف أحد في الجمع بين الضدين، أنه ليس من فعل العبد بوجه، حسبما قال الضرير في نظمه: "ورد قول الطبعي الجاحد" بقوله [(تُمْنَى) *]، واحد؛ ولذلك خلق الله تغير الضدين الذكر والأنثى من نطفة واحدة، إذا تمنى، فإن قلت: وله كذا الضحك والبكاء ضدان، وقد جمع بينهما في آن واحد، قلت: فرق بين الجمع بين الصفات، وبين الجمع بينهما في الذوات، فالأول: أخف يمكن أن يدعى بخلاف الثاني، فإنه أضعف فما يلزم من دعوى ذلك في الصفات، ودعواه في الذوات، وخلق هنا ماضٍ بمعنى المستقبل، لأن إذا لما يستقبل. الآية عامة مخصوصة بآدم، وحواء، وعيسى عليهم السلام. قوله تعالى: {وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرَى (47)}

(48)

إما أن يكون المراد إيجاب ذلك شرعا بإيجاب إياه على نفسه لَا عقلاً كما فسره به الزمخشري على مذهبه، أو إشارة إلى كمال القدرة. قوله تعالى: {أَغْنَى وَأَقْنَى (48)} قيل: الغنى وجود والفقر عدم، والعدم سابق على الوجود، فلم أخر في اللفظ؟ أجيب: بأن الغنى هي الحالة التي يدعي فيها الفعل، وأما الفقر فلم يدع أحد أنه من فعله. قوله تعالى: {وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى (51)} أي فما أبقى لهم باقية، [إن*] كان من عطف المفردات فيعود إلى الكل، وإن كان من الجمل فيدخله الخلاف في القيود والصفات، إذا تعقبت جملا، هل يرجع إلى الكل، أو إلى الأخيرة، [وحكوا*] عن الحجاج أنه عبر بكونه [ثقفيا*]، وثقيف من ثمود، فاحتج بهذه الآية الدالة على أن ثمودا استؤصلوا ولم يبق منهم باقية، ووجه الدليل أنه إن كان ثمود كلهم كفارا، فكلهم مهلكون بمقتضى هذه الآية، فلا عقب لهم، وإن كان بعضهم مسلمين، وقد أهلك الكفار [وفثقيف من [ ... ] المسلمين، فلا معرة عليه في كونه ثقفيًّا، فان قلت: لم قدم [عادًا*] على ثمود على قوم نوح مع تأخرهم عليهم في الزمان؟ قلت: إنهم أقرب باعتبار بقاء آثارهم، قال تعالى (فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بمَا ظَلَمُوا). قوله تعالى: {أَظْلَمَ وَأَطْغَى (52)} قيل: المناسب في باب العقوبة تعليق الحكم بالوصف الأعم [فلم*] علقه هنا بالأخص، وهو [**مسلما أظلم] ولا يلزم من كون الاتصاف بالأخص سببا في العقوبة؛ كون الاتصاف بالأعم لذلك لعدم المساواة، وهل عطف الطغيان على الظلم من عطف الأخص على الأعم؟ أو العكس، وهل الظلم تجاوز الحد إلى الغير؟ والطغيان مطلق التجاوز، أو الظلم يصدق على تعدي الحدود [ولزوم*] الطغيان إنما يصدق فيما كثر من ذلك، وكون قوم نوح أظلم باعتبار ابتدائهم الظلم، لأنهم أول من كفر برسوله. قوله تعالى: {وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى (53)} الائتفاك قلب الإناء أعم من أن يكون من فوق إلى أسفل، أو مع بقائه على سطح الأرض، [فقوله*]: (أَهْوَى)، إشارة إلى أن [مدائن*] لوط من فوق إلى أسفل، وهو لازم لارتفاعها عن سطح الأرض بين القلب. قوله تعالى: {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى (55)}

(57)

جعل الزمخشري: الآلاء للقدر [المشترك*] بين النعم والنقم، قال: وسماها كلها آلاء لما في النعم من المواعظ في الخطاب للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وهو في قوله تعالى: (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ)، انتهى، ذلك مرتب على شرط محال؛ بخلاف هذا. قوله تعالى: {أَزِفَتِ الْآزِفَةُ (57)} سماه قوم كالسكاكي، وغيره [جناسًا للمشابهة*]، فإِن قلت: [ظاهره*] تحصيل الحاصل، لأن المعنى قريب القريبة فالجواب: أن الألف واللام في الآزفة للعهد، أي قريب الحالة الموسود المعبر عنها في هذا الكتاب، وفي غيره بالقريبة، وهي الساعة. قوله تعالى: {كَاشِفَةٌ (58)} أي نفس كاشفة أو قدرة كاشفة، وهذا الكشف بوجهين: إما المبين لوقتها، وهو [راجع لباب المعلم والمزيل لها، وهو راجع لباب القدرة*]. قوله تعالى: {أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ ... (59)} ولم يقل: أفمن هذا القرآن؟ [لأن*] نفس القرآن يلزم الإعجاز، ولفظ الحديث لا يلزمه، فإذا وبخوا على تعجبهم منه لَا مع استحضار كونه قرآنا فأحرى أن يوبخوا في تعجبهم منه مع استحضار ذلك، أي لو قدرنا أنه كسائر الحديث الذي يتكلمون به فمنكم عدم التعجب منه، فأحرى أن لَا يتعجبون منه، وهو مباين [لجنس كلامهم*]، ولذلك أورد الفخر في المحصول في شبهاته سؤالا فقال: القرآن حديث، وكل حديث هو كذا، فالقرآن كذا، ... (60) .. وقدم التعجب على الضحك، لأن التعجب أعم، قد يكون معه ضحك وقد لَا، وفي الآية سؤلان: الأول: الضحك سبب عن التعجب، فكان الأصل أن يقرن [بالفاء*]، وجوابه: أن السببية إذا كانت عليه لم يحتج لذلك. الثاني: توبيخهم إما أن يكون على المجموع، أو على كل فرد فرد، فإِن كان المراد الثاني لزم عليه تناول التوبيخ لمن قرأ القرآن، ولم يبك ولا تباكى وليس كذلك، قال (وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا)، ولم يقل: وابكوا، [وإن*] كان الأول لزم التكرار، وجوابه: أن يكون [وَلَا تَبْكُونَ*] حالا من قوله (وَتَضْحَكُونَ)، فإِن قلت: يلزمك [تحصيل الحاصل*]، لأن الضحك مناف للبكاء، فالجواب من وجهين:

(61)

الأول: أنه تأكيد مثل (فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا). الثاني: أنه تنبيه على البكاء، مطلوب منكم أنكم [إذا سمعتم القرآن فابكوا، فإن لم تبكوا فتباكوا*]. قوله تعالى: {وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ (61)} ليس بتكرار؛ بل هو استئناف، أي: وأنتم من شأنكم ودينكم أنكم سامدون * * *

سورة القمر

سُورَةُ الْقَمَرِ قوله تعالى: {اقْتَرَبَتِ ... (1)} أخص من قرب، فيدل على المبالغة في القرب، وذكر ابن عطية، عن أنس قال: خطب رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وقد مالت الشمس، فقال: " [ما بقي من الدنيا فيما مضى إلا كمثل ما بقي من هذا اليوم*] "، فقال عليه السلام: إني [لأرجو أن يؤخر الله أمتي نصف يوم*] "، وذكر هذا السهيلي: وبينه، وذكر المسعودي: حديثا أن عمر الدنيا ستة آلاف ونيف، ولكنه لم يصح. قوله تعالى: (وَانْشَقَ الْقَمَرُ). ذكر ابن خليل في مناظرته إن صحت أن القاضي أبا بكر الباقلاني، بعثه أمير زمانه رسولا لبعض بلاد الروم، فجرى في بعض مناظرته معهم، أن قالوا له: انفرادكم برؤية انشقاق القمر، بحيث لم يره معكم غيركم، ما موجبه؟ ثم قال: في المحراب إنا نجد القمر حين الانكساف يراه أهل قطر دون غيرهم، فيكون الليل عند قوم، والنهار عند آخرين، وهو بناء على [أن*] السماء [كورية*] فكذا حين انشقاق القمر، كان ذلك عند الروم [نهارا لبعد بلادهم*]، عن بلاد قريش، انتهى، وأجاب ابن فورك: باحتمال أن يكون ستره الغيم في بلاد الروم حينئذ، وهذا شاهد، فإنا نجد الغيم يستر عين الشمس عن بعض المواضع دون بعض. قوله تعالى: {وَإِنْ يَرَوْا آيَةً ... (2)} إن قلت: رؤيتهم ذلك، وإعراضهم محقق، فلم أتى بـ (إِنْ) دون إذا؟ فالجواب من وجهين: الأول: أن هذه الآية خارقة للعادة، ومن لوازم ذلك [عزيتها وندرتها*]، وكلمة إذا دالة على محقق الوقوع، ومن لوازم التحقق كون التحقق أمرا عاديا مألوفا ثابتا محققا، فلذلك أتى بـ (إِنْ) الدلالة على عدم التحقق [ليبقي القرابة أو النذور*] على ظاهرها مفهومين من اللازم. والوجه الثاني: أن القصد النهي عن الاعتراض، وذم الاتصاف به، وجعله بعيدا في حيز المحال، وعدم الإمكان، لأن سياق الآية استبعاد وقوع الإعراض معهم مع رؤيتهم الآية، وتنكير (آية) في سياق الشرط للعموم، كما ذكر ابن يونس في كتاب السلم الأول عن [**ابن عباس]: في قوله تعالى: (إِذَا تَدَايَنْتُم بِدَيْنٍ)، هذا

(3)

مجمع الدين كله، وهذه الجملة وما بعدها من الجملة في غاية النعي عليهم وتقبيح أحوالهم، فالجملة الأولى: دالة على عدم كمال عدم انقيادهم، والثانية: دالة على دوامهم وملازمتهم، والثانية سؤاله على أنهم لَا شبهة لهم إلا محض التكذيب، والعناد، واتباع الهوى. قوله تعالى: (سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ). تقدم الكلام في السحر في سورة البقرة، وحذف المبتدأ لما يقول ابن مالك: أن الخبر لَا يصلح إلا له، فهولاء جعلوا اسم السحر لَا يصلح إلا لتلك الآية. قوله تعالى: {وَكَذَّبُوا ... (3)} إن قلت: لم عبر عن تكذيبهم بالماضي، وعن إعراضهم بالمضارع، قلت: لتجدد إعراضهم بتجدد الآيات، وأما تكذيبهم واتباعهم أهواءهم، فاللازم منهم ثابت لا ينفك عنهم، وهو حال من الضمير في [يعرضوا*] لَا معطوف لئلا يلزم التكرار، وعطف الشيء على نفسه، وعطف الماضي على المضارع. قوله تعالى: (وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ). إن أريد التوزيع، [وأن كل*] واحد تبع هوى نفسه فظاهر، وإن أريد كل واحد اتبع هوى غيره، فلا بد أن يكون على البدلية لَا على المعية، وإلا لزم الجمع بين [النقيضين*]، لأن لهم أهواء مختلفة، ويكون فيه إشارة إلى كثرة تقلباتهم وعدم استقرارهم على شيء واحد، ويؤخذ من الآية مع ما تقرر من القواعد، أن من اتبع هوى نفسه فيما دون ذلك، يتناوله بعض هذا الوعيد. قوله تعالى: (مُسْتَقِرٌّ). أي ثابت، فإن أريد الثبوت في نفس الأمر باعتبار ذات الشيء ومادته، فاسم الفاعل للحال، وإن أريد الثبوت في العلم والاعتقاد فهو الاستقبال، باعتبار ظهوره جاز ذلك في الدار الآخرة، وتبين المحق من المبطل، وللأمر ثلاثة استقرارات، استقرار في النفس خاصة، واستقرار في الاعتقاد والعلم خاصة، واستقرار باعتبارهما معا، كقولنا الله عالم يعلم، فهذا أمر ثابت في نفس الأمر في الحال، وأما اعتبار الاعتقاد فهو ثابت عندنا خلافا للمعتزلة، فليس بمستقر عندهم، وقول المعتزلة: الله عالم، لَا يعلم أمر ثابت في الاعتقاد عندهم لَا عندنا، فليس [بمستقر*] في الاعتقاد في الحال، بل في المستقبل باعتبار تبين ذلك ظهور حقيقة إبطاله. قوله تعالى: {وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الْأَنْبَاءِ ... (4)}

(5)

نظرهم في هذه الموجودات يفيدهم ثلاثة أمور، [ ... ] واتصافه بصفات الكمال، ومن جملة ذلك كونه يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، وفي ضمن هذه جواز بعثة الرسل. قوله تعالى: (مُزْدَجَرٌ). الظاهر والأرجح كونه اسم مكان لَا اسم مصدر، لأن قولك هذا الموضع محل الياقوت، أبلغ من قولك: في هذا موضع ياقوت، كذلك قولك هذا البناء محل للازدجار أبلغ من قولك: هذا البناء للازدجار. قوله تعالى: {حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ ... (5)} كونه خبر مبتدأ أحسن من كونه بدلا من مزدجر، لأن مزدجرا أخص منه، وبدل الأعم من الأخص ممنوع عندهم، حسبما ذكره في قول امرئ القيس: كأنِّي غَداةَ البَينِ يَومَ تَحَمَّلُوا ... لدَى سَمُراتِ الحَيِّ ناقِفُ حَنظَلِ قوله تعالى: (فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ)، الأولى: أنها جمع نذر لَا جمع نذير، ليكون آخر الآية موافقا لأولها، لأن أولها في الإيتاء، وهي معنى من المعاني، فيكون آخرها كذلك، واعلم أن حصول الشبع عند الأكل عندنا أمر عادي، واستلزم العلم للعالمية أمر عقلي، وأما استلزام الدليل للمدلول فمذهب الجمهور أنه عقلي، ومذهب الشيخ أبي الحسن الأشعري: أنه عادي، والآية حجة للأشعري لقوله (فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ)، والفاء [للتعقيب، واقتضت*] نفي كون ألا يناسبها في الازدجار. قوله تعالى: {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ ... (6)} التول قسمان: حسي، وليس هو أمرا وهنا الآية [ ... ]. ضد الألف واللام، لأنهما لَا يجتمعان أيضا، فإِذا كانت الألف واللام لَا تجتمع مع ضد الياء، وهو التنوين [**فهذا الألف واللام؛ لأنهما يلزم أن يكون مجتمع مع الياء، لأن ضد الضد ليس بضد]. قوله تعالى: (شَيْءٍ نُكُرٍ). أنكر النكرات، فأتى به هنا قصدا للعموم والتعظيم، وكذا أنكر شيء تنكره العقول، والموجودات قسمان: فمنها ما ينكر، ومنها ما لَا ينكر، كالنار فإِنا نجد

(7)

[**السمندل] يدخل فيها فلا تضره، وغيره إذا دخل تحرقه، فأشار هنا أن ذلك أمر مهول تنكره العقول كلها. قوله تعالى: {خُشَّعًا ... (7)} ابن عطية: ذكر أن رجلا من [المتطوعة*]، قال قبل أن يستشهد: رأيت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم في النوم فسألته عن خشعا، وخاشعا، فقال: خاشعا بالألف. انتهى، [المرائي*] النومية لَا يثبت بها حكم، لأن [التحمل من شروطه العقل والرأى غير عاقل*]، وقد ذكر ابن سهل في أحكامه منها كثيرا، وأنه سأل عن مسائل، وأجيب عنها، وحكى جابر لاستفتاء في المرأى حكايات، وحكى أن رجلا أتى سيدنا الشيخ الصالح أبا عبد الله محمد المغربي، فقال: رأيت النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في النوم، وقال: ارض لفلان، وقل له: يعطيك دينارا فأعطاه إياه، ثم إن بعض الفقهاء قال له مثل ذلك، فقال له: ذلك الفقيه، قال لي: أنا في اليقظة، لا تعطه شيئا [فأخبر*] بذلك الشيخ الصالح المغربي، فقال: إنما أعطيه الدنيا لكلامه، ولو صح عندي ما قال لبالغت في الإعطاء، وحكى النحويون: أن رجلا رأى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فقال له: أنت قلت: الحياء خير كله بالقصر، فقال: لا ثم رآه ثاني مرة، فسأله مثل ذلك، فأجابه بمثل ذلك، فأخبر بذلك بعض العلماء، فقال له: الحياء بالقصر، هو فرج الناقة، وإنما في الحديث: الحياء بالمد، فرآه الثالثة وسأله، أنت قلت: الحياء خير كله، قال: نعم، وقال ابن [رشد*]: ما ورد من قوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: "من رآني فقد رآني حقا"، إنما معناه من رآني على الصفة التي أنا عليها، الموصوفة في الكتب. قوله تعالى: {يَقُولُ الْكَافِرُونَ ... (8)} نسب القول إليهم دون غيرهم، لأنه عليهم أشد. قوله تعالى: {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ ... (9)} هذه تسلية للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وتخويف وإنذار لقريش، واحتج بنظائرها على إثبات القياس، لأن قوم نوح أهلكوا لأجل تكذيبهم، فلذلك هؤلاء. في الآية ثلاثة أسئلة، الأول: ما أفاد قوله تعالى: (فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا)، مع أن الأول يغني عنه، وأجابه من ثلاثة أوجه:

(12)

الأول: أفاد الأول التكذيب المطلق لكل ما جاءت به الرسل، والثاني تكذيبهم لنوح عليه السلام. والثاني: قال الفخر: التكذيب، والثاني كالعلة والبرهان على الأول، كما تقول كذبت زيدا فكذبت صادقا لصدق علمه في التوبيخ والوعيد، وكذلك قوله تعالى: (فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا). الثالث: أفاد الأول تكذيبهم للأمر بالدليل العقلي، وأفاد الثاني تكذيبهم لما ثبت بالدليل السمعي، لأن المحدثات كلها دالة على وجود الصانع، وأنه يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، ومن جملة ذلك، بعثة الرسل فنوح عليه السلام إنما أتى بمقتضى الدليل العقلي، وهو أول من بعث لأهل الأرض، فقال (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ)، أي كذبوا بما أثبته العقل، ثم فقال (فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا)، إشارة إلى تكذيبهم بالمعجزات الدالة على صدقه، فكذبوا بالدليل السمعي. السؤال الثاني: ما أفاد قوله تعالى: (قَبْلَهُم) مع أنه معلوم أن قوم نوح قبلهم، وأجابه أنه أفاد التنبيه على مشاركتهم لهم في التكذيب والكفر. السؤال الثالث: لما قدم الظرف على الفاعل، والأصل (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوح) وأجاب: أنه قصد الاهتمام بما أضيف إليه الظرف، وهو ضمير قريش، فهو أبلغ في التخويف والإنذار. قوله تعالى: [فَالْتَقَى الْمَاءُ (12) *]. المانع أنه امتزج بعضه ببعض، لأن الأجسام عندنا لا تتداخل بوجه فهي ملاقاة. قوله تعالى: (عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ). الأمر هنا بمعنى [الشأن*]، ويحتمل أن يكون ضد النهي، لأن المحدثات إنما تتوقف على القدرة، والإرادة والعلم خاصة بلا خلاف، وأما توقفها على الكلام سمعا، فقال القاضي أبو بكر الباقلاني: إنها تتوقف مع ذلك على الكلام، لقوله تعالى: (إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ)، [**وأنكر بذلك قوله]، فعلى قول القاضي يكون الأمر في الآية ضد النهي. قوله تعالى: {وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً ... (15)}

(17)

إن قلت: كيف هي آية لقريش، مع أنها لم تشاهد؟ قلت: نقلت إليها [تواترا*]، أو أن نقلها الكفار، لأن التواتر يصح في خبر الكافر، وخبر المسلم. قوله تعالى: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ ... (17)} قال الأصفهاني في شرح ابن الحاجب الإعجاز في القرآن في كل آية آية منه، وفي غيره من الكتب الإعجاز في المجموع من حيث كونه منزلا من عند الله تعالى. قوله تعالى: {كَذَّبَتْ عَادٌ ... (18)} إن قلت: كيف أتى به هنا قبل تمام القصة؟ وأتى به فيما سبق، وفيما بعد تمام القصة، فالجواب: أن الإهلاك بالغرق أمر معهود أكثري، والإهلاك بالريح نادر الوقوع. وقوله تعالى: (فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ)، أولا قوم نوح، وأعيدت هذه ليفيد أن عادا أنذرو إهلاك قوم نوح، فلم يعقلوا فأهلكوا، ولذلك قريش ينذرون بهلاك هؤلاء فإن لم يفعلوا يهلكوا. قوله تعالى: {فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ (19)} ذكر ابن عطية: أن أبا بشر الدولابي قال: روى أبو جعفر المنصور عن أبيه محمد عن أبيه علي عن أبيه عبد الله بن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم [آخر أربعاء من الشهر يوم نحس مستمر*]، قال شيخنا: وبعض الفقهاء إلى اليوم يتوخاه ويجتنب العمل فيه، وروي أن القمر كان منحوسا بزحل، فإن قلت: التاريخ بالشهر العربي حادث، لم يكن في زمن عاد، فكيف قال: أهلكوا في [آخر أربعاء*] من الشهر العربي؟ قلت: [صادف أنه*] آخر الشهر العربي باعتبار نقص القمر وزيادته، لأنهم إذ ذاك علموا أنها آخر الشهر العربي، قوله تعالى: (مُسْتَمِرٌّ)، لأن العمل في [**المظروف المجرور في بعضه]. قوله تعالى: {تَنْزِعُ ... (20)} لم يقل: تنزعهم إشارة إلى أنها من شأنها أنها تنزع كل النَّاس، ولو [قيل*] تنزعهم لتوهم خصوصا، فهؤلاء لكونهم قليلين، ولو كانوا كثيرين لم تنزعهم، وكذلك لو كان

(23)

أقوى منهم لم تستطع أن تنزعه، وأتت هذه القصص [معطوف بعضها على بعض*]، لأن كل واحد منها لم تقترن مع الأخرى في زمان. قوله تعالى: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ (23)} أكدت قصة نوح بتكرار الفعل، وهو (فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا)، وقصة عاد يذكر قوله (فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ)، في أولها وآخرها، وأكدت هذه بقوله تعالى: (بِالنُّذُرِ)، وتلك لم يذكر فيها متعلق [التكذيب*]، بل جاءت مطلقة، لأن التكذيب بالمعجزات أخف من التكذيب بالمواعظ، والإنذارات. قوله تعالى: {فَقَالُوا أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ ... (24)} هذا بما للعلة بالأمور العادية، وقوله تعالى: (أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا ... (25) [**خاطبه عامية]، لأن الأول دعوى، وهذه دليل عليها، وهو أنهم استدلوا بأمرين: أحدهما: اختصاصه بالرسالة من [بينهم*]، [ولم يُرسَل هو إليهم*]. والثاني: نسبتهم إليه الكذب [والأشر*]، مع أنه تقرر أن من صفات الله عز وجل الإرادة، وأنه من حقيقتها الترجيح من غير مرجح، فمن يعتقد هذا فلا يقول: إن الموجب لتخصيص هذا بصفة دون هذا الشخص الآخر، والإضراب بـ بل انتقال، وقولهم كذاب دعوى، ودليل مرتب على الأول أي بل هو كذاب في دعواه الرسالة، وأسر كونه وضع نفسه في غير تهيئة عندهم ومن نزل نفسه غير منزلها فهو أسر مخاصم وسجل عليهم بذكر ثلاثة أمور قبيحة، وهي: هلا كان من غير [جنسنا، ولئن كان فلم اختص دوننا*]، ونحن أفضل منه، فهو ترجيح بلا مرجح، ولكن سلمنا بشريته فأكثره معتبر، ويقع بها الترجيح، لأن البينة ترجح بالكثرة، ونحن أولى بهذا الترجيح، ولأن [إخبار*] الأكثر يحصل العلم ويضعف احتمال الكذب؛ بخلاف خبر الواحد، فإِن قلت: لم قدم الذكر هنا، وأخَّره في سورة (ص)؟ قلت: المقصود بالإنكار في هذه كون الموحي إليه [**ليس يزعم لَا في نفسه] وفي سورة (ص)، لما تضمن ما نص الله تعالى عنهم في قوله تعالى: (وَعَجِبُوا أَنْ)، مقصود إنكارهم وتكذيبه وطعنهم في نفسه أولا قد قدم الذكر. قوله تعالى: {مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ (26)} لم لم يذكر المسند إليه هنا كما ذكره في قوله تعالى: (بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ)، لا سيما إن جعلنا من موصولة لَا استفهامية. [ ... ] قوله تعالى: {فَعَقَرَ (29)}

(33)

ظاهره أن العاقر واحد، وفي سورة الشعراء (فَعَقَرُوهَا)، فأسند الفعل للجميع، والجواب: أن المباشر واحد، وسائرهم معين له، وفاعل السبب فكأن جميعهم فاعل لذلك. قوله تعالى: {كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ (33)} الأصل تعدي كذب إلى المكذب بنفسه، فيقال: كذبت زيدا. (بِالنُّذُرِ) [بمعنى الإنذار*]، الذي هو المصدر [وهو*] جمع [نذير*]، ويكون من باب [**انحناء للكل]. قوله تعالى: {أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا ... (34)} وفي الذاريات (لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً)، والجمع بينهما بما أجاب الزمخشري: في قوله تعالى: (فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ)، وفي آية أخرى (فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى)، قال: شبهها بالحية لسرعة حركتها، وبالثعبان في كبر جرمها، وكذا هنا عبر بالحجارة لكبر جرمها، والحصباء لتزامنها وتداخلها، لأن الحجارة الكبيرة لَا تهبط متزامنة، كما تهبط الحصباء. قوله تعالى: (إِلَّا آلَ لُوطٍ). استثناهم من المرسل عليهم، ولم يستثنهم من قوم لوط، الجواب: أن ذلك متلازم، فإن تكذيبهم في سبب إرسال الحاصب عليهم، ولما أخرجوا من المرسل عليهم الحاصل بسبب وصف التكذيب تضمن إخراجهم معا، أي من المكذبين والمعذبين، وذكر أبو أحيان وجهين في اتصال الاستثناء وانفصاله، فإن جعلناه مخرجا من قوم من ضمير عليهم جاء الاتصال، وقال بعضهم: هو منفصل، وإن كان على تقدير اتصاله، الزمخشري: لأن هؤلاء ليسوا مشاركين لهم في الوصف، فكأنهم جنس آخر، فهو منفصل، وإن كان على تقدير اتصاله، الزمخشري: يحتمل الاستثناء الاتصال، والمراد أنه أرسل على جميعهم العذاب فأهلك الكافرون، وبقي آل لوط، ويحتمل الانفصال، والمراد أنه أرسل على هؤلاء حالة انفصال المؤمنين عنهم انتهى، جعل الاتصال والانفصال راجعين إلى الدخول في معنى العامل، وعندهم راجح إلى

(35)

الدخول فيما تعلق به العامل، كقولك: جاء القوم إلا زيدا، فهو داخل في القوم، وجاء القوم إلا حمارا، فهو خارج من القوم. قوله تعالى: (نَجَّيْنَاهُمْ). يدل على الاستثناء من الإثبات ليس بنفي كقوله تعالى: (إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى)، وإلا لم يفد إلا أن يجاب بأنه ذكر امتنانا أو تبيينا، لو كان الإنجاء. قوله تعالى: (بِسَحَرٍ). هل المراد به أول الليل، أو آخره بعد الصبح بناء على الأخذ بأوائل الليل الأسماء أو آخرها لكن قوله تعالى: (وَلَقَدْ صَبَّحَهُم بُكْرَةً)، يدل على أن الإنجاء آخر الليل، وانظر سر تنكير (سَحَرٍ) وتعريفه، ويحتمل كونه للتعظيم، كما قاله الزمخشري في (وَلَيَالٍ عَشْرٍ). قوله تعالى: {نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنَا ... (35)} مصدر لَا مفعول من أجله، لأن أفعال الله غير معللة، وهو دليل لأهل السنة في أن إنجاء آل لوط ليس واجبا، بل [محض نعمة وتفضل من الله*]، ولو شاء [عذاب الطائع، ومنع العاصي لفعل*] [فإن*] [ ... ]. إما بناء على أن أقل الجمع اثنان، أو يكون [لاعتبار*] الأزمان، وتكرار إنذارهم، وكأنه متعدد. قوله تعالى: {أَخْذَ عَزِيزٍ ... (42)} ليس هو [كقولك*] ضربته ضرب الأمير؛ لاستحالة المعنى لتعدد الضربين في المثال، لأن المعنى ضربا مماثلا لضرب الأمير، والأخذ هنا متحد. قوله تعالى: {أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ ... (43)} هذا كما قال الفخر في القياس التمثيلي أن الدليل على [صحته*] قوله تعالى: (فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ)، وتقريره في الآية أن يقال لقريش: أنتم تشاركون أولئك القوم في الكفر والتعنت، ومن شارك أحدا في ذنب فهو بصدد أن ينزل به ما نزل [بمماثله*] يلائم القياس التمثيلي، فلا محيد لكم عن ذلك إلا أن يظهر الفارق بين الفرع والأصل، أو نص على وجود الحكم في صورته، كما قالوا: في

(44)

[الغرر*] أنها مستثناة من أصل ممنوع لأجل النص على جوازها مع أن القياس يقتضي منعها، لأنها من بيع الثمر قبل [بدو*] صلاحه، فقيل: لهؤلاء أنتم خير من أولئك، أعني أشد منهم قوة بحيث تقدرون على مدافعة العذاب النازل بكم، وممانعته إن ثبتت في الصحف المنزلة برائتكم من النار وخلوصكم من العقوبات فأنتم مطمئنون من العذاب، فلا يمنع القياس التمثيلي إلا أحد هذين الأمرين، ولا شيء منهما بموجود عندكم [ ... ]. من أولئك، وجوابه: أن خير يستلزم أشد دون عكس الثاني، أن المضاف غير المضاف إليه، وهو منه متحد، لأن جميعهم كفار، وجوابه: أن المخاطب وهو المضاف إليه الرؤساء والمضاف الأتباع، أي لَا أبايعكم أيها الكفرة خص من الأتباع السالفة الكفرة الذين نزل بهم العذاب. قوله تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ (44)} الذين حكوا في السير أنه إنما قال: ذلك أبو جهل [ولن يكون*] قاله جميعهم، وخص أبو جهل بالذكر لشهرته أو لعظم [قدره*] عندهم، أو ذكر أبو جهل لابتكاره لهذه المقالة، وابتدائه بها، وأخبر عن الجميع لاتباعهم إياه فيها، فإن قلت: هلا قيل: جميعا منتصر فلم بني على الضمير؟ فالجواب: من وجهين: إما أنه لمجرد الربط مثل: [**هم يعرشون الليل كالمرة]، وإما ليفيد الاجتماع والانتصار، ولو قيل: جميعا منتصر لأفاد الانتصار، ولو في [حال*] التباعد والاقتران، [فقولهم*]: (نحن) أفاد إتيانهم واجتماعهم حالة النصرة. قوله تعالى: {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (45)} الزمخشري: هذا من موضع واحد، موضع الجمع كبيت سيبويه: كلوا في بعض بطنكم تعفوا ... فإن زمانكم زمن خميص ورد أبو حيان: فالبيت حسن ذلك فيها الفصل، وهنا لَا معطي فصل للنهي، بل الرد عليه من ذلك أن ذلك إنما جعله سيبويه من القليل، لأن إضافة الواحد إلى مزيج الجمع فيه قبح لفظي معنوي لاستحالة اشتراك المضاف إليه الذي هو مجموع في مصدره المضاف، بخلاف الآية ليست فيها إضافة، فانتفى فيها القبح اللفظي، وبقي المعنوي، فالمعنى مراد به الجمع كما قالوا في غير هذا إنه [ ... ]، والواحد بالنوع لا بالشخص، كقول الحوفي: وأقل ميراث الابن سدسان، ونصف سدس، [يوجه*] إفراد

(47)

الدبر هنا، وجمعه في قوله تعالى: (فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ)، أنهم تولوا هنا منزلة رجل واحد في النزل فيكون أبلغ، والمراد في تلك توجيه النهي لكل فرد، وأيضا استعمل هنا الأخص في الثبوت، واستعمل هناك الأعم في باب النهي، وهو معنى النفي. قوله تعالى: {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ (47)} هذا من تسمية الشيء بما يدل إليه، لأنهم ليسوا الآن في سعر، بل صائرون إليه، فإِن قلت: هو في استعمال اللفظ الواحد في حقيقته، [ومجازه، وهو في السعر*] حقيقة وفي الضلال مجاز، ولأن كونهم في الضلال باعتبار الحصول الحالي. حدثني ابن أبي الموالي: أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، قال: ["سِتَّةٌ أَلْعَنُهُمْ, لَعَنَهُمُ اللهُ وَكُلُّ نَبِيٍّ مُجَابٍ: الزَّائِدُ فِي كِتَابِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ, وَالْمُكَذِّبُ بِقَدَرِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ, وَالْمُتَسَلِّطُ بِالْجَبَرُوتِ يُذِلُّ بِهِ مَنْ أَعَزَّ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ وَيُعِزُّ بِهِ مَنْ أَذَلَّ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَالتَّارِكُ لِسُنَّتِي، وَالْمُسْتَحِلُّ لِحُرُمِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَالْمُسْتَحِلُّ مِنْ عِتْرَتِي مَا حَرَّمَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ"*]، ابن رشد: اللعن هو الطرد والإبعاد من الرحمة، ومن لعنه فقد استوجب النار لبعده من الرحمة، والفيء. [إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ ... (49) *] من قرأ بالنصب فنصبه بفعل مضمر، يفسره الظاهر، والآية على هذا حجة على المعتزلة، فإِن أفعالنا شيء فهي مخلوقة لله تعالى لدخولها في عموم كل شيء، قال: ومحتمل أن يكون العامل فيه قدرنا، ويكون خلقناه صفة بشيء، فلا يكون حينئذ دليلا على بطلان قول المعتزلة، قال: ومن قرأ بالرفع فذكر ابن عطية: فيه وجهان: أحدهما: أن كل شيء مبتدأ وخلقنا وخبره، وعلى هذا يكون حجة على المعتزلة. والثاني: أن كل شيء مبتدأ وخلقناه صفة بشيء، وبقدر خبر أي كل شيء مخلوق لنا فهو يقدر، وعلى هذا يكون حجة للمعتزلة، وأورد الفخر سؤالا: كيف صح جعل كل شيء مبتدأ وهو نكرة؟ وأجاب: بأن فيه معنى العموم، وقالوا: والنصب في الآية أرجح لأن الرفع يوهم أن يكون خلقناه صفة فيتوهم أن مفهومه أن بعض الأشياء غير مخلوق، ولا مقدر، ابن عطية: قال ابن عباس: إني أجد في كتاب الله قوما (يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِم)، لأنهم كانوا يكذِّبون بالقدر، ويقولون: المرء يخلق أفعاله، وإني لأراهم، فلا أدري لشيء مضى قبلنا، أو شيء بقي، وقال أبو

(50)

هريرة: خاصمت قريش رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم في القدر فنزلت الآية، انتهى، القدرية ليسوا مذكورين في السير، إذ لم يحدث أمرهم إلا بعد ذلك، وعليه قالوا إن بعض القدرية أنكر عليه أبو حنيفة مذهبه، وقال: إنه حادث لم يكن في زمن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فهو بدعة، فقال له القدري: إن لم تسكت أسألك عن حديث كذا، فسكت لأن أبا حنيفة لم يكن في حفظ الحديث بتلك المنزلة، وكان بعضهم سأل القاضي أبا بكر الباقلاني عن القدرية، أكانوا في الزمن الأول أو لا، فقال: لم يكونوا فيه، فقال: فإِذًا كل واحد منهم مخالف للإبداع. قوله تعالى: {وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ ... (50)} يحتمل أن يريد الثاني أو الكلام، وهو قوله (كُنْ فَيَكُونُ)، والخلق موقوف على الحياة والقدرة والإرادة عقلا، وأما الكلام فمتوقف عليه عندنا سمعا لقوله تعالى: (إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ)، وواحدة إشارة لعدم الفصل بين الكلام والأمثال لسرعة التكوين. قوله تعالى: (كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ). تمثيل بأقرب ما يمكن في الأمور الجليات، وإلا فالعقل يهدي إلى أنه أسرع من ذلك وأقرب، وفي آية أخرى (وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ)، [فأضافه*] وهنا فصله عن الإضافة، فالجواب: بما قال الزمخشري: في قوله تعالى: (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ)، أن فيه التفسير بعد الإبهام، واستدل على إثبات القدرة بالاتحاد في قوله تعالى: (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ)، وبالإعدام في قوله (وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ)، واتعاظ الإنسان بهلاك صاحبه، أو قريبه أقرب من اتعاظه بهلاك الأجنبي، وأكد هذا لأن المخاطب عليه مخايل الإنكار كما قال تعالى (ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ (15) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ). قوله تعالى: {وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ ... (52)}

(53)

جعله المفسرون التفاتا، أي لكل شيء فعلتموه، ويكون هذا عاما في قريش، ومَن قبلهم، وغلب فيه المخاطب على الغائب، ويحتمل أن يكون المراد كل شيء فعله هؤلاء [يكون محصى*] عليهم [فعوقبوا*] بالإهلاك، [**وإحصاء]، أي الغير ليعذبوا عليها في الآخرة، والعدم الإضافي داخل في هذا على القول بصحة كونه [أثرا للقدرة*]، ونصوا على أن الترك فعل [**الضرر، فمن منع إنما فعل ما يكن به عن نفسه موته إعطائه] فهو داخل في الآية على هذا. قوله تعالى: {وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ (53)} ليفيد التساوي بينهما، وأن تعلق علمه كتعلق علمه بالكبير، وجعلوا هذه تأكيدا لما قبلها، ويحتمل التأسيس بأن يكون هذه راجعة لإحصاء الأقوال، وما قبلها [لإحصاء الأفعال*]. قوله تعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54)} مقابل لقوله تعالى: (إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ)، قوله تعالى: (وَنَهَرٍ) قرئ بضم الهاء على أنه جمع، وبفتحها على أنه اسم جنس، ويكون واحد بالنوع، كقول الفراء ولا يرث عند مالك إلا جدتان، ليس المراد الجدتين بالشخص بل النوع. قوله تعالى: {فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ ... (55)} موصوف إما باعتبار أنه لَا قبيح فيه ولا منكر، وإما باعتبار أنه حق في نفسه لا كذب. * * *

سورة الرحمن

سُورَةُ الرَّحْمَنِ -جَلَّ جَلَالُهُ- قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2)} قال ابن عطية: [هي مكية فيما قال الجمهور من الصحابة والتابعين. وقال نافع بن أبي نعيم وعطاء وقتادة وكريب وعطاء الخراساني عن ابن عباس: هي مدنية، نزلت عند إباية سهيل بن عمرو وغيره أن يكتب في الصلح بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ*]، قال ابن عطية: الأول أصح، وإنما نزلت حين قالت قريش بمكة (وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا)، قلت: وأظن ابن عرفة، قال عن بعضهم: أن سؤال سهيل للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ولعلي بن أبي طالب رضي الله عنه، [يدل على*]: أنه أعجمي وليس عربي، قال ابن عرفة: وهذا تردد ويقابل بضرره، لأن سهيلا إنما ذكر عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، الذي هو أفصح [الناس فكلمه به هو وعلي بن أبي طالب*] دليل على أنه عربي، فإنكار سهل له إما محض تعنت، وإما لأنه فهم عنهما أنهما ذكراه، وتقدمه [ ... ] عليه، فلذلك أنكر ما قالا، قال ابن عرفة: وذكروا أن الرحمن من المجاز الذي ليست له حقيقة، حسبما ذكره ابن الحاجب، [وقال*]: وفي استلزام المجاز حقيقة خلاف العكس المستلزم لو لم يستلزم [**العربي الوضع عن الفائدة]، الثاني: لو استلزم لكان نحو قامت الحرب على ساق وشابت له الليل حقيقة، وهو شريك الإلزام للزوم الوضع، والحق أن المجاز للمفرد، ولا مجاز في التركيب، ولو قيل: لو استلزم لكان نحو الرحمن حقيقة، [**ونحو عيسى كان قريبا]، ونص إمام الحرمين والأصوليون: على أنه مختص بالله تعالى لَا يوصف به غيره، ونص أبو [ ... ] في أجوبته، والفارسى في شرح الشاطيبة أن المختص بالله تعالى إنما هو مجموع (الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) قال ابن عرفة: وما شبه ذكر هذه الأشياء بغير صفة الرحمن، وما يقولونه: من أن الوجود خير كله، والعدم شر كله، على أنه قد يرد عليه أن النار شر صورة، وهي شر لَا خير فيجاب عنه: بأنه إنما تضر لانعدام ضررها المعادل لها، وهو الماء والبرد، فالشر في انعدام ضدها لَا في نفس وجودها، فمن رحمة الله تعالى بالإنسان وإرادة الخير له أنه أوجده وعلمه القرآن، وأتت هذه مفصولة بغير حرف عطف، لأن كل جملة منها مستقلة بالدلالة على كمال قدرة الله تعالى وعظمته وجلاله بخلاف ما بعدها. قوله تعالى: {الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ (5)}

(6)

قدمت الشمس على القمر لأنها أعظم جرما، وضوء القمر مستمد من ضوء الشمس باعتبار العادة، والأمر التجريبي من الكسوفات، وغيرها لَا بالطبيعة كما يقول أولئك، وعلم الكسوفات ليس من الغيب في شيء، قال ابن عطية: قال ابن زيد: لولا الليل والنهار لم يدرك أحد كيف يحسب شيئا، قال ابن عطية: يريد من مقادير الزمان، قال ابن عرفة: فإِن قلت: أهل الجنة لَا ليل عندهم ولا نهار، فكيف [صحت النسبة إلينا في الدنيا*]، فقال: الليل عندنا نحن لأنا مكلفون بالأعمال، وأهل الجنة ليسوا مكلفين بشيء، ونجد [الإنسان*] في الدنيا إذا كان منهمكا في شهواته ولذاته، يذهل عن الأوقات ولا يعرف ليلا ولا نهارا، فأهل الجنة مشغولون بلذاتهم وتنعماتهم، لأن الدار ليست دار تكليف بوجه، قيل لابن عرفة: هلا كانت الشمس إذا وصلت حد المغيب ترجع حين ترجع إلى حد المغيب، فيعلم بذلك الأوقات، فقال: هذا ممكن ومعرفة ذلك بالليل والنهار، أمكن وأجل، وقال الغزالي: ما في الإمكان أبدع مما كان، يعني أن خلق هذا العالم لَا يمكن أن يكون أحسن من هذه الصفة التي هي مخلوق عليها، وسبقه لذلك عبد العزيز بن مكي في الحياة وألزموه النَّاس على هذا الكفر، وأنكره ابن العربي عليه وغلطه في ذلك، ذكره في سراج المريدين، وأنكره عليه أيضا أهل الأندلس، وكان ابن حمد نص على حرق الإحياء لأجل ذلك. قوله تعالى: {وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ (6)} [إن قلت: الآية المتقدمة قدم العلم على الإنسان لما يرجع لذاته*]، ولما هو خارج عنه، وهذه ليس [فيها*] إنعام ولا امتنان، وإنما هي إخبار عن كمال افتقار كل الحوادث إليه، فأجاب ابن عرفة: بأن [فيه*] إيماء وتذكيرا بدلالة أخرى، لأن من جملة النعم التي أنعم بها على الإنسان [العلم*]، وهو مسلوب عن النبات والجمادات، فإذا كانت تسجد وتضع له فأحرى الإنسان. قوله تعالى: {وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا ... (7)} قال ابن عرفة: قلت: ما الحكمة في رفعها مع أنه معلوم إذ لَا فائدة في قول القائل: السماء فوقنا والأرض تحتنا، فالجواب: من وجهين: الأول: أن في الآية وعظا وتكليفا، والوعظ رفعه السماء إذ هو دليل على اتصافه بالقدرة وشدة البطش والتكليف، فوضع الميزان وهو العدل في الأرض. الثاني: أنه دليل على رفعها بغير عمد، كما قال تعالى (رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيرِ عَمَدٍ تَرَونَهَا)، بخلاف ما قيل، والسماء يحتمل أن يكون الرفع لها

(9)

أعمدتها كما هي الكرة لذلك، وكان بعضهم يقول: تضمنت الآية أمرين: اعتقادي عقلي، وشرعي تكليفي، قوله تعالى: (وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا)، إيماء وإشارة إلى التذكير بالآيات السماوية الدالة على الوحدانية، والإيمان بها. قوله تعالى: (وَوَضَعَ). راجع إلى التذكير إلى الأمور الشرعية التكليفية، قال ابن عطية: قيل: هو الميزان حقيقة، وقيل: المراد الأخص منه، وهو الكيل إما بالميزان، أو بالكيل، وقيل: المراد الأعم، وهو مطلق [العدل*]. قوله تعالى: {وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ (9)} تأكيد المقام الوعظ والتكليف، وتخسروا من خسر، قال أبو حيان: وقرأ [الجمهور*] بضم التاء من أخسر، أي نقص، وقرأ زيد بن علي بفتح التاء من خسر يعني أخسر [كجبر وأجبر*]، وحكى ابن جني عن بلا فتح التاء والسين مضارع خسِر بكسر السين، وخرجها الزمخشري: على أن التقدير في الميزان محذوف الجار ونصب، ورد بأنه قدح متعدٍّ بنفسه، كقوله تعالى: (خَسِرُوا أَنْفُسَهُم)، (خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ)، فلا حاجة إلى تقدير حذف الجر. قوله تعالى: {خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ (14)} وقال ابن عطية: الفخار [الطين الطيب إذا مسه الماء فخر أي ربا وعظم*]، وقال الزمخشري: [الفخار*] الطين المطبوخ بالنار، وهو [الخزف*]، قال ابن عرفة: تفسير الزمخشري أحسن، وأما تفسير ابن عطية، فيجيء فيه [تشبيه*] الشيء بنفسه، أو يلزم عليه أن تكون الطينة التي خلق منها آدم عليه السلام ليست طيبة الرائحة؛ بل منتنة، قال الفخر ابن الخطيب: إن كل إنسان مخلوق من التراب، لأن أصله من النطفة، والنطفة [مكونة*] عن الغذاء، والغذاء من النبات، والنبات من التراب، ورده ابن عرفة: بأن المراد أصل الخلق، وهذه فروع عنه، قال ابن عرفة: وسيقت الآية لبيان والاستدلال على وجود الصانع وقدرته، وأن الإنسان يستحضر أول مرة [تكونه وانتقاله من عدم إلى وجود، ومن وجود إلى وجود*]. قوله تعالى: {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (16)} قال ابن عرفة: جمع الآلاء مع أنها نعمة واحدة، وهي نعمة الإيجاد والإبراز من العدم، قال: وأجيب بوجهين:

(24)

الأول: السؤال ما يرد إلا على قول من يقول: إن الموجود مشترك بين الجميع، وليس هو غير الموجود، وأما على القول بأن الوجود عين الموجود، فيكون لكل واحد وجود مفرد يخصه، فتعددت الموجودات فهي حينئذ [ ... ] متعددة، وهو الصحيح. الجواب الثاني: أنه من عليه بنعمة الإيجاد، ونعمة كيفية الإيجاد، قوله تعالى: (لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيم)، إذا كان قائلا على أن يخلق على صورة حمار، قال ابن عرفة: وكرر هذا اللفظ في هذه السورة لأمرين: إما لأن كل واحدة نعمة راجعة لما قبلها، فهي تأسيس لَا تأكيد، وإمَّا بأنها تأكيد كذا قال ابن عطية، وقال القرافي في شرح المحصول في اللغات، قال الشيخ عز الدين بن عبد السلام: أجمع الأدباء على أن التأكيد، لَا يكون أكثر من ثلاث مرات، وقال في شرح [ ... ] اتفقوا على كذا، ولم يقيده بالأدباء. وقال ابن عرفة: إنما ذلك في المتواليات، وأما حيث يقع الفصل فيحسن تكرار التأكيد خشية نسيان المخاطب، وذهوله بالفاصل عن استحضار مدلوله التأكيد، قال: فما ورد في سورة الرحمن، إنما هو تأسيس لَا تأكيد، قلت: وقال ابن السيد: في [سؤالاته*]، وأما قوله في آخر كل آية من هذه السورة (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ)، فاعترضه الملحدون بأن الآلاء النعم، فكان يجب أن لَا يذكر إلا بعد ما فيه نعمة مع أنها ذكرت بعد قوله تعالى: (يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ)، قال: والجواب عنه: أن من أنذرك وخوفك من عاقبة ما تصير إليه فقد أنعم عليك ألا تراه، قال تعالى (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ)، وقد علمنا أنه [ ... ] لمن آمن، وقدم لمن كفر فحصل الإنذار رحمة كما جعل البشير، وكذلك قوله تعالى: (كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ) وقوله تعالى: (فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ)، فيه إنعام على الخلق، حين علمهم ما كانوا يجهلونه، وحذرهم ما يمرون إليه، وقد جعل الله التحذير مرادفة، بقوله تعالى: (وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ) انتهى. قوله تعالى: {وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنْشَئَاتُ فِي الْبَحْرِ ... (24)} قال ابن عطية: قال مجاهد: ما له شراع فهو من المنشآت، وما ليس له شراع فليس من المنشآت، قال ابن عرفة: الشراع القلع، وما يشبه الأعلام، إلا إذا كانت بالقلاع، فيظهر من بعيد كالجبل، وحينئذ فيكون فيها كمال الاتعاظ، وأفاد أن هذا

(26)

الخلق ملك الله تعالى ففيها رد على المعتزلة القائلين بأن العبد يخلق أفعاله وبالتولد، وأن صنعة النجارة متولدة عن فعل العبد، وفعل العبد مخلوق للعبد. قوله تعالى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26)} الضمير عائد على الأرض، واستثنى بعضهم من هذه الأرواح بأنها باقية بقاء الله عز وجل، وعجْب الذَّنَب لما ورد في الحديث: "إنه يفنى من ابن آدم كل جسده إلا عجْب ذَنَبه"، والذَّنَب وهو قدر مغرس الإبرة، ولهذا يقف بعض الفراعنة، قوله تعالى: (كُلُّ مَنْ عَلَيهَا فَانٍ)، ومنها ما يبقى، فإن قلت: لم عبر بـ (مَنْ) وهلا عبر بما فإنها أعم لوقوعها على ما لَا يعقل، فالجواب: أنهم ما خالفوا إلا في بقاء من يعقل، لأن الفلاسفة يقولون: إن علم الإنسان لَا يفنى، وأنه لَا يزال باقيا، فإن قلت: لم عبر بالاسم في قوله تعالى: (فَانٍ)، وبالفعل في قوله تعالى: (وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ)، والعكس أولى، فإن البقاء وصف ثابت، والفناء متجدد، فالجواب: أنهم لما خالفوا في الفناء أتى بلفظ الاسم المقتضي للثبوت، والبقاء الثابت لَا يحتاج إلى التغيير فيه بالاسم، وفيه إشارة إلى تصحيح مذهب من يقول إن العرض ما يبقى زمنين، وأنه في كل وقت ينعدم، ويأتي غيره، قال ابن عرفة: المراد البقاء العقلي الذاتي، وهو من خواص القديم، وأما البقاء الشرعي السمعي فيكون من الحوادث كنعيم الجنة، وعذاب أهل النار، فإنه دائم غير منقطع، واعتزال الزمخشري في قوله تعالى: (وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ)، فقال: ومعناه الذي محله الموجودون عن التشبيه بخلقه، وعن أفعالهم، والذي يقال له: ما أجلك وما أكرمك. أو من عنده الجلال والإكرام [للمخلصين*] من عباده، قال ابن عرفة: ونحن نقول مسنده إلى الله تعالى قبحها وحسنها، والجميع حسن عقلا، ولذلك قوله في الصفات. قوله تعالى: (ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ). فسره الزمخشري: بثلاثة أوجه: الأولان: لأن فيه شبه الإضافة إلى الفاعل، والأخير فيه شبه الإضافة إلى المفعول، وعقبه بقوله تعالى: (فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ)، لأن التشبيه على استحضار بقاء الله تعالى واتصافه بالجَلال والإكرام نعمة وتفضيلا، قيل له: وكذلك الفناء لحديث: "الدُّنْيَا سِجْنُ الْمُؤْمِنِ، [وَجَنَّةُ*] الْكَافِرِ"، فقال: لَا يحتاج إلى هذا ومناسبتها مع آخر الآية يكفي ويكون في أول الآية وعظ وتخويف، وفي آخرها نعمة وامتنان. قوله تعالى: {يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ ... (29)}

وقال أبو حيان: هو استئناف، وقيل: حال من الوجه، والعامل فيه (يبقي) وهو بعيد، قال ابن عرفة: لأن السؤال في الدنيا، وحينئذ لم يكن ثم مخلوق، بل يكونوا فنوا وماتوا كلهم، قلت: وأجاب الفخر: بأن السؤال من الملائكة بعد فناء أهل الأرض يقولون: ماذا نفعل؟ فيأمرهم بما يشاء، ثم يموتون بعد ذلك، فإن قلت: إن السؤال في الدار الآخرة، قلنا: الآية إنما جاءت لبيان كمال الخضوع والافتقار، والسؤال النافع إنما هو في الدنيا لَا في الآخرة، قال ابن عرفة: وجاهدا على الاصطلاح الذي قال الحوفي في الجمل: إن الطلب إن كان من الأدنى إلى الأعلى فهو سؤال ويسميه الآخرون دعاء. قوله تعالى: (مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ). إن كان المراد بالسؤال بلسان الحال، وهو الخضوع والافتقار، فتكون من عامة في العاقل وغيره، والجمادات وغلب من يعقل ولاسيما على القول، بأن الأعراض لَا تبقي زمنين، وكل جوهر في كل زمن مفتقر الإمداد بالعرض، وإن كان المراد السؤال بلسان المقال، فيكون المراد العاقل حقيقة وتبادل غير العاقل باللزوم، لأن السؤال يستلزم الافتقار والحاجة، وإذا كان العاقل مفتقرا محتاجا مع إمكان توهم قدرته على الضر والنفع، [فأحرى*] غير العاقل. قوله تعالى: (يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ). قال الزمخشري: يسأله أهل السماوات ما يتعلق بدينهم، وأهل الأرض ما يتعلق بدينهم ودنياهم، قال ابن عرفة: هذا اعتزال، لأن الملائكة معصومون فهم محتاجون إلى السؤال في الأمر الدنيوي، قال ابن عرفة: ولم يزل الشيوخ يخطئون من يقول: إن إبليس كان من الملائكة، قال قوله تعالى: (وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ) كانا عاملين بالسحر، ولم يعملا به لأن الملائكة معصومون. قوله تعالى: (كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ). قال ابن عرفة: هذا تقرر في أصول الدين أن الزمان تارة يضاف إلى [خاص]، لأن الله تعالى يستحيل عليه الزمان، قال ابن عطية: قال النقاش: إن سبب [هذه*] الآية قول اليهود إن الله استراح يوم السبت، فلا ينفذ فيه شيئا، قال ابن عرفة: اليهود هم [ ... ]، لأن الرحمة من عوارض الأجسام، وهذه الآية ترد على اليهود، فإِن المراد باليوم الوقت، وإذا كان في كل وقت، وإن دق في شأن، فأحرى أن يكون في يوم السبت في

(31)

شأن، قيل لابن عرفة: [فقبل أن يخلق الزمان*]، فقال: الشؤون هي الحوادث، فقيل: خلق الزمان ثم [الشؤون*]، قال: وهذه المسألة غلط فيها الإمام فخر الدين في [المحصول*]، لأنه قال في الركن الثاني في تقسيم الموجودات ما نصه: قال المتكلمون: معنى كون الله قد [ ... ] قدر لنا أزمنة لَا نهاية لها لكان الله موجودا معها بأسرها، [ومما يعزز*] ذلك أنه لو اعتبر الزمان في ماهية الحديث وانعدم لكان ذلك الزمان إما قديما، أو حادثا، فإن كان قديما مع أنه ليس في زمان، فقد صار القدم معقولا من غير اعتبار الزمان، وإذا عقل تلك في موضع فلم يعقل في كل موضع، فإِن كان حادثا لم يعتبر في حدوثه زمان آخر لاستحالة أن يكون للزمان زمان آخر، وإذا عقل الحدوث في نفس الزمان من غير اعتبار زمان قليل معه في سائر المواضع، انتهى، قال ابن عرفة: قوله لكان الله موجودا معها غلط فاحش، ولم يقل أحد من المتكلمين، بل قالوا: إن الله موجود قبلها، ولو قدر قبلها زمان فالله تعالى موجود قبله، وتسلسل الأمر إلى ما لا نهاية له، ونعوذ بالله من زلة العالم، وقوله: إذا عقل إذ [ ... ] في كل موضع لَا نسأله، ومن أين نأخذه، قال ابن عرفة: والصواب أنه لَا يقارن الزمان لَا في الوجود، ولا في التقدير بوجه، وما أحسن قول الإمام المهدي في عقيدته حيث قال: لَا يقال: متى كان، ولا أين كان، ولا كيف كان، ولا مكان دبر الزمان، ولا يتقيد بالزمان، ولا يتخصص بالمكان، قال: ولذلك غلطه الفخر في المعالم في المسألة الخامسة من الباب الأول التي أولها حكم [صريح العقل*]، بأن كل موجود، إما واجب لذاته، أو ممكن لذاته [ ... ]، ابن التلمساني: هنالك في شرحه، فقال: على أثناء كلامه، ولما اعتقد الفخر صحة الجملة التي ذكرها، أو استعمل نظرة المتقدمات في الاستدلال على إمكان كل ما سوى الله تعالى استشعر النقص بصفات الله تعالى، فقال: مرة هذا مما نستخير الله فيه، [وجزم أخرى*]، وصرح بكلمة لم يسبق إليها، فقال: هي ممكنة باعتبار ذاتها واجبة بوجوب ذاته، وهو ظاهر قول الفلاسفة: فالسر أن العالم ممكن باعتبار ذاته واجب بوجوب مقتضية، ونعوذ بالله من زلة العالم، انتهى. قال ابن عرفة: وقرر في علم المنطق أن الأسرار ثلاثة كل [كقولك*] كل أعضاء الإنسان بدون، وكلي كذلك إنسان نوع من أنواع الحيوان، وكلية كقولك: كل إنسان شخص موجود في زمان ما، وهذا في الآية كلية، ولما حكى الشاشي قضية امرأة عثمان، وأن عبد الرحمن استوثق من علي، ومن عثمان ثم بايع عثمان، فمد عليٌّ يده، وهو يقول (كُلُّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ). قوله تعالى: {سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلَانِ (31)}

(33)

هذا الوعظ والتخويف كما يقول أحدنا لصاحبه سنترك [ ... ]، ونتفرغ إليك، فهو داخل في باب الوعظ والتخويف، [والإله*] قيل: لَا يشغله شأن عن شأن [**قبله]، إشارة إلى أنه لَا يخفي عنه خافية ولا يعجزه شيء، قيل لابن عرفة: فهو دليل على القاضي أبي بكر الباقلاني القائل: [**بأن بلغ مطلقا لَا يبعث] فقال: المشهور أنه يبعث، فقال: المشهور أنه يبعث، أو نقول: بأن [ ... ] مخصوصة به وبمن ليس له ذنب، قيل له: ما حكمه تعقبه بالآلاء، أو النعمة فيه، فقال: هذه غاية النعمة، لأنك إذا زجرت مخاطبك عن فعل، وخوفته بالعقاب عليه، ثم قلت له: سنفرغ إليك بنفس الانتقام منك، يكون أقمع وادعى إلى الانزجار عما هو بصدده. قوله تعالى: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا ... (33)} قال ابن عرفة: جعله ابن عطية نفوذاً معنويا ذهنيا، باستعمال [الفكر*] في السماوات والأرض ليتوصل بذلك إن تحصيل المعلوم، فتكون الآية إلى الأمر الدنيوي، وجعله الزمخشري نفوذا حسيا باعتبار الهروب والسير والشيء فيها، فيكون أمرا آخر، وبإحالة إنذار من عذاب الآخرة، قال ابن عرفة: ويكون جملة على الأمرين إن كان النفوذ للقدر المشترك بينهما، فهو الذهاب الحسي والمعنوي، ويصح هنا لأنه في سياق النفي، ونفي الأعم يستلزم نفي الأخص، لأن الآية في معنى نفي الاستطاعة عنهم، وإن كان المراد بالنفوذ الأمر الأخص بكل [واحد من ذينك تحسين*]، فيكون لفظا مشتركا فيجيء فيه تعميم اللفظ المشترك، لكنه في سياق النفي فهو أخف من الإثبات، قال ابن عرفة: قيده بالاستطاعة، ولم يقل إن قدرتم، مع أن القدرة أعم لقوله صلى الله عليه وسلم: "إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ" ففاعل الشيء بمشقة قادر غير مستطيع، فأما أن نفي الأخص أعم من نفي الأعم، قيل له: يبقي القدرة مع مشقة، فقال. يقول: أنهما متساويان، والقدرة أخص. قوله تعالى: (مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ). قال: من لابتداء الغاية وانتهائها، قيل: إن كان النفوذ الحسي فظاهر، وإن أريد النفوذ المعنوي فلا مبدأ له ولا منتهى له، لأن مبدأه من النظر في السماوات والأرض الحسية، ومنتهاه الأمور المعنوية، وهي من غير كرة، فقال ابن عرفة: هي منفية من باب أحرى، لأنهم إذا عجزوا بعدم القدرة عن النظر في الأمر الحسي فقط، فهو شيء واحد، فأحرى أن يعجزوا عن النظر الحسي والمعنوي (لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ)، فقدم الإنس على الجن،

(35)

فأجاب ابن عرفة: بتعجيز الفصاحة في الكلام والبلاغة، وأكثر ما عهدت من الإنس وهذه تعجيز فالقدرة والقوة وأكثر ما عهد ذلك من الجن. قوله تعالى: (لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ). إن أريد الأمر المعنوي فالسلطان حجة، والدليل المعنوي، وإن أريد الحسي والسلطان الملك، والدليل الحسي. قوله تعالى: (لَا تَنْفُذُونَ). في موضع الحال، قيل لابن عرفة: يلزم عليه المفهوم، فيكون مفهومه أنهم لا يعجزون عنه حالة نفوذهم، فقال: السالبة الجزئية عندهم دائمة بالإطلاق، يقول: لا شيء من الإنسان حمار، قال: ووجه تعقيبها بالآلاء، لأن العاجز عن القيام إذا بطل لنفسه، وكونه قادرا على القعود يستحضر أنه لو كانت قدرته على القعود مستندة لنفسه أقدر على القيام، فدل على أنه لَا حكم، وأن الله تعالى هو الذي أقدره على القعود فحمد الله تعالى على تلك النعمة، وكذلك استحضارهم العجز والقصور عن ذلك سبب في حصول الاتعاظ لهم، والانزجار، وهذه فائدة عظيمة، قيل لابن عرفة: فعلم المنجمين هل هو من هذا؟ فقال: إنما مستندهم فيه لأمور عادية [**تجر بعينه، أو يقول إنه عيب فهو منفي بالآية]. قوله تعالى: {يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا ... (35)} قيل لابن عرفة: الضمير جمعه أولا، فقال: (إن استطعتم أن تنفذوا ... فانفذوا) وثناه ثانيا، فقال: (يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا)، فأجاب: بأنه أراد أولا الأشخاص، وهي كثيرة، وثانيا نوعي الجن والإنس، ووجهه أن التعجيز لأشخاصهم، وكل واحد لَا يستطيع النفوذ وإرسال النار على مجموعهم لَا على فرد، لأن فيهم الصالحون والأنبياء فيكون الأول كلية، والثاني كل، قيل لابن عرفة: يلزمك على هذا المفهوم في الأول، إذ لا يلزم من عجز كل فرد عن النفوذ، فقال ابن عرفة: الكلية تستلزم الكل، قيل له: الكلية لا تستلزم الكل، فقال: هذا يستلزم أليس عندنا أن السالبة الكلية ناقضها الموجبة الجزئية، فإذا قلت: [أي شيء من الإنسان حجر*] لزم أن لَا يكون مجموع الإنسان حجرا، قيل له: [**هذا في ذلك يقال]، وقد يقول لَا شيء من بني تميم يرفع الصخرة العظيمة، فلا يلزم الكلية [للكل*]، لأن مجموعهم رفعها، قال ابن عرفة: كون الآية من المقال الأول الذي يستلزم فيه الكلية [للكل*]، وأجاب بعض الطلبة: بأن القضية [هكذا*] في الآية كانت كلا فدخل السلب عليها فنفاها باعتبار الكلية، والكل بخلاف قولك: الإنسان يرفع الصخرة العظيمة، فإنه كل يدخل السلب عليه فنفى

(37)

الكلية، قيل لابن عرفة: إن كان المرسل إليه لزم الإرسال المقصود به الجميع، فكيف يكون المقصود به الجمع، ويقع البعض قرب البعض، فقال: إما كون من الله تعالى ومن يقصد منه إلا البعض، أو يكون أمر الله مَلكا بإرسال العذاب عليهم وقصد الملك بإرسال الجميع، ووقع العذاب بالبعض دون البعض. قوله تعالى: (شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ). قيل: لونه أخضر، قال ابن عرفة: ولذلك نجده [في لونه*]: إذا عمله في [**النار يظهر تارة لوقته]، وتارة لخضره. قوله تعالى: (وَنُحَاسٌ). قيل: هو الدخان، قال ابن عرفة: كانوا في العهود القديمة في تونس يسمون سوق الغلالين الذي بخارج باب قرطبة سوق النحاس، لكثرة الدخان فيه. قوله تعالى: (فَلا تَنْتَصِرَانِ). قيل لابن عرفة: انتصر مطاوع انتصره، فانتصر فيستلزم الطلب بنفي استلزام الطلب من الجانبين، وهو حصول النصرة عن طلب من الجانبين فتبقى النصرة على غير طلب غير منفية، فقال ابن عرفة: تنفى من باب أحرى. قوله تعالى: {فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ ... (37)} الفاء للتعقيب، فإن قلت: لم أفرد السماء، وعرف القرآن جمعها، فأجاب ابن عرفة: بأن السماوات مختلف فيها، فمذهب أهل السنة أنها مفترقة بعضها من بعض، وبينها [**نصا، وخللا كثيرا]، ومذهب المعتزلة أنها متلاصقة مختلطة، فلو قال: إذ شقت السماوات لتوهم انشقاقها بانفصال بعضها من بعض، وأجاب بعض الطلبة: بأن المراد السماء المعهودة التي نحن نشاهدها، وهي سماء الدنيا، ورده ابن عرفة: بأن هذا إخبار عن حال الآخرة لَا عن حال الدنيا، وأجاب غيره: بأن إفرادها إشارة إلى أنه إذا كان انشقاق الواحدة منها أمرا [مهولًا مفزعًا*]، فأحرى المجموع وشبهها بالوردة في الإنسان، لأنه مناسب للون النار التي يقع بها العذاب حينئذ، قال ابن عرفة: وانظر هل التشبيه راجع [إلى الوردة*]، فهل المراد أنها مشبهة بالوردة ولونها، [أو أنها*] مشبهة بالوردة المشابهة للدهان، يحتمل الأمرين، فإِن قلت: هذا قياس على الفروع، وهو ممنوع عندهم، قلت: إنما ممنوع في القصة، وأما في الأصول فهو جائز، ويكون القياس على الفرع حتى [**نشر الفرع]، قيل له: هلا شبهه بالدهان من غير قياس، ولا فائدة،

(39)

إذن في تشبهها بالوردة، فقال: شبهه بالوردة المشابهة للدهان، ولو اقتصر على تشبهها بالوردة، لأفاد الاحمرار فقط، وذكر الدهان يفيد الاحمرار والرطوبة. قوله تعالى: {فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ ... (39)} التنوين عوض لها من انشقت، أو من كونها وردة، قيل لابن عرفة: هما متلازمان فقال: بل بينهما مختلف، بدليل عطفهما بالفاء، قال: ويحتمل أن يريد المجموع، أي فيومئذ يرجع ذلك كله، قال: وهذا نظير مسألة وردت من بجاية في مفقود، أخذ القاضي فيه بمذهب ابن القاسم، أنه معمر سبعين سنة، وأثبتوا أن عمره يزيد على السبعين، وحكم القاضي بموته فورثه ابن عم له موجود حينئذٍ، ثم وجد له ابن عم آخر أقرب من الأول، وادعى أن أباه حيا عند بلوغ المفقود سبعين، وأنه يحجب هذا ابن العم الموجود الآن، وأثبت ذلك بالبينة، وطلب الاختصاص بميراث ابن عم أبيه، فهل يرث المفقود ابن عم الموجود حين بلوغه السبعين؟ أو ابن عم الموجود حين الحكم [بموته*]، والمسألة وقعت نظيرتها في كتاب العتق الأول من المدونة فيما إذا أعتق نصف عبده، ثم فُقِدَ السيد، لم يعتق باقيه في ماله، [وأوقف ما رق منه؛ كأنها في ماله إلى أمد لَا يجيء بمثله، فإذا بلغ تلك المدة جعلنا ماله لورثته حينئذٍ، فتكون لوارثه يومئذ إلا أن تثبت وفاته قبل ذلك، فيكون لوارثه يوم صحة ثبوته*]، وظاهرها أن ماله لابن عمه الأول (¬1)، لكن أجاب ابن عرفة: بأن ثبوته حينئذ يحتمل أن يكون عوضا من جملة [جعلنا يوم الحكم لَا من جملة بلوغ تلك المدة*]. قوله تعالى: (إِنْسٌ). قال الزمخشري: أي بعض الإنس، أو بعض الجن، قال: وهذا يحتمل أن يكون البعض الآخر، يسأل ولا يسأل، لأنه قد تفرد في علم المنطق، أن ليس بعض قد تكون مبالغة كلية، فيقتضي السلب الكلي، قيل: لو أراد هذا لأخرج الآية عن ظاهرها، ولم يقل: معناه بعض النَّاس، فقال: فسره بذلك ليفيد الجواب: عن سبب نسبه الضمير في قوله تعالى: (رَبِّكُمَا)، قيل له: يفيد هنا أن يقول المراد لَا نسأل [أحدا*] من الإنس عن ذنبه، فقال: كلامه محتمل للتعبيرين، قال: وما لَا ذنب له [تتناوله الآية، ويكون كقوله*]: "عَلَى لَاحِبٍ لَا يَهْتَدِي بِمَنَارِهِ" قال الزمخشري في قوله (كَالدِّهَانِ)، فقال: هو من الكلام الذي يسمى التجريد كقوله: فَلَئِنْ بَقِيتُ لأَرْحَلَنَّ بِغَزْوَةٍ ... تَحْوِي الْغَنائِمَ أَوْ يَمُوتُ كَرِيمُ قال ابن عرفة: أراد أنه جزء من الوردة يعني الدهان فقط، ومثله ابن مالك بقوله: ¬

_ (¬1) نص المسألة في المدونة هكذا: "أَرَأَيْتَ إنْ أَعْتَقَ رَجُلٌ نِصْفَ عَبْدِهِ وَالْعَبْدُ جَمِيعُهُ لَهُ ثُمَّ فُقِدَ الْمُعْتِقُ فَلَمْ يَدْرِ أَيْنَ هُوَ؟ قَالَ: قَالَ مَالِكٌ: مَالُ الْمَفْقُودِ مَوْقُوفٌ حَتَّى يَبْلُغَ مِنْ السِّنِينَ مَا لَا يَجِيءُ إلَى تِلْكَ الْمُدَّةِ، فَإِذَا بَلَغَ تِلْكَ الْمُدَّةَ جَعَلْنَا مَالَهُ لِوَارِثِهِ يَوْمَئِذٍ قَالَ مَالِكٌ: وَإِنْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ مَاتَ قَبْلَ ذَلِكَ جَعَلْنَا مَالَهُ لِلَّذِينَ كَانُوا يَرِثُونَهُ يَوْمَ مَاتَ، فَهَذَا الْمُعْتَقُ أَرَى أَنْ يُوقَفَ نِصْفُهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَدْرِي لِمَنْ يَكُونُ هَذَا النِّصْفُ الَّذِي لَمْ يُعْتَقْ وَإِنَّمَا يَكُونُ هَذَا النِّصْفُ الَّذِي لَمْ يُعْتَقْ مِنْ الْعَبْدِ لَمْ يَرِثْ الْمَالَ قُلْتُ: وَلَا يُعْتِقُهُ فِي مَالِهِ؟ قَالَ: لَا، لِأَنِّي لَا أَدْرِي أَحَيٌّ هَذَا الْمَفْقُودُ أَمْ مَيِّتٌ فَلَا يُعْتَقُ فِي مَالِهِ بِالشَّكِّ". اهـ.

(41)

[ ... ] ومثلوه أيضا بقوله تعالى: (جَزَاءُ أَعْدَاءِ اللَّهِ النارُ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ). قوله تعالى: {يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ ... (41)} قال الفخر [**في مقاربة المعقول]: المعرفة من باب التصورات، والعلم من باب التصديقات، وكذلك قال ابن الأنباري في شرح البرهان، والقرافي في شرح المحصول، ورد ابن عرفة: بأن القائل: عرفت زيدا حسن، أن يقال له: صدقت أو كذبت وقد فرق المنطقيون بين التصور والتصديق، فجعلوا الصدق والكذب من عوارض التصديق لَا من عوارض التصور، قيل لابن عرفة: إن ابن العربي جعل العلم والمعرفة شيئا واحدا، ذكر ذلك في شرح الأسماء الحسنى فأنكر ابن عرفة، وقال: خالفت فيه النَّاس النحويون والأصوليون، فإنهم قالوا: لَا يصح خلق المعرفة على الله تعالى؛ لأنها توهم تقدم الجهل، وأنه كان العلم أولا ثم عرض عنه [سهوا ونسيانا*]، ثم في المعرفة بعد ذلك، وعليه قال صاحب الجمل في قوله تعالى: (لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُم)، لَا تعرفونهم الله يعلمهم، وهذا من حيث الإطلاق فقط، قال ابن عرفة: ففي الآية مأخذان فرعي وأصولي، أما الفرعي فالاكتفاء في أداء الشهادة بالصفة، وهو أن الشاهد إذا رأى شهادته وخطه وعاين صفات المشهود عليه، وقابلها مع ما في الوثيقة، فعلم أنه هو الذي شهد عليه، وأنه يؤدي شهادته، ويقوم بها، ووجه الدليل من الآية أنها اقتضت كون المعرفة بالسيماء سببا في الأخذ بالنواصي والأقدام، قيل لابن عرفة: السيماء هنالك لَا [تتشابه*] على الملائكة، وفي الدنيا تجد الصفات متشابهة، وكثير من النَّاس تتفق صفاتهم، فقال: بين إدراك المشابهة صفة المشهود عليه، وبين حصول العلم له بعد إدراكها أنه هو الذي كان شهد عليه فما كلامه فيه إلا بعد حصول العلم بذلك، وأما قبله فلا خلاف، أنه لَا يحل له، أو لشهادته، قال: وإنما الجواب: أن الدار ليست دار تكليف دار الدنيا، وأما الأصولي فهو التعريف بالخاصة، وقد ذكروا ذلك في المعرفات، والصحيح عندهم جوازه، ونقل ابن الحاجب وغيره عن تفسير السمرقندي منع التعريف بالمفرد، أما الجنس وحده أو خاصة وحدها، قال: والمتقدمون لم يكونوا يعرفون بذلك، وإنَّمَا يعرفون بالمركب من الجنس والخاصة، واختاره ابن الشيرازي شارح ابن الحاجب، والكل على خلافه، لأنهم ذكروا في المعرفات الرسم الناقص. قوله تعالى: {هَذِهِ جَهَنَّمُ ... (43)}

(44)

أي يقال لهم: هذه جهنم، فالمشار إليه حسي حاضر في الوجود، ويحتمل أن يكون حاضرا في الذهن، ولا يحتاج تقدير القول. قوله تعالى: {يَطُوفُونَ بَيْنَهَا ... (44)} أي بين [نارها*] وبين حميم. قوله تعالى: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ (46)} يحتمل أن يكون كلية، أو [كلًّا*]، أي لكل الخائفين جنتان، أو لكل واحد جنتان، وهذا [وجه*] ووجه الأول أن يكون كليا، [وتثْنيةُ (جَنَّتَان) باعتبار*] النوع، وإلا فالجنات أكثر من ذلك، وعلى الثاني تكون جنتان [للشخص*]، فيكون لكل واحد جنتان لا يشاركه فيهما غيره، قال ابن عطية: فإضافة القرب فيهما معنوية، أي تهويل ومهابة، كقولك: عبد الخليفة وعبد الحجاج، فالإضافة تكسب المضاف إليه، مهابة أو [تحقيرا*]، قال ابن عرفة: واسم الرب دليل على أنه إذا خاف مع استحضاره وصف الحال، فأحرى مع استحضاره غيره، قال ابن عرفة: وعندي في الآية حذف تقديره، ولمن خاف هول مقام ربه، قال: فإن قلت: لما عبر بالفعل؟ فهلا قال: وللخائف مقام ربه؟ قال قلت: هذا إدخال في باب الرجاء والطمع، إشارة إلى حصول ذلك، لمن اتصف بمطلق الخوف لَا مبالغة. قوله تعالى: {فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ (50)} مع أن سمى العين لَا تصدق [إلا على الجارية*]، والماء الراكد ليس بعين، إشارة إلى أن المراد تجريان حيث يريدون، فذكر الفعل دليل على هذا القدر. قوله تعالى: {فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ ... (52)} قال ابن عرفة: يحتمل أن يراد أن طعام أهل الجنة كله فاكهة، ويحتمل أن يكون اكتفى يذكر الفاكهة عن ذكر الطعام والشراب المحصل للقوت، قيل له: إن أهل الجنة ليس فيها ألم حيث يحتاج فيها إلى الطعام المحصل للقوت، فقال: يحتمل أن يكون نفي الألم لملازمة الطعام والشراب، كما نجد بعض النَّاس في الدنيا لَا يذوق في عمره ألم الجوع. قوله تعالى: (زَوْجَانِ). قال الزمخشري: ثناهما باعتبار القرابة والكثرة، فأحدهما أكثر معهود في الدنيا، والآخر غريب لم يكن بمعهود في الدنيا، وإلا فقد نجد في الدنيا من كل فاكهة

(54)

أزواجا، قال ابن عرفة: ويكون التنبيه للكثرة مثل (فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ (3) ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ)، قيل لابن عرفة: هذه الآية تدل على أن الأفنان في قوله تعالى: (ذَوَاتَا أَفْنَانٍ)، جمع فن، فتكون تلك أخبرت عن الأغصان، وهذه عن الفاكهة التي في الأغصان، ولو كانت جمع فن للزم عليه التكرار من هذه. قوله تعالى: {مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ ... (54)} قال ابن عرفة: الاتكاء في الفراش على المرفقة لَا على الفراش، لكن لما كانت المرفقة موضوعة على الفراش استلزمتها، وهذه من لذات الآخرة، وهي في الشرع في الدنيا مكروه حالة الأكل، وقال الغزالي في الإحياء: يجوز الاتكاء في حالة التفكه، ولا يجوز في حالة أكل كل الطعام القوت، واحتج برواية نقلها عن علي وغيره، وإن كانت أدلة الإحياء ورواياته فيها الصحيح، وغيره. قوله تعالى: (وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ). قال أبو حيان: قرئ (وجنى) بالإمالة، قال ابن عرفة: وهذا الذي ذكروا أنها إمالة، ابن عرفة: [**لا تسمع الإمالة إلا في الراء والنون]. قوله تعالى: {فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ ... (56)} قاصرات أطرافهن على أزواجهن، أو قاصرات أطراف أزواجهن عليهم. قوله تعالى: (لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ). قيل لابن عرفة: ما أفاد (قبلهم)، فقال: لاحتمال أن يكون صاحب المنزلة العليا اقتضها، أعني الحور العين، وعرض الأعلى منها، ودفعت هي لمن دونه في المنزلة، فأفاد هذا الاحتمال لكونه. قوله تعالى: (وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ). قال ابن عرفة: انظر قول الله عز وجل، (وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى)، فإن المحكوم له هناك أخص وهي كونه من المأوى، وأجاب بعضهم: بأن في تلك الآية تكرمة، فحاصله أنه هناك يرجع إلى الكمية، وهنا إلى الكيفية، لكنه يرد هنا سؤال، وهو لم حكم له هناك بالكمية، وهو هنا بالكيفية؟ قوله تعالى: (قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ).

(60)

الظاهر عندي أنهن يقصرن أطراف أزواجهن عليهن بكمال حسنهن، لَا ما ذكره المفسرون من كونهن مقصورات على الأزواج، ولا يلزم من قصرهن عليهم كمال حسنهن، فإِن المرأة الشوهاء قاصرة على زوجها مع انتفاء الحسن عنها، [بل*] المعنى أنهن يقصرن طرف أزواجهن عليهن بحسنهن، بحيث لَا يبقى للزوج تشوق إلى غيرهن. قوله تعالى: (لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ). قيل لابن عرفة: النفي الماضي تحقيقا أو تقديرا، فما فائدة قولهم [قَبْلَهُمْ) *]: فائدته تشريف الأزواج والاعتناء بهم أولا فوقع الإطناب بتشريفهم ثانيا. قوله تعالى: {هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ (60)} قال ابن عرفة: قدرها بعضهم على أنها تأكيد وزيادة تنصيص في النعم، لأنه قد تقدم (وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ)، موصوفان بأنهما ذواتا أفنان، فإِن فيهما عينان وزيادة تنصيص في النعم، لَأنه قد تقدم بأن ذلك كله إحسان من الله تعالى. قوله تعالى: {فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ (68)} قال بعضهم: لَا نسلم أنه من عطف خاص على عام، بل من باب عطف مخالفان، فإن الفاكهة ما يتفكه به، والنخل المعطوف المراد به الشجر لَا ثمرها. * * *

سورة الواقعة

سُورَةُ الْوَاقِعَةِ [قوله تعالى: (إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (1) الزمخشري: وَقَعَتِ الْواقِعَةُ كقولك: كانت الكائنة، وحدثت الحادثة، والمراد القيامة: وصفت بالوقوع لأنها تقع لا محالة، فكأنه قيل: إذا وقعت التي لا بدّ من وقوعها، ووقوع الأمر: نزوله*] [ ... ] ليس هذا من قولك: إذا كان هذا إنسانا فهو إنسان، حتى يكون من تحصيل الحاصل، بل هو من نحو قولك: إن كان هذا إنسانا فلا امتراء في إنسانيته. قوله تعالى: {أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً (7)} قد يؤخذ منه أن أقل الجمع ثلاثة. قوله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10)} [أفرد*] هؤلاء مع أنهم من أصحاب اليمين، إما تشريفا لهم فالمراد أن أصحاب الميمنة منهم قوم جاوزوا السبقية، فانفردوا بها عن سائرهم، وإما إشارة إلى السابقين منهم الأولون لَا تقسيم فيهم، ومن عاداهم من الخلق يقسمون إلى أصحاب ميمنة، وأصحاب مشأمة، وتقديم أصحاب الميمنة على القسم السابقين باعتبار الكثرة، إما في نفس الأمر، أو في الخطاب، لأن المخاطبين بالآية أصحاب الميمنة منهم أكثر من السابقين، وتقديمهم على أصحاب المشأمة بالشرف، وتقديم أصحاب المشأمة على السابقين بالكثرة، كما قدموا في قوله تعالى: (فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ)، وقال صاحب [ ... ] الأعمال: السابقون الأنبياء، [وأصحاب*] الميمنة من دونهم من الأولياء والمقربين، قال شيخنا: بل الظاهر أن السابقين أعم من ذلك وهم متقاربون فيما بينهم، بدليل قوله (وَكُنْتُمْ)، فالخطاب للجميع. وقوله تعالى: (ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (13) .. ، قلة من الآخرين، قيل: الثلة مطلق الجماعة، وقيل: يشترط الكثرة، فإِن قلت: ما الجمع بين هذا وبين قوله تعالى: (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ)، وقليل ما هم؟ قلت: هم قليلون في أنهم بالنسبة إلى العصاة، وإما آحادهم في أنفسهم فأولهم كثيرون بالنسبة إلى آخرهم. قوله تعالى: {عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ (15)} إما آخرها أو آحادها، فهل أخبر أن [واحدة*] منها منظومة، وكل واحد من السرر منظوم مع السرر الأخر. قوله تعالى: {مُتَقَابِلِينَ (16)} لكيلا [يرى*] كل واحد منهم من الآخر إلا إلى وجهه الذي هو أحسن ما ينظر إليه. قوله تعالى: {وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ (17)}

(18)

إن قلت: ما أفاد مخلدون؟ قلت: لأن صفة ولدان عارضة يسرع زوالها بصيرورتهم رجالا وشيوخا، فأفاد ذلك وصفهم في الخلود في هذا الوصف. قوله تعالى: {بِأَكْوَابٍ ... (18)} هو أحسن الأواني، وهو في المشرق كثير يسمونه [القدح*]، والترتيب في هذه المذكورات تدلي، لأن الأكواب فسروها الجرار، فهي أكبر [من*] الأباريق، والأباريق. أكبر من الكؤوس، قال الغزالي في آخر كتابه الإحياء: من يشتهي الولادة في الجنة يولد له، وقال عبد الحق: في العاقبة: يمكن أن تحمل وتلد ويشتد الولد في ساعة واحدة، ولكنهم لَا يشتهون ذلك، انتهى، وهذا أمر توقيفي لَا يصح الخوض فيه إلا بنقل صحيح. قوله تعالى: {مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ (20)} إن قلت: هلا قيل: مما يختارون، لأن تفعل يقتضي تكلف الفعل، واختار يقتضي مجرد وقوع الفعل دون تكلف، قلت: المراد لازم التكلف، وهو كون الشيء المختار في أعلى درجات الحسن، فهي دلالة التزام لَا دلالة مطابقة، وعكس الفخر، وليس بصواب، فإِن قلت: لم خص التخيير بالفاكهة، والشهوة بلحم الطير، قلت: لأن ما يتفكه به يكون متنوعا متعددا، فتناسب التخير بخلاف لحم الطير، وأيضا فإن الفواكه قربته منهم، فإنها في الأشجار بين أيديهم، والطير بعيد عنهم، والعادة أن الشيء إذا كان قريبا فإِن الإنسان يسأم منه، وعمل فيتخير فيه بخلاف ما هم بعيد، فإِنه لا يخير فيه بل يشتهيه. قوله تعالى: {وَحُورٌ عِينٌ (22)} قرئ (وَحُورٍ عِينٍ) فلعله مراعاة لعين، وإلا فحور جمع [حوراء على وزن حمراء*]، وهو جمع [**على حمى]. قوله تعالى: {كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ ... (23)} إن قلت: لم أتى هذا على الوجه الأضعف في التشبيه، لأن الأبلغ فيه قولك: أسد، ثم قولك: زيد كالأسد، فالجواب: أنهن لَا يشبهن اللؤلؤ إلا في وجه واحد، وهو صفاؤه وإشراقه، لَا في جميع صفاته، لأن منها كونه دقيق الحلقة، جمادا لا يعقل، وجمع أمثال لجمع الحور. قوله تعالى: {لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا ... (25)}

(27)

هذا يعبر عنه البيانيون، لأنه من باب نفي الشيء بإيجابه، مثل "عَلَى لَاحِبٍ لَا يَهْتَدِي بِمَنَارِهِ، وإن شئت قلت في العبارة: أنه من باب نفي الشيء نفي لازمه، والمعنى واحد لأن قوله لَا يهتدى بمناره، يوهم في الظاهر أن له منارا، أو كذلك قوله تعالى: (لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا)، يوهم أن فيها لغوا وتأثيما غير مسموع لهم، والمقصود أنه ليس هو فيها بالأصالة، وفي سورة الطور (لَا لَغْوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ)، فلا يقال: لَا يلزم من نفي السماع نفي الوقوعِ، وذكر عدم السماع، لأن ما بعده وهو سماع السلام، وهذا كقوله تعالى: (أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ)، فيقال: ما أفاد ذكر السيارة مع دخولهم في مدلول (لكم)؟ فيجاب: بأنه ذكر لأجل ما بعده من ذكر، ولما كان السيارة بفرضيته الترخص والتخفيف عليهم نص عليها مع دخولهم في قوله تعالى: (وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ)، واللغو أعم من التأثيم، لأنه قد لا يكون فيه إثم، فقدم عليه كما قدم في قوله تعالى: (لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا)، وقوله تعالى: (يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ)، [لإفادة*] المساواة بين اللغو والتأثيم، أو ليدل الكلام مرتين بالمطابقة والالتزام. قوله تعالى: {وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ (27)} كررها في أول السورة وهنا، فهو إما أجمل أولا وفصَّل هذا، وذكره أولا من حيث الإجمال، وهنا من حيث [الجزاء*] المرتب عليه، والمراد [أن*] من يأخذ كتابه بيمينه، أو أصحاب اليمين محلهم عن يمين العرش، والأول أظهر، وقال عياض في الإكمال في كتاب الإمارة في حديث: " [إِنَّ الْمُقْسِطِينَ عِنْدَ اللهِ عَلَى مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ، عَنْ يَمِينِ الرَّحْمَنِ عَزَّ وَجَلَّ*] "، قال المفسرون: أصحاب اليمين أصحاب المنزلة الرفيعة، وقيل: يسلك بهم يمينا إلى الجنة، وقيل: لأن الجنة عن يمين النَّاس، وقيل: سموا بذلك، لأنهم [ميامين*] (¬1) على أنفسهم، وبعده أصحاب الشمال، وقيل: لأن أودعهم أول الخلق جانب آدم [الأيمن*]، وبعده أصحاب الشمال، انتهى، والمناسب حمله على مطلق الصحة ليتناول الملازم من باب أحرى، وذكر السدر [(28)] إما لما قالوه: إن بعض النَّاس يتمنى أن ¬

_ (¬1) أي: مبارَكين.

