تفسير ابن رجب الحنبلي

ابن رجب الحنبلي

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الكتاب: روائع التفسير (الجامع لتفسير الإمام ابن رجب الحنبلي) المؤلف: زين الدين عبد الرحمن بن أحمد بن رجب بن الحسن، السَلامي، البغدادي، ثم الدمشقي، الحنبلي (المتوفى: 795هـ) جمع وترتيب: أبي معاذ طارق بن عوض الله بن محمد الناشر: دار العاصمة - المملكة العربية السعودية الطبعة: الأولى 1422 - 2001 م عدد الأجزاء: 2

_ وضع مَن جمع المادة التفسيرية - جزاه الله خيراً - آية من سورة سبأ - على سبيل السهو أو الخطأ - ضمن آيات سورة فاطر، فألحقتها بسورتها.

مقدمة في فضائل القرآن

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مُقَدِّمَة في فَضائِلِ القُرآنِ الحمدُ للَّه جابرِ القلوبِ المنكسرةِ من أجلِهِ، وغافرِ ذنوبِ المستغفرينَ بفضلِه وأشهدُ أنَّ لا إله إلا اللَّهُ وحدَهُ لا شريكَ لهُ، ولا شيءَ كمثلِهِ، وأشهدُ أنًّ محمدًا عبدُهُ ورسولُهُ، أرسله بالهُدى ودينِ الحق ليظهرَهُ على الدِّينِ كلِّه. وخيَّرهُ بين أن يكونَ مَلِكًا نبيا أو عبدًا رسولاً، فاختارَ مقامَ العبوديةِ مع رسلِهِ. أما بعدُ: اعلم أنَّ هذا البابَ واسعٌ كبير، ألَّفَ فيه العلماءُ كتبًا كثيرةً، وصنفوا فيه تصانيفَ عديدةً نذكرُ من ذلك نكتًا تدلُّ على فضلِهِ، وما أعدَّ الله لأهلهِ إذا أخلصُوا الطلبَ لوجهِهِ وعملُوا به، فأوَّلُ ذلك: أنْ يستشعرَ المؤمن من فضلِ القرآنِ أنه كلامُ رب العالمينَ غيرُ مخلوقٍ، كلامُ منْ ليس كمثلِهِ شيءٌ، وصفَةُ من ليس له شبيه ولا ند، فهو من نورِ ذاتِهِ عزَّ وجلَّ، وأنَّ القرَّاءَ ونغماتِهِم. وهي أكسابُهم التي يُؤمرونَ بها في حالٍ، إيجابًا في بعضِ العباداتِ، وندبًا في كثيرٍ من الأوقاتِ، ويُزجرون عنها إذا أُجنبوا، ويُثابون عليها ويُعاقبون على تركِها، وهذا مما أجمع عليه المسلمونَ أهلُ الحقِّ ونطقتْ به الآثارُ، ودلَّ عليها المستفيضُ من الأخبارِ، ولا يتعلقُ الثوابُ والعقابُ إلا بما هو أكسابُ العبادِ، ولولا أنه - سبحانه - جعلَ في قلوبِ عبادِهِ من القوةِ على حملِهِ ما جعله ليتدبَّروه وليعْتَبروا وليتذكروا ما فيه من طاعتِهِ وعبادِتِه، وأداءِ حقوقِه

وفرائضِه، لضعفت ولاندكتْ بثقلِهِ، أو لتضَعْضَعَتْ له، وأنَّى تطيقُه، وهو يقولُ - تعالى جدُّه - وقوله الحق: (لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (21) . فأين قوةْ القلوبِ من قوةِ الجبالِ؟! ولكنَّ اللَّهَ تعالى رزقَ عبادَهُ من القوةِ على حملِهِ ما شاءَ أن يرزقَهُم، فضلاً منه ورحمةً. قال ابنُ عباسٍ: القرآنُ هو المهيمنُ الأمينُ على كلِّ كتابٍ قبله. وجاءَ في "البخاريِّ ": حدثنا عبيدُ اللَّه بنُ موسى، عن شيبانَ، عن يحيى، عن أبي سلمةَ، قال: أخبرتني عائشةُ وابنُ عباسٍ - رضي الله عنهما - قالا: لبث النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بمكةَ عشرَ سنينَ ينزلُ عليه القرآنُ وبالمدينةِ عشرًا. وجاء عن موسى بن إسماعيلَ عن معتمرٍ، قال: سمعتُ أبي عن عثمان قال: أنبئتُ أن جبريلَ أتى النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - وعنده أمُّ سلمةَ فجعلَ يتحدثُ فقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - لأمِّ سلمة: "من هذا؟ " أو كما قال، قالت: هذا دِحيةُ. قامَ قالتْ: واللَّه ما حسبتُه إلا إياهُ حتى سمعتُ خطبةَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - يخبرُ خبرَ جبريلَ أو كما قال: قال أبي: قلت لأبي عثمان: ممن سمعتَ هذا قال: أسامةَ بنِ زيدٍ. وقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "ما مِنْ الأنبياءِ نبيّ إلا أعطيَ ما مثلُهُ آمنَ عليه البشرُ وإنما الذي أوتيتُ وحيًا أوحاهُ اللَّهُ إليَّ فأرجُو أن أكون أكثرَهم تابعًا يوم القيامةِ". وقال أنسُ بن مالكٍ - رضي الله عنه -: إنَّ اللَّه تعالى تابع على رسولِهِ - صلى الله عليه وسلم - الوحيَ قبلَ