(30)

يكون له في الجنة السدر، وإمَّا لأنه من باب التنبيه بالأدنى على الأعلى، لأنه إذا كان مثل ذلك في الجنة محصلا للنعيم، ونوعا من أنواعه، فأحرى ما هو أعلى منه. ومخضود، قيل: لَا شوك فيه، وقيل: لَا ثمر فيه، فعلى الأول: يكون الوصف بـ (مخضود) [حاجيًّا*] وعلى الثاني: يكون [تكميليا*]، واختلف الزمخشري وابن عطية في مسمى الطلح، فقال الزمخشري: شجر أم غيلان، وقال ابن عطية: شجر السدر، والصحيح الأول، وجعل السدر [ظرفا لهم*]، لأنه أشجار متعددة، وهم بينها، [وفي حديقتها*] وهي محتفة بهم. قوله تعالى: {وَظِلٍّ مَمْدُودٍ (30)} أي لأنه تقلص فيه إذ لا شمس هنالك فكلها ظل. قوله تعالى: {وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ (32)} وقال قبلها (وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ)، والتخيير على الكثرة، إذ لَا يتخير الإنسان إلا في الكثير، وتلك للسابقين، ففاكهتها كلها متخيرة، وهذه لمن دونهم ففاكهتها كثيرة يتخيرون فيها، والترتيب في هذه على سبيل الترتيب الوجودي، لأنه أول ما يدخل الإنسان [جنته*] في الدنيا، ينظر إلى أشجارها ثم يجلس في ظلها، [فينظر*] إلى الماء الجاري تحتها، ثم يطلب الفاكهة ليأكل منها، ثم إذا أكل يستريح، فيطلب الفرش لينام عليه (وَأَصْحَابُ اليَمِينِ مَا أَصْحَابُ اليَمِينِ)، وهذا [وأمثاله*] (الْحَاقَّةُ (1) مَا الْحَاقَّةُ)، (الْقَارِعَةُ (1) مَا الْقَارِعَةُ (2)، سؤال وهو أن المعلوم في أحد جزئي الجملة الابتدائية، يكون مبتدأ، والمجهول خبرا، لأن الخبر هو الجزء المستفاد من الجملة الابتدائية، وقد أتى أصحاب اليمين في الجملة الأولى مبتدأ، وفي الثانية خبرا، فإِما أن يكون معلوما أو مجهولا، وعلى كلا الأمرين فالسؤال وارد، وأجيب: [بأنه*] معلوم من حيث التصور، فصح كونه مبتدأ، ثم أخبر به بضمنه دلالته على التهويل والتعظيم، فإن قلت: إن ذلك إنما أتى مجموع العلة الدالة عليه وعلى إرادة الاستفهام، وكلامنا في الإخبار به وحده عن أداة الاستفهام، فالجواب: أن مجرد الإخبار به تعظيم؛ [كقوله*]: أنا أبو النجم وشعري شعري. قوله تعالى: {فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ (28)} ابن عطية: المخضود هو قطع شوكه، الزمخشري: هو الذي لَا شوك له، كأنه خضد شوكه أي قطع، انتهى، وهذا أحسن لإفادته أنه [لم يخلق*] فيه شوك أصلا، وبدأ

(33)

بالمحل، فإن لذة الإنسان به أشد من لذته بالمأكل والمشرب، لملازمته للمحل دون المأكل. قوله تعالى: {لَا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ (33)} بدأ بالمقطوعة؛ لأنها أعم من الممنوعة، لأن الممنوعة قد تكون موجودة ويمنعون منها، والمقطوعة ليست موجودة ألبتة، ونفي الأعم عندهم أخص من نفي الأخص، والقاعدة عند البيانيين في الترتيب البداية بالأخص، ثم بالأعم، فمقطوع أعم من ممنوع، فنقيضه لا مقطوع أخص من نقيض لا ممنوع. قوله تعالى: {إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً (35)} التأكيد بـ (إِنَّ) إما لأن على المخاطب تحايل الإنكار، أو لأنه جواب عن سؤال، وقد ذكر ابن مالك: في وجوه التأكيد كون الكلام جوابا عن سؤال مقدر، وأنشد عليه: بَكِّرَا صَاحِبَيَّ قَبْلَ الهَجِيرِ ... إِنَّ ذاكَ النَّجَاحَ فِي التَّبْكِيرِ وهو من قول بشار. وعبر بالإنشاء لأنه خلق مبتدأ لم يسبق بشيء؛ كما [يقول*] الأصوليون، إن الإنشاء هو اللفظ الذي لَا يثبت معناه [لثبوت متعلقه*] بخلاف الخبر، فإن معناه ثابت قبل ذلك، وكذلك أيضا الإنشاء هنا مخالف للإنشاء المتقدم، لأنه تركيب غير قابل للعدم، [**والجزم بخلق الله تعالى]، لأن العقل اقتضى ذلك كما تقول المعتزلة. وقوله تعالى: (فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا (36) .. ، إن أريد الحور العين فجعل بمعنى خلق، وإن أريد الآدميات، فهي بمعنى [صيَّر*]، لأن البكارة فيهن مسبوقة بالثيوبة، والآدميات أفضل لامتيازهن عن الحور العين، بالطاعة في الدنيا، [ويحتمل*] كون الحور العين أفضل، كما يجوز أن ينعم الله العاصي، ويعذب الطائع، فقد يكون [المفضول*] عندنا أفضل عند الله تعالى، الزمخشري: (وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ) [نضدت حتى ارتفعت*]، ومرفوعة على [الأسِرَّة*]، وقيل: هي إلينا لأن المرأة يكني عنها بالفراش، وعلى التفسير الأول اضمر لهن، لأن ذكر الفراش، وهي المضاجع دل عليهن، الطيبي: يحتمل أن يريد إضمار لفظة (لهن)، أي أنشأنا لهن، ويحتمل أن يكون الضمير في (أنشأناهن) عائدا على النشأ لدلالة الفراش عليهن، لملازمتهن للفراش، انتهى، هذا أنسب لما قاله المفسرون. قوله تعالى: {لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ (38)}

(39)

إما موضع الحال أي أترابا حالة كونهن لأصحاب اليمين، وإما متعلق بـ (أترابا)، أي هن من تراب أصحاب اليمين الرجال، أي النشأ أتراب الرجال في السن والقد، فإن قلت: تقييده بأصحاب اليمين على كل تقدير [ينفي*] ذلك على السابقين، وقد قال في تنعيمهم (وَحُورٌ عِينٌ)؟ قلت: أصحاب اليمين أخفض رتبة من السابقين، فإذا ثبت لهم هذا فأحرى [للسابقين*]. قوله تعالى: {ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (39) وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ (40)} أي جماعة من الأولين في الجنة، وجماعة من هذه الأمة فيها، قيل: في الجمع بينها على هذا، وبين قوله تعالى: (ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ * وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ)، أجيب: احتمال أن يريد أهل الجنة بالنوع لَا بالشخص، أي منكم الثلثان، [ومنهم*] الثلث، فأنتم أكثر من كل أمة على حدتها، قيل: بل [ظاهره*] أنهم أكثر من مجموع الأمم، أجيب: بأن الثلة مقولة بالتشكيك تطلق على الجماعة الكثيرة والقليلة، ولا تنافي بين الاثنين. قوله تعالى: {وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ (41)} هذه الآية وأمثالها حجة لمن جعل الصحبة حقيقة في معناها الأخص لَا الأعم، فإن قلت: نقلها عندهم من التواطؤ أو التشكيك، فهي في الأخص أولى، قلت: إذا تعارض حمل اللفظ على معناه حقيقة أو بطريق التواطؤ أو التشكيك، فحمله على الحقيقة أولى، فإن قلت: لعله مشترك، أو منقول اصطلاحا من المعنى الأخص إلى الأعم، قلت: من شرط النقل اتفاق أهل الاصطلاح على الشيء الذي نقل إليه، كما في الصلاة والنكاح والغائط، والمحدثون مختلفون في مسمى الصاحب، وسماهم أصحاب الشمال، لما في حديث الإسراء في آدم عليه السلام: "أنه [عَلَى*] يَمِينِهِ أَسْوِدَةٌ، وَعَلَى يَسَارِهِ أَسْوِدَةٌ"، أو لغير ذلك. قوله تعالى: {فِي سَمُومٍ ... (42)}

(43)

ابن عطية: هو الريح الحارة، الزمخشري: أي في حر نار تنفذ في المسام، انتهى، هذا أقرب إلى اللفظ، وهذا مقابل لنعيم أصحاب اليمين، [مقابل*] بثلاثة أوصاف: لأن السدر المخضود، والطلح المنضود، كالشيء الواحد، فإِن قلت: لم قدم الظل الممدود هنا على الماء المسكوب، وأخره هنا على الحميم المقابل للماء المسكوب؟ فالجواب: أن السموم وهي الريح الحارة تحدث وهجا ولهبا في الجسم فيلجئون إلى تبريدها بشرب الماء، فيجدونه حميما، فحينئذٍ يلجئون إلى الظل فالاحتياج إلى الماء أشد منه إلى الظل، بخلاف حالة النعم، فإِن المأكل فيها رطب لَا يلجأ إلى شرب الماء، فالحاجة إلى الماء تكميلية، والظل ملازم للجنة والشجر، فلذلك قدم. قوله تعالى: [(وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ (43) *] فإِن قلت: هلا قيل (وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ)، [حارٌّ ضارٌّ*]، فلم أتى به منفيا؟ فأجاب الزمخشري عليه [باستعماله في معناه الأخص*]. قوله تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ (45)} علل عذاب هؤلاء ولم يعلل نعيم هؤلاء، لأن الثواب عندنا محض تفضل من الله تعالى، لَا جزاءً عن العمل، والعقاب محض عدل، وجزاء عن السيئات، وهذه أجزاء علة واحدة، وليست عللا متعددة، والآية حجة لمن يقول: إن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة، وحجة لمن يقول: إن عذاب أهل النار، ونعيم أهل الجنة حسي، ورد على من زعم أنه معنوي، وهو قول حكاه الفخر في المعالم بأن [ ... ]، فإِن قلت: لم قال مترفين [(45) *] فعبر بالاسم؟ [وعادتهم*]: يعبرون بالفعل، قلت: إنه إشارة إلى تزايدهم في الأمر، أو أنهم مهما أتاهم النبي صلى الله عليه وسلم بمعجزة أظهروا لها [**إنكارا يخصها] وزاد في تعنتهم، وأما الإتراف فهو ملازم لهم. قوله تعالى: {وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا ... (47)} هذا فرق، لأن الوصف الأول تضمن تنعمهم بالحرام، والثاني: [الكفر بالإسلام*]، لإضافة الشريك إليه، وهو أشد، والثالث: نسبته إلى العجز عن إعادة المعدوم، وهو أشد من الأولين، فإِن قلت: لم قدم التراب على الطعام مع أن صيرورتهم ترابا في الوجود الخارجي متأخر عن صيرورتهم عظاما؟ فالجواب من وجهين: الأول: أن التراب بالنسبة إلى لحومهم فقط، وهو مقارن للعظام. الثاني: أن الإنكار تعلق بإعادتهم بعدما صاروا ترابا وعظاما، فيدل من باب أحرى على إنكار الإعادة من الجسم الذي كله تراب، فإِن قلت: هؤلاء قالوا: أينا نبعث بلفظ

(53)

الفعل، فيكون [إنكارًا لمطلق البعث*]، فيستلزم إنكار البعث المؤكد، لأن نفي الأعم يستلزم نفي الأخص، فالجواب: أن هذا من الإنكار الأخص لَا من إنكار الأخص، وتقريره أنه إنكار لَا يستلزم الأخص، [لأن إنكار الأخص، كمن أنكر قيام زيد*] المدلول عليه بقول القائل: إن زيدا قائم فأحرى أن ينكر قيامه المدلول عليه بقولك: قام زيد، فإِن قلت: ما الفائدة؟ فلو قدموا إنكار بعث آبائهم لكان أعم فائدة؛ لأن إنكارهم بعث آبائهم لَا يستلزم إنكارهم بعث أنفسهم، لأن آبائهم صاروا رميما، وطالت مدتهم، فلا يلزم من [استبعادهم*] بعثهم استبعادهم بعث أنفسهم بخلاف العكس؟ فالجواب: أن المستحيلات كلها متساوية لَا يقال في بعضها: إنه أولى، كاستحالة اجتماع النقيضين، فإِنه متساو في الجميع، فإِن قلت: إنما ذلك في المستحيلات العقلية التي تكلم فيها الحكماء، ومن له بصيرة، وهؤلاء لم يكن لهم معرفة بالعلوم [فلذلك نفوا البعث والإعادة*]، ولا شك أن المستحيلات بالإعادة متفاوتة فاستحالة بعث آبائهم أولى وأشد من استحالة بعثهم هم، فالجواب: أن ما نفوا ذلك إلا [عقلا*]، ولهم إدراك في ذلك، وأما الوجود فهو بالنسبة إلى الممكن متفاوت فإِطلاقه على الأب أولى من إطلاقه على الابن، وبالنسبة إلى الواجب شيء واحد لَا تفاوت فيه، وكذلك المستحيل عقلا واجب لَا تفاوت فيه من تعلقاته، لكن يجاب عن هذا كله بأن تعليل الحكم [بوصف*] حاصل أقوى من تعليله بوصف مقدر، فاستحالة بعث المعدوم الحصول أقوى من استحالة بعث ما قدر انعدامه، وهذا ذكره المنطقيون فقالوا: القضية المحصلة تنعكس كنفيها، وعكس النقيض [ ... ]. أخبار العذاب النازل بهم فناسب مفاجأتهم بالخطاب، لأنه أقوى، أو نقول هذا خطاب لمن [قاد*] المبطلين، كما أن عقوبة أبو الحسين البصري من المعتزلة أشد من عقوبة سائرهم، لأنه أول من [أقر*] حجج المبطلين، وكذلك هنا الخطاب لقريش [وأهل*] مكة، فإِنهم الذين [كفروا*]، وكانوا يأتون بالعظم الرميم، فيقولون هذا يبعث ويرجع حيا، والمهلة إما زمانية أو معنوية، أو هما معا، فيجيء فيه تعميم المشترك، إن كانت مشتركة، أو استعمال اللفظ الواحد في حقيقته ومجازه، إن كانت حقيقة في أحدهما مجازا للأخر، أو للقدر المشترك بينهما، والضال أعم من المكذب، لأن كل مكذب ضال، ولا ينعكس، فالمعتزلة ضالون مطلقا، وليسوا مكذبين إلا عند من يكفرهم. قوله تعالى: {فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ (53)}

(57)

الفاء للتعقيب، وهذا احتراس، فإن الأكل من الشيء القبيح لَا يستقبح منه ما قل، باعتبار العادة، إذ قد يكون في الدنيا للتداوى والاستكثار من ذلك غير معهود، فإِن قلت: لم قال: البطون، ولم يقل بطونكم؟ قلت: إشارة إلى أنهم لَا يأكلون في بطونهم المعهودة، بل في بطون أخر، لحديث "يعظم خلق الكافر في جهنم"، وجواب الفخر بحديث: "إن الكافر يأكل في سبعة أمعاء، والمؤمن يأكل في معي واحد"، يرد بأن الحالة في هذه الدنيا والآخرة، ويجاب أيضا: بجواب آخر، وهو إشارة إلى أنهم لَا يراعون أنها بطونهم، فيتحفظون عليها من كثرة الأكل؛ بل يرضونها ويحثونها، ولا يتحفظون عليها، [ولا يتركون فيها فراغا للنَّفَس*]، حتى [كأنها*] بطون غيرهم، وفي سورة الصافات نظير هذه الآية وتقدم الكلام فيها. قوله تعالى: {فَلَوْلَا تُصَدِّقُونَ (57)} يحتمل أن يراد التصديق الأصلي، أو المنطقي، فالأصلي من أقسام الخبر، لأنه هو الخبر المطابق، والمنطقي هو الحكم على الماهية بنفي أو إثبات، وهو ضد التصور، فإِن أريد تصديقهم بمقتضى هذا الخبر، وهو نحن خلقناكم فهو الأصلي كما تصدق زيدا في قوله: قام عمرو فإن أريد اعتقادهم أن لَا فاعل إلا الله فهو المنطقي، وهو أمر عقلي، والأول سمعي، ولولا للتخصيص، وذكر ابن بابشاذ وفي مقدمته أنها مع العاصي للتوبيخ، وجعلها ابن عطية: للتفريع والتقرير. قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ (58)} قيل: المراد به آدم عليه السلام، لأنه خلق من تراب، فالاستدلال به على جواز الإعادة أقوى بالاستدلال من خلقنا نحن من النطفة، رد بأن خلق غير آدم عن عدم صرف فهو أقوى في الاستدلال مما خلق عن وجود. قوله تعالى: {أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ (59)}

(60)

وقع الإنكار هذا [ترديد*] بين خلقهم، وخلق الله تعالى، وفي سورة الطور (أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ)، بالترديد بين خلقهم من غير شيء، وخلق أنفسهم، والجواب: إن هذه مانعة الجمع، فإن قلت: لم عبر في الأول بالفعل، وفي الثاني بالاسم؟ قلت: كان المقصود بالأول نفي الخلق عنهم، فناسب الفعل، لأنه مطلق يصدق بصورة، فإذا انتفى [عم*]، لأن نفي الأعم يستلزم نفي الأخص، والمقصود بالثاني: ثبوت الخلق لله تعالى، فناسب الاسم للثبوت والدوام، الزمخشري: ومنها دليل لمن يقول بالقياس، انتهى، يريد بالقياس المنطقي المضاد للتصور، وليس مراده الأصلي؛ لأن هذا ليس بقياس تمثيلي، وإنما هو استدلال. قوله تعالى: {قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ ... (60)} دليل على أن الموت أمر وجودي بناء على أن العدم الإضافي لَا يكون [أثرا*] للقدرة. قوله تعالى: {وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ (61)} فيه رد على [الطبائعيين*] القائلين: بأن النفوس البشرية ألفت أجسادها بالطبيعة، ولو تركبت في غيرها لما أمكن ذلك عندهم، ونحن نقول: الأجساد كلها متساوية في الحد والحقيقة. قوله تعالى: {أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (64)} جاء على الأصل في كون الجملة الأولى: فعلية، لأن المراد نفيها، والثانية: اسمية؛ لأن المراد ثبوتها. قوله تعالى: {لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا ... (65)} (لَوْ) حرف امتناع، قال النحويون: امتنع الثاني لامتناع الأول، ونص عليه ابن السراج، وابن مالك، وغيرهما، وأبو حيان في أول البقرة، وقيل: بل المراد أن الأول امتنع لامتناع الثاني، نص عليه ابن التلمساني، وابن الحاجب في شرح مفصل الزمخشري، وفي تأليف له خاص [**لوجد أن عن النحويين ما تقدم]، واختار هو أن الأول تمنع لامتناع الثاني، فإذا قلت: لو قام زيد لقام عمرو، معناه [أن امتناع*] عمرو من القيام دلني على امتناع زيد منه، فهو باعتبار العلم والاعتقاد ينتفي فيها الأول لانتفاء الثاني، وباعتبار السببية، والوجود الخارجي ينفي الثاني لانتفاء الأول، وقرره ابن الحاجب بأن انتفاء السبب لَا يدل على انتفاء المسبب، لجواز أن يكون ثَمَّ أسباب

(66)

أخر، وانتفاء المسبب يدل على انتفاء كل سبب، فإِنما يمتنع الأول لامتناع الثاني، لأن امتناع الثاني هو السبب، فيدل انتفاؤه على انتفاء السبب الأول. قوله تعالى: (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا). دل امتناع الفساد على امتناع الإلهية، وبدليل جواز، قولنا: لكان حيوانا فيقتضي كونه إنسانا لانتفاء الحيوانية، ولو كان كما قاله النحويون: لما [جاز*] أن يتكلم بذلك، انتهى، ويلزمه أيضا انتفاء اللازم لانتفاء الملزوم، لأن كونه حيوانا لازم لكونه إنسانا والحال الكلام عليها في الكتابين لما يرجع إلى هذا، والمقصود إنما هو العلم لا الوجود الخارجي، فعلمنا بأن النبات لم يجعل حطاما، دليل على أن الله تعالى لم يشأ حطاما، ولو شاءه لوقع كذلك. قوله تعالى: (فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ). أي تعجبون وتقدمون، وتقولون (إِنَّا لَمُغْرَمُونَ (66) .. ، أي لملزومون [غرامة ما أنفقنا*]، وقيل: أي لمهلكون، والأول أصوب، لأن الإضراب يكون فيه الثاني أشد وأقوى من المضروب عنه، ولا أشد من الهلاك. قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ .. (68)} عين هنا المشروب، وقال: فيما سبق (أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ)، ولم يقل: أفرأيتم الحب الذي تحرثون؛ لأن المحروث شيء واحد، وهو الحب، والمشروب متعدد فاللبن مشروب، وكذلك العسل، قال تعالى (يَخرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ)، فإِن قلت: لم قال (أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ) بلفظ الماضي، وقال: قبله (أَأنتُمْ تَزْرَعُونَهُ) بلفظ المستقبل؟ فالجواب: أن المراد أفرأيتم ما الذي أنتم متمكنون من شربه، والتمكن من شرب الماء متأخر عن [البذر حتى تحرث]، فإن قلت: يعارض هذا التقدير بأن الزراعة أيضا [متقدمة*] على الحرث، لأن الحب المحروث كان قبل ذلك زرعا، ثم صار حبًّا، قلت: يلزم على هذا الدور التسلسل، وذلك محال، لأن الحب المحروث متأخر عن كونه زرعا، وكونه زرعا متأخر عن كونه حبا، وكونه حبا متأخر عن كونه زرعا، إلى [ما لا*] نهاية [ ... ].؛ عمله فلذلك أكد جعله الزرع حطاما باللام، ولم يؤكد جعل الماء أجاجا؛ تأكيدا لكمال قدرة الله تعالى، وأنه لَا يعجزه شيء، وأجاب الزمخشري: بوجهين آخرين:

(72)

أحدهما: أن اللام أدخلت في الأولى جوابا، ثم حذفت في الثانية، وهو مرادة في المعنى اكتفى بذكرها أولا، وأنشد عليه: حتى إذا الكلَّاب قال لها ... كاليوم مطلوبا ولا طلبا أراد لم أر كاليوم، والكلاب [صاحب الكلاب*]، والمطلوب الصيد، والطالب الكلب يمدح كلابه، أي لم أر في القوة كالطالب، وفي الضعف كالمطلوب، الثاني: أن اللام في المطعوم للتأكيد، لأن الحاجة إليه أشد من الحاجة إلى المشروب، ألا ترى أنك إنما تسقي [ضيفك*] بعد أن تطعمه، ولو عكست قعدت نحو قول أبي العلاء، أي دخلت تحت قوله: [إذا سقيت ضيوف النّاس محضا ... سقوا أضيافهم شبما زلالا*] (¬1) أي إذا سقيت الضياف اللبن المحض، وهو غير المخلوط بالماء سقوهم أضيافهم الماء الخالص، فهو يذمهم على فعلهم ذلك، فإِن قلت: لم عقب نعمة المشروب بالشكر، ولم [يعقب*] نعمة المأكول مع [أن*] الإنسان مأمور في الشرع بالشكر، عقيب الأكل وعقيب المشروب؟ فالجواب: إن الأكل والشرب متلازمان، إذ لَا يكون الشرب غالبا إلا عقيب الأكل، فالأمر بالشكر إليه أمر بالشكر على الجميع، أي أفلا تشكرون على الأمرين معا، وخص هذا بالشكر، وقال قبله (وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ)، ذلك محل اعتبار وتذكر، وهذا محل شكر وحمد. قوله تعالى: {أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا ... (72)} عبر هنا بالإنشاء، وقال: قيل (أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ)، لأن ذلك الخلق مسبوق بنوعٍ ومثالٍ تقدَّمَه، وهذا ابتدائي إنشائي لم يسبق بشيء، فلذلك عبر عنه بالإنشاء، وقال هنا: (أَنْشَأْتُمْ) بلفظ الماضي، كما قال تعالى (أَنْزَلْتُمُوهُ)، فيرد السؤال المتقدم، والجواب كالجواب، والنار هل هي الجمرة، أو عرض قام بها، أو أي شيء هو الصواب، إنما هي جواهر لطيفة تحللت بين أجزاء الفحمة، بدليل أن الجمرة تستقر في الأرض، والنار من قواعدهم ترتفع إلى فوق كنار السراج، وبدليل عدم كونها في الحجر، لأن أجزاءه متراصة لَا خلل فيها، فالنار تحلل أجزاءها، وتحل فيها كما حلت الروح في الجسم، مع أنها جوهر لطيف [مسكنه العلو*]، وأما النار التي تخرج من الزناد، فلم تكن فيه؛ بل خلقها الله تعالى فيه عند القدح؛ لئلا يلزم عليه مذهب القائلين بالكون والظهور، ويحتمل أن تكون انفصلت من الزناد أجزاء تبدلت أعراضها عند القدح بإعراض النار، وقول ابن عطية في قوله (شَجَرَتَهَا) قيل: الشجرة، هي النار نفسها لا [يقال*] يلزم عليه إضافة الشيء إلى نفسه، لأنه من إضافة الأعم إلى الأخص، وهو جائز عندهم. ¬

_ (¬1) لأبي العلاء يمدح سعد الدولة أبا الفضائل، وعيب عليه حيث مدح بسقى الضيوف الماء قبل ذكر الطعام. والمخض -بمعجمتين-: اللبن المنزوع زبده، فهو بمعنى الممخوض. ويروى: محضا، بالحاء المهملة، أى: خالصا حلوا أو حامضا. والشبم -كحذر-: البارد. والزلال: العقب. هذا وحيث جعل علماء البلاغة للمقام مدخلا في الدلالة على المراد فنقول: إن معنى البيت: إذا عجلت الناس اللبن لأضيافهم واكتفوا به عن الإسراع بالطعام: عجلوا هم بالطعام لضيوفهم لاستعدادهم للضيفان، فيحتاجون لشرب الماء، فيسقونهم ماء قبل إطعام غيرهم الضيفان، فسقيهم الماء يفيد تعجيل الطعام قبله بمعونة المقام، لأنه يلزمه عادة فلا عيب فيه. اهـ

(73)

قوله تعالى: {نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً ... (73)} الزمخشري: أي تذكركم بنار الآخرة لتعتبروا، انتهى، إنما المراد أنها تذكركم بوجود الصانع لها ووحدانيته، واتصافه بصفات الكمال، [وكونها*] أخرجها من الشجر الأخضر، وأنها لَا تحرق [بالطبع*]، ولو كانت كذلك لما فارقها الإحراق، ويبعد لما قال الزمخشري: ومثله لابن عطية، لأن الدار الآخرة إنما علمناها، وعلمنا نارها، وعذابها سمعا لَا عقلا، فعبر بالاسم لملازمتهم للمداهنة، ثم قال (وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ ... (82) .. ، فعبر بالفعل [لتجدد الرزق*]، وتكرره واختلاف أنواعه. قوله تعالى: {الْحُلْقُومَ (83)} ابن عطية: الحلقوم مجرى الطعام، وعند الفقهاء: مجرى النفس فقط، وهي الكرجومة، ومجرى الطعام هو [البلعوم، وهو [**أبو حشيشة]، ويسمونه المريء. قوله تعالى: {وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ (85)} قيل: أي لَا تبصروننا، وقيل: لَا تبصرون ملائكتنا، قال السلمي في التذكرة: هذه الآية تبطل مذهب المجسمة [لأنا نرى*] أشخاصا متعددين يموتون في مواضع شتى متباعدة في زمن واحد، فلو كان الله تعالى جسما، للزم عليه حلول الواحد في الزمن الواحد في أماكن متعددة، انتهى، ويجاب بلزوم مثله في ملك الموت، لأنه جسم، وهو الذي يتولى قبض الأرواح كلها، والدنيا بين يديه كالطبق بين يدي من يأكل منه. قوله تعالى: [(غَيْرَ مَدِينِينَ (86) *] أي غير مملوكين، ولا مقهورين. قوله تعالى: {وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (92)} عبر عنهم بوصفهم، وقال قبلها (فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ)، (وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ)، فعبر عن الفريقين بحكمهم، فهلا قيل هنا: وأما إن كان من أصحاب الشمال، أو نحوه، والجواب: أنه عبر عن الأولين بحكمهم، لأنه لو عبر عنهم بوصفهم [لأوهم أن*] ما رتب على ذلك من الثواب جزاء عما اتصفوا به من الطاعة، ومذهبنا أن الثواب على الأعمال محض [تفضل*] من الله تعالى، وعبر عن هؤلاء بوصفهم إشارة إلى أن تعذيب العاصي عدل، وجزاء عن عمله، فإن قلت: لم قدم التكذيب على الضلال، وقال في أول السورة (ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ)، فقدم الضلال؟ فالجواب: أن الضلال أعم من التكذيب، فيصدق على الضلال عن نفس الحق، [وعلى*] الضلال عن طرقه ودلائله، فبدأ هناك بالأعم

(93)

على الأصل، وبدأ هنا بالأخص، ووصفه بالضلال معرفا بالألف واللام التي للعهد مرادا به أخصه فهم عالمون مباهتون كافرون عنادا، ضالون عن الحق لَا عن دلائله وطرقه، أجاب الفخر: بجوابين آخرين: أحدهما: أن المراد هناك بالضلال إصرارهم [على*] الحنث العظيم، وهو الشرك بالله تعالى، والمراد بالتكذيب تكذيبهم الرسول في الحشر، والبعث بقولهم (أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ)، فجزاء على ترتيبه فيما قبلها جعل المتقدم [مقدما*]، وأما هنا فالمراد بها المكذبون بالحشر الضالون عن طريق الخلاص والنجاة، ويرد بأن ذلك كذب لَا تكذيب، ويجاب: بأنه مستلزم للتكذيب. الجواب الثاني: أن الخطاب في الأول للكفار، أي (ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ) بالشرك المكذبون الرسالة، والخطاب في هذه مع النبي صلى الله عليه وسلم، أي وأما إن كان من الذين كذبوك فضلوا لسبب ذلك، فقدم تكذيبهم تكرمه له - صلى الله عليه وسلم - حيث بين أقوى سبب في عقابهم [تَكْذِيبُهُمْ*]، ويدل على أن الخطاب له - صلى الله عليه وسلم -. قوله تعالى: فيها (فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ). وهذا ينتج له بالعكس، لأنه يكون [ترقيا*] في وصف الذم، فهو أحسن من التدلي، [وإنما*] الجواب: ما تقدم. قوله تعالى: {فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ (93)} فيه سؤال، وهو أن النزل أول ما تقدم للضيف عند قدومه، وقد أخبر عنهم أولا أنهم [إنما*] يشربون الحميم بعد أكلهم من شجرة الزقوم، فهو [ثانٍ لا أول*]، وجوابه: إما بأنهم يشربون الحميم أولا ثم يأكلون الزقوم، ثم [يعاودون*] شرب الحميم، وإما بأن هذا [ ... ]، فجعل أول متناولهم الحميم، كما نجد بعض النَّاس [يفطر*] على بعض الأشربة، ثم يأكل الطعام بعد ذلك. قوله تعالى: {حَقُّ الْيَقِينِ (95)} أبو حيان: هو من إضافة الصفة إلى الموصوف، فيجوز عند الكوفيين، والبصريون يقدرون مضافا، أي حق الخبر اليقين، ابن عطية، قيل: إنه من باب دار الآخرة، ومسجد الجامع، وقيل: مبالغة وتأكيد؛ كقولك هذا يقين اليقين، وصواب الصواب، أي نهايته، وهو أحسن لأن دار الآخرة يقدر فيها مضافا، أي دار النشأة الآخرة أو [الرجعة*] الآخرة، وهذا لَا يتجه هنا، بل المعنى أن الخبر هو يقين اليقين، [وحقيقته*]، انتهى، تقرير الفرق بينهما أن الحق إما أعم من اليقين، أو مساو له، ولا يصح أن

(96)

يكون أخص منه، فإن كان أعم منه فهو ما قلناه: ولا يحتاج إلى تقدير مضاف، وإن كان مساويا لزم أحد الأمرين، إما كون الأحكام الشرعية كلها يقينية، وهو باطل، وإما كونها ليست حقا، فهو باطل، فهو أعم من اليقين بلا شك. قوله تعالى: {فَسَبِّحْ ... (96)} هذا الخطاب عام في كل من قرأ هذه الآية، لأن الآيات العامة التعلق، إنما يخاطب بها العموم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قرأ سورة الواقعة كل ليلة لم تصبه فاقة أبدا"، انتهى، هذا الحديث خرجه عبد الحق في الأحكام، وصححه وضعفه ابن القطان. * * *

سورة الحديد

سُورَةُ الْحَدِيدِ قوله تعالى: {سَبَّحَ لِلَّهِ ... (1)} الزمخشري، والطيبي: ورد التسبيح في القرآن بلفظ الماضي، والمضارع والأمر [والمصدر*]، وقال (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى)، (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا)، انتهى، والتسبيح إما حقيقة [ويقع*] على أنواع، لأنهم متنوعون إلى ملائكة وإنس وجن، وإما مجازا، وقرره بوجهين: أحدهما: أن هذه الجمادات والأشجار إذا نظر إليها الناظر المعتبر، وفكر في إبقائها لأحكامها يعتقد أن لها خالقا متصفا بصفات الكمال، منزها عن النقائص، فهي سبب في التسبيح، ولا يصح أن تكون هي مسبحة حقيقة، لئلا يلزم عليه أحد أمرين، [إما*] وقوع التسبيح من الجماد، وإما قيام الحياة بالجماد، وكلاهما باطل، لأنه حالة التسبيح حي ليس [بجماد*]. والثاني: أنها مسبحة بلسان الحال؛ [لافتقارها*] في كل زمان إلى الاستمداد بالعرض من الطعم، واللون، والرائحة، وهذا هو الذي حكى المازري في الجوز في قضيته مع الشيخ أبي الحسن اللخمي، لما قال المازري: إن الموجودات كلها تسبح فألزمه اللخمي أن الحصى يسبح، وقال: نعم، ويدخل تحت عموم قوله تعالى: (لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ)، نفسها [والأرضون*] إلا الفلك الأعلى المحيط بها، فإِنه ليس مما فيها، وعطف الأرض على السماوات تأسيس، وقلنا: والسماء بسيطة لأنها ليست مما في السماوات، وتأكيد إن قلنا: إنها [كورية*]، وتنوع التأكيد [لأن دخولها في السماوات لا يدركه كل النَّاس*]، بل الأفراد منهم والعلماء، وهل التسبيح معنوي بلسان الحال، أو بلسان المقال؟ وكما تقرر أن الوجود على أربعة أقسام: وجود في الأعيان، ووجود في الأذهان، ووجود في اللسان، ووجود في البنان، فإِن قلت: التسبيح إنما هو معنوي علمي، ولو كان بلسان المقال للزم عليه قدم العالم، لأن العالم [ ... ] قلت: هذا لَا يصح، لأنا نقول: إنه تعالى سبح نفسه بنفسه واللام في (لله) للعلة، والمعلول هو الله [تقديره*] سبح لله لأجل الله، أي نزه ذاته لذاته، وإن حمل التسبيح على لسان الحال، فلا تخصيص، وإن حمل على [لسان المقال*]، فيخصص بمن [يتأتى*] منه التسبيح، ولهذا أسند التسبيح للمظروف دون الظرف، في قوله تعالى: [(مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) *].

(2)

قوله تعالى: (وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ). العزة الامتناع، وهو قسمان: إما يكون الشيء قليلا في ذاته لَا يمكن أن يكبر كثيرا، أو إما بكونه لَا يقدر أحد على الوصول إليه، والتسبيح يقتضي اتصاف الله تعالى بصفات الكمال لَا بعده عن النقائص، فهو ممتنع عن النقائص مرتفع عن درجتها فناسب العزة، ثم إن الصفات قسمان: ثبوتية وسلبية، والصفات السلبية أسهل من الصفات الثبوتية، ولأجل هذا لم يخالف أحد في السلبية، واختلفوا في الثبوتية، فأنكرها المعتزلة، وأثبتها أهل السنة، والحال أيضا اختلفوا فيها، فمنهم من أنكرها، ومنهم من أثبتها، ومنهم من وقف فيها، والتسبيح من الصفات السلبية، فإذا عقبت معناه السلبية بالعزة، وهو امتناعها من أن تعلم، ويدرك كنهها مع سهولتها، فأحرى الثبوتية [المخالفة لها*]، فإن قلت: المشاكلة بين المعطوفين، فإن المعطوف عليه جملة فعلية، والمعطوف جملة اسمية، قلت: المشاكلة معنوية ولفظية، فاللفظية الإعرابية، وهي مفقودة هنا، وأما المشاكلة المعنوية فموجودة، وتقديرها أن التسبيح معلل بمضمون جملة (وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)، أي سبح لكونه ذا العزة والحكمة، وهو دليل مدلول وبينهما تناسب في المعنى، فلذلك حسن العطف دون المشاكلة اللفظية. قوله تعالى: {لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ... (2)} المراد بالملك إما المصدر، أو المملوك. قوله تعالى: {هُوَ الْأَوَّلُ ... (3)} تقرر في المعقول أن الأولية على ثلاثة أقسام: إما بالزمان، أو بالوجود، أو بالذات، فبالزمان كالأب مع الابن، وبالوجود كالصانع بالنسبة إلى [مصنوعه*]، وبالذات كحركة الإصبع والخاتم في زمان واحد، إذ لو كان أحدهما قبل الآخر، للزم عليه تداخل الأجسام، وهو دخول الإصبع في جسم الخاتم، فدل على أن أولية الإصبع على الخاتم بالذات، والأولية هنا في الآية إما بالذات، أو بالموجود فقط. قوله تعالى: (وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ). الظاهر بما نصب من الأدلة الدالة على وجوده، وكمال صفاته، الباطن: فلا يدرك أحد كنه صفاته، ابن عطية: الباطن بلطفه وغوامض حكمته، وباهر صفاته التي لا تدركها الأوهام، الزمخشري: الباطن لكونه غير مدرك بالحواس، ورد بها على أهل السنة الذين جوزوا رؤية الله تعالى في الدار الآخرة بحاسة البصر، الطيبي: عن صاحب الانتصاف جوابه: أن هذه أدلة سمعية لَا تنتج إلا الظن، فما يصح الاستدلال بها في

الأمور القطعية، الاعتقادية انتهى، يرد بلزومه في [غير هذا*]، لأن كثيرا من قواعد أصول الدين استدلوا فيها بالأدلة السمعية، ويجب الإيمان بها، وقبولها إلا أن يقال: إن الأدلة السمعية كثرت وانضاف إلى هذا الدليل السمعي دليل آخر حتى صار قريبا من القطعي، فحينئذٍ يتم ذلك، وإنما جاء هذا من تفسير الباطن لما قال الزمخشري، وأما على تفسير ابن عطية: فيسقط احتجاجه بالآية، ويجاب نصا: بأن هذه الصفة عامة في الأشخاص مطلقا في الأزمنة والأحوال، فيصدق وصفه بالباطن على نفي الرؤية في الدنيا فقط، وله أن [يجيب*] بأن هذه الصفات المعنوية التي لَا تقارن الذات فيستحيل عليها التبدل والزوال، وقوله تعالى: (لَا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ)، احتج بها المعتزلة على نفي الرؤية، وأجاب أصحابنا: بأنه إنما نفى الإدراك، وهو أخص من [مطلق الرؤية*]، وإنما يلزم نفي الرؤية، لو قال: [لَا تناله الأبصار*]، فإن قلت: [ما*] الحكمة إدخال الواو فهلا قيل: [(الظَّاهِرُ الْبَاطِنُ) *]، فالجواب: أن الصفات عندهم إذا كانت متقاربة المعنى كانت بغير واو، وإن كانت متضادة المعنى فصل [بينها بالواو*] في الآية، قلت: معناها الجمعية، انتهى، أراد أنك إذا قلت: رأيت زيدا الخياط الحسن الفَارِه، أفاد الجمعية في الذات بمعنى أنه جمع هذه الأوصاف، وإن قلت: الخياط والنجار والحسن، أفاد الجمعية في الذات، بمعنى أنه في كل زمن له حسن، وخياطه، وفراهة، والله سبحان وتعالى موصوف بالأزلية حين اتصافه بالآخرية، وموصوف بالظهور حين اتصافه بالخفاء، قالوا: والأولى والثانية للجمع بين الصفتين، والواو الثانية للجمع بين مجموع الصفتين الأوليين، وبين مجموع الصفتين الآخرتين، وهذا احتراز من أن تكون الثانية للجمع بين الصفات الثلاث، والواو الثالثة للجمع بين الصفات الأربع، فقوله تعالى: (هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ)، جملة أصل في نفسها مستقلة، وقوله (وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ)، جملة أخرى مستقلة، فعطف الباطن فيها على الظاهر من عطف صفة مفردة على صفة مفردة، ثم جمعت الواو بين الجملتين، فتقول: جاء زيد الخياط، والنجار، والنساج، والجزار، لأنه لَا يمكنه الجمع بينها في زمن واحد، وتقول: جاء زيد المصلي، الصالح، [الداعي*]، الخاشع، لاجتماعها فيه في زمن واحد، وانظر ما قال الزمخشري في قوله تعالى: (غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ)، وما ذكروا في قول الشاعر: [النازلين بكلّ مُعْتَركٍ ... والطيِّبُون مَعَاقِدَ الأُزْرِ*] وتكلم عليها السماكي. قوله تعالى: (وَهُوَ بِكُلِّ شَيءٍ عَلِيمٌ).

(4)

ابن عطية: هذا من العام الباقي على عمومه، انتهى، قال شيخنا: وكانوا يحكون عن الفقيه أبي فارس الزروالي عن الإمام أبي عمرو بن الحاجب، أنه قال: الأحسن يمتثل ذلك بآية يؤخذ منها حكم شرعي، قال: ومثاله قوله تعالى: (وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ)، قال: وأخبرت به شيخنا أبا عبد الله محمد السبطي، فقال: الآية مخصوصة بمسلم له اختار ابنة نصرانية، فالمشهور أنه لا يزوجها من نصراني، لقوله تعالى: (مَا لَكُم مِنْ وَلَايَتِهِم مِن شَيْءٍ)، وقيل: إن له ذلك، فعلى هذا القول تكون الآية مخصوصة بهذا، قيل للسبطي: إنما معنى الآية ولا تنكحوا المشركات المسلمات، فأجاب: بأنهم ذكروا في صورة التخصيص كونه بالبدل أو بالاستثناء، أو بالصفة، والمسلمات هنا صفة لأن تقريره ولا تنكحوا النساء المسلمات، قيل: وهي أيضا مخصوصة بإنكاح المسلم [لبنت*] الكتابية من مشرك، على أن هذا قد اتفق عليه، وكذا قوله تعالى: (وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ)، [بأنه*] على عمومه إلا أن يقال: إنه مخصوص [بقوله*] (من النساء)، فيجاب: بأن ذلك ليس استثناء بل هو من أصل اللفظ، وكذا قوله تعالى: (وَلَا تَقْرَبُوا الزَنَى)، عام، ومثله بعضهم بقوله تعالى: (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا)، ورد عليه [بالمكرَه على الزنا، لأنه لَا يجلد*]، قال شيخنا: ومثاله الحقيقي عندي قوله تعالى: (مَنْ يُضلِلِ اللَّهُ فَلا هَادِيَ لَهُ). قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ ... (4)} إسناد الفعل بطريق الخبر يتضمن الدعوى في أمرين: أحدهما: مجرد إسناد كمن قام به، والثاني: برهان كون هذا المسند إليه أهل للإسناد الحقيقي كقولك: صنع فلان قوسا يرى، أو تقول: صنع فلان قوسا، فالأول: يقتضي الإسناد، والبرهان، وهو كونه محكما في صنعته غاية بحيث لَا يصدر عن غيره، والثاني: ليس إلا مجرد الإسناد، فهل الآية من الأول، والثاني؟ فإن قال المجيب من الأول أخطأ، وإن قال من الثاني أخطأ، ولا بد من التفصيل، فيقال: إن نظرنا إلى أول الآية فمن الثاني، وإن نظرنا إلى آخرها، لقوله تعالى: (فِي سِتةِ أَيَّامٍ)، فمن الأول، وخص الستة. قال القرافي: لأنها أول الأعداد التامة، لأن لها نصف وثلث وسدس، وذلك يساوي جملتها، إذا جمعت تلك الأجزاء، والعدد على ثلاثة أقسام: تام الأجزاء كالستة، وناقص الأجزاء [كثمانية*]؛ لأن ثمنها ونصفها وربعها سبعة، وزائد الأجزاء كاثني

(6)

عشر نصفها وربعها وسدسها، وحذف سدسها خمسة عشر حسبما ذكره العدديون، وذكر القرافي في قواعده: والخلق في مقدار هذه الأيام لَا فيها؛ إذ لَا أيام حينئذ، ولا شمس ولا قمر، وتحديد الخلق بهذا المقدار مع قدرته تعالى على أن يخلقها كلها في زمن واحد، [منهم من وقف فيه*]، وقال: لَا يدرك حكمته إلا الله عز وجل، وفيه تنبيه للإنسان على [التأني*] في أموره، والاهتداء والطمأنينة، كما ورد في الشرع ذم العجلة، قال تعالى (خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ)، وقال: (وَكَانَ الإنْسَانُ عَجُولًا). قوله تعالى: {يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ ... (6)} أي يولج الليل في زمن النهار، أي أن الزمان الذي كان نهارا يصير بعضه ليلا، والزمان الذي كان ليلا يصير بعضه نهارا، وهذا إن قلنا: إن الأرض بسيطة، فهو متحد في كل البلاد، وإن قلنا: إنها [كورية*] فهو بحسب الأقطار، فإِيلاج كل قطر بحسبه، ونظير هذه الآية في سورة لقمان، وسيأتي الكلام فيها. [قوله تعالى (فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ .. (7) .. ، قيل: ما أفاد المجرور وهو (مِنْكُمْ)؟ أُجيب بأن ذكره يتضمن إزالة الوحشة عن المخاطب، إذ كان سبق منه كثرة الرد والطعن في الإسلام، فصرح به ليقضي شوق المخاطب*]، [لما كان صدر منه فاستعار له الإسلام*]. قوله تعالى: {وَمَا لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ ... (8)} إما خطاب للمشركين أو للمؤمنين، أي ما لكم [لَا تدومون*] على إيمانكم، ويحتمل أن يكون خطابا للمنافقين الذين آمنوا في الظاهر، وكفروا في الباطن، الفخر: فيها دليل [للمعتزلة*] على أن العبد له قدرة واختيار، إذ لَا يقال ذلك إلا لمن يتمكن من [الفعل*] كما لَا يقال ما لك [لَا تَطُولُ وَلَا تَبِيضُ*] نقله عن القاضي عن الجبار، ويجاب: بأن ذلك إنما يقتضي أن للعبد في الفعل الكسب، وهو العلم بما في الفعل من مصلحة، أو مفسدة، وهو مذهبنا وحقه أن يقول فيها رد على المجبرة القائلين: بأن الإنسان حركته كحركة العرضي، الفخر: وفيها دليل على أن معرفة الله تعالى، والإيمان به لَا [يجبان*] إلا بالسمع، انتهى، أما ما يرجع إلى ذات الله تعالى وصفاته فمستفاد من العقل، وما يرجع إلى المعاد والدار الآخرة [فمستفاد*] من السمع. قوله تعالى: (وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ).

أعربوه حالا، ولا يرد عليه أن الشيخ في دلائل الإعجاز صرح بأن الموصوف [بوصف*] إذا توجه نحو الإنكار، لَا يلزم ثبوت الإنكار عليه مع عدم ذلك الوصف، مثاله قولنا: مالك يضرب زيدا، وعمرو حاضر، فلا يلزم منه إنكار ضربه مع غيبة عمرو عنه، وهنا في الآية أنكر عليهم عدم الإيمان مع الرسول داعيا لهم، ولا يلزم منه ذلك مع عدم الدعوة، فالجواب: أن الرسالة لما كانت لازمة الإيمان لَا ينفك عنه لم يتصور حصول إيمان بدونها، الزمخشري: الرسول يدعوكم إليه [وينبهكم عليه*]، انتهى، اعتزل في لفظ [وينبهكم*]، لأنه يقول: إن العقل وحده لَا يستقل بالدلائل على معرفة الله تعالى مع السمع، ونحن نقول: واحد منهما دليل على ذلك مستقل، فجعل هنا السمع منبها على ما فات العقل، ومذكرا لما نقصه. قوله تعالى: (وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ). الزمخشري: حيث ركبت فيكم العقول [ونصب*] لكم الأدلة، ومكنكم [من*] النظر، وأزاح عللكم، فما لكم لَا تؤمنون، ابن عطية: أخذ عليكم العهد حين الإخراج من ظهر آدم يوم قال (أَلَسْتُ بِرَبِّكُم)، انتهى، هذا ظاهر من لفظ الميثاق بعيد من المعنى، والأول ظاهر في المعنى بعيد من لفظ الميثاق، ونقل الفخر هذا التفسير عن عطاء، ومجاهد، والكلبي، وضعفه بأنه تعالى ذكر أخذ الميثاق عليهم إبطالا لما قد يعتذرون به عن عدم الإيمان، وأخذ الميثاق حين الإخراج من ظهر آدم لَا تعلم إلا بقول الرسول، فقيل: معرفة صدق الرسول لَا يكون ذلك سببا في وجوب تصديق الرسول، أما نصب الدلائل فمعلوم لكل أحد، فإن قلت: ما قاله ابن عطية يلزم عليه الدور، فإن [ما*] أخذ عليهم في ظهر آدم إنما علموه من السمع لَا من العقل، وهم [مكذبون*] للسمع مخالفون فيه؟ فالجواب: بأن ذلك إنما يلزم [لو قيل لهم*] وما لكم لَا تؤمنون بالله ورسوله، وهم إنما وبخوا على ترك الإيمان بالله حالة دعاء الرسول لهم، وإعلامه إياهم بتقدم وأخذ العهد عليهم يوم (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ)، الطيبي: ويحتمل أن يريد أخذ ميثاقكم جميعكم إياه على السمع والطاعة، والخطاب للمؤمنين، انتهى، وقرأ الجمهور (أَخَذَ) مبنيا للفاعل، وقرأ أبو عمرو مبنيا للمفعول، ابن عطية: والمخاطبة بالبناء للمفعول أشد غلظة على المخاطب، ونحوه قوله تعالى: (فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ)، وكما تقول [ألا تفعل ما قيل لك*]، فهو أبلغ من قولك افعل ما قلت لك، انتهى، بل الصواب [العكس*] بدليل أن ابن الحاجب: إذا [استبعد*] من قول يقول: قالوا: كذا وكذا، وإذا ارتضاه يقول قولنا: كذا.

(9)

قوله تعالى: {عَلَى عَبْدِهِ ... (9)} في لفظ العبد رد على الحكماء القائلين: بأن للأنبياء اختصاصا زيادة في ذاتهم بالطبع، ونحن نقول النبوة، إنما هي فضل الله يؤتيه من يشاء، ولا خصوصية لهم في ذواتهم، فعبر بلفظ العبد تنبيها على أنه من جنس العبيد. قوله تعالى: (آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ). ويحتمل أن يريد القرآن والمعجزات، فإن قلت: كيف يفهم هذا مع قوله تعالى: (مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ)، [هو*] تنبيه على الجملة من حيث فصاحتها ورصافتها ودلالتها على حكمة منزلها. قوله تعالى: (لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ). أفعال الله الراجعة لذاته، غير معللة، وأما ما يتعلق بالمكلفين فهي معللة عند المعتزلة عقلا، وعندنا نحن يجوز تعليلها شرعا، فأتى هذا على أحد الجائزين فهو من باب ربط شيء بشيء، لَا على معنى التعليل، الفخر: قال القاضي: فيها حجة للمعتزلة القائلين بأن الله تعالى لم يرد الكفر، بقوله تعالى: (لِيُخْرِجَكُم مِنَ الظُّلُمَاتِ)، فظاهرها أنه أنزل الآيات ليؤمن الجميع، فآمن البعض، ودام الآخرون على كفرهم، انتهى، يجاب: بأن المراد آيات بينات صالحة لأن يخرجكم بها من الظلمات إلى النور، أو هي سبب لإخراجكم من الظلمات إلى النور. قوله تعالى: (وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ). تقدم في سورة براءة تقديم الرءوف على الرحيم في الذكر من كلام الفخر ابن الخطيب في شرح الأسماء الحسنى. قوله تعالى: {وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ... (10)} إن قلت: لم قال [قبل*]: (وَمَا لَكُم لَا تُؤْمِنُونَ) بلفظ المضارع المحتمل للحال، والانتقال، وقال هنا: (وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا) بلفظ المستقبل، لأن (أنْ) تخلص الفعل للاستقبال بلا خلاف، وأما (لَا) فمختلف فيها، هل تلخصه للاستقبال أو لَا؟ وعلى تقدير تسليم أن (لَا) تخلص الفعل للاستقبال اكتفائها في الآيتين، فلم زيدت معها هنا (أنْ)، فالجواب: أن الإيمان يمكن حصوله من المكلف في الحال، لأنه من أفعال القلوب، فناسب لفظ الحال، والنفقة في سبيل الله لَا يقدر المكلف على فعلها حين الأمر بها، بل في الاستقبال، ولا سيما مع قولهم إن المراد النفقة في الجهاد، وهذا معلوم بالضرورة لأنا الآن في زمن جلوسنا إذا أمرنا أحدنا باعتقاد رجل أو تصديقه [أو تكذيبه*]، يمكننا

تحصيل ذلك فأجزأ في الحال، وإذا قال لنا: أنفقوا كذا في كذا لَا يمكننا إيقاعه، إلا بعد تراخ، فناسب دخول (أنْ) هنا مخلصة للاستقبال، ومؤكدة له. قوله تعالى: (وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ). إشارة إلى أن المال الذي عندهم إنما هو عارية فعليهم بإنفاقه في سبيل الخيرات، لأنه زائل عنهم. قوله تعالى: (لَا يَسْتَوِي). الآية إن كانت نزلت قبل الفتح، فواضح كونها تحريضا على الإنفاق، والقتال في تحصيل ثوابها، وإن كانت بعد الفتح فَفَهْمُ كونها تحريضا فيه صعوبة، بل المتبادر للمفهوم أنها تحرض على تلافي ما مضى، فالجواب: أن الآية لما تضمنت تشريف القسم المقابل كان تحريضا، إذ [هو*] عام في البعدية إلى يوم القيامة أو مقابل قوله (مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ)، وهذه البعدية صادقة في سائر الأزمان فينبغي للمكلف تحصيل صادقيتها ليكون أحد المقابلين للأفضل، ونص في الآية على نفي مساواة من جمع الوصفين، قبل الفتح لفعل مثله بعده، فمن أنفق قبله، ولم يقاتل، هل يساوي من قاتل بعده ولم ينفق؛ لأن بذل النفس أعظم ثوابا من بذل المال، فهل يعدل فضيلة ذلك فضل السبقية [أو لا؟] فيه نظر، فإن قلت: من في قوله (مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ)، وقوله (مِنْ بَعْدُ) لابتداء الغاية، فهي لأول أزمنة القبلية والبعدية، وتضمنت الآية نفي مساواة من أنفق في أول الأزمنة المتقدمة على الفتح، لمن أنفق في أول الأزمنة المتأخرة عنه، مع أن المساواة منتفية بين من أنفق قبله مطلقا، وبين من أنفق بعده مطلقا، فالجواب: أن كل ما ثبت لأحد المتساوين ثبت للآخر، و (مَن) إنما دخلت لتأكيد معنى السبقية، وهذا يقع في القرآن على وجهين، فتارة تنفي المساواة ويعين وجه المفاضلة بينهما كهذه الآية، وكقوله تعالى: (لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ)، وتارة لَا يعين وجه التفاوت بينهما، كقوله تعالى: (قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ)، وقوله تعالى: (وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ (19) وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ (20) وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ)، الفخر في المحصول: قوله تعالى: (لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ) لفظ المساواة بينهم في الآية مطلق، فهو أعم من عدم استوائهم في الأحكام الأخروية من النعم والعذاب، أو في الأحكام الدنيوية من القصاص، والإجرام وغيره، والأعم لَا شعار له بالأخص، وبنى عليه مساواة الكافر للمؤمن في

(11)

القصاص، وأورد عليه السراج تنكيتا بأن نفي الأعم أخص من نفي الأخص، فالنفي عام في جميع صور المساواة كقولك: لَا حيوان في الدار انتهى، ويرد أيضا على الفخر بهذه الآية لإجماعنا على مساواة من أنفق من قبل الفتح، لمن أنفق بعده في حكم القصاص، فترى نفس المساواة بينهما لم يعم جميع الوجوه، قلنا: يستدل بهذا على عدم تلك الآية، فينتج مساواة الكافر للمؤمن في القصاص. قوله تعالى: (أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً). فإن قلت: قاعدة البيانيين في حسن الإيلاف مراعاة المشاكلة في الألفاظ، والمناسب للدرجات العلو، فيقال: درجة فلان، ومنزلته أعلى من درجة فلان، ويقال: قدر فلان أعظم من قدر فلان، فهلا قيل: هنا أولئك أعلى درجة، فالجواب: أن قوله أعظم اقتضى التفاوت بينهما في القدر وعلو الدرجات، فهو أعم فائدة. قوله تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ ... (11)} إثباته بلفظ الاستفهام دليل على عظم هذه الفضيلة، لأن الغني بذاته إذا طلب شيئا بلفظ السؤال فهو تنبيه على عظم الثواب المعد عليه، وأنه محبوب له مرغب فيه، بحيث يسأل عمن يفعله مع علمه به، (حَسَنًا) أي لوقوعه بنية مخلصة، وذكر الفخر فيه وجوها كلها راجع إلى حسن النية، وهو مناسب لما تقدم، لأن أولئك إنما علت منزلتهم بالسبقية في الإيمان لبذلهم نفوسهم وأموالهم في نصرة دين الله، [حيثما يأمر*]؛ فدل على قوة إخلاصهم، وحسن نيتهم، وهذه الآية تذييل وتبيان لما أشعرت به الآية السابقة. قوله تعالى: {يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ ... (12)} قيل: أخر النور هنا، وقدمه في سورة التحريم؟ أجيب: بأن المقصود هناك الذوات بخلاف هذه، فإن المقصود فيها بيان شرف المؤمنين، فناسب الاعتناء بذكر الصفة وغلب الإيمان على الشمائل، والمراد أن نورهم يعم جميع جهاتهم يمينا وشمالا، أو يقال: إن بين أيديهم يعم اليمين والشمال، وعطف عليه (بإيمانهم) تشريفا لجهة اليمين بالذكر، قيل: وفي الآية رد على ابن حزم القائل: إن العاصي يأخذ كتابه بشماله، لأنه تعالى جعل مجرد [الوصف*] سببا لأخذ الكتاب باليمين. قوله تعالى: (بُشرَاكُمُ الْيَومَ جَنَّات) أي دخول جنات. قوله تعالى: {يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ ... (13)} فيها سؤالان:

الأول: لم عبر عن المنافقين بالاسم، وعن المؤمنين بالفعل؟ وهلا قال: الذين نافقوا كما قال: (لِلَّذِينَ آمَنُوا). السؤال الثاني: لم أسند الفعل في المنافقين للمذكر والمؤنث؟ وأسنده في المؤمنين للمذكر خاصة؟ وهلا قال (لِلَّذِينَ آمَنُوا) واللاتي آمنَّ؟ والجواب: عن الأول من ثلاثة أوجه: الأول: مراعاة المشاكلة بقوله فيما تقدم (يَومَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤمِنَاتِ). الثاني: أنهم طلبوا ذلك ممن اتصف بمطلق الإيمان، فيتناول [أعلى المؤمنين*]، وأدناهم، ولو قال (يَومَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ)، للمؤمنين، لما تناول الأول من اتصف بأعلى مراتب الإيمان، واعترض هذا بأنه يلزم عليه في [الطرف*] الآخر ألا يكون طلب هذا إلا من اتصف [بمطلق الإنفاق*]، [فاحتاج*] إلى طلب ذلك، أو [يطلب*] ذلك، فيستعف به، مع أن الكل لَا ينفعهم ذلك، الجواب الثالث: أن المؤمنين على مراتب، والمنافقون لَا يستطيعون الوصول إلى أعلاهم لبعدهم عنه، وإنَّمَا يصلون إلى أدناهم لقربهم منهم، فذلك قال: (لِلَّذِينَ آمَنُوا) فعلقه بمطلق الإيمان لكن يبقى فيه إن كان يقول يوم يقول الذين نافقوا، والجواب عن السؤال الثاني: إما بأن المذكور أعلى منزلة، والنساء لسن من جنس من يطلب منهن ذلك، وإما بأنهن محجوبات عنهن، فلا يصلون إليهن. قوله تعالى: (نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ). ليس المراد الحقيقة، بل المجاز أي نستضيء بنوركم، لأن الاقتباس من السراج هو أن [ ... ] سراجك، وهم ليس عندهم سراج [يوقدونه*]، فإِنما هو [تهكم بهم*]، أو أمر بالرجوع ورائهم حقيقة. قوله تعالى: (فَالْتَمِسُوا نُورًا). صيغة افعل هنا إما للإهانة أو للتعجيز، وهو الظاهر، والتنكير في (نُورًا) للتعليل أو تحقيرا لهم، وأنهم في التماسهم له غير صائبين، فإن قلت: عدل عن المطابقة، ولم يقل اقتبسوا نورا، وهو المطابقة لقولهم (نَقْتَبِسْ)، قلت: لأن الاقتباس يقتضي وجود المقتبس منه، وهو ثابت في حق المؤمنين موجود، ولما كان معدوما في جانب المنافقين خاطبهم بقوله (فَالْتَمِسُوا) لأن الالتماس لَا يقتضي الوجود. قوله تعالى: (نُورًا).

(14)

ابن عطية: قيل: هو الحائط الشرقي من بيت المقدس، وهو بعيد انتهى، إنما استبعده لوقوفه مع الأمور العادية، والمحل محل خرق العادة، فلا مانع من أن يمد الله تعالى ذلك النور حتى يعظم في جرمه فيسترهم كلهم. قوله تعالى: (بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ). إن قلنا: إنه الحائط الشرقي من بيت المقدس فظاهر، لأن باطنه هو الذي على مسجد الصلاة وعلى العبادة، فناسب أن تكون الرحمة، وإن قلنا: إنه سور خلقه الله تعالى حينئذٍ، فهو كما يقول في سور المدينة، إن باطنه [هو*] الذي على داخل البلد، لأنها هي الجهة المصونة بالسور المحفوظة به، كما أن باطن الحائط هو الذي نحوه [ ... ]، [وخص*] الرحمة بالباطن، لأنه هو الخفي المستور، ولما كان طرفه أقل من الظاهر قرن الأول بصريح البطن فيه دون الثاني. قوله تعالى: (مِن قِبَلِهِ). إشارة إلى أن العذاب بعيد عن السور لكونه للمؤمنين، حتى [لَا يفزعهم*] شيء من ذلك العذاب. قوله تعالى: {قَالُوا بَلَى ... (14)} قيل: هذا التصديق إما أن يكون حقا، أو باطلا، لَا جائز أن يكون باطلا، لأن المؤمنين في دار الحق فلا يقرون إلا بالحق، ولا جائز أن يكون حقا؛ لأنهم ما سألوهم عن كونهم الكون الموجب [للنجاة*]، وهو الكون ظاهرا وباطنا، فصدقوهم على ذلك، قيل: التصديق مرتبط بالاستدراك الذي بعده، قيل: انتهى الكلام عندنا، قيل: مرادهم بالتصديق أنهم كانوا معهم في الظاهر فقط، قيل: فلم يصدقوهم إذًا في سؤالهم. قوله تعالى: (وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ). لم يقل: أمانيكم تهويلا عليهم وتعظيما لما صدر منهم، حتى [كأنها*] أماني أخر غير أمانيهم، مضافة لأمانيهم، وانظر [لم يقل: وأغررتم بالأماني*]؛ لأنه المطابق لما قبله. قوله تعالى: (حَتى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ) إن أريد به الموت فالغاية راجعة للمغرور، والتربص. قوله تعالى: {فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ ... (15)} الفاء للتسبيب ويبعد كونها للتعقيب، لأن عدم الأخذ ليس متأخرا عن الغرور؛ بل متقدما، لأنه عدم قبل الحكم، [فعدم*] الأخذ متأخر عن الغرور، قيل: بل تقدم أيضا

أولا، ويجاب: بأن الأخذ هنا تقيد باليوم، ولا شك أن ذلك اليوم متأخر عن الغرور، فصح أنها للتعقيب أو أعم منه، بدليل أن من وهب لرجل [جُبَّة*] فقبلها منه، ولم يأخذها حتى مات، أن [الهبة*] باطلة، فترى القبول لَا يستلزم الأخذ، ولو كان أخص لاستلزمه، لأن وجود الأخص يستلزم وجود الأعم، فالجواب بينهما [عموم وخصوص*] من وجه دون وجه، فتارة استعمل أحدهما، وتارة استعمل الآخر. قوله تعالى: (وَلَا مِنَ الَّذِين كَفَرُوا). من عطف الأعم على الأخص، لأن المنافقين من الكافرين، لكن لما كان جانب المنافقين أعظم لقوله تعالى: (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ)، وكان عطف الكفار تأسيسا، ولَا يلزم من عدم أخذ الفدية من المنافقين عدم أخذها من الكافرين، قال الفخر (¬1): والفدية ما يفتدى به، فيتناول التوبة والإيمان، والمال، [وفيها*] حجة للمعتزلة في قولهم: إن قبول التوبة غير واجب عقلا، لأنا أجمعنا على أن التوبة من الذنوب تنفع في الدنيا، فلو كانت [عقلية*] لاستوي حالها في الدنيا والآخرة (1)، انتهى، يقول: إنها عقلية في الدنيا فقط، وأما في الآخرة فهي شرعية، لأن المكلف في الدنيا تمكن من المعاصي، ومن الكفر فيحتاج حين التوبة للتكليف الامتناع من المخالفات، وحبس نفسه عن شهواتها بخلاف الآخرة، فإنه غير متمكن من ذلك فيها. قوله تعالى: (مَأوَاكُمُ النارُ). إن قلت: هذا التركيب يقتضي الخلود، لأن مأواكم مبتدأ والنار خبره، والقاعدة: أن المبتدأ إما مساو للخبر، أو أخص منه فإن كان [مساويا*]، فالمأوى هو النار، وإن كان أخص [فإن*] وجد المأوى، وجدت النار، لأنه مهما وجد الأخص وجد الأعم، قلت: الخلود [يقضي بانعدامهم*]، لجواز أن يعذبهم الله تعالى فينعدم المأوى. قوله تعالى: (مَوْلاكُم). الزمخشري: أي هي أولى بكم، وأنشد قول لبيد: فَعَدَتْ كِلا الفَرجَينِ تَحْسِبُ أَنّه ... مَوْلى المَخَافَةِ خَلْفُها وَأَمَامُهَا ¬

_ (¬1) هكذا النص في مفاتيح الغيب: وَاعْلَمْ أَنَّ الْفِدْيَةَ مَا يُفْتَدَى بِهِ فَهُوَ يَتَنَاوَلُ الْإِيمَانَ وَالتَّوْبَةَ وَالْمَالَ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ قَبُولَ التَّوْبَةِ غَيْرُ وَاجِبٍ عَقْلًا عَلَى مَا تَقُولُهُ الْمُعْتَزِلَةُ؛ لِأَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّهُ لَا يَقْبَلُ الْفِدْيَةَ أَصْلًا وَالتَّوْبَةُ فِدْيَةٌ، فَتَكُونُ الْآيَةُ دَالَّةً عَلَى أَنَّ التَّوْبَةَ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ أَصْلًا، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ تَكُنِ التَّوْبَةُ وَاجِبَةَ الْقَبُولِ عَقْلًا. اهـ

(16)

الطيبي: [يصف بقرة وحشية*] هربت من الصائد، فرأت فرجين: أي طريقين، حسبت أنهما منجاة لها منه. قوله تعالى: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا ... أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (16)} ابن عطية: سمع الفضل بن موسى، وهو في معصية هذه [الآية*] فتاب، انتهى، ونحوه نقل القشيري في رسالته عن الفضيل بن عياض، ابن عطية، وحكى الطيبي عن ابن المبارك، انتهى، ونقله أيضا عياض في المدارك، وعبر في الآية بلفظ الفعل في قوله تعالى: [(أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا) *]، لأن ذلك لم يتصف به أعلاهم قبل أوسطهم وأدناهم. قوله تعالى: (لِذِكرِ اللَّهِ). الزمخشري: يجوز أن يراد بالذكر، وما نزل من الحق [القرآن*]، لأنه جامع للذكر والموعظة، وأنه حق من السماء، ويجوز أن يراد خشوع القلب، إذا ذكر الله، انتهى، فعلى الأول: هو من عطف الصفات، والمصدر مضاف للفاعل، وعلى الثاني: المصدر مضاف للمفعول، ويحتمل أن يريد [بالذكر*] التوحيد، وعدم الشرك وبما [نزل*] من الحق البراهين والدلائل الدالة على ذلك. قوله تعالى: (فَقَسَت قُلُوبُهُمْ). أوَذهلوا عن التأمل والنظر، فقست قلوبهم، لكن بعضهم لم يزل على دينه، وبعضهم [أوصلته الغفلة والذهول، إلى الفسق والفجور*]. قوله تعالى: {اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا ... (17)} الزمخشري: هذا تمثيل لأثر الذكر في القلوب، وأن يحييها كما يحيي الغيث الأرض ونحوه، لابن عطية قال: أي لَا يبعد عليكم أيها التاركون للخشوع رجوعكم إليه، فإن الله يحيي الأرض بعد موتها، وكذلك يفعل بالقلوب، انتهى، فهذا أمر فرعي، ويحتمل بأن يكون المراد التنبيه على صحة الإعادة، بكمال قدرة الله تعالى على إحياء الأرض بعد موتها، فلذلك [ ... ] الخلائق فهذا أمر أصلي، وفي الآية رد على إمام الحرمين القائل: إن العلوم كلها ضرورية، لأن صيغة الطلب هنا إما للوجوب أو الندب، وليست للإنشاء، ولكون متعلقها أمرا دينيا، فهذا من أمور التكليف، واتفقنا على أن الأمور الضرورية لَا يجوز التكليف بها، فدل ذلك على أنه أمر نظري ولا معنى لكون العلوم بعضها ضروري، وبعضها نظري، إلا هذا. قوله تعالى: (قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ).

(19)

فيه رد على من يقول: بجواز أن يرد في القرآن ما لَا يفهم. قوله تعالى: (لَعَلَّكُم تَعْقِلُونَ)، فإن قلت: فيه دليل على أن العقل ليس معلوم ضرورة، فمن يجهل ذلك فإنه غير عاقل خلاف قول أبي المعالي: قلت: ليس مراد أبي المعالي العقل الذي يقع به التمييز، وهو شرط في التكليف، لأنه محصل للعلم ضرورة، وإنَّمَا مراده العقل الشرعي الجعلي النافع. قوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ ... (19)} وجه مناسبتها لما قبلها، أنه لما قدم ذكر [الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ*]، وما أعد الله لهم من الأجر، دلت هذه الآية على أن من دونهم ينال أجرا عظيما قريبا من أجرهم، ففيها إرجاء وإطماع لسائر المؤمنين، إن أريد إيمان خاص فيكون هؤلاء أعلى منهم منزلة، والصدِّيق في اللغة يقتضي أن المراد الذين صدقوا بالله تصديقا بعد تصديق، وليس المراد هنا بالصدِّيق ما يقوله المتصوفة من أنه أدنى رتبة من النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم؛ لأن ذلك اصطلاح وليس بلغة، وهذا موافق لما يقول المنطقيون: من أن التصديق راجع للجمع، والتصور للمفردات، فإذا قال الإنسان في نفسه العالم حادث فهو عندهم تصديق [لَا تصور*]، وإن لم ينطق به؛ ولذلك اعتقدوا الإيمان بالله ورسوله، وعبدوه تصديقا؛ لكن هذا راجع لما يخبر به الرسول، وهو أمر مسموع، فهو تصديق للخبر، لأنه راجع [لحديث النفس*]، ابن عطية: والصديقون باب لغة الصدق، أو التصديق وفعيل لَا يكون إلا من فعل ثلاثي، وأشار بعضهم إلى [مجيئه*] من غير الثلاثي، وقال: مسك من أمسك، وأقول أنه يقال: مسك، وفي هذا نظر، انتهى، النظر الذي هو فيه أنه يقال: مسك ولم [يذكره*] الجوهري في الصحاح وإنَّمَا ذكر أمسك، وانتقد ابن مكي: في تثقيف اللسان على الأطباء قولهم: القوة الماسكة، قال: إنما القوة الممسكة من أمسك فدل على أنه لَا يقال: أمسك عند ربهم أن رجع إلى المبتدأ، فالمراد في حكم ربهم، وإن رجع لما بعد، فالمراد لهم أجرهم عند ربهم حقيقة، وإضافة الأجر إليهم تعظيم لهم، وقال قيل: (وَلَهُم أَجْرٌ كَرِيمٌ)، فاكتفى هنا بوصفه هناك، فسر الزمخشري الآية بقوله (أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ)، فسوى بينهما في الأجر ولأنه من الالتفات، فأجاب: بأن أجر المؤمنين مضاعف مساو لأجر أولئك غير [مضاعف*]، انتهى، ولا يحتاج إلى هذا لأن المماثلة تكون في النوع، وفي

(20)

النصف أنهم مساوون لهم في نوع من الأجر، لَا في قدره، ويلزمه هذا في الشهداء، فإنا أجمعنا على تماثلهم في الأجر، وأن منازلتهم متفاوتة. قوله تعالى: (أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ). ولم يقل: أولئك هم أصحاب، فيدخل في ذلك المبتدعة المختلف في تكفيرهم، ومن كفر بالتأويل، [والصحبة هنا دوام الإقامة وليست من الصحبة في*] اصطلاح المحدثين، لأنهم يشترطون رؤية النبي صلى الله عليه وسلم، ولو مرة واحدة على الخلاف عندهم في ذلك. قوله تعالى: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ ... (20)} يحتمل أن يراد الأمر بلازم ذلك، وهو الاتعاظ، والإنابة، والتذكر، واللعب يشغل النفس بما يلهي على سبيل الفرح، [والفرح*] واللهو شغل النفس بما يلهي عن أمر يؤلم، الفخر: اللعب من فعل الصبيان، وهو الشغل المتعب لغير فائدة، واللهو من فعل الشباب، وهو لفائدة دنيوية فقط، انتهى، وحاصله أن اللعب هو إتعاب النفس لا لقصد تحصيل أمر ملائم، حاصل الآية أن الأمور المباحة إذا كانت لَا تحصل فائدة أخروية، فهي لعب ولهو؛ فينبغي للإنسان أن ينوي التقوِّي على الطاعة، وحكي عن سيدي الحسن بن علي المنتصر رحمه الله ونفع به، أنه كان يوما في الثانية عند سيدي حسن المريدي نفع الله به، فجلس يشرح التين، فمر به سيدي حسن فسأله عن سبب ذلك، فقال له: قعدت بطالا فأخذت [أشغل*] نفسي بهذا، فقال له: اقصد بفعلك ذلك أنك تشرحه ليأكل منه متعلم، أو مضطر لأكله، فيستعين به على عبادة الله تعالى، فكذلك ينبغي لكل أحد أن لَا يخلي فعله من نية الطاعة، ليخرج فعله المباح عن اللعب واللهو، قال كاتبه [عفا*] الله عنه، وهذه سيرة مولانا السلطان سلطان السلاطين، وسلطان الصالحين أبي فارس عبد العزيز ابن مولانا أمير المؤمنين أبي العباس أحمد في أفعاله كلها سفرا وحضرا، وقد ضمنت هذا المعنى في قصيدة نظمتها له، قلت فيها: وأفعاله ينوي بها البر كلها ... في قصده صار المباح تعبُّدا فإما رباطا إن أقام بساحل ... وإما جهاداً إن توجَّه للْعِدا وعادته أمتع الله المسلمين ببقائه إذا قدم من سفره قاصدا به جهاد المفسدين في الأرض الإقامة بساحل لقصد الرباط، إن قلت: هذا يوهم تحصيل الحاصل [كقولهم*]: قام القائم، فالجواب: أن ابن التلمساني قال: تعليق الحكم على موصوف

(25)

يصفه، لَا يلزم منه دوام اتصافه بتلك الصفة، وإلا كان يمتنع أن يقال: [تحرك الساكن*] مع أنه جائز. قوله تعالى: {لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ ... (25)} هذا عند المعتزلة [قيل: ظاهره يعني الإرادة*]، وعندنا إن كان لفظ النَّاس عاما في الجميع، فهو إما بمعنى الحكم أي ليؤمن النَّاس بالقسط وليس بمعنى الإرادة، لئلا يلزم عليه الخلف في الخبر، إن لو أراد من الجميع القسط لما وقع إلا كذلك، وقد وجدنا كثيرا لَا يعدلون، وإن كان المراد بالنَّاس أهل الخير والصلاح، فقد يكون قوله تعالى: (لِيَقُومَ النَّاسُ)، بمعنى [الإرادة*] على حقيقته. قوله تعالى: (وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ). الزمخشري قيل: نزل آدم عليه السلام من الجنة، ومعه خمسة أشياء من حديد، وهي السدان والكلبتان، والميقعة، والمطرقة، والإبرة، ولم يفسر الطيبي سوى الميقعة قال: هي المطرقة، قال شيخنا: وأخبرني السلطان أبو الحسن المريني بمحضر جماعة: أن صواعق نزلت عندهم بالحديد، فأمر من أتاه بذلك الحديد، وصنع فيه سيوفا، فلم تكن في القطع بذاك. قوله تعالى: (بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ). المراد بالبأس جهاد العدو، فهو من دفع المضار، فجاز تقديمه على الأصل. قوله تعالى: (وَلِيَعْلَمَ). معطوف على مقدر، أي لينتفعوا به وليعلم، ولم يقل: وليجاهدوا مع أنه [المقصد*]، لأن في لفظ الآية إغراء وتحريض على الجهاد، لأن العبد إذا استحضر أن سيده ينظر إليه، ويعلم ما هو يفعل، فإنه يجتهد في العمل. قوله تعالى: (وَرُسُلَهُ). تأكيد كقوله تعالى: (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ)، أو هو كقولك أعجبني زيد وحسنه. قوله تعالى: (بِالْغَيْبِ). الزمخشري: حالة كونه غائبا عنهم. انتهى، ويحتمل أن يريد بسبب الغيب، لأن الحاصل على الاقتحام في القتال، إنما هو رجاء نيل درجة المجاهد، [والثواب*] المعد له

(26)

في الدار الآخرة، وذلك أمر مغيب لَا نعلمه إلا من الرسول، فمن صدقه وآمن به ينال ذلك. قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ). لا يمانع فيما أراده. قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ ... (26)} [خصصهما أشبه باحتراس*]، لأنه لما أخبر أن الجهاد لنصرة الله ورسوله نبه على أنه قوي بذاته غير محتاج للنصرة، عزيز لَا يمانع [فيما أراده*]. قوله (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ)، خصصهما بالذكر دون غيرهما، لأن نوحا عليه السلام أبو البشر بعد آدم عليه السلام عموما، فهو أب أو عم لغيره، وإبراهيم له أب أخص، فإن قلت: وإسماعيل أبوه، قلت: اختص إبراهيم بالذكر لاتفاق الملل كلها، وأهل كل ملة يؤمنون به، وكذا تسمية الأب الصالح بخلاف إسماعيل، ولأن شريعتنا موافقة لشريعة إبراهيم. قوله تعالى: (وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ). قالوا: (جعل) بمعنى صيَّر أو بمعنى خلق، وهذا بيِّنٌ على مذهب المعتزلة، وأما على مذهب أهل السنة، فلا يصح كونها بمعنى خلق، لأن الكتاب قديم ليس بمخلوق إلا أن يراد به الألفاظ المكتوبة، [فيصح لأنها*] حادثة، وبها يقع الإعجاز، لكن الأول أولى لما في هذا من [الإيهام*]، وأنت تعلم فيمن حلف بالقرآن. قوله تعالى: (فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ). هذا يعم صالح المؤمنين، وعصاتهم، لأن [العاصي*] مهتد بالإيمان، فيصدق عليه وصف الهداية مقيدة، وإذا صدق مقيدا صدق مطلقا، وهذه تسلية للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فإن آبائه الأنبياء قد جرى لهم مثل ما جرى له. قوله تعالى: {ثُمَّ قَفَّيْنَا ... (27)} الزمخشري، وابن عطية: التقفية مجيء الشيء، كأنه قفاه، انتهى، هذا إن كان ينقلانه لغة [مسلَّم*]، وإلا فيمكن أن تكون التقفية مجيء بعد الشيء من غير فاصل بينهما، سواء جاء بقرب مجيئه، أو بعد طول، وهو المناسب للفظ (ثم) المقتضية للمهلة، لكن يترجح ما قالوه بقوله تعالى: (عَلَى آثَارِهِم)، وفيه دليل على أن أقل الجمع اثنان، لأن الضمير في [(آثَارِهِم) *] عائد على نوح وإبراهيم، فإن قلت: لعله عائد

[عليهما*] وعلى ذريتهما؟ قلت: ذريتهما داخلون في لفظ الرسول من قوله تعالى: (بِرُسُلِنَا)، فهم متبعون لَا تابعون، ويجاب [بأن لفظ الذرية*] [عام*] يشمل الأنبياء والرسل، لقوله (فِي ذُرِّيَّتِهِمَا)، فهو محصول فيه، ليكون هذا الضمير عائدا على بعضه، وهم ذووا النبوة فقط، أي ثم قفينا على آثار نوح وإبراهيم، ومن نشأ من ذريتهما بالرسل، وإعادة لفظ (قفينا) [في المعطوف تأكيدا*]، ولأجل ذلك عطف بالواو دون ثم. قوله تعالى: (وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً). جعل عند أهل السنة بمعنى خلق، وعند المعتزلة بمعنى صير، ابن سلامة: الرأفة والرحمة يشتركان في رقة القلب، واختلف فيما يمتازان به فقيل: الرأفة أخص من الرحمة، وقيل: الرحمة أخص، وقيل: إنهما متغايران، فالرأفة الامتناع من المكروه، كامتناعك من ضرب زيد رأفة عليه، والرحمة إيصال الأمر الملائم كتصدقك على زيد رحمة له، وقال شيخنا: الرأفة هي أن تزيل عن الشخص ما يكرهه، مع بقاء تألمك منه، والرحمة أن تزيل عنه ذلك من غير تألم في نفسك، وهذا كحنانك على ولدك المسجون، وعلى أجنبي مسجون، وهو موافق لما ذكروا في الآية، من أن الجبابرة ظهروا على المؤمنين فبعضهم قاتلهم، وبعضهم جلس بين أظهرهم مؤمنا، ولم يقاتل، وبعضهم خرج عنهم وانقطع للرهبانية، فالمقاتلون اتصفوا بالرأفة لدين الله، والجالسون اتصفوا بالرحمة، والمنقطعون ترهبوا، وجعل الفارسي (رَهْبَانِيَّةً) منصوبا بفعل مضمر، أي وابتدعوا رهبانية، ولم يعطفه على (رَأْفَةً وَرَحْمَةً) اعتزالا منه، لئلا يكون مجعولا لله، لأن الرأفة والرحمة من الصفات [**الكلية]، فهي داخلة تحت القدرة القديمة يصح كونها مجعولة لله، والرهبانية من الصفات [**الكتبية] التي هي عندهم من متعلق الحادثة، فكانت من فعل العبد، فلذلك لم يعطفها على معمول (جعل)، وتكلم عليها ابن هشام في شرح الإيضاح في باب الاستقبال، وابن عصفور في شرحه أيضا بطويل من الكلام، وعلل الفارسي ما ذكره في الإيضاح بقوله: لأن الرهبانية لَا يستقيم حملها على (جعلنا) مع وصفها بقوله: ابتدعوها، لأن ما يجعله هو تعالى لَا يبتدعونه هم، ابن عصفور: جعل مفسروا هذا الكتاب هذا التعليل منه مبينا على أصول المعتزلة، إن ما يفعل العبد مقدور له فلا يفعله الله؛ لاستحالة مقدر بين قادرين، وما ذكروه ليس كذلك، بل إذا [ذهبوا إلى*] أن ما يجعله الله تعالى في القلوب [فلَا*] يوصف العبد بأنه اخترعه في عرف لغة العرب لَا حقيقة [ولا مجازا*]، [ولو أراد ما يتوهمونه لقال: إن*] ما يجعله هو تعالى حقيقة لَا يوصفون بابتداعه على طريق الحقيقة، ولا

يمتنع في الآية وصفهم بابتداعها مجازا؛ إذ وصف الله تعالى بابتداعها حقيقة ولا يستحيل ذلك عند المعتزلة، والرهبانية لغة تعبد الراهب فهي من أفعال القلوب، وما ذكره المفسرون: أن معناها ما كان يفعله الرهبان من التزام الصوامع واعتزال النساء، وغير ذلك، إنما هي أشياء أحدثها الرهبان من عند أنفسهم، فسر بعضهم الرهبانية بالمعنى الذي ذكره المفسرون، وقدر حذف مضاف، وحب رهبانية، ولا يلزم على هذا أن يكون ما جعله الله في القلب موصوفا بأنهم ابتدعوه، وما ذكره أبو علي من حمل الآية على الاشتغال أولى، لأن حذف الفعل أولى من حذف المضاف، [إذ للفعل مفسر*]، ولا مفسر للمضاف في اللفظ، وأورد على أبي علي [أنه لا يفسر في الاشتغال إلا بما يعمل*]، والصفة لَا تعمل في الموصوف، وأجاب الشلوبين: بأن مراده الصفة المعنوية، لا الصناعية، وهذا [المراد عنه*] غير لازم لأبي علي، لأنه لم يجعل ابتداعها صفة في حال نصب (رهبانية)، بفعل مضمر، بل على تقدير جعل (رهبانية) معطوفة على (رأفة)، ابن سلامة: البدعة إحداث على لم يكن ثابتا والتزام ما لم يلزم بدعة انتهى، إن قلت: هل يؤخذ أن من ابتداء النافلة قائما أنه لَا يكون له إتمامها جالسا اختيارا لأن الله تعالى ذم هؤلاء على عدم الوفاء بالأمر الملتزم، قلت: لم يذمهم على ذلك، بل رتبه على أنهم مقصرون بفعلهم المرجوح دون الأرجح. قوله تعالى: (فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ). إن أريد به الحكم الشرعي بالإيتاء فهو حقيقة، وإن أريد به نيلهم ذلك [بالعمل*]، فيكون في معنى المستقبل مثل أتى الله، فإن قلت: إيتاء الأجر يشمل الدنيا والآخرة، قلت: أوتوا في الدنيا بعض الأجر لَا كله، وقد أخبر عنهم أنهم أتوا أجرهم كله، فلا بد من جعله في معنى المستقبل، فإن قلت: لم يؤتوا كل أجرهم؛ بل بعضه، [لأن ما*] في الآية إخبار عن قوم مضوا وانقطعوا، فقد [أوتوا*] أجرهم فيما مضى، قلت: لم يؤتوا كل أجرهم بل بعضه، لأنهم لم يدخلوا الجنة، بل نالوا أوائل النعيم، فلم يستكملوا أجرهم، وقول الزمخشري: إن الجبابرة ظهروا على المؤمنين بعد موت عيسى عليه السلام، فقاتلوهم ثلاث مرات، قد يقال: إنه غلط في قوله بعد موت عيسى، لكن وقع في أواخره في جامع العتبية في ترجمة ابن عيسى، قال مالك: كان عيسى عليه السلام يقول: يا ابن الثلاثين [مضت*] الثلاثون فما تنتظر، قال: فمات وهو ابن ثلاث وثلاثون سنة، ابن رشد: هذا مشكل مع قوله تعالى: (وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ)، وقوله تعالى: (وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا (157) بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ)، قال: لكن يحتمل أن يكون لم يمت، [عندما رفع إلى السماء*]، ونسب إليه الموت باعتبار رفعه من الأرض، ويحتمل أنه مات حقيقة، ورفعت روحه،

(28)

انتهى، قال شيخنا: ولا يخالف ما ورد في الحديث: من نزوله الأرض في آخر الزمان لاحتمال أنه يجيء حينئذ بعد موته (¬1)، وينزل إلى الأرض، وانظر كلام ابن عطية في سورة آل عمران في قوله تعالى: (إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ). قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ ... (28)} ابن عطية: قيل: المخاطب بها أهل الكتاب، أي يا أيها الذين آمنوا بعيسى آمنوا بمحمد، وقيل: الخطاب للمؤمنين من أمة محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، أي دوموا على إيمانكم، انتهى، فالأمر على هذا بالإيمان مجاز، بمعنى الدوام، هذا إن قلنا: إن الإيمان لَا يزيد ولا ينقص، وإن قلنا: إنه يزيد وينقص، فيكون الأمر بالإيمان حقيقة، والآية دليل على أن الأمر للتكرار، إذ لو لم يكن [للتكرار*] لكان للمرة الواحدة، ولو كان للمرة الواحدة للزم عليه لحوق الرحمة، والثواب للمزيد، وهو باطل بالإجماع، فدل ذلك على أن الأمر بالتقوى والإيمان للتكرار والدوام عليه إلى الموت، ورد هذا بوجهين: الأول: أنه معارض بأن تقول ما ذكرته من الدليل، وإن دل على ثبوت الحكم في صورة النزاع [فثَمَّ ما ينفيه*]، وهو من مات إثر إسلامه فإنه تناله الرحمة والثواب إجماعا، ولو كان الأمر للتكرار للزم عليه ألا ينال ذلك إلا من تكرر منه الإيمان، وأجيب: بوجهين: الأول: أن ذلك إنما أتى من مفهوم الآية، وهو أن المعنى آمِنوا إيمانا دائما متكررا، ودليلنا نحن مستفاد من منطوق الآية، والمنطوق مقدم على المفهوم. الثاني: أن دوام كل شيء [**يُحس] فهذا دوام حكمي لَا وجودي، فيدخل في ضمن الآية. الوجه الثاني من الردين أن الخلاف إنما هو حيث يرد لفظ الأمر غريبا عن القرائن، وهذا السياق يدل على أنه للتكرار، أجيب: بأنه في اللفظ ما يدل عليه، وإنما القرينة من خارج تخصصه أو تقيده، وذلك لَا يمنع من جواز حمل اللفظ على التكرار، وقد قال الجدليون: جواز الإرادة موجب للإرادة، فجواز إرادة التكرار موجب لإرادة التكرار، بل التكرار مستفاد هنا من لفظ الأمر، لأن المراد بقوله (آمنُوا)، حصلوا الإيمان الشرعي، [وإلا فالشرعي*] هو الدوام عليه، أجيب: [بأنه ليس كذلك*]، بل المرتد قد حصل الإيمان الشرعي. ¬

_ (¬1) كلام في غاية البعد، وكان المتوقع من الإمام ابن عرفة -وهو المحقق المدقق- أن يرد هذا الكلام، لا أن يؤيده. اهـ (مصحح نسخة الشاملة).

(29)

قوله تعالى: (يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ). وفي سورة النساء (مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا) فجعل النصيب جزاء عن الحسنة، والكفل جزاء عن السيئة، وهنا جعله في جزاء السيئة، والجواب: أن الجمع بين الآيتين ينتج أن الكفل أعم، يصدق على جزاء السيئة، وجزاء الحسنة، والنصيب خاص بجزاء الحسنة، و (مِن) في (رحمته) إن كانت للسبب فالرحمة بمعنى الإرادة، أي [يثبكم*] عليه، بسبب [إرادته*] ذلك، وإن كانت للتبعيض فالرحمة راجعة لصفة الفعل. قوله تعالى: (وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا). إن قلت: دفع المؤلم آكد من جلب الملائم، وإيتاء الرحمة وجعل النور أمر ملائم، والمغفرة من باب دفع المؤلم، فهلا قدمت؟ فالجواب: أنه من عطف الترقي. قوله تعالى: (وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ). إن قلت: الرحمة سبب، فهلا قدمت عليها؟ قلت: المغفرة راجعة لدفع المؤلم، والرحمة لجلب الملائم؛ فلذلك أخرت، وقال السماكي: لأن المغفرة سلامة، والرحمة غنيمة، والسلامة مطلوبة قبل الغنيمة، ثم قال: فإن قلت: لم ذكر في سبإ في قوله تعالى: (وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ)، فأجاب: بأن ذلك منتظما في تعداد الخلق من المكلفين، وغيرهم، فالرحمة [تشملهم جميعا*]، والمغفرة تخص بعضا دون بعض، والعموم قبل الخصوص. قوله تعالى: {لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ ... (29)} إن قلت: فيها حجة على المعتزلة في قولهم: إن العبد يخلق أفعاله، قلت: لا دليل فيها لوجهين: الأول: اتفاقا على أن قدرة العبد قاصرة عليه، ولا [تَصَرُّفَ*] له في قدرة غيره، والقدرة هنا منسوبة لله تعالى، أي هم عاجزون عن كل ما تفضل الله به. الثاني: أن المراد من قوله (مِنْ فَضْلِ اللَّهِ)، الحكم بالشيء من ثواب [وعقاب ونصرة*]، وغير ذلك، فيكون أمرا [حُكْمِيًّا*]؛ لَا أنه فعل وجودي، فإن قلت: فيها دليل على أن أهل الكتاب عناد؛ لاقتضاء أنهم سيعلمون بنصرة المؤمنين عليهم عجز به عن

الأسباب المتحصلة، قيل: فضل الله ورحمته، وإذا علموا ذلك كان كفرهم عنادا، قلت: فرق بين عنادهم في الإيمان وبين عنادهم في حقيقة ما دل عليه القرآن الذي أخبرهم به النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، لأنهم إن علموا ذلك بعد هذا تحققوا صدق ما أخبروا به في هذه الآية. قوله تعالى: (يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ). من خواص الإرادة الترجيح من غير مرجح. * * *

سورة المجادلة

سُورَةُ الْمُجَادَلَةِ تكرر فيها اسم الجلالة أربعين مرة. قوله تعالى: {قَدْ ... (1)} الزمخشري: (قَدْ) معناها التوقع، قال هو والفخر، لأن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم والمرأة المجادلة كانا يتوقعان أن قد سمع الله بمجادلتهما وشكواهما، وينزل في ذلك ما يفرج عنهما، انتهى، هذا لَا يتم على قواعدنا، ولا على قواعد المعتزلة؛ لأنه إن أريد به السماع في نفس الأمر، فلا يصح فيه التوقع بل هو ثابت، وإن أريد به النسبة إلى المخاطب، فالنبي صلى الله عليه وسلم وعلى آله والمسلمون، ما كانوا يتوقعون السماع، بل يحققونه، وأما على قواعد المعتزلة، فلأن الله تعالى عالم بذلك في نفس الأمر، وكذلك في اعتقاد النبي صلى الله عليه وسلم من غير توقع، فلا بد من التجوز في الآية إما بأن يراد بـ (سَمِعَ) استمع إشارة إلى أنه سماع إجابته، أو يضمر في الآية فعل، أي سمع هو قولها وأجابها، والتوقع في هذا ممكن لكن يلزم على الأول المجاز، وعلى الثاني الإضمار فيتعارضان، وإن قلت: القول أعم من الكلام لصدقه على المفرد، وعلى المركب الغير مقيد، وسماع المركب مستلزم سماع المفرد، بخلاف العكس فهلا [عبَّر*] بالأخص؟ فالجواب: أنه عبر باللفظ الأعم، ليفيد عموم السماع في [المقيد*] وغيره، وذكر الخونجي أن الطلب من خصائص المركب، لأنه قسم المركب إلى الطلب، ونص الإبياري على كونه في المفرد. قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ). الزمخشري: يصح أن يسمع كل مسموع، ويبصر كل مبصر، انتهى، هذه العبارة لا تجوز عندنا ولا عندهم، بل سماعه وإبصاره عندنا واجب غير ممكن، وعندهم راجع لصفة العلم، وعلمه بالأشياء واجب غير ممكن؛ إلا أن يجيبوا لهم عن مذهبهم، بأن بعض المعتزلة زعم أن العلم بالشيء مقارن لوجود ذلك النفي، فتعلق العلم بالحوادث مقارن لوجودها، وهي ممكنة، فيكون العلم بها ممكنا فتصح عبادته. قوله تعالى: {مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ ... (2)} هذه الجملة خبر عن الأولى، وهي موجبة [معْدولة*]، وليست سالبة؛ لأن الموضوع ليس هو الموضوع في الأولى فهي كقولك: زيد بصير، أي هن غير أمهاتهم، وهي من معنى قولك: زيد ما ضربته، ونفي الولادة والأمومة حكم شرعي لَا سلبي، لأنهم معلوم أنهم ليسوا بأولادهم، أي لَا يحكم لهم في الشرع بحكم الأمهات.

قوله تعالى: (إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ). إن قلت: هذا الحصر تخرج عنه الأم من الرضاعة، وزوجات النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، لأنهن أمهات المؤمنين شرعا، لأنكم قلتم: المراد بالأمهات في الآية حكما لَا نسبا، فالجواب: أن تقول أن هذا الحصر عام مخصوص بما ذكروا أكثر عمومات القرآن مخصوصة، أو تقول إنه عام خرج على سبب، فيقصر عليه؛ لكن المشهور أن العلم الدال على سبب لَا يجب قصره عليه، وأجيب أيضا: بأن يكون هذا قبل نزول آية الرضاع، وقيل: نزول قوله (وَأزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ)، ورد بأن آية الرضاع مكية، وأيضا فهذا خبر، والخبر لَا ينسخ، وأجيب: بأنه خبر تضمن حكما شرعيا فيصح نسخه، ورد بأنه لَا ينسخ الخبر مطلقا، فإن قلت: الظاهر شبه الزوجة بالأم، ولم يجعلها أمًّا حقيقة، فهلا قيل: (مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ)، قلت: التشبيه في اللفظ، والمقصود في المعنى؛ لتسوية الزوجة بالأم في التحريم وتنزيلها منزلتها، فأتت الآية ردا على اعتقادهم. قوله تعالى: (وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا). الزمخشري: (وَزُورًا)، أي كذبا باطلا منحرفا عن الحق، الفخر: الظاهر شبه زوجته بأمه، ولم يجعلها هي، فكيف قيل: (مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ)، وكذب في قوله، ثم أجاب: بأن لفظة إن كان خبرا فالكذب في تشبيه المتحللة بالمحرمة في الخطيئة والحرمة، وإن كان إنشاء، فمعناه أن الشرع جعل الظهار سببا في حصول الحرمة، فلما لم يرد الشرع بهذا التشبيه، كان جعله إنشاء في وقوع هذا الحكم كذبا، انتهى، الظهار إنشاء لأنه لَا يثبت معناه إلا به، والتكذيب من عارض الخبر، لَا من عوارض الإنشاء، فحينئذٍ تقول: الظهار إنشاء ولا شيء من الإنشاء بكذب، فلا شيء من الكذب بظهار، ثم يضم له مقدمة أخرى، فتقول: الظهار زور بمقتضى هذه الآية، ولا شيء من الزور بظهار بمقتضى المقدمة الأولى، فينتج لَا شيء من الظهار، والجواب: بأن الظهار له اعتباران فهو باعتبار التشبيه، خبر يعرض له التصديق، والتكذيب باعتبار التزام مقتضى التشبيه هو إنشاء لَا يقبل تصديقا ولا تكذيبا، يرد بأنه يلزم عليه الجمع بين الضدين، فإما أن يجعله إنشاء مجردا أو خبرا، والجواب: بأن الظهار كان في الجاهلية قبل نزول هذه الآية موجبا للتحريم، فتركت الآية ردا على اعتقاد ذلك، وإن وضع الظهار أو التحريم ليس بحكم شرعي، فلا يلزمه الشرع فيه ما التزمه من التحريم، وإذا لم يلزمه ذلك فيه خرج عما وصفه له، فبطل فيه حكم الإنشاء فيصح تعلق التكذيب به، وإما تعهد نزولها فالظهار لازم لمن التزمه فهو إنشاء لَا خبر يرد بأنه يلزم ذلك في هذه القصة

التي نزلت الآية لأجلها، فإن كان إنشاء فقد سماه في القرآن زورا مع أنه ظهار على مقتضى فعل الجاهلية، ويجاب: بأنه يفهم تعلق التكذيب به بوجهين واعتبارين، فالمراد بالظهار في اللغة التحريم المؤبد، وهذا ما يطلقه الأمر بداية التحريم، وفي الشرع التحريم المعلق على إخراج الكفارة، فإِذا قال: أنت عليَّ كظهر أمي، فقصد به التحريم المؤبد، وهو كاذب شرعا، كمن قال في ثوب غيره: بعتك يا فلان هذا الثوب فهو صادق باعتبار اللفظ، والقصد كاذب من جهة المعنى مع إنشاء بلا خلاف، وهذا [محرم*]، قال ابن التلمساني في شرح المعالم: لما قال الفخر: [الأكثرون*] عرفوا الخبر بأنه ما احتمل الصدق والكذب، وأبطله الفخر بأن التصديق والتكذيب هو الإخبار عن كونه صدقا وكذبا فيلزم [الدور*]، وأجاب ابن التلمساني: بأنا لَا نسلم أن الصدق هو الخبر المطابق، بل مطلق المطابقة، وكذلك الكذب فلا يتوقف فيهما عليه، وقال القرافي في [فروقه*]: مما يتوهم أنه إنشاء، وهو خبر قول القائل: أنت عليَّ كظهر أمي، يعتقد الفقهاء أَنَّهُ إنْشَاءٌ لِلظِّهَارِ، [كَقَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ*] إنْشَاءٌ لِلطَّلَاقِ [فَإِنَّ الْبَابَيْنِ فِي الْإِنْشَاءِ سَوَاءٌ*] وليسا سواء، والفرق بينهما [مِنْ وُجُوهٍ*] أحدهما: أن الخبر محتمل للصدق والكذب، والظهار موصوف بالكذب بالقرآن، بقوله تعالى: (وَزُورًا)، وبقوله تعالى: (مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ)، [فَكَذَّبَهُمْ اللَّهُ*]، وبقوله تعالى: (مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ)، والإنشاء للتحريم لَا يكون منكرا بدليل الطلاق. الثاني: أجمعنا أن الظهار يحرم، وليس للتحريم مُدْرَكٌ إلَّا أَنَّهُ كَذِبٌ، ورد عليه مختصره بأن مدركه تشبيه من يحل وطئه، بمن يحرم، فأتى بحكم يخالف حكم الله تعالى. الثالث: أن فيه الكفارة التي هي زاجرة ماحية للذنوب، [فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى التَّحْرِيمِ، وَإِنَّمَا يَثْبُتُ التَّحْرِيمُ إذَا كَانَ كَذِبًا، ورده مختصره بما تقدم. الرابع: قوله تعالى: (ذَلِكُم تُوعَظُونَ بِهِ)، وَالْوَعْظُ إنَّمَا يَكُونُ [عَنْ*] الْمُحَرَّمَاتِ، وما ذاك إلا [لِكَوْنِهِ كَذِبًا*]، ورده أيضا المختصر بما سبق، وقال القرافي في الذخيرة: صيغ العقود، والطلاق والعتاق نحو بعت، وأنت طالق، وأنت عليَّ كظهر أمي، أصلها إخبارات ثم نقلت للإنشاء، انتهى، وقوله تعالى: (وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ)، في [لفظه*] رد على ما قال الزمخشري: إن في التصريح بلفظ (منكم) [توبيخ*] لما عدل عنه في الآية إلى لفظ الغيبة، وإيجاب على البعد من ذكره، وعدم الاتصاف به إذ لو كان في الخطاب [توبيخ*] لما عدل عنه في الآية إلى لفظ الغيبة

(3)

وله أن يجيب: بأن هنا يغني عنه، وهو التصريح بكونه منكرا، أو زورا فهو إغناء عن التعبير عن ذلك بلفظ الخطاب. قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ ... (3)} عطف هذا بالواو دون الأول، لأن الأول: جواب عن سؤال، لأن خولة سألت عن ذلك، وشكت أمرها إلى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، الثاني: معطوف عليه وهو كالمبتدأ، لأن الأولى اقتضت تحليل المظاهر، وأن الظهار لَا يوجب تحريمها، فالتحليل سبب في الكفارة فعطف بالواو، والآية حجة لمن يقول: إن الظهار لَا يكون في الأَمَة، لأن الإضافة في قوله تعالى: (مِنْ نِسَائِهِم)، ليست للملك، وإنما هي للتشريف [فيقتضي*] الحرائر دون الإماء، والاستحقاق كذلك، لأن الحر إنما يستحق [النكاح*]، وبدليل قول مالك: إن الحرة تكون فراشا بنفس العقد عليها، بخلاف الأمة فإنها فراش للسيد بعد عقد الزوج عليها حتى يطأها الزوح، فقال ابن العربي: أجمعنا على أن العبد ليس من رجالنا، في قوله تعالى: (وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ)، فكذلك الأمة لَا تكون من نسائنا، ولذا قال: من النساء لضم الحرائر والإماء. قوله تعالى: (ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا). قال ابن رشد في المقدمات: اختلفوا في العود الموجب للكفارة على ستة أقسام أقوال أحدهما: إذا أراد الوطء واجتمع عليه لزمته الكفارة، وإن مات أو طلقها، قاله مالك في الموطأ. الثاني: إرادته الوطء وإجماعه عليه مع استدامة العصمة، فمتى انفرد أحدهما لم تجب الكفارة إن اجتمع على الوطء ثم قطع العصمة بطلاق، أو موت سقطت الكفارة، وإن كان قد عمل بعضها سقط سائرها، وكذلك إن استدامة العصمة، ولم يرد الوطء ولا اجتمع عليه لم تجب عليه الكفارة بل لَا تجز به إن فعلها وهو غير عازم على الوطء وغير مجمع عليه، قاله مالك في المدونة، وعليه جماعة أصحابه، قال ابن رشد: وهو أصح الأقاويل، وأجراها على القياس وأبينها لظاهرِ القرآن، لأنه إذا أراد الوطء وجب عليه تقديم الكفارة قبله لقوله تعالى: (مِنْ قَبْلِ أنْ يَتَمَاسَّا)، ما لم تنقطع العصمة ويرجع بنيته عن إرادة الوطء.

والثالث: [أنه*] عودة الوطء نفسه روى عن مالك حكى الثلاثة أقاويل عنه عبد الوهاب، فقيل: هذا القول [لَا تجزئ*] به الكفارة قبل الوطء، وإن أراد الوطء وأجمع عليه واستدام العصمة، وله أن يطأ قبل الكفارة مرة، فإذا وطء وجبت عليه الكفارة إن أراد الوطء ثانية، فاستدام العصمة، فإن رجعت نيته عن الوطء وانقطعت العصمة بموت أو فراق، سقطت الكفارة ما لم يطأ ثانية، وحكى هذا القول أصبغ في العتبية عن أهل المشرق، ومن يرتضي من أهل المذهب. والرابع: استدامة العصمة، وترك الفراق قاله الشافعي رحمه الله قال: وأما من ظاهر ثم لم يطلق زوجته طلاقا متصلا بالظهار، فقد وجبت عليه الكفارة. قال الخامس: [أنه*] العود فيعود فيتكلم بالظهار مرة أخرى، وهو مذهب داود، وأهل الظاهر وبكير بن الأشج. السادس: قول ابن قتيبة: أنها العودة في الإسلام، أي نفس القول بالظهار الذي كانوا يظاهرون به في الجاهلية، ويعدونه طلاقا، ولما ذكر ابن رشد القول الرابع عن الشافعي رحمه الله قال: وهو فاسد يدل على فساده القرآن واللغة، على أن [أصحابه*] يدعون له علم اللغة، لأن الله تعالى قال (ثُمَّ يَعُودُونَ)، ثم للتراخي بلا خلاف، والعصمة لم تنقض بالظهار فمحال أن يقال: ثم يكون كذا لم يزل كائنا، وهو خطأ من وجه آخر؛ لأنه إنما أوجب عليه الكفارة لتركه الطلاق، فيكون معنى (ثُمَّ يَعُودُونَ) عنده، ثم لم يطلقوا، وقوله (ثُمَّ يَعُودُونَ)، إيجاب ولم يطلقوا نفي، ولو صح ذلك لكان الإيجاب نفيا، والنفي إيجابا، وهو محال، انتهى، قوله: إن أصحاب الشافعي رحمه الله يدعون له علم اللغة نحو ما قال ابن التلمساني في باب الأوامر في المسألة السابعة اعتمد بعض الأئمة في إثبات دلالة المفهوم على أنه قال به كثير من أئمة العربية، كأبي عبيدة، قال: رحمة منهم، وقد احتج الأصمعي، وصحح ديوان الهذليين، انتهى، وهذا خلاف في تقييده في باب العطف، لما حكى أن الواو للترتيب، وقول ابن رشد، أن ثم للتراخي، بلا خلاف غير صحيح، قال ابن عاصم وغيره: وقيل: إنها بمعنى الواو ولا مهلة فيها، وقوله: لَا يكون الإيجاب نفيا، إن أراد حقيقة النفي والإثبات فمسلم، وإن أراد باعتبار المعنى فممنوع إذ لَا يكون الإيجاب نفيا؛ إن أراد حقيقة النفي والإثبات فمسلم لَا يجوز أن يقال: هذا متحرك لأنه لم يسكن، هذا ساكن لأنه لم يتحرك، فيصح تفسير الإثبات بالنفي، وإنما الممنوع توارد النفي والإثبات على شيء واحد، لأنه تناقض، فإِن قلت: قد قال الفخر: في الآيات البينات أن الفصل لَا يكون عدميا، لأنه لَا يفسر الإثبات بالنفي، قلت: ما قاله غير

صحيح، لأن الفصل أمر ذاتي للماهية، مقدم لها والماهية لَا تتقدم بالعدم، بخلاف الخاصة، فإِنها يصح أن تكون عربية لأنها خارجة عن الماهية لَا تتقدم بها، فحقه إن كان يقول الفصل لَا يكون عدميا، لأن الماهية لَا تتقدم بالعدم، ولا نتعلل بالإثبات والنفي، لأنه في الخاصة يفسر الإثبات بالنفي، وهذا ليس من ذلك القبيل. لأن ذلك في التصورات، وهذا من الرسم لَا من الحد. لأن معرفات الفقه كلها رسوم بالجنس، وخاصة [ ... ] بحدود. قوله تعالى: (فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ). العطف بالفاء دليل على أنها للترتيب؛ لأن الكفارة إنما تجب بالعودة، وإذا فعلت قبل العود، وكانت [نفلا*] يسد مسد الفرض، وقال في كفارة القتل (فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ)، فهل يرد المطلق على المقيد أو لَا؟ فيه خلاف في أصول الفقه في المطلق والمقيد إذا اختلفا في السبب واتحدا في الموجب، هل يرد المطلق إلى المقيد أو لَا؟، قالوا: والصحيح أنه لَا يرد إليه، لأن المطلق أعم فيتناول صورة المقيد وغيرها، والأعم لَا إشعار له بالأخص، ومالك اشترط فيها الإيمان، وحجته إما [برد*] المطلق للمقيد، وإما بقاعدة الاحتياط في الخروج من العهدة. قوله تعالى: (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا). فائدة إدخال (مِنْ) لتدل على ابتداء أزمنة الصلة، فيكون الأمر بالكفارة على الفور، أي بنفس الفرد تجب الكفارة، ولذلك دخلت الفاء لتفيد أيضا التعقيب، وفي الآية سؤالان: الأول: لم قيل: (يَتَمَاسَّا)، ولم يقل: يتماسوا كما قال: يظاهرون؟ وجوابه: أن التماس صفة لَا تعقل إلا من اثنين [ماس وممسوس*]، والظهار من فعل الرجال فقط، وفعل الجماعة لَا يدل على [المشاركة*] بين اثنين، وإنما يدل على وقوع ذلك عن كل واحد على حدته، ولأن المظاهر منها يجب عليها أن تمنع زوجها من نفسها حتى يكفِّر، والمماسة من [فعلهما*] معا بخلاف الظهار. السؤال الثاني: قال ابن رشد في مقدماته في كتاب الطهارة في قوله تعالى: (أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ)، الملامسة لَا تكون إلا عن قصد، والمماسة أعم، تكون عن قصد وغير قصد، فيقال: تماس الحجران، وكفارة الظهارة إنما تجب بالملامسة لَا بالمماسة، فهلا عبر باللفظ الأخص فهو أخص في بيان ما يقع به الوجوب، لأنهم قالوا: إذا مسها ناسيا فلا كفارة عليه، وجوابه من وجهين:

(4)

الأول: مادة التماس تقتضي أنه من اثنين لأنها مفاعلة، والغالب في فعل الاثنين أن يكون مقصودا. الثاني: أنه إشارة إلى أن الكفارة على الفور، وأنها تجب قبل القرب من المرأة بقصد، أو غيره، ويجاب أيضا: أنه من باب النفي، وهو المنع من الوطء حتى يكفِّر، والقاعدة استعمال الأعم في النفي، والأخص في الثبوت، قال شيخنا ابن عرفة: ولو قالت المرأة لزوجها أنت عليَّ كظهر أمي، فلا خلاف أنها لَا يلزمها شيء إلا أن ابن السيد حكى في شرح الموطأ عن الحسن: أنه يلزمها الكفارة. قوله تعالى: (ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ). الزمخشري: لأن الحكم بالكفارة دليل على ارتكاب [الجناية*] يعني الإثم، والكفارة راجعة للإثم، ويرد بالكفارة اليمين بالله تعالى، وبأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، حلف وكفَّر، وكذلك أبو بكر، ولا إثم هناك، وإنما الإثم الذي ترفعه الكفارة في الظهار فقط فحقه أن لَا يقول ذلك مطلقا بل مقيدا بهذا. قول (وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ)، أطلق هذا القول لأن العمل أعم يصدق على القول، والعمل. قوله (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ ... (4) .. ، المراد بنفي الوجدان نفي الملك، فإِذا أعتق عنه الغير لا يجزئه، [لأنه لَا يكون له ولاء*]، بل للمعتق، والولاء تابع للملك ومستلزم له، لقوله: إذا اعتق أجنبي عن امرأة زوجها في كفارة عليها أن النكاح لَا ينفسخ على المشهور، بخلاف ما لو أعتقه عنها على مال دفعته فإنه ينفسخ النكاح، لأن الولاء لها حينئذ. قوله (مُتَتَابِعَيْنِ)، اللفظ يقتضي تتابع الشهرين أنفسهما فيما بينهما، وتابع أيامهما وتقييد الشهرين بالتتابع دليل على أن كل ما اختلف فيه من الصوم المطلق فإنه غير متتابع، كقوله لله عليَّ صوم شهر، إذ لو كان التتابع مفهوما من لفظ الشهر، لما احتيج إلى تقييده بالتتابع، ولكان وصفه بذلك تأكيد مع أن الأصل التأسيس، و (لم) هنا لنفي الماضي المتصل بالحال، لأنه إذا كان عديما حين اليمين ثم أيسر بعد ذلك، فعليه العتق، وإنما يعتبر يسره وعسره حين الحكم عليه، واختلفوا في الإطعام، وفيه طريقان فمن الشيوخ من يقول: يطعم مُدًّا بمد هشام، ثم يحكي الخلاف في قدر مُدِّ هشام، فقيل: هو مدان إلا ثلث بمده صلى الله عليه وسلم، وقيل: مد وثلث بمد هشام، ثم يقول: وفي قدر مد هشام قولان: قيل: مدان إلا ثلث، وقيل: مد وثلث، وأكثر الكفارات متفقة، وكفارة فدية الأذى مدان بمده صلى الله عليه وسلم، وجزاء صيد مد واحد بمده صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وبمعنى ذلك أن

(5)

الحكمين يحكمان عليه بمثل ما قتل من النَّعَم أو قيمته طعاما فيطعم مدا واحدا لكل مسكين. قوله تعالى: (ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا). أي أنزل حكم الظهار [لتعملوا*] به فتؤمنوا بالله ورسوله، إذ لَا يعمل به إلا من صدق الرسول فيما أخبر به عن الله، [**ولا يصدقه الأمر من الفخر، أي ترتيب الكفارة أول، ثم ثان، ثم ثالث، لتؤمنوا]. قوله (وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ)، ذكر هذا دليل على أن حدود الله لَا يتعداها إلا من قارب الدخول في الكفر، والرجوع عن الإيمان، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: "المعاصي تزيد الكفر". قوله تعالى: {آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ ... (5)} احتجوا بها على أنه لَا يجوز أن يرد في القرآن ما لَا يفهم، وأجيب: بأن قوله تعالى: (آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ)، مطلق يتناول بعض الآيات لَا كلها، ولا شك أن بعضها بين بلا خلاف. قوله تعالى: (مُهِينٌ). وقال تعالى قبله (عَذَابٌ أَلِيمٌ)، والجواب: [أما*] الأول فعلى الأصل، لأن كل عذاب أليم، وأما هذه فوجه مناسبتها أن المجادلة هي المشاقة، ومن لوازمها الظهور والارتفاع، والإهانة من لوازمها الذل والانخضاع. قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ ... (7)} الخطاب إما للنبي صلى الله عليه وسلم، أو لخواص المؤمنين أو لعمومهم، ونزل الجاهل منزلة العالم؛ لظهور الدلائل الدالة على ذلك، بحيث لَا يخفى على أحد. قوله (يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ)، الزمخشري: لأن من علم بعض الأسباب بغير سبب فقد علمها كلها، ابن سلامة: هذا اعتزال لأنه ينفي الصفة، فيقول: إن الله عالم بلا علم، قال شيخنا: ليس باعتزال إذ لَا يصح أن يقول الحق إنه عالم بسبب، وإنَّمَا ذلك في العلم الحادث، وأما العلم القديم، فهو عالم لذاته، لَا بسبب، وقولنا عالم بعلم ليس بسبب بل الباء للمصاحبة. قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ ... (8)}

(9)

المعنى [ألم تنظر*]، فلذلك عدى بإلى، والنظر سبب في الرؤية، وقد ينظر فيرى وقد لا يرى، والآية دليل على أن النهي للتكرار، وهو المشهور، ولذلك ذموا على عدم الانتهاء. قوله تعالى: (وَيَتَنَاجَوْنَ بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ). قال شيخنا: الذي يظهر أن الإثم هو تناجيهم في حالة نصرة المؤمنين وأمنهم، والعدوان هو تناجيهم حالة خوف المؤمنين وقتالهم؛ لكن في غيبة النبي صلى الله عليه وسلم، ومعصيته تناجيهم بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم في حالة خوف المؤمنين وقتالهم. قوله (وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ)، دليل على أن ما في النفس يسمى قولا، إما بطريق الحقيقة، أو بطريق الاعتزال. قوله (لَولا)، تخصيص على معنى التهكم والاستهزاء. قوله (فَبِئْسَ الْمَصِيرُ)، إذا علق الذم على الوصف الأعم، فأحرى الأخص، لأن المصير أعم من قوله: مصيرهم. قوله (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ... (9) .. ، يحتمل أن يريد المؤمنين حقيقة، أو المنافقين، فالمعنى: يا أيها الذين آمنوا في الظاهر؛ لأن وصف الإيمان صادق عليهم مقيدا، وإذا صدق مقيدا صدق مطلقا، فإن قلت: لو أريد المنافقون للزم عليه التكرار، لتقدم نهيهم في قوله تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى)، قلت: ذلك نهي عن النجوى المستلزمة للوقوع في الإثم والقبح، وهذا أمر بالنجوى المستلزمة للبر والتقوى. قوله تعالى: (إِذَا تَنَاجَيْتُمْ). أي إذا أردتم التناجي. قوله تعالى: (وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى). إن قلت: يدل على أن النهي عن الشيء ليس بضده، والإيمان تأكيد، والأصل التأسيس، قلت: إنما ذلك حيث يكون له ضد واحد، وهنا له أضداد منها الإباحة فأفاد الأمر تعيين المراد من تلك الأضداد، ووقع النهي عن ثلاثة أشياء والأمر بشيئين، والواو في [وَتَنَاجَوْا*] بمعنى (أو) إذ لو كانت للجمع على حقيقتها للزم عليه أن يكونوا نهوا عن الجمع في التناجي بين الأمر، فيبقي التناجي الملزوم لأحدهما فقط، غير منهي عنه، لأنها قبل النهي كانت للجمع بينهما، فدخل النهي عليها فأفاد [التحذير*] منهما

(10)

عن أحدهما، فإن قلت: وقع في الحديث النهي عن التناجي مطلقا، بقوله: "لا يتناجى اثنان دون واحد"، وظاهر الآية خصوص النهي [بالتناجي بالإثم*] والعدوان، وجواز التناجي بغير ذلك؟ قلت: معنى الحديث النهي عن التناجي الملزوم للإثم، فإِن قلت: كيف يفهم هذا الترتيب بين المعطوفات على ما فسرته في الآية لأنك جعلت معصية الرسول أخصها، ثم العدوان ثم الإثم، والقاعدة في النهي والنفي البداية [بالأخص*]، والجواب: أن قصد المبالغة في الآية بذكر العدوان والمعصية مدلولا عليها بأمرين: بالمطابقة واللزوم، والشرط ما قلناه راجع للإثم، والتقوى راجعة للعدوان، لأنه إذا اتقى الله لم يعتد. قوله تعالى: {إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ ... (10)} قال الإمام: إلا بخلقه وقدرته، (وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ)، راجع لمعصية الرسول؛ لأن اعتقاد الحشر والنشر لَا يستفاد إلا من جهة الرسول، وليس للعقل مدخل فمن صدق الرسول، فقد اتقى، ومن كذبه فقد عصى الله ورسوله. قوله تعالى: (إِلَّا بِإِذنِ اللَّهِ). قال الإمام: إلا بخلقه وقدرته، الزمخشري: إلا بمشيئته وإرادته، السكوني: اعتزل هنا، لأنه ينفي الكلام، فالمراد بالإذن، قوله تعالى: (إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ)، قال شيخنا: عندنا أن الحوادث إنما هي متوقفة على العلم والقدرة والإرادة لَا على الكلام، هذا من جهة العقل، وأما

(11)

من جهة الشرع فيتوقف على الكلام لقوله تعالى: (نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ)، فإنما اعتزل الزمخشري من جهة ناحية أنه يقول إن العبد يخلق أفعاله فلذلك قال: إلا بإرادته، ولم يقل: إلا بقدرته. قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا ... (11)} الخطاب للمؤمنين أو للمنافقين، فإِن قلت: قوله تعالى: (يَفْسَحِ)، يدل على أن الخطاب للمؤمنين، قلت: [هو*] وعد على تقدير امتثالهم ذلك، ومن المنافقين من أسلم وحسن إسلامه، وامتثل ذلك وفعله حقيقة، فإِن قلت: يبقى من يفسح في المجلس ظاهرا، وهو في الباطن منافق، قلت: لَا يفعله إلا المؤمن حقيقة. قوله تعالى: (فِي الْمَجَالِسِ). صرح بالمجرور في هذا ولم يصرح به في قوله (انْشُزُوا)، والقول يتناول لسان الحال، فيجب على من أمكنه التفسح من الجالسين، أن يفسح للداخل عليه، ولم يصرح بطلب ذلك، [لكن الحال يقتضي طلبه*]. قوله تعالى: (فَافْسَحُوا). يؤخذ منه أن الأمر للفور، لأن الفاء للتعقيب، فإِن قلت: جواب الشرط في الآية يقتضي أنه غير مطابق لفعل الشرط، [لأن*] [(تَفَعَّل) يقتضي [تكلف*] الفعل، و [(افْعَلْ)] يقتضي الإتيان به من غير كلفة، فالجواب من وجهين: الأول: أن تعليق الثواب على الأعم أبلغ من تعليقه على الأخص، لأنه إذا رتب الثواب على الفعل الذي لَا كلفة فيه، أفاد ترتيب الثواب على ما فيه كلفة من باب أحرى. الثاني: أن (تفسحوا) يقتضي اتساعهم فيما بينهم، فيكون الداخل طلبوا أن يتسعوا فيما بينهم، ولم يطلب أن يوسعوا له، فيكون الأمر اقتضى أنهم إذا طلب منهم الاتساع في ما بينهم فليستحضروا في توسعهم اتساعهم لغيرهم، لأن [ ... ] غير متعدد فصح وجه مناسبة هذه الآية لما قبلها، أن التناجي مظنة [للاجتماع*] في المجلس، والازدحام، فيناسب الأمر بالإفساح في المجلس. قوله تعالى: (يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا). ابن العربي: الإيمان في الدنيا نظري، لأن الدلائل الدالة عليه نظرية، [إذ لو*] أظهرها الله تعالى الظهورَ البَيِّنَ لصارت ضرورية، فكان يكون الإيمان [إلجَائِيّاً*] ضروريا،

(12)

انتهى، هذا هو مذهب المعتزلة، بل [لو*] أظهر الدلائل كلها؛ لجاز ألا يؤمنوا، ويدوموا على كفرهم، وإنما الأشياء [عندها لَا بها*]. قوله تعالى: {فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ... (12)} الإضافة للتشريف، أي نجواكم الشرعية اللائقة بكم، وأخر الصدقة عن النجوى، وإن كانت هي المقصود، لأن المعلول متأخر عن علته، والصدقة معللة بالنجوى، وتنكير الصدقة تيسير رحمة، ولذا قال عليه السلام لعليٍّ - رضي الله عنه - ما قال، والأمر بتقديم الصدقة دليل على المراد تقليل المناجاة، لأن فعل ما ليس متوقفا على سبب للبشر من فعل ما هو متوقف على سبب، كما أن البسيط أجلى من المركب وأقرب، والمناجاة دون صدقة أهون على النفوس منها مع الصدقة، وعبر القاضي هنا: بأن عدم الصدقة [للشح*]، وهذا لَا يليق بالصحابة، بل عدم صدقتهم، إنما هو لكونهم رأوا أن إبقاء المال ليستعينوا به في الجهاد أولى من الصدقة، فيتركون المناجاة لأجل ذلك، وإن قلت: إذا كان الأمر بالصدقة إشارة إلى أن المطلوب تقليل المناجاة كما تقدم، فهلا عبر بـ (إن) دون (إذا) لدلالتها على أن ما دخلت عليه مطلوب عدمه، فالجواب من وجهين: الأول: أن المناجاة محققة لأن الصحابة - رضي الله عنهم - لمحبتهم في النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لابد لهم من مناجاته. الثاني: الجزاء مطلوب وجوده، وهو الصدقة، فإذا كان الجزاء مطلوبا كان الشرط كذلك. قوله تعالى: (فَإِنْ لَم تَجِدُوا). والمراد وجدان المطلق كما قال علي - رضي الله عنه - فيمن وجد حبة من شعير: أنه واجد بخلاف من يستحق الزكاة، لأن المطلوب فيها وصف التفرقة، فإذا وجد من يبلغه فهو واجد. قوله تعالى: (فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ). فهل معناه: إن تركتم المناجاة لفقركم؟ أو معناه إن ناجيتم بغير صدقة لفقركم، وهو الظاهر. قوله تعالى: {صَدَقَاتٍ ... (13)} فإن قلت: لم أفردت الصدقة، أولا وجمعت ثانيا؟ قلت: الأول تكليف فأفردت فيه الصدقة، إذ لو جمعت لتوهم أن المراد تقديم صدقات، لَا صدقة واحدة. قوله تعالى: (فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ).

(14)

دليل على أن هذه الآية ناسخة للأمر بالصدقة، [وليس نسخًا إلى بدل*]، وهي الصلاة لأنهم كانوا مكلفين بها والمراد دوموا إقامة الصلاة. قوله تعالى: {وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (14)} الآية رد على الجاحظ القائل: بأن الكذب إنما هو في العمد لقوله (وَهُمْ يَعْلَمُونَ)، فإن أجاب بأنه تأكيد، قلت: الأصل التأسيس، وقال الشريف الحسني في شرح الآيات البينات، [بأن*] الخطيب لما ذكر تعريفه للخبر بأنه ما احتمل الصدق أو الكذب، وحكى ما أورد عليه من أنه يلزم عليه الدور، لأن الصدق والكذب لَا يعرفان إلا بعد معرفة الخبر، أجاب: بأنهما معلومان بالضرورة، فلا دور فيه، انتهى، ويرد بأن الصدق والكذب أخص من الخبر، فإذا كان الأخص معلوما بالضرورة، كان الأعم معلوما بالضرورة، فما يحتاج إلى تعريف الخبر بوجه. قوله تعالى: {فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ... (16)} يحتج بها من يقول: إن الفاء كالواو، [لا تفيد ترتيبا*]؛ لتقدم صدهم على حلفهم، وهذا إن أريد أنهم صدوا في أنفسهم، ويجيب الآخرون: بأن المراد صدهم غيرهم، وهذا أحد التأويلين الذَين ذكر ابن عطية: أي حلفهم صدوا المسلمين عن قتالهم، والانتصاف منهم. قوله تعالى: {لَنْ تُغْنِيَ ... (17)} حجة الزمخشري: في أن لن أبلغ في النفي من لا؛ لأن [الصدَّ سابق على*] الإغناء مطلقا نفيا عاما، فإن قلت: العموم مستفاد من [قولهم]: الأصل [الدلالة*] بالوضع لَا بالقرينة، فإن قلت: لو كانت أبلغ احتيج (هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ)، قلت: الخلود مثبت والإغناء منفي، فإن قلت: نفي الإغناء يستلزم الخلود، قلت: دلالة المطابقة أولى من دلالة الالتزام، فإن قلت: في سورة الكهف (الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا)، فجاء المال في الإثبات، وجاء هنا في النفي مجموعا، وتقرر أن الجمع أخص من الإفراد فكان المناسب العكس، وهو استعمال الأعم في النفي، والأخص في الثبوت، فالجواب: أنه نفي لاستلزام الأخص [لَا نفيا*] للأخص، أي إذا ما أغنت عنهم أموالهم فأحرى [أولادهم*]. قوله تعالى: (هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ).

(18)

الضمير هنا لمطلق الربط، كقول الزمخشري: في سورة البقرة في (وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ)، لأن الخلود في النار ليس خاصا بالمنافقين. قوله تعالى: {جَمِيعًا ... (18)} احتراس، لأنه تقرر أن الكذب فيما يبعد تواطؤ الجماعة عليه، وكذا أكد الإخبار عن كذبهم بـ (إنَّ) والبناء على المضمر، وتعريف الخبر واللام في (له) إما للتعدية، وإما للتعليل، وهو أصوب لأن لام التعدية تقتضي مباشرتهم إياه للحلف، وهو أحقر من ذلك، فإِن قلت: [الكاف*] في قوله (كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ)، [والتسوية*]، وهو مشبه به، قلت: التشبيه لَا يلزم أن يكون من كل الوجوه. قوله تعالى: {اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ ... (19)} الزمخشري: استولى عليهم، وهو مِنْ حَاذَ الْحِمَارُ الْعَانَةَ، إذا جمعها [وسَاقَهَا غالبا*] لها، وهو حمار الوحش، والعانة جماعة [الحمر*]، أبو حيان: قياسه استحاذ مثل استقام، وهي قراءة أبي عمرو، واستحوذ [شاذ*] في القياس فصح الاستعمال، انتهى، هذا مما روعي فيه أصله وفرعه، لأن [حروف العلة إذا تحركت*] وانفتح ما قبلها تقلب ألفا، وهذا أصله استحوذ، فنقلت حركة حرف العلة إلى الحاء، وروعي في الحاء حركتها الآن المنقولة إليها، وفي الواو حركتها المنقولة عنها، الطيبي: روعي فيه ما روعي [في*] استفعل بمعنى فعل، [وجود*] حرف العلة فيها متحرك، الفخر: احتج بها القاضي عبد الجبار من المعتزلة، على أن أعمال الخلق مخلوقة، من وجهين: أحدهما: أن ذلك النيسان لو حصل بخلق الله لكانت إضافته إلى الشيطان كذبا. والثاني: أنه لو حصل بخلق لكان هؤلاء المذكورون كالمؤمنين في أنهم حزب الله، انتهى، وجه الاحتجاج أن المعتزلة اتفقوا على أن العبد يخلق أفعاله الراجعة إلى نفسه، واختلفوا فيما يتعلق منها بغيره، فمنهم من قال: بالتولد وأنه من فعل الفاعل الأول [فما*] يتم له الاستدلال بها إلا على القول بالتولد، وفي الآية دليل على الترك [في الفعل*]، لأن النسيان ترك، وقد قال قبلها (إِنهُم سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)، فسمى الصادر [عنهم*] عملا؛ إلا أن يجاب بأنهم ذموا بأمرين سواء فعلهم وبتركهم ذكر الله، والمصدر في ذكر الله تعالى مضاف للمفعول، ويحتمل أن يكون مضافا للفاعل، والمعنى [فإنساؤهم أنساهم*] أن الله يذكرهم، وأنه ليس بغافل عنهم، ويعلم سرائرهم وخفيات أمورهم.

(20)

قوله تعالى: {فِي الْأَذَلِّينَ (20)} أخص من قولك أولئك أذلاء، ووصف الذلة مقابل لوصف محادتهم، فإن قلت: ظاهرها يوهم كون الشيء ظرفا لنفسه، لأن الأذلين هم المحادون لله، قلت: المعنى على التجوز في جملة الأذلين في العذاب. قوله تعالى: {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ ... (21)} ابن عطية: أي قدر ذلك وأراده في الأزل، الزمخشري: كتبه في اللوح المحفوظ، انتهى، هذا جار على مذهبه، لأنه ينفي الإرادة في الأزل لكنه أقرب إلى ظاهر اللفظ، وعلى تفسير ابن عطية يكون الكتب مجازا، ودخلت اللام في (لأَغْلِبَنَّ) لتضمن الفعل معنى الإرادة، وهي لَا تقع جوابا إلا بعد أفعال القلوب، فإن قلت: لم أتى هذا الفعل بهمزة المتكلم وحده؟ وهلا كان بالنون لأنها للمتكلم، ومعه [غيره*]، أو للمعظم نفسه، ولا أعظم من الله عز وجل؟ فالجواب: أنه عدل عنها خشية إيهام الاشتراك في الغلبة؛ لقصد التنبيه عليه باستقلال الله تعالى واختصاصه بالغلبة دون وزير ولا معين. قوله تعالى: (قَوِيٌّ عَزِيزٌ). القوة راجعة للقدرة، [والعزة*] بمعنى أنه مستغن بإرادته وعلمه وممتنع عن [الاحتياج*] إلى غيره. قوله تعالى: {لَا تَجِدُ قَوْمًا ... (22)} قيل: إنها نزلت في المنافقين، وقيل: في حاطب بن أبي بلتعة من المؤمنين ومخاطبته أهل مكة، وحديثه في مسلم، في كتاب فضائل الصحابة، وذكره الزمخشري في أول سورة الممتحنة، وجعله هنا من التخيل، وقال ابن عطية: المراد يؤمنون الإيمان الكامل، انتهى، وتحقيقه [أنَّا*] إن قلنا: أنها نزلت في المنافقين فينفي وجدان الموادة حقيقة، معناه لَا تجد مؤمنا يواد من حاد الله ورسوله من حيث كونه يحادد إليها مكافأة عن يد سلفت، أو نحو ذلك، فحينئذ لَا يكون المراد نفي الوجدان حقيقة؛ لأن ذلك قد وجد في المؤمنين، كحاطب ونحوه، فيحتاج إلى أحد أمرين: إما أن يجعله تخيلا، فالمراد نفي المراد الإيمان الكامل، ويؤخذ من الآية عدم تزويج الكتابية، لأن التزويج ملزوم للمودة، لقوله تعالى: (وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً)، وتقديره أن الكتابية محادة لله ورسوله، وكل من حاد الله ورسوله لَا يواد، فالكتابية لَا تواد، ثم تقول الزوجة تواد، وكل من يواد لَا يكون كافرا [فالزوجة*] لَا تكون

كافرة، وقال مالك في [العتبية*] في كتاب النكاح الثاني: سماع أشهب، وابن نافع رسم الطلاق، وسئل عن النصراني يصنع صنيعا، فيختن ابنا له فيدعوا في دعوته مسلمين أو مسلما، أترى له أن يجيبه، فقال: إن ما جاء ليس عليه في ذلك ضيق، إن جاء فلا بأس به، قال ابن رشد: معناه لَا إثم عليه في ذلك ولا حرج إن فعله، وذلك إن كان له وجه من جوار أو قرابة، أو ما أشبه ذلك، والأحسن أن لَا يفعل لاسيما إذا كان ممن يقتدى به؛ لما في ذلك من التودد إلى الكفار، وقد قال تعالى (لَا تَجِدُ قَوْمًا)، الآية وفي العتبية أيضا في النكاح الأول، قال ابن القاسم: كره مالك الوصية إلى اليهودي والنصراني، وكان قد أجازها قبل ذلك، قال ابن القاسم: إذا كان على صلة رحم يكون أبوه وأخوه، أو أخواله نصارى فيصل بذلك رحمهم وهو أحسن، وأما لغير هذا فلا. قاله عنه عيسى: وأما الأباعد، فلا يعجبني، نقله ابن يونس في الوصايا، وفي النكاح الثالث من العتبية في رسم باع شاة من سماع عيسى ابن دينار، قال ابن القاسم: لَا أرى أن تجوز وصية المسلم إلى النصراني، إلا أن يرى السلطان لذلك وجها، فإن أجازها استخلف النصراني مسلما يزوج بنات الموصي بالمسلمات، ابن رشد، قوله: يرى لذلك وجها، مثل أن يكون قريبه أو مولاه، أو زوجته، فيزوجوا [حسب*] نظرهم لما في الحيلة من المودة والإشفاق على ذوي الرحم، وهو خلاف ظاهر المدونة إنه لَا تجوز الوصية إلى الْمَسْخُوطِ، ولا إلى الذمي، وقال أصبغ: إذا كان قريبا فلا ينزل، ويجعل معه من عدول المسلمين من ينظر معه، ويكون المال بيده وهو أحسن الأقوال وأولاها بالإتباع، وإليه ذهب ابن حبيب وحكاه عن مطرف وابن الماجشون [وابن شاش*]، وتصح الوصية بالمال للذمي، قال القاضي أبو الحسن القصار: ويكون للحربي عندي انتهى، وجوز وصية المسلم للكافر بالمال عللوه بأنه مكافأة عن يد [سلفت*]، فإن قلت: يعارضه قوله (لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ) الآية، قلت: إنما المراد بذلك المسالمة وترك القتال لا المواصلة والمودة، وفي جامع العتبية في رسم القضاء من سماع أشهب وابن نافع، قيل لمالك: أترى بأسا أن يهدي المسلم لجاره النصراني مكافأة؟ فقال: ما يعجبني ذلك، قال: قال تعالى (لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ) الآية، ابن رشد: أي مكافأة على ما يجب عليه أن يكافئه لَا مكافأة على هدية أهداها إليه، أو لا ينبغي قبول هديته، لأن المقصود [من*] الهدايا التودد بها لحديث: "تَهَادَوْا تَحَابُّوا" فإن أخطأ، وقبل هديته، وكانت عنده، فالأحسن أن [ينبه عليها*]، ولما عرف القاضي في مداركه بأبي عبد الله محمد بن عبد العزيز بن علي المعروف بابن الحصار القرطبي، وكان من حفاظ الفقه ورواة الحديث، قال: كان له جار من النصارى [يقضي*] حوائجه، ومتى مر بدار

الشيخ وقف به فيهش إليه الشيخ ويدعوا له، بأن يقول له: أبقاك الله وتولاك، أقر الله عينك، سرني ما يسرك، جعل الله يومي قبل يومك، والنصراني يفرح لذلك، فعوتب الشيخ في ذلك، فقال: إنما هي [معاريض*] علم الله [نبأني بها*]، فأما قولي أبقاك الله وتولاك، فأريد بقاؤه لعدم الجزية، وأن يتولاه بعذابه، وقولي أقر الله عينك، فإني أريد [قرار*] حركتها بشيء [يعرض*] لها، فلا تتحرك جفونها، وقولي يسرني ما يسرك، فالقافية تسرني وتسره، وأتى لي الله يومي قبل يومك، فيوم دخول الجنة قبل يوم دخوله النار، وقول الزمخشري: نزلت فيمن يصحب السلطان، غير صحيح؛ لأن مالكا [كان*] يصحب الملوك ويجلس معهم، وذكروا في سبب نزولها أمرين: أحدهما: يقتضي أنه ذم من واصل الكفار، وأظهر توددهم وعليه يدل أول الآية. والآخر: يقتضي أنها في مدح من عاداهم وعليه يدل آخر الآية، ونزلت الآية على منع المودة بلفظ المفاعلة فتتمتع مودة المسلم لمن لم يقدر له شبه. قوله تعالى: [(وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ) *] هذا من باب نفي ما يتوهم ثبوته أو من باب نفي المانع، كقولك: أكرم السائل ولو جاءك على فرس، والعطف [تدلي*] لا ترقي باعتبار رقة القلب على الأب أقوى منها على الابن، أو هو ترق باعتبار أن التعاضد بالآباء أقوى منه بالأبناء، لكثرة الأبناء وتعددهم؛ بخلاف الأب فإنه واحد، وكان القاضي أبو علي عمر بن عبد [الرفيع*] رحمه الله تعالى يقول: في الآية سؤال، كان الفقيه أبو عبد الله محمد بن علي بن يحيى ابن الفؤاد اللخمي يرده، وهو أن من حكم بحكم نفي أو إثبات ثم أخذ يذكر الموانع التي يستعيد معها وجود ذلك الحكم، فإنه يبتدئ بالأضعف منها ثم يترقى إلى ما هو أعلى منه وأبعد، أن يوجد معه الحكم ثم إلى ما هو أقوى في المنع من وجود ذلك الحكم، كقولك: أكرم السائل وإن أتاك على حمار، وإن أتاك على فرس، وإن علمت أن له دارا، ولَا شك أن رتبة الآباء أعلى من رتبة الأخوة وأشرف، بدليل الميراث ولأن ميل النفس إلى الابن أكثر، بدليل جواز شهادة الأخ لأخيه، ولا يجوز شهادة الأب لابنه، وجاءت هذه الآية على عكس هذا؛ لأنه سلك فيها مسلك التدلي، وقال: كنت أنا أجبته عن هذا السؤال، بأن الأب مفرد لا [يمكن*] فيه التعداد، والإنسان يركن إليه فبدئ به، والبنون يمكن أن يتعددوا ويكثروا

فيحصل همٌّ لأبيهم كحال [التعاون*] والنصرة على هذا فيكون [ميل*] النفس إليهم أشد بهذا المعنى، وأما الآخرة فيتناولون آخرة النسب وآخرة الإسلام، أعني الأصحاب؛ لأن البنين يتفرعون منه وحده، والآخرة يتفرعون من أبيه وابنه ومن أبيه خاصة ومن أمه خاصة وما يتفرع من أصل [ ... ] أقل مما يتفرع من ذلك، والعشيرة أكثر من ذلك كله، فسلك في الآية على هذا مسلك الترقي، وانظر ما يأتي بعد هذا في سورة الممتحنة ويقرر كون العطف ترقيا من وجه آخر أيضا، وهو أنه إذا كان الإيمان مانعا من موادة الأب الذي لَا يمكن خلقه عقلا، [فأحرى*] أن يمنع مِن موادة من يمكن خلقه وهو الابن، وفي سورة عبس (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ) فقدم الأخ على الأب. قوله (أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ). قول النقاش: كتبه في [اللوح المحفوظ*]، اعتزال مع كونه سببا، وكذلك قول الطبري: قضى لقولهم الإيمان وكله بمعنى اللام، وكتب مشرب معنى قضى اعتزال أيضا، بل المراد خلق في قلوبهم الإيمان، وعبر عنه بالكتب؛ [ليفيد*] تحقيق ذلك وثبِوته، وكلام الزمخشري هنا أوله يوهم الصواب، وآخره اعتزال، في قوله في تفسير (وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ)، أي بلطف من عنده، والمراد بالروح الهداية وسماها روحا؛ لأنها بها تحصل حياة النفوس حقيقة. قوله تعالى: (وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ). عطف المضارع على الماضي، إما لأن هذه جملة أخرى ابتدائية، فالمراد وهو يدخلهم، أي والله يدخلهم أو أن يدخلهم في معنى أدخلهم بإدخالهم لَا أنه أدخلهم بالفعل، لأن بعضهم [ ... ] حكى شيخنا أبو الحسن محمد ابن الشيخ أبي العباس أحمد البوني عن الشيخ الصالح أبي الحسن علي بن منتصر الصدفي: أنه حكى عن الشيخ الواعظ [أبي*] الحسن علي البوني كان ساكنا بحارة اليهود من تونس، وكان يقضي حوائجهم ويملأ لهم الماء من عنده ويسعفهم بمرادهم [ولا يكلهم إلى*] ما ينوبهم في رمي الزبل الذي هنالك، فلما مات تركوا ذلك كله، فطلبهم أهله بالرجوع إلى عادتهم، وقالوا لهم: إنه أوصانا عليكم فسألوهم عن موجب ذلك، فقالوا: موجبه من نبينا صلى الله عليه وعلى آله وسلم أوصى على الجار، وأكد حقه فأسلموا كلهم ببركة الشيخ رحمة الله عليه. * * *

سورة الحشر

سُورَةُ الْحَشْرِ الزمخشري: [صالح بنو النضير رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن لا يكونوا عليه ولا له، فلما ظهر يوم بدر قالوا: هو النبي الذي نعته في التوراة لا ترد له راية، فلما هزم المسلمون يوم أحد ارتابوا ونكثوا، فخرج كعب بن الأشرف في أربعين راكبا إلى مكة فحالفوا عليه قريشا عند الكعبة فأمر عليه السلام محمد بن مسلمة الأنصارى فقتل كعبا غيلة*]، انتهى، أي قتله على غرة ولا يريد الغيلة الاصطلاحية، لأنها القتل خفية لأخذ المال. قوله تعالى: {سَبَّحَ لِلَّهِ ... (1)} ابن عطية: التسبيح إما بلسان الحال بمعنى أن الناظر لهذه الجمادات يسبح الله تعالى، أو بمعنى أنها مفتقرة إلى الاستمدادات [بالأعراض*]، وهو حقيقة بلسان المقال انتهى، فعلى هذا لَا يدخل فيه المشركون ولا الدهرية، لأنهم لَا يسبحون الله، وعلى الأول يدخلون، وإن كانوا متصفين بضد التسبيح، لأن حالهم يقتضي الافتقار إلى موجد أوجدهم، وقوله حقيقة نحوه، قال اللخمي للمازري: وهو مشكل، لأن الموجودات إما جسم أو حيوان أو إنسان، فالجماد مؤلف من الجسم والعرض فقط، والحيوان يزيد عليه بالحياة، والإنسان يزيد عليهما بالعلم، فإذا جعل التسبيح من الجماد حقيقة يلزمه إما قيام الحياة بالجماد، أو صدور الكلام من غير الحي [وهو*] باطل، لأن الكلام شرطه الحياة، وما ورد في الحديث من تسبيح الحصى وكلام الجذع، وغير ذلك، فمعجزة خارقة للعادة، و (سبح) متعد بنفسه، وتعديه هنا بحرف الجر شاذ، كقوله: فلمَّا أنْ تَواقَفْنَا قَليلاً ... أنَخْنَا [للكَلاكِلِ*] فارْتَمَيْنَا ويحتمل أن يكون تقديره المفعول محذوفا سبح الله لله أي سبحوه لأجله ولذاته لا لشيء، وهذا هو غاية التوحيد، وانظر أبا حيان في أول سورة الحديد. قوله تعالى: {لِأَوَّلِ الْحَشْرِ ... (2)} الزمخشري: هذا أول حشرهم إلى الشام، السهيلي في كتاب التعريف والإعلام بما وقع في القرآن مبهما من [أعلام*] هو إنما الإعلام سبب دخول بني إسرائيل لأرض الحجاز أنهم كانوا بالشام، وكانت العمالقة تغير عليهم المرة بعد المرة، فبعث إليهم موسى عليه السلام جيشا من بني إسرائيل، وأمرهم أن يقتلوهم ويستأصلوهم ولا يتركوا منهم صغيرا ولا كبيرا، فخرجوا إليهم، وقاتلوهم وقتلوا جميعهم إلا طفلا صغيرا [ابن*] ملكهم حَسَنَ الصورةِ، فإنهم [استحيوا*] ورجعوا إلى الشام فوجدوا

موسى عليه السلام قد مات، فمنعهم أهل الشام من المقام معهم مخافة أن تلحقهم عقوبتهم بعصيانهم أمر موسى عليه السلام، لأنهم على يقين من نزول العذاب بهم، فأخرجوهم من أرضهم فرجعوا إلى أرض الحجاز فاستوطنوها انتهى، وذكر ابن عطية هذا في سبب إجلاء اليهود من أرض الحجاز، في قوله تعالى: (وَلَوْلا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيهِمُ الْجَلاءَ). قوله تعالى: (مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا). المناسب أن يكون هذا خطابا خاصا بالمؤمنين، ولا يدخل فيه النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، لأن ظنه صادق، وإن كان لَا يعلم من الغيب إلا ما علمه الله تعالى، فظنه وفراسته صادقة. قوله تعالى: (وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ). الزمخشري: هلا قيل: وظنوا أن حصونهم مانعتهم، فهو أخص من قوله (أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ)، وأجاب: بأن في تقديم الخبر على المبتدأ دليل على فرط [وثوقهم بحصانتها ومنعها إياهم*] انتهى، أراد أن التقديم للاهتمام بوصف المنع، وهذا نص في أن حصونهم مبتدأ ومانعتهم خبره، واختار أبو حيان أن مانعتهم خبر أن وحصونهم فاعل به، فإن قلت: هلا كان مانعتهم مبتدأ وحصونهم خبر، فيجاب عنه بوجهين: الأول: أن المبتدأ يكون أخص من الخبر، ومانعتهم هنا أعم من الحصون؛ لأنهم لم يحصروا المنع في الحصون، بل ظنوا أنهم يتمتعون بها وبكثرة عُددهم وعَددهم وقوتهم، كما أشار إليه الزمخشري. الثاني: أن مانعتهم اسم فاعل بمعنى الحال أو الاستقبال، فإضافته [محضة*] على سبيل التنزل، والمراد [منه*] رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قوله تعالى: (فَأَتَاهُمُ اللَّهُ). الزمخشري: [وقرئ: فآتاهم الله*] أي [أعطاهم الهلاك*] انتهى، وهذا تهكم [بهم*] لَا يوافق مذهب الزمخشري. قوله تعالى: (وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ). عبر بلفظ القذف لحكمة متعلقة، ولأنه يدل على شدة الرمي والإلقاء، وهو في مقابلة قوله تعالى: في سورة الفتح (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ)، فإن قلت: قد قال تعالى (أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي

الْيَمِّ)، قلت: القذف في التابوت من حيث هو مستقبح تكرهه النفوس البشرية، وكذا قال: [(فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ) *] لما كان الإلقاء في الساحل من اليم محبوبا [للنفوس*]، وكذلك القذف في اصطلاح الفقهاء ورمي الإنسان بما يكرهه على وجه خاص، فقوله: [ ... ]. قوله (يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ)، هذا من باب الاستدلال بالمسبب على السبب، لأن حصول الرعب في قلوبهم سبب في تخريبهم بيوتهم، وينبغي أن يكون التقدير ويخربونها بأيدي المؤمنين، وإلا لزم استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه، لأن تخريبهم بيوتهم بأيديهم حقيقة، وأيدي المؤمنين مجازا، على ما قلناه يلزم الإضمار، وقد قالوا: إذا تعارض المجاز والإضمار، فالإضمار أولى وأحرى، [وإن*] كان المجاز مختلفا فيه، فإن استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه مختلف فيه، وذكر ابن عطية هنا سبب الجلاء قال: [أخبر الله تعالى في هذه الآية أنه كتب على بني إسرائيل جلاء، وكانت بنو النضير ممن حل بالحجاز بعد موت موسى عليه السلام بيسير، لأنهم كانوا من الجيش الذي رجع وقد عصوا في أن لم يقتلوا الغلام ابن ملك العماليق لجماله وعقله، وقد كان موسى عليه السلام قال لهم لا تستحيوا أحدا، فلما رجع ذلك الجيش إلى بني إسرائيل بالشام وجدوا موسى ميتا، وقال لهم بنو إسرائيل أنتم عصاة والله لا دخلتم علينا بلادنا، فقال أهل ذلك الجيش عند ذلك ليس لنا أحب من البلاد التي غلبنا أهلها، فانصرفوا إلى الحجاز، فكانوا فيه فلم يجر عليهم الجلاء الذي أجراه بختنصر على أهل الشام، وقد كان الله تعالى كتب في الأزل على بني إسرائيل جلاء فنالهم هذا الْجَلاءَ على يدي محمد صلى الله عليه وسلم، ولولا ذلك لَعَذَّبَهُمْ الله فِي الدُّنْيا بالسيف والقتل كأهل بدر وغيرهم*]. انتهى، هذا الخبر في نفسه يتفق، ولكنه لَا ينزل على لفظ الآية لاقتضاء الآية أن بني قريظة والنضير لم يعذبوا بالسيف بل أخرجوا من بلادهم، والخبر يقتضي أنهم قوتلوا واستؤصلوا ولم يبق منهم أحد، فإن قلت: هؤلاء ذريتهم، قلت: اقتضى الخبر استئصال جميعهم، ويجاب بما ذكر ابن عطية بعد هذا من أن [ ... ] أهل قريظة ونفاهم إلى الشام، ثم رجع بعضهم، فيحتمل أن يكون هؤلاء هم الذين أخرجوا ولم يعذبوا بالسيف من بني النضير، وبقايا بني النضير قريظة، والصواب الوقف على قوله (فِي الدُنْيَا)، خشية أن يتوهم دخول ما بعده في جواب (لولا)، فيكونوا في الآخرة غير معذبين، واستدل الأصوليون بقوله تعالى: (فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ)، على صحة العمل بالقياس اعتبارا وكل اعتبار مأمور به، فالقياس مأمور به، [أما أنه اعتبار فلأن الحكم*] الذي في الأصل معتبر في الفرع ومنقول إليه، ولكن ينازع الخصم في الكبرى، وهو كل اعتبار مأمور به فيمنع كليتها.

(5)

قوله تعالى: {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ ... (5)} الزمخشري: [وروى أن رجلين كانا يقطعان: أحدهما العجوة، والآخر اللون، فسألهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال هذا: تركتها لرسول الله، وقال هذا: قطعتها غيظا للكفار*]، قال: واستدلوا بها على جواز الاجتهاد بحضرة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وعلى أن كل مجتهد مصيب انتهى، لَا حجة فيها؛ لأن ذلك إنما هو حيث الاجتهاد [إن كان*] في شيء واحد على طرفي النقيض، وهنا تعدد متعلق الاجتهاد [وأحدهما*] قطع الجيِّد، والآخر قطع الرديء، فمتعلق الاجتهادين مختلف، ويحتمل أن يكون قطع الجميع جائز في نفس الأمر، وإنما يقال: كل مجتهد مصيب [أو لا]، كما قال ابن التلمساني في الاجتهاد في القبلة: أنه يجوز لأحدهما الاقتداء بالآخر، لأنها واحدة فأحدهما مخطئ، وأبطله ابن العربي: بأن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، كان معهم [ولا اجتهاد*] مع حضوره، وأنه يدل على أنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم مجتهد فيما ينزل عليه فيه وحي، أخذا بعموم الإذاية للكفار، ودخولا في الإذن الكلي بما يقضي عليهم ويهلكهم لقوله تعالى: (وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ)، فإِن قلت: ما أفاد قوله [عَلَى أُصُولِهَا*] مع أن (قائمة) تغني عنه؟ قلت: أفاد أنها باقية على حالها لم ينقص منها شيء، أو قد تكون قائمة ناقصة. قوله تعالى: (وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ). الزمخشري: أي يقطعها بإذن الله وأمره، انتهى، المراد بالإذن الإباحة، وليس المراد به الوجوب ولا الندب ولا الإرادة، أما الوجوب والندب فلأن الإذن هنا دائر بين أمرين متناقضين، أما القطع أو الترك، فترجيح فعل أحدهما يبطل فعل الآخر من أصل فرعه عن أرجحيته، وأما الإرادة فلأن الآية نزلت ردا على اليهود، واليهود موافقون على المعاصي [محادة*] لله تعالى، فيقولون هم: نعم أراد الله تعالى عصيانكم بذلك، فعصيتموه بإذنه وإرادته، فيتعين أن يراد بالإذن الإباحة، وفي الكلام حذف أي لينصركم [ويخزي*] الفاسقين. قوله تعالى: {مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ ... (6)} قدم الخيل لأنها أخص؛ إذ لَا خلاف أنها نسبتهم لها، والخلاف في الإبل هل نسبتهم لها] [أو لا*]؟ [فعلى*] الأخص لَا يستلزم نفي الأعم، فمعناه لم توجفوا عليه بالخيل، ثم قال: ولم توجفوا عليه بالركاب، وهو من باب نفي الشيء لنفي موجبه، أي لَا حظ لكم في الفيء؛ لأنكم لم توجفوا عليه بخيل ولا ركاب.

(7)

قوله تعالى: (وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ). هو استدراك بين الشيء [ونقيضه*]، أي يسلط رسله وينصرهم من غير حاجة إلى معونتكم، فإِن قلت: لم قال (يُسَلِّطُ) بلفظ المضارع، وجمع الرسل مع أنهم قد [مضوا*] [والباقي*] إنما هو رسول واحد، قلت: هي حكاية حال ماضية، فإن قلت: فلا يدخل في ذلك نبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، مع أن المراد الحالة، قلت: المراد ولكن العادة الجارية في رسله، أنه يسلطهم على من يشاء من عباده، ويحتمل أن يكون الجمع تعظيما له صلى الله عليه وسلم، والمراد بالرسل الملائكة، قوله (فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ ... (7) .. ، ذكر اسم الله [في*] الفيء، وفي الصدقات لم يذكره، فدل على أن [مستحق*] الفيء أفضل، لكونه لَا يختص [**بالتبيين] بخلاف الصدقة، وفاءَ بمعنى رجع، وأفاء أرجع، وتقرير معنى الرجوع فيهما أن أموال الكفار مستحقة للمسلمين في الفيء فهي بأيديهم [**كالمتعدي فيه]، فإذا حصلت بأيدي المؤمنين فقد رجعت. قوله تعالى: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ ... (8)} الزمخشري: لَا يصح أن يكون بدلا من مجموع قوله (فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى) انتهى، لأنه يستحيل صدق صفة الفقر عليه عز وجل، ولا يوصف بها النبي صلى الله عليه وسلم إعظاما له، ولأن في آخر الآية (وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ)، فإِن قلت: لم قدم صفة الفقر على الهجرة، مع أنهم إنما اتصفوا بالفقر بعد الهجرة، وأما قبلها فكانوا أغنياء، فالهجرة سبب في الفقر، فهلا قدمت؟ فالجواب: أن استحقاقهم الأخذ من الغنيمة إنما هو [بوصف*] الفقر لَا بالهجرة، أو بمجموع الأمرين، ووصف الفقر [أولى بههم*]، ولا يقال: إن وصف الفقر يشاركهم فيه الأنصار، وأنهم إنما اختصوا عن الأنصار بالهجرة، لأن المفسرين ذكروا أن الأنصار كلهم كانوا أغنياء إلا ما قلَّ منهم، وقد أعطاهم النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم من الغنيمة لفقرهم، وعبر في المهاجرين بالاسم وفي الذين أخرجوا بالفعل، لدوام الهجرة وانقطاع الإخراج، ووصفهم بنصرة الله ورسوله احتراسا، خشية أن يتوهم أن ذلك خاص بالأنصار. قوله تعالى: (يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا). [ذكرهما تعظيما لهما*]، والعطف ترق؛ لأن الرضوان صفة معنى، والفضل صفة فعل. قوله تعالى: (وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ).

(9)

المقصود بالإسناد هنا المعطوف، فهو من باب [أعجبتني*] الجارية حسنها، لأن الله تعالى غني عن نصرتهم، وصرح باسم الجلالة تشريفا للطاعة، وصرح باسم الجلالة تهييجا عليها. قوله تعالى: (أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ). ابن عطية: في أقوالهم وأفعالهم، انتهى، هذا موافق لقول ابن التلمساني: أن الصدق هو مطلق المطابقة، لأنه مطابقة الخبر للمخبر عنه، ووقع التأكيد في هذه الجملة بأمور: الحصر، وكون الموضوع اسم إشارة، والفصل بالضمير، وكون الخبر اسما [وعلى الثبوت*]. قوله تعالى: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ ... (9)} فسره الزمخشري بثلاثة أوجه: إما أن المراد تبوءوا الدار وأخلصوا الإيمان، وجعلوا الإيمان مستقراً ومتوطنا لهم لتمكنهم منه [واستقامتهم عليه*]، كما جعلوا المدينة كذلك، فيكون التبوء على هذا مجازا، فهو في الدار على أصله، [وفي*] الإيمان معنوي، فيضعف هذا من وجهين: أحدهما: أن فيه استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه، أعني لفظ التبوء. الثاني: أنه حصل ملازمتهم للإيمان كملازمة المكان لهم، فلو أراد المكان المطلق لحسن التشبيه هنا، إنما وقع التشبيه على مكان معين، فلا يحسن التشبيه، لأنه لا يلازمهم عقلا، إذ لو أريد التبوء في مطلق مكان، لقلنا: إنه يلزمه الإيمان عقلا، وقيل: هو من عطف الصفات أي تبوء الدار، ودار الإيمان لأنها دار واحدة، [وصفها*] أولا بكونها الدار المعهودة، وثانيا: بأنها دار الإيمان. قوله تعالى: (مِنْ قَبْلِهِمْ). قال الزمخشري: من قبل المهاجرين، واستشعر أن يورد عليه أن إيمان المهاجرين سابق، فأجاب: بأن المجموع، وهو التبوء، والإيمان سابق على إيمان المهاجرين وتبوؤهم، فالمجموع سابق على المجموع، وهو نحو ما أجاب به ابن التلمساني عن قول القاضي عبد الوهاب في تعريفه للقياس: هو حمل معلوم على معلوم في إثبات حكم لهما أو نفيه عنهما، فأورد عليه لزوم كون حكم الأصل مثبتا بالقياس، [فيرد*] بأن المراد ثبوت المجموع، ويرد على هذا الجواب هنا أن المجموع المركب إنما يتم بآخر جزء منه، فما حصل لهم وصفا [ليس*] بأول التبوء بل بآخره، وهو بعد إيمان من آمن، وذلك متأخر عن إيمان المهاجرين، وجوابه: أن على كل تقدير متقدم على

(10)

هجرة المهاجرين وإيمانهم، وأجاب الزمخشري والفخر بجواب آخر: وهو أن الضمير عائد على المهاجرين باعتبار وصفهم أي من هجرتهم. قوله تعالى: {الَّذِينَ سَبَقُونَا ... (10)} فيه دليل من آية السبقية، كما قال الفقهاء في الإمامة: أنه يقدم الأقدم سناً في الإسلام، فإن كان الأكبر أحدث إسلاما قدم الأصغر. قوله تعالى: (وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا). لما كان من طبع الإنسان الغل والحسد، وكان أولئك حازوا مزية السبقية، والمهاجرين مظنة أن يحسدوهم في ذلك، فتحرزوا من ذلك بعد الدعاء، والغل: هو تألم النفس على عدم المشاركة فيما اختص به ذو رئاسة وسوية، والغبطة: تألم النفس على ذلك، مع عدم تمني زوال [ذلك*] عن المختص به، والحسد: تألمها على ذلك، مع تمني زوال ذلك [عن*] المختص، والحقد: هو طلب [**الفرصة في المكروهات للمحقود]، فإن قلت: لم خبر هنا بالقلب دون [الصدر*]، وقال تعالى قبل هذا (وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً)، فعبر بالصدر؟ فالجواب: أن الآية المتقدمة الثناء فيها عليهم من الله تعالى، فناسب المبالغة فيها لمحو اقتضاء الحاجة عن القلب وعن [وعائه*]، وهذا دعاء منهم فاقتصروا فيه على القلوب، لأنها هي بمحل الغل، فإذا انتفى منها انتفى عما سواها. قوله تعالى: (رَءُوفٌ رَحِيمٌ). هاتان الصفتان منهما ترتبا في الذكر، كانت الرأفة راجعة لصفة الإرادة، والرحمة لصفة الفعل، فالرأفة سبب في الرحمة، وإن ذكرت الرحمة وحدها صح تأويلها، إما برجوعها للإرادة أو للفعل. قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا ... (11)} الاستفهام هنا للتقرير، دليل على وقوع ذلك، فلا يصح كون الرؤية علمية، لأنه لم يكن عالما بأعيان المنافقين إلا أن يقال: إنه علم بهم من حيث الجملة، وإلا ظهر أن الرؤية بصرية لتعديها بإلى، أي ألم تنظر إلى الذين نافقوا، وعبر عن نفاقهم بالفعل الماضي؛ لبعد تحقيق ذلك، فإن قلت: [هلا*] عبر بالاسم المقتضي [للثبوت والدوام، لأن الماضي منقطع*]؟ فالجواب: أن الماضي أفاد التحقيق وقوله تعالى: (يَقُولُونَ لإِخْوَانِهِم)، أفادوا الدوام على ذلك في الحال والاستقبال، فأغنى عن التعبير بالاسم. قوله تعالى: (لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ).

(12)

لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ حذف الفاعل لبعضهم له استعمالا لذكره، ولا يناسب هنا التحقيق، لأنهم أحقر من ينسب إليهم ذلك. قوله تعالى: (وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا). أي في عدم نصرتكم، وإذا لم يطيعون في [عدم*] نصرتهم، فأحرى أن لَا يطيعوا في قتالهم أبدا. قوله تعالى: (وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ). النصرة أخص من مقاتلتهم معهم، فأفاد المقاتلة من باب أحرى. قوله تعالى: (وَاللَّهُ يَشْهَدُ). الشهادة أخص من [العلم*]، لأن علم الإنسان شيئا يسمعه ويشهد عليه أقوى من علمه شيئا يسمعه ولا يشهد عليه، فإِن قلت: فيها رد على ابن قتيبة في أن عدم المطابقة في الخبر المستقبل خلف لَا كذب لهؤلاء، [وعدوهم*] بالنصرة في المستقبل، فلم ينصروهم، فالجواب: أن المراد بكذبهم عدم مطابقة قولهم لما يقع منهم في المستقبل، فإِن قلت: نحن جعلنا الحكم بكذبهم راجعا لمدلول لفظهم، وأنتم جعلتوه للازم لفظهم، فما قلناه أولى، لأن اللفظ دال عليه بالمطابقة، فالجواب: أنه إذا جعلتم الكذب راجعا للمدلول يلزمكم أن قوله (لَئِنْ أُخْرِجُوا)، وما بعده تأكيد؛ لأنه أفاد عين ما أفاد الأول، وإن جعلتموه راجعا [بلازم اللفظ*]، كان جملة (لَئِنْ أُخْرِجُوا)، تأسيسا، والتأسيس أولى، [بأن يقال*]: إنه لَا يضرنا كونه تأكيدا، وتكون مفسرة لمتعلق التكذيب، بدليل إتيانها غير معطوفة لو كانت تأسيسية؛ لعطفت بالواو التي تقتضي المغايرة (لَئِنْ أُخْرِجُوا ... (12) .. ، عبر بأن هذا محقق الوقوع، لأنه رد على كلامهم بأن (وَلَئِن نَصَرُوهُم لَيُوَلُّنَّ الأَدْبَارَ)، الزمخشري: إن قلت: كيف (وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ)، بعد الإخبار؛ لأنهم لَا ينصرونهم، وخبر الله تعالى حق لَا شك فيه، فصار وقوع النصرة محالا، قلت: معناه (وَلَئِنْ نَصَرُوهُم)، على الفرض والتقدير كقوله تعالى: (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ)، وأورد ابن عطية هنا سؤالا، وأجاب عنه: بأن المراد ولئن حاولوا نصرتهم وعلى هذا لَا يرد سؤال، الزمخشري: لأن محاولة النصرة أمر ممكن، وإنما المحال وقوع النصرة، وفي الآية سؤال آخر، وهو أن القاعدة أن جواب الشرط لَا يصح أن يكون مناقضا للشرط، فلا يقال: إن قام زيد لم يقم، فإِنه محال [للزوم*] اجتماع النقيضين، وتولي الأدبار نقيض النصرة، والجواب: أن الشرط يصح تركيب المحال عليه؛ لَا فرض المحال جائز، كما

(13)

قال الجزري: ملزومية الشرط للجزاء لَا تدل على وقوعه ولا على إمكان وقوعه، ويجاب أيضا: بأن النصرة تكون في أول الأمر والتولي في آخره. قوله تعالى: {لَا يَفْقَهُونَ (13)} عبر أولا: بالفقه، وثانيا: بالعقل، لأنهم لما أخطاوأ أولا في كيفية الاستدلال [عبر عنهم*] بعدم الفهم، وثانيا: لما ظنوا بقتالهم في [القرى*] أو من وراء الجدار أنهم لَا يغلبون، وأن ذلك العقل يهدي [عبر عنهم*] بعدم العقل، " فأحرى أن لَا يوصف بذلك كل واحد على انفراده. قوله تعالى: {ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ ... (15)} عبر بالذوق إشارة إلى أن ما نالوه من العذاب بالنسبة إلى ما بعده ذوق، فلم ينالوا عذابا في الدنيا، بل ذاقوا وسينالوه الآخرة لقوله تعالى: (وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ). قوله تعالى: {كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ ... (16)} إن قلت: لم حذف المسند إليه [هنا*] فلم يقل: مثلهم كمثل الشيطان، وصرح به في سورة البقرة في قوله تعالى: (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا) قلت: تقدم ما يدل عليه في قوله تعالى: [(كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيبًا) *]. قوله تعالى: (قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ). قال: هو عند يأسه من رجوعه وثبوته، وذلك عند الاحتضار، وأما في الدنيا فلا يقول له ذلك خوف أن يتوب فينتفع بذلك. قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ ... (18)} دليل على أن التقوى أخص من الإيمان، وإلا لم يفد قوله (اتَّقُوا)، لَا يقال: المراد داوموا على التقوى؛ [لأنه*] مجاز، والأصل حقيقة، فإن قلت: إنما الخلاف بين المؤمن والمتقي، لأن لفظ الاسم المقتضي بالثبوت إذا نظر بين مطلق الإيمان، ومطلق التقوى، لأن الإيمان هنا بلفظ الفعل، فلا يفيد [أعلى*] مراتبه، قلنا: المختلفان إذا زيد عليهما مساو فإنهما [لَا يزالان*] مختلفين.

(19)

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ قوله تعالى: (وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ). الزمخشري: تنكيرها [للتعظيم، أي تعليل الموصوف بذلك*] (¬1)، انتهى، يرد بأن [التعظيم*] إنما [يصح لو كانت في الخبر*]، وهو هنا بسياق الاسم التكليفي، فالمراد التكثير لعموم التكليف، [وإما لجواز*] أن النفس هنا أفردت، والمراد بها العموم؛ كما في قوله صلى الله عليه وسلم: "صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة في غيره". قوله تعالى: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ ... (19)} المشبه بالشيء لَا يقوى قوة المشبه به، فهي هنا من [التشبيه*] بمن نسي الله، فيفيد النهي عن نسيان الله من باب أحرى، فهو من النهي عن القرب حول الحمى خشية الوقوع فيه، ومعنى (نَسُوا اللَّهَ)، أي غفلوا عن ذكره، والنسيان الثاني إما أن يراد به العقوبة، أي على الأول أي فعاقبهم على ذلك، فيكون من مجاز تسمية المسبب باسم السبب، أو يراد به النسيان حقيقة فزادهم [نسيانا*] إلى نسيانهم، فيكون من العقوبة على الذنب بالذنب، وهو أشد من الأول، لأنه يستلزم عقوبتين: العقوبة على الذنب بذنب آخر يعاقب عليه عقوبة أخرى، ابن عطية: قال علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه؛ اعرف نفسك تعرف ربك، ومن لم يعرف نفسه لم يعرف ربه انتهى، يعيدك إلى علم المنطق كان مذكورا في طباعهم، لأن مقتضى الآية أن من نسي الله نسي نفسه، فتنعكس جزئية بعض من نسي نفسه نسي الله، قالوا: وقد تنعكس كنفسها في بعض المراد، رد هذه الآية، وعكسها المستوى أي من نسي نفسه نسي الله، فهو منه كل من عرف نفسه عرف الله، والعكس نقيضها كل من لم ينس نفسه لم ينس الله فمن لم يعرف ربه مستفاد من منطوق كل من نسي الله نسي نفسه، ومن عرف نفسه عرف ربه مستفاد من مفهوم ذلك، وقال (بِمَا تَعْمَلُونَ)، ولم يقل: بما علمه، لأن العلم الحادث يتعلق بالحال والماضي، ولا يتعلق بالمستقبل، فإذا أفاد أنه عليم بالمستقبل، فأحرى الحال والماضي. قوله تعالى: {لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ ... (20)} هذا تكميل للوعظ المتقدم أو لف ونشر، فأصحاب النار راجع للذين نسوا الله، وأصحاب الجنة للمأمورين بالتقوى، فإن قلت: نفي التسوية لَا يقتضي نفي الشركة، فلا يلزم عنه نفي اشتراكهم في الثواب والعقاب، قلت: الشركة في العبودية وفي التكليف لَا في الثواب والعقاب، فإِن قلت: إنما المراد الشركة فيما ثبت فيه للمساواة، قلت: السياق ينفيه [وأخذ*] الشافعي رضي الله عنه من هذه الآية أن المسلم لَا يقتل بالكافر، الفخر: بأنه عام، والأعم لَا إشعار له بالأخص، وأجاب عنه الأرموي: بأن ¬

_ (¬1) النص في الكشاف هكذا: "فإن قلت: ما معنى تنكير النفس والغد؟ قلت: أما تنكير النفس فاستقلالا للأنفس النواظر فيما قمن للآخرة، كأنه قال فلتنظر نفس واحدة في ذلك. وأما تنكير الغد فلتعظيمه وإبهام أمره، كأنه قيل: لغد لا يعرف كنهه لعظمه". اهـ.