وفاتِهِ حتَّى توفاه، أكثرَ ما كان الوحيُ ثمَّ توفيَ رسولُ اللَهِ - صلى الله عليه وسلم - بعد. أي أن أكثر فترةِ تتابع الوحي على الرسولِ فترةُ قبل وفاته - صلى الله عليه وسلم -. وقال الأسودُ بن قيس: سمعتُ جندبًا يقولُ: "اشتكى النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - فلم يقمُ ليلةً أو ليلتينِ فأتتْه امرأةٌ فقالتْ: يا محمدُ، ما أرى شيطانك إلا قد تركَكَ، فأنزل الله عزَّ وجلَّ: (وَالضُّحَى (1) وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى (2) مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى (3) . نزلَ القرآنُ بلسانِ قريشٍ والعربِ، قرآنًا عربيًّا بلسانٍ عربيٍّ مبين. قال أنسُ بن مالكٍ: فأمرَ عثمانُ زيدَ بنَ ثابتٍ وسعيدَ بنَ العاصِ وعبدَ اللهِ ابنَ الزبيرِ وعبدَ الرحمنِ بنِ الحارثِ بنِ هشامٍ أن ينسَخُوا المصحفَ، وقال لهم: إذا اختلفتُم وزيدَ بنَ ثابتٍ في عربيةٍ من عربية القرآنِ فاكتبوها بلسان قريشٍ، فإنَّ القرآن أنزلَ بلسانِهِم ففعلُوا. وكان يعْلى بنُ أميةَ يقولُ: ليتني أرى رسولَ اللَّه - صلى الله عليه وسلم - حين ينزلُ عليه الوحيُ؛ فلمَّا كان النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بالجعرانةِ عليه ثوبٌ قد أظلَّ عليه ومعه ناسٌ من أصحابِهِ إذ جاءَهُ رجلٌ متضمخٌ بطيبٍ، فقال رسولَ اللَّه: كيفَ ترى في رجلٍ أحرمَ في جبةٍ بعد ما تضمخ بطيبٍ؟ فنظر النبي - صلى الله عليه وسلم - ساعة، فجاءه الوحيُ فأشارَ عمرُ إلى يَعْلى أن تعالَ: فجاءَ يعْلى فأدخلَ رأسَهُ فإذا هو مُحمَرُّ الوجهِ يغط كذلك ساعةً ثم سُرِّي عنه فقالَ: "أين الذي يسألني عن العمرة آنفًا"، فالتُمِسَ الرجلُ فجيءَ به إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فقالَ: "أما الطيبُ الذي بك فاغسلهُ ثلاثَ مرَّات

وأمّا الجبةُ فانزَعْها، ثم اصنعْ في عمرتِكَ كما تصنعُ في حجِّك ". قال زيدُ بنُ ثابتٍ - رضي الله عنه -: أُرسِلَ إلى أبي بكرٍ مقتلُ أهلِ اليمامةِ فإذا عمرُ ابنُ الخطابِ عندَهُ، قال أبو بكرٍ - رضي الله عنه -: إنَّ عمرَ أتاني فقال: إنَّ القتلَ قد استحرَّ يومَ اليمامةِ بقرَّاءِ القرآنِ، وإني أخْشى أن يستحرَّ القتلُ بالقراءِ بالمواطنِ فيذهبُ كثيرٌ من القرآنِ، وإني أرى أنْ تأمرَ بجمع القرآنِ، قلتُ لعمرَ: كيفَ تفعلُ شيئًا لم يفعلْه رسول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -؟ قال عمرُ: هذا واللَّهِ خيرٌ فلم يزل عمرُ يراجعُني حتى شرحَ اللَّهُ صدري لذلك، ورأيتُ في ذلكَ الذي رأى عمرُ. قال زيدٌ: قال أبو بكر: إنك رجلٌ شابٌ عاقلٌ لا نتهمُكُ، وقد كنتَ تكتبُ الوحيَ لرسولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فتتبع القرآنَ فاجْمعهُ فواللَّهِ لو كلَّفوني نقلَ جبلٍ من الجبالِ ما كان أثقلَ عليَّ مما أمرَني به منْ جمع القرآنِ، قلتُ: كيفَ تفعلونَ شيئًا لم يفعلْه رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: هو واللَّهِ خيرٌ، فلم يزل أبو بكر يراجعُني حتى شرحَ اللَّه صدري للذي شرح له صدرَ أبي بكرٍ وعمرَ - رضي الله عنهما -. فتتبعتُ القرآنَ أجمعُه من العسبِ واللخافِ وصدورِ الرجال حتى وجدتُ آخرَ سورةِ التوبةِ مع أبي خزيمةَ الأنصاريِّ لم أجدْها مع أحدٍ غيره: (لَقَدْ جَاءَكمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُمْ) ، حتى خاتمةِ براءة، فكانتِ الصحفُ عند أبي بكر حتى توفاهُ اللَّهُ، ثمَّ عند عمرَ مدةَ حياتِهِ، ثم عندَ حفصةَ بنتِ عمرَ - رضي الله عنهما -. وقدمَ حذيفةُ بنُ اليمانَ على عثمانَ وكانَ يغازِي أهلَ الشامِ في فتح أرمينيةَ وأذربيجانَ مع أهلِ العراقِ فأفزعَ حذيفةُ بنُ اليمانِ اختلافُهم في القراءةِ، فقال:

حذيفةُ لعثمانَ: يا أميرَ المؤمنينَْ، أدركْ هذه الأُمَّةَ قبلَ أن يختلفُوا في الكتابِ اختلافَ اليهودِ والنصارى، فأرسلَ عثمانُ إلى حفصةَ أنْ أرسلي إلينا بالصحفِ ننسخُهَا في المصاحفِ ثمَّ نردُّها إليكِ فأرسلتْ حفصةُ إلى عثمانَ فأمرَ زيدَ بن ثابتٍ، وعبدَ اللَّه بنَ الزبيرِ، وسعيدَ بن العاصِ، وعبدَ الرحمنِ بنَ الحارثِ بنِ هشامٍ، فنسخوها في المصاحفِ، وقال عثمانُ للرهطِ القرشيينَ الثلاثةِ: إذا اختلفتم أنتم وزيدُ بنُ ثابتٍ في شيءٍ من القرآنِ فاكتبوه بلسانِ قريشٍ فإنما نزلَ بلسانِهِم، ففعلوا حتَّى إذا نسخُوا الصحفَ في المصاحفِ ردَّ عثمانُ الصحفَ إلى حفصةَ وأرسلَ إلى كلِّ أفقٍ مما نسخُوا، وأمرَ بما سواهُ منَ القرآنِ في كل صحيفةٍ أو مصحفٍ أن يحرَّق. ويقولُ زيدُ بنُ ثابت: إنَّ آيةً فُقدتْ من الأحزابِ حين نسخُوا المصحفَ. وقد كنتُ أسمعُ رسولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يقرأُ بها فالتمسنَاها فوجدْنَاها مع خزيمةَ بنِ ثابتٍ الأنصاري: (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ) . فألحقْناها في سورتِها في المصحفِ. أرسلَ أبو بكرٍ - رضي الله عنه - إلى زيدِ بنِ ثابتٍ قائلاً: إنك كنتَ تكتبُ الوحيَ لرسولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، فاتبع القرآنَ، فتتبعتُ - القائل زيد - حتى وجدتُ آخرَ سورةِ التوبةِ آيتينِ مع أبي خزيمةَ الأنصاري لم أجدْهما مع أحدٍ غيره (لَقَدْ جَاءَكمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتمْ..) إلى آخرِها. ويقولُ البراءُ: لما نزلتْ: (لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. . .)

قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "ادعُ لي زيدًا وليجِئْ باللوح والدواةِ والكتف أو الكتفِ والدواة" ثم قال: اكتبْ: " لا يستوي القاعدونَ " وخلفَ ظهرِ النبيًّ - صلى الله عليه وسلم - عمرُو بنُ أمِّ مكتومٍ الأعْمَى، قال: يا رسولَ اللَّهِ فما تأمرُوني؟ فإئي رجلٌ ضريرُ البصرِ، فنزلتْ مكانَها: (لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) . ويتحدثُ عبدُ اللَّهِ بنُ عباسٍ - رضي الله عنهما -: أنَّ رسولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قال: "أقرأني جبريلُ على حرف فراجعتُه فلمْ أزل استزيدُه ويزيدُني حتَى انتهى إلى سببعةِ أحرف ". ويتكلمُ كل منَ المسورِ بنِ مخرمةَ وعبدِ اللَّهِ بنِ عبدِ القاري، أنَّهما سمِعا عمرَ بنَ الخطابِ يقول: سمعتُ هشامَ بنِ حكيم يقرأُ سورةَ الفرقانِ في حياةِ رسولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، فاستمعتُ لقراءتِهِ فإذا هو يقرأُ على حروف كثيرة لم يُقْرئنِيها رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، فكدتُ أساورُهُ في الصلاةِ، فتصبرت حتى سلًّمَ، فلبَّبْتُه بردائِهِ، فقلتُ: منْ أقرأكَ هذه السورةَ التي سمعتُك تقرأُ؟! قال: أقرأنيها رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، فقلتُ: كذبتَ، فإنَّ رسولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قدْ أقرأنِيها على غيرِ ما قرأتَ، فانطلقتُ به أقودُهُ إلى رسولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فقلتُ: إني سمعتُ هذا يقرأُ بسورةِ الفرقانِ على حروف لم تُقرِئنيها، فقالَ رسولُ اللَّه - صلى الله عليه وسلم -: "أرْسِله. اقرأ يا هشامُ " فقرأ عليه القراءةَ الَّتي سمعتُه يقرأ، فقالَ رسولُ الَلَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: (كذلك أنزلتْ، ثم اقرأ يا عمرُ" فقرأتُ القراءةَ التي أقرأني، فقالَ رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -: "كذلك أنزلتْ، إنَّ هذا القرآنَ أنزلَ على سبعةِ أحرفٍ فاقرؤُا ما تيسر منه ".

جاء رجل إلى عائشةَ أمِّ المؤمنينَ - رضي الله عنها - من العراقِ، فقال: أيُّ الكفنِ خيرٌ؟ قالتْ: ويحك!! وما يضرك؟! قال: يا أمَّ المؤمنينَ أريني مصحفكِ، قالتْ لِمَ؟ قال: لعلِّي أؤلفُ القرآنَ عليه، فإنه يُقرأ غير مؤلَفٍ. قالتْ: وما يضرك أيَّهُ قرأتَ قبلُ، إنما نزل أولُ ما نزلَ منه سورة من المفَصلِ فيها ذكرُ الجنة والنارِ، حتى إذا ثابَ الناسُ إلى الإسلامِ، نزلَ الحلالُ والحرامُ ولو نزل أولَ شيءٍ: لا تشربوا الخمرَ لقالوا: لا ندعُ الخمرَ أبدًا. ولو نزل: لا تزنُوا، لقالوا: لا ندعُ الزّنا أبدًا، لقد نزلَ بمكةَ على محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، وإنّي لجاريةٌ ألعبُ: (بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ) ، وما نزلتْ سورةُ البقرةُ والنساءِ إلا وأنا عندَهُ، قال: فأخرجتْ له المصحَفَ فأملتْ عليه آيَ السُّورِ. ويقول ابنُ مسعود في بني إسرائيلَ والكهفِ ومريمَ وطه والأنبياءِ: إنَهن من العتاقِ الأولِ وهن من تلادِي. وقال البراءُ: تعلمتُ سبّح اسمَ ربِّك قبلَ أن يقدمَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -. وقال عبدُ اللَّهِ: قد علمتُ النظائرَ التي كانَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يقرؤُهنَّ اثنينِ اثنينِ في كل ركعةٍ، فقامَ عبدُ اللَّهِ ودخلَ معه علقمة، وخرجَ علقمةُ، فسألنا، فقال: عشرونَ سورة من أولِ المفصلِ على تأليف ابنِ مسعود آخرُهنَّ الحواميمُ حم الدخان، وعمَّ يتساءلون. َ وسأل قتادةُ أنسَ بنَ مالكٍ: مَنْ جمعَ القرآنَ على عهدِ النبيّ - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: أربعةٌ كلُّهم من الأنصارِ: أُبي بنُ كعب، ومعاذُ بنُ جبل،

وزيدُ بنُ ثابتٍ، وأبو زيد. وقال أنسُ بنُ مالكٍ: لم يجمع القرآنَ غيرُ أربعةٍ: أبو الدرداءَ ومعاذُ بنُ جبلٍ، وزيدُ بنُ ثابتٍ، وأبو زيدٍ، ثم أضاف أنس: ونحن ورثناه. وقال عمرُ بنُ الخطابِ: أُبيٌّ أقرؤُنا، وإنَّا لندعُ من لحنِ أُبي، وأُبيٌّ يقولُ: أخذتُه منْ فِيِّ رسولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فلا أتركُه لشيء، قال الله تعالى: (مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا) . حدثنا أبو نُعيمٍ، قالَ: حدثنا شيبانُ، عن يحيى بن أبي كثيرٍ، عن أبي سلمةَ، عن عائشةَ وابنِ عباسٍ أنَّ رسولَ اللَهِ - صلى الله عليه وسلم - لبثَ بمكةَ عشر سنينَ ينزلُ عليه القرآنُ وبالمدينةِ عشرًا. حدثنا الحسنُ بنُ موسى: قال: حدثنا حمادُ بنُ سلمةَ، عن عليِّ بنِ زيدٍ. عن أنسِ بنِ مالكٌ، قال: قال رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: "رأيتُ ليلةَ اسْرِي بي رجالاً تُقرضُ شفاههُم بمقاريضَ من نارٍ فقلتُ لجبريلَ: من هؤلاءِ؟ قال: هؤلاء خطباءُ من أمَّتِكَ يأمرونَ بالبر وينسونَ أنفسَهم وهو يتلونَ الكتابَ أفلا تعقلون ". حدثنا أبو عاصم، عن عبيدِ اللَّه بنِ أبي زيادٍ، عن شهرِ بنِ حوشبٍ، عن أسماءَ بنتِ يزيدَ أنَّ رسولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قال: "اسمُ اللَّهِ الأعظمُ في هاتينِ الآيتينِ: (اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ) ، (وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ) ".