(21)

نفي العام في باب النفي يشعر بدخول الأخص، لأنه يستعمل العام في النفي والآخر في الثبوت، ويرد بأن المحكوم عليه إنما هو في الآية بصفة كونهم من أهل الجنة أو من أهل النار، والصفة هنا معتبرة، [ويحتمل*] أن يعتبروا إذا كان لذلك بطل الأخذ من الآية، إما باعتبارها، أو باحتمال اعتبارها، أو لقول المحكوم عليه إذا كان مفيدا بطل الأخذ من الآية بصفة، فإِنما يتناوله الحكم باعتبار تلك الصفة لزوما أو احتمالا فهؤلاء إنما انتفت عنهم التسوية من حيث كونهم أصحاب الجنة، وكون الآخرين أصحاب النار، والقصاص راجع للدنيا وهم في الدنيا لم يتعدوا تلك الصفة، بدليل قول الفقهاء: فمن حلف بالطلاق أنه من أهل الجنة حنث، لأنه لَا يدري بماذا يختم له. فإن قلت: إن الحكم لَا يتناولهم من هذه الحيثية، قلنا: يحتمل أن يتناولهم باعتبارها، أو إذا احتمل ما احتمل سقط الاستدلال، قيل: أخذ الشافعي رضي الله عنه من الآية إن كان [المراد*] عدم المساواة لزم [ألَّا يقتل*] الكافر بالمسلم، وإن كان بزيادة كون المساواة المنفية ملزومة لفضيلة المسلم، وعدمها في الكافر فيقتل الأدنى بالأعلى لَا العكس [**فيمن ذكر من الاستدلال]، الفخر: واحتج بها المعتزلة على أن العاصي لَا يدخل الجنة، لأن الآية دلت على أن أصحاب النار، وأصحاب الجنة لَا يستويان، وهو غير جائز وجوابه معلوم، انتهى، يريد لو دخل العاصي الجنة لساوى المؤمن الكافر، [في الاشتراك في النار*]، فدل على أن العاصي كافر لَا مؤمن، ويرد بأن العاصي حال حلوله في النار غير مساو للمؤمن، وحال حلوله في الجنة مساو، وقد ذكر المنطقيون المطلقة والدائمة والحقيقية، أو تقول المراد أن مجموع أصحاب النار لَا يساوي مجموع أصحاب الجنة، ويقولون: إن العام في الأشخاص مطلق في الأزمنة والأحوال، فإن قلت: لعل المراد نفي المساواة بين أصحاب النار فيما بينهم بدليل قراءة من قرأ (ولا أصحاب الجنة)، فكرر (لَا)، وقد قال السهيلي: إذا قلت: ما قام إلا زيد ولا عمرو، فالمراد نفي قيام كل واحد منهما مجتمعين ومفترقين بخلاف قولك: ما قام زيد وعمرو، فالجواب: أن السياق هنا ينفي هذا ويعين الأول، وقدم أصحاب النار، لأن الآية [وعظ*] وتذكير، فإن قلت: لم قال: (أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ)، ولم يقل: أصحاب النار هم الخاسرون، قلت: التصريح بفوز أصحاب الجنة يتضمن أمرين: جلب الملائم، وهي الأعمال الصالحة التي هي سبب في الجنة، ودفع المؤلم، وهو عمل نقيض، والتصريح بخسران أهل النار لَا يتضمن الأول المؤلم الذي دخلوا به النار، وما تضمن أمرين أوفى. قوله تعالى: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ ... (21)}

جعله الزمخشري (جبلا) على مذهبه، لأن التمثيل يكون في الأمور المستحيلة الوجود، كالتشبيه بالصفاء والقول، والتمثيل يكون في الأمور الجائزة الممكنة الوجود، والزمخشري يشترط في الجمادات النية، فيستحيل فيها الخشوع عنده، ونحن لا نشترط ذلك؛ بل نشترط العلم والحياة فيصح عندنا وقوع الخشوع من الجمادات، خلق الله فيه العلم والحياة، ويمكن على مذهبه أن يكون تخيلا؛ بل هو من تعليق المحال على المحال، مثل (إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ)، ويجاب عنه؛ بأن الآية في سياق الوعظ والتخويف، ولا يقع ذلك إلا بالممكن لا بالمحال، وهذا نحو جواب شمس الدين الجزري لما احتج الفخر على جواز الشيخ في قوله تعالى: (مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا)، ورد عليه السراج الأرموي: بأن لزوم الشيء بالشيء لَا يلزم منه وجوب وقوعه ولا إمكان وقوعه، فأجاب عنه الجزري: بأن الآية خرجت مخرج التمدح، والتمدح إنما يكون ممكن الوقوع، السماكي: التمثيل تصوير لحقيقة الشيء حتى يتوهم أنه [ذو*] صورة تشاهد، وأنه مما يظهر في العيان كقوله تعالى: (وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) الآية، وقوله تعالى: (طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ)، ولا يكاد [يخلو منه باب في علم البيان*]، ولا أدق ولا أهون على تعاطي المتشابهات، وهذا نحو من كلام الزمخشري، وخلاف ما قال ابن أصبغ فإِن قلت: الآية دليل على أن القرآن اسم جنس، يصدق على الكثير والقليل، لأن اسم الإشارة يقتضي الحضور، ولم ينزل حينئذ إلا بعضه، فالجواب: أن المراد ما نزل وما ينزل، لكن يلزم عليه استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه، فيجاب: بأن الإشارة لجميعه لوجوده حينئذ وإنزاله إلى السماء الدنيا، فإن قلت: الإشارة إليه إنما هي من حيث إنزاله الإنزال المحصل للخشوع، وذلك في إنزاله لتكليف به، قيل: لو أنزلنا على جبل هذا القرآن الموصوف بالإرسال إلى السماء الدنيا، فإِن قلت: في الآية رد على من عرف القرآن من الأصوليين، بأنه ما بين دفتي المصحف، لأنه يسمى قرآنا قبل وجود المصحف، قلت. سمي قرآنا قبل ذلك، ثم ثبت له هذه [الخاصية*] بعد ذلك عندنا معرفا بها، فإن قلت: في الآية حجة لمن ينفي الكفر عنادا لاقتضائها أن نفس نزول القرآن على تقدير كونه ذا فهم يحصل له الخشوع، ذلك هو نفس الإيمان ففسر نزوله غير مخص به للإيمان، فليس كل كفر عنادا، قلت: فرق بين حصول الخشوع في القلب وبين النطق بالشهادتين باللسان، فحصول العلم في القلب بنفس نزول الآيات، والإيمان اللفظي بسببه تكليف الرسول وطلبه ذلك وأمره به، فقد يمنع منه من حصل له العلم في القلب كأبي طالب.

(22)

قوله تعالى: (وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ). جمع الأمثال مع أنه مثل واحد، كما قال [الآبذي*] في شرح الجزولية: أن الواحد قد يجمع باعتبار تعدد أوصافه كقوله: فقلت اجعلي ضوء الفراقد كلّها ... يمينا ومهوى النّسر من عن شمالك قوله تعالى: (لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ)، لعل من الله تعالى واجبا مع أنهم لن يتذكروا وكلهم، فيكون عاما مخصوصا. قوله تعالى: {هُوَ اللَّهُ ... (22)} الضمير العائد على ذكره في قوله تعالى: (مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ)، ولا يقال: أنه يلزم عليه الإخبار في الشيء عن نفسه، لأن الجزء هو موصوف بصفة، فيقيد بتلك الصفة، أو يعود الضمير على المخشي المفهوم من خشية الله، أو على أن المنزل المفهوم من أن لو أنزلنا، أو على الذي يضرب المثل. قوله تعالى: (الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ). إن قلت: ما سر دلالة الموصوف، وهو الذي دون صلته، وهو جملة لَا إله إلا هو لو أتى بها إثر اسم، فقيل: (هُوَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ)، فالجواب: أن الرسول دلالته الإفراد آية جاءت من حيث هي في الاسم من حيث كونها دلالة بالنوع، أو بالشخص، وجملة الصلة أفادت وحدة الشخص، فكانت تأسيسا، ولو كان المفهوم من الموصول والصلة واحد، كان تأكيدا لكن يلزم على هذا بطلان قول النحاة: الموصول مع صلته كالزاي مع زيد، فكما أن الزاي وحدها دلالة لها فكذلك الموصول وحده، وكون الموصول دالا على الوحدة الأعمية ممنوع؛ بل الصلة تابعة للموصول إن نوعا فنوعا، وإن شخصا فشخصا، فاستدل بها الأصوليون على أن الاستثناء من النفي إثبات. قوله تعالى: (عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ). نعت، وهو معرفة، لأنه مجرد عن الزمان فإِضافته محضة، والغيب ما لم ينصب عليه دليل فمن أجاد خط الرمل، والنظر في النجوم وعلم التعديل وحساب زيادة [الشهور*] ونقصانها، فليس ذلك من الغيب لنصب الأدلة على معرفة ذلك. قوله تعالى: (هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ).

(23)

فصل هنا بالضمير ولم يفصل به بين (عَالِمُ الْغَيبِ)، وما قبله ولا بين (الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ)، للتباين بين مجموع الصفتين إذا القرينتين الأولتين معنوية، وهاتين يرجعان لصفات الأفعال. قوله تعالى: {هُوَ اللَّهُ ... (23)} تأكيد وفيه ضرب من التأنيث، لأنه لما وصفه ب (الرَّحْمَن الرَّحِيمُ)، وهما صفتان يتوهم فيهما الشركة، قال تعالى (رُحَمَاءُ بَينَهُم)، وفي الحديث: "الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمُ اللَّهُ، [ارْحَمُوا*] أَهْلَ الْأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ أَهْلُ السَّمَاءِ"، أتى بهذا ليفيد أن الرحمة بين العباد كلها مخلوقة لله تعالى، وهو الفاعل المختار لَا شريك له. قوله تعالى: (الْقُدُوسُ). الزمخشري: هو البليغ في النزاهة عما يستقبح و (السَّلامُ) مبالغة في وصف كونه [سليما*] من النقائص، انتهى. قوله تعالى: (السَّلامُ). راجع إلى سلامة ذاته الكريمة من النقائص، (الْقُدُوسُ)، راجع إلى تنزيهه الخارج له عن النقائص، أو إلى تنزيهه نفسه كما يقال: حمد نفسه بنفسه، قال شيخنا: وعندي نظر فيما يتجاوز النَّاس فيه من [التعظيم*] لبعضهم، فيقولون: المقدس المرحوم، فإنه راجع إلى كمال التنزيه الذي لَا يليق إلا بالله، قيل له: قد ورد روح القدس، وقال تعالى (إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى)، وفي الحديث في وفاة موسى عليه السلام أنه قال: يدنيه إلى الأرض المقدسة رمية حجر، وما معناه إلا كمال الطهارة. قوله تعالى: (الْجَبَّارُ). الزمخشري: القاهر الذي جبر خلقه على ما [أراد*]، وهذا ترقيق على مذهبه كأنه يقول: إن العبد مستقل بفعله فتجيء هنا أن أفعاله الاختيارية من خلقه وقدرته، وأفعاله الجبرية خلق الله تعالى، كما يتصور دخول الإنسان بيتا اختياريا، ودخوله بيتا مكرها. قوله تعالى: (الْمُتَكَبِّرُ). أي البليغ الكبرياء والعظمة، فهما تصور في حقه صفة علية، فيعتقد أنه متصف بأكبر منها، وأعلى فهم إذا تصورت ما هو أعلى منها، تعتقد أنه متصف بأكبر من ذلك

أيضا، ولا تزال تترقى في صفات العلو والكبرياء حتى تنتهي ما يعجز عنك إدراكه فتقف، فصل في شرح الأسماء، قال ابن العربي في كتاب [الأمد*] الأقصى في شرح الأسماء الحسنى: (عَالِمِ الْغَيب)، العلم هو إطلاع المرئي على ما لم يطلع عليه، وانكشاف ما غاب عند الله تعالى، وله أسماء كثيرة، منها الفضل والفطنة والدراية والخبرة، وعلم الله تعالى واحد، لتعلقه بكل شيء، قال علماؤنا: ويجوز أن يكون له علوم [لَا نهاية لها*] بعدد المعلومات، وإنما علمنا اتحاده شرعا لقوله تعالى: (أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ)، وحكمته تعالى ليس ضروريا لما في الضرر من النقص الذي يقال هذا لَا نظريا لما في النظر من الحاجة إلى المقدمات المحصلة للعلم، قال علماؤنا: ولا نصف البارئ بأنه عارف لعدم وروده، والمعرفة والعلم مختلفان فالمعرفة علم واحد، والعلم معرفتان، فهو أكمل ولذا سمي به، ويجوز عقلا أن يقال: فيه عارف لعلمه بالأوائل وعالم لعلمه بالأوائل والأواخر، انتهى، قلنا: (الرَّحْمَن الرَّحِيمِ)، فتقدم على ما في الكلام على البسملة وأما (الْمَلِكُ)، فقال ابن العربي: الملك والمالك مشتقان من الملك، والملك قبل التصرف، فهو صفة فعلية، وقال: أكثر علمائنا أنه القدرة على التصرف، الفخر: [هو*] صفة ذات، [وتعقب*] قبل التصرف فهو صفة فعلية، الأول: بأن الصبي والمجنون والراهن والمؤاجر ما [ ... ] ولا تصرف لهم، وعلى الثاني: قال الفخر: والأمر ملك الأشياء قبل وجودها، لأنه قادر على وجودها، وبعد وجودها لقدرته على إثباتها، إما بخلقه البقاء فيها عند من يقول باقية ببقاء أو بخلق الأمر من التي لَا يتم بقاء الجواهر إلا بها، وعبر ابن الخطيب عن هذا بقوله: وإما بأن لَا يعد بها عند من يقول أن القدرة لَا تتعلق بالعدم، وقال: قيل: (المَلِكُ) من ملك نفوس العارفين فأطلقها، وملك قلوب العارفين فأحزنها، وقيل: الملك من لَا يمازجه معارض ولا يمنعه مناقض، فهو تقديره منفرد وتدبيره متوحد ليس لأمره مرد ولا حكمه رد، وقيل: الملك من دار بحكمه الفلك وسبح بتقديسه الملك، وقال هو وابن العربي: قيل: المالك أعم من الملك لوجوده منها أنه يفيد حقيقة الملك، والملك لَا يقيده ويضاف إلى الخاص والعام، كمالك الدار، ومالك الأرض، والملك إنما يضاف إلى العام، وأنه ينطلق إلى تملك القليل والكثير، والملك خاص بالكثير تقول: مالك الأرض، ومالك الملوك، ولا تقول: مالك المليك، وقيل: الملك أعم وأبلغ ملك الطيور لجوارحها، كما تقول: ملك الآدميين، ولا تقول ملك الطيور، ولأن الملك يشعر بتعدد المملوكات، وأيضا مالك الأرض يطيع ملكها وهؤلاء يطيعه انتهى، وأما (الْقُدُّوسُ) فقال الفخر ابن الخطيب: القدوس [الطاهر*]، وقيل: للجنة [حظيرة*] القدس لطهارتها، [وجبريل*] روح القدس، وقول

الملائكة: (نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ)، أي نطهر أنفسنا لك، والقدس: السطل الكبير، لأنه يتطهر به، ابن العربي: فظنه أولا وهو بمعنى المطهر لَا الطاهر، لأنه بمعنى من فعل متعد، والطاهر من فعل غير متعد، فهو مقدس نفسه أزلا [وأبدا*]، قيل: معناه البريء من المعائب، فيكون صفة نفي، وهو الذي له الكمال في وصف اختص به، وقيل: هو الذي لَا تحدده الأوهام ولا تصوره الأبصار، الغزالي: هو المنزه عن كل وصف يدركه حس، أو يصوره خيال أو يظنه الخلق كمالا، لأنهم نظروا إلى علمهم وقدرتهم وسمعهم وصفات كمالهم، فوصفوه بها وقدموه عن ضدها، مع أنه منزه عن صفات كمالهم، إذ هو أعلى من ذلك وأكمل، قال قلت: أقول أنه منزه عن العيوب والنقائص، إذ لَا يحسن أن يقال: ملك البلد ليس بحائك ولا حجام، فإن نفي الوجود يكاد يوهم الوجود، ابن العربي: مرتبة هذا القائل عظيمة ووهمه أعظم، بل نقدس الله عن كل عيب ونقص نسبه الكفار إليه، وقد نفى الله عن نفسه الشريك والولد والصاحبة، وكان ذلك غاية في التوحيد، وإنما ذاته دقيقة إنا لا ندري نحن بنفي وصفه عنه من الباطل، لم يقل به قائل ولا نسبه إليه مبطل انتهى، قلت: وفي البخاري في حديث الدجال وإن الله ليس بأعور، وأما كلام فقال ابن العربي: اتفقوا على أن معناه بالنسبة إلى ذو السلام، كامرأة فاسق وامرأة ضامر، واختلفوا في توجيهها، فقيل: السلام من العيب في ذاته، والنقص في صفاته، والظلم في أفعاله فهو بمعنى القدوس، وفرق ابن الخطيب بينهما باحتمال كون القدوس إشارة إلى تنزيهه من العيوب في المستقبل، وإلى تنزيهه عن صفات النفس، والسلام لتنزيهه عن أفعال النقص، وقيل: [ذو السلام*]، أي المسلم على عباده، قال تعالى (سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ)، فهو صفة معنى كالعلم والقدرة، وهي صفات كمال، وقيل: سلم الخلق من ظلمه، الآمدي: أي أن السلامة به ومنه [فهو صفة فعل*]، وأما (المؤمن) قال الآمدي في إبكار الأفكار: قيل: الصدق لنفسه ورسله، إما بالقول فهو صفة كلامية، أو بخلق المعجزة فهو صفة فعلية، وقيل: معناه أنه يؤمن عباده من الفزع الأكبر، إما بأن يخلق لهم الطمأنينة من ذلك، فيرجع إلى صفة الفعل، وإما أن يخبرهم بالأمن من ذلك، ويرجع إلى صفة الكلام، وقيل: بمعناه أن الحقائق منكشفة له فيرجع إلى صفة العلم، وقيل: معناه أن القول قوله لَا خلاف عليه، فيرجع إلى صفة كلامية وسلبية، وقيل: معناه استحالة الزوال عليه فهو صفة سلبية، قال الغزالي: وإزالة الخوف لَا تعقل إلا إذا حصل الخوف، ولا خوف إلا عند إمكان العدم ولا مزيل [للعدم*] إلا الله تعالى، بيانه إنما يخاف [الأعمى] الهلاك من حيث إنه لم ير بعينيه ما يؤمنه من ذلك، [والأقطع*] يخاف [آفَةً لَا تنْدَفع*] إِلَّا بِالْيَدِ [فخالق*] الأعضاء

كلها، [هو*] الذي أزال الخوف عن الإنسان بواسطة أعضائه، وأزال عنه ألم الجوع والعطش بخلقه الأغذية اللذيذة والأدوية النافعة والأعضاء والآلات الدافعة [عنه الآلام*] الدنيوية، كالفرق والخوف، ونصب له الدلائل، وقوى الفعل وهدى الخاطر إلى توحيده، وجعل ذلك حصنا من عذاب الآخرة، قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم مخبرا عن الله تعالى: "لَا إله إلا الله حصني من دخل حصني أمن عذابي"، فثبت أنه لَا أمن في العالم إلا من الله تعالى، قال ابن الخطيب: وهذا حسن جيد، فإِن قيل: ولا خوف إلا من الله، قلنا: لَا منافاة بينهما كما أنه معز مذل انتهى، وأما (الْمُهَيمِنُ)، قال ابن الخطيب: قال أبو زيد البلخي: هذه لفظة غريبة لم تكن في ألفاظ العرب قبل نزول القرآن، وهي في اللغة السريانية مع مده في آخرها على عادتهم في الأسماء، يقال: [**لم يعمنا]، ويفسرونه بأنه المؤمن الصادق الإيمان، وقيل: إنها غريبة واختلفوا، معناها الشاهد على خلقه بما يصدر منهم من قول وفعل، قال: وما تكون في إشارة الآية فالمهيمن العالم بكل شيء، وقيل: هو المؤيمن، قلبت: الهمزة ياء لأنها أخف من الهمزة، كقولهم: هيهات وأيهات، فالمهيمن والمؤيمن، وقال الخليل: هو الترتيب الحافظ، وقال المبرد: الحذر المشفق تقول العرب للطائر إذا بسط جناحه يدب عن فرحة هيمن، وقال الحسن البصري: المهيمن المصدق، فالله تعالى مصدق لأنبيائه بكلامه أو بإظهار المعجزات على أيديهم، القول السادس، قال الغزالي: المهيمن اسم لموصوف بثلاثة أمور: العلم، والقدرة الثابتة على تحصيل مصالح الشيء، والمواطئة على تحصيل تلك المصالح، فالجامع هنه الصفات اسم المهيمن، وأما اسم (الْعَزِيزُ)، ففي اشتقاقه وجوه: الأول: أنه الذي لَا مثل له، الفخر: [**فيرجع إلى التنزيه]. الثاني: الغالب الذي لَا يغلب ومنه (وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ). الثالث: الشديد يقال: [ ... ] فيرجعان إلى صفات الذات، وهي القدرة. الرابع: أنه بمعنى المعز كالأليم بمعنى المؤلم، فهو [صفة فعل*]. الخامس: أنه عزيز عند [أوفيائه*]، أي لَا يؤثرون على طاعته شيئا، فهو فعيل بمعنى مفعول [كـ كف خضيب، ورجل فضيل*]. السادس: أنه بمعنى الإضافة أي عزيز عليه أولياءه، كما قال تعالى (أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ).

السابع: العزيز الممتنع الذي لَا يدرك ولا ينال الأمدين، وقيل: هو الذي لا يخوف بالتهديد، وقيل: الذي لَا يحمد بحمد، الغزالي: العزيز الذي يقل وجوده وتشتد الحاجة ويضعف الوصول إليه، فكم من شيء يقل وجوده ولا يحتاج إليه فليس بعزيز، فمجموعها خاص بالله تعالى فلذلك سمي عزيزاً وتعقب عليه ابن العربي في كتاب الآمدي الأقصى تفسيره بشدة الحاجة، وقال: إنما يدل عليه لفظه باللزوم لا بالمطابقة في بعض الوجوه، وليس معنى الشيء كلما كان من لوازمه كلفظ البيت يفيد السقف والجدار، والسقف مطابقة، والبناء والنجار لزوما، وليس كل ممتنع يشتد إليه إنما يشتد للمعدوم نظره، ابن العربي: فإن قيل: ما معنى قوله تعالى: (سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ)، فجعل العزة مربوبة، وهي من صفات الله تعالى، قال: أجاب عنه ابن فورك، فقال: ليس معناه تلك العزة التي هي صفته، وإنما معناه أنه عز عما يصفونه إنكارا على من وصفه من المشركين بالولد، أي سبحان ربك الذي عز عما يصفونه، ابن العربي: هذا لَا يتجه من السؤال، وإنما الجواب أن سائر الصفات قديمها ومحدثها كلها تضاف إلى الله تعالى والقديمة تضاف إليه تحقيقا ووصفا، والمحدثة تضاف تقديراً وخلقا وملكا، فالعلم له صفة وله خلق، والعزة كذلك أعطى منها العبد المحدث، فأما المتصف بالعزة القديمة الخالق المالك للمحدثة، قال تعالى (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا)، أي القديمة والمخلوقة المملوكة وأما (الجبار)، فقيل: العالي الذي لَا ينال، وقيل: المصلح للأمور، وقيل: من جبره على كذا، أي أكرم عليه، زاد ابن العربي: وقيل: إنه بمعنى المتكبر، قال: فإن قيل: فإِذا فسرتموه بأنه يجبر الخلق على مراده فأنتم تجبروه وأنتم قد نفيتم ذلك عن أنفسكم، فأجاب بوجهين: الأول: أنه يخلق في العباد ما يكرهون، وهم لَا يقدرون على دفعه كالحركات الضرورية ولا خلاف. الثاني: أنه إذا أراد شيئا كان، وإذا أراد العبد شيئا لَا يرده هو تعالى لم يكن يجبرهم على مراده، كما نهى آدم عليه السلام عن أكل الشجرة، وأراده فوافقه، قال ابن الخطيب: وسمعت أن الأستاذ أبا إسحاق الإسفراييني كان حاضرا في دار الصاحب إسماعيل بن عباد، فدخل القاضي عبد الجبار بن أحمد الهمداني، وكان رئيس المعتزلة، فقال: سبحان من تنزه عن الفحشاء، فقال الأستاذ: سبحان من لَا يجري في ملكه إلا ما يريد، فقال ابن الخطيب: فإن قيل: الجبروت في الخلق مذموم فلم يمدح الله به؟ فأجاب: بأن الخلق ناقصون مقهورون محجوبون تؤذيهم البقة، [وتشوشهم

البعوضة، فلذلك كان مذموما في حقهم، وأما المتكبر، فقال ابن الخطيب: أحسن النَّاس فيه كلاما الشيخ الغزالي رحمه الله، قال: المتكبر هو الذي يرى الكل حقيرا، بالإضافة إلى ذاته، ولا يرى العظمة ولا الكبرياء إلا إلى نفسه، وينظر إلى غيره نظر المملوك إلى العبيد، فإن كانت صادقة كان المتكبر حقا، وإن كان صاحبها محقا في ذلك التكبر، فلا يتصور ذلك مطلقا إلا في حق الله تعالى، وإن كانت الرؤيا باطلة، ولم يكن ما يراه من التفرد بالعظمة؛ كما يراه كان المتكبر باطلا مذموما لحديث " [الْعَظَمَةُ إِزَارِي، وَالْكِبْرِيَاءُ رِدَائِي، فَمَنْ نَازَعَنِي وَاحِدَةً مِنْهُمَا قَذَفْتُهُ فِي جَهَنَّمَ*] "، فظهر أن المتكبر في حقه مدح وكمال، وفي حق غيره نقص، وقال مجاهد: التكبر من الكبرياء، بمعنى الملك، قال تعالى (وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ)، وقيل: هو بمعنى الكبير، قال تعالى (فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ)، أي عظمنه، قال الزجاج: هو الذي يكبر عن ظلم عباده، قال الفخر: فإن قيل: المتكبر منفصل، وهو يفيد تكلف الفعل، يقال: فلان يتعظم وليس بعظيم يسخى وليس بسخي، فأجاب: بأن الأزهري، قال: التفعل قد يجيء لغير التكليف يقال: فلان يتظلم أي يظلم، ويتظلم أي يشكوا من الظلم، وهذه الكلمة من الأضداد، فقد يعني الظالم، وقد يعني الشديد من الظلم، وعبر عنه ابن العربي: بأن الفعل عبارة عن كونه على تلك الصفة، وهي في المخلوق حادث فكتب في الخالق النافية الاختصاص، فتكبر أي انفرد بالصفات العلى، وتكبر إذا اكتسب الكبرياء وتعاطاه، زاد الفخر جوابا آخر وهو أن المتفعل هو الذي يحاول إظهار الشيء ويبالغ فيه، فإن صدق كان ذلك الإظهار مدحا، وإن كذب فهو صفة ذم، وأما الخالق، فقال الفخر: هو على معنيين: إما المقدر وإما [الموجد*]، زاد ابن العربي: المعنى قال: وله معنى يستحيل هنا، وهو الكذب، الفخر: والتقدير تقدير الشيء على مقدار [معين*]، ولا بد فيه من صورة مؤثرة على [أن تتوقف*] على آلة مخصصة لذلك المقدار، وعلم بذلك القدر، فإن توقفت على آلة كتصوير أحدنا للخصم، فإِنه لَا يمكن بتحريك الأصابع، فتسمى تلك الحركة تقديرا أو تصويرا، قال: والعلم في حق القديم لَا يحتاج إلى فكرة ولا إلى نظر، قال: فإن فسرنا الخالق بالمقدِّر حسن الترتيب في الآية، لأن التقدير يرجع إلى العلم، فتقول: من قدر [من*] الفلاسفة من ظن أنه تعالى لَا يعلم الأشياء، وقصدوا علمه على ماهية معينة فلفظة الخالق يدل على علمه بحقائق الأشياء، ومنهم من سلم علوم علمه، لكنه يقول: الخيول قديمة والبارئ متصرف فيها، فقال البادي: زاد عليهم ليدل على إيجاده لها من عدم [محض*] لَا عن المادة، ومنهم من علمه وإيجاده لهذه الذوات، إلا أنه يقول صورة النبات والحيوان عن الطبيعة، والطبيعة هي التي تصور كل شيء على صورته الخاصة،

(24)

[**فقر له] المصور [ردًّا*] على هؤلاء، فإِن فسره الخالق بالموجود المبدع، فيرجع إلى البارئ، فقيل: هو الموجد فيكونان مترادفين، وقال الأخفش: أصله القطع من بريت القلم إذا [فصلته*] فيرى الخلق أي فصل بعضهم من بعض، وصور كل واحدة على صورة خاصة، وقيل: مشتق من البرأ وهو التراب أي مبدعنا وموجدنا من تراب ومصورنا على صورة مخصوصة، قال الخطابي: واللفظ البرأ اختصاص بالحيوان، أن تقول برأ الله القسمة ولا تقول برأ الله السماء والأرض انتهى، قلت: ولبعضهم في عرض التجنيس إذا الترغيب، الزمخشري: الخالق المقدر لما يوجده، والبارئ ليميز بعضهم من بعض بالأشكال المختلفة والمصور الممثل، انتهى، أي عليها مماثلة الصور، بحيث إن الناظر إليها يظن أنها متماثلة وهي مختلفة. قوله تعالى: [(لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى ... (24) *] تقدم الكلام على الجملة، ذكر الخلاف في لفظة ذكر هل هي عبارة عن المسمى أو عن التسمية، ونقل الطيبي هنا حديثا عن مسند أحمد بن حنبل، والترمذي، قال: ""مَنْ قَالَ حِينَ يُصْبِحُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ: أَعُوذُ بِاللهِ السَّمِيعِ الْعَلِيمِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ، ثُمَّ قَرَأَ الثَّلَاثَ آيَاتٍ مِنْ آخِرِ سُورَةِ الْحَشْرِ، وَكَّلَ اللهُ بِهِ سَبْعِينَ أَلْفَ مَلَكٍ يُصَلُّونَ عَلَيْهِ حَتَّى يُمْسِيَ، إِنْ مَاتَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ مَاتَ شَهِيدًا،" انتهى. الظاهر أن أولها (هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ) إلى آخر السورة. * * *

سورة الممتحنة

سُورَةُ الْمُمْتَحَنَةِ قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا ... (1)} ابن عطية: نزلت في غزوة الحديبية، وقال الزمخشري: يروى أن امرأة أتت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم [بالمدينة وهو يتجهز للفتح*] (¬1)، وهذا هو الصواب، لأن غزوة الحديبية لم ينقل أنها كانت فيها الكثرة من النَّاس، بحيث يحذر منهم حاطب بن أبي بلتعة بخلاف الفتح، وهنا ثلاثة أسئلة: الأول: أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال لعمر: " [وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَكُونَ قَدِ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ*] "، فقبل عذره، ولم يقبل عذر الثلاثة الذين تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم في غزوة تبوك، مع أن فيهم من حضر بدرا؟ وجوابه: [أنه*] خاطبهم بالمفسدة وعافاه الله منها بإعلامه نبيه وإظهاره الكتاب قبل [وصوله*] إلى الكفار، والثلاثة المتخلفون وقع منهم التخلف [بالفعل*]، فالمراد بقوله: اعملوا ما شئتم، [الهمُّ*] بالمفسدة، [لا بقاؤها بالفعل*]، لأن قضية حاطب قضية [**في عين]، وليس فيها إلا الهم بالمفسدة، والمشهور عند الأصوليين في العام إذا ورد على سبب أنه [يقتصر*] على سببه. السؤال الثاني: كيف طلب عمر رضي الله عنه، أن يضرب عنقه بعد تصديق النبي صلى الله عليه وسلم وعلى آله، لسارة: أمسلمة جئت؟ قالت: لا. والخطاب بـ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا)، تصديق له أيضا في أنه مؤمن، وجوابه: أنه توهم أن قتله حد وأدب لا أنه مرتد. الثالث: ذكر الزمخشري، قول رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم لسارة: أمسلمة جئت، قالت: لَا، قال: أمهاجرة جئت قالت: لَا، فيرد في هذا السؤال تقريره أنه يلزم من انتفاء الشرط انتفاء المشروط، والإسلام شرط في المعجزة، وقد سألها عنه أولا فنفته، فلم سألها ثانيا عن الهجرة؟ مع علمه بأنها غير مسلمة، فإِن أجيب: بأنه ليس المراد الهجرة الشرعية، بل لتحصيل حاجة، فإنها إنما خرجت لإلحاقها الفاقة، رد بأنه لو كان كذلك لما [أجابت*] بقولها: لَا، وهنا أيضا. سؤال رابع: وهو أن لفظ الآية منافٍ لسبب نزولها، وتقريره أن السبب يقتضي العتب، والخطاب في الآية بوصف الإيمان وعدم إفراد المنادى [ينافيه*]. قوله تعالى: (تُلْقُونَ). ¬

_ (¬1) النص في الكشاف هكذا: "روى أن مولاة لأبي عمرو بن صيفي بن هاشم يقال لها سارة أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة وهو يتجهز للفتح، فقال لها: أمسلمة جئت؟ قالت: لا. قال: أفمهاجرة جئت؟ قالت: لا. قال: فما جاء بك؟ قالت: كنتم الأهل والموالي والعشيرة، وقد ذهبت الموالي، تعنى: قتلوا يوم بدر، فاحتجت حاجة شديدة، فحث عليها بني عبد المطلب فكسوها وحملوها وزوّدوها، فأتاها حاطب بن أبي بلتعة وأعطاها عشرة دنانير وكساها بردا، واستحملها كتابا إلى أهل مكة نسخته: من حاطب بن أبي بلتعة إلى أهل مكة، اعلموا أنّ رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يريدكم فخذوا حذركم، فخرجت سارة ونزل جبريل بالخبر، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا وعمارا وعمر وطلحة والزبير والمقداد وأبا مرثد -وكانوا فرسانا- وقال: انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ، فإن بها ظعينة معها كتاب من حاطب إلى أهل مكة، فخذوه منها وخلوها، فإن أبت فاضربوا عنقها، فأدركوها فجحدت وحلفت، فهموا بالرجوع فقال على رضى الله عنه: والله ما كذبنا ولا كذب رسول الله، وسل سيفه، وقال: أخرجى الكتاب أو تضعي رأسك، فأخرجته من عقاص شعرها". اهـ

(2)

الإلقاء أعم من الإيصال والحصول، فلا يلزم منه حصول المودة، كما وقع في هذه القصة. قوله تعالى: (تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ). ابن عطية: بدل من (تُلْقُونَ)، ويجوز أن [تكون*] في موضع خبر ابتداء، كأنه قال: أنتم تُسِرُّونَ، ويصح أن يكون فعلا مرسلا [ابتدئ*] به القول، والإلقاء بالمودة [معنى ما*] والإسرار بها معنى زائد على الإلقاء، فيترجح بهذا أن (تُسِرُّونَ) فعل [ابتدئ*] به القول، أي تفعلون ذلك وأنا أعلم، انتهى، أراد أنه أخص من الأول، لأن الإسرار إلقاء وزيادة، وجعله أبو حيان بدل اشتمال، وتقديره أن الإلقاء متناوله ومشتمل عليه باعتبار الصادقية، والثاني يشتمل على الأول باعتبار اللزوم ولا ضعف فيه، لأن بدل [الأخص من الأعم، إنما يراد به*] بدل بعض من كل. الزمخشري: [والباء في*] بالمودة إما زائدة مؤكدة [للتعدي*]، وإما ثابتة على أن مفعول (تلقون) محذوف، أي تلقون إليهم أخبار رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم بسبب المودة، ابن عطية: ألقيت يتعدى بحرف الجر، فدخول الباء وزوالها سواء ونظيره، قوله تعالى: (وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي)، انتهى، هذا كله إنما جاء من جعل المودة راجعة لموادتهم الكفار، ولنا أن نفهمه على أن المراد تسرون إليهم الحديث بسبب المودة بينكم وبين قرابتكم الذين معهم، لأن إسرارهم بسبب [مودتهم*] لم تقع؛ لأن حاطبا لم تحصل منه مودة. قوله تعالى: (سَوَاءَ السَّبِيلِ). أبو حيان: مفعول به أو ظرف انتهى، يرد كونه ظرفا بأن لَا يحسن أن يقال: [ضل*] في سواء السبيل، لأنه ظرف للرشاد لَا للضلال [ففيه*] تناقض، فإن قلت: سواء السبيل مشتمل على [طرف*] ضل في بعضها، واهتدى في البعض، لأنه مؤمن، قلت: طريق الحق واحدة، والضلال في بعضها مرتد إذا تعمد ذلك بعد هذه الآية، أو يقال: سواء السبيل هو وسط السبيل، فقد يضل عن الوسط، ويبقى في [طرفها*] فهو بهذا المعنى [طرف*]. قوله تعالى: {إِنْ يَثْقَفُوكُمْ ... (2)} فيه سؤال، وهو المرتب جوابا للشرط متأخر عنه، [وكونه*] أخذلهم ثابت سواء قاتلوهم وثقفوهم أم لَا، فكيف يصح ترتيبه عليه؟ والجواب من وجهين: متأخر عنه الأول أن المتقدم على الشرط كونهم أعداء فقط، والمتأخر عنه لمجموع عداوتهم

(3)

وبسطهم ألسنتهم بالسوء، والشيء في نفسه ليس كموقع غيره، فإن قلت: قد تقرر في علم المنطق أن الشرطية المتصلة تتحد بعد تاليها بالسؤال، [فإن قلت*]: ذلك باعتبار [**الأمثل]، وأما هنا فالمعتبر المجموع الثاني أن المتأخر استصحاب عداوتهم أو شدتها وبسط الأيدي في بعض النَّاس أشد من بسط الألسن، وفي بعضهم على العكس. قوله تعالى: (وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ). إن كان استئنافا [فظاهر*]، وإن كان معطوفا، فكيف جاء ماضيا والأول مستقبل؟ والجواب: أنه ماضٍ لفظا ومعنى، وقد ذكره، لكن إنما يصح حيث يكون فعل الشرط لفظا ومعنى، وأجاب الزمخشري: بأن تلك المودة ثابتة قبل. قوله تعالى: {أَرْحَامُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ ... (3)} إن قلت: لم قدم الأرحام وهي أعم، وقد تقرر أن نفي الأعم أحسن من نفي الأخص، فهلا اكتفى بذكر الأرحام عن ذكر الأولاد؛ لأن نفي الأعم يستلزم نفي الأخص؟ فالجواب: أنه ذكر الأولاد خشية احتمال صورة التخصيص، لأنه قد يخصص ذلك العام بالأولاد، فإِن قلت: هلا ذكرت الأولاد قبل الأرحام؟ فيكون العطف تأسيسا، وأما هنا فنفي الأعم [أخص*] من نفي الأخص، قلت: قد تقرر في [علم*] المنطق في [العُكُوسات أن هذا] من باب استلزام الأعم [أمرا*] لعدم استلزام الأخص له، ورد الحديث: " ["إِذَا مَاتَ الْإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثَةٍ: إِلَّا مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ*] "، فإن كان (لن [تنفعكم) *] جواب (لو)، فظاهر لأنهم إذا كفروا لَا ينفعهم شيء من ذلك، وإن كان استئنافا؛ فيكون المراد نفي المنفعة عن الرحم، بما هو رحم، وعن الولد بما هو ولد، ومنفعة الولد الصالح لَا لمجرد كونه ولدا، بل بوصف الإيمان الخاص. قوله تعالى: (يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ). قال أبو حيان: لَا يصح أن يكون الظرف مقاما لأنه منصوب، ونقل في سورة الأنعام في قوله تعالى: (لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ)، عن الأخفش: أنه أجاز إقامته، وعلى أنه مقام هنا يرفع لإضافته إلى المبنى، ونقل السهيلي صحة إقامته، وإن كان غيره منصرف. قوله تعالى: {فِي إِبْرَاهِيمَ ... (4)} خصه بالذكر إما لأنه أول ما ابتدأ هذه المقالة، وإما لأن جميع الملل آمنوا ووافقوا عليه، ابن عطية: اختلفوا في الذين معه، فقيل: أراد من آمن به من النَّاس، وقال

الطبري وغيره: أراد الأنبياء الذين كانوا في عصره وقريبا من عصره، وهذا القول أرجح التأويل، لأنه لم يروا أن إبراهيم كان له أتباع مؤمنون في مكافحتهم نمرود، وفي البخاري أنه قال لسارة حين رحل بها إلى الشام مهاجرا إلى بلاد النمرود: [لَيْسَ عَلَى وَجْهِ الأَرْضِ مُؤْمِنٌ غَيْرِي وَغَيْرَكِ*]، قيل: لعل المراد من آمن به بعد ذلك، قيل: الأصل استصحاب الحال، وأنه لم يكن معه أحد قبل الأنبياء كانوا في زمانه مثل نوح ولوط، فصدق أنهم معه على دينه لأنهم قوم، ويحتمل أن المراد [بالمعية*] [المشاركة*] في الإيمان لَا في الزمان، قيل: من اتبعه وأتى بعده من الأنبياء [وقومهم معه*]. قوله تعالى: (وَمِمَّا تَعْبُدُونَ). كالتأكيد لما قبله، لأنهم إنما تبرءوا منهم لأجل عبادتهم غير الله، فإِذا تبرءوا منهم لأجل [شركهم*]؛ فأحرى أن يتبرءوا من معبودهم الذي أشركوه مع الله تعالى. قوله تعالى: (وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ). العداوة هي الانقطاع، وتكون بين المتحابين وبين المتباغضين، فقد تنقطع الوصلة بين المتحابين بالسفر ونحوه، وقد تنقطع وينشأ عنها [التباغض*] وقد لَا ينشأ، والبغضاء هي الكراهية القلبية [سواء كانت مع المواصلة*] أو مع الانقطاع، فقد تكره الشخص وأنت تواصله في الظاهر، فإِن قلت: إذا كانت البغضاء من الأمر القلبي، فكيف وصفها بالظهور؟ فقال: (وبدا بيننا وبينكم)، فالجواب: بما قال ابن التلمساني في الأمور القلبية: أنها قد تعرف بأمارات تظهر دليلا عليها كحمرة الخجل [وصفرته*]. قوله تعالى: (إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ). مستثنى العداوة والبغضاء. قوله تعالى: (عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا). تقديم المجرور للتشريف، والاعتناء للاختصاص، لأنه مستفاد من مادة التوكل، وقال صاحب لحن العوام: من لحنهم: قولهم: توكلت عليك وعلى الله، وإنما يقال: توكلت على الله ثم عليك، قال شيخنا: الصواب أنه لَا يطلق التوكل على المخلوق بوجه، والإنابة هي اعتقاد التوحيد والإيمان بالقلب والتوكل متأخر عن ذلك، لأنه إنما يكون بعد النظر في الحوادث، وفي الأمور الدنيوية بخلاف الإنابة، لأنها متقدمة و [الْمَصِيرُ*] المرجع متأخر عن الجميع، فهلا قدمت النيابة ووسط التوكل؟ والجواب: أن المراد [بالإنانة*] الانتقال من مقام إلى مقام، إن قلت: إنه من كلام إبراهيم عليه السلام، وإن قلنا: إنه من كلامنا بمعنى [نقول*] (رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا)، فإِن قلت: المراد بالإنابة

(5)

التوبة من [**الفروع]، قلت: التوبة مذكورة في علم أصول الدين، وليس لها في كتب الفقهاء ذكر، وإن تكلموا في متعلقها بأن التوبة أمر اعتقادي قلبي. قوله تعالى: {لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً ... (5)} فسره ابن عطية: بمتعلقين إما بأن [تغلبهم علينا*]، [فتكون لهم فتنة وسبب ضلالة*]، لأنهم يتمسكون بكفرهم، ويقولون: إنما غلبناهم لأنا على الحق وهم على الباطل، أو [لا تسلطهم*] علينا فيفتنوننا فكأنه قال: لَا تجعلنا مفتونين، انتهى، على الأول: يكون الدعاء راجع للكفار بالذات ولنا باللزوم، وعلى الثاني: هو دعاء لنا بالذات، ويتناول الكفار باللزوم. قوله تعالى: (وَاغْفِرْ لَنَا). الأول: دعاء بأمر راجع للدارين، والثاني: خاص بالآخرة، وعقبه بـ (الْعَزِيزُ)، لأنه مناسب لذكر الفتنة. قوله تعالى: {لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ ... (6)} بدل اشتمال من (لكم)، وإلا لزم أن يكون [بدل*] كل من بعض، لأن الذين يرجون الله واليوم الآخر أعم من ضمير (لكم). قوله تعالى: (فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ). وفي سورة الحديد (فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ)، وقرئ بإسقاط (هو)، فإِن قلت: الصيغ متواترة، وقد ورد النهي عن الاختلاف في القرآن بالزيادة والنقص؟ قلت: إنما ذلك حيث لم يرد ذلك اللفظ في مثل ذلك في غير الحديد سقطا وفي مثله من غيرها زائد، فليس من ذلك المعنى، وانظر ما تقدم في سورة الحديد. قوله تعالى: {عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ ... (7)} الحكم على موصوف لصفة على ثلاثة أقسام: فتارة يجب في ذلك الحكم مراعاة تلك الصفة، وتارة يستحب، وتارة يحرم، والآية من القسم الآخر، لأن جعل المودة بين المؤمنين والكافرين لأجل عداوتهم حرام، إنما المودة لأجل القرابة وكونها لأجل العداوة لَا تصدر إلا من منافق. قوله تعالى: {إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي ... (9)} قال عياض في المدارك لما عرف بإسماعيل القاضي، قال: حكى الدارقطني عنه أنه دخل عنده عبدون بن صاعد الوزير، وكان نصرانيا، فقام له ورحب به فرأى إنكار

(10)

الشهود لذلك، قال: قد علمت إنكاركم، وقال تعالى (لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ) الآية، وهذا يقضي حوائج المسلمين، وهو سفير بيننا وبين المعتضد، وهذا من البر، فسكت المعتضد عن ذلك. قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يُحِب الْمُقْسِطِينَ). إن قلت: هلا قال: إن الله يحب البارين، فيكون راجعا للمعطوف عليه، وهو الأصل؟ فالجواب: أن تعليق الحكم على الأعم أبلغ، لأن المقسط أعم من البار، فإِن ثبت أنه محبوب فأحرى البار. قوله تعالى: (إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ). يدل على نفي مفهوم المخالفة، لأن هذا مفهوم ما قبله. قوله تعالى: (وَأَخْرَجُوكُم مِنْ). عطف الصفات والواو بمعنى أو، لأنه إذا جعل من عطف الموضوعات، والواو على بابها يلزم عليه حذف الموصول والفاصلة، وهو غير جائز، واختلف الأصوليون في [لا تفعل*]، هل هي للتحريم أو للكراهة، وكذلك ذكر الفقهاء في لفظها، والآية حجة لمن يقول إن ذلك لَا يدل على التحريم، ولولا ذلك لما كان لقوله (فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ)، فائدة، والمراد بالظلم هنا الشرك، لأن موالاتهم للكفار من حيث اتفاقهم بقتالهم إياهم في الدين، دليل على ردتهم وشركهم، ويحتمل أن تكون الموالاة لَا من هذه الحقيقة، ويكون المراد بالظلم المعاصي والمخالفة في الفروع لَا في الاعتقاد، لاقتضاء الآية الحصر لاسم الإشارة والمضمر وتعريف الخبر، فالمراد أن ليس بظالم، فإِذا [حملناه*] على المعاصي بالإطلاق صدق اختصاصهم بالظلم، وإذا [حملناه*] على الشرك لم يصح الحصر والعطف ترق، لأن المقاتلة أشد من الإخراج من الدار، وعطف الأشد على الأخف في باب النهي والنفي ترق، لأن نفي الأخص لَا يستلزم نفي الأعم. قوله تعالى: {إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ ... (10)} أي النساء المدعيات الإيمان فهن مؤمنات باعتبار الدعوى، فاختبروا صحة دعواهم بإحلافهم على ذلك. قوله (مُهَاجِرَاتٍ)، حال، فإن قلت: الإيمان شرط في الهجرة، فيلزم مقارنة الشرط للمشروط، لأن الحال مقارنة لصاحبها، قلت: هي حال مقدرة.

قوله تعالى: (اللَّهُ أَعْلَمُ). احتراس وإشارة إلى أن التحليف في الامتحان، وأنه ليس المطلوب منكم غاية الامتحان [لتصلوا*] إلى العلم بذلك، بل المراد مطلق الامتحان ليحصل لكم الظن القوي. قوله تعالى: (بِإِيمَانِهِنَّ). وأما العلم فخاص بالله عز وجل، وهو منا بمعنى الظن. قوله (لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ)، إن قلت: يلزم من عدم حليتهن لهم عكسه، فما [سر*] التصريح بالعكس؟ فالجواب: أنه لو لم يصرح بالعكس لفهم صدر الآية، أنه يجري مجرى الضرورة المثالية، [**وأنها لَا تعكس كيفها كما دلتها فتنعكس مثلا إلى الدائمة]، فتبين أنها تنعكس في الجهة ضرورة، وكان الشيخ أبو العباس ابن إدريس يقول: يؤخذ [من*] قوله (وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ)، أن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة، وإلا لم يكن لذكره بعد قوله (لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ)، فائدة لأنه يغني عنه. قوله تعالى: (وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ). أي إذا ارتدت منكم امرأة، وهربت إلى الكفار، فاطلبوا من الكفار أن يدفعوا لزوجها مهرها. قوله (وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا)، إذا ارتدت من الكفار امرأة إليكم، فادفعوا أنتم لزوجها مهرها، والأمر بسؤال الكفار من المؤمنين نفقة إذ راجعهم ظاهر، لأنه جزاء لسببه، وتقدم ذكره في الآية لقوله تعالى: (إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ)، وأما أمرنا نحن بأن [نطلب*] الكفار صفة من هربت منا إليهم، فلم يجر له سبب، لكنه ذكر باللزوم فحقه أن [يكون*] مؤخراً، فيقال (وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا) أو (وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ)، لكن إنما قدم لأنه أهم، إذ هو راجع للمؤمنين في أخذهم [مهر من جاءتهم*]، والأخذ راجع لانتفاء الكفار لاسيما، إن قلنا: إنهم مخاطبون بفروع الشريعة، وهذا الأمر ليس للوجوب لأنه بلفظ السؤال، فدل على ضعفه، وهو للإباحة أو الندب، فإن قلت: يؤخذ من الإباحة عدم المتابعة في الذنوب، لأن غاية السؤالين قبض المسئول، قلت: لَا يلزم من السؤال حصول القبض هنا، الذي هو مناف للمقاصد، ولما عرف عياض في المدارك بأبي محمد عبد الله بن السماك قال: قال الداوودي: كان ابن السماك إذا سئل عن غيره، هل يقول هو مؤمن عند الله أو يسكت، فقال: يقول: هو مؤمن عند الله، ووافقه جماعة من القرويين، وخالفه ابن أبي زيد، وأكثر علماء القيروان، وقالوا: إنما يقال:

(11)

إن كانت سريرتك مثل علانيتك فأنت مؤمن عند الله، ووقع بينهم بهذا مهاجر وتقاطع، فقلنا لابن التبان: كيف تقطع على غيبه فقال: فإِن كانت سريرته مثل علانيته كان كذلك يقال هو مؤمن من في حكم الله في مثل قوله (فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ)، فقال لي أبو محمد: ليس هذا أراد [فقلت*] كذلك، يقول: [ولما*] عرف بأبي الحسن علي بن محمد الدباغ، قال: سئل عنها، فقال: إذا وقفنا بين يدي الله تعالى لم نسأل [هل*] نحن مؤمنون عنده ولا عندكم؛ فأعيد عليه [الكلام*]، هل تقطع كغيرك بالإيمان عند الله، فقال: لَا إلا أني أقول له: إن كان ظاهرك وباطنك واحد، وكان ينهي عن الكلام فيها، ويقول: ما لنا ولشيء إذا أصبنا فيه لم نؤجر، وإن أخطأنا أثمنا، ويقول لأبي حسن الزيات: ذهبنا إلى العراق وأتينا بهذه البدعة، وهو الذي جاء بها وألقاها بالقيروان، قوله (يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ)، أتى به مستقبلا مع أن الحكم ماض، باعتبار ظهور متعلقين. قوله (وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ ... (11) .. ، فإِن قلت: هذا تكرار؛ لأنه مستفاد من الأول؟ فالجواب: أن هذا أمر للمؤمنين بأن يدفعوا لبعضهم مهر زوجته الذاهبة، والأول أمر للمؤمنين بأن يدفعوا للكافرين مهر زوجته الذاهبة عنه، أو أمر للكفار أن يدفعوا للمؤمنين مهر زوجته الذاهبة، أي [وآتوا*] (الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ). قوله (الَّذِينَ آمَنُوا)، أنتم مصدقون [بوعدكم*] ووعيدهم، والذي عليه المفسرون [في*] الآية، أنه يدفع من الغنيمة للزوجة الذاهبة، [وزوجته المشركة*] مثل ما أنفق، وهذا التفسير إن كان إجماعا أو تفسيرا من النبي صلى الله عليه وسلم، فلا كلام وإلا فظاهرها أن المراد أن الذي فاتته زوجته إلى الكفار [فعاقبتموهم*]، أي أخذتم نساءهم فأعطوهم ما أنفقوا، ولا تكونوا [ ... ] (وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا)، فإِن ذلك قام للمعاقب وغيره، وبالجملة، فأحكام الآية منسوخة. قوله (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ ... (12) .. ، اختلف المحدثون إذا ورد في الحديث، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل يصح للراوي أن يبدله؟ قال: الشيء أو العكس، على ثلاثة أقوال: الجواز، والمنع، وجواز تبديل النبي بالرسول دون العكس، فإن قلت: هلا قيل: يا أيها الرسول [فهو*] أخص، وكل ما ثبت للأخص لا ينعكس، قلت: تعليق الحكم على الأعم أعم من تعليقه على الأخص، لأنه ينتج الحكم للأخص من باب أحرى، فإذا بايعوه على الإيمان وفروعه مع استحضار كونه نبيا، فأحرى أن يبايعوه عليه مع استحضارهم كونه رسولا من الله؛ خلاف العكس،

(13)

وقوله (الْمُؤْمِنَاتُ)، إن أريد مطلق التصديق، فيكون حقيقة، وإن أريد التصديق لكل ما جاء به، فيكون من تشبيته الشيء بها يؤول إليه لَا ينفي أنه لَا يعلم إيمانهن بذلك إلا بعد [إقرارهن*] بعدم الإشراك والسرقة والزنا، وقدم الإشراك؛ لأن [حفظ*] الأديان آكد، ويبقى النظر بين الأموال والزنا، فقد يقال اجتناب الزنا آكد، بأن حفظ الأنساب آكد من حفظ [الأموال*]، لكن يجاب عنه بما أجابوا عن قوله في المدونة في الكتابي إذا سرق أنه يقطع، وإن زنى لم يحد مع أن العكس كان يكون أولى، فأجابوا: [بأن*] السرقة راجعة إلى التظالم بينهم والفساد، فيحكم بينهم فيها وفيما هو [حق آدمي*] وحق الله، والزنا مجرد حق الله فقط، فيحكم فيه [بشرعهم*] [ولا حق*] في الزنا للآدمي، لأن غالب الأمر في المزني بها أن تكون طائعة، وإن كانت مكرهة فلا نسميه زنا، وهو المراد هنا أعني الزنا طوعا، [وأخَّر*] قتل الأولاد عن الزنا مع أن حفظ النفوس آكد، لأن قتل الأولاد [قليل*] فيهم بالنسبة إلى الزنا، إذ غالب الأمر في الأمهات الرأفة والحنان على أولادهم، فالعطف في الآية [بيان*]، قوله (وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ)، عبر فيه بالإثم، ولم يقل: ولا يأتين بسرقة ولا بزنا؛ إشارة إلى السبب الذي ذكر المفسرون في ذلك من [اختلاق*] الأولاد وجلبهم. قوله (فِي مَعْرُوفٍ)، إن قلت: ما أفاد، مع أن [أمر*] النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم معروف لَا منكر فيه؟ قلت: صدق التعميم الامتثال في أوامره كلها واجبها وندبها، [ولو لم*] يقل في معروف لأوهم أنهم لَا يعصونه في الأمر الواجب، لاسيما على ما قال الفخر، والأكثرون مع أن لفظ العصيان خاص بمخالفة الواجب، والقصد في الآية [مدحه*] في عدم مخالفته في الواجب والمندوب، وأجاب الزمخشري: على أنه تنبيه على أن [مطلق الطاعة منها معروف، ومنها منكر، وأوامر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم دل الدليل على أنها كلها معروف*] (¬1). قوله تعالى: {لَا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا ... (13)} وقال في أول السورة (لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ)؟ والجواب: أن هذا في عموم المؤمنين بالنسبة إلى المشركين، وتلك في قضية حاطب فيقيد في هذا النهي عن مطلق الموالاة، وفي تلك النهي عن اختصاصها، لأنا إن قلنا: إنها نزلت في اليهود من جهة أنهم كانوا يوالونهم بعض موالاة، فهو أتم حكما، فلم يقع [في*] أخص الموالاة، بل أعمها، وأما أخصها فمعلوم من المخاطب عدم الاتصاف به حيث ما شهد له النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بحضوره بدرا، أو أنه مغفور له، فإن قلت: كيف ينهى عن مطلق الموالاة، وقال تعالى (إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ ¬

_ (¬1) النص في الكشاف هكذا: "نبه بذلك على أنّ طاعة المخلوق في معصية الخالق جديرة بغاية التوقي والاجتناب". اهـ.

قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ)، أن تبروهم؟ قلت: المراد بذلك المسالمة والمشاركة لَا الموالاة، فإِن قلت: المراد بالإقساط الإعطاء، وقيل: المعروف [بالنفل*]، وقد ذكر عياض في المدارك أن القاضي إسماعيل قال لنصراني واحتج بالآية، قلت: لَا حجة في ذلك. قوله تعالى: (غَضِبَ اللَّهُ عَلَيهِم). إما راجع إلى صفة الإرادة، أي إرادة تعذيبهم، أو لصفة [**القتل]، أي عذبهم في الدنيا بالذل والرعب والقتل بأيديهم، لأن تعذيبهم بالآخرة [لم*] يكن واقعا حينئذ. قوله تعالى: (قَدْ يَئِسُوا مِنَ الآخِرَةِ). إن أريد المشركين، فهم يئسوا من [وقوعها*] حقيقة، وإن أريد اليهود فلم ييئسوا من [نعيمها*]، فإن قلت: كيف وهم يزعمون أن نعيمها خاص بهم؟ قلت؛ كفرهم عناد [وإسناد اليأس إليهم مجاز*]، فإذا أريد اليهود، فيكون التشبيه بالكفار حقيقة، وإن أريد العموم، فالتشبيه باعتبار اختلاف الصفة والحال، كقولك: هذا بُسْرا أطيب منه رطبا، أي يئسوا من أصحاب القبور أن يرجعوا إلى الدنيا أو ينعموا بالجنة. * * *

سورة الصف

سُورَةُ الصَّفِّ ابن عطية: مكية، وقيل: بعضها مكي وبعضها مدني، الزمخشري: مكية ولم يحكي خلافا، ثم لما ذكر سبب نزول قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ)، قال: إن المؤمنين قالوا: لو نعلم أحب الأعمال إلى الله تعالى [لعملناه*] ولبذلنا فيه أموالنا وأنفسنا، فدلهم الله على الجهاد، [فولوا يوم أحد فعيرهم*]، [وقيل*] لما أخبر الله تعالى بثواب شهداء بدر، [قالوا: لئن لقينا قتالا لنفرغن فيه وسعنا، ففروا يوم أحد ولم يفوا*] (¬1)، بقولهم، فنزلت الآية فظاهر هذا أن بعضها مدني، لأن غزوة بدر وأُحد إنما كانت بعد الهجرة، فإن قلت: لَا يبعد أن تكون الآية نزلت عتابا لهم فيما سيقع منهم لَا ما وقع، قلت: قد قال الزمخشري: سبب نزولها عدم وفائهم بقولهم فهذا هو التناقض. قوله تعالى: {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ ... (1)} السبب القوي أدل على وجود السبب من السبب الذي لَا يساويه في تلك القوة، فإذا كان الناظر إلى السماوات والأرض يسبح الله، فأحرى الناظر لنفس السماوات والأرض، ويستفاد هذا أيضا من دلالة تركيب النصوص لقوله تعالى: (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبَحُ بِحَمْدِهِ). قوله تعالى: (وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ). يجري مجرى العلة، ابن عطية: (الْعَزِيزُ) في سلطانه وقدرته (الحكيم) في أفعاله وتدبيره، المقترح في الأسرار العقلية، الحكمة راجعة للعلم بمعنى وضعه الأشياء في محلها، وإن قلت: المراد بها الانتقال يشتمل صفة العلم والإرادة، الآمدي في إبكار الأفكار: قيل: معناه الحاكم، وقيل: العليم فهو صفة علمية، وقيل: المتقن للأشياء فهي صفة فعلية، والحاكم الفاصل بالقول والأخبار أو بالقضاء والقدرة، وقيل: الحاكم المانع فالأول: صفة كلامية، والثاني: راجع للقدرة والإرادة. قوله تعالى: {لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2)} حضهم على أمر مركب من القول وعدم الفعل، والمركب [ ... ] بأحد جزئيه، فهل المراد نفي القول أو نفي الفعل؟ فتوبيخهم على قولهم ما لَا يفعلونه، هل معناه قولوا لنا [لم لَا تفعلونه*]، أو أن الصواب أن لَا يقولوا [آمنا لما لَا يفعلونه*]، والظاهر الأول، لأن الثاني ينتفي فيه مصلحة القول، وكان بعضهم يورد في الآية سؤالا، تقريره أن ما لا [يلزمه*] فعل شيء فلم يفعله، إنما يعاقب على عدم الفعل لَا على التزام ما لَا يوف به، ¬

_ (¬1) النص في الكشاف هكذا: "روى أنّ المؤمنين قالوا قبل أن يؤمروا بالقتال: لو نعلم أحب الأعمال إلى الله تعالى لعملناه ولبذلنا فيه أموالنا وأنفسنا، فدلهم الله تعالى على الجهاد في سبيله، فولوا يوم أحد فعيرهم. وقيل: لما أخبر الله بثواب شهداء بدر قالوا: لئن لقينا قتالا لنفرغن فيه وسعنا، ففروا يوم أحد ولم يفوا. وقيل: كان الرجل يقول: قتلت ولم يقتل، وطعنت ولم يطعن، وضربت ولم يضرب، وصبرت ولم يصبر. وقيل: كان قد أذى المسلمين رجل ونكى فيهم، فقتله صهيب وانتحل قتله آخر، فقال عمر لصهيب: أخبر النبي عليه السلام أنك قتلته، فقال: إنما قتله لله ولرسوله، فقال عمر: يا رسول الله قتله صهيب، قال: كذلك يا أبا يحيى؟ قال: نعم، فنزلت «1» في المنتحل. وعن الحسن: نزلت في المنافقين. ونداؤهم بالإيمان: تهكم بهم وبإيمانهم". اهـ.

(4)

[وكأنَّ*] الجاري على هذا المعنى أن يقول: لم لم تفعلوا [ما تقولون*]؛ لأنهم قالوا نفعل ونفعل، والجواب من وجهين: أحدهما: أن العتب على القول يستلزم العتب على الفعل، لأن القول سبب في الفعل، فإِذا عتب على السبب استلزم العتب على المسبب، ومن هذا المعنى مسألة العريش في أكرية الرواحل من المدونة وهي من اكترى دابة ليحمل عليها، من مصر إلى فلسطين [فَانْكَسَرَ الدُّهْنُ*] منها فعثرت بالعريش [وَقِيمَتُهُ هُنَاكَ بِالْعَرِيشِ ضِعْفُ قِيمَتَهُ بِالْفُسْطَاطِ كَيْفَ يُضَمِّنُهُ؟ قَالَ: قِيمَتُهُ بِالْعَرِيشِ*]، وقال غيره: يغرم قيمته بمصر، لأنه منها تعدى. الجواب الثاني: أن الخطاب فيه رفق بالمؤمنين، وذلك أن الفعل أخص من القول، ولازم الأخص غير لازم الأعم، فلا يلزم من العتب على [الفعل*] العتب على القول. قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ ... (4)} ابن عطية: المحبة هنا صفة فعل، ولا ترجع للإرادة؛ إذ لَا يصح أن يقع ما يخالفها، ونحن نجد المقاتلين على غير هذه الصفة كثيرا انتهى، العكس كان أولى، لأن صفة الفعل ظاهرة فلو كان المراد به أنه ينصر الذين يقاتلون في سبيله، للزم الخلف في الخبر، لأنا وجدنا بعض النَّاس يقاتل ولا ينصر بخلاف الإرادة، [فإنا*] لَا نطلع عليها ولا نعلمها، فيمكن أن يكون المقاتل مرادا أولا، فإن قلت: إنما مراد ابن عطية أن الإرادة يلزم وقوع متعلقها، فلو كان المعنى أنه إفراد القتال في سبيله للزم عليه الخلف في الجنة، لأن بعض النَّاس لم يقاتل في سبيله بل أكثرهم، قلت: فرق بين القتال وبين إرادته وبين الذين يقاتلون، فجاء معنى الآية إنما أراد من قاتل في سبيل الله فهو مراد الله ومحبوب له كقوله تعالى: (فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ)، أي أراد ثوابه، وفي كلام ابن عطية نظر من وجه آخر أيضا، لأنه قال: أكثر النَّاس يقاتل ولا ينتصر، ثم قال: المراد يقاتلون القتال بالجد والعزيمة، فكل النَّاس أو أكثرهم إذا قاتل بجد وعزيمة ينتصر، وأما قتال المنافقين فليس في سبيل الله. قوله تعالى: (بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ). التشبيه بالثبات وعدم الفرار؛ كثبوت البناء، وحمله المفسرين على أن معناه أن يكونوا متراصين كتراص البنيان، وهذا لَا يتصور في [**الحرمات]. قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ ... (6)} فإن قلت: لم قال موسى: (يَا قَوْمِ)، وقال عيسى: (يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ)؟ فالجواب من وجهين:

الأول: أن موسى عبر بالقوم تنبيها على قبح ما فعلوه، لأن قوم الإنسان من حزبه وأشياعه، فحقهم أن ينصروه ويوالوه، ففعلوا ضد ذلك فآذوه بخلاف قوم عيسى، فإِنهم لم يفعلوا به ذلك. الثاني: أجاب الزمخشري: وهو أن عيسى لَا ولاء له في بني إسرائيل بخلاف موسى، فإِن قلت: قد تقرر أن الولاء يرجع لموالي الأم في أربع مسائل هذه منها؟ قلت: لم [ينسب*] هنا إلى الموالي بل إلى قومه، وقد يقال: إن عيسى إنما ينسب إلى أمه، كما في كثير من الآيات، وكانت أمه منهم أي من قومه. قوله تعالى: (إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ). الأقرب أنه خبر لَا إنشاء، بدليل التصديق والتكذيب، والتأكيد بـ (إِنّ). (مُصَدِّقًا) [حال*] مؤكدة، فإِن قلت: لعلها مبينة، لأن كونه رسولا أعم من أن يثبت التوراة، أو ينسخ حكمها، قلت: هذا لَا يقدح في التصديق، لأن النسخ ليس بتكذيب للمنسوخ، بل هو مصدق له، لكنه واقع لدوام حكمه؛ لأن من لوازم النسخ تصديق المنسوخ. قوله تعالى: (لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ). المراد الماضي أو الحال بخلاف قوله تعالى: (مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا)، فإنه هنا للاستقبال. قوله تعالى: (وَمُبَشِرًا). البشارة هي الإخبار بالأمر الملائم، وهذا ملائم لقوله تعالى: (يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ). قوله تعالى: (اسْمُهُ أَحْمَدُ). السهيلي في كتاب الإخبار والإعلام: لما قال (اسْمُهُ أَحْمَدُ)؟ [مع أن*] الأشهر في أسمائه محمد، والقاعدة في التعبير مدح الشيء أو البشارة به أن يعبر عنه بأشهر أسمائه لا بالخفي منها؟ فأجاب بوجهين: أحدهما: أن هذا الاسم خاص لم يسم به أحد قبله بخلاف محمد، [وغيره]. الثاني: أن أحمد مأخوذ من [اسم*] الفاعل من حمد يحمد فهو حامد، ومحمد مأخوذ من اسم المفعول، لأنه من حمد محمد فهو محمود، فحمد متأخر عن الحمد، لأنه إنما يحمد جزاء عن حمده انتهى، ويجاب أيضا: بأن محمدا هو اسمه في ثاني أزمنته وجوده حين سمي، وأحمد اسمه الشرعي، وهو المتقدم في الوجود، لأن الله تعالى

(7)

سماه به، وأما محمد فأخبر الله تعالى عنه أنه سيولد ولد يسميه أبواه محمد، فهو مؤخر. وذكر عياض في الشفاء قوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: "أنا محمد وأحمد وأنا الماحي وأنا الحاشر"، قال المازري: في التعليق الذي له على الجوزق: وإن اسمه في التوراة بحرف القاف والكاف، وتفسيره بالعبرانية محمد معلوم في التوراة، ابن عطية: والاسم هنا غير المسمى، [وليست على حد قولك جاءنا أحمد لأنك هاهنا أوقعت الاسم على مسماه، وفي الآية إنما أراد: اسمه هذه الكلمة*]؛ كما يفرق بين جاءني زيد، وبين هذا اسمه زيد. قوله تعالى: (هَذَا سِحْرٌ). الإشارة لما جاءهم به صلى الله عليه وآله في ذاته، أي هذا ساحر كقولك رجل عدل، ويؤيده من قرأها ذا ساحر مبين، أي لَا يحتاج إلى إقامة الدليل على كونه ساحر، وقال عياض في الشفاء في الباب الثالث من القسم الأول من فضل أسمائه، وما تضمنه في فضيلته صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ومن أسمائه في الكتب المتوكل والمختار ومقيم السنة، والمقدس، وروح الحق، وهو معنى الفارقليط في الإنجيل، وقال ثعلب: الفارقليط يفرق بين الحق والباطل. قوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى ... (7)} مذهب الأكثرية القائلين بعموم إطلاق الكذب على العمد والسهو، [ظاهر*] لأن الكذب المفترى هو العمد وغير المفترى هو السهو، وأما على مذهب الجاحظ القائل بأن لفظ الكذب الخاص بالعمد، فيكون افترى الكذب هو المشاهدة في وجه المكذوب عليه، أو الكذب في الأمر الواضح الجلي المعلوم بطلانه بالضرورة، ومعنى الآية ليس في النَّاس أظلم ممن كذب على الله، لأن الكاذب على الله هو أظلم النَّاس [ولا*] يعارض قوله تعالى: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا)، فالجمع بين الآيتين ينتج تساويهما في الظلم، فالنفي بإرادة الاستفهام راجع لكونه لَا أظلم منه لَا أنه أظلم النَّاس؛ بخلاف قوله تعالى: (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا)، لأنه ليس المراد هنا أنه لَا أصدق منه، لئلا يلزم عليه احتمال كون غيره مساويا له في الصدق، بل المراد أنه أصدق من غيره حديثا، فليس في الوجود من يساويه في الصدق، بل الكل دونه، ويمكن الجمع أيضا بأن تلك يختص التفاوت فيها والشدة باعتبار نوعها، مثاله في هذه، الكذب في نوعه ظلم، وأشده الكذب على الله والرسول، وكذلك غيرها من الآيات التفاوت فيها نوع كل ما تضمنه.

(8)

قوله تعالى: (وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الْإِسْلَامِ). قال ابن التلمساني في شرح المعالم اللدنية: أجمعوا على تكفير من كذَّب الله تعالى، واختلفوا في تكفير من كذب على الله انتهى، إما أن كذب على الله مستحل للكذب فهو كافر إجماعا، وإن كذب عليه غير مستحل، فإِن خالف الإجماع القطعي فكافر، وإلا فقولان، وحكى ابن الحاجب الأصل فيه ثلاثة أقوال: ثالثها: إن خالف الإجماع القطعي، كفر، وإلا فهو فاسق. قوله تعالى: (وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ). أي في حين ظلمهم، والهداية هي البيان والإرشاد، قال المقترح في شرح الإرشاد [والهادي*] يكون بمعنى الداعي، فيرجع إلى قول الله، ويكون معنى خالق الهدى، وانظر كلامه في الأسرار العقلية، وفسرها الشيخ أبو علي ناصر الدين في شرح الرسالة بكلام يدل على ضعفه في أصول الدين أن الهداية الإرشاد، وقيل: الدلالة الموصلة إلى [البغية*]، وقيل: خلق القدرة على الطاعة، وهذا مردود لأنه [قبل*] خلق القدرة لَا تكليف، فلا هداية ولا ضلال، وإذا خلق القدرة على الطاعة لم يلزم وجود الطاعة، إذ يلزم من وجود القدرة وجود المقدور، فالهداية والضلال مرتبان على خلق القدرة، فإذا وجدت القدرة والطاعة وبين له طريق الخير والشر، فمن سبقت له العناية اهتدى، ومن لَا فلا. انتهى قوله، وقيل: خلق القدرة على الطاعة هذا مذهب أهل السنة، وقوله في رده لأنه قبل خلق القدرة لَا تكليف باطل، لأنه إن كانت القدرة الصلاحية [فمسلم لَا يتناول محل النزاع*]، لأن الهداية إنما هي القدرة [التنجيزية*] وهذا كالعاجز عن القيام، لَا يكلف الصلاة قائما، فإن قدر على القيام كلف بذلك فالقدرة سابقة، وإن أراد القدرة [التنجيزية*] فالتكليف يعطيها من أهل الطاعة [حين*] عملوا بها والعصاة [ ... ]. قوله (يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا ... (8) الإرادة ليست على بابها من التخصيص، بل بمعنى التمني والشهوة، لأن الإرادة من شرطها التخصيص مقارنتها للفعل المريد، وهم لم يفعلوا الإطفاء، وإدخال اللام تهكم بهم وتأكيد للسببية، ولو اقتصر على الإرادة لاحتمل أن ذلك لم يخطر بعقولهم عند افتراء الكذب، فأدخلت اللام بيانا لأنهم أرادوا الكذب لأجل أن يطفئوا نور الله، تحقيقا لسخافة عقولهم، ونص النحويون على جواز دخول اللام على المفعول المؤخر على الفعل، إذا كان فعله مقدرا بأن المصدرية، كقوله: أريد لأنسى ذكرها، وأغفله أبو حيان هنا. قوله تعالى: (وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ).

(13)

قرأ نافع وأبو عمرو، وابن عامر. وأبو بكر عن عاصم (مُتِمٌّ نُورَهُ)، بالنصب، وقرأ الباقون بالإضافة، وهي في معنى الانفصال، ابن عطية: في هذا نظر انتهى، وجه النظر أن اسم الفاعل هنا [مجرد*] عن الزمان، لأنه مسند إلى الله تعالى، فليس بمعنى الحال والاستقبال ولا [المضي*]، وهذا نظرٌ إلى أنه صفة معنوية، والنصبُ نظرٌ إلى ظاهر لفظ الصفة وهي في اللفظ بمعنى الماضي، لأنه مسند إلى الله تعالى. قوله تعالى: (وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ). دليل على أن الظلم بمعنى الكفر، و (لو) هنا بمعنى (أن) لاستحالة كون نفيها إيجابا، وإيجابها نفيا؛ كما هو في قوله تعالى: (وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ)، وهذا [تهكم بهم*]، لأن لو إنما تدخل على ما يتوهم كونه مانعا، فلا تقل أكرم السائل ولو كان عدوك، وكراهة الكافرين لإتمام النور ليست مانعة من إتمام النور، فلو دخلت تهكما بهم، فجعلها في صورة مانعة من إتمام النور، وقوله (وَدِينِ الْحَقِّ)، إن قلت: هذا يدل على تقدم الحق الذي إليه هذا الدين، فيدل على أن التحسين والتقبيح مشتقان من العقل، والحق نقيض الباطل، أي ذلك المتقرر في عقولكم الذي هذا الشرعي بمقتضاه مقدرا له ومصححا؟ فالجواب: أن التحسين والتقبيح قسمان، فمنه ما أجمعوا على إسناده للعقل، ومنهم اختلفوا فيه، فما يرجع إلى وجود الصانع ووحدانيته، وما يجب له وما يستحيل في حقه، أجمعوا على إسناد الحسن فيه والقبيح إلى العقل، لأن العقل اقتضى أن وجود الصانع ووحدانيته حسن، [وعدمه*] قبح، وما يرجع إلى غير ذلك من أمور الديانات، فليس [فيه*] للعقل مجال، [خلافا*] المعتزلة، والآية من القسم الأول. قوله تعالى: {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (13)} ابن هشام: معطوف على (تؤمنون)؛ لأنه في معنى آمنوا، ولا يقدح في ذلك أن المخاطبة بـ (تؤمنون)، [للمؤمنين وبـ (بشر) للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم*]، [ولا يقال*] في (تؤمنون): إنه تفسير للنجاة [لَا طلبا*]، وأن (يغفر لكم) جواب الاستفهام تنزيلا [للسبب منزلة المسبب*]، لأن تخالف الفاعل لَا يقدح، يقولون: قوموا واقعدوا يا زيد، ولأن [تؤمنون*] لَا يتعين [تفسيرا للنجاة*]، ولكن يحتمل أنه تفسير مع كونه أمرا، وذلك بأن يكون معنى الكلام السابق [ترجون*] (تِجَارَة تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ) كما قال (فَهَل أَنْتُم مُنْتَهُونَ)، في معنى انتهوا، وأنَ يكون تفسيرا في المعنى دون الصناعة، لأن الأمر قد يساق لإرادة المعنى الذي يحصل من [المفسر*]، تقول هل أدلك على سبب نجاتك؟ آمن بالله، كما تقول تؤمن بالله، وحينئذ فيمتنع العطف، لعدم

(14)

دخول التبشير في معنى التفسير، وقد يكون معطوفا على أمر مقدر يدل عليه المعنى فافعل كذا أو كذا كما قيل (وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا)، قال السكاكي: الأمر معطوف على قل مقدر، [قبل*]: (يَا أَيُّهَا) وحذف القول كثير، وقيل: معطوف على أمر محذوف تقديره [بشر*]، كما قال الزمخشري: في (وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا) لدلالة [لَأَرْجُمَنَّكَ*] على التهديد. قوله تعالى: {كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ ... (14)} تقدم في قوله تعالى: (هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ)، طلب الإيمان والجهاد بالأنفس والأموال، وهذا هنا آكد؛ لأن ذلك أمر بمطلق الجهاد، والمجاهد قسمان: تارة يجاهد [ليدفع*] العدو عنه، وتارة يجاهد ليطلب النصرة عليه، فهذا يكون قتاله وامتحانه في الحرب أشد من الأول، فأمروا في هذه الآية بالجهاد لطلب النصرة، وعبر بالفعل ليتناول الأمر كل من حصل مطلق الإيمان، و (كونوا) المراد به الدوام ويستفاد ذلك من صيغة الأمر، ومن لفظ كان، فإن الباجي والمنطقيين نصوا على أنها [ ... ] لما ذكروها في الروابط، فجاءت الآية على الوجه الأبلغ لاقتضائها الثبوت والدوام على النصرة، حتى كأنه وصف، وأتى بخلاف قولنا: انصروا فإنه لا يقتضي إلا مطلق إدخال الفعل في الوجود، ولا دلالة على اللزوم والدوام بوجه، وقرئ (أنصارُ الله) بالإضافة، وهو أبلغ من عدم الإضافة؛ لأن نصرة الله أقوى من نصرة غيره، وهذا مجاز واعتناء [بالنبي صلى الله عليه وسلم وبالمؤمنين*]، فجعلت نصرتهم له كأنها لله، مع أن الله تعالى هو فاعلها أو [ ... ]. عليها، قال (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ)، فإن قلت: كيف [شبه*] نصرتهم بقول عيسى؟ قلت: هو تشبيه معنوي على حذف القول، والتقدير: قلنا لكم ذلك كما قال عيسى ابن مريم للحواريين، وأشار إليه أبو حيان، وقرر الزمخشري التشبيه، لأن معناه كونوا أنصار الله؛ كما قال الحواريون: (نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ)، حين قال لهم عيسى: (مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ)، في التشبيه، ولم يقل: انصروني فبادر الحواريون إلى امتثال ذلك، والمؤمنون طلب منهم النصرة بلفظ الأمر المقتضي للوجوب، فحقهم أن يبادروا إلى [الامتثال*]؛ بل هم أجدر [بالمبادرة*]، وقول الحواريون: (نَحْنُ أنْصَارُ اللَّهِ)، بالإضافة أبلغ من طلب عيسى منهم، ومعناه نحن أنصار الله لك أو مع خلانك، [ولو*] قالوا: نحن أنصارك إلى الله؛ لكان مفهومه أنهم لَا ينصرون غيره إلى الله.

قوله (فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ)، بعد أن نصره الحواريون افترق غيرهم، وهم [بنو*] إسرائيل على فرقتين، فطائفة آمنت بعيسى، وطائفة كفرت [به*]، قال شيخنا: كنت يوما جالسا عند الشيخ ابن سلامة، فجاءه رجلان قال له أحدهما: يا سيدي هذا قال لي [لَعَنَ اللَّه*] طائفتَك؟ فقال له: ارفعه للقاضي، وكان ابن عبد السلام حاضرا، فلما جلس بين يديه، قال له ما قاله، فأعرض عنه، وأخذ يبحث مع جلسائه [في مُسَمَّى الطائفة*]، [وكأنه*] لم ير [لمقالته*] مُوجباً، وتقدم الكلام على هذا في سورة براءة في قوله تعالى: (فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ). قوله (فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا)، إن قلت: كيف يفهم هذا التأييد مع ما قاساه عيسى عليه السلام منهم [حتى*] رفع، واتهموا بأنهم قتلوه، فيلزم فيه الخلف في الخبر؟ فالجواب من وجهين: إما بأن التأييد معنوي باعتبار قوة الكلمة، والدليل عليه الحجة. وإما أنه ظهور عيسى في زمنه وأنتم [ ... ] أو ظهور عيسى دائم بعد مدة عيسى زمن الفترة، وإن قلت: فالحواريون الذين قالوا هذا لعيسى هل نصروه؟ أو كيف يفهم؟ قلت: لعل المراد الحواريون بالنوع لَا بالشخص بأولادهم، أو من ينتمي لهم نصروا فانتصروا. قوله (عَلَى عَدُوِّهِمْ)، لم يقل: على الكافرين إشارة إلى أن التأييد محبوب لهم دنيوي وأخروي، لأن [قهر*] الإنسان لعدوه، [يحصل له فوزا دنيويا، وفوزا أخرويا*]، لأنه عدو الدِّين. * * *

سورة الجمعة

سُورَةُ الْجُمُعَةِ قوله (ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا ... (5) .. العطف بـ ثم تنبيه على أنهم كفروا بعد تأمل ونظر، وهو أشد من كفر بالكتاب قبل أن يتأمله. قوله (كَمَثَلِ)، هو تشبيه أمرين حسي ومعنوي بأمرين حسيين. قوله (وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ)، أي حين ظلمهم. قوله تعالى: {إِنْ كُنْتُمْ ... (6)} يحتمل أن يكون هذا [وقوله*] (إِنْ زَعَمْتُمْ) شرطين، وقوله (فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ)، أو يكون الشرط الثاني شرطا في جواب الشرط الأول. قوله (فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ... (8) .. ، ابن البناء: الجملة خبر (إِنَّ)، ودخلت الفاء لما [للذي*] من معنى الشرط، وضعفه آخرون بوجهين: الأول: أن الفاء إنما تدخل إذا كان الذي مبتدأ واسم (إِنَّ)، وهو هنا صفة لاسم (إِنَّ)، وأجيب: بأن الصفة والموصوف كالشيء الواحد. الثاني: إن الفرار من الموت ليس سببا في الموت، وإنما هو سبب في النجاة منه، فلا يصح أن يكون جوابا له. انتهى، قال شيخنا الفقيه عبد الله محمد بن محمد الخباب المعافري يقول: إن الفرار من الموت سبب في ملاقاة الموت، أي الموت الذي تفرون منه ويأتيكم من قدامكم وجهة وجوهكم، فإذا فررتم منه فإليه تفرون، ولذلك فإنه لم يقل فإنه مدرككم، لأن الذي يدرك الهارب يأتي فيه من خلفه. قوله (إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ ... (9) .. ، ابن رشد في رسم [سن*] من سماع ابن القاسم، كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا زالت الشمس أتى المنبر، فإذا رآه المؤذنون قاموا: فأذنوا في المئذنة واحد بعد واحد، وكانوا ثلاثة، فإذا فرغوا خطب ثم تلاه على ذلك أبو بكر وعمر، ثم زاد عثمان لما كثر النَّاس] [أذاناً بالزوراء عن زوال الشمس*]، [يؤذن*] النَّاس أن الصلاة قد حضرت، وترك الآذان في [المدينة*] بعد جلوسه على المنبر على ما كان عليه، فاستمر الأمر على ذلك إلى زمان [هشام*] بن عبد الملك، فنقل الآذان الذي كان [بالزوراء*] إلى [المدينة*]، [ونقل*] الآذان الذي كان في [المدينة*] بين يديه وأمرهم أن يؤذنوا وتلاه على ذلك من بعده من الخلفاء إلى زماننا، وهو بدعة. انتهى، وقال ابن العربي في الأحكام كان في عهد رسول الله صلى الله عليه وعلى آله سلم [يؤذن مؤذن واحد*] إذا جلس على المنبر، ولذلك كان عمر وعلي بالكوفة ثم زاد عثمان أذانا ثانيا على الزوراء إذا سمعه النَّاس أقبلوا حتى إذا جلس عثمان على المنبر، أذن مؤذن

(10)

النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وفي الحديث: كان الآذان على عهد رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم واحد، ثم زاد عثمان النداء الثالث وسماه ثالثا؛ لأنه أضافه إلى الإقامة فجعله ثالث الإقامة فتوهم النَّاس أنه أذان [صلاة*]، فجعلوا المؤذنين ثلاثة فكان وهما، ثم جمعوهم في وقت واحد فكان وهما على وهم، ابن عطية: وقال أصحاب الرأي: يلزم أهل المدينة كلها السعي، [من سمع*] النداء ومن لم يسمع، وإن [كانت*] أقطارها فوق ثلاثة أميال، انتهى، هذا هو مذهبنا، وما [ ... ] أنه يعبر بأصحاب الرأي إلا عن الحنفية. قوله تعالى: {فَانْتَشِرُوا ... (10)} الفاء بيان لكون المنهي في (وَذَرُوا الْبَيْعَ)، غير دائم [مغيًّا*] بانقضاء الصلاة، وأنه الانقضاء إلى الصلاة دون [الأشخاص*]، لأنه لو أسنده إليهم لكان [مغيًّا*] في كلهم لاحتمال كونه كلية، وإن من قضى صلاته دون الآخر يباح له الانتشار.، فلما أسنده إلى الصلاة لزمه أن المراد إكماله للجميع حتى دعاؤها وثوابها، المازري في الجوزقي، قال ابن شعبان: ذهب بعض العلماء إلى وجوب الانتشار. قوله تعالى: (وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا). الصواب أن المراد به الثلث من باقي النهار، [ ... ] بالذكر لحديث [الثُّلُثُ وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ أَوْ كَبِيرٌ*]. قوله تعالى: {تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا ... (11)} إن قلت: قدم التجارة على اللهو أولا، ثم أخرها ثانيا؟ فالجواب: أن التجارة أبلغ من اللهو، لأن تعلق الأغراض بها أشد من تعلقها باللهو، فالعطف في الوجهين تأسيس، لأنه لَا يلزم من الانفضاض من التجارة أن ينفضوا [للهو*]، ولا يلزم من كون ما عند الله خيرا من اللهو أن يكون خيرا من التجارة، مع أنه خير منهما معا في نفس الأمر. * * *

(2)

سُورَةُ الْمُنَافِقُونَ [ ... ] [لتحقق*] وقوع مدلولها. قوله تعالى: {مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (2)} أطلق على الاعتقاد عملا. قوله تعالى: {آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ... (3)} الزمخشري: يحتمل أن يريد أنهم آمنوا في الظاهر، ثم كفروا ظاهرا وباطنا، ثم كفروا [بالردة*] كذلك (¬1)، انتهى، الصواب الأول؛ لأن الأصوليين ذكروا في القياس أن العلة إذا كانت مركبة من أمرين، فلابد أن يكون كل واحد منهما صالحا لأن يعلل به الحكم استقلالا، أو يكون التعليل بالمجموع، ويكون كل واحد ينافي الحكم ولا يضاهيه، [وهنا*] لَا يصح أن [تكون*] الأعمال ظاهرا أو باطنا، علة [مستقلة*] في ذمهم، والطبع على قلوبهم، ولآخر علة، لأنه مناقض [للزوم الطبع*]، فإِن قلت: [الذم*] إنما هو على الانتقال منه إلى الكفر، قلت: [الانتقال*] أمر نسبي فصدق أنه تعليل مركب. قوله تعالى: (فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ). إما أن يراد مطلق الفهم، وهو مطلق الشعور بالشيء، أو يراد فهم الأشياء الدقيقة، وهذا دليل على أن العقل في القلب، قال ابن رشد: وهو مذهب أكثر الفقهاء، وأقل الحكماء والفلاسفة. قوله تعالى: {وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ ... (4)} عبر بالقول إشارة إلى [أن*] كلامهم غير مفيد، فهو بمنزلة سماع الأجراس وغيرها وكذلك قال (تَسْمَعْ)، ولم يقل: تستمتع؛ لأنه إنما سمعه مجرد من غير قصد، ودخلت اللام للتعليل، أي سماعك إنما هو مجرد قولهم اللفظي الذي لَا معنى له؛ كسماع احتكاك الأجرام، وكان بعضهم يفرقه بين تعدي سمع بنفسه أو بالإنابة؛ [فالأول*] يقتضي الاعتناء بالمسموع بخلاف الثاني، وعبر في الأول: بـ[إِذَا*] والفعل الماضي، وفي الثاني: بـ (إِنْ) والفعل المستقبل؛ لأن إذا لتحقق الوقوع، والماضي محقق الوقوع بخلاف المستقبل، وخصص الأول بـ (إذا) والثاني بـ (إِنْ)؛ لأن أجسامهم [ليست*] من فعلهم، ولا صنع لهم فيها ولا [كسب*]، فهي أمر [جبري*]، فرؤيتها محققة لدوام وجودها مدة حياتها، وقولهم راجع إلى كسبهم واختيارهم، إن شاءوا نطقوا أو سكتوا، فليس بدوام لانقطاعه بسكوتهم، فتوجد أجسامهم وهم سكوت، فلذلك عبر بـ[(إِنْ) لأن*] سماع قولهم غير ¬

_ (¬1) النص في الكشاف هكذا: "فإن قلت: المنافقون لم يكونوا إلا على الكفر الثابت الدائم، فما معنى قوله آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا؟ قلت: فيه ثلاثة أوجه، أحدها: آمنوا، أى: نطقوا بكلمة الشهادة وفعلوا كما يفعل من يدخل في الإسلام، ثم كفروا: ثم ظهر كفرهم بعد ذلك وتبين بما أطلع عليه من قولهم: إن كان ما يقوله محمد حقا فنحن حمير، وقولهم في غزوة تبوك: أيطمع هذا الرجل أن تفتح له قصور كسرى وقيصر هيهات. ونحوه قوله تعالى (يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ ما قالُوا وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ) أى: وظهر كفرهم بعد أن أسلموا. ونحوه قوله تعالى (لاَ تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ) والثاني آمنوا: أى نطقوا بالإيمان عند المؤمنين، ثم نطقوا بالكفر عند شياطينهم استهزاء بالإسلام، كقوله تعالى (وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا) إلى قوله تعالى (إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ) والثالث: أن يراد أهل الردة منهم". اهـ.

(7)

محقق، فإن قلت: وكذلك رؤية أجسامهم غير محققة؛ لأنهم قد تغيبوا [عن*] العيون، قلت: الغيبة قدر مشترك بين الرؤية وسماع الكلام، فإذا غابوا لم يسمع كلامهم [وتمتاز*] الأجسام بتحقق الرؤية حال الحضور، سواء تكلموا أو سكتوا. قوله تعالى: (كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ). كان الفقيه القاضي أبو العباس ابنُ حَيْدَرَةَ رحمه الله يقول: أفاد ذكر (مُسَنَّدَةٌ)، أنها غير منتفع بها في شيء، لأنها إذا كانت غير مسندة تكون سقفا أو عمدا أو غير ذلك مما فيه منفعة. قوله تعالى: (قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ). الصواب أن فيه تقديما وتأخيرا، أي أنى يؤفكون قاتلهم الله، لأن بعد الدعاء طلبهم بالمقاتلة لَا يحسن التعجب من صرفهم، لأن من صرفه الله فهو مصروف، وأما قبل الدعاء فيحسن ذلك. قوله تعالى: {هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا ... (7)} الظاهر أنه حكاية معنى قوله لَا لفظه؛ لأنهم إنما قالوه في الخلاء، ولم يقولوه في الملأ، وهم في الخلاء لَا يقولون إنه رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ولا يقرون بذلك، وفي الآية رد على من يقول المفهوم الغاية، لأن قصدهم بالنهي عن [الإنفاق*]، [التأبيد*] لَا إلى غاية إلا أن يقال من شرط مفهوم المخالفة، أن لَا يمكن حمل الكلام وتأويله إلا عليه، وهنا يحتمل مفهوم الموافقة، أو نقول بموجبه، [ولا يتناول*] محل النزاع، وهم ينفقون عليهم بعد الانفضاض، لأنهم إذا علموا أنهم لَا ينفقون عليهم حتى ينفضوا عنه، فإنهم ينفضوا عنه إن كانوا على طرف من الإيمان. قوله تعالى: {يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا ... (8)} أتى به غير معطوف، لأنه جواب عن سؤال مقدر، وكأنَّ قائلا قال: لم كانوا لا يفقهون، فقال: لأنهم يقولون (لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ)، فإِن قلت: لم أتت مقالتهم أولا بأداة الحصر وهي [هُمْ*]، أو البناء على المضمر، وأتت هنا بغير حصر مع أن الجميع خاص بهم لم يقله غيرهم؟ فالجواب: أن هذا خبر مبتدأ مضمر، أي هم يقولون لئن رجعنا، وصح حذفه هنا؛ لأن الخبر لَا يصلح إلا له وكون الموصول يقتضي الحصر بين، وقد قال مالك في الوصايا: إذا أوصى بعبده مرزوق لفلان، ثم أوصى به لفلان، فإِنه يكون بينهما معا، فإن قال: عبدي الذي أوصيت به لفلان، أعطوه لفلان فهو للثاني، ويعد رجوعا عن الأول، وما ذلك إلا لاقتضاء الموصول في الحصر.

قوله تعالى: (لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ). قرئ بالنون ونصب الأعز على الاختصاص مثل "نحن معاشر الأنبياء لَا نورث"، ونصب (الْأَذَلَّ) على أنه حال، ومعنى هذه القراءة إن رجعنا إلى المدينة تحت طاعة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وتركنا [قتاله*] ومعاندته [صرنا أذلاء*] بعد كوننا أعزاء. قوله تعالى: (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ). هذا التشريف من الله تعالى لرسوله وللمؤمنين، حيث ذكرهم مع اسمه وشركهم معه في العزة، وهي هنا إما صفة نقل، أو صفة معنى، إما مشتركة أو للقدر المشترك، وهذا بالنسبة إلى عزة الله وعزة النبوة والمؤمنين، وأما كونها نقلية أو معنوية فهو مشتركة لَا للقدر المشترك، وجعل البيانيون هذا من القول الموجب، وهو تسليم الدليل مع بقاء الخلاف بعده، كما كان قبله وهو من القسم الثالث فيه، والصواب أنه من قلب النكتة، وهو تعليق دعوى المعترض على عين دليل المستدل، لأنه لم يبق خلاف هنا، بل دعواهم أن الأعز يخرج الأذل صحيح، وهم الأذلاء ونحن الأعزة. قوله تعالى: (وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ). خص هذا بـ (يعلمون)، والأول بـ (يفقهون)، لأن الفقه في اللغة فهم الأشياء الدقيقة، والعلم أعم منه؛ لأن كون العزة لله ولرسوله معلوم بالضرورة، فالمنازع فيه لَا علم له، فضلا عن أن يكون له فقه، فهو مسلوب عنهم العلم، فكأنهم مجانين لَا عقول لهم، وإن كانوا يعلمون بعض العلم، كقولك: أكلت شاة كل شاة، مع أنها ليست هي الكل ويجاب أيضا بأن قولهم (لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ)، لَا يصدر إلا بعد تأويل وتدبر، فناسب الفقه؛ لأنه يعم الأشياء الدقيقة، وقولهم (لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ)، حكم على الغيب الذي لَا يعلمه إلا الله، فناسب نفي العلم. قوله تعالى: (وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ). ابن عطية: قال رجل لحاتم الأصم: من أين تأكل فقرأ (ولله خزائن السماوات والأرض) وقال الحسن: خزائن السماوات الغيوب، وخزائن الأرض القلوب انتهى، فعقب ابن الجوزي هذا في تلبيس إبليس فقال: قيل لعبد الله [بن الجلاء ما تقول في الرجال*] يدخلون البادية بلا زاد ولا عدة، ويزعمون أنهم متوكلون فيموتون، قال: هذا فعل [رجال الله*] فأنكره ابن الجوزي (¬1) ["أجمع الفقهاء أن داخِلَ البادية بلا زَاد عاصٍ*] (¬2)، وليس التوكل ترك الأسباب، وقد تزود رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، لما خرج إلى الغار، وتزود موسى ¬

_ (¬1) النص في تلبيس إبليس هكذا: "أخبرنا أبو منصور القزاز نا أبو بكر أحمد بن علي الحافظ نا أبو نعيم الأصفهاني قال سمعت محمد بن الحسن بن علي اليعيظي يقول حضرت أبا عبد الله الجلاء وقيل له عن هؤلاء الذين يدخلون البادية بلا زاد ولا عدة يزعمون أنهم متوكلون فيموتون في البراري فقال هذا فعل رجال الحق فإن ماتوا فالدية على القاتل أخبرنا ابن ناصر أنبأنا احمد بن علي بن خلف نا أبو عبد الرحمن السلمي قال سمعت أبا الحسين الفارسي يقول سمعت أحمد بن علي يقول قال رجل لأبي عبد الله بن الجلاء ما تقول في الرجل يدخل البادية بلا زاد قال هذا من فعل رجال الله قال فإن مات قال الدية على القاتل". اهـ. (¬2) تم جبر هذا النقص من كتاب (نكت وتنبيهات في تفسير القرآن المجيد، للبسيلي 3/ 595). اهـ.

(9)

عليه الصلاة والسلام الحوت لما خرج يطلب الخضر، وأطال الكلام في ذلك [وذكر*] حكايات وأنكرها، على أن هذا الكتاب قالوا: أضعف تواليف [ابن الجوزي*] رحمه الله. قوله تعالى: {لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ ... (9)} من باب [لَا أرينك ها هنا*] أي لَا تلهوا بأموالكم عن ذكر الله، فتلهكم عنه، قوله: لا تلتهوا، فهي عن الإلهاء حقيقة، وهذا نفي عنه باللزوم، فهو مجاز، ولا تبدل عن الحقيقة إلى المجاز إلا لنكتة تتوخى، وتقريرها هنا إن ترك الاكتساب شيئا هو من نقله وكسبه هو أهون عليه من تركه شيئا هو من نقل غيره، فناسب أن يكون النهي عن الثاني أبلغ وأقوى لما في البعد منه وممانعته ودفعه من المشقة والتكلف، فهذا نهي أبلغ وأخص، لأنه نهي عن الأبلغ وعن الأخص، فيستلزم النهي عما هو من كسب الأنساب وفعله من باب أحرى، ابن عطية: قال الحسن وجماعة من المفسرين: ذكر الله عام في الصلوات والتوحيد والدعاء وغير ذلك من فرض ومندوب، وقال الضحاك وعطاء: المراد به الصلوات المفروضة، ابن عطية: والأول أظهر انتهى، بل الثاني أظهر لقوله تعالى: (فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ)، فالذم على الشيء من خصائص الوجوب، لأن تارك المندوب غير مذموم، فإِن قلت: الذم على ترك مجموع الواجب والمندوب؟ قلت: يلزم عليه أنه إذا ترك الواجب وحده أن يكون غير مذموم، والإجماع على ذمه، إلا أن يجاب بأنه يكون خاسرا خسرانا أخص، فإِن قلت: في الآية حجة لمن يقول إن متعلق النهي [فعل*] وفيه خلاف، والمشهور أن الترك غير فعل، قلت: الإشارة إلى الإلهاء وهو فعل، وليست الإشارة إلى الترك. قوله تعالى: {وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ ... (10)} ذكر ابن عطية في غير هذا أن الإنفاق عام في المال والبدن [ ... ]، فينفق الإنسان جوارحه في الطاعة، وماله في الطاعة. قوله تعالى: (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ). يدل على أن الموت أمر وجودي، وهو مذهب أكثر أهل السنة، إلا أن يجاب: بأنه على حذف مضاف أي أسباب الموت. قوله تعالى: (إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ). وصفه بـ (قَرِيبٍ)، إما لأنه أيسر في الطلب وأرجى؛ لأن [يفز*] بنيل مطلوبه، وإما لسرعة المبادرة فيه إلى الطاعة بخلاف المتطاول، فإِن النفس تميل فيه إلى الراحة والتأخير، وإن قلنا: [إن ما بعدها*] داخل فيما قبلها، فيكون مطلوبهم أمرين: التأخير

(11)

وكونه إلى أجل قريب، وإن لم نجعله داخلا فلا يكون القرب مطلوبا بل المطلوب التأخير إليه. قوله تعالى: {وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا ... (11)} إشارة إلى عدم [الفوز*] بالمطلوب حينئذ. قوله تعالى: (خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ). تنبيه على الإخلاص في الأعمال، وإن جميع ما يظهر عليه فاللَّه تعالى مطلع على خفاياه. * * *

سورة التغابن

سُورَةُ التَّغَابُنِ قوله تعالى: {يُسَبِّحُ لِلَّهِ ... (1)} عبر هنا وفي الجمعة عن التسبيح بالمستقبل، وفي الحديد والحشر والصف بلفظ الماضي، والجواب: أن الماضي [حقيقته*] الانقطاع وعدم التزايد، وعدم التغير والتجدد، والمستقبل من شأنه الدوام والتجدد والتغير، وهو قابل للتزايد، والعزة وصف ثابت للموصوف، لأنها من صفة ذاته لَا تتعلق بالغير، [**والملك معروض الغير، والزيادة والنقص لتعلقه بالغير]، تقول: ملك فلان أعظم من ملك فلان، قال تعالى (قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ) الآية، فهو يتزايد بحسب متملكاته، والتسبيح في آية الماضي يعقب بوصف العزة، وفي آية المستقبل يعقب وصفه الملك، فإن قلت: في آخر سورة الحشر (يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)، قلت: تقدمها (هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ) إلى آخره، عبر بالمضارع اعتبارا بما قبله، فإِن قلت: ذكر هنا متعلق التسبيح دون [وقته*]، وقال في الأنبياء (يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ)، فذكر وقته دون متعلقه؟ فالجواب: أن المسبح هناك الملائكة، وهم معصومون، فمعلوم أنهم إنما يسبحون الله، وإنما يتوهم ذهول الذهن عن دوام تسبيحهم وانقطاعه، فذكر ما يتوهم جهله، والغفلة عنه وعنا [ ... ]. في أن العبد يخلق أفعاله وهل [التسبيح*] إما في الحال، فيكون عاما في كل شيء، فهو [مجاز*]، أو بلسان المقال، فيكون خاصا بالعاقل، فيتعارض التخصيص والمجاز، فإِن قلت: كيف يصح المجاز مع أن الحقيقة موجودة في البعض، والمسبح بلسان المقال؟ قلت: يصح؛ ألا ترى أن الفخر قال: في دلالة المطابقة والتضمن من حيث هو جزاؤه وكذا في [دلالة الالتزام*]، فرآه من حيث هو في [الدلالات الثلاث*]، فإن قلت: لم أعاد لفظ (ما) هنا دون الحديد؟ فالجواب: أنه لما ذكر السماوات والأرض هناك في أربعة مواضع، كانت بمنزلة الشيء الواحد*]، فاستغنى عن إعادة الموصول. قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ ... (2)} فصل هذه الجملة عما قبلها؛ لجريانها مجرى الدليل عليهما، كأنه قيل: [لِمَ*] يسبحونه؟ فقال: لأنه خلقهم.

(3)

قوله تعالى: (فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ). وقال في سورة هود (فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ)، فأعاد المجرور هنا ولم يعده هناك؟ والجواب: أن المؤمنين هنا مخاطبون لقوله تعالى: (فَمِنْكُمْ)، فقصد كمال الفصل، لأنه بينهم وبين الكفار، لأنه من تمام الاعتناء بهم وتعظيمهم وتشريفهم بإفراد حكمهم، وهم هناك غائبون غير مقبل عليهم، فلم يحتج إلى الفصل بل جاء على الأصل؛ لأن حرف العطف ناب مناب تكرار الجار، وذكر البيانيون: الجمع والتفريق، ومثلوه بقوله تعالى: (وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ) الآية، وهذه الآية منه، وهو تقسيم مستوف إذ لَا ثالث، وقول ابن عطية: إن هذه الجملة في موضع الحال، وهْم لقول ابن مالك في آخر باب الحال: والجملة الحال لَا تقترن بها الفاء، فإن قلت: معلوم أن منهم المؤمن والكافر، فما فائدة الإخبار بهذا؟، قلت: أفاد باعتبار لازمه، أي كما تفقهون بأن خلقكم إنما هو بفعل الله، فكذلك خلق صفاتكم من الكفر والإيمان، ففيه رد على المعتزلة القائلين: بأن العبد يخلق أفعاله، فإن قلت: كيف يفهم هذا من حديث: "كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الفِطْرَةِ" قلت: ليس المراد الإيمان الأصلي، بل المراد الإيمان التكليفي ضد الكفر. قوله تعالى: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ ... (3)} نجد اللفظ ورد في القرآن كثيرا مقرونا بقوله (بِالْحَقِّ)، فإن قلت: ما أفاد مع أنه ظاهر في مذهب المعتزلة القائلين: بقاعدة التحسين والتقبيح ومراعاة الأصلح، ووجه الدليل من الآية أن الحق يستحيل أن يراد به أمر راجع إلى إنكار خلق الله تعالى لهما لاستحالة النقص عليه، فلم يبق أن يراد به إلا الأمر المصلح والحسن، وهذا مذهب المعتزلة القائلين: بأن الله لَا يفعل إلا الخير، ولا يخلق الشر بوجه؟ والجواب بأحد وجهين: إما بأن معناه أنه خلقها مصاحبة لتصديقه لتطابق فعله، وخلقه لها وإخباره تعالى في الأول بأنه سيخلقها بحكمة متقنة، وقال الزمخشري: (بِالحَقِّ)، أي بالغرض الصحيح والحكمة البالغة، وهو اعتزال على مذهبه الفاسد في التحسين والتقبيح، ليسلم من نسبة النقص إلى إضافة النقص إلى الله تعالى ونحن لَا نجعل الباء سبباً على المصاحبة، فإن قلت: قال (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ)، فأتى فيه بالفاء على المضمر المفيد للتحقير، ولم يقل هنا (هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ)، قلت: لمخالفة الحكماء في خلق الأنفس وفي الطبع والطبيعة دون هذا.

(4)

قوله تعالى: (فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ). الزمخشري: جعلهم أحسن الحيوان [وأبهاه*]، ومن ذلك أنه خلق منتصبا قائما غير منكب، قال: فإِن قلت: كم من [دميم*] مشوَّه الصورة سمج الخلقة، قلت: لَا سماجة ثَمَّ، ولكن الحسن كغيره على مراتب فهم حسن وأحسن منه، والكل حسن بالنسبة إلى غيرهم من الحيوانات انتهى، يرد عليه هذا الجواب: بأن الدميم القبيح المنظر إن أطلق عليه أنه قبيح فالسؤال وارد، وإن قال: إنه حسن فباطل يصدق نقيضه عليه، وهو قبيح، وإنما الجواب: أن الحسن يطلق باعتبارين: أحدهما: ضد القبيح، تقول: هو في ذاته حسن، أي ليس بقبيح. الثاني: باعتبار وروده على وفق المراد، والخيال المتصور في الذهن، فتقول: أحسن فلان صورة أحدب أعرج أحسن، أي أنابها على نحو ما أريد منه فإِتيان الصورة هو أن [يتخيل*] شيئا في ذهنه فيأتي به على نحو ما تخيل وما بذلك عليه. قوله تعالى: [(وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ) *] [هذا*] هو المراد في الآية، أي صوركم على وفق ما أراد منكم، وهو حسن في نوعه، فصور الأعرج مثلا على أحسن صورته في نوعه، والأقطع والأشل كذلك، فإِن قلت: يفوت معنى التفضيل في مزية الإنسان وتفضيله على غيره، والآية خرجت مخرج الامتنان، وهذا المعنى يشترك فيه الإنسان مع غيره؟ قلت: إنما اختص الإنسان بالذكر، لأنه أقرب إلى الفهم، قال تعالى (وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ). قوله تعالى: (وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ). كالنتيجة لمن لَا يخالف في المقدمتين، أي كما وافقتم وتحققتم أنه الذي خلقكم فصوركم، فتحققوا أنه يعيدكم بعد الموت، لأن بعض النَّاس أنكروا الإعادة، وفسره الزمخشري وابن عطية: بأن المراد: إليه مرجعكم فيجازيكم بالثواب والعقاب، فعليكم بشكره على نعمه والإيمان به. قوله تعالى: {يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ ... (4)} لما تقدم أنه خلق السماوات فأتقنها، والإتقان دليل على العلم، فناسب تعقيبه به، وأتى أولا بعلم الذوات ثم بعلم الصفات، وهي القول سره وعلانيته، ثم [بعلم*] المعاني وهو ما في الصدور، وهو الكلام النفسي، وعبر عن الأولين بالفعل، [وفي*] الثالث بالاسم،

(6)

لأنه أخفاها مبالغة في الإخبار بعلمه بالإخفاء، وهو خاص بالله تعالى لَا يشاركه غيره، أو يكون من عطف الخاص على العام. قوله تعالى: {أَبَشَرٌ ... (6)} إن كان استفهاما حقيقة فعطف (كفروا) عليه تأسيس، وإن كان بمعنى الإنكار فهو تأكيد؛ لإفادة الأول كفرهم، وعلى الأول يكون التولي حسيا، أي تولوا عن إتباعه ونصرته، وعلى الثاني: يكون معنويا، أي تولوا عن الإيمان به إلى الكفر. قوله تعالى: (وَاسْتَغْنَى اللَّهُ). ابن عطية: السين في استفعل للطلب، وهو هنا للتحقيق، انتهى، وعلى هذا يكون (وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ)، احتراسا خشية أن يتوهم أن السين هنا للطلب، وقول الزمخشري: الآية توهم وجود الاستغناء والتولي معا لَا وجه له، لقوله في مفصله مع سيبويه إن الواو لمطلق الجمع دون معية ولا ترتيب، إلا أن ابن مالك قال: ويترجح تأخير المؤخر بكثرة الاستعمال، فسؤال الزمخشري إنما هو على الأكثر. قوله تعالى: {يَسِيرٌ (7)} إما باعتبار قرب زمنه، أو أنه هين كما قال ابن عطية. قوله تعالى: [(فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ... (8) *] إن قلت: الأصل تقديم [القرآن*]؛ لأنه السبب فيما قبله، فالجواب: أن المعجزة ما تظهر إلا على [يد*] الرسول، [فوجود*] الرسول متقدم على وجود المعجزة، إلا أن يقال: فرق بين دعوى الرسالة وبين الإيمان بها، فدعوى الرسالة متقدم على المعجزة وما نحن نتكلم إلا في الإيمان بالرسول، فإِنه متأخر عن الإيمان بالمعجزة، فيجاب عن السؤال: أن الآية خرجت مخرج الرد عليهم في إنكار البعث والمعاد، فالقرآن إنما ذكر من حيث دلالته على صحة البعث والمعاد والإيمان بالبعث، والمعاد متأخر عن الإيمان بالرسول. قوله (يَوْمُ التَّغَابُنِ ... (9) .. ، جعله الزمخشري: [تهكمًا*] لأن الغبن في البيع، هو البخس في ثمن السلعة، فكأنَّ هؤلاء يبخسوا بمالهم تهكما بهم على أن الحاكم عادل فلا [يبخس*]، وجعله ابن عطية مجازا في [إفادة*] لفظ التغابن، لأن التفاعل يقتضي أن الغبن في الجهتين، ويصح معنى التغابن باعتبار تفاوت درجات المؤمنين، أو على [**العجز به] بمعنى أن الإنسان مع نفسه [**يتجرد بها] [نفسا أخرى*] يتغابن معها.

(10)

قوله تعالى: (يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ). هذان معلقان على مجموع الإيمان والعمل، ولا يصح أن يكون كل واحد من فعلي الشرط يترتب عليه كل من جوزي، الجواب: لأن الشرطية لَا تتعدد بتعدد المقدم، والتكفير مخصوص بحقوق الغير إذ لَا [تنفع*] التوبة إن [ ... ] العمل الصالح، أبو عبد الله محمد بن محمد: فأما وظاهره أن التكفير متوقف على الأمرين، فيكون تكفيرا خاصا، قال شيخنا: وفسره الفقيه الصالح أبو عبد الله محمد بن محمد بن سلامه الأنصاري: العمل الصالح بفعل المسنونات، وهو غفلة منه، لأن هذا هو مذهب المعتزلة لأنهم يشترطون في الإيمان فعل المفروضات من الطاعة. فمن لم يفعلها ليس بمؤمن عندهم فيكون عطْف، (ويعمل صالحا) عليه عندهم تأكيدا، فيحتاجوا أن يفسروا العمل الصالح بفعل المسنونات، ونحن نقول: إن الإيمان حاصل بمجرد النطق بالشهادتين والعمل الصالح [مترتب عليه*]، والأول ترهيب، وهذا ترغيب. قوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا ... (10)} التكذيب بالآيات من لوازم الكفر؛ بخلاف العمل الصالح، فإنه ليس من لوازم الإيمان، فيرد السؤال لأي شيء رتب دخول الجنة وتكفير السيئات على الإيمان والعمل الصالح، ودخول النار على مجرد الكفر فقط، فيجاب: بأن الأول ترغيب في الطاعة، فناسب تكثير أسباب دخول الجنة تحريضا على فعلها، والثاني: ترهيب وتخويف، فناسب تقليل السبب على سبيل [التخويف والتفير عنه*]، والمعنى أن مجرد الكفر موجب لدخول النار، وإن لم يكن معه فسوق ولا فساد في الأرض ولا ظلم، فيقال للمؤمن: لَا [تكتف*] بإيمانك، وللكافر لَا [تعتقد*] أن مجرد كفرك لَا يضرك، فإن قلت: لم عبر في (وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ) بالمضارع، وفي (وَالَّذِينَ كَفَرُوا) بالماضي؟ فالجواب: أنه إشارة إلى أن ذلكَ خاص لمن سيحصل منه الإيمان إلى قيام الساعة، والإيمان وصف طرأ على الكفر، والكفر هو الأصل فيهم، لأنه أمر واقع منهم حاصل لهم، والإيمان طرأ عليه، وعبر في الأول: بـ (مَنْ) الشرطية، وفي الثاني: بالموصول، لأن الموصول أقرب للحصول من الشرطية، فإن قلت: لم قيد دخول المؤمنين بالأبدية ولم يقيد خلود الكافرين بها، مع أنه مؤبد، وكذلك قال في سورة هود (فَأما الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ)، الآية وزاد في [آخرها*] (عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ)، أي دائما غير منقطع عنهم؟ فالجواب: أنه زاد هنا (وَبِئْسَ الْمَصِيرُ)، فناب مناب الأبدية، لأنه لَا يقال: بئس المصير، بالإطلاق إلا فيما هو [أسوأ*] المصير [وأدومه*]، وأسند تكفير السيئات، وإدخال الجنات إليه، ولم يسند إليه إدخال الكافرين النار، فلم

(11)

يقل: والذين كفروا يدخلهم النار تشريفا للمؤمنين وتحقيرا للكافرين وأدبا لهم، وإن كان الكل من فعله وخلقه. قوله تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ ... (11)} يحتمل أن يعم اللفظ الخير والشر، وهو خاص بالشر، وهو الظاهر، ويتقرر وجه مناسبتها لما قبلها بأحد أمرين: إما بأنها تسلية للنبي صلى الله عليه وعلى آله سلم، أي لا [تحزن*] على عدم إيمانهم، فإن ذلك بإرادة الله تعالى وإذنه. وإما بأنه احتراس؛ لأنه لما تقدم أن من يؤمن بالله ويعمل صالحا، يجازى بتكفير السيئات، ومن يكفر بالله يجازى بدخول النار، أوهَم ترتب ذلك الجزاء على ما ذكر أن الإيمان والكفر من فعل المكلف وكسبه واختياره، فاحترس عن هذا التوهم بأن جميع الحوادث من خير وشر من الله تعالى، فمن أصابه هم وحزن من موت حبيب أو ذهاب مال، فلا يهتم لذلك؛ وليعتقد أن الله تعالى قدره وأراده وعلم وقوعه، لأن الإذن يشمل العلم والإرادة المخصصة له والقدرة المبرزة من العدم إلى الوجود، والآية دليل على أن الاستثناء من النفي إثبات، لأنه ليس المقصود نفي المصيبة، وإنَّمَا المقصود حصرها بالإذن. قوله تعالى: [(وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ) *]. إن قلت: الهداية متقدمة على الإيمان، وسبب فيه، فكيف رتبت عليه؟ فالجواب: إما أنه مثل (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى)، وإما بأن المراد بالإيمان مجرد التصديق، أي ومن يصدق بوجوده الله، يهده إلى التصديق بوحدانيته، لأنهما بابان في علم الكلام، [فالتصديق*] بالوجود غير التصديق بالوحدانية، ولا يقال: إنه يلزم عليه الخلف في الخبر من جهة أن المشركين بالله يصدقون بوجوده؛ لأنا نقول: المراد من يصدق بوجود الله في التصديق وحصول ذلك موجب للتصديق بالوحدانية. قوله تعالى: (وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ). إن قلنا: إن المعدوم لَا يطلق عليه شيء، فيكون تأكيدا؛ لأنه مستفاد من قوله: (بِإِذْنِ اللَّهِ)، لما تقدم من الإذن يشمل العلم والقدرة والإرادة، فكل حادث الله علمه بالحوادث بين الموجودات. قوله تعالى: {فَاحْذَرُوهُمْ ... (14)}

(15)

الضمير المفعول، إما عائد على (عدوا)، فيكون الأمر بالحذر فيمن ثبت عداوته، أو عائد على الأزواج والأولاد، فالأمر بالمحاذرة عام في جميعهم، خشية أن يكون الذي وقع الركون إليه عدوا، والآية خطاب بالذات للرجال بالتحذير من زوجاتهم وأولادهم، ويحتمل أن يعم الخطاب الرجال والنساء، [فيكون مخصصا من ذلك بالتحذير من أزواجهم وأولادهم*]. قوله تعالى: (وَإِنْ تَعْفُوا). العفو ترك الحق بعد ثبوته عند الحاكم، والصفح تركه بعد المطالبة به قبل ثبوته عند الحاكم، والمغفرة ترك المطالبة به من أصل، فالعطف ترق ولذلك خصص الأخير بقوله تعالى: (إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ) وفي آية أخرى (الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا)، فينعقد من الآيتين الشكل الثالث، وذكر الأولاد في العداوة وفي الفتنة، دليل على شكيمتهم أشد من الزوجات، وذكر ابن عطية هنا والزمخشري من بعده؛ لأنه متأخر عنه حديث الله أعلم بصحته (¬1) عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أنه كان يخطب إذ دخل الحسن والحسين رضي الله عنهما عليهما الحمرة، فهبط ورفعهما" إلى آخره. قوله تعالى: {وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (15)} دليل على عظم الشغل بهما، وخرج البخاري في كتاب الأنبياء عن أبي وائل عن حذيفة أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: [أَيُّكُمْ يَحْفَظُ قَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الفِتْنَةِ، قُلْتُ أَنَا كَمَا قَالَهُ: قَالَ: إِنَّكَ عَلَيْهِ أَوْ عَلَيْهَا لَجَرِيءٌ، قُلْتُ: «فِتْنَةُ الرَّجُلِ فِي أَهْلِهِ وَمَالِهِ وَوَلَدِهِ وَجَارِهِ، تُكَفِّرُهَا الصَّلاَةُ وَالصَّوْمُ وَالصَّدَقَةُ، وَالأَمْرُ وَالنَّهْيُ»، قَالَ: لَيْسَ هَذَا أُرِيدُ، وَلَكِنِ الفِتْنَةُ الَّتِي تَمُوجُ كَمَا يَمُوجُ البَحْرُ، قَالَ: لَيْسَ عَلَيْكَ مِنْهَا بَأْسٌ يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ، إِنَّ بَيْنَكَ وَبَيْنَهَا بَابًا مُغْلَقًا، قَالَ: أَيُكْسَرُ أَمْ يُفْتَحُ؟ قَالَ: يُكْسَرُ، قَالَ: إِذًا لاَ يُغْلَقَ أَبَدًا، قُلْنَا: أَكَانَ عُمَرُ يَعْلَمُ البَابَ؟ قَالَ: نَعَمْ، كَمَا أَنَّ دُونَ الغَدِ اللَّيْلَةَ، إِنِّي حَدَّثْتُهُ بِحَدِيثٍ لَيْسَ بِالأَغَالِيطِ فَهِبْنَا أَنْ نَسْأَلَ حُذَيْفَةَ، فَأَمَرْنَا مَسْرُوقًا فَسَأَلَهُ، فَقَالَ: البَابُ عُمَرُ.*]. قوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ ... (16)} ¬

_ (¬1) الحديث عند الإمام أحمد وابن ماجه: نصه عند الإمام أحمد: [22995 - حَدَّثَنَا زَيْدُ بْنُ حُبَابٍ، حَدَّثَنِي حُسَيْنُ بْنُ وَاقِدٍ، حَدَّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ بُرَيْدَةَ قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي بُرَيْدَةَ يَقُولُ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُنَا، فَجَاءَ الْحَسَنُ، وَالْحُسَيْنُ عَلَيْهِمَا قَمِيصَانِ أَحْمَرَانِ يَمْشِيَانِ وَيَعْثُرَانِ، فَنَزَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْمِنْبَرِ، فَحَمَلَهُمَا فَوَضَعَهُمَا بَيْنَ يَدَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: "صَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ} [التغابن: 15] نَظَرْتُ إِلَى هَذَيْنِ الصَّبِيَّيْنِ يَمْشِيَانِ وَيَعْثُرَانِ، فَلَمْ أَصْبِرْ حَتَّى قَطَعْتُ حَدِيثِي وَرَفَعْتُهُمَا"]. اهـ وعند ابن ماجه: 3600 - حَدَّثَنَا أَبُو عَامِرٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَامِرِ بْنِ بَرَّادِ بْنِ يُوسُفَ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ بْنِ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ قَالَ: حَدَّثَنَا زَيْدُ بْنُ الْحُبَابِ قَالَ: حَدَّثَنَا حُسَيْنُ بْنُ وَاقِدٍ، قَاضِي مَرْوَ قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُرَيْدَةَ، أَنَّ أَبَاهُ، حَدَّثَهُ قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ، فَأَقْبَلَ حَسَنٌ وَحُسَيْنٌ عَلَيْهِمَا قَمِيصَانِ أَحْمَرَانِ، يَعْثُرَانِ وَيَقُومَانِ، فَنَزَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَخَذَهُمَا فَوَضَعَهُمَا فِي حِجْرِهِ، فَقَالَ: «صَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ»، {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ} [التغابن: 15] «رَأَيْتُ هَذَيْنِ فَلَمْ أَصْبِرْ» ثُمَّ أَخَذَ فِي خُطْبَتِهِ". اهـ

عارضها ابن عطية بقوله تعالى: (اتَّقُوا اللَّهَ حَق تُقَاتِهِ)، وظاهرها عموم التقوى في المستطيع وغيره، فمنهم من قال: هذه ناسخة لتلك، ومنهم من [لم*] يجعلها ناسخة؛ لأن النسخ إنما هو حيث التعارض ولا تعارض إلا لو كانت تلك أمرا، وهذه نهيا عن شيء واحد، أو تلك إثباتا وهذه نفيا لشيء واحد، وأما هنا فلا تعارض بين اللفظين، وإنما التعارض بين مفهوم هذه الآية ونص تلك؛ لأن مفهوم هذه أن غير المستطاع من التقوى غير مأمور به، فيرجع إلى نسخ النص المتواتر بالمفهوم، وفيه خلاف بين الأصوليين. * * *

سورة الطلاق

سُورَةُ الطَّلَاقِ أكثر ما وقع في القرآن أن مخاطبته صلى الله عليه وعلى آله وسلم بصفاته، فقال (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ)، وكذلك (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ)، (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ)، وغير ذلك من الآيات، وما وقع التعبير عنه باسم العلَم، إلا في نحو خمس آيات، وهي قوله تعالى: (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ)، وقوله تعالى: (مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ)، وقوله تعالى: (وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ)، وقوله تعالى: (وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ)، وسبب ذلك أن هذه الصفات ذكرت على سبيل المدح والتشريف، فلذلك كرر هنا ذكرها، والتصريح باسمه العلم إنما هو لتميزه عن غيره فقط، وعبر هنا بالنبي الذي هو أعم من الرسول ليعم الخطاب بحكم الطلاق له ولأمته، وعبر بـ إذا دون إن مع أن الطلاق مبغوض شرعا، لكن روعي فيه كثرة وقوعه في الوجود الخارجي، والمراد أردتم الطلاق، وليس في الآية ما يدل على إباحة الطلاق ولا عدم إباحيته. قوله تعالى: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ ... (1)} أي لاستقبال عدتهن، والمطلقة في الحيض لَا تستقبل العدة؛ لأنها تمكث حتى تطهر، فحينئذ تبدأ بحسب العدة؛ بخلاف المطلقة في الطهر، فإنها تحسب بذلك الطهر فهي مطلقة في الزمن التي تستقبل فيه عدتها إثر الطلاق، وفيه دليل على منع الطلاق في الحيض، وهو مذهب مالك في جميع مسائل الفقه إلا في مسألة واحدة، وهي طلاق المولي إذا انقضى أمد الإيلاء وهي حائض، فاختلف قوله، فقال مرة: يطلق عليه الحاكم حينئذ، وقال مرة: يتربص حتى تطهر، فحينئذ يطلقها عليه، وهو مذهب ابن القاسم، وأما طلاق الحامل فعلى الاختلاف في دمها هل دم حيض أم لَا، قال مكي: ومعنى قوله تعالى: (لِعِدَّتِهِنَّ)، واعتيادهن، أي للأقراء التي اعتدتها ويرد باختلاف المادة، وإنما المعنى العدة أي للأقراء التي [يعدونها*] ويحسبونها، فإن قلت: يلزمك أن يكون عطف (وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ)، تكرار؟ قلت: المراد بالأول: العدة، وبالثاني: إحصاؤها، ويكون تأكيدا، أو أسند الطلاق إلى الرجال، والعدة إلى النساء؛ لأن طلاق العبد طلقتان، ولو كانت زوجته حرة، وعدة الأمة حيضتان ولو كان زوجها حرا.

(2)

قوله تعالى: (وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ). اختلفوا هل الحد جزء من المحدود أو غيره؟ ذكر ابن سهل في أحكامه: أن ابن عتاب أفتى فيمن اشترى [أرضا*] موقعها حده القبلي أو الشرقي الشجرة الفلانية، بأن الشجرة داخلة في المبيع انتهى، وهذه الآية معضدة لقوله تعالى: (وَمَنْ يَتَعَدَّ)، فلو كان الحد غير المحدود؛ لكان الذي يصل إلى حدود الله ولا يتجاوزها إلى غيرها متعديا؛ لأنه تعد الشيء الذي هي حد له، فلما قال (وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ)، دل على أنها جزء من المحدود. قوله تعالى: (فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ). لحديث: " [مَنِ اقْتَطَعَ شِبْرًا مِنَ الْأَرْضِ ظُلْمًا، طَوَّقَهُ اللهُ إِيَّاهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ سَبْعِ أَرَضِينَ*] "، وهو صحيح، إلى غير ذلك من الأحاديث. قوله تعالى: (لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا). فسره بالمراجعة أو الندم وانقلاب البغض محبة، والآية خرجت على سبب، وهو إرادة الرجعة، وهي قضية [في معين*]، والصحيح أن العام الخارج لَا يقصر على سبب بل يعم. قوله تعالى: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ ... (2)} أي قاربن انقضاء عدتهن، فراجعوهن إن شئتم، أو دوموا على فرقتكم لهن، وجعله هنا فراقا مع أن الفراق واقع فيما سبق، إشارة إلى أنه الزمن الذي ينتهي إليه [ما بيد الأزواج*] من الرجعة الجبرية، فإذا مر ذلك الزمن فلم يرتجعوهن فقد خرجن من عصمتهم. قوله تعالى: (وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ). فيها دليل على منع أخذ الأجرة على الشهادة، إلا أن يقال: معنى إقامة الشهادة لله، أي في الإتيان بها على وجهها من غير اتباع هؤلاء [عَرضا دنيويا*]، [فذكرها*] لَا ينافى أخذ الأجرة عليها. قوله تعالى: (ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ). إن قلنا: إن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة، فيكون المراد: يوعظون الوعظ النافع، فإِن قلنا: إنهم ليسوا مخاطبين بالفروع، فيكون المراد مطلق الوعظ. في المدونة مسائل تدل على أنهم مخاطبون، منها قوله في كتاب السلم الثالث: وإذا ابتاع ذمي

(4)

طعاما من ذمي، فأراد بيعه قبل قبضه، لم أحب لمسلم أن يبتاعه، وفي التجارة بأن من الحرب، إذا فرق أهل الكتاب بين الأم وولدها وباعوا لنا الأم، قال: يكره لنا شراؤها، والكراهة للتحريم بخلاف التي في المسلم، وفي كتاب القيام منها ما يدل على أنهم غير مخاطبين بالفروع، وتكلم الباجي على ذلك في الصيام في المسافر: يقدم في رمضان فيريد أن يطأ زوجته الكافرة في النهار. قوله تعالى: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا). في صدق بعض ما يلزم هذه الشرطية من المنفصلتين المانعتين الجمع والخلو نظر. قوله تعالى: {مِنْ نِسَائِكُمْ ... (4)} إن قلت: ما أفاد مع أنه معلوم، لأنه لَا حيض إلا لهن؟ فالجواب: أنه يتضمن كون الخطاب للموجودين؛ لأن الإضافة في (مِن نِسَائِكُم)، للمخاطب والمخاطب لا يكون إلا موجود فقائدته إخراج المتوفى عنها؛ لأن عدتها أربعة أشهر وعشرا، إذ هي زوجة الميت والميت غير موجود. قوله تعالى: (فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ). وفي سورة البقرة (وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ)، والجواب: أنه لو [قال*] هناك يتربصن ثلاثة أشهر [أوهَم*] أنها تجلس ثلاثة أشهر فقط، مع أنها إذا ارتابت تجلس سنة، لكن الثلاثة أشهر هنا عدة، ولذلك قال مالك: العدة في الطلاق قبل الريبة، وفي الوفاة بعد الريبة. قوله تعالى: (وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ). ابن عطية: المتوفى عنها إذا كانت حاملا فالمذهب أن عدتها [بوضعها*]، وقال علي وابن عباس: عدتها أقصى الأجلين، وحكاه بعضهم عن سحنون، قال: وسبب الخلاف تعارض الآيتين (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ)، مع هذه الآية عموم وخصوص من وجه دون وجه، واختلف الأصوليون في النصين إذا كان كل واحد أعم من الآخر من وجه وأخص من وجه، [قيل*]: بالوقف، وقيل: [الآخر*] ينسخ الأول: فآية البقرة أعم في الزمان حاملا كانت أو غير حامل، وآية الطلاق أعم في الحوامل مطلقات أو متوفى عنهن، وأخص في الزمان فمن يجمع بينهما ولا ينسخ أحدهما بالأخرى فظاهر، ومن ينسخ أحدهما بالآخر يجعل هذه ناسخة لتلك، ومن لَا يقول بالنسخ يجعلها مخصصة لتلك، فيتعارض النسخ

(6)

والتخصيص، فالتخصيص أولى، والمشهور أنها إذا وضعت ولدا وبقي في بطنها آخر أن عدتها لَا تنقضي إلا [بوضع*] الولد الثاني انتهى، وعبر في الحوامل بالأجل دون العدة، فلم يقل: وأولات الأحمال عدتهن أن يضعن حملهن، وعبر في غير الحوامل بالعدة مع أن الجميع عدة. قوله تعالى: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا). التقوى الأولى: في الأمر الدنيوي، والثانية: في الأخروي، أو هو إشارة إلى حالتي [المعتدة*] من الحوامل، فمنهن من اتقت الله تعالى فليس عليها مشقة في الولادة فلها الأجر العظيم، أي يتق الله فجزاؤه أحد أمرين: إما دنيوي بتسهيل الولادة وتيسيرها، وإما أخروي بتكفير السيئات وكثرة الأجر إذا عسرت عليها الولادة. قوله تعالى: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ ... (6)} إن قلت: ما أفاد هذا مع قوله تعالى: (لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ)، قلت: فائدته إدخال صورة، وهي من يسكن بزوجته في دار بالكراء، ثم يطلقها في آخر مدة الكراء، فهذه الصورة غير داخلة في الآية الأولى، لأن ذلك المسكن ليس من بيوتهن، وهذه الآية تتناول الصورة المذكورة. قوله تعالى: (مِنْ وُجْدِكُمْ). أعربه الزمخشري: عطف بيان، واعترضه أبو حيان بتكرار العامل، ونص عليه ابن السيد في إصلاح الخلل، ويعترض أيضا بأنه يجب في عطف البيان عطف توافقهما في المعرفة والتنكير، فعلى هذا جرى قوله (فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ)، عطف بيان، ورده ابن مالك بأنه خلاف إجماع الفريقين، وهنا الجملة التي أضيفت إليها حيث نكرة بدليل وصف النكرة بها، تقول: جاء رجل يضحك انتهى، ولا يحتاج إلى هذا بل يتعلق ب (سَكَنْتُمْ)، فيكون إشارة إلى أنه لَا يجب استواء المعتدة والزوج في السكنى في كل حالة من حالات السكنى، بل في حال الوجد، فإن كان مثلا يسكن في بيت بالكراء بدينار، فانقضت المدة قبل تمام العدة، ولم يجد إلا بأقل من دينار، فإِنه لَا يكلف أزيد منه. قوله (تُضَارُّوهُنَّ)، هذا [مفاعلة ينهي فيها عن مضارة من ضره*]، فأحرى [عدم*] مضارة من لم يضره، وهل المضارة سبب في التضييق في المضارة، فيه نظر. قوله تعالى: (فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى).

(8)

إن قلت: لم أفرد الضمير، وقد وقع الخطاب أولا بالجمع في قوله تعالى: (فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ)؟ فالجواب: أنه لما كانت حالة العسر أقل من حالة اليسر، أفرد الضمير إشعارا بالوحدة الدالة على القلة. قوله تعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ ... (8)} كان بعضهم يقول: الظاهر أن الجواب: (أعد الله لهم) وقرره بأن الآية تسلية للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، والمناسب في التسلية تكرير الأشياء والمتسلي بها وإعداد العقاب أخص من العتو عن أمر الله، فتعليق التسلية على الأخص أبلغ، لأن كل ما لزم الأخص لزم الأعم، دون رده عليه بأن التسلية إنما تكون بأمر نزل جنسه لغير المخاطب، وإما ذكر ما يحل من العذاب بقومه في [الدنيا*] فيزيده غما وتأسفا وحزنا عليهم، وإنما يتسلى بعتو [أمثالهم*] على كثير من الأنبياء، فإن قلت: لم قرن الشدة [بالحساب*]، [والنكر*] بالعذاب، فهلا قال: [(فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا نُكْرًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا شَدِيدًا) *]، قلت: الحساب ليس فيه ما ينكر، والعذاب غير المعهود منكر. قوله تعالى: {وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا (9)} لأن الإنسان قد يذوق العذاب ثم يعقبه الخير والسلامة. قوله تعالى: {الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ ... (12)} ابن عطية: لَا خلاف بين العلماء أن السماوات سبع، لقوله تعالى: (أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا)، فسر رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، أمرهن في حديث الإسراء حتى قال: "ثم صعدنا إلى السماء السابعة"، وقال لسعد: "حَكَمْتَ بِحُكْمِ الْمَلِكِ مِنْ فَوْقِ سَبْعَةِ أَرْقُعَةٍ" انتهى، هذا ما يتم إلا على أصول الحكماء الفاسدة التي [نخالف*] نحن فيها، لأن كونها كذلك [حجة*]، إما للعقل أو للسمع، فالعقل لَا مدخل له في عددها، وإن ادعوا إسناد ذلك إلى العادة، فهي دعوى باطلة إذ لَا يعلم ذلك بالعادة بوجه فلم يبق إلا السمع، وهو مخالف لهم ومبني على أنها لَا تقبل الخرق، وأما عندنا فيصح قبولها للخرق، كما نشاهده في جرم السمع وجرم الميناء [تخرقه*] السفينة، ويرجع كما كان ففي الممكن أن تلك الكواكب والشمس والقمر [تخرقها*] كلها، وتنتقل من سماء إلى سماء، وإذا كان كذلك فيبطل استدلالهم على الطول، وغير ذلك بالرصد، ومذهب الحكماء أن السماوات كربطة البصلة، واحدة فوق أخرى متلاصقة، ومذهب أهل السنة أن بينها فضاء حاجزا، [وَرَدَ*] أن غلظ كل سماء مسيرة خمسمائة عام، وبين كل سماءين خمسمائة عام، لكنه لم يصح، وأشار له الزمخشري في سورة النازعات، وذكر الحكماء: أن الأفلاك تسعة منها

السبعة المشهورة، [والفلك الأطلس، وفلك البروج [وذلك المسمى*] بفلك البروج هو الثامن، والأطلس فوقه ليس فيه كواكب بوجه، [**وفلك الوهم] محيط بالجميع حركته أسرع من طرفة العين، فإن قلت: هلا كانت الملائكة مخلوقين قبل السماوات [أو لا*]؟ فالجواب إن قلنا: بإثبات الجوهر الفارق، وهو موجود لَا يتحيز ولا قائم بالمتحيز، وهو مذهب الحكماء، فنقول: يصح أن يكونوا مخلوقين قبل ذلك، وإن منعنا ذلك فيمنع صحة خلقهم، قيل: لأن الموجود إما متحيز أو قائم بالمتحيز، فهو إما في مكان أو في حيز أو نقول: كانوا في الفضاء وهو حيزهم كما هي السماوات الآن في الحيز لا في المكان. قوله تعالى: (وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ)، ابن عطية: روي عن قوم من العلماء أنهم قالوا: الأرض واحدة، وهي مماثلة لكل سماء بانفرادها في ارتفاع جرمها، وفي أن فيها عالما يعبد، كما أن في الأرض عالما يعبد، انتهى، لَا يصح أن تكون المماثلة في الذات والصفات، لأنهم قرروا في علم الهيئة، أن الشمس أكبر من الأرض، وهي أصغر من السماء، فكيف يكون جرم الأرض قدر جرم [السماء*]؟ المماثلة ليست من جميع الوجود، وهذا كقوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: إذا سمعتم النداء، فقولوا مثل ما يقول المؤذن، مع أنه لا يحاكيه في الحيعلة والحوقلة، وذكر ذلك ابن رشد في البيان والتحصيل في كتاب الصرف في مسألة سعيد بن المسيب، وحكى ابن سينا الخلاف في الأرضين أنها سبع أو لَا؟ واختار أنها سبع، وقال المازري في المعلم: سألني عن ذلك شيخنا عبد الحميد الصائغ، وكتب لي بعد فراقي له، هل وقع في الشرع ما يدل على أن الأرضين سبع؟ فأجبته بقول الله تعالى (وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ)، وبحديث " [مَنِ اقْتَطَعَ شِبْرًا مِنَ الْأَرْضِ ظُلْمًا، طَوَّقَهُ اللهُ إِيَّاهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ سَبْعِ أَرَضِينَ*] " خرجه مسلم، قال [فأتم*] كتابه إلي، وقال: إن الآية محتملة هل مثلهن في الشكل والهيئة [أو*] في العدد، والحديث أخبار [آحاد، والقرآن*] إذا احتمل، والحديث إذا لم يتواتر، لم يصح القطع بذلك، والمسألة علمية ليست من العمليات، فلا يتمسك فيها بالظواهر، وبأخبار الآحاد، قال: فأعدت إليه المجاوبة [فاحتج*] ببعد الاحتمال من القرآن، وبسط القول في ذلك، وترددت له في آخر كتابي في احتمال ما قال: فقطع المجاوبة، قال في شرح الجوزقي: لأنه كان انقطع في آخر عمره للعبادة، ذكره لما تكلم في الأذان، انتهى، [إلا أن*] ظاهر كلامهما أن المسائل العلمية لَا تثبت إلا بالدلائل القطعية [مطلقا*]، ولذلك منعت فرقة التفضيل بين الصحابة، لأن ذلك أمر علمي عندهم [صرف*]، ودلائل التفضيل لَا تنهض للقطع، وإلا ظهر أن المسائل العلمية على قسمين فما يرجع منهما لأحكام العقائد، كالأحكام المتعلقة بالذات [العَليَّة*]، كالحكم بجواز [رؤيته*] عز وجل مع تنزيهه وتقديسه عن الجهة والمكان، والحكم بكونه سميعا بصيرا مع تنزيهه عن الجارحة وأعضاء السمع

(يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا) والبصر [وأحكام النبوة وختمها*]، وانقطاعها؛ [وهذا*] لَا يصح إلا بما يفيد القطع اتفاقا، وأما ما يرجع إلى ما ليس من أحكام العقائد [كـ كون*] الأرضين سبعا، وكأفضلية بعض الصحابة على بعض، والحكم بأن الكفار مخاطبون بالفروع [أم لا؟ *] على رأي القاضي أبي بكر الباقلاني، وأكثر الأصوليين من أن ثمرة ذلك إنما هي حاصلة في الدار الآخرة، وكالحكم بجواز كرامات الأولياء، وهو مذهب جمهور أهل السنة، وكون الذبيح إسماعيل أو إسحاق فهذا يصح إثباته بالدلائل الظنية [ولَا يلزم*] من تحصيله بها إخلال بواجب، ومعنى كونها علمية أنها اعتقادية فقط لَا عمل فيها بوجه. (الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ) قرره الغزالي في [**المضنون به] بكلام جار على قواعد الحكماء. قوله تعالى: (لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ). ابن عطية: عام مخصوص بالواجب والمستحيل، ابن التلمساني في شرح المعالم الفقهية: أجمعوا على أن المعدوم المستحيل في نفيه كقلب الأجناس واللون في محلين في زمن واحد، لَا يتعلق به قدرة لَا قديمة ولا حادثة، وقال السراج في الموجز: قولك: (وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)، دال بالمطابقة على عموم العلم [لا [حادثه*]، [فقولك*] الله قادر عَلى كل شيء، دال بالتضمن، لأنه إنما يدل على بعض مسماه، لأن القدرة لَا تتعلق بالواجب ولا بالمستحيل، وقال القرافي: دلالة العالم على بعض أفراده، لَا يصح أن [تكون*] مطابقة ولا التزاما، لأنه داخل في المسمى، ولا تضمنا، لأنه كلية لَا كل. انتهى، ويرد بأنه إن أريد دلالته عليه من حيث كونه جزءا من كل فهي تضمن، وإن أريد دلالته عليه من حيث كونه [ ... ] فهي مطابقة فهل هو من قسم الجزئي والكلي، أو من قسم الجزء أو الكل، ابن التلمساني في فروع المسألة الرابعة من الباب الثالث: المخاطب يندرج في العموم على الأصح، قال تعالى (وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)، وهو عليم بذاته وصفاته، واحتج المانع بقوله تعالى: (خَالِقُ كُلِّ شَيءٍ)، ويقول القائل: من دخل داري فأعطه درهما، فإنه يتناوله واجب بأن الأول: مخصوص بدليل العقل، والثاني: العرف، والحكم في ذلك كله للقرائن، انتهى، والقدرة مختصة بالله عز وجل، والعلم يشاركه فيه الغير، فكذلك عبر فيه بالإحاطة الخاصة بالله، والصفات على ثلاثة أقسام: صفة قاصرة على ذات الله تعالى، كالحياة والبقاء، وصفة متعلقة مؤثرة، كالقدرة، وصفة متعلقة غير مؤثرة، كالعلم، وأما الإرادة فاختلفوا هل هي من الصفات المؤثرة أو لَا؟ وسبب الخلاف النظر في [التأثير*] أعم من ذلك، ومن التخصيص فالإرادة مؤثرة. * * *

سورة التحريم

سُورَةُ التَّحْرِيمِ [(1)] السؤال بـ (لم) عن صلة الحكم والعادة في خطاب الأشراف تقديم لفظ المخاطب أو زوال ما [يتوقَّاه*] ويخافه، كقوله تعالى: (عَفَا اللَّهُ عَنكَ) [التوبة: 43]، وكذلك تصدير الخطاب هنا ب (أَيُّهَا النبِيِّ)، دال على الاعتناء بشأنه عظيم [تُحَرِّمُ*] وعبر هنا عن ما وقع العتب عليه بالمضارع، وفي قوله تعالى: (لِمَ أَذِنْتَ لَهُم)، بالماضي لدوام متعلق التحريم، وانقطاع [تعلق*] الإذن والتحريم قسمان حكمي والتزامي، [فقولك*] حرم أبو حنيفة هندا، أي أفتى أو حكم بتحريمها لا على بعلها، وحرم زيد هندا، أي التزم تحريمها، وهذه الآية من القسم الثاني، فإِن قلت: الاستمتاع بها جائز له فعله وتركه، فإذا حرمه فقد أخذ الجائزين فلم عوتب؟ قلنا: لَا تسلم أنه يجوز تركه بالتحريم، بل الفعل والترك من غير إضافة تحريم إليه هو المباح. قوله تعالى: (تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ). مفهومه منع التحريم لغير مرضاتهن من باب أحرى. قوله تعالى: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ ... (2)} الأصل [استعمال*] اللفظ في مفهومه الحقيقي، وتقرر أن الكلام لَا يتركب مع أجزاء متنافية، ومفهوم فرض الحقيقة [ ... ] مفهوم الحلية إما للإباحة أو ما هو أخص منها، فلو كان المراد [بالفرض*] والحلية مفهوميهما [الحقيقيين*]، للزم منه تنافي الكلام لتنافي أجزائه، فيكون واجبا مباحا، هذا [**خلف فلأجل دليلته] ما أريد بهما [مفهومهما الحقيقيان*]، بل أريد [بالفرض*] البيان، وبالحلية حلية العقد، أي قد بين الله لكم حل عقد أيمانكم، ويصح أن يقال للمباح واجب، لأنه قد يلحقه الوجوب لعارض، وإنما يمتنع ذلك في الواجب لذاته لَا لعارض، كما تقول أكل الجراد مباح، والمباح واجب على أنه محصل للواجب، وهو مدخلة الجوع، وفي الآية التفات لقوله تعالى: (لَكُمْ)، ولم يقل ذلك. قوله تعالى: {إِنْ تَتُوبَا ... (4)} الأكثر في الخطاب التكليفي، أن يؤتى فيه بصيغة الأمر، كقوله تعالى: (وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا)، فأجيب: بأن الخطاب إن كان لمن يتأثر [به*] أتى به في سياق الشرط تشريفا له وتلطفا في الخطاب، وإن كان بحيث لَا يتأثر، أتى أمرا صريحا [نقض*] عليه بقوله تعالى في براءة (فَإِنْ تُبْتُم فَهُوَ خَيرٌ لَكُمْ)

(5)

وفي التنبيه في سماع ابن القاسم من كتاب الغائب، قال مالك: [فيمن*]، قال: إن فعلت كذا زوجتك ابنتي أو بعتك سلعتي، هذه فإِنه لَا يلزمه شيء، وكأنه قال: إن فعلت كذا، زوجتك، فهو وعد بالتزويج لَا [التزاما*]، وهذا عند النحويين أعني قوله: (قُلُوبُكُمَا) ما ورد في التشبيه بلفظ الجمع، قاله سيبوبه وغيره، وجعله الفخر جمعا حقيقة باختلاف حالات القلب وتبدلها وتقلبها فكأنها قلوب. قوله تعالى: (وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ). قيل: المراد به علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وهذا عكس ما يقولون في الخبر والشهادة من أن متعلق الشهادة قاصر على المشهود، فلا يقبل فيه شهادة الرجل لنفسه، ومتعلق الخبر عام وجاء هذا الخبر بجر النفع للمخبر فقط، وقيل: المراد بصالحهم الأنبياء المتقدمون ونصرتهم النبي صلى الله عليه وسلم، بدعائهم له كما دعا له إبراهيم. قوله تعالى: {عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ ... (5)} ابن عصفور: كل ما في القرآن من عسى [فهي*] واجبة، لأن وعد الله تعالى حق لا بد من وقوعه، إلا هذه، فإنها على بابها من الترجي، انتهى، يرد بأنها هنا واجبة، وجوبا متوقفا على حصول ذلك الأمر المقدر وقوعه بإرادة الشرط، فلم يقع الطلاق فلم يقع التبديل، وانظر ما تقدم في سورة البقرة في قوله تعالى: (وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ)، وقوله تعالى: (إِنْ طَلَّقَكُنَّ)، ولم يقل: حرمكن، فيه ترجية لأزواجه، والمراد أنه مستغني عنكن، فلا تعودن لمثل ما فعلتن من إفشاء سره، فهو عتب لأزواجه. قوله تعالى: (مُسْلِمَاتٍ). قدم الإسلام على الإيمان، لأن القصد الترقي، والإيمان أعم؛ لأنه من أفعال القلوب، والإسلام من أفعال الجوارح، فقد يظهر من الشخص أنه مسلم وهو منافق، والعبادة أخص مما قبلها، [وهي*] بمادتها تدل على الكثرة والملازمة، وجواب الزمخشري عن إدخال الواو في (وَأَبْكَارًا)، دون ما قبلها [منقوض*] بقوله تعالى: (الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ)، الأمر والنهي صفتان لَا يستحيل احتمالهما في موصوف واحد. قوله تعالى: {لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (6)}

(7)

يحتمل أن يراد بالأول: طاعتهم له في اجتناب ما نهاهم عنه، لأن الأمر بالشيء نهي عن ضده، وبالثاني: طاعتهم في فعل يأمرهم به، وقال الفخر في المحصول: إن قال قائل: إن قوله (وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ)، تكرار؟ فالجواب: أن الأول: ماض، والثاني: مستقبل أي لَا يعصونه فيما أمرهم في الماضي، وهو في الحال (وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤمَرُونَ)، ورده عليه القرافي: بأن (لَا) إنما تنفي المستقبل، فالأول مستقبل، والثاني كذلك، ويجاب: بأن الأول إخبار عن عدم عصيانهم فيما سيؤمرون به في المستقبل، ولم يقع منهم عصيان لما أمروا به، وهم من شأنهم أن لَا يعصون فيما سيأمرهم به. قوله تعالى: {لَا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (7)} إن قلت: ما وجه المناسبة بين هاتين الجملتين مع أن [المتبادر*] للفهم أن يقال: لا يظلمون اليوم؟ فالجواب: أن العفو هو ترك المؤاخذة [بالذنب*] [ ... ] موجبا، والمعذرة هي إلقاء كلمة تمهيدا لرجاء عدم المؤاخذة بالذنب لعدم [**مزجها]، فالمراد أنا لم [نجركم*] إلا بما كسبتم وجنيتم، وجواب [آخر*]: وهو أن المعذرة تارة تكون لإسقاط المؤاخذة، [وتارة*] تكون لتخفيف العقوبة، فالآية كأنها أتت على قسم ثالث، وهو ليس بتخفيف، حتى [**ما جاز على بعض الذنب ولا الإسقاط؛ بل على العمل فقط]، ويصح أن [يكون*] الوقف على (لَا تعتذروا) ويتعلق (اليوم) بما بعده. قوله تعالى: {يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ ... (8)} جعله المفسرون (يَوْمَ) متعلقا بـ (يُدْخِلَكُمْ)، والأولى أن يكون العامل فيه (اذكر) [مقدرا*]، فإن قلت: الإضمار على خلاف الأصل؟ قلت: فيه سلامة الآية من التكرار المعنوي، لأن قوله (عَسَى رَبُّكُمْ)، إلى آخره ملزوم لنفي الخزي، وقد [شرع*] به ثانية فيؤول إلى قولنا (عَسَى رَبُّكُمْ)، أن لَا [يخزيكم*] واحتج بها المعتزلة على أن [العاصي*] مخلد في نار جهنم بعد الجمع [بينها*]، وبين قوله تعالى: (رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ)، حسبما قرره ابن الحاجب، ووجه الدليل أن يقال: كل من دخل النار مخزي بآية آل عمران، ولا شيء من المؤمنين مخزي؛ عملا بهذه الآية فلا شيء ممن يدخل النار بمؤمن، ثم تنعكس [ ... ] فتقول لا شيء من المؤمن بداخل النار، وأجاب الشيرازي وغيره بوجهين: أحدهما: أن المراد بالذين آمنوا معه الصحابة فقط. والثاني: أن [(الذين آمنوا معه) *] مستأنف، وليس معطوفا على ما قبله بوجه، ويجاب أيضا بوجه ثالث: وهو أن الخزي مقيد بذلك اليوم، فيكون ذلك اليوم هو وقت دخولهم الجنة، فإنهم غير [مخزيين*] حينئذ، وأما قبل ذلك حين دخولهم النار فهو يوم آخر.

(9)

قوله تعالى: (وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ). إن قلت: المناسب إنك غفور رحيم؟ قلت: هو مرتب على [محذوف*] وهو قوله تعالى: (يَسْعَى نُورُهُم)، إلى آخره. في الآية معنى القلب أي يسعون بنورهم، فإِن سعي النور [إنما هو بقتال*] الكفار بالسيف والمنافقين بالاحتجاج. انتهى، فجيء فيه استعمال اللفظ الواحد يتبع انتقالهم إذ هو صفة لهم. قوله تعالى: [(جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ ... (9) *] الزمخشري: [جاهد*] الكفار بالسيف، والمنافقين بالاحتجاج انتهى، [جيء*] فيه استعمال اللفظ الواحد في حقيقته ومجازه، [ ... ] بأن يكون من باب علفتها تبنا وماء باردا، أي جاهد الكفار وعارض المنافقين بالاحتجاج، وهو من عطف الخاص على العام، والجهاد أربعة أنواع: أحدها: قتال الكفار، والثاني: حضور معركة القتال للقتال، وإن لم يقاتل كما فعل كثير من أكابر الصحابة، والثالث: الدخول لأرض العدو للمقاتلة، كما قال مالك: فيمن دخل أرض العدو للإغارة عليهم، [وإضعافهم*] أنه مجاهد، فهذا كله جهاد، [**وغائر تلك بينه وبين الرباط بأرض الإسلام لحراسة الإسلام من العدو]، الرابع: الخروج برسم الجهاد، فقد قال مالك: فيمن خرجوا للجهاد [فتفرقوا*] فحضر بعضهم الغنيمة إن الجميع يشتركون فيها، وكذلك قال في السفن [إذا غمرتهم الريح*]، أن الغائبين عن الغنيمة يشاركون من [حضر*] فيها، فإن قلت: أعيان المنافقين من أين نعلمهم، فإن كانوا معلومين عنده، فليسوا بمنافقين، لأن المنافق هو الذي يظهر الإسلام ويبطن الكفر، وإن لم يكونوا معلومين عنده فيلزمه تكليف ما لَا يطاق؟ فالجواب: إنما ذلك في التكليف التأثيري، كما لو أمر بقتالهم، فيقول: لَا يقاتلهم خشية أن [يقع*] في المؤمنين منهم [وهن*]، إنما أمر بإقامة الحجة [فيلقيها*] على الجميع يسمعها المنافق وغيره، لعلها تنفع المنافقين من باب ما لَا يتوصل إلى الواجب إلا به فهو واجب. قوله تعالى: (وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ). إن قلت: ما فائدة التغليظ عليهم، مع [عدم*] الامتثال؟ قلت: هو قطع لحجتهم وتعذرهم. قوله تعالى: (وَبِئْسَ الْمَصِيرُ).

(10)

إن قلت: ما السر في العدول عن المشاكلة اللفظية إلى المنصوب، ولم يقل: وبئس المأوى؟ فالجواب: أنه علقه على الأعم، فيلزم ثبوته للأخص على [أن*] المصير أعم من المأوى. قوله تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا ... (10)} المثل مضروب للجميع، لكن خص بالأول الكافر؛ ولكونه مثلا لمن هو كافر من جنسهم، وخصص الآخر بالمؤمنين؛ لكونه مثلا لمن هو من جنسهم. قوله تعالى: (كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ). أفاد ذكر هذا [التشريف بوصفي العبودية والصلاح*]. قوله تعالى: (فَخَانَتَاهُمَا). ابن عطية: اختلفوا في خيانة هاتين المرأتين، فقال ابن عباس: ما بغت زوجة نبي قط، ولا ابتلى الأنبياء في نسائهم لهذا، وإنما خانتاهما في الكفر، وكانت زوجة نوح تقول إنه مجنون، وامرأة لوط كانت تنم إلى قومه متى أتاه ضيف، وقال الحسن: خانتاهما في الكفر والزنا وغيره. انتهى، وهذا خلاف في حال، فابن عباس رأى أن الزنا منهن [نقص*] في أزواجهن، فمنع من ذلك، وأما الحسن فلم ير ذلك موجبا للنقص في الأزواج. وقوله تعالى: (فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا)، يدل على ما قال ابن عباس: لأن تلك الفاحشة ليست [مشروعة*]، [فلا يغني فيها*] أحدٌ عن أحدٍ. قوله تعالى: (مَعَ الدَّاخِلِينَ). إشارة إلى كونهما في منزلتهم، وإن قرابتهما لَا تخفف عنهما شيئا. * * *

سورة الملك

سُورَةُ الْمُلْكِ منها ابتدأت القراءة على شيخنا يوم السبت الثاني عشر شهر ربيع الآخر عام خمسة وسبعين وسبعمائة، الزمخشري: مكية، زاد ابن عطية: بإجماع. الزمخشري، وتسمى الواقية والمنجية، لأنها تقي قارئها من عذاب القبر، وذكر ابن عطية في ذلك أربعة أحاديث، وقد تقرر [أن*] أحاديث الفضائل كلها لم يصح [منها*] إلا أحاديث قليلة ليس هذا منها، ابن عطية: ويروى أن في التوراة سورة الملك من قرأها في ليلة فقد أجاد [وطيب*]. انتهى، الذي في التوراة الإخبار عنها لَا أنها كانت موجودة في التوراة، فهي [كوصفه*] صلى الله عليه وسلم في التوراة. قوله تعالى: {تَبَارَكَ ... (1)} ابن عطية: من البركة، وهي التزيد في الخيرات، الزمخشري: تعالى وتعاظم عن صفات المخلوقين، قالوا: وهو خاص بأنه لَا يسند إلا إليه، انتهى، وهو من [الكلام*] المناسب لفظه معناه [ ... ] [**الباري وجرى للندب]، و (تبارك) غير منصرف، ولفظه بالله فمعناه، وهو البركة والنمو، ولا يعقل فيهما تغير ولا تبدل بوجه مناسب للفظه. قوله تعالى: (بِيَدِهِ). ابن عطية: عبارة عن تحقيق الملك، لأن اليد في عرف الآدميين هي آلة التملك فهي [اسْتِعَارَةٌ*]، وقال الزمخشري: [مجاز عن*] الإحاطة بالملك والاستيلاء [عليه*]. انتهى، ويحتمل على مذهب أهل السنة أن يراد باليد القدرة، ووقع التعبير عن اليد في القرآن تارة بالإفراد وتارة [بالتثبية*] وتارة بالجمع، ووجهه أنه إن كثرت متعلقات القدرة جمعت، وإن قلت: أفردت، وإن توسطت ثنيت، والمُلْك أعم من المِلْك؛ لأنه مهما وجد الأخص وجد الأعم، فمنهما وجد الملك ولا ينعكس، لأن سائر النَّاس يملكون العبيد والأرض والثياب [ولا مُلك لهم*]، فإن قلت: هل بينهما عموم [وخصوص*] من وجه دون وجه، لأنا قد نجد بعض السلاطين لَا تملك شيئا، مع [**أدلة] الملك؟ قلت: هذا محال وجوده أو قليل، وفي الآية المذهب الكلامي، وهو الإتيان بالحكم مقرونا بدليله، واختلف هل هو موجود في القرآن أو لَا؟ فمنع الجاحظ وجوده فيه وأثبته غيره، وتقدم القول فيه في سورة يس، وهو على قسمين: برهاني نظري، كقوله تعالى: (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ)، وبرهاني ضروري،

(2)

كقولك: ساد من اتصف بالصلاح والكرم والشجاعة، وهذه الآية البرهان فيها ضروري، وهو اقتران البركة والتنزيه بالملك بالقدرة، وهما معلولان بالضرورة. قوله تعالى: (وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ). الزمخشري: على كل ما لم يوجد مما يدخل تحت القدرة انتهى، مذهب أهل السنة: أن المعدوم الممكن يطلق عليه شيء، ومذهب المعتزلة: أنه لَا يطلق عليه شيء، فإن أراد الزمخشري بقوله: مما لم يدخل تحت القدرة، [أنه بعض تخصيص*] فكلامه خطأ؛ للإجماع على أن [المعدوم*] المستحيل لَا يطلق عليه شيء، وإن كان ذلك الكلام منه تحقيقا لبيان لفظة (شيء)، فهو صواب، ابن عطية: وهو على كل موجود قدير، انتهى، إن قلنا: إن الأعراض [لا*] تبقى زمنين فظاهر، وإن قلنا: ببقائها، فيكون المراد، وهو على إعدام كل موجود قدير؛ لكن يرد عليه أن المشهور عندهم أن العدم الإضافي لَا تتعلق به القدرة، فينحصر الأمر إلى لفظة موجودة من باب تسمية الشيء بما يؤول إليه، وهو على كل ما سيوجد قدير باعتبار إيجاده واختراعه، والآية حجة لأهل السنة في أن أفعال العباد مخلوقة لله تعالى؛ إلا أن يجيب الآخرون بأنها تنسب إليه، بأن خالق فاعلها فهو خالقها بواسطة، فهو قادر على كل شيء؛ إما مباشرة أو بواسطة، وإذا قلنا: إن المخاطب داخل تحت الخطاب، [فيكون*] دليلا على صحة إطلاق لفظة شيء على [القديم*] إلا أن يكون مخصوصا، وكذلك إن قلنا: يمنع إطلاق لفظة شيء على القديم، فإن الصفات عندنا كلها قديمة فيكون اللفظ مخصوصا بها. قوله تعالى: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ ... (2)} الفخر في المحصول: مذهب أهل السنة: أن الموت أمر وجودي، ومذهب المعتزلة: أنه أمر عدمي، والآية حجة لأن الخلق هو الإبراز [من*] العدم إلى الوجود، الآخرون بأن خلق يكون بمعنى قدر، قال الله تعالى (فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ)، انتهى، [نقول إن العدم الإضافي تتعلق به القدرة*]، ابن عطية: وما في الحديث من قوله الرسول صلى الله عليه وسلم: " [" يُجَاءُ بِالْمَوْتِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، كَأَنَّهُ كَبْشٌ أَمْلَحُ -زَادَ أَبُو كُرَيْبٍ: فَيُوقَفُ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، وَاتَّفَقَا فِي بَاقِي الْحَدِيثِ- فَيُقَالُ: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ هَلْ تَعْرِفُونَ هَذَا؟ فَيَشْرَئِبُّونَ وَيَنْظُرُونَ وَيَقُولُونَ: نَعَمْ، هَذَا الْمَوْتُ، قَالَ: وَيُقَالُ: يَا أَهْلَ النَّارِ هَلْ تَعْرِفُونَ هَذَا؟ قَالَ فَيَشْرَئِبُّونَ وَيَنْظُرُونَ وَيَقُولُونَ: نَعَمْ، هَذَا الْمَوْتُ، قَالَ فَيُؤْمَرُ بِهِ فَيُذْبَحُ*] "، فقال أهل العلم ذلك تمثال كبش يوقع الله العلم الضروري لأهل الدارين، إنه الموت الذي ذاقوه في الدنيا، ويكون ذلك التمثال حاملا للموت انتهى، وهو صحيح خرَّجه مسلمٌ، ووجه ما قال: إن الموت صفة معنوية وظاهر الحديث أنه مخصوص فتناول على أن الكبش حامل له في معناه أنه حامل لجوهر متصف بتلك الصفة المعنوية التي هي عرض من الأعراض وهي الموت، لأنه لو كان حاملا للموت لكان ميتا، ابن عطية: والموت والحياة

نقيضان مهما عدم أحدهما وجد الآخر، فالحمل قبل نفخ الروح فيه ميت، لأنه ليس بحي انتهى، إن قلت: وكذلك الجمادات كلها؟ قلت: لَا يقال ميت إلا فيما [هو قابل*] للحياة إلا أن يكون مثل [قولك*]: الحائط لَا يبصر، ويكون من السلب [والإيجاب*] لَا من باب العدم والملكة بخلاف قولك: زيد لَا يبصر، وقال الفخر: هنا في بعض النسخ ما حاصله، أن الحياة أمر عدمي وهو إعدام الموت، والموت أمر وجودي انتهى، وهو هوس باطل، لأن الله تعالى موصوف بالحياة لَا بالموت بإجماع [ ... ].، أنها وجودية لاستحالة اتصافه بالعدم، ومن بدع التفاسير، قول القرطبي: إن الموت هنا فرس، والحياة رجل راكب عليه، ولقد أجاد الزمخشري في قوله تعالى: (خَلَقَ) موتكم وحياتكم، وفي الآية من أنواع البيان المطابقة، قال ابن مالك في المصباح: المطابقة أن يجمع في كلام بين متضادين، وهي على ثلاثة أضرب: الأول: ما لفظاه [حقيقيان*]، وهي مطابقة بين محسوسين مثاله في الإيجاب، قوله تعالى: (وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ)، وقول الشاعر: [أما والَّذِي أبكَى وأضحكَ والَّذِي ... أماتَ وأحيَا والَّذِي أمْرُه الأَمْرُ*] وفي السلب قوله تعالى: [(وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (6) يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) *]. الثاني: ما لفظه مجاز كقوله تعالى: (أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ)، أي ضالا فهديناه ومثله: حلوُ الشمائِل وهوَ مرٌّ باسلٌ ... يحمِي الذمارَ صبيحةَ الإرهاقِ الثالث: ما [أحد*] لفظيه حقيقة، والآخر مجاز؛ كقول أبي تمام: له منظرٌ في العينِ أبيضُ ناصعٌ ... ولكنّه في القلبِ أسودُ أسفَعُ والطباق في الآية بين معنيين، وذكر هذين الطرفين لأنهما أصلا كل شيء، فيدل على اتصافه بخلق ما [وكذلك*] من الألوان والطعوم والروائح من باب آخر، أو اللام في [(لِيَبْلُوَكُمْ) *] للتعليل، وهو على مذهب المعتزلة، واجب ظاهر، وأما على مذهبنا أفعال الله غير معللة، والمتكلم تارة يذكر [الفعل معللا*] بأمر واجب لَا بد منه، وتارة يذكره بأمر جائز فتقول لمن [حصره*] الأسد [ولا نجاة له منه إلا بسُلَّمٍ يصعد به على السطح، اصعد السلم لتنجو من الأسد*]، وتقول لولدك: افعل لي كذا لأعطيك درهما، وأنت قادر

(3)

على إعطائه وإن لم يفعل، وكذلك هذا قد يفعل [الفعل*] لسبب، ولو شاء أن يفعله لغير ذلك السبب [لفعله*]، وهو من باب ربط الأسباب بمسبباتها؛ لَا من باب التعليل الواجب، وقول ابن عطية: و (لِيَبْلُوَكُمْ)، فينظر، أو يعلم أيكم أحسن عملا، يرد بأن النظر إن أراد به العلم فهو تكرار، وإن أراد به الإبصار الحقيقي أو القلبي [فهما*] مستحيلان في [حق*] الله تعالى، الزمخشري: ألا يسمى هذا في النحو [تعليقا*]؟ (¬1) وإنما [التعليق*] عن المفعولين معا بخلاف المفعول الثاني وحده، ولو كان [تعليقا*] لافترقت الحالتان؛ كما [افترقتا*] في قولك: علمت [أَزَيدٌ*] منطلق، [وعلمت*] زيدًا منطلقا؛ ووافقه الطيبي، وخالفهما أبو حيان، ويحتمل أن يكون مراد الزمخشري أن [التعليق*] في قولك: علمت [أزيدًا*] قائم، لَا يقع التفريق فيه بين اللفظين، [لأن ما قبل*] أداة الاستفهام [منصوب*]، وبعد دخولها مرفوع، [والتعليق*] في قولك: علمت أزيدا وهو قائم، لَا يقع التفريق فيه إلا بالمعنى، خاصة لأن اللفظ متحد قبل الاستفهام، وإذا لم يزل مرفوعا أو يفرق بينهما بأن قولك: علمت زيدا قائما إخبار من علمك بمعنى منصوص عليه، وقولك: علمت أزيد قائم، إخبار عن علمك بمعين [ ... ] عن المخاطب. قوله تعالى: {سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا ... (3)} حديث الإسراء دال على [وجود*] الخرق بين السماوات. قوله تعالى: (مِنْ تَفَاوُتٍ). أي من [عدم*] الإتقان والإحكام. قوله تعالى: (هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ). [جاء*] بأداة الاستفهام، تنبيها على سؤال المخاطب، وأنه يجيب بالموافقة وكفى رؤية الفطور، لكنه من باب نفي الشيء بنفي الشيء، أو نفي الشيء بإثباته مثل "عَلَى لَاحِبٍ لَا يَهْتَدِي بِمَنَارِهِ"، أي ليس فطور [فتُرى*]. قوله تعالى: {كَرَّتَيْنِ ... (4)} الزمخشري: التثنية هنا [للتكثير*]، أي كرة بعد كرة، مثل لبيك وسعديك، يريد إجابات كثيرة بعضها في إثر بعض، ومن ذلك قولهم في المثل دهدرّين سعد القين أي باطلا بعد باطل. انتهى (¬2)، القين هو الحذار، قال الأستاذ أبو محمد عبد الله ابن السيد البطليوسي في جوابه عن المسألة السادسة عشر من أسئلته: اختلف الرواة في حقيقة لفظ هذا المثل ومعناه وإعرابه فرده الأصمعي إلى دهدزين سعد القين ووجهه أنه كلمة واحدة، لأن أبا عبيدة صرح بأنه تثنية، وأهل اللغة ذكروا أنه يقال للباطل: دهدر ¬

_ (¬1) النص في الكشاف هكذا: "فإن قلت: أتسمى هذا تعليقا؟ قلت: لا، إنما التعليق أن توقع بعده ما يسدّ مسدّ المفعولين جميعا، كقولك: علمت أيهما عمرو، وعلمت أزيد منطلق. ألا ترى أنه لا فصل بعد سبق أحد المفعولين بين أن يقع ما بعده مصدرا بحرف الاستفهام وغير مصدر به، ولو كان تعليقا لا فترقت الحالتان كما افترقتا في قولك: علمت أزيد منطلق. وعلمت زيدا منطلقا". اهـ (¬2) قوله «دهدرين ... الخ» في القاموس بضم الدالين وفتح الراء المشددة: اسم لبطل، وللباطل والكذب كالدهدر. ودهدرين سعد القين: أى بطل سعد الحداد. أو أن فينا ادعى أن اسمه سعد زمانا، ثم تبين كذبه، فقيل له ذلك» أى: جمعت باطلا إلى باطل يا سعد الحصاد. ويروى منفصلا «ده» أمر من الدهاء، و «درين» من در: أى تتابع، أى: بالغ في الكذب يا سعد. وفيه غير ذلك. اهـ.

ودهدن بالراء أو النون، وإعرابه اسم فعل بمنزلة هيهات، فمعناه بطل سعد القين، فنرد فاعل بدهدزين، وهو مضاف إلى القين، والمراد تبعد السعادة، ومعناه أن اليقين كان من عادته أن ينزل في الخفي، فيشيع أنه منحدر غير مقيم، ليبادر إليه العمل، فكانت له في كذبه سعادة، فلما علم بكذبه بطل سعده، ولم ينتفع بكذبه ولذلك قالوا: إذا سمعت بسعد القين فاعلم أنه مصبح، وروى عن الأصمعي برفع سعد، والقين، فيكون القين صفة لسعد وسعد اسم رجل قين، وفي الكلام مضاف مقدر، أي بطل كذب سعد القين، وهذا [التنوين تخفيفا*]؛ لالتقاء الساكنين كقراءة بعضهم، (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدْ * اللَّهُ الصَّمَدُ)، وكتب سيبويه ولا ذاكر الله إلا قليلا، ويجوز في هذا أن يكون سعد منادى مفرد والقين صفة ودهدر اسما وقع موقع المصدر كما وقعت الحافرة في قوله: أحافِرَةً على صَلَعٍ وشَيْبٍ ... مَعاذَ الله منْ سَفَهٍ وعارِ موقع الرجوع الذي هو مصدر صحيح، أي ارجع إلى الصبا رجوعا بعد ما شبت وصلعت، والمعنى أكذب كذبتين يا سعد القين، وروي برفع مقدر إضافة القين إليه ودهدزين في هذا كله متصل، ورواه قوم (ده) منفصلا من دزين، وكان أبو زيد الكلابي يقول: ده دريه كذا رواه أبو عبيد عنه، ورواه ابن الأعرابي دهدرين سعد، ورواه معمر ابن المسني في كتاب المثال: دهدين وسعد القين، ورواه بعضهم دهدري سعد القين، بحذف النون وخفض سعد، وترك تنوينه، وروى يعقوب في الأمثال له دهدرين ساعد القين، قال: يريد سعد القين ذكر ذلك عن الأصمعي عن خلف الأسمر: أنه سمع أعرابيا يرويه كذلك، وقال أبو يزيد الأنصاري، يقال: للرجل يا هذا منه دهدرين وطرطبين ودهدري ودهدري، فأما من رواه (ده) منفصلا، فمعناه بالغ في الدهاء والكذب، ودرين من در الشيء [يدر*] إذا تتابع [**فتنوه] ومبالغة في [ ... ] كـ لبيك وسعديك ودواليك عده [**أمر ودرين] مصدره محمول على المعنى، وسعد اسم رجل منادى مفرد، والقين صفة أي بالغ مبالغتين في الكذب يا سعد القين، ومن رواه دهدريه فما لها فائدة على الكذب، لأن ده دليل عليه كقولهم من كذب: كان شرا له، ومن رواه دهدري بحذف النون وخفض سعد والقين، فليس اسم فعل، لأن أسماء الأفعال لَا تضاف كما لا تضاف الأفعال، بل هو مصدر هنا والعامل فيه فعل مضمر، أي كذب كذبتي سعد اسم رجل والقين صفته، وحذف التنوين من سعد لالتقاء الساكنين، وأما [ ... ] دهدرين سعد القين، فدهدر اسم رجل معروف بالكذب، فإذا كذب رجل شبه به أي هو مثله، وأطال الكلام فيه بما يرجع أكثره إلى هذا.