حدَّثني ابنُ أبي شيبةَ، قال: حدثنا أبو خالدٍ الأحمرُ سليمانُ بنُ حيانَ. عن مجالدٍ، عن الشعبيِّ، عن جابرٍ قال: كنَّا جلوسًا عند النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فخط خطا هكذا أمامَهُ فقال: "هذا سبيلُ اللَّه " وخطينِ عن يمينِهِ، وخطينِ عن شمالِهِ فقالَ: "هذه سبلُ الشيطانِ " ثم وضعَ يدَهُ في الخطِ الأوسطِ ثمَّ تلا هذه الآيةَ: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ) . حدثنا يحيى بنُ إسحاقَ، قال: أخبرنا ابنُ لهيعةَ، عن أبي الزبيرِ، قال: سمعتُ جابرَ بن عبدِ اللَّهِ بعدَما رجِعنا من غزوةِ تبوكٍ، قال رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -: "إن بالمدينةِ لأقوامًا ما سِرْتُم ولا قطعتُم واديًا إلا كانُوا معكم، حبسهُمُ المرضُ". حدثنا يحيى بن إسحاقَ، قال: أخبرنا ابنُ لهيعةَ عن أبي الزبيرِ، قال: سمعتُ جابرَ بن عبدِ اللَّهِ بعدما رجِعنا من غزوةِ تبوكٍ، قال:.. وحدثني محاضرٌ، قال: حدثنا الأعمشُ، عن ابنِ سفيانَ، عن جابرٍ قال: قالَ رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ونحنُ في سفرٍ: "إنَّ بالمدينة لرجالاً ما تقطعونَ واديًا ولا تسلكون طريقًا إلا وهُم معكُم، حبسهُم عنكُم المرضُ ". قال رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: "ستكونُ فتنٌ" قلتُ: فما المخرجُ منها يا رسولَ اللَّه؟ قال: "كتابُ اللَّهِ فيه نبأ ما قبلكُم، وخبرُ ما بعدكم، وحكمُ ما بينَكم، وهو الفصلُ ليس

بالهزلِ، من تركَهُ من جبارٍ قصمهُ اللَّهُ، ومَنْ ابتغى الهُدَى من غيره أضلَّه اللَّهُ، وهو حبلُ اللَّه المتينِ، وهو الذكرُ الحكيمُ وهو الصراطُ المستقيمُ، وهو الذي لا تزيغُ به الأهواءُ، ولا تلبسُ به الألسنةُ، ولا تشبعُ منه العلماءُ، ولا يخلَقُ على كثرةِ الردِّ، ولا تنقضِي عجائبُه. من قالَ به صدَقَ، ومن عملَ به أُجِرَ، ومن حكمَ به عدلَ، ومن دعا إليه هُدي إلى صراطٍ مستقيمٍ ". وقال: "من قرأ القرآنَ في سبيلِ اللَّه كُتبَ مع الصديقينَ والشهداءِ والصالحينِ وحسنُ أولئك رفيقًا". وقال: "أيحبُّ أحدُكم إذا رجعَ إلى أهلِهِ أنْ يجدَ ثلاثَ خلفاتٍ عظامٍ سمانٍ؟ " قلنا: نعم، قال: "ثلاثُ آياتٍ يقرأُ بهنَّ أحدُكم في صلاةٍ، خير له من ثلاثِ خلفاتٍ سمانٍ ". قال رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: "لو كانَ القرآنُ في إهابٍ ما مستْهُ النارُ". وقال: "لو جُمع القرآنُ في إهابٍ ما أحرقتْهُ النارُ". وقال: "لو كان القرآنُ في إهابٍ ما أكلتْهُ النارُ". قال رسولُ اللَّه - صلى الله عليه وسلم -: "ما أنزلَ اللَّهُ في التوراة ولا في الإنجيلِ مثل: أمِّ القرآنِ وهي السبعُ المثاني ". َ

وقالَ: "أَخْيرُ سورةٍ في القرآن: الحمدُ للَّهِ ربِّ العالمينَ ". وقالَ: "أفضلُ القرآنِ: الحمدُ للَّهِ ربِّ العالمينَ ". وقالَ: "أعظمُ سورةٍ في القرآنِ: الحمدُ للَّهِ ربِّ العالمينَ ". وقالَ: "فاتحةُ الكتابِ تعدلُ بثلثي القرآنِ ". قال رسولُ اللَّهِ: - صلى الله عليه وسلم -: "ما من مسلمٍ يأخذُ مضجَعَهُ فيقرأُ سورةً من كتاب اللَّه. إلا وَكَلَ به ملكًا يحفظهُ فلا يقربُهُ شيءٌ يؤذيه حتَّى يهبَّ متى هبَّ ". وقال: "إنكم لا ترجعون إلى اللَّهِ بشيءِ أفضلَ مما خرجَ منه " يعني القرآن. وقالَ: "الصيامُ والقرآنُ يشفعانِ للعبدِ". وقال: "يجيءُ صاحبُ القرَآنِ يومَ القيامةِ، فيقولُ القرَآنُ: يا ربِّ حلِّه، فيلبسُ تاجَ الكرامةِ، ثم يقولُ: يا ربِّ زِدْه، يا ربِّ ارضَ عنه، فيرضَى عنه، ويقالُ له اقرأ وارْقَ، ويُزادُ له بكلِّ آيةٍ حسنةٌ". قال رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: "خيرُكم من تعلَّم القرآنَ وعلَّمَهُ ". وفي لفظٍ: "إنَّ أفضلَكم من تعلَّم القرَان وعلَّمه ".

وزاد البيهقيُّ في "الأسماءِ": "وفضلُ القرآنِ على سائرِ الكلامِ كفضلِ اللَّهِ على سائرِ خلقِهِ ". وقالَ: "من جمعَ القرآنَ كانتْ له عندَ اللَّهِ دعوة مستجابة إن شاءَ عجَّلها في الدنيا، وإن شاءَ ادَّخرها له في الآخرةِ". قالَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "ما مِنْ رجلٍ يُعلِّمُ ولدَه القرآنَ إلا تُوجٍّ يومَ القيامةِ بتاجٍ في الجنةِ". قالَ - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ الله كتبَ كتابًا قبلَ أن يخلقَ السمواتِ والأرضَ بألفَي عامٍ، فأنزلَ منه آيتينِ فختمَ بهما سورةَ البقرةِ". وقال عبدُ اللَّهِ بنُ مسعودٍ: أُعطي رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ثلاثًا، أُعطي الصلوات الخمس، وأُعطي خواتيمَ سورةِ البقرةِ، وغُفر لمنْ لم يشركْ باللَّه من أمتِهِ شيئًا. وقال - صلى الله عليه وسلم -: "أعطيتُ خواتيم سَورةِ البقرةِ الآيتينِ. . . ". وقال: "هذه الآياتُ من آخرِ سورةِ البقرةِ من بيت رحمة اللَّه ". وقال: "هذه الآياتُ من آخرِ سورةِ البقرةِ من خزائنِ رحمة اللَهِ تعالى". وقال: "هذه الآياتُ من آخرِ سورةِ البقرةِ من كنز".

قال: "هذه الآياتُ من آخرِ سورةِ البقرةِ من تحت العرشِ ". وقالَ - صلى الله عليه وسلم -: "من قرأ أولَ سورةِ الكهفِ، وآخرها، كانتْ له نُورًا منْ قدمِهِ إلى رأسِهِ. ومن قرأها كلَّها كانتْ له نورًا ما بين الأرض والسماءِ". وقالَ - صلى الله عليه وسلم -: "من قرأ في ليلةٍ: (فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ..) الآيةَ، كانَ له نورٌ من عدن أبْينَ إلى مكةَ، حشوُهُ الملائكةُ". يقول - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله تباركَ وتعالى قرأ طه ويس قبل أن يخلق السموات والأرضَ ". وكان - صلى الله عليه وسلم - يقرأُ في الركعة الأولى الفاتحةَ وسورةَ يس. وصلَّى بالصحابةِ الظهرَ، فحسبوا أنَّهم سمِعُوا منه آياتٍ من يس. وقال رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: "اقرؤوها عند موتاكُم " - يَعْني: يس. وفي كسوفٍ للشمسِ صلَّى عليٌّ - كرَّم اللَّه وجَهه - للناسِ، فقرأ يس أو نحوها.