(5)

قوله تعالى: {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا ... (5)} تأكيد هذه الجملة باعتبار المعطوف، لأن المعطوف عليه معلوم بالضرورة. قوله تعالى: {إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا ... لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ (7)} اقتضت هذه الآية سماعهم ذلك بعد الإلقاء في [النار*]، إذا رأتهم من مكان بعيد سمعوا، وهذا يقتضي سماعهم ذلك قبل الإلقاء، فيجعل سماعهم ذلك قبل وبعد. قوله تعالى: [وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ ... (10)]، وعلقه على [نَسْمَعُ*] دون سمعنا؛ لأن [نَسْمَعُ*] أبلغ لإفادته التجرد، والماضي إنما يفيد مطلق الوقوع منه، ويؤخذ من الآية أن السمع أفضل من البصر، لأنهم حصروا ما يكونون به كما عبر في السمع والعقل، فلو كان البصر أفضل أو مساويا لذكروه، وما قيل: [أيهما*] أبلغ، هل قولك: زيد في أصحاب العلم، أو من أصحاب العلم. قوله تعالى: {بِذَنْبِهِمْ ... (11)} لم يقل: [بكفرهم*] بالوصف الأعم، لأنهم إذا [اعترفوا*] على الأعم، فأحرى الأخص، وأفرده تنبيها على أن المراد من ذلك الأعم أخصه، وهو شيء واحد، وهو الكفر، ويكون ذلك الذنب تنبيها على دخول العصاة. قوله تعالى: {قَوْلَكُمْ ... (13)} [حقيقة القول*] الذي هو أعم؛ لإطلاقه على المفردات والمركبات، فيتناول ما دونه من باب أحرى، باعتبار الصدق، والعطف وصيغة أفعل للتسوية. قوله تعالى: {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ ... (14)} الزمخشري: (مَنْ) لَا يصح أن [تكون فاعلا*]، والمفعول محذوف؛ لأنه يكون المراد ألا يعلم الخالق، أي لَا يتصف الخالق بالعلم، فلا يكون لقوله (وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ)، فائدة (¬1)؛ فرده صاحب التقريب: بأنه من باب تقييد المطلق، أي لَا يتصف بمطَلق العلم من هو موصوف بعلم كل شيء، وأجاب الطيبي: بأن العلم هنا ليس مطلقا، بل المراد به أخصه، وهو علم السر، [هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا (15) *] (¬2) الامتنان بكون الأرض ذلولا لَا يتبادر منه للفهم الأمر [بالمشي*] فيها، ووقع الامتنان بنعمة الجلب والنفع. ¬

_ (¬1) النص في الكشاف هكذا: "فإن قلت: قدرت في أَلا يَعْلَمُ مفعولا على معنى: ألا يعلم ذلك المذكور مما أضمر في القلب وأظهر باللسان من خلق، فهلا جعلته مثل قولهم: هو يعطى ويمنع، وهلا كان المعنى: ألا يكون عالما من هو خالق، لأنّ الخلق لا يصح إلا مع العلم؟ قلت: أبت ذلك الحال التي هي قوله وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ لأنك لو قلت: ألا يكون عالما من هو خالق وهو اللطيف الخبير: لم يكن معنى صحيحا، لأنّ ألا يعلم معتمد على الحال. والشيء لا يوقت بنفسه، فلا يقال: ألا يعلم وهو عالم، ولكن ألا يعلم كذا وهو عالم بكل شيء". اهـ. (¬2) زيادة ضرورية.

(16)

قوله تعالى: (فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ)، ثم بنعمة النفع بالتأمين من الخسف، ثم من إرسال الحاصب فهو ترقٍّ، لأن دفع المؤلم أكد من جلب الملائم. قوله تعالى: {مَنْ فِي السَّمَاءِ ... (16)} فيه وجهين: إما أنه من مجاز الأسماء، والتقدير من [في*] السماء أمره، لكن يلزم عليه حذف بعض الصلة. وإما من مجاز التمثيل، فيكون لفظ السماء كناية عن العلو، أي [أأمنتم*] من اتصف بالعلو والرفعة، أن يخسف بكم الأرض، وتأوله الزمخشري بوجهين: أحدهما: هذا، والثاني: أنه خطاب للكفار على دعواهم واعتقادهم أنه في السماء، ورد بأنه تفريع على دعوى باطلة، ولا يصح التفريع على الدعوى الباطلة، إلا بعد بيان الدليل على بطلانها، والمذهب الحق عند الأصوليين: أن الله منزه عن الجهة والمكان، إذ لو كان متصفا بالمكان للزم عليه إما عدم حدوث العالم، أو حدوث الذات الكريمة، لأن المكان من جملة مخلوقاته، فلو كان [في*] مكان للزم قدمه، أو حدوث من حل فيه، وغلط عياض في الإكمال في حديث سودة لما قال لها: أين الله؟ قالت: في السماء، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: اعتقها فإِنها مؤمنة، فذكر عياض فيه كلاما حاصله عدم تكفير من أثبت [الجهة*]، وهو باطل، وذكر مسلم حديث سودة في كتاب الصلاة، ولابن عبد البر فيه كلام باطل، وحكى القرطبي هنا قولا: أن المراد في الآية ملك العذاب، وهو جبريل، قال: قيل: إنه على حذف مضاف أي [أأمنتم*] خالق من في السماوات، وإفراد [السماء*] لأن المشاهد لنا سماء واحدة، ولأنه إذا حصل التخويف بمن في السماء، فأحرى أن يحصل بمن في الجميع، فيكون من باب التنبيه بالأدنى على الأعلى، والمراد بالخسف، إما مكانهم، أو جميع الأرض، والمراد بالحاصب إنزال الحجر عليهم؛ [اهتماما لجهة الفوق*]، لأنها المقصود بالنظر، فإن قلت: في سورة ص (وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً)، بالإفراد، وقال: هنا (صَافَّاتٍ ... (19) .. ، بالجمع، قلت: لأن انعطاف الطير لازم لها دائما، بخلاف الحشر؛ فإنه خاص بزمن داود - عليه السلام - لبعض الطير، وهو طير وطنه الذي كان فيه، فناسب الإفراد. [وفي*] سورة النحل (مُسَخرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ)، والفرق [**أعم الجو]. قوله تعالى: (مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ).

(20)

وفي سورة النحل (مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ)، والجواب: أن هذه الآية سيقت للتذكير بالنعمة، فناسب وصف الرحمة، وآية النحل سيقت لبيان الألوهية وكمال القدرة والاختراع، فناسب لفظ الله الدال على الذات المعظمة، لأنه تقدمها (أَخرَجَكُم مِن بُطُونِ أُمَّهَاِتكُم)، تعقبها بقوله تعالى: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ)، وهذه الآية تدل على وحدانية للصانع من جهة حصر الإمساك فيه، [وجمع الآيات*] المراد به الكثرة [فقال (مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ)، لكنه إشارة، فكان الأصل أن يعاد عليه ضمير الكثرة فقال (مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ)، لكنه إشارة إلى أن أقل شيء منه يرشد الناظر إليه إلى الاهتداء، أو أن الناظر لَا ينظر إلا إلى بعضه، لَا إلى كله، واستدلال الفخر لأهل السنة في أن أعمال العباد مخلوقة لله تعالى ضعيف؛ لأن الإمساك ليس من قدرة الطير، [ولا من فعله، ولا يخالف فيه أحد*]، وإنما من فعله قبض جناحيه وبسطها، فلو قيل: ما يبسطهن ويقبضهن إلا الرحمن لصح له الاستدلال بها. قوله تعالى: (إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ). تفسير الفخر بعليم خطأ، لأن أهل السنة يفرقرن بين صفة العلم وصفة البصر، فإِن قلت: المناسب هنا العلم والقدرة لَا البصر، قلت: وجه المناسبة أن الإنسان لَا يبصر كل الطير، وإنما بعضها، فأشار إلى أن الله تعالى بصير بجميعها، والمراد بلفظة شيء هنا الموجود، لأن المعدوم [لَا يبصر*]. قوله تعالى: {أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ ... (20)} [أَمْ مَنْ يُشَارُ إِلَيْهِ مِنَ الْمَجْمُوعِ*] المشار إليه هنا مقدار الوجود، والمعنى أن تكذيبهم بالآيات وعدم الالتفات إليها إما لضلالهم واغترارهم، وإما لاعتقادهم أن لهم ناصرا ينصرهم ويحميهم من عذاب الله، [فلما*] انتفى الناصر؛ تعين أن ذلك مجرد مثلا لهم واغترارهم. ترله تعالى: (أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ ... (21) لم يقل: هو يرزقكم بالبناء على المضمر، كما في التي قبلها، لأن هذا لم يدعه أحد، ولا يخالف فيه؛ خلاف الأول ونحوه، قال ابن هشام في قوله تعالى: (وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى)، فإن قلت: لم قرن هذا بأداة الشرط فقال (إِنَّ أَمْسَكَ رِزقَهُ)، ولم يقرن الأول بها، فلم يقل: أم من هذا الذي ينصركم إن لم ينصركم الرحمن، [أوْ لا*] يذكر الشرط فيهما معا؟ فالجواب: أن الرزق لازم لهم لابد لهم منه، إذ لَا قوام لهم دونه، فإِمساكه عنهم مستبعد أو ممتنع، إذ لَا حياة لهم

(22)

إلا معه، فأتى فيه بأن الداخلة على المحال أو القريب منه، وأما النصرة على الأعداء فليست لازمة، بل قد [تكون وقد لَا تكون*]، فلذلك لم يقرن إمساكها بـ (إنْ) للدلالة على الحال، فإِن قلت: ما مناسبة تعقب الأول بقوله تعالى: (إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ)، وتعقب هذا بقوله (بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ)، هلا كان الأمر بالعكس؟ فالجواب: أن النصرة دالة على العتو والقوة، وهم [ادعوهمها*] لأنفسهم وزعموا أنهم ينصرون فلو عقب بقوله (بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ)، لتوهم أن لهم قوة واستنفارا لأنفسهم، فتحرز من ذلك بقوله تعالى: (إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ)، إشارة إلى أنهم اغتروا، فتوهموا أن لهم قوة [وتجلدا، وأنهم*] لَا يغلبون، بل ينصرون، ولما كان الرزق محققا نسبة إلى الله تعالى وهم مقرون بذلك وما ادعوا نسبته إليهم أصلا، عقبوا ببيان أنهم تعنتوا أو كذبوا ونفروا، ويقال في البهائم: نفرت نفورا، وفي بني آدم: نفرت نفيرا ونفارا وقوله تعالى: (وَنُفُورٍ)، إشارة إلى شدة جهلهم وغباوتهم أنهم فعلوا فعل البهائم في القول. قوله تعالى: {أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ ... (22)} إن قلت: هل هذا التركيب مضاد وتعكسه، وهو أفمن [يَمْشِي سَوِيًّا*] أهدى، أم من يمشي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ؟ فالجواب: أنه غير متناوله، لأنه يقرب التهكم بهم في كون حالتهم مساوية بحالة غيرهم، ولا يحصل ذلك إلا بالتصدير لهم، الزمخشري: يكب من أكب، وليس هو مطاوع كب انتهى، ولم يبين وجه كونه غير مطاوع، وبيانه أن فعل المطاوع هو الذي يقع سببه من غير فاعله، كقولك: كسرته فانكسر، وغير المطاوع منه مقصور على فعل فاعله، مثل قام وقعد، وأكب هذا، يقول: أكب لمن اتصف [بالانكباب*] ابتداء من غير أن يكبه أحد. قوله تعالى: {قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ ... (23)} إنما أعاد لفظة (قُلْ)، هذه خاصة، لأن عرف القرآن أن لَا يعاد لفظ (قُلْ) إلا حيث يراد التشريف والتعظيم والتشديد في الحكم، ولما كان جميع الآيات المتقدمة الاتعاظ فيها بآي خارج عن ذات الإنسان، والوعظ في هذه في أمر راجع لذاته [فأفهم*]، وأبلغ في الاتعاظ، والحصر بالضمير، والموصول يقتضي ألا مصور إلا الله تعالى، فمن نظر وتأمل وتحقق أن ذلك لَا بد له من فاعل، والفاعل لَا يصح أن يكون له فاعل آخر، [لئلا*] يلزم عليه التسلسل، ودلالة التمانع تحقق أن لَا موجد له إلا الله عز وجل. قوله تعالى: (وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ).

(24)

أفرد السمع وجمع الأبصار، إما لأن السمع مصدر يقع على القليل والكثير من جنسه فلا يثنى ولا يجمع، وإما لعمومه في جميع الجهات من غير حاجة إلى زيادة معه، لأن الإنسان يسمع كلام من خلفه وفوقه وتحته ويمينه وشماله من غير أن يقبل إلى تلك الجهة، بخلاف البصر لَا يبصر إلا من هو أمامه، ويحتاج في إبصاره من خلفه إلى حالة أخرى، وهي تكلف الانتقال إلى تلك الجهة، أو لأن الغالب [تساويهم*] في السمع وعدم تساويهم في الإبصار، وتكرر ذكر السمع والبصر في القرآن في مواضع في سورة الأنعام، وفي النحل، وفي الإسراء، وفي السجدة في موضعين، وفي الجاثية في غير موضع، فإن قلت: تقديم الأبصار على الأفئدة دليل على أنه سلك في الآية مسلك الترقي، قلت: إنما قدم السمع والبصر عليهما؛ لأنهما مقدمان في الوجود، لأن الأفئدة إنما ذكرت من حيث التعقل بها والتفكر [والتأمل*]، فيسمع ويبصر ولا يعقل شيئا، فإِن قلت: قد ذكر الفخر، والأصوليون أن المحسوسات فرع المعقولات، فلا يبصر الإنسان الشيء أو يسمعه حتى يتعقله، والأصل [تقدمه*] فلم أخره عنه؟ فالجواب: [أن*] المعقولات على قسمين: فالأمر الضروري منها البديهي متقدم على المحسوسات، والنظري منها المحتاج إلى الفكر والتأمل متأخر عن المحسوسات. قوله تعالى: (قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ). إن أريد العموم في المسلمين والكافرين، فالتقليل على حقيقته، وإن أريد الخصوص بالكفار؛ فالتقليل بمعنى العدم، مثل مررت بأرض قل ما تنبت [البقل*]. قوله تعالى: {ذَرَأَكُمْ ... (24)} الذرأ ثاني رتبة عن الخلق. قوله تعالى: {مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (25)} سماه [وعدًا*] مع أنه وعيد، إما لأنهم يسألون المؤمنين عن الثواب الذي يناله المؤمنون متى يكون، وإما وعد للمؤمنين وتبشير لهم بنصرهم عليهم، أي هذا الذي بشرتم به من نصركم علينا متى هو. قوله تعالى: {سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ... (27)} المراد بالوجوه إما الحقيقة، والمراد أنهم نالهم عذاب حقيقي تغيرت منه وجوههم فقط لمعاينته دون الحلول فيه، وإما مجاز عن [عذابهم كليا*] فيكون العذاب حسيا في جميع أبدانهم، أي لما عاينوه نالهم دخانه [وشرره*]، وغالب

(29)

الاستعمال أن الوجه إنما يعبر عن الذات عند إرادة التشريف، فيعبر عنها بأشرف الأشياء، قال تعالى (وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ)، وفي حديث مسلم [سَجَدَ وَجْهِي لِلَّذِي خَلَقَهُ*] وأوقع الظاهر موقع المضمر، فلم يقل وجوههم إنما تعظيما لهول ما اتصفوا به، وتنبيها على السبب الذي استحقوا به ذلك العذاب. قوله تعالى: {آمَنَّا بِهِ ... (29)} هذا ماض متصل بالحال، فهو بمعنى اسم الفاعل، وفيه دليل على جواز أن يقال: أنا مؤمن دون زيادة إن شاء الله تعالى، وتقدم الكلام على ذلك في سورة الأنفال، وأورد الزمخشري سؤالان: وهو لو قال (آمَنَّا بِهِ)، فأخر المجرور، ثم قال (وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا)، فقدمه، وأجاب: بأنه تعريض لهم لاتصافهم بعدم الإيمان انتهى، ويرد بأنه لو أريد التعريض بهم، لقيل به آمنا فيفيد الحصر والاختصاص، وإنما الجواب: أنه لما عهد في الشرع خصوصية التوكل بالله تعالى أتى به محصورا، وأتى به في الشرع عدم اختصاص الإيمان بالله تعالى، قال تعالى (قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ)، وقال تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ) الآية، وفي حديث القدر "أَخْبِرْنِي عَنِ الْإِيمَانِ، قَالَ: «أَنْ تُؤْمِنَ بِاللهِ، وَمَلَائِكَتِهِ" الحديث فلذلك [لم يأت*] به محصورا. قوله تعالى: (فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ). استغنى بهذا عن ذكر [من لم يذمه*] أي ومن هو مهتدٍ. قوله تعالى: [(إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا ... (30) *] إن قلت: هلا قيل: إن أصبح ماؤكم عدما، فهو أعجب وأغرب، ولأن الزمخشري حكى عن بعض الشطار أنه قال: [تجيء به الفئوس*] والمعاول، فلو قيل: إن أعدم ماؤكم لما اغتر هذا الضال، وقال ما قال، لأن العدم لَا تخرجه [فئوس*]، بخلاف الغائر فإِنه يتوهم أن [الفئوس*] تكشف عنه؟ فالجواب: أن هذا أبلغ في باب التخويف، لأنهم إذا عجزوا وخوفوا بعدم إدراكهم الماء إذا غار في الأرض، فأحرى أن لَا يقدروا عليه إذا عدم من أصل. قوله تعالى: (مَعِينٍ). ابن عطية: فعيل من مَعَنَ الْمَاءَ، إذا [كَثُرَ*]، أو مفعول من العين أي جار على العين أصله معيون انتهى، اشتقاقه من العين الجارية صحيح، لكن كونه بمعنى مفعول باطل،

لأن فعل العين غير متعد، [فيقال*] عان يعين، أي جرى يجري، والفعل القاصر لَا ينبني منه مفعول، [من*] فعل العين، فإن قلت: إنه متعد بحرف الجر؟ قلت: كان يجب ذكره معه، فيقال: معين فيه كما يقول: [ممرور به*] ولا يجوز [ممرور*]، وكان الشيخ عبد السلام القاضي يحكي عن سيدي أبي محمد المرجاني نفع الله به أنه كان يقول جواب هذا الاستفهام، وهو (الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ). * * *

سورة (ن والقلم)

سُورَةُ (ن وَالْقَلَمِ) [(ن وَالْقَلَمِ ... (1) *] النون والقلم إن فسرناه بالمعهودين، ليس منحصرا صدوره من القلم، بل بإيجاد الله تعالى أو بواسطة أداة غير القلم لم يقدم القلم على النون. قوله تعالى: {مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2)} انظر الزمخشري: ما اعترضه به أبو حيان وما أجاب به المختصر السفاقسي، وحاصله أن أبا حيان منع تسلط النفي على الشيء دون ما قيد به، والسفاقسي أجازه، والصواب أن يقال: إما أن يقدر ذلك القيد داخلا قبل النفي وبعده، فإن كان قبله لزم من نفي ما هو قيد فيه نفيه هو، وإن كان بعده فالقيد مثبت، والجنون [منفي*] أي ما أنت بسبب وجود نعمة ربك مجنون، فيكون قيدا في النفي، لَا في الجنون المنفي. قوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)} الإتيان بلفظ (على) إشارة إلى حصول ذلك له دون [تكلف*]، وهذا إشارة إلى شدة جهلهم وغباوتهم؛ لأن الحق العظيم في غاية الجلاء والوضوح، فمن يكذب به في غاية الجهل والغباوة، قال عياض في الشفاء الخلق العظيم: قيل: هو القرآن، وقيل: الإسلام، وقيل: الطبع الكريم، وقيل: ليس لك همة إلا الله، قال الواسطي: أثنى عليه بحسن قبوله لما ابتدأه إليه من نعمه وفضله [بذلك*] على غيره، لأنه [جبله*] على [ذلك*] الخلق ثم أثنى على فاعله وجازاه عليه، ثم تلاه على قولهم بما وعده من عقباه وعقابهم بقوله تعالى: (فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ)، ثم عطف بذم عدوه فقال تعالى (فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ)، إلى قوله تعالى: (أسَاطِيرُ الأَوَّلينَ)، فذكر بضع عشرة خصلة من الذم [ختمت*] بتمام شقائه فقال تعالى (سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ)، فكانت نصرة الله [له*] أتم من نصرته لنفسه. قوله تعالى: {فَسَتُبْصِرُ ... (5)} عبر بالمسقبل مع أنه صلى الله عليه وسلم عالم بذلك في الحال، لأن الخطاب بذلك عام في جميع النَّاس، وكل واحد لَا يدري بماذا يختم له من ضلال أو هداية. قوله تعالى: {هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ ... (7)} عبر بالماضي لما كان الضلال راسخا فيهم ذاتيا لهم، وكذلك أبقى الجملة مؤكدة بـ (إِنَّ) والباء. قوله تعالى: (بِالْمُهْتَدِينَ).

(8)

عبر بالاسم هنا، وقال في سورة النجم (هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى)، فعبر بالفعل؟ والجواب: أن المراد بتلك الآية عموم تعلق علمه بمن اتصف بمطلق الضلال، ومن اتصف بمطلق الهداية، والمراد بهذا المدح والثناء على النبي صلى الله عليه وسلم، فعبر فيها بالاسم الدال على ثبوته على الهداية واتصافه بأكمل صفاتها وأبلغها. قوله تعالى: {فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (8)} الموافقة والمساعدة والطاعة مترادفة، فخصص الطاعة منها لاستلزامها سلب المشاركة في فعلهم ومعبودهم، فالنهي عنها أبلغ، وهذا الخطاب إن كان للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فهو لشدة [تأسفه*] على عدم إيمانهم، فهي من ذلك كما قيل له في الآية الأخرى (جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ)، وإن كان الخطاب لغيره، فنهي عن الطاعة مطلقا، والطاعة عند الأصوليين موافقة الأمر، فيكون فيه دليل لقول ابن عرفة: [لا*] يشترط في الأمر العلو؛ بل الاستعلاء فقط، لأن هؤلاء ليس فيهم علو شرعا، وإنما فيهم الاستعلاء. قوله تعالى: (الْمُكَذِّبِينَ). دليل لصحة قول من قال: إن الحكم إذا علق بمشتق من صفة، فإنه غير معلل بتلك الصفة للإجماع لابن التلمساني، فإن قلت: هنا قرينة أفادت أن النهي عام؟ قلت: الأصل عدم القرينة. قوله تعالى: {فَيُدْهِنُونَ (9)} إن قلت: لَا يصح أن يكون معطوفا على (تُدْهِنُ)، لأن التمني لَا يكون إلا فيما يمكن وقوعه، فيلزم أن يتمنى الإنسان فعل غيره، [والتمني*] لَا يتعلق بفعل غيره، قلت: هو مسبب ناشئ عن دهنه، فليس هو بفعل الغير صرفا، وفيه نظر لأنهم خلطوا بين التمني والترجي؛ بأن التمني يكون في الممكن وفي المستحيل؛ بخلاف الترجي، واحتجوا بقول الشاعر: يَا لَيْت أَيَّام الصِّبَا رَوَاجعَا وليت للتمني. قوله تعالى: {وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ ... (10)}

(14)

قيل: هو نهي عن الأخص، فلا يستلزم النهي عن الأعم، وفيه رد على من قال: إن (كل) إن كانت بعد نهي أو [نفي*] عمت، لأنها نزلت في شخص، وذكر ابن الصفار في شرح سيبويه أن الشلوبين نقل عن ابن أبي العافية: أن (كلًّا إذا كانت منصوبة لَا تفيد العموم، وإذا كانت مرفوعة تفيده [كقوله*]: قَدْ أصبحَتْ أمُّ الخِيارِ تَدَّعي ... عليَّ ذَنْباً كلُّه لم أَصْنعِ وفيه [ ... ] وتعقبه عليه الشلوبين، وقال: لم [يحكه*] سيبويه بوجه، قال ابن الصفار: بل حكاه سيبويه في باب المنصوب انتهى، والذي حكى الأصوليون أنها تفيد العموم مطلقا، وهي هنا كلية، فمن اتصف بإحدى هذه الصفات يكون منهيا عن طاعته، فإِن قلت: فما وقع منه صلى الله عليه وعلى آله وسلم في صلح الحديبية من طاعتهم؟ قلت: إنما ذلك موافقة، [والموافقة لا تقتضي*] طاعة؛ كما هو موافق لهم في [الاعتراف*] بوجود الله تعالى، أو يكون ذلك بوحي، وقد وافقهم على أن [من يأتيه منهم*]، [يرده*] عليهم، وعلى ذلك وقع صلح الحديبية. قوله تعالى: {أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ (14)} إن قلت: يؤخذ منه ترجيح الفقر على الغَناء، لأن الغَناء سبب طغيان هذا؟ فالجواب: إن هذا إنما طغى بمجموع المال والبنين، وقدم هنا وفي سورة الكهف المال على البنين؛ بخلاف ما في آل عمران؟ والجواب: أن مناط الشهوة في الأعم النساء، ومناط الزينة في الغالب المال، وأما البنون فمحبتهم أشد من محبة المال، لأن الإنسان يفدي ولده بماله كله، وقدم هنا المال؛ لأنه أقوى الأسباب في الطغيان، قال السهيلي: [ ... ] الاتصاف إلا إلى ما هو أشرف منه وعكسه صاحب، فتقول أبو هريرة صاحب رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ولا تقول محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم صاحب [أبي*] هريرة، قال تعالى (وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا)، وقال تعالى (وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ)، انتهى، وانظر ما قال عياض في الشفا: فإِن صَاحبكم (¬1)، وانظر قوله تعالى: (وَمَا صَاحِبُكُم بِمَجْنُونٍ). قوله تعالى: {عَلَى الْخُرْطُومِ (16)} إن قلت: لم عدل الإضافة فلم يقل على خرطومه؟ قلت: لأن الإضافة فيها نوع استحقاق واختصاص، فعدل عنها لسلب هذا المعنى حتى كأنه لَا يستحق أن [يُجعَل*] له خرطوم، لعدم المبالاة به، فيصير الأنف منه أجنبيا عنه. ¬

_ (¬1) النص في الشفاء هكذا: "وَإِنَّ صَاحِبَكُمْ خَلِيلُ اللَّهِ". اهـ.

(17)

قوله تعالى: {كَمَا بَلَوْنَا ... (17)} التشبيه إما معنى بمعنى أو محسوس بمحسوس، لأن (ما) إما مصدرية، أو موصولة بمعنى الذي، ويقع [بمن تعلق سببه، وبمن لم يتعلق*]، قال تعالى (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ) وقال تعالى (وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا)، والعقوبة لَا تقع إلا بمن فعل [شبهها*]، وهم [لم يفعلوا*]، لكن عزموا على الفعل، قال القرطبي: [يؤخذ منه*] أن العزم على الفعل يؤاخذ به. قوله تعالى: {وَلَا يَسْتَثْنُونَ (18)} يحتمل أن يكون مقسما عليه [أو لَا*]، الزمخشري: فإن قلت: لم سمي استثناء، وإنما هو شرط؟ قلت: لأنه يؤدي [مؤدى*] الاستثناء من حيث إن [معنى قولك*] لأخرجن إن شاء الله، ولا أخرج إلا أن يشاء الله. واحد انتهى، موجب هذا السؤال أن الاستثناء بالمشبه إن كان حقيقة لغوية فما وجهه، لأنه شرط الاستثناء، وإن كان في الشرع [مجازا*] فأين العلاقة. قوله تعالى: {فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ ... (19)} إن قلت: هلا قيل: من الله من العزيز الجبار، فإِن لفظ الرب يشعر بالرحمة والرأفة، والمحل محل العزة والانتقام؟ فالجواب: من وجوه: الأول: أنه تخويف لقريش، أي إذا نالهم هذا مع استشعار الرحمة، فأحرى مع استشعار العزة والانتقام. الثاني: أن السؤال إنما [يَرِدُ*] لو قال: طائف من ربهم، وإنما قيل: من ربك. الثالث: أن [مآلهم*] عاقبته الرأفة والرحمة، لَا العقوبة؛ لأنهم تابوا أو حسنت توبتهم. قوله تعالى: (وَهُمْ نَائِمُونَ). إن قلت: ما أفاد مع أنه مفهوم؟ فالجواب: من وجوه: الأول: أنه إشارة إلى أنهم أخذوا حالة أمنهم وطمأنينتهم. الثاني: [لما*] قصدوا صرامها في خفية عن المساكين، فعوقبوا بخسفها في خفية عنهم. الثالث: هو إشارة إلى أن السبب في عقوبتهم بذلك مجرد عزمهم على صرامها خفية عن المساكين، أي عوقبوا به وهم في حالة لم يشتغلوا فيها بمعصية ولا مخالفة،

(22)

بل كانوا نائمين فما الموجب لعقوبتهم إلا مجرد عزمهم وقسمهم، وعادة الله في إهلاك أكثر الأمم كونه على غرة وغفلة. قوله تعالى: {أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ ... (22)} عداه بـ على، لأن الذي يقطع ثمر النخل يستعلي عليها. قوله تعالى: (إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ). صرام النخل بالفعل متأخر عن الغدو عليها، فلا يكون عليها شرطا في الغدو، ولأن الشرط متقدم على المشروط، فيتعين أن المراد إن كنتم عازمين على صرامها. قوله تعالى: {قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (29)} وقال تعالى بعده (يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ) لأن الظلم معصية قاصرة على نفس الإنسان، والطغيان معصية متعدية لغيره، [وهم*] ظلموا أنفسهم بقسمهم وعدم استثنائهم، وطغوا على المساكين بعزمهم على منعهم من عادتهم. قوله تعالى: {عَسَى رَبُّنَا ... (32)} قال ابن عصفور: [كل ما*] وقع في القرآن من عسى [فهي*] واجبة، إلا قوله تعالى: (عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ)، وتقدم الرد عليه، واستثناء هذه [لو كان*] صوابا، لأن التبديل هنا لم يقع إلا أن يجيب: بأن ذلك في عسى، إذا كانت من الله تعالى، وهذه من كلام أصحاب الجنة. قوله تعالى: {وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ ... (33)} وقف بعضهم على أكبر، وجواب لو محذوف أي لاهتدوا، وهو حسن. قوله تعالى: {إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ... (34)} تقديم المجرور هنا واجب، لأن الضمير في (رَبِّهِمْ) يعود عليه، فلو أخر عليه لأدى إلى عود الضمير على ما بعده لفظا ورتبة. قوله تعالى: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35)} ابن عطية: لما نزلت (إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ)، قالت قريش: إن كانت جنات، [فلنا*] فيها [أكبر الحظ*]، فنزلت (أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ) انتهى، لو كان كما قال: لقيل: أفنجعل المجرمين كالمسلمين، لأنهم أثبتوا للمسلمين فيها حظا، وادعوا أن لهم مثله [وأكبر منه*]، فلو روعي في الآية مقتضى السبب لقيل: أفنجعل

(36)

المجرمين كالمسلمين، وإنما رِوعي فيها مناسبتها لما قبلها، لأنه لما قال في آية المجرمين (وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ)، فأتى فيه مطلقاً غير محصور فيهم، وعقبه بقوله تعالى: (إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ)، أتى بهذا التشبيه نفيا لما قد يتوهمه أحد من أن ذلك العذاب قد ينال المتقين بعضه، وإن قلَّ؛ أي [أفنجعل*] المسلمين في العذاب كالمجرمين، أي ليسوا مثلهم في لحوق العذاب، فلا [يلحقهم*] منه شيء ألبتَّة، قيل: [أفنجعل*] المتقين، وقال الزمخشري: معناه [أنحيف في الحكم*] فنجعل المسلمين كالمجرمين، فإن قلت: هلا قيل: أفنجعل المتقين كالمجرمين؟ قلت: كلما ناقض الأعم شيئا ناقضه الآخر. قوله تعالى: [(مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36) أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ ... (37) *] هذا الترتيب على ما يقوله الأصوليون من أن المنقولات السمعيات فرع للمعقولات، أي هل لكم على دعواكم دليل عقلي نظري؟ أم لكم دليل سمعي نقلي وجدتموه في كتبكم الذي تدرسونها؟ قوله تعالى: (فِيهِ تَدْرُسُونَ). لم يقل: [فيه تحفظون*]، فأجاب بعضهم: بأن الغزالي في المستصفي في باب الاجتهاد، وإمام الحرمين في البرهان: [أجابا*] بأن المجتهد لَا يجب عليه حفظ القرآن، وإنما [يطالب*] بحفظ آيات الأحكام فقط، قال الغزالي: وهي خمس مائة آية، ولا يلزمه حفظ آيات القصص والأخبار، وعبر بالدرس دون الحفظ أو القراءة إشارة إلى [قولهم:*] إن العلم لَا يحصل إلا بالتكرار والممارسة والدراسة، وكذا حكى ابن سهل في أحكامه: أن اللؤلؤي سئل [عمن*] يوصي بعبده لبعض ورثته، إن أجاز باقيهم، فإن لم يجيزوه له فقد أوصى بعتقه من ثلثه، فأفتى بأن الوصية ماضية، وخطأه فيها ابن زرب وغيره، والمسألة منصوصة في المدونة في آواخر العتق، الثاني: قال ابن سهل وما سبب ذلك إلا أنه كان في آخر عمره، ترك دراسة العلم ومطالعة الكتب لكبر سنه [فنسي*] كثيرا من مسائله، وحكى المازري في العلم في حديث: " [مَنِ اقْتَطَعَ شِبْرًا مِنَ الْأَرْضِ ظُلْمًا، طَوَّقَهُ اللهُ إِيَّاهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ سَبْعِ أَرَضِينَ*] "، أن شيخه عبد الحميد الصائغ انقطع في آخر عمره للعبادة، حتى كان إذا سئل عن بعض المسائل، يتوقف فيها ويحيلنا على غيره.

(38)

قوله تعالى: {فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ (38)} ظاهره حجة لمن يقول: بأن [في كل*] نازلة للمجتهد أن يحكم بما شاء على القول بأن ليس لله في كل نازلة حكما معينا، وأما على القول بأن له في [كل*] نازلة حكما معينا، فلا يحكم إلا بما أداه إليه اجتهاده. قوله تعالى: {أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ ... (39)} أي عهود ومواثيق، والمراد بالكتاب الذي فيه يدرسون ما اشتمل عليه الكتاب من الألفاظ الظاهرة الدلالة، والمراد بالأيمان [البالغة*] الألفاظ الدالة قضاء، أو المراد بالأول النص، وبالثاني [**تركيب الخصوص]، أو المراد بالأول: الدليل السمعي المعجزي، وبالثاني: الدليل السمعي غير المعجزي، فإِن الوحي قسمان، فالقرآن معجز، والسنة غير معجزة. قوله تعالى: (إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ). يحتمل أن يكون ابتداء كلام، أي لكم لحكما إذا كان ذلك، والغرض أنه لم يكن فلا حكم لكم، وجعل الزمخشري الأول قسما وهذا جوابه، أي [أم ضمنا منكم*] وأقسمنا لكم بأيمان مغلظة [متناهية*] في التوكيد (إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ). قوله تعالى: {سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ (40)} لو قيل: أفيهم أو هل فيهم زعيم بذلك، لكان المعنى السؤال عن وجوه الزعيم فيهم بالأصالة، وإنما قيل: سلهم أيهم بذلك زعيم، فإِما أن يكون المعنى أنهم ادعوا أن فيهم زعيما بذلك، أي ضامنا متكفلا بتصحيح ما قالوه، فيسألوا عن تعيين ذلك الشخص الزعيم فالسؤال حقيقة، وإما أن لَا يكونوا ادعوا أن فيهم زعيما بذلك، فيكون السؤال مجازا من باب نفي الشيء بإيجابه، كقوله: عَلَى لَاحِبٍ لَا يَهْتَدِي بِمَنَارِهِ، أي ليس له منار فيهتدي به، والمعنى ليس لهم زعيم فيسألون عن تعيينه، فالسؤال تعجيز لهم، أو من باب انتفاء الشيء لانتفاء ملزومه، لأنه [تعالى*] أمره عليه الصلاة والسلام أن يسألهم عن تعيين، وكذلك الكلام في (أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ)، وتفسير القرطبي الزعيم [بالرسول*] ضعيف، لأنهم ما ادعوا قط أن فيهم رسولا، وليس القرطبي من أهل التفسير (¬1)؛ لأنه يجلب الغث والسمين، وما زال الشيوخ لَا يعتبرون كلامه في التفسير. قوله تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ ... (41)} ¬

_ (¬1) ذكر هذا التفسير بعض المفسرين غير القرطبي، منهم: الماوردي، والثعلبي، وابن الجوزي، والمراد بالرسول كما فسره مكي بن أبي طالب "المتكلم عن القوم" وهذا نصه في تفسيره: "زعيم" معناه: ضمين. والزعيم أيضاً المتكلم عن القوم" اهـ، وبهذا لا وجه لما أبداه ابن عرفة من اعتراض وتحامل على القرطبي - رحمهم الله أجمعين. اهـ (مصحح نسخة الشاملة).

(42)

حمله ابن عطية على أصنامهم وآلهتهم التي ادعوا أن لها نصيبا في العبادة، كما قال تعالى (وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ)، وحمله الزمخشري على الشركاء الموافقين لهم في العبادة، والظاهر الأول، إذ ليس ثم [كفارٌ ولا لهم*] نظائر في شركهم، وأيضا فيعكسون هم ويقبلون النكتة، فيقولون: هل لكم أنتم من يوافقكم في توحيدكم وعبادتكم، والسؤال هنا على حقيقته اللغوية، فالمراد به مطلق الطلب في اصطلاح الأصوليين، لأن السائل هنا أعلى من المسئول. قوله تعالى: {وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ (42)} الاستطاعة في اصطلاح المتكلمين هي القدرة على الفعل، ومن شرط القدرة عندهم مقارنتها لمقدورها، لأن الغرض عندهم لَا يبقى زمنين، فلا يقال في الجالس المتمكن من القيام، [لا يستطيع*] القيام حتى يقوم بالفعل، وأما في اللغة فهو التمكن من الفعل، فإذا فسرناه بالمعنى اللغوي فيصدق عليهم كانوا قبل ذلك مستطيعين، كما قال الزمخشري، ثم يعود ظهرهم طبقا، كما في البخاري في آخر كتاب منه. قوله تعالى: {وَهُمْ سَالِمُونَ (43)} كان بعضهم عند قراءة هذا المحل [يصيح*] ويقول: والله ما سلموا، وهذه [قَلقَةٌ*] لكن مراده صحيح، لأن معنى سالمون متمكنون من الإتيان بالتكليف حتى لَا عذر لهم، ومعنى قول القائل: ما سلموا، أي أن اللَّه علم أنهم لَا يؤمنون ولا [يهتدون*]، فهو من باب التكليف بما علم الله أنه لَا يقع، ولو لم يكن هذا مراده، [لكان*] كفرا لمخالفته صريح الآية، فحاصله عدم [اتحاد*] المثبت في (سالمون) والمنفي في ["ما سلموا"*]. قوله تعالى: {إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (45)} قيل: يؤخذ منه جواز إطلاق مثل هذا من غير توقف - على مقابله؛ كـ[(مَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ) *] أجيب: بأن القرينة السياقية كاللفظية. قوله تعالى: {فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ ... (48)} الحكم هنا القضاء الذي هو صفة [فعل*] الخطاب المتعلق بأفعال المكلفين. قوله تعالى: (وَهُوَ مَكظُومٌ). كون الحال جملة، وهو أبلغ من كونها مفردا، لأن في الجملة إسنادين:

(50)

أحدهما: المحمول، والثاني: ضميره العائد على الموضوع، والموضوع مسند أيضا إلى صاحب الحال، ففيه التقوية، وزيادة الاعتناء ثلاث مرات، وذلك مفقود فيما إذا كانت مفردة. قوله تعالى: {فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ ... (50)} إن قلت: القصد بذكر المشبه به الذي [هو*] حال صاحب الحوت للمشبه، وهو النبي صلى الله عليه وسلم التنفير عن الاتصاف بحالته التي هو فيها [مملوء غيظا*]، وهذه الأوصاف لَا مدخل لها في التنفير، بل ربما يفهم منه نقيضه، فما وجه إردافها لحالة التنفير؟ فالجواب: أنه نفي لما يتوهم من [جعْلِ*] قدرٍ مناسبٍ للأنبياء من هذه الحالة من الغضب [يوجب*] نقصًا فيهم. * * *

سورة الحاقة

سُورَةُ الْحَاقَّةِ فسر الزمخشري (الْحَاقَّةُ (1) .. بثلاثة تفاسير: الأولان: حقيقة، والثالث: مجاز. قوله تعالى: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ (4)} القارعة من أسماء القيامة، ويرد في الآية [ما*] يذكره البيانيون في حسن الائتلاف، وهو أن الذي يقتضيه حسن الائتلاف، كذبت ثمود وعاد بالحاقة، والجواب من وجهين: الأول: أتى أولا بلفظ الحاقة دليلا على ثبوتها، [وتقرير*] حقيقتها في النفوس ثم عقب ذلك بلفظ القارعة الدالة على ما اشتملت عليه من الأهوال والقوارع والزواجر. الثاني: وصفها أولا فيما يرجع إلى حالها في نفسها، وهو كونها حقا ثابتا، وذكر ثالثا: حالها باعتبار صفتها، ولا شك أن حكم الذات متقدم [على*] حكم صفتها، فذكر أولا حكمها في ذاتها، ثم حكمها في صفتها. قوله تعالى: {سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ ... (7)} لم يقل: سلطها عليهم لما يقتضي لفظ التسخير من سيرها على حكم الله تعالى. قوله تعالى: (سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ). اختلفوا في مسمى [اليوم*]، هل هو النهار أو مجموع الدورة، ووقع في كتاب العتق الثاني من المدونة ما يدل على أنه النهار، فيمن قال لعبده: إن أديت اليوم مائة دينار فأنت حر، [فمضى*] اليوم، ولم يؤد إليه شيئا فلابد من التَّلَوُّمِ له، وهذه الآية تدل على أنه النهار؛ لذكره في مقابلة الليل، فلو كان في اللغة [مجموع*] الدورة للزم هنا في إطلاقه على النهار، إما الاشتراك أو المجاز، وكلاهما مرجوح، لأن الأصل في الإطلاق الحقيقة، وروى ابن عطية عن ابن عباس: لم ينزل من السماء [قطرة ماء إلا*] بمكيال [على يد ملك*]، ولا هبت ريح إلا كذلك، إلا ما كان من طوفان نوح وريح عاد، فإِن الله أذن لهما في الخروج من غير إذن الخزان، وقال الزمخشري: روي عن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وذكر مثل ما تقدم، قال: فإن الريح [عتت*] على الخزان، فلم يكن لهم عليها سبيل، وكذلك الماء يوم نوح انتهى، فإن قلت: ابن رشد ذكر في جامع البيان أن الله تعالى ما أرسل على قوم عاد من الريح إلا مقدار الخاتم، فتراه أرسل عليهم بمقدار، فكيف يفهم ذلك مع قال المفسرون هنا؟ فالجواب: أنه فتح لها مقدار الخاتم ولا يدري مقدار ما يخرج، إلا الله عز وجل فهي تخرج بلا كيل، وفي العتبية سئل: هل

(8)

تكره الحجامة والاطلاء يوم الأربعاء ويوم السبت، لأن [الحسوم*] على هؤلاء دخلت بالأربعاء، فقال: لَا أرى بذلك بأسا. قوله تعالى: (حُسُومًا). أعربوه حالا مع أنه من المضاف إليه، لما تنزل المضاف منزلته صح وقوعه منه نحو (كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا)، إذ مثل [الحمار حمار*]. قوله تعالى: {فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ (8)} استفهام في معنى النفي، أي أهلك جميعهم، فلم يبق لهم شيء، فإِن قلت: قد قيل: إن هذه [ ... ] العادية التي عند قرطاجنة من بنائهم، وقد أخبر بذلك سيدي محمد نفع الله به في كتاب كراماته، أنه التقى عند المعلقة بالخضر عليه السلام، فأخبره بذلك وبأشياء من أمورها غير واحدة، قلت: المعنى أنهم لم تهلك منهم إلا الكفار، [فاستؤصلوا*] ولم يبق منهم، قال تعالى (وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ). قوله تعالى: {وَمَنْ قَبْلَهُ ... (9)} هذا العطف يدل على أن الواو ليست للترتيب، لأن مجيء فرعون متأخر عن مجيء (مَنْ قَبْلَهُ)، إلا أن يقال: أنه ترتيب في اللفظ، [قال الفخر: قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَعَاصِمٌ وَالْكِسَائِيُّ*]، (وَمَنْ قِبَلِهِ) والباقون (وَمَنْ قَبْلَهُ)، ولم يحك أبو عمر المدائني هذه القراءة عن عاصم، وسئل شيخنا ابن عرفة: هل السبع متواتر أو لَا، فقال: أما مصحف عثمان فلا خلاف أنه متواتر، وعثمان لم يضع غير الأحرف فقط، وأما الشكل والنقط فلم يضعه، وكان النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أقرأ النَّاس بقراءات كثيرة، أنزل بها القرآن، فبعضهم نقل عنه قراءة، وبعضهم نقل عنه أخرى؛ كما في حديث حكيم بن حزام، أنه قرأ سورة الفرقان على غير ما كان عمر يقرأها، فاختلفا حتى قال لهما النبي صلى الله عليه وسلم: "إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف، فاقرءوا ما تيسر منه"، فنسخ منه عثمان رضي الله عنه سبع نسخ، وقيل: ست، وقيل: أربع، وبعث لكل قطر نسخة، وحرَّق ما خالفها لَا لكونه باطلا، بل لكونه غير مجمع عليه، ففي الشواذ ما هو صحيح لكنه غير مجمع عليه، كما أن في الأحاديث الصحاح ما ليس في كتاب مسلم والبخاري، فلما مر كل مصحف لقطر قرأها أهل ذلك القطر بتلك الأحرف، وقرءوا فيما يرجع إلى [التزام الضبط*]، كالمد [والقصر*] والإمالة والترقيق والتفخيم بما رواه بعضهم عن [بعضٍ*] بالسند الصحيح إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وأما ما وقع في السبع من

(10)

زيادة الأحرف كقراءة [من سوى*] نافع وابن عامر (وَسَارِعُوا) بالواو، وقراءة ابن كثير (مِنْ تَحْتِهَا) في براءة، بزيادة (مِنْ)، وقراءة نافع وابن عامر في سورة الحديد (وَاللَّهُ الغنِي) بحذف [هو*]، [والباقون بزيادتها*]، فهو من اختلاف نسخ عثمان فثبتت من في المصحف المنفي دون ما عداه، [وأثبتها*] هو فيما عدا المصحف الثامن [ووجه الجمع*] أن عثمان أسقطها [قصدا*]؛ لكونه صح عنده إثباتها [وإسقاطها*]، واختلف النَّاس في القراءات السبعة بعد اتفاقهم على ما في مصحف عثمان على أربعة أقوال: الأول: أن الضبط والأداء بنية النطق من إعراب وإمالة ووقف وما يرجع [لإفادة*] الكلام في [ذاته*] [كـ (مَلِكِ)، [و (مَالِكِ)، (يَخْدَعُونَ) *] و (يُخَادِعُونَ) ظاهر نقل الإبياري في شرح البرهان عن الداوودي، أنها غير متواترة باعتبار الأمرين معا، وحكاه مكي في الكشف، وظاهر كلام ابن الحاجب: أنه لَا خلاف في تواتر مثل قراءة (مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ)، و (مَلِكِ). الثاني: إنها متواترة باعتبار الأمرين مطلقا، نقله الإبياري عن إمام الحرمين أبي المعالي [القول*] الثالث: إنها متواترة عند القراء فقط، المازري في شرح البرهان الرابع [إن ما*] يرجع [ ... ] متواترة، وما يرجع [لكيفية*] النطق غير متواترة، قاله ابن العربي في القواصم والعواصم، والإبياري ومن قرأ في الصلاة بقراءة يعقوب فصلاته صحيحة، قاله مكي في الكشف، وكذلك من يقرأ بالشاذ فصلاته صحيحة، وهذا في الشاذ الذي لم يقرأ بواحد القراء السبعة باعتبار إعراب أو إمالة أو نحو ذلك مما يرجع [لكيفية*] النطق بالكلمة مع ثبوتها في مصحف عثمان، وأما الشاذ الذي هو بلفظ غير ثابت في المصحف كقراءة عمر (إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فامضوا إلى ذكر الله)، فلا تجوز القراءة [به*] في الصلاة، قال المازري في شرح البرهان اتفاقا، وقال في شرح التلقين تخريج اللخمي عدم إعادة المصلي بها خطأ وزلة، وأما القراءة به في غير الصلاة فالأكثر على منعها، قاله مكي وعياض، اتفق فقهاء بغداد على [استتابة*] [**المبرد] أحد [المقرئين*] بها مع ابن مجاهد بشواذ من الحروف مما ليس في المصحف، وقال ابن عبد البر في التمهيد: روى ابن وهب عن مالك جواز القراءة في غير الصلاة، وكذا قال الإبياري: المشهور من مذهب مالك أنه لَا يقرأ بها، وحكى ابن العربي في القواصم والعواصم ومكي في الكشف: أن يعقوب كان في [السبع*] وأخرج وأدخل [**الكناني]، قيل: برشوة، وقيل: بالإنصاف. قوله تعالى: {فَعَصَوْا ... (10)} يدل على أن الفاء للجمع بين الشيئين من غير ترتيب، لأن العصيان واقع مع المجيء لَا بعده، ولا يتوهم في الآية التكرار، لأن [مجيئهم*] بالخاطئة وهو معصيتهم بعدم

(11)

إيمانهم، وعصيانهم الرسول هو عدم تصديقهم بالنبوات، فإن قلت: هلا قيل: رسول الله، [أو رسول*] الجبار فهو أبلغ في التخويف؛ لأن معصية الإنسان لمن يعلم أنه جبار منتقم أدل على [جرأته*] وعدم خوفه، فالجواب: أنه تقرير الفرق بين قولك عصى فلان فلانا فضربه، وبين قولك عصا أباه فضربه، فالثاني أشد؛ لأن ضرب الأب ولده، إنما يكون على شدة المخالفة، وهو في الأكثر يسمح له ويتجاوز عنه، فضربه له دليل على سوء عصيانه ومخالفته إياه. قوله تعالى: {لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ ... (11)} فيه سؤال تقريره أن [**فوران الماء متأخر عن شرطها واقع بعقبه]، وطغيان الماء مسبوق بفورانه، فالحمل في السفينة بعد طغيان الماء المتأخر عن فورانه، وقال في هود (وَقَدْ أَفْلَحَ)، (حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا)، فاقتضت الآية أن الحمل فيها يعقب الفوران، فهو قبل الطغيان لَا بعده، وجوابه: أن الحمل فيها حالة كونها سائرة لقوله تعالى: (فِي الْجَارَيةِ)، والحمل فيها المراد به أوائل الحمل، وهو حالة كونها [واقفة*]، وهو متقدم على حالة سيرها، ابن عطية: قال قتادة: علا الماء على كل شيء خمسة عشرة ذراعا، انتهى، مراده تحديد أقل العلو لَا أكثره، أي [أعلى*] شيء فعلا جبل في الأرض خمسة عشرة ذراعا، وأما أخفض بقعة [في*] الأرض فعلا عليها أكثر من ذلك، وحكى ابن عطية عن منذر أنها سفينة نوح، وعن المهدوي إن معناه في السفن الجارية. انتهى، والأول أصح لوجوه: أحدهما: أن الخطاب لأهل مكة وليس [عندهم نحوه*]. الثاني: قرينة قوله تعالى: (طَغَى الْمَاءُ)، فيدل على أنه زمن الطوفان في مدة نوح. الثالث: أن الجارية لفظ مفرد؛ إلا أن يقال: المراد به الجنس، وفيه بعد، فإن قلت: يلزم على الأول المجاز، أي حملنا إياكم، وعلى الثاني يكون حقيقة، قلت: بل هو حقيقة في الجميع لأنا كنا في ظهر نوح عليه السلام ومن معه. قوله تعالى: {لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ (12)} قيل: التذكر متأخر عن سماع الخبر، فهلا أخر عنه؟ أجيب: بأن التذكر لمن أدرك سفينة نوح وشاهدها، وكان فيها، وسماع الخبر لمن بعد، قيل: لو كان كذلك لقيل: "ليجعلها لهم" بضمير الغيبة؟ أجيب: بأنه لما [اشتمل*] اللفظ على مخاطب

(17)

وغائب، غلب ضمير المخاطب على الغائب، لأنه أبلغ حسبما نصوا عليه، وأورد الزمخشري سؤالين: لأي شيء [أُفردت*] أذن، ولأي شيء نكرت؟ وأجاب [عن*] الأول: بأن فائدة إفرادها الإيذان بأن [الوعاة*] فيهم قلة، فأفردت لتوبيخ النَّاس بقلة من يعي منهم، وعلل الثاني: بأنها نكرت للدلالة على أن الأذن الواحدة إذا [وعت وعقلت*] عن الله فهي السواد الأعظم، فنكرت للتعظيم. قوله تعالى: {وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا ... (17)} قال الزمخشري: الملك أعم من الملائكة، واستدل بالنفي كقولك: ما من ملك إلا وهو شاهد، هو أعم من قولك: [ما من ملائكة*]، أبو حيان: لَا نسلم أعميته، بل هما متساويان؛ كما أشار إليه ابن الحاجب في باب العموم في الجمع المنكر انتهى، وهم الزمخشري، لأنه لَا يلزم من [أعمية*] النفي نقيضه، وهو الثبوت، والملك في الآية في ظرف الثبوت، لأن نقيض الأعم أخص من نقيض الأخص، ونقيض الأخص من نقيض الأعم. قوله تعالى: {إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ ... (20)} ابن عطية: الظن بمعنى اليقين، الزمخشري: بمعنى العلم، القرطبي: على بابه أي ظننت أن الله تعالى سيحاسبني ويعذبني، ولم أتحقق أنه يغفر لي انتهى، ويحتمل [أنه*] على بابه، كما تقدم في سورة البقرة في قوله تعالى: (يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ)، عقبه كما حكى عياض في المدارك عن أبي عبد الله التستري: أنه كان يقول: من أصبح وهو لَا يظن أنه يمسي، أو أمسى وهو يظن لَا يصبح، فليس بمؤمن أو فليس بمتقي، وقرأ حمزة بإسقاط الهاء من (كِتَابِيَهْ)، (مَالِيَهْ) وأثبتها في الباقي، وقرأ الباقي من القراء بإثباتها في الجميع وصلا ووقفا، اقتداء بخط المصحف، ابن عطية: قال الزهراوي: إثبات [الهاء*] في الوصل لحن لَا يجوز. انتهى، كيف يقال فيما ثبت في المصحف أنه لحن هذا لا يصح. قوله تعالى: {دَانِيَةٌ (23)} لما وصفها بالعلو، وشأن المكان العالي أن تكون أشجاره كذلك، فأزال ذلك بأنها مع علوها، [فثمارها*] قريبة التناول سهلة المأخذ. قوله تعالى: {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ ... (25)} الواو لازمة هنا؛ لأنها في التسمية من باب المفاعلة، ولا يصح هنا الفاء ولا غيرها، [والأظهر*] أن (مَن) موصولة، لأن [السالبة لَا تقتضي*] وجود الموضوع.

(26)

قوله تعالى: {وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ (26)} إن قلت: لأي شيء عطفه بالواو ولم يعطفه بالفاء المقتضية للتسبب، لأن [إيتاء*] الكتاب سبب في [درايته حسابه*]، وعدمه سبب في عدم درايته حسابه، فالجواب: أنه لو عطف [بالفاء*] مثبتا، كان المتمني [سوى الأول*]، فعطفه بالواو على أنه تمنى كل واحد من الأمرين على حدته. قوله تعالى: {يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ (27)} إما أن المراد يا ليت الموتة الأولى كانت قاضية عليَّ، فيحتاج إلى تعذر وصفه، أي القاضية الأبدية التي لَا رجوع منها للحياة، وإما أن المراد يا ليت هذه الحالة التي أنا فيها من العذاب كانت تقضي [عليَّ*] [ ... ] ولا يحتاج في هذا إلى تقرير صفة الأبدية، لأن المعنى [يهدي*] لذلك، فإِن قلت: هذه الآية ترد قول المتكلمين: [الوجود*] خير [كلُّهُ*] والعدم شر [كلُّهُ*]، فإِن هذا قد تمنى العدم، وهو عنده خير من الوجود، فالجواب: أنه إنما تمنى العدم لما نابه من شدة العذاب في وجوده، وقولهم: العدم شر [كلُّهُ*] بالنظر لنفسه فقط؛ لَا لعارض يعرض. قوله تعالى: {هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ (29)} أجاب بعض الشيوخ: الوقف [عَنِّي*] [ويبتدئ*] (سُلْطَانِيَهْ)، (خُذُوهُ) أي يقول [الكافر*]: سلطانيه خذوه، ويخاطب الملائكة فقط، سلطان: المراد به الجنس، ويكون أمرهم [بأخده*] [وهذا*] صحيح في المعنى، لكن فيه تكلف (خُذُوهُ) إن قلت: لأي شيء روعي في آية أهل اليمين لفظ [الجمع*]، [ومعناها تقيد (كُلُوا وَاشرَبُوا)، وهنا رد على لفظها فقط]، فالجواب: أن أهل اليمين المطلوب تكثيرهم فناسب الجمع، وأهل الشمال المطلوب تقليلهم فناسب الإفراد، وإن كانوا باعتبار الوجود أكثر [عددا*]. [(34) *] [وانظر*] هل الحض على إطعام المسكين أعم من إطعامه، أو بينهما عموم وخصوص من وجه دون وجه، لاجتماعهما فيما إذا حض الإنسان نفسه على الإطعام وأطعم، أو هما ضدان، وهو الأظهر كما أن الصواب أن صفة العلم ليست أعم من صفة القدرة، بل هما صفتان متباينتان. قوله تعالى: {ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا ... (32)} جعله ابن عطية من باب القلب، أي اسلكوا السلسلة فيه وحده، الزمخشري: على ظاهره، وقال: إن السلسلة تحيط به ويلف فيها، وإطعام الطعام أشق على النفوس من مجرد الحض على إطعامه، [فالذم*] على تركه أشد وأولى من [الذم*] على ترك الأشق

(38)

الذي هو الإطعام وإطعام الطعام مقصد، والحض عليه وسيلة، والذم على ترك المقصد آكد، فإذا [ذموا*] على ترك الوسيلة، فأحرى أن يذموا على ترك المقصد، والوصف بالعظيم، وانظر هل واحد من الأمرين علمه [مستقل*]، فيستفاد منه أن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة أو [**العلة، إنما قد عدم إيمانه]، والآية نزلت في أبي جهل، وليست خاصة به، لأن خصوص السبب لَا يمنع من عموم اللفظ. قوله تعالى: {فَلَا أُقْسِمُ ... (38)} الفاء للتسبيب وتقرير السببية، أنه لما تقدم ذكر من أوتي كتابه بيمينه وفرحه وثوابه، ومن أوتي كتابه بشماله وحسرته وعقابه، وكان ذلك أمرا مغيبا لَا يصدق به إلا من آمن، أتى هنا بفاء السببية؛ إشارة إلى أنه بسبب ذلك وقع القسم على أن القرآن المتضمن لما تقدم قول صادق، ومنهم من جعل النفي لما تقدم، ووجهه أن المنكر للحشر والنشر والحساب، لَا بد أن يأتي بشبهة على مذهبه، وهؤلاء ليست لهم شبهة على تكذيبهم، وينبغي على هذا أن يوقف على قوله: (فلا)، وإن جعلت النفي متعلقا بالقسم، فيكون غير مراد حقيقة، أي هذا الأمر ظاهر بحيث لَا يحتاج إلى القسم عليه، وقرئ [(فلأقسم) *] على أنها لام الابتداء دخلت على فعل القسم. قوله تعالى: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40)} إن قلت: هلا قيل: لكلام رسول، لأن الكلام أخص من القول، لانطلاق القول على [المفيد*] وغيره في الاصطلاح؟ فالجواب: أنه إذا قيل هذا في القول المطلق على [المفيد*] وغيره، فأحرى الكلام، فإن قلت: هلا قيل: إنه لقول رسول أمين، [أو*] رسول صادق؟ فالجواب: أنه ليس المراد حقيقة الكلام، بل المعنى لقول رسول موصوف بالخير أو موصوف بالحسن والكمال. قوله تعالى: {قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (42)} فيه سؤال يورد في حسن الائتلاف، وهو ما الحكمة في تخصيص [الأول*] بـ (تؤمنون)، والثاني: [(تَذَكَّرُونَ) *]، وجوابه: أن الشعر لما كان أمرا ظاهرا يدركه كل أحد بفطنته، ويعرف أنه شعر، عبر عنه بالإيمان الذي هو محمود التصديق، ولما كانت الكهانة أمرا خفيا لَا يدرك إلا بفكر وتأمل [قرنها*] بالتذكير. قوله تعالى: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44)} تقرر أن (لو) عند النحاة منع فيها الثاني لامتناع الأول، لأن الأول سبب في الثاني، وعند الأصوليين يمتنع فيها الأول لامتناع الثاني، لأن الثاني لابد أن يكون متساويا

(45)

للأول أو أعم منه، ويلزم من نفي الأعم نفي الأخص، ولا ينعكس، وكذلك يلزم منه تقدم المسبب على [سببه*] إذا كان أخص، فإن قلت: هلا أفرد القول، فيقال: لو تقول علينا قولا، لأن العقوبة على الكذب في القول الواحد، تستلزم العقوبة على الكذب في الأقوال المتعددة من باب أحرى، فالجواب: أن القول تارة يكون مشتملا على جملة [واحدٌ*] مدلُولها، وتارة يشتمل على جمل بعضها صدق، وبعضها كذب، فتضمنت هذه الآية أنه لو تكلم بأقاويل تقول علينا في بعضها، وصدق في البعض، [لنلنا منه عقابه*] بالعقوبة الشديدة، فيستلزم من باب أحرى مخاطبته بالعقوبة، [لو تكلم بقول واحد كله كذب*]. قوله تعالى: {لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45)} استدل بعضهم بهذه على أن الفاء في جواب الشرط لتأكيد التعقيب، فضلا عن أن تكون للتعقيب، حسبما ذكر الأصوليون والفقهاء الخلاف في قوله تعالى: (إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ)، وتقرير الدليل من هذه الآية، أَن جواب الشرط فيها لو لم يفهم على [أنه*] عقيب الشرط لما صح الاحتجاج على الكفار، لأنهم يقولون: تقوَّل، وعقوبته مؤخرة، وليست عاجلة في الدنيا، فلا يستقيم الاستدلال عليهم بهذا، فلولا أن جواب الشرط بذاته يقتضي التعقيب من غير احتياج إلى إدخال [العاقبة*] لما استقام هذا دليلا على الكافرين، فدخول الفاء مؤكدة للتعقيب، ويستحيل أن يكون الفاء غير مفيدة للتعقيب، لأنه يناقض معنى ملزومية الشرط لجوابه [ ... ]. بأن ذلك الاختلاف [**إنما موجب يكون جواب] الشرط أو نهيا، وأما إذا كان جوابه خبرا، فلا خلاف فيه، أو يقال إن التعقيب هنا مستفاد من القرينة لَا من نفس اللفظ، لكن يقال: الأصل عدم القرينة، قال القرطبي: يحتمل أن [يريد*] باليمين القوة، و (من) زائدة، أي [لأخذناه*] بالقوة، وحكى هذا في غاية الضعف، لأن (من) لَا تزاد في الواجب. قوله تعالى: {فَمَا مِنْكُمْ ... (47)} إن قلت: [هلا عطفه بالإفراد كالأول*]؟ فالجواب: أن النصرة مهما تصورت، فلا تكون إلا من الجماعة عقب نزول البلاء، وإن تراخت [عنه*] وأبطأت، فلا فائدة فيها [**والقيام صح]. قوله تعالى: (حَاجِزِينَ).

(48)

مراعاة لمعنى (مِنْ أَحَدٍ) إشارة إلى أن الواحد لَا تعد منه النصرة، [وإن انتفت*] النصرة عمن هو في مظنة أن يقدر عليها، فأحرى أن [تنتفي عمن*] لَا يقدر عليها، فإن قلت: لم قال: (مِنْكُمْ)، والخطاب للكفار وليسوا بصدد أن ينصروه؟ فالجواب: أن فيهم أقاربه، كأبي طالب ونظائر له كانوا يناضلون مع كفرهم به، واحتج بهذا ابن عصفور في شرح الجمل الكبير على جواز تقديم خبر إن على اسمها، إذا كان ظرفا أو مجرورا، لأنه قدم هنا معمول الخبر على الاسم، مع أنه ليس باسم لـ (ما) ولا خبر لها، وقد منعوا كان طعامك زيدا [ ... ] كان ما ليس باسم لها، ولا خبر فإذا [جاز*] ذلك فأحرى في (إن). قوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (48)} أي إن النَّاس نظروا فيه، فالمتقون تذكروا واعتبروا، والآخرون نظروا فلم يتذكروا أو لم يعتبروا بوجه. قوله تعالى: {وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ (49)} إن [كان*] الخطاب للكفار، فـ (مِن) لبيان الجنس، وليس هو إخبار بالمعلوم، لأنه على جهة التهديد والوعيد، وإن كان الخطاب لعموم النَّاس، فالمراد من سيكذب منهم في المستقبل. قوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ (51)} القرطبي: يحتمل أن يعود الضمير على (حسرة) باعتبار معناها، وهو [التكذيب*] المفهوم منها، لأنه مذكر. قوله تعالى: {فَسَبِّحْ ... (52)} الفاء للتسبيب، وقول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: لما نزلت "اجعلوها في ركوعكم"، أي اجعلوا مدلولها. * * *

سورة المعارج

سُورَةُ الْمَعَارِجِ قوله تعالى: {سَأَلَ سَائِلٌ ... (1)} [ذكر*] ابن عطية القراءة [بتسهيل*] الهمزة، وهي قراءة نافع وابن عامر، (سَأَلَ)، ساكنة الألف، قال بعضهم: هي سال بالهمزة إلا أنها سهلة، وهي لغة مشهورة حكاها سيبويه، فالألف منقلبة عن واو، وأما قول الشاعر: سَالَتْ هذيلٌ رَسُولَ اللَّهِ فاحِشَةً ... ضَلَّتْ هذيلٌ بِمَا سالَتْ وَلَم تُصِبِ فقال سيبويه: هو على تسهيل الهمزة، وقال غيره: [على*] لغة من قال: سألت، ونقل ابن هشام في شرح الإيضاح في باب زيادة الهمزة عن سيبويه عكس هذا سواء، وجعله مثل أولج يولج، فإنه [مولج*]، وقرئ (سَألَ سَائِل)، بغير همز وحملوه على وجهين: إما أنه من السؤال أو من السيلان، وعلى هذا يكون من مجاز [المجاورة*]، واستدل بعضهم بالآية على صحة تنكير الفاعل. قوله تعالى: {خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (4)} وفي سِورة السجدة (أَلْفَ سَنَةٍ)، وفي الحج (وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ)، والجواب: أنها مواطن فهو [لأقوام*] في غاية الشدة والآخرين دون ذلك، وأجاب القرطبي: أن العروج هنا من قعر الأرض [السابعة*] وسطح الأرض، فيلزم على هذا أن يكون بين سطح الأرض والعرش مسيرة ألف سنة، وبين قعر الأرض السابعة وسطحها تسعة وأربعون ألف سنة، وهذا باطل [بالبديهة*]، ولا يفرق باعتبار المنتهي، لأن منتهي المسافة غير معين في الجميع، فلا تناقش، وكون العروج من قعر الأرض السابعة، كما قال مجاهد: [يصعب*] لأنها غير [معهودة*]، وهم إنما يعرجون بأعمال العباد أو [بأرواحهم*]، ابن عطية: قيل: المراد في يوم من أيامكم هذه، ومقدار المسافة أن لو [عرجها*] إذ هي خمسون ألف سنة من أيامكم، وقيل: المراد في يوم من أيامكم كان مقداره في نفسه ألف سنة من أيامكم انتهى، التأويل [الأول*] ظاهر، وأما الثاني فيستحيل فيه حمل اليوم على خمسين ألف سنة [حقيقة*]، ولا بد أن يراد به مطلق الزمان؛ لاستحالة مساواة الجزء للكل في القدر، ابن عطية: وقال عكرمة: أراد هذه الدنيا مقدارها خمسون ألف سنة، لَا يدري أحد ما مضى منها، ولا ما بقي انتهى، كذا ذكر المسعودي والمؤرخون، وذكر المنجمون وغيرهم، أن مقدارها سبعة آلاف [وخمسون*] ألف سنة، وهو ظاهر قوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم أجمعين: "ما من رجل لَا يؤدي زكاة ماله إلا جعل ماله له عقارب من

(11)

نار يكوى بها جبهته وظهره وجنباه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة". انتهى، إن أراد أن هذا هو ظاهر لفظ اليوم، فلا حاجة إلى استدلاله بالحديث على الآية، وإن أراد أن هذا هو الذي يتأول عليه، [وفهم*] مدلوله ومعناه عليه، فكما [يتأويله*] في الآية، فكذلك يتأوله في الحديث، وعبر بالسَّنَة دون العام؛ لخروج الآية مخرج التخويف، فإِن قلت: ما فائدة (كان)، وهلا قيل: في يوم مقداره خمسين ألف سنة، فالجواب من وجهين: الأول: المعنى جعله الله في الأزل قدر خمسين ألف سنة، الثاني: الماضي محقق الوقوع، فالمراد أن هذا اليوم ثبت تقديره بذلك، واستقر بحيث لَا يتوهم فيه تغيير ولا نقص ولا تبديل، كما أن قول الصادق منا: قام زيد محقق الوقوع، بخلاف قوله: يقوم زيد، فإنه قد يبدأ له، أو يمنعه منه مانع. قوله تعالى: {يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي ... (11)} من التمني في المستحيل الوقوع والممكن الوقوع، والترجي لَا يكون إلا في الممكن، والمحبة إلى الترجي أقرب، فهل الود راجع إلى معنى التمني أو المحبة، والظاهر الثاني، [فلَا يقال*] فيما يستحيل وقوعه ود فلان كذا، فإن قلت: قد قاله هؤلاء؟ قلت: هذا مستحيل في نفس الأمر، وهو في [اعتقادهم*] جائز ممكن غير مستحيل، و (لو) إن كانت بمعنى (إن)، فالمعنى يود المجرم الافتداء من العذاب ببنيه، وإن [كانت*] شرطية فالود متعلق بملازمته الشرط للجواب، أعني أنه متعلق بتقدير الافتداء، أي [يود المجرم تقديرا*] أنه يفتدي ويقبل منه الفداء، أعني يود أن يكون ذلك جائزا ممكنا، فهو أدق من الأول، لأنه على الأول يكون الافتداء غير واقع، وهذا الترتيب يمكن أن يكون متدليا، وأن يكون [ترقيا*]، فتقدير التدلي أن البنين أحظى وأحظ للنفس، والزوجة أحب من الأخ، بدليل جواز شهادة الأخ لأخيه إذا كان عدلا بخلاف زوجته، [وينفرد*] أيضا بأن الابن أقرب من غيره، بدليل منع الأب من التصرف في ماله، وإذا سرق الأب من مال ولده لَا يقطع، فحكم الأب على ابنه أقوى من زوجته، والزوجة تليه بدليل [أنه لا يملك*] التصرف فيما زاد على الثلث من مالها إلا بإذن زوجها، والأخ بعد ذلك لأنه ليس لأخيه عليه حكم، لكن هذا تقرير فقهي، وهذه الأمور إنما تجري على الأحكام اللغوية أو العرفية، وتقريره أنه ترقٍّ من وجهين: الأول: أنه اعتبر المعطوف والمعطوف عليه جملة، فجعل أنه يود أن يفتدي من عذاب [يومئذ*] ببنيه فقط، أو يفتدي عوضا عن ذلك مجموع صاحبته وأخيه وفصيلته، وهو أشرف من الأبناء؛ باعتبار الكثرة والتعدد، أو يود أنه يفتدي من العذاب ببنيه والزوجة،

(15)

ثم يود أن يفتدي من ذلك بالأخ والفصيلة، وهو الأكثر من الأولين فهو أقوى في الحظوة. الوجه الثاني: أنه ترق باعتبار المحبة وتعلق النفس لقولهم: من أحب شيئا استكثر منه، فالإنسان ما يستحضر في ذهنه إلا من يحب [عند*] نزول البلاء، إنما يود الفداء بمن دونهم في المحبة، ثم بمن دونهم، فإن قلت: إنما جرت عادة العرب، أن يفتدوا آبائهم وأمهاتهم يقولون، كما في الحديث: بأبي أنت وأمي، قلت: [هذا*] بالعرف، وهذا باعتبار الحقيقة. قوله تعالى: {كَلَّا ... (15)} قال الغزالي: لم تقع في القرآن إلا في النصف الثاني، والحكمة في ذلك أن الأول [أكثره*] مدني، والزجر في المدينة إنما كان بالسيف، قال تعالى (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ)، (قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ)، (وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً)، والنصف الثاني: أكثره مكي، والزجر في الحكمة إنما كان بالقول. قوله تعالى: (إِنَّهَا لَظَى). قال بعضهم: هذا يدل على جواز عود الضمير على ما بعده لموافقة الاسم في الخبر للتأنيث. قوله تعالى: {مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى (17)} يحتمل أن يكون العطف تأسيسا، ويكون المراد بمن (أدبر) من لم يزل كافرا وبـ (تولى) المرتد، أو المراد بمن (أدبر) الكافر، وبمن (تولى) المنافق، لأن أقبل على الإيمان بظاهره، وتولى عنه بباطنه، وكان القاضي أبو علي عمر بن الربيع يقول: إن (كلا) هنا ليست للزجر، لأن الزجر إنما يصلح، حيث يمكن الانزجار إلا أن لَا يكون الزجر على حقيقته، بل على سبيل التبكيت عليهم، قال شيخنا: بل هي للزجر، وتظهر فائدته في الدنيا، لأنهم إذا سمعوا هذه الآية قد ينزجر بعضهم عن كفره ومخالفته، فينجوا من العذاب. قوله تعالى: {إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (19)} .. الزمخشري: المعنى [إن الإنسان لإيثاره*] الجزع والمنع وتمكنهما منه، [ورسوخهما فيه،*] صار كأنه مجبول عليهما [مطبوع*]، وكأنه أمر خلقي [وضروري*] غير اختياري، [كقوله تعالى (خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ) والدليل عليه أنه حين كان في البطن والمهد لم يكن به هلع، ولأنه ذمّ والله لا يذمّ فعله،*] انتهى، هذا من الكلام الموجه، فالمعتزلي يعني به أن الله لَا يخلق القبيح الموصوف بالذم،

(26)

فيقول: لَا يذم فعله ونحن نحمله على أنه يخلق الخير والشر؛ [لكننا لا نصف*] فعله بالذم عقلا، بل الكل في حقه حسن، والعقل لَا يحسن ولا يقبح، وإنَّمَا الحسن ما حسَّنه الشرع والقبيح ما قبَّحه [الشرع*]، فإن قلت: يؤخذ من الآية أن الملائكة أفضل من البشر، لأن من خلق غير هلوع أفضل؟ قلت: إنما يصح هذا [لو كان التفضيل عندنا عقلا صحّ ما قلتَ؛ وإنما هو شرعي، ولا امتناعَ من خلقه هلوعا وضعيفا ومن عجَل، مع تشريفه!؛ لأن اللَّه تعالى يفعل ما يشَاء ويحكم ما يريد*]. قوله تعالى: (الَّذِينَ). الأظهر أن هذا من عطف الصفات لَا من عطف الموصوفات لسعة رحمة الله تعالى. قوله تعالى: {يُصَدِّقُونَ ... (26)} عبر بالفعل المضارع لتجرد تصديقهم مهما ورد عليهم خبر من أخبار يوم الدين، والإيمان أعم عندنا من التصديق لأنه أخص، لأن المعاد مستفاد من السمع لَا من العقل، فإن قلت: كلام ابن الحاجب في احتجاجه لأهل السنة على المعتزلة يقتضي أن التصديق عندهم هو الإيمان؟ قلت: نص ابن التلمساني في شرح المعالم الفقهية على أن التصديق من عوارض الخبر، وذكر المتكلمون في الإيمان بوجود الصانع ووحدانيته، هل [يدرك بالسمع*] أو الدليل البرهاني العقلي، وهو الصحيح فمن وحد الله مؤمن مع أنه لم يسمع من أحد دليلا على ذلك، فصدقه؛ بل علمه بدليل عقلي ظهر له، فإن قلت: صدق الدليل البرهاني، وقلت: لَا يسمى ذلك تصديقا، فإن قلت: قد قسم المنطقيون العلم إلى تصور وإلى تصديق، [**فترى] التصديق على نفس العلم بالشيء من غير سماع خبر، قلت: هذا كاصطلاح هؤلاء وما كلامنا إلا في اصطلاح أهل علم الكلام، وقول الزمخشري: يصدقون بيوم الدين تصديقا بأعمالهم واستعدادهم له إشارة إلى مذهبه ولا ينافى مذهبنا نحن. قوله تعالى: {مُشْفِقُونَ (27)} عبر هنا بالاسم إشارة إلى أنهم مهما سمعوا وعظا وزجرا ثبت لهم الخوف دائما من غير زوال ولا انتقال، وذكر أبو طالب في القوت هنا كلاما [خَلِقًا*] لَا ينبغي، وحاصله أن صنفا من الملائكة حصل لهم كمال الخشية، بحيث لَا يعتقدون أنهم ينجوا من العذاب، والذي يجب اعتقاده أن الملائكة معصومون. قوله تعالى: {إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ (28)}

(29)

نزوله بمن اتصف بنقيض تلك، وهو جار مجرى التعليل للإشفاق، والعطف في هذين ترق، لأنه باعتبار الكسب العلمي، وما قبله باعتبار الكسب العملي. قوله تعالى: {لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (29)} [ ... ]. قوله تعالى: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ ... (30)} الظاهر أن (أو) للتخيير لَا [للتفصيل*]، فلا يكون حجة لوجوب نكاح الحرة مع الأمة، ولو كانت [للتفصيل*] لما جاز نكاح الأمة إلا لمن يجده، ولا للحرة؛ فإِن قلت: (أو) التي للتخيير لَا يجوز الجمع [فيها*] بين الشيئين المتأخر فيهما، وهنا يجوز الجمع بين الحرة والأمة، قلت: لَا يجوز الجمع هنا بين النكاح وبين [ملك*] اليمين والذات الواحدة، فلا تكون الأمة والحرة [ ... ] واحدة في حالة واحدة، والتخيير [المتضمن*] لعدم جواز الجمع في [المطلق*]، والمطلق يصدق بصورة فيكفي فيه صدقه في هذه، وإن كان لَا يصدق في الجميع، وذكر [ابن ناجي*] في شرح الجلاب كلاما استنبطه من هذه الآية، يتضمن جواز وطء الذكور بملك اليمين لَا يحل نقله. قوله تعالى: (إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِم). يدل على أن الاستثناء من الإثبات نفي، وهما مسألتان، أما الاستثناء من النفي قولان: قيل: نفي، وقيل: إثبات، وأما الاستثناء من الإثبات فالأكثرون يحكون فيه الاتفاق، وكذا ابن الحاجب، لأنه قال: الاستثناء من الإثبات نفي، وبالعكس خلاف للحنفية، فحمله الشراح على أن خلاف الحنفية في الأخير فقط، وقال القرافي: سألت عنها علماء الحنفية في زماننا، فقالوا: إن الخلاف فيه عندهم ثابت، وحكى أيضا [الآبذي*] في شرح الجزولية فيه الخلاف، فإِن قلت: فعلى مذهب الأكثرين أنه نفي ما فائدة قوله (غَيْرُ مَلُومِينَ)، قلت: [فائدته*] إما التأكيد، وإما التنبيه على أن [الاستثناءات*] المتقدمة ليست واجبة، بل جائزة. قوله تعالى: {فَمَنِ ابْتَغَى ... (31)} ظاهره أن الإنسان يأثم بمجرد قصده، لكن يكون هذا قصدا صمم عليه. قوله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (32)} الأمانات: الودائع، يحفظونها ويحوطون عليها، والعهد: هو الميثاق، أي تارة يأتمنون ولا يستحلفون [فيؤدون*] الأمانة، وتارة يؤتمنون ويستحلفون فيحلفون على

(33)

الوفاء بها والتحوط عليها، فيفون بذلك، فإِن قلت: وعلى هذا يكون عطف (وعهدهم) ترقيا، لأن العهد في الأشياء [المشقة*]، والأمانة المجردة في الأشياء الخفيفة، قلت: بل هو بدل؛ لأنهم إذ أوفوا مع عدم الاستحلاف، فأحرى مع الاستحلاف. قوله تعالى: {بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ (33)} المراد تحملها على وجهها من غير تحريف فيها ولا نقصان ولا زيادة، فلا يشهد إلا بما يستشهد عليه، واحتج بها بعضهم على وجوب [الإدلاء*] والظاهر الأول. قوله تعالى: {فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا ... (36)} الفاء للتسبيب، وتقريره أنه لما تضمن الكلام السابق أن الجنات والنعيم لمن اتصف بالصفات المذكورة، هي أخص من الإيمان وأبلغ، ودل ذلك بمفهومه على أن من حصل مجرد الإيمان ولم يتصف بتلك الصفات لَا ينال ذلك النعيم ولا تلك الجنات، وكان الكفار طامعين بالجنة، أتى بفاء السبب، أي كيف يطمعون فيها والمؤمنون [الذين*] لم يحصلوا تلك الصفات، ليسوا على وثوق من دخولها. قوله تعالى: {عَنِ الْيَمِينِ ... (37)} أي عن يمينك وشمالك، أو عن يمين كل واحد منهم وشماله. قوله تعالى: {أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ ... (38)} لم يقل: [أيطمعون*]؛ لئلا يتوهم أن الطمع إنما هو لردٍّ ما بهم، ومن له قرابة بالنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فإن قلت: إنما تعلق طمعهم بالجنة المقدرة الوجود لا بالجنة من حيث كونهم أثبتوها، لأنهم لم يقروا بوجودها، فهلا قيل: أيدخل جنة نعيم، إن كان ثم جنة؟ فالجواب: أنه رد عليهم، وإثبات للجنة، وتحقيق لوجودها. قوله تعالى: {فَلَا أُقْسِمُ ... (40)} النفي هنا كما تقدم [في قوله [(فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ * وَمَا لَا تُبْصِرُونَ) *] أنه لما راجع لما قبله أو نفي القسم، وهو الظاهر ويتأكد هنا؛ لأن المقسم عليه أوضح من الأول، بحيث لا يتصور فيه مخالف، لأن قدرة الله تعالى على هلاكهم وإيجاد غيرهم أمر [مشاهد*] مألوف غير مستغرب، [فإنا*] نجد الملوك والجبابرة الظالمين يهلكون، ويأتي خير منهم؛ بخلاف كون ذلك القول قول رسول كريم، فإنه لَا يعلمه ويقر به إلا المؤمنون، وأما الكافرون فإنهم يخالفون فيه. قوله تعالى: (بِرَبِّ الْمَشَارِقِ).