ويقولُ الرسولُ - صلى الله عليه وسلم -: "بلغني أنَّ يس تعدلُ القرآنَ كلَّه ". وقالَ: "من قرأ يس حينَ يصبحُ، أُعطي يسرَ يومِهِ ". وقالَ: "من قرأ يس في ليلةٍ ابتغاءَ وجهِ اللَّهِ غُفرَ له ". وقالَ: "من قرأ يس في صدرِ النهارِ، قُضيتْ حوائجُهُ ". وقالَ: "من قرأ يس كتب اللَّه له بقراءَتِها، قراءةَ القرآنِ عشرَ مرَّاتٍ ". كان النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يسجدُ إحْدى عشرةَ سجدةً وسجدةَ الحواميم. ويقالُ: عشرونَ سورةً من أول المفصلِ على تأليف ابنِ مسعود وآخرُهن الحواميم. والحواميمُ هي المسبحاتُ. وكان الرسولُ - صلى الله عليه وسلم - يقرأ المسبحاتِ قبلَ أن يرقد. وكان النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - لا ينامُ حتَّى يقرأَ المسبحات. والمسبحاتُ آية خير من ألفِ آيةٍ. وجاء عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ لكلِّ شيءٍ لُبابًا، ولبابُ القرآنِ الحواميمُ ".

وقالَ: " الحواميمُ ديباجُ القرآنِ ". وقالَ: "من قرأ حم (الدخان) في ليلةٍ، أصبحَ يستغفرُ له سبعونَ ألف ملَكٍ ". وقال - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ لِكُلِّ شَىْءٍ لُبَاباً، وَإِنَّ لُبَابَ الْقُرْآنِ الْمُفَصَّلُ ". قال رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: "لكلِّ شيءٍ عروسٌ وعروسُ القرآنِ الرحمنُ ". ويقالُ: لكن النبيَّ كان يقرأ النظائرَ، النظرُ: الرحمنُ والنجم. والنظائرُ التي كان رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يقرنُ: الرحمنُ والنجمُ. وكانَ أولُ مفصلِ ابنِ مسعودٍ: الرحمنُ. نزلتْ سورةُ الحشرِ في بني النضيرِ. وسماها البعضُ سورةُ النضيرِ. وقالَ - صلى الله عليه وسلم -: "من قال حين يصبحُ أعوذُ باللَّه السميع العليم من الشيطانِ الرجيم. وثلاثَ آياتٍ من آخرِ سورةِ الحشرِ، وَكَّلَ اللَهُ به سبعينَ ألفَ ملَكٍ يصلُّونَ عليه ". وقالَ: "من قرأ ثلاثَ آياتِ من آخرِ سورةِ الحشرِ إذا أصبحَ فماتَ من يومِهِ ذلكَ طُبع بطبائع الشهداءِ". قالَ رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: "من القرآنِ سورة ثلاثونَ آيةً شفعتْ لرجل حتى غُفر له: (تباركَ الذي بيده الملك) ".

وقالَ: "هي المانعةُ، هي المنجيةُ، تنجي من عذابِ النارِ". وقالَ: "وددتُ أنَّها في قلبِ كلِّ مؤمنٍ: تباركَ الذي بيده الملك ". وقالَ: "من قرأ (تباركَ الذي بيدهِ الملكُ) كلَّ ليلةِ، منعهُ اللَّهُ من عذابِ القبرِ". قال - صلى الله عليه وسلم -: "إني نسيتُ أفضلَ المسبحاتِ " قال أُبيُّ بنُ كعبٍ: فلعلها: (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1) ؟ قال: "نعم". قالَ - صلى الله عليه وسلم -: "إن الشيطانَ يخرجُ من البيتِ إذا سمعَ سورةَ البقرةِ تُقرأُ فيهِ ". وقالَ: "من قرأ سورةَ آلِ عمرانَ يومَ الجمعةِ صلَّتْ عليه الملائكةُ إلى الليلِ ". وقالَ: "أعظمُ آيةٍ في كتابِ اللَّهِ آيةُ الكرسي ". وقالَ: "إنَّ لكلِّ شيء سنامًا، وإنَّ سنامَ القرآنِ البقرةُ، وفيها آيةٌ هي سيدةُ آي القرآنِ آيةُ الكرسي ". وقالَ: "أفضلُ القرآنِ سورةُ البقرةِ وأعظمُ آيةٍ فيها، آيةُ الكرسي ". وقالَ: "من قرأ آيةَ الكرسي دُبرَ كلِّ صلاة مكتوبة لم يمنعْه من دخولِ الجنة إلا أن يموتَ ".