(41)

جمع المشارق، لأن مشارق الشمس والقمر متعددة لهما في كل يوم مشرق، وكذا سائر الكواكب لكل منها في [كل*] يوم مشرق لَا يطلع منه إلا في مثله من عام آخر وفي سورة المزمل (رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ)، وفي الرحمن (رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ) والتثنية باعتبار مبتدأ المشرق في الصيف ومنتهاه في الشتاء، والإفراد إما على إرادة المبدأ أو المنتهى، وهو أصوب، لأن منتهاه غايته، وغايته تدل على أن له مبتدأ، فإِن قلت: هلا قال: فلا أقسم بمقدر المشارق أو خالقها؟ فالجواب: أنه عبر بلفظ الرب ليفيد نعمة الامتنان والرحمة في إحياء النبات والحيوان بانتقال الشمس في المشارق كل يوم، ليعم النفع بها كل قطر وإقليم. قوله تعالى: {وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (41)} أي لَا يسبقنا أحد لذلك، فإن قلت: تنفي المساواة، قلت: هي منفية بالدليل العقلي، لئلا يلزم عليه وجود مؤثر واحد بين مؤثرين، أعني مقدورين قادرين، فإن قلت: يكون الثاني معينا للأول، قلت: قد تقرر إبطال هذا في قول من فسر الكتب بأنه فعل فاعل [معين*]. قوله (حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ ... (42) .. ، غاية للخوض لَا للترك. قوله (يَوْمَ يَخْرُجُونَ ... (43) .. يحتمل أن يكون على حذف حرف العطف، مثل كيف أصبحت؟ كيف أمسيت؟ [ ... ] إلى نصب الأولى تفسيره الخير؛ لأنه لا [يسرع*] أحد إلى الشر. * * *

سورة نوح

سُورَةُ نُوحٍ - عَلَيهِ السَّلَامُ - [إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (1) *] رسالة نُوحٍ - عَلَيهِ السَّلَامُ -[مقصورة*] على قومه، ومن قال بعمومها فهي للإنس فقط، وأما الرسالة [العامة*] فخاصة بنبينا صلى الله عليه وسلم، والفرق بينهما أيضا أن رسالة نُوحٍ - عَلَيهِ السَّلَامُ - أتت لجميع أهل زمانه دون من بعدهم، ونبينا صلى الله عليه وسلم لَا تزال شريعته ورسالته إلى يوم قيام الساعة، [ولابن المنير*] في أول شرح البخاري عن [**هذا الجزية آخر، وكذا لابن أبي بجرة] في أول ترجمة البخاري، وأما آدم على نبينا وعليه السلام فأرسل لذريته خاصة بعد نزوله من الجنة، وإن تأكيد الإرسال [تنبيه*] على أنه أمر معهود وعادة مستمرة، والإنذار أخص من الموعظة، وأوقع الظاهر موقع المظهر، والأصل أن أنذرهم؛ لأنه حكاية للكلام الذي خوطبوا به وليس فيه مضمر، وأدخل (مِن) لابتداء الغاية إشارة إلى تأكيد الوعظ والإنذار والمبادرة به في أول [أزمنته*] القبلية، وقال (يَأْتِيَهُم) ولم يقل: ينزل بهم، إما إشارة إلى أنه يقصدهم وينزل بسببهم، أو أنه يأتيهم من كل الجهات، ويؤخذ من الآية ثبوت التعذيب قبل البعثة إذ المعنى: من قبل أن يأتيهم عذاب، [قبل*] الإنذار. [أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ (3) *] العبادة هي النطق، فكلمة التوحيد الإيمان بالرسول، والطاعة اتباعه في الفرائض وأحكام الشريعة، وقيل: إن العطف تأكيد. قوله تعالى: {مِنْ ذُنُوبِكُمْ ... (4)} (مِنْ) يحتمل أن يكون للغاية أي للابتداء أو الانتهاء، وقول ابن عطية: هي للتبعيض، والمراد يغفر لكم من ذنوبكم وهو المهم الموبق الكبير؛ لأنهم أبهم عليهم بأنه لو غفرت الكبائر لغفرت الصغائر، فيلزم إما أن يغفر الكبائر فيغفر الصغائر من أجل ذلك، أو يغفر الجميع من أصل فلا تكون للتبعيض، وقيل: يغفر لهم ما مضى؛ لأن التوبة تجبُّ ما قبلها، ويبقى ما يأتي [ماصدق*] التبعيض، والمراد يغفر لكم. قوله تعالى: (إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ). ابن عطية: احتج بها المعتزلة في قولهم في المقتول: أن له أجلين وأنه مات قبل أجله، انتهى. تقرير حجتهم لو لم يكن أجل المقتول متعددا لما استقام نفي التأخير عنه، واللازم باطل فالملزوم مثله، بيان الملازمة أن التقدم والتأخر أمر نسبي، والأمور النسبية لَا تعقل إلا [بعد تعقل طرفيها*]، والجواب إما منع الملازمة وهو أن نقول الأصل متحد في علم الله ومتعدد في علمنا، نحن ما سمعنا دعاء [يصح*] له أجل واحد عند الله تعالى لا

(5)

يتقدم عنه ولا يتأخر، وأجلان في فهمنا نحن واعتقادنا يصح تقدمه على أحدهما وتأخره عنه، فإن قلت: كيف يتقرر معنى الآية وهو من تحصيل الحاصل كأنه قيل إذا جاء جاء؟ فالجواب أن الضمير عائد على الشخص المؤخر إلى الأجل المسمى، أي إن أجل الله إذا جاء لَا يؤخر صاحبه، أو يكون المراد بمجيء الأجل مقاربة مجيئه؛ لأن الأجل هنا المراد به إهلاكهم بالعذاب. أي إذا صار إهلاكهم بالعذاب لَا يؤخرون عنه كما جرى لقوم يونس لما رأوا العذاب آمنوا فكشف عنهم. قوله تعالى: (لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ). جوابها مقدر أي لعبدتم الله وآمنتم واتقيتموه. قوله تعالى: {لَيْلًا وَنَهَارًا (5)} والمراد الدوام المادي لَا العقلي، قال ابن رشد: فيمن [حلف*] أن لَا يفارق دار الحاكم مع عزيمة ليلا ولا نهارا، أنه [لا*] يلزمه المقام إلا وقت الحكم فقط، والعقلي كقولك: الإنسان حيوان ليلا ونهارا، فإن قلت: لم نكرهما مع أن التنكير أقل تقليل، والتعريف أعم فائدة؟ فالجواب أن الألف واللام للعهد فقد يتوهم معهود هناك، وأيضا فإن المعرف بالألف واللام لَا تدخل عليه أداة العموم؛ بخلاف المنكر، فلا نقول: كل الإنسان حيوان وكل الرجل إنسان. قوله تعالى: {فَلَمْ يَزِدْهُمْ ... (6)} عطفه بالفاء التي للتسبيب، أي بسبب الدعاء ازدادوا فرارا، فإن قلت: (لما) أبلغ في النهي؛ إذ هي تنفي الماضي المتصل بالحال، فلم يدل بها إلى لم؟ فالجواب أن لم لنفي قد فعل، وقلَّ فيها معنى التوقع، وهؤلاء لم يحصل لهم التوقع للخبر فقط، فإن قلت: لم أكد هذه الجملة بـ (إنَّ) مع [أن*] موجب التأكيد ينتفي عن*] الله تعالى، والقائل: من أعلم النَّاس بالله؟ فالجواب أنه جرى على عادة البشر في [مخاطباتهم*]، فإنهم يحترزون [**من أن يكون يحصر لهم] من يتعرض لهم بشيء، فيؤكدون كلامهم، [بإنَّ*]. قلت: يجاب بأنه لشدة خوفه من عدم الخروج من عهدة التبليغ ترك نفسه منزلة الشاك في حصول التبليغ، قلت: هذا ينتج العكس؛ لأن التأكيد ينافي الشك ويدل على التحقق. قوله تعالى: {لِتَغْفِرَ لَهُمْ ... (7)} أوقع السبب موقع المسبب؛ لأن الدعاء إنما هو للإيمان لَا للمغفرة، لكن الإيمان سبب في المغفرة.

(12)

قوله تعالى: [(كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ) *]. عموم قوله (كُلَّمَا) ليس على حقيقته، وهو مخصوص بأول [قسم*] لهم فإِنهم لم يجعلوا أصابعهم في آذانهم حينئذٍ؛ [إذ*] لم يكن لهم علم بدعواه [الرسالة*] إليهم؟ قلت: بل هو على عمومه لوروده بعد قوله (إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا) أي دعوتهم دائما فلم يؤمنوا [ثم*] بعد ذلك دعوتهم فسدوا آذانهم وغطوا رؤوسهم؛ ولأنهم قد سمعوه أحيانا وأصغوا له وأجابوه، فقالوا (أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ)، وأيضا الأول مطلق يصدق بصورة، وهو [مطلق*] الدعوة في مطلق زمان فلا يفيد التكرار، فقال هنا (كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ) ليفيد التكرار، وأيضا يكون المراد [بالأول الآباء*]، والثاني آبائهم [وأبنائهم*]. قوله تعالى: (وَاسْتَكْبَرُوا). استكبروا: تأكيد الاستكبار [بالمصدر*] دون الإصرار، إما مراعاة لرؤوس الآي، وإما لأن الاستكبار [مدرك*] بالبديهة، والإصرار من أفعال القلوب، والاستكبار أشنع، [فلذلك*] أكده، ووجه الترتيب في هذه المعطوفات في جعل الأصابع في الآذان قدر مشترك بين جميعهم فقدم، وربما لم يكن عند بعضهم ثياب، فلا يتوجه طلب الاشتغال بالثياب فكان تابعا لأنه أخص، وقوله (وَأَصَرُّوا) لما كان دالا على وصفهم بالجفاء والبلادة، وتشبيههم بالحمر الوحشية كان تابعا لما قبله؛ لأنه ترق في الذم، وقوله (وَاسْتَكْبَرُوا) لما كان تجافيا للجهل والبلادة، وإنَّمَا يجب في حق الجاهل البليد أن يذل [ ... ] كان هذا دالا أن جهلهم مركب؛ فكان تابعا لأنه أبلغ في الذم وفيه تهكم بهم. قوله تعالى: {وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ ... (12)} [أخبر في الأموال بالمد، وفي الجنات بالجعل*]، وفي سورة الشعراء (أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ (133) وَجَنَّاتٍ) .. فإِن قلت: لم قدم الجنات على الأنهار مع أن الأنهار سبب في حصول الجنات؟ فالجواب من وجهين: الأول: أن الجنات مقصد والأنهار وسيلة، والمقصد أحق بالتقديم.

(15)

الثاني: أن الجنات ذكرت بعد إرسال السماء عليهم مدرارا؛ فكأن السامع يتوهم أن المطر لَا يدوم بل ينقطع أحيانا فتبقى الجنات بلا سقي؛ فاحترس من ذلك بقوله (وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا). قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا (15)} فيه سؤال وهو أن المعلوم للخلق بالضرورة إنما هو مجرد السماوات لَا كونها [سبعا*]، وأتى نوح عليه السلام بهذا الدليل تقريرا على قوله، فكأنه يقول لهم: ألم تعلموا أن الله خلق سبع سماوات طباقا فكيف تكفرون به؟ وهذا غير معلوم إلا من جهة السمع، أو من جهة النظر والرصد، وليس بأمر ضروري، والجواب أن علماء أهل الهيئة نصوا على أن ذلك يدرك بالرصد وأن القمر في السماء الدنيا، وعطارد في السماء الثانية، والزهرة في الثالثة، والشمس في الرابعة، والمريخ في الخامسة، والمشتري في السادسة، وزحل في السابعة، وأنها كلها تكسف فتحجب بعضها، ولا يدرك ذلك إلا بطول الأعمار، فالمتقدمون لطول أعمارهم رصدوا ذلك فعلموا منه عدد السماوات، وهذه الآية من كلام نوح عليه السلام لقومه، وقد كانت أعمارهم طويلة فهم ممن حصل لهم العلم الضروري بكون السماوات سبعا من الرصد والكسوفات. قوله تعالى: {وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا ... (16)} الزمخشري: القمر في السماء الدنيا، وإنَّمَا قال (فِيهِنَّ) لأن بين السماوات ملابسة من حيث إنها طباق، فجاز أن يقال: فيهن كذا، وإن لم يكن في جميعهن، كما يقال في المدينة كذا، وهو في بعض [نواحيها*]، انتهى. هذا دليل على أن السماء عنده بسيطة، لقوله: [وإن*] لم يكن في جميعهن، [ولأنا*] إذا قلنا: إنها [كورية*] والقمر في السماء الدنيا، فهو في قلب السماوات السبع كلها، ولذلك قال ابن عطية: لأن القمر من حيث هو في آخرها فهو في الجميع عند ابن عطية [كورية*]، وعن ابن عمران: الشمس لها وجه وظهر، فوجهها ما يلي السماء، انتهى. يريد أن ضوءها مختلف فهو من جهة قوي ساطع فسماها وجها، ومن جهة ذلك فسماها ظهرا، وقيل: إنها من الجهتين على حد سواء، ابن عرفة؛ وقيل: إن الشمس في السماء الخامسة، وقيل: في الرابعة، وقال عبد الله بن عمر هي في الشتاء في السماء الرابعة، وفي الصيف في السماء السابعة، انتهى. وهذا عندنا جائز أعني انتقالها من سماء إلى سماء، وأما الطبائعون فيستحيل ذلك عندهم؛ ومراده بالسماء السابعة سماء الدنيا الموالية لنا فحينئذٍ يكون عندنا الصيف، ولو كانت في أعلى الفلك كما هو المتبادر للذهن لبعدت عنا، فإن قلت: كيف يفهم

(17)

هذا مع أن زمن الشتاء والصيف أمر نسبي يختلف باختلاف الأقطار، فإذا كانت الشمس في رأس السرطان كان عندنا أول الصيف، وعند أهل الجنوب أول الشتاء، وإذا كانت في رأس الجدي فعلى العكس؟، وكيف يفهم انتقالها وما تقول في زمن الربيع والخريف هل تنتقل فيه أو لَا؟ فإن قلتم الجنوب غير معمور وإنما كلامنا في معمور الأرض؟ قلت: السؤال واجب [رده*] من حيث الجملة لَا بالنظر إلى معمور وغيره وأيضا فنص بطليموس على أن بعض الجنوب معمور، وأيضا كيف انتقالها مع كونها قدر الدنيا مائة وستين مرة ونيف؟ فكيف تنتقل للسماء الدنيا؟ فالجواب: أن ذلك يفهم على أحد وجهين: إما بأن المنتقل شعاعها لَا ذاتها، وإما بأن مراده بالسماء السابعة [ ... ] وهو أعلى فلكها وأقصى ارتفاعها؛ لأن السماء يراد بها العلو فقط، وقيل في الصيف: تبلغ إلى أعلى الفلك فيكون في آخر [الجوزاء*]، وأول السرطان وهو أوجها. قوله تعالى: (وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا). أبو حيان: فيه الحذف من الثاني لدلالة الأول؛ أي وجعل الشمس فيهن سراجا، هذا لَا يصح؛ لأن الشمس ليست في جميعهن؛ لأنها في الفلك الرابع وما فوقه محتو عليه؛ بخلاف ما تحته وهو الفلك الأول والثاني والثالث فإنها خارجة عنهن وليست فيهن؛ فليس فيه الحذف من الثاني لدلالة الأول، وإنما تقدير المحذوف وجعل الشمس في بعضهن سراجا، فإن قلت: إن كانت جعل بمعنى خلق فما قلته ظاهر، وإن كانت بمعنى صير، فتقول: إن الشمس مصيرة في الجميع باعتبار كونها سراجا؛ لأن ضوءها يعم الجميع؟ قلت: إنها في ذاتها وصفتها، كما تقول: زيد في المدينة كريم، فكرمه وذاته في المدينة، وعبر بالسراج في الشمس إشارة إلى أن ما فيها من الحرارة كما في ضوء السراج، وأما القمر فلا حرارة فيه، فلذلك لم [يسمه*] سراجا. قوله تعالى: {وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا (17)} الزمخشري: (نَبَاتًا) مصدر من لفظ نبت أو من معناه، فتعقب أبو حيان قوله من معناه بأنه غير معقول، ويجاب بأنه أراد أن المصدر من المعنى هو الذي يستلزمه الفعل الأول، فلا يكون إلا أخص من الفعل، مثل: جلست القرفصاء، ولا يجوز أن يكون أعم منه، فلا تقول: قام زيد حركة؛ لأنه لَا يفسر الجلي إلا أجلى منه، وأنبت أخص من نبت، وقيل: (نَبَاتًا) بدل، ورد بأنه بدل الأعم من الأخص، وهو باطل حسبما نص عليه ابن عصفور في باب الاستثناء من مقربه وغيره. قوله تعالى: {ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا (18)}

(20)

إن قلت: لم عطف الأول بـ ثم والثاني بالواو؟، فالجواب من وجهين: الأول: أنه لما كان الإخراج دفعة واحدة، والإنبات شيئا بعد شيء، والإعادة في الأرض كذلك أتى بـ ثم إشارة إلى المهلة بين أول الإنبات وأول الإعادة في الأرض لما كانت أمرا ضروريا مشاهدا لَا يخالف فيه أحد أتى به على حكم الوجود الخارجي بـ ثم التي للمهلة، ولما كان الإخراج من الأرض قد أنكروه، أتى به معطوفا بالواو؛ تحقيقا لوجوده إشارة إلى أنه لَا مهلة فيه حتى كأنه أقرب شيء، فإِن أجيب بأن المهلة الفاصلة بين الإنبات والموت هي في زمن الحياة؛ فهي مشاهدة ظاهرة يدركها كل أحد، والفصل بين الإعادة في الأرض والإخراج منها يوم القيامة ليس بظاهر فلذلك لم يأت فيه بالمهلة بأن هذا إنما يتم في الشخص الواحد بذاته فإِنه يدرك الفصل بين نشأته وموته، وأما الفصل بين موته وإخراجه من الأرض فلا يدركه، ونحن نجعله في أبناء جنس الإنسان المهلة الفاصلة بين نشأة جده وموته وسيشاهد المهلة عند موته. قوله تعالى: {سُبُلًا فِجَاجًا (20)} وفي سورة (فِجَاجًا سُبُلًا) فكل منهما صفة وموصوف. قوله تعالى: {إِنَّهُمْ عَصَوْنِي ... (21)} إن قلت: إنها تؤكد الجملة إذا كان المخاطب منكرا لها، أو ظهرت عليه مخائل الإنكار، والله أعلم بكل شيء، فلا يتم ذلك بالنسبة إليه؟ فالجواب: أن الإنكار قسمان: فهو بالمعنى المذكور مستحيل هنا. والقسم الثاني: أن يكون ما تعاطاه المكلف منكرا غير الموافق عليه للشريعة، وهو المراد هنا لقوله (عَصَوْنِي) مع أن طاعة الرسول واجبة، والآية تسلية للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم من جهة عصيان قوم نوح نوحا، وتخويف لقريش من جهة عقوبته قوم نوح على عصيانهم، والآية حجة لمن يقول: إن الأمر بالأمر بالشيء أمر بذلك الشيء؛ لأن نوحا هو مبلغ عن الله تعالى، فهم إنما عصوا الله تعالى لمخالفتهم أمره لهم على لسان رسوله، فلما قال (عَصَوْنِي) دل على أنه هو [الآمر لهم، بذلك الشيء*]؛ إلا أن يجاب بأنه أسند العصيان إلى نفسه على [جهة*] الأدب؛ لأن في إسناده إلى الله تعالى جفاء وغلظة في العبارة. قوله تعالى: (مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ). قال المفسرون: المراد به إسرافهم، فعلى ما قالوه تكون الآية دالة على عصيان الأشراف المتبوعين باللزوم لَا بالمطابقة؛ إن جعلنا ضمير اتبعوا عائدا على ما عاد عليه

(22)

ضمير فاعل عصوني، وإن جعلناه عائدا على بعضه كما قالوا في قوله تعالى: (وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا) فيكون دلالة مطابقة، ويحتمل أن يكون المراد بالمتبوعين الأمم المتقدمة، ولم يذكره المفسرون. قوله تعالى: {وَمَكَرُوا ... (22)} إما معطوف على (لَمْ يَزِدْهُ) فيكون من فعل الأشراف، أو على (اتَّبَعُوا) فيكون من فعل الأتباع، أو على (عَصَوْنِي) فيكون صفة للجميع. قوله تعالى: {وَقَالُوا ... (23)} إما الأشراف، أو الجميع بعضهم لبعض. قوله تعالى: {كَثِيرًا ... (24)} إما مفعول به أو [مصدر*]. قوله تعالى: (وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلَالًا). أورد الزمخشري هنا سؤالا يتقرر على مذهبه وعلى مذهبنا، وتقدم له نظيره في سورة يونس، وهو أنه لَا يصح [الدعاء*] على الكافرين بالموت على الكفر، ولا على العاصي بالموت على العصيان؛ لأنه مأمور في كل وقت بنهيه عن ذلك والتغيير عليه والدعاء بذلك إقرارا ورضا، وهو من باب طلب الكفر والمعصية؛ فكيف صح ذلك؟ وأجاب الزمخشري عن ذلك على مذهبه بأنه طلب الترك لَا الفعل، وطلب تخليتهم ومنعهم الألطاف فهو طلب العدم، وذلك لأنه يقول: إن الله تعالى يستحيل عليه أن يخلق الكفر والضلال، وجوابنا نحن على مذهبنا إما بأن نوحا عليه السلام غلب على ظنه بطول الممارسة لهم أنهم لَا يؤمنون فطلب ذلك، وإما بأنه أوحى الله تعالى إليه أنهم لا يؤمنون كما في سورة [هود*]، فإِن قلت: يلزم عليه تحصيل الحاصل، قلت: لم يطلب لازمه، وهو تضعيف العذاب عليهم في الدار الآخرة، وأجاب القرطبي بأن الممتنع إنما هو الدعاء على الشخص المعين، وهذا دعاء على جميع الكفار، ويقال لهم ولعلهم يسلمون، وعبر بالوصف الأعم وهو الضلال؛ لأن كل [ما*] لزم الأعم لزم الأخص. قوله تعالى: {مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ ... (25)} أي من أجل خطيئاتهم، فهو إشارة إلى أنهم لم يعاقبوا على مجرد الكفر فقط؛ بل عليه وعلى جميع خطاياهم؛ فيدل على أنهم مخاطبون بفروع الشريعة.

(26)

قوله تعالى: (فَأُدْخِلُوا نَارًا). عطفه بالفاء إما لأن المراد عذاب [القبر*]؛ لأن (نَارًا) منكرة ولو أريد جهنم لعرفت، وقال الزمخشري: لاقترابه وتحقق وقوعه حتى كأنه قد كان، فإن قلت: هذا على مذهبه في [أنها الآن غير مخلوقة*]، قلت: بل وعلى مذهبنا؛ لأن المراد إدخال الأجسام لَا الأرواح، وقول القرطبي، قيل: المراد بالنار إغراقهم في البحر، لقول ابن عمر: "متى تعود يا بحر نارا" من بدع التفاسير، ويلزم عليه التكرار، قال: وقيل إن المراد أن كل واحد منهم عذب نصفه بالغرق، ونصفه بالنار. قوله تعالى: (فَلَمْ يَجِدُوا). فيه إشارة وهو أن العطف بالفاء المقتضية للتعقيب لَا تقتضي إلا عدم وجدان الناصر إثر دخولهم النار، لَا دائما، فهلا عطف بالواو المقتضية لعدم وجدان الناصر دائما؟ والجواب بأن هذا في أشخاصهم، والعام في الأشخاص عندنا عام في الأزمنة والأحوال، يرد بأنهم [موصوفون*] بـ (لم) التي هي لنفي الوجدان، لَا نفي الوجود، فظاهر الآية أن هناك أنصارا خفيت عنهم ولم يجدوهم؛ مع أن الثابت في نفس الأمر عدم الناصر بالإطلاق، ويحتمل أن [يكون تهكما*]، ويكون من باب نفي الشيء [بإيجابه*]، مثل: [لا أرينك هاهنا*]. قوله تعالى: {وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ ... (26)} إن قلت: الأصل تقديم هذه الجملة على الذي قبلها؛ لأن دعاءه عليهم من جملة أسباب عذابهم؟ فالجواب أنه لو قدم على ذكر العقوبة، لأوهم أن العقوبة مترتبة على المجموع الذي هو دعاء عليهم وحسابهم، ومع التأخير يزول هذا التوهم، وهو أبلغ، [**ولهم من يتق]. قوله تعالى: (عَلَى الْأَرْضِ). يريد في ذلك الزمان، وإلا فيقال: قد وجد الكافر الآن. قوله تعالى: {وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا .. (27)} إن قلت: ما الجمع بينه وبين حديث: "كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الفِطْرَةِ"؟ فالجواب أنه يولد على الفطرة ثم يصير في ثاني حال فَاجِرًا كَفَّارًا، القرطبي فإن قلت:

(28)

كيف يفهم ما ورد في حديث الشفاعة من أن الخلق يأتون إلى نوح عليه السلام ليشفع فيهم، فيذكر دعوته فيمتنع من الشفاعة مع أنه لم يدع إلا دعاء [ ... ] فيه؟ فالجواب أن تلك الشفاعة عامة تشتمل الخلائق كلهم، وفيهم قومه، وقد كان دعا عليهم فكيف يشفع حينئذ فيهم. قوله تعالى: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ ... (28)} هذه ليست مغفرة الذنوب؛ لأن الأنبياء معصمون من ذلك، وإنَّمَا هو باعتبار تفاوت الدرجات؛ كما ورد "حسنات الأبرار سيئات المقربين"، وبدأ بنفسه على سبيل الإقرار والاعتراف [بأنه*] أحوج النَّاس إلى ذلك، وذكر المؤرخون أن آباءه كانوا مؤمنين إلى آدم، والآية تدل على صحة ذلك؛ لأن المغفرة إنما يُدعَى بها للمؤمن، قال تعالى (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ) وما استثنوا من ذلكَ سوى إبراهيم، الزمخشري: أبوه لمك [بن متوشلخ*]، وأمه شمخا بنت أنوش كانا مؤمنين، انتهى الذي ذكر أبو عمر ابن عبد البر أن أباه لامك، وذكر البكري أن آدم عليه السلام عاش حتى رأى نوحا ولم يذكره غيره، قال شيخنا: لما قرأنا هذا المحل في مجلس السلطان ابن الحسن المريني، قال لبعض أولاده: يا ولدي الله الله [أكثِرْ*] من قراءة هذه السورة لاشتمالها على الدعاء، وكان بعض الشيوخ يقول: إذا قرأها بهذا القصد فإِنه يخرج الآية عن المعنى الذي سيقت [له*]، فإن المراد بالوالد فيها والد نوح قطعا، فإِذا دعا القارئ [نادي*] والده خرجت عن معناها فلا يسوغ له هذا وإلزامه بعضهم أنه لَا يصح دعاء من قرآن، فإنه كذلك مهما دعا به نفسه فقد أخرج الآية عما أريد بها، والصواب أن ذلك على قسمين: ففي الآيات العامة يجوز، وإلا فلا.

قوله تعالى: (وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا). أي لمن دخل شريعتي مؤمنا، وهذه الحال إما مؤكدة؛ لأن دخول يستلزم الإيمان، وإما مبنية؛ لأن مؤمنا اسم فهو دال على الثبوت، أي لمن دخل شريعتي ثابتا على الإيمان فيرجع إلى كونها مؤكدة. قوله تعالى: (وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ). ابن عطية: هذا رد مطرد في كل ملة، والذي استجاب دعوة نوح فأغرق أهل الأرض جدير أن يستجيب له فيرحم بدعوته المؤمنين، انتهى، وهنا سؤال وهو أن دعاء نوح عليه السلام للمؤمنين بالمغفرة إما أن يراد به عدم مؤاخذة العصاة بذنوبهم أو لَا، وعلى كل تقدير فيشكل باعتبار الفهم بأن يقال: فلا يبقى لشفاعة نبينا صلى الله عليه وعلى آله وسلم الواردة في الحديث الصحيح؛ لأنه أريد بالمغفرة عدم المؤاخذة بالذنب أن تكون أمة نبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم لَا يدخلون النار فلا يحتاجون إلى الشفاعة؛ لأن الظن بهذه الدعوة أنها مستجابة، وإن أريد بالمغفرة الصفح عنهم بعد دخولهم النار؛ لزم أن يكون خروجهم منها بدعوة نوح عليه السلام لَا بشفاعة نبينا صلى الله عليه وعلى آله وسلم؟ والجواب: إما [أنَّ*] نوحا عليه السلام أراد مؤمني أهل زمانه، وإما بأن [تُأوَّل*] المغفرة على تخفيف العذاب؛ لَا على عدم المؤاخذة بالذنب فهم يخفف عنهم العذاب بدعوة نوح - عليه السلام -، ويخرجون من النار بشفاعة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم. قوله تعالى: (إِلَّا تَبَارًا). وقال قبله [(إِلَّا ضَلَالًا) *] فخص تلك بالضلال؛ لأنها في حال الحياة الدنيا وهذه في حال الموت؛ فناسب تعقبها بالهلاك، الزمخشري: فإن قلت: [ما فعل صبيانهم حين أغرقوا*]؟ فأجاب بأن غرقهم ليس عقابا؛ بل سبب من أسباب الموت كما يموتون بغيره من الأنواع، الطيبي، عن صاحب الانتصاف: هذا السؤال إنما يتقرر على قاعدة المعتزلة في التحسين والتقبيح؛ لأن هلاك الصبيان بغير سبب قبيح عندهم، انتهى. يرد بأن السؤال بالإطلاق لَا يتقرر إلا على قواعدهم، [وإنما*] باعتبار التفصيل فيتقرر عندنا وعندهم، فنقول أما باعتبار النقل فلا يلزم عندنا؛ بل قد يهلكون وهم لم يعلموا شيئا، وهم يقولون: إنما يهلكون لسبب، وأما باعتبار الشرع فالتلازم معتبر عندنا وعندهم؛ لأن الشرع ورد بتنعيم الطائع وتعذيب [العاصين*]، والأطفال [لم يعملوا*] ما يعذبون عليه، فيرد السؤال على مذهبنا وعلى مذهبهم.

سورة الجن

سُورَةُ الْجَنِّ الإتيان بـ (قُلْ ... (1) .. دليل على [غرابة المقول*]، وأنه أمر عجيب، وقوله (أُوحِيَ) مع أن القرآن كله موحا به؛ لأنه لو قال اسمع؛ لأوهم أنه يخبر عن من شاهد منهم، وعلم، فقد يقال له حينئذ كيف يسمعهم وليسوا من جنسه ولا من نوعه. فاحترز من ذلك بأنه إنما حصل له معرفة ذلك بالوحي لَا بالمشاهدة، قال القرطبي: والآية تدل على أنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم لم يرهم ولا سمع كلامهم، انتهى. يحتمل أن يكون لم يسمع كلامهم أولا، ثم سمع كلامهم آخرا لما أعلم به فأصغى إليه. قوله تعالى: (عَجَبًا يَهْدِي). عبر عن العجب [بأنه*] راجع له في نفسه. قوله تعالى: {فَآمَنَّا بِهِ ... (2)} ابن عطية: عطفه بالفاء التي للتعقيب مع أنهم ذكروا بين السماع والهداية والإيمان، وعطفه في الآيتين الأخريين بالواو، والجواب: أن هذه الآية في الجن وهو في أمورهم في غاية الإسراع فهو وإن كانت مهلة هو أقرب من غيره، وإعجاز القرآن باعتبار لفظه، ولذلك يقول الإمام فخر الدين: شرط المعجزة أن تكون حادثة، وأما معناها فهو الكلام القديم الأزلي، ونقل القاضي أبو بكر الوليد الباجي في البغية المسمى [التسديد في علم التوحيد*] أن القاضي أبا بكر الباقلاني ذهب إلى أن إعجاز القرآن باعتبار لفظه، وباعتبار معناه القديم الأزلي، والجمهور على خلافه، ونحوه ذكر القاضي أبو بكر الباقلاني في [تأليفه*] في إعجاز القرآن الكريم، وزاد أنه لا يشترط في إعجازه التحدي به إلا للعوام، وأما علماء العرب وفصحاؤهم فهم بنفس أن يسمعوا شيئا عنه يدركون إعجازه بفطرته لما جبلوا عليه من الفطنة. قوله تعالى: (فَآمَنَّا بِهِ). الضمير عائد على القرآن، أو على الله تعالى، فيكونوا آمنوا أولا بوجود الله تعالى ثم [وحَّدوه*]، وفي التعبير بلفظ الرب دليل على أن [ارتباط الدليل بالمدلول*]، أمر عادي لَا عقلي؛ خلافا للمعتزلة فهو إشارة إلى رأفته ورحمته بعباده، ولولا ما أرشدهم ما اهتدوا إلى الإيمان. قوله تعالى: {جَدُّ رَبِّنَا ... (3)}

(5)

أي تعاظمت عظمته وتفسير الخطيب: الجد بالأصل خطأ، واعتقاده كفر، وعبر بالولد ليشمل الذكر والأنثى فيكون ردا على الجاهلية في قولهم: الملائكة بنات الله، وعلى اليهود في قولهم: عزير ابن الله، وعلى النصارى في قولهم: المسيح ابن الله، فإن قلت: [نفي الصاحبة*] يستلزم [نفي الولد*]، فالجواب: إما أن نقول أنه دلالة [المطابقة*] أقوى من دلالة الالتزام، وإما كون الصاحبة سبب في وجود الولد، إنما هو سبب مادي لَا عقلي. قوله تعالى: {وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا (5)} هذا اعتذار منهم؛ أي كنا نعتقد أن لَا يكذب أحد منا، ولا من غيرنا على الله، وهو ظاهر إن قلنا إن العقل خلا من سمع، وإن قلنا إنه لم يخل قط من سمع؛ فيكون المراد بعض الإنسان وبعض الجن، وهم الذين شاهدوهم ورأوهم، ويكون البعض الآخر وهم المؤمنون والمصدقون بوجود الله ووحدانيته لم يرهم ولا بلغتهم مقالتهم، فحينئذ يصح أن يكون هذا القول عذرا لهؤلاء، وإلا فيقال سمعتم [قول*] الكاذبين من الفريقين، وقول الصادقين، فصدقتم الكاذبين، واتبعتم قولهم [بغير*] موجب، وتركتم قول الصادقين فلا ظن لكم. قوله تعالى: {حَرَسًا شَدِيدًا ... (8)} قيل: اسم جمع، وقيل: جمع حارس، فإن قلت: وصفه بالمفرد يدل على أنه ليس بجمع، قلت: نص المبرد على أنه يصح وصف جمع التكسير بالمفرد، وهذا خلاف كلام الزمخشري لاستدلاله على أنه اسم جمع بوصفه المفرد؛ فمفهومه أنه لو كان جمعا لما وصف بالمفرد. قوله تعالى: {وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ ... (9)} هذا دليل لأهل السنة في أنهم أجسام متحيزة خلافا للمعتزلة، وورد أنهم كانوا يقعدون واحدا فوق واحد [حتى يقرب للسمع*]. قوله تعالى: (فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ). (مَن) الشرطية تدل على الاستقبال دلالة ظاهرة، والآن تدل على الحال دلالة نص، فلا تناقض بينهم، فصح أنه حال، فإن قلت: على هذا يكون منع الشياطين بالشهب عن استراق السمع خاصا بذلك الزمان؛ مع أن المشاهد إقامته واستمراره في المستقبل؟ قلت: إنما جاء الخصوص من مفهوم الزمان في الآن، ولنا أن نقول: إن المفهوم هنا غير [معتبر*].

(10)

قوله تعالى: {وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ ... (10)} تضمنت الآية أمرين: الأول: أنهم حصل لهم العلم بأن الله تعالى موصوف بالحياة والعلم والقدرة والكلام؛ لتعبيرهم بالإرادة، ولم يقولوا: أشر يقع بمن في الأرض، والإرادة تستلزم هذه الصفات كلها. الثاني: أنهم حذفوا الفاعل على جهة الأدب مع الله في نسبة الشر إليه؛ مع أن الكل من فعله وخلقه جل وعلا، وعمموا الإرادة، ولم يقولوا: أريد بنا، وحمل الزمخشري على ذلك عاقبة الأمر؛ أي لَا يعلم هل يختم لهم بالإيمان أو بالكفر، وهذا بناء منه على أنهم هدوا بعد ما آمنوا، وحمله ابن عطية على حالتهم تلك؛ أي لَا نعلم هل [يؤمن أهل الأرض*] أو يدوموا على كفرهم، وهم بناء على أنهم قالوا ذلك قبل أن يؤمنوا، أو تكون الآية حكاية حال [ماضية*]، وعبروا بالرشد؛ لأنه أخص، واستعمال الأخص في الثبوت أولى من الأعم، أو لأن ذلك كان في زمن النبوة حالة وجود المرشد إلى طريق الجنة، وأول الآية يقتضي عمومية الفاعل، والجهل بالمفعول وهو المراد، وآخرها وهو قوله تعالى: (أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا) يقتضي عمومية المفعول، وحذف الفاعل من الأول دون الثاني تأدبا مع الله تعالى في نسبة الخير إليه دون الشر، وإن كان الكل من فعله. قوله تعالى: {وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ ... (11)} إن كان المعنى، ومنا المقاربون لهم فلا يكون تقسيما مستوفيا، وإن كان المعنى: ومنا الكافرون فيكون مستوفيا. قوله تعالى: {وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ ... (12)} ابن عطية والزمخشري: الظن هنا بمعنى العلم، انتهى؛ بل هو على بابه، ويدل على ذلك ثلاثة أمور: الأول: أنه تقرر في علم أصول الدين الاختلاف فيمن يجزم بنفي الصفات عن البارئ تعالى، هل هو كافر أو لَا؟ [وكذلك*] أيضا من يشك فيها. الثاني: أنهم اعتقدوا ذلك في أول أمرهم من غير جزمهم، ثم لما تمكن الإسلام في قلوبهم جزموا بذلك، فقالوا: [وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَبًا*].

(13)

الثالث: أن الظن ليس متعلقا بعدم الإعجاز المطلق؛ بل يفيد كونه في الأرض فهم جزموا بأنهم لَا يعجزون الله تعالى بالإطلاق، وظنوا أنهم لَا يعجزونه في الأرض؛ أي جزموا أنه يهلكهم، وينتقم منهم، وظنوا [أنه*] إنما ينتقم منهم في الأرض كما نعلم أن الله يميت زيدا، ونشك هل يميته [بمكة*] أو بالمدينة أو بغيرهما. قوله تعالى: (وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَبًا). إما معطوف على (وَأَنَّا ظَنَنَّا) فلا يكون مظنونا بل [مستأنفا*]، وإما على أن (نُعْجِزَ اللَّهَ) فيكون مظنونا؛ أي وظننا أن لن نعجزه هربا، وفي الآية إبطال لمذهب الحكماء القائلين أن الجن جواهر مفارقة لَا متحيِّزةٌ ولا قائمةٌ [بالمتحيِّز*]، [فإن الهرب*] من عوارض الأجسام؛ إذ هو [انتقال*] بسرعة، وذلك عين الحركة. قوله تعالى: {وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى ... (13)} أي سبب الهدى. قوله تعالى: (فَلا يَخَافُ). الزمخشري: أي فهو لَا يخاف، قال: وفائدة تقرير الضمير الدلالة على تحقيق أن المؤمن ناج لَا محالة، وأنه هو المختص بذلك دون غيره، انتهى، يتقرر الأول بأن الشرط لما كان يصح ترتيب الأمر المحال عليه، قدر ذلك بما يدل على ثبوت عدم الخوف وتحقق الطمأنينة، وتقرير الثاني أن البناء على المضمر يفيد الاختصاص، فإِن قلت: لَا حاجة إلى المضمر؛ لأن الاختصاص مستفاد من مفهوم الشرط، قلت: يكون تأكيدا وتحقيقا، فإن قلت: البخس أعم فهلا اكتفى به عن الرهق، قلت: "البخس" للمؤمن المتقي، والرهق للفاسق، فلم يتحد المتعلق، [(فَلا يَخَافُ) *] إما نهي أو نفي، [فأما*] النهي [فظاهر*]، وأما النفي [فساقط*]، فإِن قلت: يلزم عليه الخلف في [الخبر*]، قلت: هو معلق على وصف مناسب [لمعانيه فثبت عدم الخوف*]، والآية في قراءة الشكل الأول وتقريره السامع للهدى آمن به، وكل من آمن به لَا يخاف بخسا، فالسامع للهدى لا يخاف بخسا. قوله تعالى: {وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ ... (14)} عبر أولا بالإيمان، وهنا بالأخص منه وهو الإسلام، كما في حديث [القَدَر*]. قوله تعالى: (فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا).

(15)

الزمخشري: زعم من لَا يرى للجن ثوابا أن الله تعالى توعد القاسط بالعقاب، وما. وعد مسلميهم بالثواب، وكفى بقوله تعالى: (فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا) [فذكر سبب*] الثواب وموجبه، والله أعدل من أن يعاقب القاسط، ولا يثبت الراشد، انتهى، وجوب ثواب الراشد عنده عقلا، وعندنا نحن شرعا، فإن قلت: ورد في الشرع ثواب الطائعين من الإنس ولم يرد ثواب الجن؟ قلت: هذه المسألة في أسئلة المازري سئل هل الجن مكلفون يثابون أو لَا؟ وأجاب بأنهم مكلفون بالطاعة ومثابون عليها، وكذا قال ابن عطية القضاعي في موازنة الأعمال، ويحتمل أن تكون الآية من حذف التقابل؛ أي (فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا) وكانوا منعمين في الجنة، (وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ .. (15) فأولئك أساءوا وأجرموا (فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا). قوله تعالى: {وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ ... (16)} فسر بوجهين: إما أن المعنى لو أطاعوا وتمادوا على الطاعة لَأَسْقَيْنَاهُمْ، أو المراد لو عصوا وتمادوا على طريقة العصيان لَأَسْقَيْنَاهُمْ، وأعاد ابن عطية الضمير في استقاموا على الإنس، وأعاده الزمخشري على الجن، ورجح الفخر الأول لقوله (لَأَسْقَيْنَاهُمْ) والجن لَا يسقون، وإنما يتم له ذلك على مذهب من يقول عنهم روحانيون لَا يأكلون ولا يشربون، ومذهبنا نحن أنهم أجسام، يجوز أكلهم وشربهم، كما ورد في الحديث. فإن قلت: يترجح أن المراد بالاستقامة الطاعة كون الألف واللام في الطريقة للعهد، فالمراد طريق الحق؟ قلت: الطريقتان معهودتان، لقوله (إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ)، وقال (يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ)، وإنَّمَا [يترجح كون المراد بالاستقامة*] الطاعة المتعدية بـ على المقتضية للاستيلاء والاستعلاء، فإِن قلت: يحتمل أن يكون المعنى: لو استقام الخلق كلهم على الطاعة لأسقيناهم ماء غدقا، يذنبون فيستغفرون فيغفر لهم، كما ورد في الحديث: "لَوْ لَمْ تُذْنِبُوا لَذَهَبَ اللهُ بِكُمْ، [وَلَجَاءَ*] بِقَوْمٍ يُذْنِبُونَ، فَيَسْتَغْفِرُونَ اللهَ فَيَغْفِرُ لَهُمْ"، قلت: هذا لم يقله أحد، ويلزم عليه جعل الاستقامة سببا في الذنب، فإِن قلت: جعل الاستقامة وهي الطاعة على أحد [التقديرين*] سببا في السقيا، والسقيا سببا في الفتنة، فهي سبب السبب، مشكل إذ لَا يعقل كون الطاعة سببا في [الذنب، وفي الطاعة*]؛ لأن فيه تحصيل الحاصل، قلت: هي سبب؛ لأن بعض المسلمين يرتد عن دينه، ولا يدوم على الإسلام. قوله تعالى: {عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ ... (17)}

(19)

الذكر إما الطاعة، فالمصدر مضاف للمفعول، أو الوحي فهو مضاف للفاعل [وهذا أخص، فهو على الأول معصية*]، [وعلى*] الثاني كفر، ويحتمل أن يكون أراد الذكر حقيقة. أي عن أن يذكر الله (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ)، وفي الحديث: "وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي مَلَإٍ ذَكَرْتُهُ فِي مَلَإٍ خَيْرٍ [مِنْهُمْ*] "؛ فيكون مضافا للفاعل. قوله تعالى: (يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا). إن أريد بالإعراض الكفر فظاهر، وإن أريد ما دونه من المعاصي فهو عام مخصوص؛ أي إن شئنا ذلك. قوله تعالى: {عَبْدُ اللَّهِ ... (19)} الزمخشري: عبر بهذا اللفظ، ولم يقل: قام الرسول أو النبي؛ لأنه واقع في كلام النبي، فعبر بما يقتضي التواضع والتذلل، انتهى، وهذا مسامحة؛ لأنه ليس من كلامه إنما هو [محكي*] عن الله تعالى، وإنما الجواب أنه على سبيل التعليم له ولأمته في تعبير المتكلم عن نفسه بما يقتضي التواضع، واختلفوا في معنى (يَدْعُوهُ) فقيل: في الصلاة، وقيل: خارجها، وعلى الثاني يكون من المسألة المختلف فيها؛ لأن مالكا كره في التنبيه الدعاء قائما، ومنهم من جعل (قام) من [أفعال المقاربة*] كأخذ وانظر [**التقريب لابن الجزري]. قوله (إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي ... (20) .. لفظ الرب تنبيه على أن اختصاص الله تعالى بعض خلقه بالنبوة محض تفضل منه ورحمة. قوله تعالى: {قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا (21)} الزمخشري: أي لَا أستطيع أن أضركم [وأن أنفعكم*]، إنما الضار والنافع الله، [أو*] لا أستطيع أن [أقسركم على الغىّ*] والرشد، وإنما القادر على ذلك الله، انتهى، هذا اعتزال، والمعنى عندنا لَا أستطيع أن أخلق لكم ضررا أو نفعا إنما خالقهما الله تعالى. قوله تعالى: {لَنْ يُجِيرَنِي ... (22)}

(23)

إن قلت: لم نفاه بـ لن، ونفى ملكه [الضر*] بـ لا؟ والجواب أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في كل وقت يستحضر الموت، ونظره إنما وقته الحالي، وليس له تعلق بالمستقبل بوجه، وملك الضر والرشد مضاف إليه، فنفى بـ لا التي هي غير صريحة في المستقبل، بل قد قيل: إنها [تنفي*] التي هي غير صريحة في الاستقبال، بل قد قيل: إنها تنفي الحال، ولما كان الذي [يجارُ منه هو الله تعالى*]، وكانت [الإجارة*] منسوبة إليه، [في الحال والاستقبال نفاه بـ لن*]، وأجيب أيضا لما كان ملك الضر والرشد مما قد يتوهم نسبته للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وقد رتبه عليه في الحال، لم يحتج إلى نفي [الإجارة*] من الله تعالى في الحال والاستقبال، نفي باللفظ العام، ولما كان صدور الذنب منه غير واقع في الحال، لم يحتج إلى نفي [الإجارة*] من الله تعالى في الحال، ثم نفى الاستقبال على تقدير فرض وقوعه قبل، وكذلك [بفرض*] وقوعه في الحال. قوله تعالى: (وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا). النفي الأول تعلق ببني آدم، والثاني بغيرهم؛ أي لن أجد مكان أختفي فيه وألجأ إليه. قوله تعالى: {إِلَّا بَلَاغًا ... (23)} الزمخشري: أي لن أجد من دونه ملجأ إلا أن أبلغ عنه ما أرسلني به، وقيل: لا أملك لكم إلا التبليغ والرسالات، والمعنى: إلا أن أبلغ عن الله، فأقول: قال الله كذا، ناسباً لقوله إليه، وأن أبلغ رسالاته التي أرسلني بها من غير زيادة ولا نقصان، انتهى. إن قلت: يلزم عطف الشيء على نفسه، كان معناه عنده وتبليغ رسالته، قلت: إنما معناه عنده إلا أن أبلغ عنده بلاغا من الله أو من رسالاته؛ لأن الشرائع التي أمر بتبليغها لنا قسمان، منها ما تلقاه من الله مباشرة، ومنها ما حفظه بواسطة الملك. قوله (حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ ... (24) .. إن قلت: ما معنى الغاية هنا، وحتى من جهة مخالفة [ما*] بعدها لَا قبلها فيلزم انقطاع الخلود برؤيتهم ما يوعدون مع أنه دائم؟ فالجواب أن المراد أن زمن الغيبة وهو الذي كانوا يوعدون فيه بالخلود في النار، وهي غائبة عنهم فينقطع برؤيتهم لها. قوله تعالى: (فَسَيَعْلَمُونَ). الفاء جواب إذا، والسين للتحقيق لَا للاستقبال؛ لأنهم إذ رأوا العذاب يحصل لهم العلم الحالي لَا الاستقبالي؛ إذ تقول هي للاستقبال. لأن الشرط مقدر الوقوع لا واقع.

(25)

قوله تعالى: {أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَدًا (25)} إن قلت: فيه عطف الأعم على الأخص، وهو غير جائز لما فيه من تقسيم إلى نفسه وإلى غيره، وجعل قسما الشيء قسيما، فالجواب أن في الكلام تقدير صفة أي أمرا بعيدا، وأجاب الزمخشري بأن المراد بقريب الزمن الحالي، [وبالأمد*] الاستقبالي، فليس من عطفه الأعم على الأخص؛ بل من عطف الشيء على غيره، فيلزمه المجاز في حمل القريب على الحال، ويلزمنا نحن الإضمار وهو خير من المجاز، فإِن قلت: ليس مراد الزمخشري بالقريب الحال بل الزمن الذي يتوقع في كل وقت حضوره، أي لا تدري أهذا الذي تدعون أواقع بكم ليس له حد محدود؛ [أم هو واقع في زمن متوقع حلوله بكم*] إذ له أمر لَا يتقدم عليه ولا يتأخر عنه كأجل الدَّين الحالِّ مع الدَّين المؤجل، قلت: إن أردت بالقريب أنه مؤخر عن زمن الحال، فيتناوله لفظ [الأمد*]، وإن أردت به الحال؛ فيلزمك المجاز، ونفي العلم بقربه وبعده؛ فيستلزم نفي العلم بعين وقته؛ بخلاف العكس، ولفظ الرب مناسب لما تضمنته الآية من الرحمة والشفقة عليه. قوله (فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) .. هذه الإضافة مجاز؛ لأن المضاف إليه يكتسي من المضاف إليه وصفا مناسبا بحق، [كقولك*] زيد صاحب عمرو [واكتسى*] منه وصف الصحبة، وكذا زيد ضارب عمرو، [اكتسى منه*] وصف الضرب، حسبما ذكر الفخر نحوه في [المحصول*] في إضافة أصول الفقه، فيلزم فيه أن يكون الغيب صفة لله وهو باطل، فإِن قلت: هو صفة له بمعنى أنه فاعله في قوم دون قوم؟ قلت: ذلك تغييب لَا غيب؛ لأنه من غيب، وهذا من [ ... ]. فيرجع إلى المجاز الذي قلناه. قوله (إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ ... (27) .. استثناء متصل أو منفصل؛ باعتبار أن الغيب هو حالهم ينصب عليه دليل، وعلم الرسول للغيب بدليل، فليس من الغيب في شيء واحد. الزمخشري: في الآية إبطال كرامات الأولياء؛ يرد بأن لَا يلزم من نفي الخاص نفي العام، فلا يلزم من نفي هذا [بالاطلاع*] الخاص، أو نقول: هذا عام مخصوص بكرامات الأولياء، أو نقول: الحاصل لهم ظن لَا علم.

سورة المزمل

سُورَةُ الْمُزَّمِّلِ قال الزمخشري: مكية، ثم قال: وعن عائشة أنها سئلت ما كان تزميله، فقالت: كان مرطا طوله أربع عشرة ذراعا نصفه عليَّ [وأنا نائمة*] ونصفه عليه وهو يصلي، انتهى، وهذا مناقض لقوله [إنها مكية*]. لأن بناءه صلى الله عليه وعلى آله وسلم بعائشة كان بالمدينة. قوله تعالى: {قُمِ اللَّيْلَ ... (2)} الآية تقتضي أن [الجزء*] المأمور به من الليل شائع فيه [وقد يرجح*] آخره لما في الحديث، أبو حيان: المراد قم الليل كله؛ وهو ظرف عند البصريين ومفعول به عند الكوفيين؛ لاستغراق الفعل له، انتهى. ونقل ابن مالك عن سيبويه: لقيت زيدا الليلة، أن اللقاء في جميع الليل. قوله (نِصْفَهُ ... (3) .. قيل: بدل من قليل، والضمير في (أَوِ انْقُصْ مِنْهُ) إما للنصف المقدم أو المتروك، والمعنى فيهما واحد، وقال الزمخشري: [(نِصْفَهُ) بدل*] من الليل، (إِلَّا قَلِيلًا) استثناء منه، قال: ولنا أن نجعل نصفه بدلا من النصف، أي قم أقل من نصف الليل، والضمير في (منه) [و (عليه) *] للنصف فهو مخير بين أن يقوم نصف الليل على [البتِّ*] وبين أن يختار النقصان من النصف [والزيادة عليه*]، وألزمه أبو حيان التكرار؛ لأن قوله: انقص من نصف الليل قليلا هو معنى قوله: قم نصف الليل إلا قليلا، قال المختصر: هذا لازم على أن (نصفه) بدل بعض من كل، و (إِلَّا قَلِيلًا) استثناء منه، قال: ولنا أن نجعل نصفه بدلا من الليل استثناء منه القليل بدل إضراب، انتهى، أراد أن النصف بدل من الليل باعتبار استثناء القليل منه؛ لأنه بدل منه قبل الاستثناء، فكأنه بعد الاستثناء، تقول مثلا: قم خمسة أسداس الليل نصف ذلك أو انقص منه أو زد عليه، أي قم سدسين ونصف سدس، أو أقل أو أكثر، ويلزمه التكرار لقوله: (أَوْ زِدْ عَلَيْهِ)؛ لأنه عين من الأول؛ لأن الزيادة عليه من قيام الليل إلا قليلا، وهو الذي فرض خمسة أسداس الليل. وانظر ابن الصائغ. قوله (إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ ... (5) .. إن قلت: ما معنى التأكيد بـ (إِنَّ) هنا، قلت: لأن المزمل مظنة الغفلة عن الشيء، فكأنه قيل: هذا قول [ثقيل*] يحتاج إلى تيقظ، واشتغال [والسين*] للتحقيق، وهذا من القول بنفسه وبغيره، كما قال ابن التلمساني: لأن هذه الآية من جملة ذلك القول، وعبر بالقول تنبيها بالأدنى على الأعلى؛ لأنه إذا كان القول [ثقيلا*] [**فالفعل أحرى].

(9)

قوله تعالى: {رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ ... (9)} الأولى [تفسير*] الرب بالخالق؛ لأنه أعم فائدة، فإن قلت: لم قدم المشرق على المغرب والصواب العكس؛ لأن العرب إنما يؤخرون؛ فزمن الغروب متقدم على زمن الطلوع، قلت: الآية خرجت مخرج التعظيم لقدرة الله تعالى في إبدائه هذا الخلق العظيم الذي هو جرى في الشمس، فناسب البداية بالمشرق، و (رب) مبتدأ و (لا إله إلا هو) خبره، أو (رب) خبر مبتدأ مضمر أي هو رب، ويترجح الأول بعدم الحذف، وبأن الخبر محل الفائدة، والكفار موافقون على أنه رب المشرق، وإنما خالفوا في الوحدانية، فإِذا جعل (لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ) خبرا كان فيه زيادة فائدة، ويترجح الثاني بأنهم قالوا بأن المبتدأ يحذف إذا كان الخبر لَا يصلح إلا له، والمشرق والمغرب إما اسم زمان، أو اسم مكان، أو اسم مصدر، وهو الظاهر؛ لأن (رب) لزمن شروق الشمس وغيره من الأزمان، و (رب) لمكان طلوعها وغيره من الأمكنة، وأيضا فزمن الشروق مختلف باختلاف البلاد، وكذلك مكان شروقها فلا خصوصية فيه، فلا يقال: رب سائر الأزمنة والأمكنة، وإذا قلنا: المعنى رب الإشراق كان قائما في كل قطر وكل زمن. الزمخشري: وقرئ (ربُّ) مرفوعا على [المدح*]، ومجرورا على البدل (من (ربِّكَ)، وعن ابن عباس على القسم بإضمار حرف القسم، كقولك: الله لأفعلن، انتهى، إن أراد أن ابن عباس لم ينقل عنه غير القراءة فقط، فليس فيه دليل على أنه قسم، أو لعله بدل من (ربِّكَ) أو من الضمير في (إليه)، وإن أراد أنه قرأها وجمعها على القسم، فهذا لم ينقل مثله عن ابن عباس ولا عن عمر ولا غيرهما من الصحابة؛ لأنهم لم يكونوا يقرءون اصطلاح النحويين إذ النحو حادث [بعدهم*]، وإنما كانوا يتكلمون بطبعهم، ويحتمل أن يقال: إن ابن عباس فسر المعني ففهم عنه [حذفا*] على القسم. قوله تعالى: (لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ). اختلفوا في دليل الوحدانية هل هو مستفاد من السمع، وهو اختيار جماعة من المتأخرين، أو من النقل، وهو مذهب الأقدمين، أو منهما معا، وهو مذهب المحققين من المتأخرين، وسبب الخلاف: هل الإيمان بالرسول متوقف على وجود الصانع فقط، أو على وجود وحدانيته. قوله (فَاتخِذْهُ وَكِيلًا) أخص من توكل عليه، إن قلت: لم وصل هذا بما قبله بفاء العطف، [ووصل*] (لَا إله إلا هو) بما قبله فلم يعطفه عليه [والأنسب*] كان يكون العكس؛ فإن الأوليين جملتان اسميتان، والثانية فعلية، والجملتان الاسميتان متفق على

(10)

جواز عطف أحدهما على الأخرى؛ بخلاف عطف الفعلية الطلبية على الاسمية الخبرية، فإن الأصح امتناعه؟ فالجواب أن الجملتين الأولتين لما كانتا صفة لموصوف واحد أو خبرا عن موضوع واحد، صارتا كالشيء الواحد، فأتى بهما غير مفصولتين بحرف العطف؛ لأنهما في مقام التوسط؛ لأن كونه رب المشرق والمغرب ينتج أنه لَا إله إلا هو، وإلا لزم عليه وجود مقدور واحد بين قادرين، ولما كان الموصوف [باتخاد*] الوكيل هو النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فليس هو عين الموصوف بالربوبية والوحدانية، صارت هذه الجملة فائدة للأوليين، ففصلت عنها بحرف العطف، وهي مسببة عنهما؛ والمسبب غير السبب. قوله تعالى: {وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ ... (10)} أمره بالصبر على القول دون الفعل؛ لأن القول أكثر من الفعل، ولتعلق إذايته بالنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وبالله تعالى؛ إذ هو معنوي، والفعل إذايته حسية لا تتعلق بالله تعالى، والآية قيل: إنها منسوخة بآية السيف، وقيل: [محكمة*]، وقال ابن العربي: نسخ منها ما عدا المغلوب، فإنه إذا لم يقدر على تغيير المنكر لَا يجب عليه أن يغيره، وهو يعلم أنه إن غيَّر واقتحم [يقتل كَانَ لَهُ أَنْ يَفْعَلَ مَا فَعَلَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعَ الْكُفَّارِ حِينَ غَلَبُوهُ*] [فيصبر*] على ذلك (¬1)، فهذا تخصيص لا نسخ، ووصف الهجر بالجميل ولم يصف الصبر بذلك؛ لأن الصبر كله جميل. قوله تعالى: {يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ ... (14)} فيها دليل لصحة أحد القولين في الكائن في السفينة المتحركة هل له حركتان أو حركة واحدة؟ ذلك الخلاف في ذلك العجز، والآية تدل على القول الثاني: إذ لو كان رجف الأرض رجفا للجبال؛ لكان عطف الجبال عليها تأكيدا؛ لأن الرجف مستلزم للحركة. قوله تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا ... (15)} لما تضمن الكلام السابق الوعيد لهم بتعذيبهم على كفرهم، عقَّبه ببيان أن ذلك إنما كان بعد الإعذار إليهم برسول أرسل إليهم، وأكد الجملة بأن [لأن الخطاب يعم*] المنكرين لرسالته، والمقرين [بها*]. قوله تعالى: (شَاهِدًا عَلَيْكُمْ). شهادته لنا وعلينا، أو كلها لنا؛ لأنهم قالوا إن [أمته*]- صلى الله عليه وسلم - يشهدون على الأمم ويزكيهم فهو شاهد لهم بالتزكية، لكن إنما قال: (عَلَيْكُمْ) [يخرج*] الآية مخرج الوعيد والتخويف، ¬

_ (¬1) نص المسألة عند ابن العربي هكذا: "الْآيَة الثَّامِنَة قَوْله تَعَالَى وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا}. فِيهَا مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى هَذِهِ الْآيَةُ مَنْسُوخَةٌ بِآيَةِ الْقِتَالِ، وَكُلُّ مَنْسُوخٍ لَا فَائِدَةَ لِمَعْرِفَةِ مَعْنَاهُ، لَا سِيَّمَا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ إلَّا عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الْمَرْءَ إذَا غُلِبَ بِالْبَاطِلِ كَانَ لَهُ أَنْ يَفْعَلَ مَا فَعَلَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعَ الْكُفَّارِ حِينَ غَلَبُوهُ، وَهِيَ: الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ فَأَمَّا الصَّبْرُ عَلَى مَا يَقُولُونَ فَمَعْلُومٌ. وَأَمَّا الْهَجْرُ الْجَمِيلُ فَهُوَ الَّذِي لَا فُحْشَ فِيهِ. وَقِيلَ: هُوَ السَّلَامُ عَلَيْهِمْ. وَبِالْجُمْلَةِ فَهُوَ مُجَرَّدُ الْإِعْرَاضِ". اهـ (أحكام القرآن لابن العربي. 4/ 333).

(16)

وانظر هل هذه شهادة اصطلاحية أو لغوية، فإِنهم قالوا: إن شهادة الإنسان لنفسه غير جائزة، وهذه شهادته لأمته؛ لأنهم صدقوه في رسالته وليبلوهم بتكذيبهم إياه؛ فهي في الاصطلاح دعوى الشهادة، لكن قال في المدونة في كتاب المحاربين: إن السلامة [إن شهد*] بعضهم لبعض جازت شهادتهم فسماها شهادة، وكذلك إذا شهد أنه أوصى بهذا المال له ولزيد، بطلت الشهادة فسماها أيضا شهادة. قوله تعالى: (أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ). قال الفخر: فيه دليل لصحة العمل بالقياس انتهى، إن قلت: تشبيه لَا يقاس؛ لأن من شرط القياس أن لَا يكون الحكم في الفرع منصوصا عليه، وقد نص عليه هنا فهو قياس تمثيلي، ولا خلاف فيه، وإنما الخلاف في غيره من الأقيسة، والمشبه هو النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، والمشبه به موسى، وجه الشبه الرسالة، وثمرة التشبيه عصيان هؤلاء كعصيان هؤلاء، قلت: بل هو قياس باعتبار قوله تعالى: (فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا) لأن عقوبة هؤلاء لم ينص عليها. قوله تعالى: {فَعَصَى ... (16)} الفاء للتعقيب لَا للسبب بخلافها في (فَأَخَذْنَاهُ) هي للسبب، فإِن قلت: العصيان سبب عن الإرسال؛ لأن الطاعة موافقة [الأمر*]، والعصيان مخالفته فهي مسببةٌ عن الإرسال، قلت: لو كان كذلك للزم عليه أن يكون الإرسال سببا في الطاعة والمعصية، فيكون سببا في الشيء ونقيضه وهو باطل، وإنما المعصية [مفرعة*] عنه؛ لأنها مسببة. قوله تعالى: {إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ ... (19)} الإشارة للموعظة، وأكد الموعظة بثلاثة أمور: الأول: تصديقي، وهو التأكيد بـ (إِنَّ) المقتضية للتصديق والربط. والثاني: تصوري، وهو اسم الإشارة؛ لأن قوله: أكرم هذا العالم أبلغ من قوله: أكرم العالم. الثالث: أنه جعلنا نذكر بمبالغة في كونها سببا في التذكرة. قوله تعالى: (فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا). المشيئة هنا مجاز؛ لأنه يقال في الواجب أو المندوب: من شاء أن يفعل كذا فليفعل، فهذا خبرٌ، المراد به الأمر.

(20)

ابن عطية: [وعد ووعيد*]، [ولو*] كان كذلك كان أمرا حقيقيا، مثل (اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ)، أو يقال: المفعول محذوف وتقديره بأحد وجهين: من شاء النجاة اتخذ إلى ربه سبيلا، أيَّ سبيلٍ، وليس في هذا تكرار؛ لأن (سبيلًا) الثاني موصوف بصفة تقتضي تعظيمه، فتنكيره للتعظيم، أو نقول: متعلق التخيير تعيين [ ... ] (¬1) [إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ ... (20) *] التأكيد [بأنه*] مع أنه صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم عالم بأن الله يعلم ذلك باعتبار قدر قيامه؛ لأنه عليه السلام غير عالم بذلك، فإن قلت: لم أكد علم الله بذلك ولم يقل [ ... ]؟ قلت: لأنه يعلم إن ما علم الله وقوعه لابد منه، وما لم يعلم يستحيل وقوعه، وعلم الله تعالى بوجود الشيء مستلزم لوجود ذلك الشيء ضرورة، فلا فرق بين تأكيد علمه بوجود الشيء، وبين علمه بالشيء المؤكد وجوده، فإِن قلت: [**هو أنا يشك في قيامه هذا المقدار ولا ينكر، وهذا حرصا يأتي يبق فلا يحتاج؟ قلت: لما كان يحتقر يختص ما يصدر منه من الطاعة كان منكرا]. قوله تعالى: (وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ). الظاهر أن المراد بالطائفة هنا الجماعة الكبيرة؛ لأنها في معرض الثناء. قوله تعالى: (وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ). أي هو المخصوص بعلم مقاديرهما من غير مشارك له، وهذا كما قال أبو طالب في القوت: إن الشمس في وسط النهار لها ستة زوالات: زوال لَا يعلمه إلا الله تعالى، وزوال [أجلى*] منه يعلمه الملك الموكل بها فقط، وزوال [أجلى*] منه يعلمه سائر الملائكة، وزوال [أجلى*] من ذلك كله يعلمه الأولياء، وزوال [أجلى*] من الجميع يعلمه خواص النَّاس، وزوال [أجلى*] من الكل يعلمه سائر النَّاس، [**وبه عليهم] ما ورد في الحديث: "أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم سأل جبريل هل زالت الشمس؟ فقال: لَا نعم"، وذكر القرافي في كتابه المسمى باليواقيت: أن فقيها كان ينكر على صالح في زمانه مبادرته بالصلاة أول الوقت، ويزعم أنه يصليها أحيانا قبل وقتها؛ فكان الصالح يستند في ذلك إلى العلم، ويقول: إنه لَا يصلي إلا في الوقت، فرصده بعض المؤقتين يوما فوجده قد صلى الظهر قبل الزوال؛ فسأله، فقال: إنما صليتها في الوقت بعد الزوال؛ فصوب الفقهاء رأي ذلك الفقيه المنكر، انتهى. والصواب: أنه يدينان كما قال مالك في التنبيه العتبية في رجلين أبصرا غرابا يطير، فحلف أحدهما بالطلاق الثلاث أنه ذكر، وحلف الآخر كذلك أنه أنثى، قال مالك: يدينان ولا يحنثان، فكذلك هذا قد يكون سمع الآذان من السماء فمعرفته أقوى من ¬

_ (¬1) يوجد سقط في هذا الموضع، والله أعلم.

معرفة صاحب الوقت بدليل عادي، ومعرفته بالعيان والمشاهدة؛ كما نفرق بين مشي رجل بصير في طريق لَا يعلمها، وبين مشي رجل أعمى في طريق يعلمها من قبل. قوله تعالى: (عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ). أي لن تقدروا زمن الإحصاء (فَتَابَ عَلَيْكُم) فلم يؤاخذكم، أعم من أن يكون لهم ذنب مغفور، أم لَا ذنب لهم. قوله تعالى: (عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى). إشارة إلى أن الأمر بالصلاة، أو القراءة، عام في الأصحاء والمرضى، لكن [يصلي*] كل واحد جهة [استطاعته*]. قوله تعالى: (وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ). الترتيب بين هذين ترقٍّ؛ بخلاف الأول، فإنه مباين لهما؛ لأنه جبري، وهما كسبيان. * * *

سورة المدثر

سُورَةُ الْمُدَّثِّرِ [يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) *] قال بعضهم -أظنه السهيلي-: فائدة هذه الصفة ما أشار إليه في الحديث "أنا النذير العريان" فقال هنا المدثر على سبيل الحض له على التدثر كما أشار إليه الزمخشري في (يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ). قوله تعالى: {فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (8)} في الآية إشكالان، معنوي ولفظي، أما الأول: فإِذا ظرف بمعنى الوقت؛ فالمعنى: فإذا حضر وقت النقر في الناقور، فذلك الوقت وقت أن ينقر في الناقور، وقت تمييز؛ لأن التنوين في (يَوْمَئِذٍ) عوض من الجملة المحذوفة المفهومة من (إِذَا نُقِرَ). إلا أن يقال أن (يَوْمَئِذٍ) بدل من ذلك. الإشكال الثاني: أن [إذ*] ظرف لما يستقبل من الزمان و [إذا*]. ظرف لما مضى، فكيف صح اجتماعهما في كلام واحد؛ لأنه إن كان ماضيا فلا معنى لـ[إذ*]، وإن كان مستقبلا فلا معنى لـ[إذا*]، والجواب: أنه مستقبل وأدخلت [إذا*] لوجهين: إما لتحقيق وقوعه مثل (أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ)، وإما باعتبار ما يأتي بعده من الأمور المستقبلة عنه، فهو ماض بالنسبة إليها. قوله تعالى: {إِنَّهُ فَكَّرَ ... (18)} من الأصوليين من جعل الفكر عين النظر، وهو الفخر، قال: النظر والفكر ترتيب أمرين ليتوصل بهما إلى ثالث، ومنهم من جعلهما متغايرين، وهو إمام الحرمين، فالفكر هو استحضار أمور ومعلومات، والنظر هو ترتيبها ليتوصل بها إلى نتيجة. قوله تعالى: {ثُمَّ قُتِلَ ... (20)} العطف بـ ثم إشارة إلى أنه لُعِنَ لعنًا بعد لعنٍ [ ... ] التكثير والتكرار مثل: [فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ (3) ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ*]، وقال مالك في كتاب الأيمان بالطلاق: وإذا قال لها: أنت طالق ثم طالق ثم طالق إنه يلزمه الثلاث، وتوقف في العطف بالواو. قوله تعالى: {ثُمَّ نَظَرَ (21)}

(24)

إما أن يراد الإبصار أي نظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم وإلى قومه، أو يراد بالنظر غير الفكر؛ فيكون أولا استحضر المعلومات فقط، فحكم بما حكم به من غير جزم، ثم نظر ثانيا ورتب الدلائل فحكم بما حكم جازما به ومعتقد أنه أحق. قوله (فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24) إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ (25) .. إما أن يكون على معنى حرف العطف، فتكون الجملتان متباينتين، وإما أن نقول إنهما على حقيقتهما متصلتان؛ لأجل اشتراكهما في مخالفتهما القرآن وفي القدح فيه، فالأولى تضمنت أنه سحر، والثانية أنه مخلوق حادث لحصولهما [في] شيء واحد هو أنه مستفعل مختلف، ولا يصح أن تكون الثانية بدلا من الأولى؛ لأن القول أعم من السحر، والأعم لابد له من الأخص. قوله تعالى: {لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ (28)} أي لَا تبقي شيئا حاصلا [فيها*] إلا محقته، ولا تذر شيئا خارجا منها يستحق الدخول فيها إلا أدخلته فيها. قوله تعالى: {تِسْعَةَ عَشَرَ (30)} قال بعضهم: السر في تخصيص هذا العدد أن مجموع ساعات الليل والنهار أربع وعشرون ساعة، منها خمس ساعات للصلوات الخمس المفروضات، يبقى العدد المذكور في الآية. ابن عطية؛ قال بعض النَّاس: إنهم على عدد بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، [يريد*] على عددها مكتوبة، فيعد بسم ثلاثة أحرف، والله أربعة أحرف، والرحمن ستة، ولا يعد الألف المحذوفة ولا الحرف المشدد. ابن الخطيب في شرح الأسماء الحسنى، قوله تعالى: (عَلَيهَا تِسْعَةَ عَشَرَ) فسر بثلاثة أمور: أحدهما: أن اليوم [بليله*] أربع وعشرون ساعة، خمس منها مشغولة بالصلوات الخمس، وبقيت تسعة عشر خالية عن ذكر الله تعالى، فكان عدد الزبانية كعددها. الثاني: أبواب جهنم سبعة، [فَسِتَّةٌ*] مِنْهَا لِلْكُفَّارِ، وواحد للفساق، وأركان الإيمان ثلاثة: إقرار واعتقاد وعمل، فالكفار تركوا الثلاثة [فلهذا يحسب لتركهم ثلاثة*] من الزبانية على كل باب من الستة، فالمجموع ثمانية عشر، والفساق أتوا بالإقرار والاعتقاد دون العمل فلهم من الزبانية واحد، فالمجموع تسعة عشر.

(31)

الوجه الثالث: أن عدد الزبانية في الآخرة على عدد القوى الجسمانية المانعة من [معرفة الله*]، وخدمتها النفس الناطقة، وتلك القوى تسعة عشر خمسة في الحواس الظاهرة، وخمسة في الحواس الباطنة، واثنان هما الشهوة والغضب، وسبعة في القوى الطبيعية، وهي: الجاذبة، والماسكة، والهاضمة، [وَالدَّافِعَةُ*]، [وَالْغَاذِيَةُ*] [وَالنَّامِيَةُ*]، [وَالْمُوَلِّدَةُ*]، فمجموع هذه القوى تسعة عشر، وهي الزبانية الواقعة على باب جهنم، وعلى وفق هذه العدة زبانية جهنم [في*] الآخرة. قوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً ... (31)} الزمخشري: من إيقاع المسبب موقع السبب؛ أي وما جعلنا عدتهم إلا تسعة عشر، وكونهم [تسعة عشر*] هو سبب الفتنة؛ لأن الفتنة أعم من [كونها*] تسعة عشر أو أقل أو أكثر؛ [فالعدة*] بالإطلاق ليست فتنة، وإنما الفتنة هذه العدة الخاصة، فإن قلت: إضافتها إليهم تفيد [هذا*] المعنى فلا يحتاج إلى تقدير، قلت: الإضافة لَا عهد فيها، وإنما العهد في الألف واللام، وفرق ابن البناء في رفع الحجاب بين العدد والعدة، فانظره، وحمله ابن عطية على حذف الفتنة؛ أي وما جعلنا عدتهم هذا القدر المخصوص إلا فتنة، أو وما جعلنا عدتهم تسعة عشر إلا فتنة. قوله تعالى: (لِيَسْتَيْقِنَ). أبو حيان: يمتنع تعلقه بـ (جعلنا) لما يلزم عليه من تعليل الفعل الواحد بعلتين مستقلتين، انتهى. الحكم الشرعي: يجوز عندنا تعليله بعلتين مستقلتين، فالجمع يجوز ذلك فيه من باب [أحرى*]، لكن نص النحويون على منع إتيان حالين أو ظرفين أو مجرورين أو مفعولين لأجل [فعل واحد*] إلا بحرف العطف؛ إلا أن يكونا في معنى واحد، فلا يجوزون إكراما لك هيبة لعمرو؛ فلهذا قال: [ولكنه*] على تقدير فعلنا ذلك [ليستيقن*]. قوله تعالى: (وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا). اختلفوا في زيادة الإيمان ونقصه على ثلاثة أقوال: والثالث أنه يقبل الزيادة دون [النقص*] وهو ظاهر، وهو مشكل على قواعد الأصوليين؛ لأن الزائد على الإيمان، إما أن يكون مثله أو غيره، فإن كان غيره فليس [إيمانا*]، وإن كان مثله فيلزم عليه اجتماع المثلين في المحل الواحد وهو باطل؛ لأن الصفة إذا قامت بمحل أوجبت له الاتصاف بها؛ فذلك القدر الذي ازداد [هنا*] إيمانا إن كان بحيث لو زال عنه ثبت له ضده، وهو الكفر وهو إيمان، ويمتنع اجتماعه مع مثله؛ إذ لَا يقبله المحل؛ لأنا إن قلنا:

الإيمان محله العقل، فنقول: الإيمان الأول قد تلا العقل [**وعيه]، وعبر جميعه فلا يجد الإيمان الثاني في العقل محلا يكون فيه إلا لو كان الإيمان الأول قام نصفه العقل، فيقوم الثاني بنصفه الآخر الذي هو فارغ منه، ومثاله الشيء الأحمر لا يقبل أن يقوم به حمرة أخرى إلا إذا أتى فيه جزء لم [تقم*] به الحمرة، فإن قلت: إنه يريد باعتبار المتعلقات، فمن ظهرت له ازداد تسبيحا وترنما تنزيها وتعظيما لله عز وجل كهذه الآية؛ لأن من آمن من أهل الكتاب وجدوا هذه الآية موافقة لما في كتبهم فازدادوا إيمانا إلى إيمانهم، قلت: الذي يطلب من المؤمن حين الإيمان وممن يعلمه زيادة، وإنما الجواب أن يقال: إن تلك الزيادة تكميل مجازي راجع إلى قوة الإيمان وضعفه باعتبار الظهور والجلاء. قوله تعالى: (وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ). فيها من أنواع البديع [**أبلغ من التفريق]؛ لأنه ذكر أولا كل صنف [ ... ] الخاصة به، قلت: فنسب لأهل الكتاب الاستيقان وللمؤمنين ازدياد الإيمان، وجمع الفريقين هنا في عدم الارتياب، وأورد الزمخشري هنا سؤالا، قال: ما الفائدة في نفي الريبة عنهما مع أن اليقين وازدياد الإيمان يستلزم ذلك؟ وأجاب ما حاصله أنه مبالغة للتأكيد، ويجاب أيضا بأن اليقين وزيادة الإيمان مثبت للفريقين، والفعل من سياق الثبوت مطلق، فلا يقتضي الدوام بوجه، والارتياب منفي، والفعل في سياق النفي عام، فأفاد الأول حصول زيادة الإيمان للمؤمنين، وأفاد الثاني دوام ذلك لهم إذ [العلة*] تحصل في زمن ثم يفرض فيه الشك في الزمن الثاني، وقول القرطبي المراد بذلك. ومن تأتي في المستقبل، وكل كتاب يرد بأن مالكا قال: إذا قال: كل مملوك لي حسن [حر*]، إنه إنما يتناول ما في ملكه حينئذ لَا ما حدث له بعد ذلك، والمؤمنون يحتمل أن يكون من عطف العام على الخاص، فيكون المراد بأهل الكتاب المؤمنين، وبالمؤمنين من آمن من أهل الكتاب ومن غيرهم، وأورد الزمخشري هنا سؤالا وأجاب عنه، ونقل الطيبي عن صاحب الانتصاف: أن السؤال المذكور دائما يرد على قواعد المعتزلة، وبدأ بالمنافقين؛ لأن منه [ ... ] هذه المقالة منهم أغرب. قوله تعالى: (وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ). تقديم المفعول واجب إن كان الفاعل مقرونا بإلا اتفاقا، وتقديم الفاعل واجب إن كان المفعول مقرونا بإلا على اختلاف، وسبب ذلك أنك في الأول استثنيت من كلام ناقص، وهنا استثنيت من كلام تام، ومثله: ما ضرب إلا عمرو زيدا، فاستثنيت من كلام

(33)

غير تام؛ لأن رتبة الفاعل التقديم وقد قدمته؛ فهذا لَا يجوز؛ بخلاف ما ضرب إلا عمرا زيد، فإن الفاعل مقدم في المعنى فقد استثنيت من كلام تام في المعنى. قوله تعالى: (وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى). تحتمل عود الضمير على ["سقر"*] وتخصيص البشر بالذكر؛ [لأن النار فيهم أكثرُ تأثيرا*] في عذاب النار، لأن الجن [منها خلقوا*] والملائكة زبانيتها. قوله تعالى: {وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ (33) وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ (34)} [عبر*] في الأول بإذ، وفي الثاني بـ إذا مع أن فعل القسم والشرط الأصل فيهما الاستقبال؛ لأن زمان الماضي متقدم على المستقبل، والإدبار اعتبار ماض أو مستلزم لأن الإسفار هو أول النهار، والإدبار في آخر الليل، وأورد الزمخشري في قوله تعالى: (وَالشَمْسِ وَضُحَاهَا * وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا) سؤالا [يرد*] مثله هنا، والجواب كالجواب، قال: إن جعلت الواو للقسم خالفت مذهب سيبويه والخليل، وإن جعلتها عاطفة وقعت في العطف على عاملين وهو فعل القسم والعامل في إذا، وأجاب بأن الواو نابت مناب فعل القسم وهو في إذا. قوله تعالى: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ (37)} هذا خبر في معنى الأمر الوارد للتهديد؛ لأنها إنذار لمن شاء الإيمان إن لم [يؤمن*]. قوله تعالى: {بِمَا كَسَبَتْ ... (38)} إن كان قيدا في المبتدأ، فلا تخصيص، وإن كان قيدا في الخبر، فيكون العموم مخصوصا بالأنبياء والشهداء. قوله تعالى: {قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43)} يدل على أن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة باعتبار تعذيبهم [**بالنار في الدار الآخرة]، كما [ذكر*] أكثر الأصوليون، واشتمل كلامهم على نفي وإثبات، فقوله (فَمَا تَنْفَعُهُمْ) راجع للنفي، وقوله (فَمَا لَهُمْ) راجع للإثبات. قوله تعالى: {حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ (47)} يدل على إبطال الكفر عناداً لَا أن المعاند من يحصل له اليقين، ودلت الآية أن ذلك إنما يحصل لهم في الدار الآخرة. قوله تعالى: {فَمَا تَنْفَعُهُمْ ... (48)}

(49)

مفهومه أن المؤمنين تنفعهم أو يكون مثل "على لاحبٍ"، فإِن قلت: هلا قيل: فلا شافع لهم فهو أبلغ وأعم؟ قلت: هو تنبيه على حرمانهم من قبول الشفاعة فيهم مع قبولها في المؤمنين. فإِن قلت: هذا فعل في سياق النفي فهو عام، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أن شفاعته نفعت أبا طالب؟ قلت: إنما الشفاعة في زوال ما وقع، وقد حصل تخفيف عذاب أبي طالب قبل الشفاعة، وهذه [حجة*] على المعتزلة النافين للشفاعة، وحمله الزمخشري على رفع الدرجات جريا على مذهبه، وهو باطل. [لأن*] الكفار لم يثبت لهم دخول الجنة؛ [فضلًا*] عن أن ننفي عنهم رفع الدرجات فيها. قوله تعالى: {فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (49)} المراد بالتذكر الاعتبار لَا النسيان، فتدل على وجوب النظر لذمهم على تركه. قوله تعالى: {بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ ... (52)} لما شبههم بالحمر، [وأنهم*] إذا نفذوا الأمر خافوه كالحمر فنفي هذا التوهم. قوله تعالى: {وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ ... (56)} الزمخشري: (إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ) أي إلا أن [يقسرهم*] على الذكر ويلجئهم إليه؛ لأنهم مطبوع على قلوبهم معلوم أنهم لا يؤمنون اختيارا، انتهى. كأنه يقول: إلا أن يشاء الله ذكركم، واعتباركم [مشيئته قسرا*] لها، وهذا من ضعفهم في أصول الدين؛ لأن مذهب المعتزلة أن العبد يخلق أفعاله ويستقل بها، وهم يوافقونا في أن الداعي مخلوق لله؛ إذ لو كان [مخلوقا*] للعبد لاحتاج إلى داع، ويلزم التسلسل، ولذلك يقولون: لولا العلم والداعي لصح الاعتزال، [وثَم*] له سبب [ ... ] [يفرق*] بين الفعل وبين الداعي للفعل، وبين الحركة والداعي لها، ومعنى قولهم: القسر والإلجاء أن شرب الإنسان الشراب اللذيذ الطيب من فعله واختياره، وشراب المؤمنين الشراب الكريه الطعم بالقسر والإلجاء، ففسره على مذهبه الباطل في خلق الأفعال، ولا يحتاج إلى ذلك ولو أبقاه على ظاهره، فقال معناه: إلا أن يشاء الله مشيئتكم لصح عندنا [وعندهم*]؛ لأنه يرجع إلى خلق الداعي، وإن فسرناه نحن بالأفعال، فنقول معناه: إلا أن يشاء ذكركم؛ إلا أن يخلق الله في قلوبكم الذكر والاعتبار فتؤمنوا، والخطاب لهم باعتبار من لم يؤمن؛ لأن بعضهم آمن بعد نزول هذه الآية. * * *

سورة القيامة

سُورَةُ الْقِيَامَةِ قوله تعالى: {بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسَانُ ... (5)} الزمخشري: (بَلْ يُرِيدُ) عطف على (أَيَحْسَبُ) فهو إما مثله استفهام، وإما أن [يكون إيجابا*] على أن يضرب عن مستفهم عنه إلى آخر، أو يضرب عن مستفهم عنه إلى موجب، انتهى. [قيل*]: المعنى بل أيريد أو بل يريد، ويتعقب بأنه جعلها عاطفة مع مماثلة ما بعدها لما قبلها في الاستفهام، وقد نصوا على أن بل من الحروف [المشتركة*] في [اللفظ*]. لا في المعنى، فإن قلت: هو استفهام في معنى النفي فيرجع إلى مسألة سيبويه والمبرد وهي: ما قام زيد بل عمرو، معناه عند سيبويه: بل قام عمرو، وعند المبرد: بل قام عمرو، قلت: ما معنى التشريك إلا أن الحكم المسند للأول أبطل عنه، وحكم به للثاني من نفي أو إثبات، وهذه الآية ليس المراد فيها إبطال الأول؛ مثل الجمع بين الاستفهام عن الأول والثاني في الاستفهام. قوله تعالى: {بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (14)} أي شاهد عليها، وهو من باب التجريد، أو يراد بالإنسان العقل، يعني أن العقل يشهد على النفس، ويصح كون (بَصِيرَةٌ) مبتدأ، و (عَلَى نَفْسِهِ) خبر إلا أن (بَصِيرَةٌ) خبر الإنسان كما جعله الزمخشري، لكن يرد على ما قلناه أن يكون مدلول هذه الجملة كمدلول التي قبلها؛ لأن يعني كون على نفس الإنسان بصيرة رقيب، فلابد أن [يُنَبَّأَ*] بما عمل، وعلى قول الزمخشري يكون تأسيسا، وهو أولى. قوله تعالى: {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ ... (16)} فيه دليل على أن القول بأن النهي عن الشيء أمر [بضدِّه*]، وأن السكون أمر عدمي مما لَا يجتمعان، فإِنهم اختلفوا [هل*] السكون عدمي أو وجودي، وهل متعلق النهي الترك أو فعل الصلاة، فإن قلت: هلا قيل: لَا تحرك به شفتيك كما في أول البخاري، عن ابن عباس: كان رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يُعَالِجُ مِنَ التَّنْزِيلِ شِدَّةً، وَكَانَ مِمَّا يُحَرِّكُ شَفَتَيْهِ، فالجواب أن [اللسان*] أكثر [ترادفًا*] من الشفتين، قال تعالى (وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ). قوله تعالى: (لِتَعْجَلَ بِهِ).

(18)

هذا نهي تعليل، مثل: لَا تشرب الخمر لتسلم من العقوبة، فالنهي معجل باستعجال الحفظ، قال الفخر: احتج بها من [جَوَّزَ*] وقوع [الصغائر*] من الأنبياء، وأجاب عنه بجواب ضعيف، وإنما الجواب أنه نهي عن الاتصاف بالمرجوح دون الأرجح، باعتبار الانتقال من مقام إلى مقام أعلى منه؛ لأن في المقام الأول [ ... ] بوجه. قوله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ ... (18)} أي قرأه جبريل. قوله تعالى: {كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ (20)} فإن قلت: ما ضد المحبة إلا الكراهة، وما ضد الترك إلا الفعل، فالجواب أنه من حذف التقابل أي تحبون العاجلة وتقبلون عليها، وتكرهون الآخرة وتذرونها. قوله تعالى: {وُجُوهٌ ... (22)} فسر الزمخشري الوجه هنا بالذات، وهو من مجاز تسمية الكل باسم الجزء، ويدل على ذلك قوله (تَظُنُّ) لأن الظن من أعمال القلوب. قوله تعالى: (يَوْمَئِذٍ). أي يوم إذ تحضر الآخرة، أو يوم ينبأ الإنسان. قوله تعالى: {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23)} إن قلت: يرد على قولهم: الوجود مصحح للرؤية أن الوجود، إن قلنا: إنه نفس الموجود لزم إيجاب الشيء لنفسه وتصحيحه [لنفسه*]، وهو باطل، وإن قلنا: إنه غيره فيرجع إلى القول بالحال، والحال لَا توجب بغيرها حكما بوجه، فالجواب من وجهين: الأول: جدلي من باب المعارضة، وهو أنه يلزم مثله في الإمكان، فإنه إذا قام بشيء وجب له التسمية، فيمكن فيلزم إيجاب الشيء لنفسه؛ لأن الإمكان للجوهر صفة نفيسة. الثاني: حقيقي، وهو أن الوجود دليل على صحة الرؤية لَا أنه موجب لصحتها، فإن قلت: لَا معنى لمعارضة هذا بالإمكان؛ لأنا كذلك نعارضه بالتخيير للجوهر فإنه صفة نفسية له، قلت: الإمكان علة في وجود الممكن؛ بخلاف التخيير فإِنه ليس علة فما كل الصفات يعلل بها. قوله تعالى: {وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ (28)}

(33)

يدل على أن النفوس بعد مفارقتها الأجسام لَا تنعدم؛ بل تنتقل من حالة إلى حالة؛ إذ لو كانت تنعدم لما أطلق عليها المفارقة. قوله تعالى: {ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ ... (33)} يحتمل أن يريد عموم المقاربة والزوجة فقط، كما هو المراد في قول في المسافر: يمر ببلد فيها أهله أنه يقيم الصلاة ولا [يقصرها يخصص*] ذلك بالأهل؛ إشارة إلى تكرره [منه*]. قوله تعالى: {أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (34)} كان الفقيه أبو زكريا يحيى بن نوح [**البقريني] يقول: إن ذلك باعتبار الأزمنة، أي أولى الهلاك في الدنيا؛ فأولى لك الهلاك في القبر في زمن البرزخ، ثم أولى الهلاك يوم القيامة في الحشر؛ فأولى لك الهلاك حين [دخول*] النار، والأولان قرينتان متعاقبتان فعطفا بالفاء، ولما كان بين نزول القبر ويوم القيامة زمنا طويلا [أتى*] بقوله: (ثم)، وقيل: هو لف ونشر؛ لأنه تقدمت أربعة أمور، اثنان فيها في قوله تعالى: (فَلا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى) وهما متباينان فلذلك كرر فيها (لَا)، والثالث قوله (وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى) وهما كالشيء الواحد، فلذلك عطفه بالواو فقط، والرابع (ثُمَّ ذهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى) فقابلنا بأربع بكل واحدة منها هلاك علتها يخصها، وعلى قول ابن حبيب في أن تارك الصلاة كافر يكون تولى فلا صدق ولا صلى شيئا واحدا، أي فلا صدق بالنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم. قوله تعالى: {أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ ... (36)} [ ... ] على الظن ليفيد التوبيخ على العلم من باب [أحرى*]، ولم يذكر الشك؛ لأن الأغلب في النَّاس هو ذلك لَا الشك، والإنسان إما للعهد، وهو أبو جهل أو للجليس المطلق، فلا يحتاج إلى التخصيص، أو للعموم، فيكون مخصوصا. قوله تعالى: (أَنْ يُتْرَكَ سُدًى). أن [يهمل*] في الدنيا من التكاليف، وفي الآخرة من المجازاة، قلنا: وفي الآية دليل على أصل ذلك، وهو جواز الإعادة مع المعجزات الواردة من الرسل واعتبارهم بوقوعها، فينتج [وجوبا*]، ولا يصح أن يكون ذلك على وجوب الإعادة على مذهب الحكماء، والمعتزلة القائلين بالتحسين والتقبيح، وأن ترك الإنسان سدى قبيح، ووجه الدليل منها أن خلقه وتطويره على هذه الحالة ينتج اعتقاد جواز إعادته، وهذه الآية ليست من أول ما نزل بل [إنما نزلت بعد ظهور*] المعجزات [وإخبار*] بالرسل بوقوع الإعادة في الدار الآخرة، فينتج القطع بوجوبها شرعا، في مذهب أهل السنة لَا عقلا.

(38)

قوله تعالى: {ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً ... (38)} قول ابن عطية في هذه القطعة من الدم خطأ؛ إذ لَا خلاف أن الأمة إذا وضعت منه دما [أَنَّهُ وَلَدٌ]، فقال ابن القاسم: تكون أم ولد، ولم يرد أشهب، والمسألة في كتاب الاستبراء من المدونة، وعطف هنا بـ ثم للمهلة المعنوية بين النطفة والعلقة، وفي (قَدْ أَفْلَحَ) عطفه بالفاء [نظرا*] إلى الحالة؛ إذ لَا صلة في ذلك، وآدم وغيره [**أخل في ذلك هو إما عيني فيحتمل الدخول وإما لَا]؛ لأن قوله تعالى: (إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ) حمله جماعه إما حال من عيسى، فيكون مخلوقا من التراب، أو من آدم، ويكون عيسى مخلوقا من نطفة، وخلقه الله تعالى في رحم مريم، كما خلقها في ظهر الرجال، ونقلها إلى أرحام النساء. قوله تعالى: {فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ ... (39)} رد على [الطبائعيين*] إذ لو كان بالطبيعة لكان الخلق صنعا واحدا. قوله تعالى: {الْمَوْتَى (40)} الألف واللام إما للجنس، فتدخل البهائم والحشرات، وإما للعهد فلا تدخل. * * *

سورة الإنسان

سُورَةُ الْإِنْسَانِ قوله تعالى: {هَلْ ... (1)} ابن هشام: هل تأتي بمعنى قد، وذلك مع الفعل؛ وبه فسر قوله تعالى: (هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ) جماعة منهم ابن عباس رضي الله عنهما، والكسائي، والفراء، والمبرد، قال في مقتضبه: هل للاستفهام نحو هل جاء زيد ويكون بمنزلة قد، نحو قوله تعالى: (هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ). وبالغ الزمخشري فزعم أنها أبدًا بمعنى قد، وأن الاستفهام إنما هو مستفاد من همزة مقدرة معها، ونقله في المفصل عن سيبويه أن هل بمعنى قد إلا أنهم تركوا الألف قبلها؛ لأنها لَا تقع إلا في الاستفهام، وقد جاء [**وهو لهما عليه] في قوله: "أهل رأونا [بسفع*] القاع ذي الأكم"، ولو كان كما ذكر لم تدخل إلا على الفعل كقد إذ [لم تأت*] في كتب سيبويه، وما نقله عنه إنما قال في [أبواب عدة*] ما يكون عليه الكلام، ما نصه، وهل هي للاستفهام؟ لم يرد على ذلك، وقال الزمخشري في كشافه: (هَل أَتَى) [أقد أتى؟ على التقرير والتقريب جميعا، أى: أتى على الإنسان قبل زمان قريب حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ فيه شَيْئاً مَذْكُوراً أى كان شيئا منسيا غير مذكور نطفة في الأصلاب والمراد بالإنسان: جنس بنى آدم، بدليل قوله إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ*]، انتهى. وفسرها غيره بـ قد خاصة، ولم يحملوا قد على معنى التقريب، وقال بعضهم: معناه التوقع، وكأنه قيل لقوم يتوقعون الخبر عن ما أتى الإنسان، وهو آدم عليه السلام، قال: والخبر من كونه طينا، وفي تسهيل ابن مالك: الآيتين [ ... ] هل [(قد) *] إذا دخل عليها الهمزة بمعنى كما في البيت ومفهومه أنها لَا تتعين لذلك إذا لم تدخل عليها؛ بل قد تأتي لذلك كما في الآية، وقد لَا تأتي لم، وقد عكس كونهم، قاله الزمخشري فزعموا أن مثل هل (لَا) تأتي بمعنى (قد) مثلا، وهذا هو الصواب عندي أن لَا يتمسك لمن أثبت ذلك لأحد ثلاثة أمور أحدهما: تفسير ابن عباس رضي الله عنهما ولعلمه إنما أراد أن الاستفهام في الآية للتقرير وليس باستفهام حقيقي، وقد صرح بذلك جماعة من المفسرين، فقال بعضهم: هل هنا للاستفهام التقريري والمقرر به من أنكر البعث، وقد علم أنهم يقولون: نعم قد مضى دهر طويل والإنسان فيه، فيقال لهم: فالذي أحدث النَّاس بعد أن يكونوا كيف يمتنع عليه إحياؤهم بعد موتهم، وهو معنى قوله تعالى: (وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى) أن من أنشأ شيئا بعد أن لم يكن، [قادرٌ*] على إعادته بعد موته، انتهى، وقال آخر؛ مثل ذلك إلا أنه فسر الحين بزمن التطوير في الرحم، فقال: المعنى ألم يأت على النَّاس [حين*] من الدهر كانوا نطفا، ثم علقا ثم مضغة إلى أن صاروا

(3)

شيئا مذكورا، وكذا قال الزجاج إلا أنه حمل الإنسان على آدم عليه السلام، فقال: المعنى ألم يأت على الإنسان حين من الدهر كان فيه ترابا وطينا إلى أن نفخ فيه الروح، انتهى، وقال بعضهم: لَا تكون هل للاستفهام التقريري وإنَّمَا ذلك من خصائص الهمزة، وليس كما قال، وذكر جماعة من النحويين أن هل بمنزلة إن في إفادة التأكيد والتحقيق، وحملوا على ذلك: (هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ) قدروه جوابا للقسم، وهو بعيد، والدليل الثاني: قول سيبويه وقد مضى أنه لم يقل ذلك، والثالث: دخول الهمزة على مثلها في البيت والحرف لَا يدخل على مثله في المعنى، وقد رأيت عن السيرافي أن الرواية الصحيحة [أم هل*] هذه منقطعة بمعنى بل، فلا دليل، وبتقدير ثبوت [تلك*] الرواية فالبيت شاذ فيمكن تخريجه على أنه من الجمع بين حرفين لمعنى واحد على سبيل التوكيد كقوله: هؤلاء [**للاهتمام بهم] [ ... ] الذي في ذلك البيت أممثل لاختلاف اللفظين، وكون أحدهما على حرفين، كقوله: فَأَصْبَحْنَ لَا يسألنه عَن بِمَا بِهِ ... أصعد فِي علو الْهوى أم تصوبا. قوله تعالى: {إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا (3)} فيه سؤال: وهو ما السر في العدول عن صريح المقابلة، فيقال: إما شاكرا وإما كفورا، ويقال: إما شكورا وإما كفورا؟ والجواب: أنه من حذف التقابل حذف شكورا لدلالة (كفورا) عليه، وحذف كافر لدلالة شاكر، والقسمة الممكنة باعتبار التقابل أربعة: شكور كفور، شاكر كافر، شاكر كفور، شكور كافر. قوله تعالى: {إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ ... (5)} إن قلت: لم عبر في ذكر تعذيب الكفار بالإعداد، ولم يقل في ذكر تنعيم المؤمنين: إنا أعتدنا للأبرار شرابا؟ فالجواب: أن اعتداد العذاب للمعذب أشد عليه؛ لأن انتظار العذاب أشد من حصوله، ولو ذكر في تنعيم المؤمنين لتألموا بعدم تعجيله، مع أن الإنعام على إنسان بما لم يسبق له شعور أكمل مما سبق له شعور. قوله تعالى: {لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً ... (9)} إن كانت ((إِنَّمَا) [في*] قوله (إِنَّمَا نُطْعِمُكُم) للحصر فهذا تأكيد، وإلا فهو تأسيس، ويدل على أن إرادة وجه الله وإرادة الشكر والجزاء الآن لَا [ ... ]، فإن قوله في المدونة في السلم الأول: إن أسلمت ثوبا فسطاطيا في ثوب فسطاطي إلى أجل، فهو قرض؛ فإِن

(13)

ابتغيت نفع الذي أقرضته جاز، وإن ابتغيت به نفسك يظل السلم، وقالوا [**في إرادتهما هما] نفس المعاملة الآدمية [فأحرى*] معاملة الخالق. قوله تعالى: {لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا ... (13)} إن قلت: لَا يلزم من عدم الرؤية عدم الوجود؛ والآية إنما سيقت لبيان عدم وجود ذلك، كما قال الزمخشري، قلت: المقصود بيان تعديد النعم عليهم وعدم تألمهم بما ذكر، فالمعنى: [لَا يرون فيها حرّ شمس*]، كما يرونه في الدنيا مؤلما. قوله تعالى: {كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلًا (17)} استدلال الزمخشري ببيت الأعشى على كون الزنجبيل مستطابا عند [العرب*]، يرد بأن الآية مكية، والأعشى متأخر عنها، فيكون سمع الآية فأخذ [منها*] كونه مستطابا، والأعشى مات كافرا، وإنما يصح الاستدلال لو كان البيت لغيره سابقا على الآية. قوله تعالى: {أَوْ كَفُورًا (24)} نقل الطيبي في سورة الأنعام عن ابن الحاجب أن (أَوْ) هذه بمعناها وهو أحد الأمرين، وإنما جاء التعميم من [النفي*] الذي فيه معنى [النهي*]؛ لأن المعنى قبل وجود [النفي*] [تطع*] منهم آثما أو كفورا، أي واحدا منهما، فإِذا جاء [النفي*] ورد على ما كان ثابتا في المعنى فيصير المعنى، ولا [تطع*] واحدا منهما فيجيء التعميم من وجه [النفي*] الداخل بخلاف الإثبات، قال الطيبي: وهو معنى دقيق حسن. قوله تعالى: {وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا (26)} هل معناه زمنا طويلا، أو المراد الليل الطويل من الليالي، وكان بعضهم يتحرى أطول ليل في العام، فيقومه [رَعْياً*] لهذين الاحتمالين. قوله تعالى: {يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ ... (31)} راجع لقوله تعالى: (حَكِيمًا). قوله تعالى: (وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ). راجع لقوله تعالى: (عَلِيمًا) فهو لف ونشر. * * *

سورة المرسلات

سُورَةُ الْمُرْسَلَاتِ قوله تعالى: {وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا (1)} قيل: الرياح، وقيل: الملائكة، وهو على هذا صفة، ولا يصح حذف الموصوف، وإبقاء [صفته*] إلا بدليل، إما اشتهار الأسماء أو معلومية الموصوف، أو نحو ذلك، وليس ذلك هنا إلا [بدليل*] على إرادة الرياح والملائكة؟ والجواب: بأحد أمرين: إما بكون الملائكة من نوع ما يرسل، وصار ذلك معلوما؟ فلذلك حذف، لكن الرياح ليست من نوع ما يرسل، وإما بأن المقصود من الكلام [دلالته*]، أما الموصوف [فهل يجوز*] حذفه وإبقاء الصفة؟ [يجوز*]، والكلام هنا في الثاني. أعني أن المقصود الصفة، فلذلك اعتنى بذكرها دون الموصوف، فإِن قلت: كيف يصح تفسير المرسلات بما لم يرد فيه حديث ولا أثر؟ قلت: يصح حمل ألفاظ القرآن على مدلولها لغة ما لم يعارض معارض. قوله تعالى: {إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ (32)} ما [ردَّ*] به الزمخشري هنا على الشاعر صحيح؛ لأن الشاعر قد ألف في معارضة القرآن و [ ... ]. البيت الذي ذكره، وزعم أنه أتى بأبلغ من تشبيه الآية، ولم يدر أن تشبيه الآية أبلغ من حيث اشتماله على [ ... ]، وأن في قوله: (كأنَّهُ) وفي البيت الكاف فقط، وقد تقرر أن قولنا: زيد كأنه الأسد، أبلغ من قولنا: زيد كالأسد (¬1). * * * سُورَةُ عَمَّ قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا (10)} أخذ منه صحة صلاة العريان في الظلمة. قوله تعالى: {كَانَ مِيقَاتًا (17)} الوقت أخص من الزمان الواقع فيه مظروفه. قوله تعالى: {يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ ... (18)} عبر عن النفخ بالمضارع، ثم قال (وَفُتِحَتِ) (وَسُيِّرَتِ) بالماضي؛ لأن النفخ يتجدد شيئا بعد شيء، قال [تعالى*]: (ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى) وهي ثلاث نفخات، والنفخ والسير يقع [دفعة*]. ¬

_ (¬1) النص عند الزمخشري هكذا: وفي شعر عمران بن حطان الخارجي: دعتهم بأعلى صوتها ورمتهم ... بمثل الجمال الصّفر نزّاعة الشّوى «1» وقال أبو العلاء: حمراء ساطعة الذّوائب في الدّجى ... ترمى بكلّ شرارة كطراف «2» فشبهها بالطراف وهو بيت الأدم في العظم والحمرة، وكأنه قصد بخبثه: أن يزيد على تشبيه القرآن ولتبجحه بما سوّل له من توهم الزيادة جاء في صدر بيته بقوله «حمراء» توطئة لها ومناداة عليها، وتنبيها للسامعين على مكانها، ولقد عمى: جمع الله له عمى الدارين عن قوله عز وعلا، كأنه جمالات صفر، فإنه بمنزلة قوله: كبيت أحمر، وعلى أن في التشبيه بالقصر وهو الحصن تشبيها من جهتين: من جهة العظم، ومن جهة الطول في الهواء. وفي التشبيه بالجمالات وهي القلوس: تشبيه من ثلاث جهات: من جهة العظم والطول والصفرة، فأبعد الله إغرابه في طرافه وما نفخ شدقيه من استطرافه. اهـ.

(33)

قوله تعالى: {وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا (33)} فيه سؤال [تقريره*] أن عندنا قاعدتين ظرفية وبيانية؛ أما البيانية، فقالوا: إن الكلام المشتمل على أساليب يزداد تفننا وحسنا، وأما ظرفية فتقتضي أن دوام التماثلات كالمتخلفات في الاستماع، قلت: وجوابه أن الآية لم تدل على الحصر؛ بل هذا بعض ما ينعمون به، ولهم أنواع أخر من النعيم. * * * سُورَةُ النَّازِعَاتِ تأمل سر العدول عن صريح المطابقة اللفظية في التأكيد بالمصادر في (وَالنَّاشِطَاتِ) (وَالسَّابِحَاتِ) (فَالسَّابِقَاتِ) دون (وَالنازِعَاتِ ... (1) .. فلم يقل: والنازعات نزعا. قوله تعالى: {قَالُوا تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ (12)} فيه سؤالان: الأول: ما السر في التعبير عن المقول [ثانيا*] بـ (قالوا) بصيغة الماضي، بخلاف ما قبله؟ الثاني: ما وجه تكرير لفظ القول؟ وجواب الأول: أن المقول له حالتان: تارة يعبر عنه من حيث وقوعه متجردا شيئا فشيئا، وتارة باعتباره وصيرورتهم عظاما ليس دفعة؛ بل شيئا فشيئا، [فأشبه*] المضارع، وحالهم في الرجعة والكرة المنكرة لديهم دفعة واحدة، فجعل كالواقع فأشبه الماضي. وجواب الثاني: أنه لما كان المقول الثاني في غاية الشناعة أطنب فيه. قوله تعالى: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (15)} الظاهر أن هذا أول ما أنزل من قصص موسى - عليه السلام -؛ لأن السورة مكية، وانظر ما سر التعبير بالحديث دون النية. * * * سُورَةُ عَبَسَ (الأعمى) [عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) *] فيها دليل [لما استدل به*] ابن الحاجب في مسألة اجتهاده عليه السلام بـ (عَفَا اللَّهُ عَنْكَ)، وما أخذه ابن عطية من لفظ [الأعمى*] لَا يصح؛ لأن هذا من الله لَا يقاس عليه، وبعض كلام الزمخشري هنا غير حسن. قوله تعالى: {قُتِلَ الْإِنْسَانُ ... (17)}

(34)

خرج ابن خروف في أوائل شرح سيبويه أن مثل هذا في القرآن لَا يجوز أن يكون دعاء. قوله تعالى: {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34)} بعض هذه الأمور الستة متكررة منعكسة. قوله تعالى: {الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ (42)} إن جعل الفجرة منه [لما صدق*] عليه الكفرة، يكون التقسيم غير مستوف؛ لأن [ ... ] قسم ثالث، وإن جعل غير تابع للكفرة كان مستوفيا. * * * سُورَةُ (التَّكْوِيرِ) أكثر ما ذكر في المكي الوعد والوعيد وبراهين الحشر والنشر، وما أشبه ذلك؛ لأنه نزل بعد نزول كثير من الأحكام في المدني، وتقرر أيضا في السنة، وما نقض به ابن الحاجب على الزمخشري (فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (15) .. لَا يتعين؛ لأن للزمخشري أن يقول قوله (وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ) وما بعده، هذا أول القسم؛ لأن قوله (فَلا أُقْسِمُ) حتى يلزم منه إظهار فعل القسم، ويتم جواب الزمخشري؛ لأنه ليس في (وَاللَّيْلِ) إلى آخره إظهار فعل القسم مع الواو. * * * سُورَةُ الانْفِطَارِ قوله تعالى: {كِرَامًا كَاتِبِينَ (11)} انظر ما ذكره ابن التلمساني في أول مسألة من الباب الخامس من شرح المعالم اللدنية، نقل عن بعض الحكماء أن الإنسان هو ذو القوة الفكرية، وعن بعضهم أنه الحيوان الناطق، ونقض بدخول الجن والملائكة فزاد الكاتب فرده ابن التلمساني بهذه الآية، وانظر هل الحفظة متجددون أو متعددون. قوله تعالى: {مَا تَفْعَلُونَ (12)} العمل أعم من الفعل. قوله تعالى: {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (13)} في الآية حذف التقابل؛ لأنه ذكر في القسم الأول ما يحصل لهم دون محله، وفي القسم الثاني العكس.

سورة المطففين

سُورَةُ الْمُطَفِّفِينَ قوله تعالى: {تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (24)} إن قلت: لم عدل عن المناسبة اللفظية؛ لأن نضرة النعيم مدركة بحاسة البصر، قلت: لأن متعلق المعرفة أعم من كونه محسوسا أو معقولا، فإن قلت: قوله تعالى: (فِي وُجُوهِهِم) تقتضي قصره على إدراك العين؟ قلت: يكون بالوجوه الذوات، فإِن قلت: يلزم على هذا إضافة الشيء إلى نفسه؟ قلت: لَا يلزم؛ لأن الضمير راجع إلى الأبرار، وهو وصف عبر به عن الموضوع، وعنوان الموضوع غير الموضوع، ولا يمتنع صدق وصفين على ذات واحدة. * * * سُورَةُ الانْشِقَاقِ قوله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ (7)} ففي الآية حذف التقابل المعنى (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا (8) وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا) .. ويجزى جنة وحريرا، وأما من أوتي كتابه بشماله فسوف يحاسب حسابا [عسيرا*] ويدعو ويصلى سعيرا، والظاهر أن القسمة [ظاهرة*]. * * * سُورَةُ الْبُرُوجِ قوله تعالى: {إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (8)} انظر ابن خروف في باب [أَنْ]. قوله تعالى: {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (16)} حجة لأهل السنة؛ لأنه في قوة كل مراد مفعول لكن ليشكل بالمعدوم الذي علم الله أنه لَا يكون فاته مراد العدم وليس بمفعول؛ أي فموجود حالة عدمه؛ لأن متعلق القدرة الإيجاد والعدم ليس بإيجاد. * * * سُورَةُ الطَّارِقِ [وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ (1) *] قال شيخنا ابن عرفة: رأيت بالديار المصرية كتابا في علم الهيئة ذكر فيه عن بعض الملوك أنه سأل جماعة من العلماء لم تظهر الكواكب بالليل دون النهار؟ فقالوا يحجبها شعاع الشمس، وفي الليل تحول الأرض بينها وبين الشمس، فقال: قد ثبت أن الشمس قدر الأرض أربعمائة مرة ونيف، [والجرم الصغير*] لَا يحجب الكبير؛ فيلزم على قاعدتهم

(4)

أن الأرض إذا لم تمنع ضياء الشمس أن لَا ترى النجوم بالليل، قال شيخنا: والجواب أن هذا الظهور والانحجاب إنما هو باعتبار الرائي لَا المرئي، ونحن في مخروط ظل الأرض فلا يدرك ما يخرج عنه؛ لأن الخارج عنه من الشعاع مرافقنا عن أفقنا، ومعلوم أن من هو في الظلام يرى من هو في الضوء ألا ترى أنا نرى بالليل النار البعيدة عنا، ومن هو عندها لَا يرانا؛ فنظير الكلام الليل؛ لأنا حينئذ في مخروط ظل الأرض فلذلك رأينا النجوم، ولما كنا بالنهار في الضياء يمنعنا رؤية النجوم، وإنما عبر بالطارق؛ لأن النجوم تأتي في كل ليلة طروقا يطلع كل ليلة نجوم لم تطلع قبل، وكان الشيخ الفقيه أبو العباس أحمد بن إدريس يقول: من نظر إلى جدي بنات نعش، وقال أيضا (النَّجْمُ الثَّاقِبُ (3) إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ)، (فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ) (فَسَيَكفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) فإِنه لا يلدغه عقرب ما بقي من عمره، وإن لدغته لم تضره وذكر أنه جربه، فصح. قوله تعالى: {إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ (4)} الحفظ مقول بالتشكيك؛ فالمجنون محفوظ بأن يصاب بأكثر [مما به*]، أو المراد بالحفظ ما تضمن قوله تعالى: (وإنَّ عَلَيْكمْ لَحَافِظِينَ). * * * سُورَةُ الْأَعْلَى (سَبِّحِ) قوله تعالى: {الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى (3)} فيه سؤالان: الأول: الخلق صفة فعل حادثة، والتقدير صفة فعل قديمة؛ لأنها إما بمعنى قضائه، أو بمعنى إرادته الشيء على صفة ما دعي سابقة على الخلق [فلم*] أخرت؟ والجواب: أن ذلك بالنسبة إلى الفاعل، وأما بالنسبة إلى المخاطب فينظر أولا إلى المخلوق وصفته، فيعتقد أن فعله كان عن إرادته. وتقدير السؤال الثاني لم كرر الموصول في الخلق والتقدير، ولم يكرره في التسوية والهداية؟ والجواب: أنه أشار إلى قرب التسوية من الخلق والهداية من التقدير، وقوله (خَلَقَ فَسَوَّى) إشارة إلى وقوع خلقه على وفق مراده فالأحدب خلق في أحسن تقويم؛ لأن ذاته أتت على وفق ما قدره الخالق وأراده.

سورة الغاشية

سُورَةُ الْغَاشِيَةِ قوله تعالى: {لَا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً (11)} من باب نفي الشيء بنفي لازمه؛ أي لَا لغو فيها، فيسمع، مثل "عَلَى لَاحِبٍ لَا يَهْتَدِي بِمَنَارِهِ". * * * سُورَةُ الْفَجْرِ [وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (3) *] فسر بعضهم الشفع والوتر بمقدمتي القياس ونتيجته، [واعتُرِضَ*] بأنا نجد النتيجة غير وتر، وهي نتيجة الشرط في الجزاء التام فإِنها من [**كتبه]. * * * سُورَةُ اللَّيْلِ قوله تعالى: {إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى (4)} كون السعي شتى معلوم، [والمقصود*] التهييج على العمل بدليل ما بعده. * * * سُورَةُ الضُّحَى [وَالضُّحَى (1) *] قال ابن عرفة: فيه مناسبة قسم بالمقسم به؛ لأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم كان يصلي وقت الضحى ويصلي في جوف الليل. قال الله تعالى (يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا) فهما وقتان ثبت لهما الفضيلة. قال الزمخشري: الأصل تقديم القسم بالضحى؛ لأنها الساعة التي كلم الله فيها موسى، وألقي السحرة فيها سجدا، بقوله (وَأَن يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى) قال ابن عرفة: ويخرج من هذا الجواب عن سؤال مقدر، وهو لأي شيء قدم الضحى على الليل مع أن الأصل تقديم الليل؟، وورد في صلاة الضحى أنها صلاة الأوابين، والصلاة في جوف الليل فضلها بأن ورد في الصلاة آخر الليل أنها معهودة، فقد قال تعالى (وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ) قال عياض في الشفاء: [تضمنت هذه السورة من كرامة الله تَعَالَى لَهُ، وَتَنْوِيهِهِ بِهِ، وَتَعْظِيمِهِ إِيَّاهُ سِتَّةَ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: الْقَسَمُ لَهُ عَمَّا أَخْبَرَهُ بِهِ مِنْ حَالِهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: «وَالضُّحى وَاللَّيْلِ إِذا سَجى» أَيْ وَرَبِّ الضُّحَى. وَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ دَرَجَاتِ الْمَبَرَّةِ*]. الثاني: مكانته عنده بقوله (مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ) أَيْ مَا تَرَكَكَ وَمَا أَبْغَضَكَ، وقيل: وَقِيلَ: مَا أَهْمَلَكَ بَعْدَ أَنِ اصْطَفَاكَ.

(6)

[الثَّالِثُ*]: قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى) أي [مَآلُكَ*] عندنا [أَعْظَمُ*] مما أعطيت مِنْ كَرَامَةِ الدُّنْيَا. الرَّابِعُ قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى) قال [ابْنُ*] إسحاق: [يُرْضِيهِ بِالْفَلَجِ*] فِي الدُّنْيَا وَالثَّوَابِ فِي الْآخِرَةِ. وَقِيلَ: يُعْطِيهِ الْحَوْضَ وَالشَّفَاعَةَ، ولا يرضى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم أن يدخل أحد من أمته النار. الخامس: ما عدده عليه من نعمه في آخر السورة. [السَّادِسُ: أَمَرَهُ بِإِظْهَارِ نعمته عليه، وشكر ما شرفه به بِنَشْرِهِ، وَإِشَادَةِ ذِكْرِهِ*] بِقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ) [فَإِنَّ مِنْ شُكْرِ النِّعْمَةِ التَّحَدُّثَ بِهَا*] وهو خاص به عام لأمته، قال ابن عرفة: فإن قلت: الترك أعم من الخصوص، ونفي الأعم يستلزم نفي الأخص، فلو بدأ بنفي الأخص لكان تأسيسا، فلم عدل عنه إلى التوكيد؟ فالجواب أن التأكيد هنا أبلغ؛ لأنه في مقام الاعتناء والتعظيم للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وتنزيهه من الخصال الذميمة كلها. قوله تعالى: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى (6)} في تفسيره وجوه أحسنها ما قاله الزمخشري: من أباه مات وهو في بطن أمه في سادس شهر، وماتت أمه وهو ابن ثمان سنين، فكفله أبو طالب وذلك من نعم الله عليه، قال ابن عطية: وقيل لجعفر الصادق: لم يُتِّم النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم؟، فقال: لئلا يكون عليه حق للمخلوق، قيل لابن عرفة: العصمة تمنع ذلك؟ فقال: أجمع المسلمون على أن السلامة من التكليف أحسن من الدخول في عهدة التكليف [وقضائه*]، وقصارى العصمة إنما توجب اتصاف المعصوم بالكمال ولا توجب اتصافه بالأكمل [احتمالا*]. وقيل: لئلا يكون عليه سبيل وحق للمخلوق، ورده ابن عرفة بأن عمه كفله فيلزم أن يكون عليه الحق، قال ابن عرفة: وأورد سؤالا فقالوا [اليتم*] ماض فهلا عبر عنه بالماضي لمن يشاء، قال: وأما المتكلمون، فقالوا: إن القرآن على ثلاثة أقسام؛ قسم في [صفات الله وما يجوز له وما لَا يجوز*]، وقسم في أمور الدنيا، وقسم في أمور الآخرة، و (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) تضمنت القسم الأول فقط، ولذلك سميت سورة الإخلاص [لأنها جمعت أو خلصت لصفات الله*]، وأما (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ) فيضاف إلى هذه الأقسام الثلاثة قسم رابع وهو أن التعبد لَا يصح له الإخلاص حتى يتبرأ من كل معبود سوى الله، و (قُلْ يَا أَيُّهَا

سورة (والعاديات ضبحا)

الْكَافِرُونَ) ليس أكبر من البراءة، وأما (إِذَا زُلْزِلَتِ) فالقرآن يشتمل على أمور الدنيا وأمور الآخرة، وهذه لم تتضمن غير أمر الآخرة فكلفت بعدل نصفه، وانظر البيان والتحصيل لابن رشد في أول رسم [**التحريم] عند حرفه من كتاب الصلاة الثاني، وانظر العارضة لابن العربي [**والاعتناء من في كتاب]. * * * سُورَةُ (وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا) (1) الظاهر أنها الإبل كما قال ابن [عباس*] ذلك إن صح ذلك عنه؛ لأن العاديات جمع عادية، وعادية جمع فهو جمع الجمع، وهو بعيد، وغزوة بدر على ما قال: لم يكن فيها إلا فرسان، قال ابن عرفة: والقسم يحتمل الجهاد والإبل مجازا، والمراد كأنها أولها حقيقة كما قال الفقهاء يسهم للفرس سهمان وسهم لراكبه، فاعتبروا الفرس نفسه أو نعته، وحذف الموصوف هنا مع أن الصفة خاصة وهي للمدح؛ لأن هذه الموصوفات كلها اشتركت فيه بمعنى الذي قد أقسم لأجله، ونحوه قد تقدم في النازعات، وفي سورة (وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى). قوله تعالى: {فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا (2)} ابن عرفة: هو عندي اعتراض؛ لأن الخيل لَا تضبح إلا في وسط عدوها وفي آخره عند إخفاق نفسها وشدة جريها، وذلك مظنة [لكونها عانت*] العياء والكلل بحيث لَا تعدوا بعدوها الإبل، بدليل الواحد منا إذا توسط في الجري وأجهد نفسه فإنها مظنة لضعف قوته، قال (فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا) احتراسا من ذلك، وسبيلها على أن شدة جريها لم يزل بحيث يقدح الزناد نحو فرسها بحوافرها، وبالغ في وصفها

(4)

بشدة الغور والقدح والضبح هديا كلها مشتغل بأمور الحرب والترتيب بالفاء موافقة لحالتها الوجودية فهي أولا تعدو ثم تقدح أواسط العدو، ثم تصل إلى محل العدو فتغير عليه في الضبح، وقال (ضَبْحًا)؛ لأن غزوة بني المصطلق كانت ضبحا وعلى غفلة العدو، وانتهازا لفرصة فيه. ابن عطية: [الْعادِياتِ في هذه الآية: الإبل لأنها تضبح في عدوها*] قوله تعالى: {فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا (4)} الفاء إما ظرفية والمعنى بذلك الوقت أو بالعدو أو بالمكان، وإما سببية، والمعنى فأثرن بالعدو والضبح، نقعا: أي غبارا. قوله تعالى: {وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ (7)} ابن عطية: الضمير هنا بلا شك عائد على الإنسان، والخير المال، ابن عرفة: ويحتمل أن يعود على الله تعالى، والخير الطاعة، كما ورد أن الله تعالى [يحب*] الطاعة، قال: وإذا كان الضمير للإنسان، كما قال الفراء، فالمراد بها الكثرة، أي وأمته لحب الخير لشديد حب الخير وهو من تكرار الظاهر بلفظه فأغنى عن الرابط، كقوله تعالى: (فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ) أي عاصف ريحه، وأبطله ابن عرفة بأن ريحه الفاعل فيه مضاف حذف، وأقيم المضاف إليه مقامه، فأعرب بإعرابه فاستتر فلم يحذف منه فاعل في الحقيقة، بخلاف [**من]، فإِن الشدة من صفة الحب فإِضماره يؤدي الفاعل، وهو توكيد قوله تعالى: (يَعْلَمُ) أي جهل فلا يعلم، وأنكر عليهم عدم اعتقادهم ذلك علما، فيتناول إنكار من يظن ذلك، ومن يشك فيه، وفي سورة المطففين (أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ) وتحصر على عدم ظنهم ذلك في أحد تفسيري الزمخشري، وابن عطية، قال: الظن هنا يعني العلم، وحكاه الزمخشري قولا. قوله تعالى: {بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ (9)}

(10)

مع أن الغريق والحريق ومن أكله السباع والحوت ليس في القبر إما باعتبار الأعم الأغلب، وإما لأن الجميع مآلهم إلى الأرض فهي قبورهم. (وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ (10) .. أي ظهر ما كان حاصلا في الصدور والتحصيل متعلق بالأقوال والأفعال، لكن لما كانت الأعمال كلها من طاعة وعصيان [لا تصح*] إلا بنية، لحديث: "إنَّما الأَعْمالُ بِالنِّيَّاتِ" أسند التحصيل إليها؛ لأنها رأس كل عمل. قوله تعالى: {إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ (11)} قال: المراد أنه عليم علم المجازاة، وكذلك قيده بـ (يَوْمَئِذٍ) وإلا فهو عليم بهم مطلقا، فإِن قلت: هلا قيل: إن ربك، فإِن الآية وعد لنا ووعيد لهم، ولفظ الربوبية يقتضي الحنان والشفقة؟ فالجواب: إذا غلب مقام البشارة، وإذا كان خبيرا بهم خبر [المجازاة*] مع استحضار مقام التربية والحنان، فأحرى مع عدم ذلك. * * *

سورة (القارعة ما القارعة)

سُورَةُ (الْقَارِعَةُ مَا الْقَارِعَةُ) [الْقَارِعَةُ (1) *] أورد ابن عرفة أن المبتدأ لابد أن يكون معلوما، والخبر مجهولا، فإن [كانت*] القارعة خبرا في الجملة الثانية بطل كونه مبتدأ في الأولى، وأجيب بوجهين: إما أنه فيهما مبتدأ [وخبره*] في الثانية (ما) فهو معلوم، وإما بأن ما تعملونه من حيث كونها قارعة بمعنى أنها تقرع الأسماع ومجهولة من حيث ما يشاء من قروعها من الخير [والشر*] وتفريق أجزاء [الجسم*]، وغير ذلك، قلت: وضعف بعض الأول بأن سيبويه نص أن الاستفهام هو المبتدأ، مثل: من زيد الآتي؟، مثل: كيف زيد؟؛ لأجل أن كيف ظرف، قال: ولا يصح تضعيفه بأن يقال: إنه وخبره خبر عن الأول، وانظر لما تقدم في الواقعة. قال أبو حيان: وقرأ عيسى بنصبهما على إضمار اذكروا القارعة، فـ (ما) زائدة للتوكيد، والقارعة توكيد لفظي للأول، ابن عرفة: الصواب أن (ما) نافية فيه، والفاعل فيه فعل، أي ما يعلم القارعة والأصل عدم الزيادة. قوله تعالى: [(يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ ... (4) *] ابن عطية: [يَوْمَ*]: ظرف العامل فيه القارعة، واعترضه أبو حيان بأنه إن أراد لفظ القارعة الأول وهو في صفة الألف واللام، فيلزم الفصل بين الصلة والموصول بآخر بأجنبي وأيضا فقد قيل: القارعة علم، وعلى هذا فلا [يعمل*] في الظرف وإن أراد الثاني فلا يعطيه المعنى، وأجاب ابن عرفة: عن كون القارعة علما، فلا يعلم أن الجوامد قد تعمل في الظروف نحو: أنا ابن مارية أنا [ ... ]، وقال الزمخشري: [الظرف نصب بمضمر*] بمعني دلت عليه القارعة أي يقرع يوم، وقيل: العامل مقدر أي اذكر يوم، ويكون العامل [مقدرا*] أي اذكر، قال ابن عرفة: فعلى هذا يكون عاملا فيه عمل الفعل في المفعول به، وعلى الأولين يعمل فيه عمل الفعل في الظرف، قلت: لأن الذكر لَا يكون في ذلك اليوم، وإنما يذكر اليوم نفسه. ونقل عن المفسر المشرقي أن (ما) في القارعة صفة للقارعة، (وَمَا أَدْرَاكَ) اعتراض، (يَوْمَ يَكُونُ) خبر القارعة الأولى، ورده ابن عرفة: بأن جملة الاستفهام غير خبرية، فلا يصح كونها صفة إلا على إضمار القول مثل: جاؤوا [بِمَذْقٍ*] هَلْ رَأَيْتَ الذِّئْبَ قَطْ؟، قال ابن عرفة: ويحتمل أن تكون الجملتان معا اعتراضا، كما قالوا في قوله تعالى: (فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ (75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76) إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77). إلا ابن مالك فيما أظن، ذكر أنه بجملتين دليل. قوله تعالى: {وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ (5)}

(6)

قيل العهن الصوف الأحمر، وقيل [الصوف المصبغ*] ألوانا، واحتج هؤلاء بقول زهير: كَأَنَّ فُتَاتَ العِهْنِ في كلِّ مَنْزِلٍ ... نَزَلْنَ بِهِ حَبُّ [الفَنَا*] لم يُحَطَّمِ و [الفَنَا*] عنب الثعلب وحبه قبل التحطيم فيه الأصفر والأحمر والأخضر. ابن عرفة: هو عنب الذئب عندنا، وقال: لَا علم الذات [نفت] من الشيء، والعهن [الصوف المصبوغ*] المشبه بحب [الفَنَا*]، و [الفَنَا*] شجر له حب أحمر شبه ما تفت من العهن الذي يزين به الهودج إذا نزلت بغصون [الفَنَا*]، وقوله: لم يحطم أراد أنه إذا كسر ظهر له لون غير الحمرة، وإنما تشتد حمرته ما دام صحيحا. ابن عرفة: وذكر صاحب فقه اللغة أن البعض لَا يصدق إلا على الصوف الملون والمنقوش المتخلخل الأجزاء، وهو الذي ليست أجزاؤه متراصة ولا ينفصل بعضها من بعض، فإن فصل موضع شيء هنا وشيء هناك فذاك تفريق لَا نفش. قوله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ (6)} ابن عرفة: الفاء إما للاستئناف، أو للسبب على وجهين: إما باعتبار الوجوه، مثل: قاتل زيد فظفر بعدوه، وإما باعتبار الذكر البعضي، مثل: نزل بزيد أمر مهول فقتل عدوه، وسبيت زوجته وسلب ماله؛ فالأول هنا غير الثاني؛ لاستحالة كون الشيء سببا في نفسه، وكذلك هو في هذه الآية، والموازين إما جمع موزون، أو جمع ميزان، فعلى الأول الله زاد الرجحان بخلاف الثاني، وهل الموزون الصحف أو الثواب [المعد*] على الأعمال، وأما على الأعمال أنفسها فيستحيل وزنها؛ لأنها [أعراض*] قد ذهبت، قال: وظاهر كلام ابن عطية أن المؤمنين لَا بد أن ترجح كفة حسناتهم، لكن من رجحت منهم حسناته على سيئاته لم يدخل النار بوجه، ومن ساوت حسناته سيئاته اقتص منه بقدر سيئاته، ثم يدخل الجنة، والكفار ترجح سيئاتهم على حسناتهم، قال: والمشهور عند أهل السنة أنه ميزان بكفين وعمود. قال ابن عرفة: والآية عندي من حذف [التقابل*] أي (فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (7) ومرتبة خالية، (وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ) فهو في عيشة كارهة وأمه هاوية، قال:

(9)

ومن الأظهر أن (ما) موصولة تقتضي وجود الموضوع للحكم عليه، والشرطية لَا تدخل على وجوده، ولا على إمكان وجوده، ومعنى (أُمُّهُ هَاوِيَةٌ (9) .. : إما أنها أم لهم مأوى، وإما أنها [جهنم*] وهو الأظهر، لقوله تعالى: (وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ (10) .. قال: وعلى الأول يعود الضمير على المفهوم من السياق، أي ما هي منزلته، ووصفها بـ (حَامِيَةٌ (11) .. إشارة إلى التفاوت الذي بينها وبين نار الدنيا، فنار الدنيا بالنسبة إليها ساكنة. * * *

سورة (ألهاكم التكاثر)

سُورَةُ (أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ) قوله تعالى: {(أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (1)} ابن عرفة: الشغل: هو الإقبال على الأمر الدنيوي بالبدن والقلب بحيث يذهل عن الأثر المصلح جملة، قال: (شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا) فلا يحسن اعتذارهم بذلك إلا إذا فهم أن قلوبهم لم تزل عامرة بالجهاد راغبة فيه، ابن عرفة: وهذا خبر في معنى النفي، وهو قليل في الخبر المثبت، والأكثر في الخبر المثبت كونه يعني الأمر، مثل (وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ)، وفي الخبر النفي كونه بمعنى النهي (لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ) ابن عرفة: وعادتهم يقولون: هل هذا من باب [لا أرينك*] هاهنا؛ لأن الفعل أسند لغير فاعله بخلاف: لَا تعد يا سيدي، كذلك هنا ليس المنهي التكاثر، وإنَّمَا المنهي المفعول. قال: وعادتهم يجيبون بأن ذلك إنما هو في الفاعل الذي يمكن وقوع الفعل منه؛ لأن وقوع الرؤية هنالك من كل واحد منهما ممكن حقيقة، وأما هنا فالتكاثر معنى لا يمكن وقوع الفعل منه بوجه، وانظر ما تقدم في [المنافقون*] (لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ) وفي الغاشية (لَا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً). قوله تعالى: {حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ (2)} إن أريد تفاخرهم بكثرة [الأحياء والأموات فما بعدها داخل فيما قبلها*]، وإن أريد تفاخرهم بكثرة المال إلى أن ماتوا فما بعدها غير داخل، وزيارة القبور محمودة، وكان بعضهم يقول إذا رأيت الطالب في ابتداء أمره يكثر من زيارة القبور، فاعلم أنه لَا يفلح لاشتغاله عن طلب العلم بما لَا يجدي شيئا. قوله تعالى: {كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (3)} قيل لابن عرفة: نص ابن مالك وغيره أن سوف أبلغ من التنفيس بالسين، فكيف يفهم من قول ابن عبد العزيز بعث بالقوم للقيامة ورب الكعبة، فإِن الزائر منصرف غير مقيم، فقال: لَا يتنافيان، والتنفيس يصدق بمطلق زمن موصوف بالطول. أو نقول: سوف للتحقيق، والعطف بـ ثم إما تأكيدا.

(4)

قال الزمخشري: ويكون التأكيد بالثاني أبلغ، وإمَّا لاختلاف المعنى، فالأول علمهم بالبرزخ، والثاني علمهم بالقيامة، وإمَّا لاختلاف العلمين، فالأول في الكفار والثاني في العصاة، نقله ابن عطية، وضعف ابن عرفة الأول؛ لأن النحويين فرقوا بين العطف والتوكيد اللفظي في الجمل، كقول المؤذن: الله أكبر الله أكبر، وليس فيه، وضعف الأخير لقول الزمخشري: إن الإتيان مبالغة في التأكيد، وأن الثاني أبلغ من الأول فلو قال الأول في العصاة، والثاني في الكفار لكان صوابا. قوله تعالى: {ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (4)} (كَلَّا) زجر لما تقدم فيتوقف قبلها، ابن عرفة: ويحتمل أن يكون زجرا لمعنى لما بعد عاد لاسيما عند من يقول: إن لو أن نفيها إيجاب وإيجابها نفي؛ لأن المعنى: لو تعلمون علم اليقين لانزجرتم، فيدل على أنهم [لا*] يعلمون ذلك وغفلوا عنه فزجرهم على عدم العلم. قوله تعالى: {عِلْمَ الْيَقِينِ (5)} من إضافة الصفة إلى الموصوف، ابن عرفة: فيه عندي دليل على أن العلوم الحادثة متفاوتة، وهي مسألة خلاف بين الأصوليين، وهما مسألتان في أصول الدين، فقيل: إن العلوم كلها متساوية، وقيل مختلفة، ومنهم من جعل الخلاف لفظا، وقال بعضهم: أما في دلالة العلم فلا تفاوت بينهما أصلا، وأما بالنسبة إلى الطرق المحصلة إلى العلم فلا يشك في [ ... ] ضروري ونظري، فالضروري لَا يعرض له وهم ولا تشكيك، والنظري يعرض فيه التشكيك والمخالفة في الاستدلال، فهذا إذا كان راجعا إلى الآخرة فهو ضروري، وهو أقوى العلوم فلذلك قال: علم اليقين، وقد تقدم في قوله تعالى: (الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ) (وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ) (إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ) وتقدم أنه إن أريد نفس وقوع ما تعلق به الظن [فهو*] بمعنى العلم، وإن أريد بالظن وقته فهو على بابه. قوله تعالى: {لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (6)}

(8)

هذه رؤية [بصرية*]، فإن كانت للمؤمنين فهو أعم من المعاينة فقط، والدخول، وإن كانت للكافرين فهي دخول، والثاني للكافرين ولذلك عطفه بـ ثم، وإن كان الأول للجمع فيكون بالثاني للكافرين ولمن يدخلها من عصاة المؤمنين، ويجيء فيه تفكيك الضمائر، وتقدم الفرق بين علم اليقين، وعين اليقين ما هو الأبلغ فيهما وإن كان الثاني أبلغ. قوله تعالى: {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (8)} إن كان سؤال [توبيخ*] للكافر، فظاهر تأخيره عن رؤية الجحيم؛ لأنهم [يسألون، قال تعالى*] (إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ (39) فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ (40) عَنِ الْمُجْرِمِينَ (41) مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ)، وإن كان سؤال حقيقة، فيكون بعد رؤية الجحيم الرؤية التي هي عرض ومعاينة، لَا بعد الدخول كما قال الزمخشري [(عَنِ النَّعِيمِ) عن اللهو والتنعم الذي شغلكم الالتذاذ به عن الدين وتكاليفه*]. * * *

سورة (والعصر - إن الإنسان لفي خسر)

سُورَةُ (وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) ابن عرفة: يحتمل أن يكون الإنسان عاما استثنى منه الذين آمنوا وعملوا الصَّالِحَاتِ وبقي ما عداهم مسكوت عنه، أو يكون ذكر الكافر والطائع وبقي العاصي، أو يكون العاصي متصفا بالخسران؛ لأن مذهبنا وجوب إنفاذ الوعيد في طائفة من المؤمنين، أو يكون بالإنسان الكافر، والخسران في الدنيا، إما باعتبار الإقبال عليها إقبالا موصوفا بالخسران، وإما في الآخرة، فإِن قلت: لم كرر (تَوَاصَوْا) مع أن السورة قصيرة فالأصل فيها الاختصار؟ فالجواب من ثلاثة أوجه: الأول: كان بعضهم يقول: سعادة الإنسان في قوتيه العلمية والعملية، قال (تَوَاصَوْا بِالْحَقِّ) راجع للقوة العلمية الاعتقادية، وهو معرفة الأحكام الشرعية بالأدلة والبراهين أو معرفتها تقليدا بناء على أن الحاصل علم، والتواصي بالصبر راجع للعمل، للحديث: " [حُفَّتِ الْجَنَّةُ بِالْمَكَارِهِ، وَحُفَّتِ النَّارُ بِالشَّهَوَاتِ*] " وهما شيئان متغايران. الثاتي: قال: وكان بعضهم يقول: الأمران راجعان للقوة العملية، لكن التواصي بالحق راجع لامتثال المأمورات، والتواصي بالصبر راجع لاجتناب الشبهات. الثالث: قال الزمخشري: (تَوَاصَوْا بِالْحَقِّ) أي بالأمر الثابت الذي لَا يسوغ إنكاره، وهو الخير كله من توحيد الله وطاعته، وتواصوا عن المعاصي والصبر على الطاعة وعلى البلاء. وقوله: لَا يسوغ إنكاره، أي عقلا على مذهبه، قلت: وقيده من شيخنا ابن عرفة [ ... ]. * * *

سورة (أرأيت الذي يكذب بالدين)

سُورَةُ (أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1) قال ابن عرفة: الخطاب للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، أو لكل واحد من النَّاس، وذكروا إنما نزلت في أبي سفيان، وخصوص السبب لَا يمنع من [عموم*] الحكم، وإنما قال (يُكَذِّبُ) بالمضارع مع أن السياق يدل على أنه ماض لأمرين: إما للتصوير حتى كأنه أمر مشاهد في الحال، وإمَّا إشعارا لتأكيد إنكار ذلك لما منع الشرع من فعله، فكأنه غير واقع، فإِن قلت: قوله تعالى: (يُكَذِّبُ) يتعدى بنفسه ومفعوله متأخر عنه، فلم عدي إليه بحرف الجر، ولا يصلح أن تكون الباء سببية، والمفعول مقدر أي يكذبك أو يكذب الرسول بسبب الدين؛ بل بسبب الإخبار بالدين فالدين نفسه ليس هو سببا في التكذيب؛ بل السبب الإخبار به أو الدعاء إليه، فالجواب: إما بأن الباء ظرفية أو الفعل مضمن معنى التساوي، أي روى في الدين أو المفعول محذوف والمجرور على تقدير مضاف كما قلتم. قوله تعالى: {فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2)} الدع: إما الترك أو الدفع بعنف، وهنا قالوا في الواجب والمندوب: أما الواجب فظاهر؛ لأن الذم على الترك من خصائص الوجوب، وأما المندوب فمشكل، قيل لابن عرفة: لَا إشكال فيه إذا فسرنا الدع بالدفع بعنف. قوله تعالى: {وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (3)} الطعام إما اسم فهو على حذف مضاف أي على إطعام طعام المسكين إضافة استحقاق، والمسكين إذا كان أحوج من الفقير، فلا يتناول الفقير، وإن كان الفقير منه يتناوله اللفظ من باب أحرى، قال ابن عرفة: وهذا ينظر إلى قوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: " [الصَّدَقَةُ بُرْهَانٌ*] ". قوله تعالى: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ (5)} قال الزمخشري: يتركونها حتى تفوتهم، أو يصلونها من غير خشوع، لما يكره من العبث باللحية والثياب وكثرة التثاؤب والالتفات، قال ابن عرفة: المراد بقوله (سَاهُونَ) تركها بالكلية إذ لو تركها تركا كليا لما صدق أنهم مصلون فيما مضى وتاركون في الحال، قيل: [(سَاهُونَ) *] اسم الفاعل حقيقة في الحال بلا خلاف، واختلف فيه باعتبار المعنى إنما الخلاف في اسم الفاعل إذا أريد به الزمان، وإنما إذا استعمل مجردا من الزمان محكوما به، فلا حذف في صدقه على الماضي حقيقة كما يصدق على الحال والمستقبل.

قوله تعالى: (فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ). الفاء إما جواب شرط مقدر، أي إذ لم تعرفه بهذه المقالة فاعرفه بدعه اليتيم، وإما عاطفة عطف الجمل، أو عطف المفردات. قال الزمخشري: وذلك إما عطف ذات على ذات أو صفة على صفة والموصوف محذوف، والتقدير: أرأيت الإنسان الذي يكذب بالدين، فذلك الإنسان الذي يدع اليتيم، وإن كان من عطف الذوات كان التقدير: أرأيت الشخصين اللذين أحدهما يكذب بالدين، والآخر يدع اليتيم، ولا يحض على طعام المسكين، وتعقبه أبو حيان بأن ذلك معربة عن الشخص الذي يدع اليتيم، فكيف يشار به إلى الشخص الآخر المكذب بالدين، وهو غيره، فيتعين أن يكون الذي يدع اليتيم هو الذي يكذب بالدين، وأجاب شيخنا ابن عرفة عن الزمخشري بأن الإشارة هنا إلى لفظ الاسم دون معناه لَا يعود الضمير على اللفظ دون المعنى، مثل: عندي درهم ونقود. قال النابغة: قالَت أَلا لَيتَما هَذا الحَمامُ لَنا ... إِلى حَمامَتِنا وَنِصفُهُ فَقَدِ وأنشد سيبويه: [أَرَى كلَّ قومٍ قاربُوا قَيْدَ فَحْلِهِمْ ... ونحنُ خَلَعْنا قَيْدَهُ فَهْوَ سَارِبُ*] جعل ابن عصفور ذلك كله عائدا على اللفظ فقط، أي عندي درهم آخر فاستقدم أو وانتقد النَّاس عليه، قال: ويحتمل أن يريد ونصف مثله، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه فيحتمل أن يكون أشار إلى لفظ الإنسان المكذب بالدين والمراد إنسان آخر. قال ابن عرفة: وفي الآية معنى آخر حسن وهو أن الإنسان له ثلاثة أشياء يحمد على استخدامها في أعمال البر والرشاد، ويؤمر على استخلاصها في ضد ذلك وهي: العلم، والقول، والفعل؛ فالعلم يوصل إلى التصديق بوحدانية الله تعالى، وأنه ليس في مكان ولا زمان، وغير ذلك مما يجب له ويستحيل عليه، وإن من ذلك جنة ونارا، وثوابا وعقابا، فهذا معلوم بالفعل أو بالعقل. والفعل أن يفعل الخيرات، والقول بأن يأمر بها ويحض عليها، وقد وضعوا في الآية بعكس الأمور الثلاثة، فكذبوا بالحساب والعقاب والثواب فهذا ودع اليتيم فعل؛ لأنه [الدفع*] بعنف، ولم يحض على طعام المسكين فهذا القول؛ يقرأ الحسن بفتح الدال وتخفيف العين، ابن عرفة: وهذا أبلغ من الذم؛ لأنهم إذا ذموا على ترك اليتيم

(6)

وعدم إعطائه المال، فأحرى أن يذموا على دفعه بعنف وضربه؛ لأن يدع بالتشديد يقتضي الدفع بعنف. قوله تعالى: {الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ (6)} عبر بالفعل المقتضي للتقاطع والتجدد شيئا بعد شيء؛ لأن المراءات إنما يكون للناس الناظرين له، وهؤلاء يلامون، أو يلاقون التكلف في كل الأوقات بل في أقلها؛ لأنه في الليل وفي بعض النهار في داره لَا يراه أحد، بخلاف (سَاهُونَ) فإن ترك الصلاة ملازم له، فلذلك عبر فيه بالاسم فهذا مفاعلة. قال الزمخشري: فالمراد في النَّاس عمله وهم يرون الثناء عليه والإعجاب به، قيل لابن عرفة: أما ذم الذي يرائي النَّاس عليه فظاهر، وأما ذم القاصر الذي يثنون عليه فمشكل، وظاهر المفاعلة ترتب الذم على الجميع، فأجيب بوجهين: إما بأن المفاعلة تستلزم ذم الفاعل لَا ذم المفعول له كقوله "من قاتل عليا فهو مذموم" ولا يلزم منه طائفة على الذين من حزبه ونفر الذي يضارب زيد فلا يلزم مجيء زيد. الثاني: أن يقول الذم يتناول من يثني على المرائي ويشكره ويشكوه وهو يعلم أنه مرائي في عمله وعبادته، أما من يثني عليه وهو يظن أنه مخلص في عبادته فلا ذم عليه، قيل لابن عرفة: والمرائي مذموم مطلقا سواء أثنى عليه أحد وتعجب من عمله أو لم يثن؛ لأن الذم إنما هو على قصده ونيته، قال ابن عطية: أن يثني عليه فلذلك كانت مفاعلة، [ ... ] الأجزاء المراءاة حقيقة إنما هي بالفعل وفي المعنى المقصود ولم يتصفا هنا من ذلك إلا أنهما اتفقا في نفس القصد لَا في المعنى المقصود، انتهى، قلت: وتقدم لنا عند ابن عرفة في [الختمة*] الأولى في هذه الصورة ما نصه: الكذب عبارة عن عدم مطابقة الخبر مدلوله، ويستعمل في الماضي والمستقبل خلافا لابن قتيبة فإن الخبر بالمستقبل غير المطابق [ ... ] خلفا، وهذه الآية رد عليه؛ لأن الذي هو المجازاة بالثواب والعقاب في يوم القيامة، وإنَّمَا قال: يكذب بلفظ المضارع، ولم يقل: كذب؛ لأن فعل الحال يؤتى به عند تعظيم الأمر وتهويله فيقتضي ذلك الشيء في الذهن حتى كأنه كالحاضر بين يدي المخبر به، قال تعالى (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً) ولم يقل: فأصبحت، وقال هنا: (يُكَذِّبُ) بقبح مقالته وعظمها. قوله تعالى: (عَنْ صَلاتِهِمْ).

(7)

معمول الساهون وتقديم المعمول إما لإفادة الحصر قاله حازم، أو لأجل رءوس الآي لأن الفواصل فيها بالنون والواو ولا يمكن الحصر هنا لاقتضائه أنهم ليسوا ساهين إلا عن صلاتهم وليس كذلك. قوله تعالى: {وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ (7)} والماعون الزكاة أو الدلو والحبل والسرجة وهي الزناد يطلبه منك الجار فتمنعه إياه، قال ابن عرفة: وقد يكون إعارة الماعون واجبة ومندوب إليها مثل الأول: إعارة الإبرة لخياطة الجائفة [وغيرها*] من الجروح التي تكون بحيث لو ترك صاحبها لمات، وذكر القرطبي هنا وابن ماجه عن عائشة، قالت: "يا رسول الله، ما التي لا يحل منعه، قال: الماء والنار والملح، قلت: هذا الماء فما حال الملح والماء، قال: من أعطى ملحا فكأنما تصدق بما يطيب به، ومن أعطى نارا فكأنما تصدق بما يطبخ به، ومن أعطى ماء حيث يوجد فكأنما عتق سبعين نفسا، وإن كان حيث لَا يوجد الماء فكأنما أحيا نفسا، ومن أحياها فكأنما أحيا النَّاس جميعا". * * *

سورة (إنا أعطيناك الكوثر)

سُورَةُ (إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ (1) قال ابن عرفة: انظر هل لهذا خبرا وإنشاء، فإن قيل: الإنشاء هنا مستحيل؛ لأن كلام الله تعالى القديم الأزلي، فالجواب أنه باعتبارهم متعلقة، فإن التعلق فيه خلاف هل هو قديم أو حادث؟، قلنا: التعلق [التنجيزي*] حادث، وأما التعلق الصلاحي فيصح هنا، وكذلك الفاعل هنا تشريفا للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فهو أبلغ من قوله تعالى: (قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى) بحذف الفاعل. قوله تعالى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2)} الفاء للتسبيب، أي بسبب ذلك اشكر ربك وصل له، والشكر يكون بالقول وبالفعل، ولذلك يجب تخصيصه بالصلوات الواجبة، ولاسيما إذا قلنا إنها صلاة الفجر يقع بجمع، حكاه الزمخشري [وابن عطية*] قال: وقيل صلاة العيد والأضحية، وقيل: [أمر بالصلاة على العموم*]، والنحر وضع اليمين على الشمال عند النحر، قال ابن عطية: أمر بالصلاة على العموم ففيه المكتوبات بشرطها والنوافل على يديها، قلت: وتقدم لشيخنا ابن عرفة في الختمة الأولى في عام تسع وخمسين وسبعمائة في شهر شوال عن [ ... ] نصه قوله (فَصَلِّ) الفاء للسبب ولا تكون عاطفة، فإن قلت للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لَا يصل بسبب أن الله الكوثر بل يعبده لذاته، وأنه أهل لأن يعبد، فالجواب: أن المعنى (فَصَلِّ) لأن الله أكرمك وأعطاك خيرا كثيرا، وليست السببية منحصرة في هذا بل [يعبده*] لهذا، ولكونه أهل لأن يعبد، ولا تكون الفاء عاطفة؛ لأنك إن عطفتها على الجملة الاسمية لم يصح إذ لَا يصح عطف الفعلية على الاسمية فإن عطفها على الفعلية لم يصح أيضا إذ لَا يصح عطف الطلبية على الخبرية. قوله تعالى: (لِرَبِّكَ). التفات بالخروج عن التكلم إلى الغيبة، إذ لم يقل فصل لنا، ويحتمل أن يريد بالصلاة المفروضة والنافلة، فيكون من استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه؛ لأن صيغة [افْعَلْ*] حقيقتها للوجوب وهي للندب مجازا. قوله تعالى: (وَانْحَرْ). يريد الضحايا والهدايا، فإن قلت: ثم قد جعلت للندب؛ لأن الأضحية سنة فكيف يعطفها على [فَصَلِّ*] وهي للوجوب عندنا، والواو تشترك في الإعراب والمعنى،

قلت: اختلف في الأضحية، قد قيل: إنها واجبة سلمنا أنه مندوب إليها لكن نقول: الواو تشترك في معنى القائل خاصة تقول: زيد العاقل وعمرو قائمان، فلا يلزم منه أن يكون عمرو عاقلا، وإنما [شركت*] بينهما في القيام خاصة، وكذلك هنا [شركت*] بينهما في مطلق الأمر بهما فقط، وبقي نظر على أن الأصوليين اختلفوا في الأمر إذا عطف على أمر، وكذلك قال ابن عرفة في كتاب الطهارة: لما ذكر الخلاف في النوم هل هو حدث أو سبب في الحدث. * * *

سورة (قل يا أيها الكافرون)

سُورَةُ (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1) قال [ابن*] عرفة: القرآن كله مأمور بقوله وتبليغه، وتخصيص ما خصص منه بالأمور بقوله [(قُلْ) *] [قيل*] إما تعظيما لأمره، أو تهويلا لحاله واعتناء بشأنه، وإما لأنه هو جواب عن سؤال مقدر كما قال (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا) (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي) فهذه الآية [تدل*] على أن الكفار طلبوا من النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أن يعبد آلهتهم [سنة*] ويعبدوا هم [إلهه سنة*] فقال: "معاذ الله أن نشرك بالله شيئا"، [فقالوا: فاستلم بعض آلهتنا نصدقك ونعبد إلهك*] فنزلت السورة. قوله تعالى: {لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2)} هذه حقيقة وصفية، أي لَا أعبد ما أنتم عابدونه من حيث [كونكم*] كفارا، قيل لابن عرفة: إنهم كانوا يشركون بالله، قال (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُم مَنْ خَلَقَهُم لَيَقُولُنَّ اللَّهُ) فهل [هم*] عابدون الله؟ قال: لَا يصدق عليهم ذلك، وإنما المعنى لَا أعبد ما تعبدونه من حيث إنكم كفار تشركون بالله، [ولا توحدونه*]، بل اعبدوا الله عبادة توحيد واختصاص، قال: واختلفوا هل هذا التكرار تأسيس وتأكيد؟ فمنهم من قال: إن المراد بالأول: الاستقبال، وبالثاني: الحال فهو تأسيس، وقيل: هما معا للاستقبال، وهو تأسيس؛ لأن الأول [تضمن*] نفي العبادة منه، والثاني تضمن نفيها عنهم، ونفي الشيء عن الشيء ليس هو نفيه عن غيره، وأجاب بعضهم بأنه تأكيد لا يستلزم الأول له؛ لأنه نفى عنه الذي سيعبدونه في المستقبل عن العموم، فيتناول كل معبوداتهم في المستقبل على الإطلاق، وقد يتوهم أنهم يسلمون في المستقبل، فعبادتهم في المستقبل يلزم منهم عدم إسلامهم في المستقبل، وأنهم لَا يعبدون في المستقبل الأصنام بقوله (وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3) .. تأكيد بهذا الاعتبار إلا أنه ليس [صريحا*] بل مستفاد من اللزوم، فإن قلت: الجملة الأولى قابل فيها مضارعين بمضارعين، والجملة الثانية قابل فيها ماضياً بمضارع فما [السر*] في ذلك؟ وأجاب الزمخشري: فيه إساءة أدب، قال: لأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لم يكن في ابتداء أمره يعبد الله عز وجل، والكفار لم يزالوا في بدايتهم يعبدون الأصنام، ورده شيخنا ابن عرفة، بأن أكثر الأصوليين قالوا بأنه لم يزل متشرعا بشريعة إبراهيم عليه السلام، قال: وإنما الذي عادتهم يجيبون به: أن عبادة الأصنام لما كانت مذمومة شرعا أتى بلفظ الماضي الذي وقع وانقطع، وعبادة الله تعالى لما كانت مطلوبة فرغب فيها شرعا، أتى بها بلفظ المضارع الذي وقع ودام إشعارا بالحض على هذه، وبالنهي

(5)

عن تلك، انتهى كلام شيخنا في هذه الختمة، وذلك في أول ذي القعدة في سنة ست وسبعين وسبعمائة، وتقدم لنا عنه في الختمة الأولى فيها سؤالا عام تسعة وخمسين وسبعمائة ما نصه قوله تعالى: (لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ) فيه سؤال لم يذكروه وهو أنه نفيت علة العبادة عنه صلى الله عليه وعَلى آله وسلم بلفظ الفعل، ونفيت عنهم بلفظ الاسم المقتضي للتبري والممانعة، والفعل يقتضي التجدد والانقطاع فكان ينبغي العكس؟ قال: والجواب: أن ذلك في الثبوت، وأما في النفي [فلا أفعل*] أبلغ، ألا ترى أن قوله (لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ) [لَا أوصف بوصف*] عبادتكم ولا أنتم عابدون معبودي، فيكون [بمعنى المضي*] على ما قال الزمخشري، وأجاب طلبة ابن عرفة بجواب آخر، وهو لما عزم تفضيل النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم واستدامته على دينه، ولم يحتج إلى نفي عبادته معبودهم عنه بلفظ الفعل، ولما كان الأمر في حق الكافر محتملا للدوام على دينهم أو الإسلام، بعد الله الإسلام عنهم بلفظ الاسم المقتضي للمبالغة واللزوم؛ ليزول الاحتمال الذي [يتطرق*] بالاستماع، قال ابن عرفة: واختلف نقل الزمخشري، وابن مالك، فقال الزمخشري: في أن [لَا مخلصات الفعل [للاستقبال*] [وأن*] (ما) من مخلصاته للحال، فقال ابن مالك: إنما الأغلب فيها الاستقبال وقد تخلص للحال، ابن عرفة: وقول الزمخشري أصوب؛ لأنه إذا تعارض عمل الكلية الواحدة على الاشتراك والانفراد، [فحملها*] على الانفراد أولى. قوله تعالى: {وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (5)} أطلق [(مَا) على*] من يعقل منهم من جعلها مصدرية، أي عابدون عبادتي، ومنهم من قال موضوعة موضع الصفة، أي عابدون الحق الذي أنا أعبده، [كمن*] رأى [زيدا*] الشجاع؛ فإما أن يقول: رأيت رجلا شجاعا، أو يقول: رأيت الشجاعة فتضعها موضع الموصوف. قوله تعالى: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6)} جعل الخطاب في أول السورة معلقه راجع للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، لكون أصل السورة خطابه، وختمها به أيضا. * * *

سورة النصر

سُورَةُ النَّصْرِ قوله تعالى: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1)} قال الزمخشري: إذا منصوبة بـ (سبح*]، وهو لما يستقبل، والإعلام بذلك قبل كونه من إعلام النبوة، قال ابن عرفة: أما قوله إنها منصوبة فرده عليه أبو حيان لأجل الفاصل بالفاء، وهي مانعة من عمل ما بعدها فيما قبلها، ونص ابن السيد في شرح آداب الكتاب على [ ... ]، واحتج بقول الشاعر: إذا مات من بني تميم [ ... ] أن يعني مجيء مراد قال ابن عرفة: والمعنى يدل على [عمل*] سبِّح فيها؛ لأنه إما أمر بالتسبيح وقت النصر، قلت: وكذا قوله تعالى: (وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ)، قال: وقوله الإعلام بذلك قبل كونه، إن قلت: قبل كونه كان يحتمل الوقوع هلا عبر عنه بـ إن، قلت: لما كان محقق الوقوع عبر عنه بـ إذا، قال: وهي المجيء حقيقة، فيكون مجازا في الإسناد وبمعنى الحصول فيكون مجازا في الأفراد، وهو [الأصوب*]، لأن الأول مختلف فيه عند الأصوليين. قال ابن عطية: وقرأ ابن عباس (إذا جاء النصر والفتح). قال الزمخشري وقرأ ابن عباس: إذا جاء فتح الله والنصر، قال ابن عرفة: المشهور أصوب؛ لأن النصر سبب في الفتح، والأصل تقديمه عليه. قال الزمخشري: في قول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم "أجد [نفير*] ربكم من قبل اليمن" يريد رحمة ربكم. وعن الحسن لما فتح رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم مكة أقبل العرب بعضهم على بعض، قالوا: أما [إذ*] ظفر [بأهل الحرم*] فليس له يدان، أي فليس بالحرم يدان، قيل لابن عرفة: نصر ربك هذا سبب لاقتضائه الرحمة، فقال: اسم الجلالة هو الأصل، وما ورد على الأصل فلا سؤال فيه. قوله تعالى: {فِي دِينِ اللَّهِ ... (2)} هو الإسلام، قال تعالى (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ)، وقال (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الإِسْلامُ) والمبتدأ

(3)

عندهم لَا يكون إلا أعم من الخبر أو [مساويا*]، فلا يسمى غير الإسلام دينا، ولا إسلاما بعد نزول هذه الآية، قال تعالى (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا) مسلما فقال: المراد الإسلام اللغوي، وهو [مجرد*] الانقياد، وليس المراد الشرعي بوجه، أو يقال: إن السؤال غير ما قيل؛ لأنه إنما سماه مسلما على مقتضى شريعته، وقد كان دينه إذ ذاك يسمى إسلاما، ولذلك قال (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ ... (3) .. أي من ذلك إما [بلفظ*] التسبيح، أو يجعل على التعزية، والفاء للمصاحبةَ أو للسبب، ابن عرفة: فإِن قلت: الشكر لَا يكون إلا في مقابلة النعمة، والحمد إما قسيمه أو أعم منه، والنصر والفتح المنصوص [عليهما*] نعم عظيمة، فهلا قيل: فسبح بشكر ربك؟ فالجواب أن الحمد صفة من صفات الذات الراجعة لها، وحمد الله لذاته أولى من حمده لفعله، كما أن عبادة الله تعالى لذاته أولى من عبادته لإنعامه، فأمر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بأشرف الأمور، وهو أن [يكون*] تسبيحه مصاحبا لحمده المتعلق بذاته؛ لأنه أهل لأن يحمد، والمراد بالتسبيح خاص بالنبي صلى - الله عليه وعلى آله وسلم من جعل النصر والفتح خاصين له، وأما من جعلهما تامين في كل أمر؛ فالخطاب أيضا بذلك لكل من انتصر وافتتح البلاد. وقوله تعالى: (وَاسْتَغْفِرْهُ) إن أريد به كل إنسان فهو على حقيقته، وإن أريد النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فهو على معنى يليق به، باعتبار الانتقال من مقام إلى مقام أعلى منه. قوله تعالى: (إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا). ولم [يزل*] والتواب: إما صفة فعل أو صفة معنى؛ لأنه إن أريد به الذي يخلق التوبة لعباده، فهو صفة فعل، وإن أريد به القبول والصفح عن الجرائم المتقدمة فهو حكم شرعي، والحكم الشرعي هو خطاب الله تعالى المتعلق بأفعال المكلفين على سبيل الاقتضاء والتخيير، وخطاب القديم الأزلي، فيرجع إلى صفة المعنى، فهو فعلي أو قولي معنوي، يصح الأمران، وقال الزمخشري: إن كان في الأزمنة الماضية مثل خلق المكلفين (توابا) عليهم إذا استغفروه قال ابن عرفة: وهذا جار على مذهبه؛ لأنه ينفي ما قلنا ولا يثبته، وقال الإمام فخر الدين [ابن*] الخطيب في شرح الأسماء الحسنى: توبة العبد عبارة عن عوده إلى الإحسان اللائق بالربوبية، قال: وقال الخطابي: التوبة تكون لازمة ومتعدية، يقال: تاب الله على العبد أي وفقه للتوبة، كما قال تعالى (ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا)، ويقال: تاب الله عليه، أي قبل توبته، وهي من تسمية الشيء باسم [ملائم يلائمه*]. * * *

سورة (تبت يدا أبي لهب)

سُورَةُ (تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ (1) ولم تبت يدا أبي لهب؟؛ لأن اليد [محل القوة والتكسب*]، فإسناد التب إليهما يستلزم تباب الجميع، بخلاف ما لو قيل: تب أبو لهب لاحتمل أنه تب لتوب ولده أو جاريته أو ضاع بعض ماله، ثم قال (وَتَبَّ) لأحد معنيين: إما لنفي احتمال أن يكون تب يداه فقط، وإمَّا [لتحقق*] وقوع ذلك حتى كأنه موجود في الحال. قال الشاعر: جزى ربُّهُ عني عديَّ بن حاتم ... جزَاء الكلابِ العاويات وقد فَعَلْ قال الزمخشري [في*] قوله تعالى: (مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ ... (2) .. تقديم المجرور إشارة إلى أنه هو المقصود الأعم [بالذكر*]، قيل لابن عرفة: وما يحتمل أن يكون نافيها، واستفهامه في معنى النفي، فقال: كونها نافية أجود؛ لأن الاستفهام في معنى النفي يقتضي أن المخاطب به توافق، والمنقول في السير: أن ذلك لم يقع حتى يوافق المخاطب عليه، وإنما توعد بوقوعه في الآخرة هو نفي حقيقة، وقال هنا [مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ*]، [بلفظ الماضي*]: وفي سورة الليل (وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى) بالمضارع؟ فالجواب أنه سابق إلى تحقيق وقوع ذلك، قلت: وأيضا فهو في سورة الليل معطوف على جملة مستقبلة وهي (فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى)، أو معنى لجملة مستقبلة، وهنا أتى بجملة ماضية، فناسب فيه المعنى. قوله تعالى: {سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ (3)} هذا إما تفسير لـ (تَبَّتْ)، أو زيادة في ذمه، والنفي عليه؛ [لأنه إن كان التب أعم فيشمل*] دنياه وآخرته، وباعتبار تقديمه بالنار في الآخرة فهو تفسير؛ ولذلك أتت الجملة غير معطوفة، وإن كان التب في الدنيا أو في الآخرة على الجملة؛ فهو تأسيس، وبيان، ويكون خسرانه باعتبار ما يناله في عرصات القيامة من الأهوال. قوله تعالى: (ذَاتَ لَهَبٍ).

(5)

تعظيم لها، فهو أبلغ من لو قيل: ملتهبة، قال ابن عرفة: احتج بها الأصوليون على جواز تكليف ما لَا يطاق؛ لأن أبي لهب [مأمور*] بأن يؤمن بالنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بكل ما جاء به، ومن جملة ما أمر به إيمانا إجماليا، وإنما يلزم تكليف ما لَا يطاق لو كان مأمورا بأن يؤمن به بكل ما جاء به إيمانا تفصيليا، فالأمر بالإيمان هو مطلق إجمالي يصدق ببعض الصور، وإخباره له بأنه لَا يصدقه ليس من تلك الصور من صدق النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في كل شيء، وكذبه في شيء واحد فهو كافر بإجماع، فصح أن أبي لهب كافر مكذب له، ولو في بعض الأشياء دون بعض، ولا يلزم التناقض، قلت: ولما ذكر ابن التلمساني في شرح المسألة الرابعة عشر من باب الأوامر ذكر الاحتجاج بهذه الآية على وقوع تكليف ما لَا يطاق، قال ما نصه: واعترض بمنع ورود التكليف له على هذا الوجه، ويفتقر إلى نقل قاطع، قالوا: وإنما كلف أن يؤمن به وهو مؤمن، والله أعلم نبيه عليه السلام أنه لَا يؤمن؛ كما أعلم نوحا عليه السلام [في*] تكليفه لقومه وأمر أمراءهم أنه لم يؤمن به من قومه إلا من قد آمن، قلت: وعبر ابن عرفة مرة أخرى عن الجواب الأول بأنه إنما يلزم التناقض [لو كان تكليفا*]، وبأن يؤمن وأن لَا يؤمن، وإنما هو مكلف بأن يصدقه في هذا الخبر المتضمن لعدم إيمانه به علي الجملة، قلت: وتقدم لابن عرفة في (مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ) ما استفهامية، وفائدة الاستفهامية يجيب المخاطب بما عنده، وليس عنده إلا الموافقة على أنه لم يغن عنه ماله شيئا. قوله تعالى: (سَيَصْلَى نَارًا). قال الزمخشري: السين للتحقيق، ابن عرفة: إنما دخلت للتحقيق، لقوله تعالى: (سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ)؛ لأن الكتب واقع في الحال، بخلاف هذا قال ابن عطية: روي أن أولاد أبي لهب اجتمعوا عند ابن عباس فتنازعوا وتدافعوا، فقام ابن عباس ليحجز بينهم فدفعه أحدهم فوقع على فراشه، وكان قد كُف بصره، فغضب وصاح أخرجوا عني هذا الكسب الخبيث، قال ابن عرفة: وكذا نقل الزمخشري، وابني أبي لهب احتكموا إليه فاقتتلوا فقام ليحجز بينهم، قال: فدفعه بعضهم فوقع وغضب، فقال: أخرجوا عني الكسب [الخبيث*]، ونقل عن القاضي أبي عبد الله محمد بن عبد السلام أنه سئل [لم*] قال (فِي جِيدِهَا ... (5) .. ولم يقل: في عنقها؟، فقال: إن الجيد لما كان محلا [للعقد*]، ولا يذكر إلا للمدح تهكم بها بذكره، فقيل ذلك الموضع الرفيع [ ... ] من العذاب بحبل من المسد الأصل وأقلها المسد. * * *

سورة الإخلاص

سُورَةُ الْإِخْلَاصِ قوله تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1)} ذكر ابن التلمساني في شرح المعالم الفقهية في أوائل الباب السابع: أن كل ما لا يتوقف ثبوته على المعجز يصح إثباته بالسمع، فيصح بخلاف وجود الإله بأنه لَا يثبت إلا بالعقل. وقال في شرح المعالم اللدنية: إن ذلك مستفاد من [العقل والسمع*]، [وقال*] بعض [**شراحه] إنه لَا يصح إثبات الوحدانية بالسمع، وإنما تثبت بالعقل، وانظر ما تقدم في سورة الأنبياء. قوله تعالى: (اللَّهُ الصَّمَدُ (2) .. ولم يقل: هو الصمد؛ لأن هويتهم [ ... ] منهم فيمن يعود عليه الجلالة صريحة في معناها، فإِن قلت: لم نكر (أَحَدٌ) وعرف الصمد؟ فالجواب: أن تنكير أحد جاء على الأصل في الأسماء التنكير، وإنما عرف الصمد لاختصاصه بالله تعالى، ولا يوصف به غيره بوجه بخلاف الأحد، واعلم أن الأحد يطلق على معنيين: فتارة يراد به المنفرد في ذاته، وهو بهذا المعنى مشترك بين القديم والحادث، وتارة يراد به المنفرد بذاته وصفاته، وهو بهذا المعنى يختص بالقديم، قلت: وأخبرنا سيدنا الشيخ الصالح أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن إدريس الحارس المالكي أن شيخه الشيخ الفقيه الخطيب أبا محمد عبد الله بن محمد القرشي الرحبي، كان يقول: {قُل هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) نفي للكثرة والتعدد، (اللَّهُ الصَّمَدُ) نفِي للنقص والتقلب، (لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) .. نفي للعلة والمعلول، (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4)} .. نفي [للأشباه*] والأضداد، قلت: وحكي أن الفقيه أبا القاسم [ابن البراء التنوخي*]، عن أبي العباس أحمد [**الغساني] أنه [كان*] يقرئ أصول الدين فأرسل وراءه ليختبره، فخاف منه، فدخل على سيدي الحسن الزبيدي، فقال له قبل أن يخبره بأمر: قل هو الله الصمد .. إلى آخر السورة، فلما اجتمع مع ابن البراء، فقال: ما خشية الله وما نسبته، فقال (قُل هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) فسكت عنه، وأنكر ابن عرفة هذه الحكاية، وقال: هذا لفظ موحش، وإنما سمعت أنا أنه سئل سيدي الشيخ أبا محمد عبد الله المرجاني عنده وألهم في التفسير [ ... ] في الحديث، والدولة الأولى في الفروع وما مثالهم في ذلك، فقال له: هيئ لنا

(4)

من المنقول في الكتب كذا وكذا [**ويظرفها] كذا وكذا فأعجبه كلامه، فأمر أن يعطى الثعالبي من مدرسة السماعين، قال ابن عرفة: ويدخل في قوله تعالى، صفات الغير وصفات الأفعال؛ لأن المتصف بصفات الكمال الذي لَا يفتقر إلى غيره، ويفتقر غيره إليه، ومن ذلك استقلاله بالخلق والقدرة، وغير ذلك. وقوله تعالى: (لَمْ يَلِدْ) [صفة سلبية*]، وما قبلها ثبوت، وإما تنزيه بإثبات القدم فيدخل على [ ... ] وفي القدم خلاف، فقال أبو العالية: إنه ثبوتي، واختار المقترح أنه سلبي. قوله تعالى: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4)} إن قلت (قُل هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) يغني عنه، فإنه إذا ثبت أنه واحد في ذاته ثبت أنه [لا كفء له*]؟ فالجواب: أن المراد [بالكفاءة*] نفي المشابه، والمماثل المشابه للشيء لَا يكون [كفوا له*] فلا يلزم من إثبات الوحدانية نفي [الكفء*] المماثل، كما سبق تقديره في (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) ولم يقل: ليس مثله شيء، إذا قلنا إن الكاف زائدة، ولذلك جعلوا افتتاح [الصلاة*] بـ الله أكبر ليعتقد المصلي أن جميع ما يخطر بباله فالله أكبر منه وأعلى، فيجمع جميع صفات التنزيه، قلت: تقدم فيها في الختمة الأولى قوله تعالى: [(أَحَدٌ)] هو ضمير الأمر والشأن، وقال أهل علم اللسان: إن ضمير الأمر والشأن يؤتى به مقدما للاهتمام والتعظيم. قوله تعالى: (لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ). (لَمْ) لنفي المنقطع، وهي هنا لنفي الماضي المنقطع، وهي هنا لنفي الماضي المتصل بالحال، قلت: ونقل عن القاضي أبي عبد الله محمد بن عبد السلام، أنه قيل له: ما السر في نفي الولادة والكفو بـ (لَمْ)، وهلا قيل: [لما يلد*] وهو أبلغ إذ هو نفي للماضي المتصل بزمن الحال؟، فأجاب بأن (لما) لنفي قد فعل، وقد فيها معنى التوقع، والبارئ جل وعلا لم يلد ولم يتوقع ذلك منه ألبتَّة، فحسن دخول (لَمْ)، قال الإمام فخر الدين ابن الخطيب في شرح الأسماء الحسنى (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) فيها ثلاثة أسماء تنبيها على ثلاثة مقامات:

الأول: مقام السابقين المقربين الناظرين إلى حقائق الأمور، فما سوى الله معدوم وليس في الوجود إلا هو. ثم [يليهم*] المقتصدون، وهم أصحاب اليمين، قالوا: الممكنات موجودة فتفتقر إلى [مميز*]، وهو الله ولم ينظروا للأشياء من حيث هي؛ بل ينظروا إلى ظواهرها، فلم تكن الإشارة كافية لهم، ولم يكن لفظه هو [تام*] الإفادة في حقهم، فافتقروا معها إلى مميز، فقيل: [ ... ] هو الله، إنه يفيد افتقار غيره إليه، واستغناؤه هو عن غيره. ثم [يليهم*] أصحاب الشمال، يجوز تعدد الإله، فقال (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) لأجل هؤلاء، ولما كان الله أحد في ذاته؛ لزم أن لَا يكون [متحيزا*] ولا جوهرا ولا عرضا، ولا في مكان ولا جهة، ولا يشبه شبه أحد غني عن كل أحد، قال: وفيه سران معنوي، ولفظي، فلا [يخطر*] في عقولهم موجود لذاته سوى الأجل [الحق*]، فإن واجب الوجود لذاته واحد، وما عداه ممكن لذاته معدوم في نفسه؛ ولذلك قال (كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) فكانت الإشارة بهذا كافية لهم في تفسير الشأن، وأما اللفظي عن وجوه: أحدها: أن لفظ (هو) مركب في الواو والهاء أصل لوجهين: أحدهما: أن الواو تسقط مع التثنية والجمع، تقول: هما وهم فإنها الأصل، [وهو*] حرف واحد، فدل على الواحد الشيء، وليس لشيء من الأسماء هذه الخاصية، ألا ترى أنه تعالى خلق جميع [الأعضاء*] كاليدين والرجلين ومدخل الغذاء والهواء ومخرجهما، ثم خلق القلب واحد؛ لأنه محل المعرفة، واللسان واحد؛ لأنه محل الذكر، والجبهة واحدة؛ لأنها محل السجود، فكانت [هذه*] الأعضاء أشرف من غيرها، وكذلك الهاء في قولنا: هو. الثاني: أدخل حروف الحلق، والواو حرف يتولد من الشفتين. والثالث: أن الهاء باطن، والواو ظاهر، هذان حرفان يتولدان من أول [المخرج*] وآخره، فيصدق عليهما كونهما أولا وآخرا، وظاهرا وباطنا، فكان الاسم الأعلى الحق الموصوف بذلك. قال الزجاج: وأما الأحد أصله لغة الواحد، أن يقال: وحد موحد فهو وحد كحسن محسن فهو حسن، ثم انقلبت الواو همزة، ومنه امرأة [أناة ووناة*]، والفرق بينهما [من وجوه*]: الأول: أن الواحد [مفتتح العدد*]، يقال: واحد اثنان، ولا يقال: أحد اثنان.

الثاني: أن أحدا في النفي أعم، يقال: ما في الدار أحد؛ بل فيها اثنان بخلاف ما فيها أحد، فإِنه يعم. الثالث: أن الواحد يوصف به، يقال: رجل واحد، ولا يصح وصف شيء في جانب الإثبات بالأحد إلا الله، ولذلك لم يؤت به بلام التعريف لاختصاصه بالله فاستغنى عن التعريف، ويقال: كمال الوحدانية مثل (وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ) كاملة، قال ابن العربي في شرح الأسماء الحسنى: خص به البارئ من لفظ الواحد كما اختص. * * * انتهى ما وجد مكتوبا من هذا التفسير، والحمد لله وحده، وصلى الله على سيدنا ونبينا محمد النبي الأمي وعلى آله الطاهرين وصحابته المرضيين وعلى جميع إخوانه ساداتنا من الأنبياء والمرسلين والملائكة المقربين وعلى آلهم وصحبه أجمعين، وسلم تسليما كثيرا أبدا دائما إلى يوم الدين، آمين. * * *

§1/1