وقالَ: "آيةُ الكرسي ربعُ القرآنِ ". وقالَ: "من قرأ الآيتينِ من آخرِ سورةِ البقرةِ في ليلة، كفتاهُ ". "من قرأ آخرَ آلِ عمرانَ في ليلة، كتبَ له قيامُ ليلة". "إن الله كتبَ كتابًا قبل أن يخلَق السماواتِ والأرضَ بألفي عامٍ، وأنزلَ منه آيتينِ ختمَ بهما سورةَ البقرةِ، ولا يُقرآنِ في دار فيقربُها شيطانٌ ثلاثَ ليالي ". قال - صلى الله عليه وسلم -: "الأنعامُ من نواجبِ القرآنِ ". وقالَ: "من أخذَ السبعَ الطوالَ فهو حبرٌ". وقالَ: " لا يحفظُ منافقٌ سورَ: براءةَ، وهودَ، ويس، والدخانَ، وعمَّ يتساءلون ". وقالَ: "آيةُ العزِّ: (وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ) .. إلخ السورةِ. قالَ - صلى الله عليه وسلم -: "ألا يستطيعُ أحدُكُم أنْ يقرأ ألفَ آية في كلّ يومٍ؟ " قالُوا: ومن يستطيعُ أن يقرأ ألفَ آيةٍ؟ قال: "أما يستطيعُ أحدُكُم أن يقرأ: (أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ) ".

المعوذتان:

المعوذتان: المقصودُ بهما سورةُ الفلق وسورةُ الناسِ. وقال - صلى الله عليه وسلم -: "أُنزلَ (أو أنزلتْ) عليَّ آياتٌ لم يُرَ مثلُهُنَّ قط: المعوذتين ". وكان رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: يقرأُ في الركعة الثالثةِ المعوذتينِ وقل هو اللَّه أحد. وكان يطلبُ من الصحابةِ القراءةَ بالمعوذتين في دبرِ كلِّ صلاةٍ. وكان النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - إذا مرضَ قرأ على نفسِهِ بالمعوذتين. وكان إذا أخذ مضجعَهُ إذا أوى إلى فراشِهِ نفثَ في يديهِ بالمعوذتين". وكان يتعوذُ حتَّى نزلتْ المعوذتان، فلمَّا نزلتْ أخذَ بهما وترك ما سواهما. وكانَ ابنُ مسعودٍ لا يكتبُ المعوذتينِ في مصحفِهِ. حدثنا يزيدُ بنُ أبي حكيمِ، قال: حدثنا سفيانُ، عن عاصم الأحولِ قالَ: سألتُ أنسًا عن الصفا والمروة، فقال: كانا من شعائرِ الجاهليةِ فلمَّا كانَ الإسلامُ أمسكْنا عنهما، فأنزلَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ: (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ (158) .

حدثني أبو بكرٍ بنُ أبي شيبةَ، قال: حدثنا كثيرُ بنُ هشامٍ، عن أبي الزبيرِ. عن جابرٍ، قال: اشتكيتُ وعندي سبعَ أخواتٍ لي فدخلَ عليَّ رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فنفخَ في وجهي فأفقتُ، فقلتُ: يا رسولَ اللهِ ألا أوصي لإخوتي بالثلثينِ، قال: "احبِسْ " قلتُ: الشطرُ، قال: "احبِسْ ". ثم خرجَ وتركني فقالَ: "يا جابرُ إني أراكَ ميتًا من وجعكِ هذا وإنَّ اللَّه عزَّ وجل قد أنزلَ فبين لأخواتِكَ فجعلَ لهنَّ الثلثينِ " قال: فكان جابرٌ يقولُ: نزلتْ هذه الآيةُ فيَّ (يَسْتَفْتُونكَ قًلِ اللَّه يُفْتِيكم فِي الْكَلالَةِ) . حدثني محاضر، قال: حدثنا الأعمشُ، عن ابنِ سفيانَ، عن حابرٍ، قالَ: قالَ رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، ونحنُ في سفرٍ: "إن بالمدينة لرجالاً ما تقطعونَ واديًا ولا تسلكون طريقًا إلا وهم معكُم حبسهُم عنكم المرضُ ". قال رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: "القرآنُ أحبُّ إلى اللَّهِ من السمواتِ والأرضِ ومن فيهنَّ". قالَ - صلى الله عليه وسلم -: "حملةُ القرآنِ في ظلِّ اللَّهِ يومَ لا ظلَّ إلا ظلُّه ". وقالَ: "إنَّ هذا القرآنَ سببٌ طرفُهُ بيدِ اللَّه، وطرفُه بأيديكُم فتمسَّكوا به،

فإنَّكُم لن تضلّوا ولنْ تهلِكُوا بعدَهُ أبدًا". وقالَ: "منْ تعلَّم كتابَ اللَّه ثم اتَّبع ما فيه، هداهُ اللَّهُ به من الضلالةِ، ووقاه يومَ القيامةِ سوءَ الحسابِ ". وقالَ: "لأن تغدو فتتعلمَ آيةً من كتابِ اللَّهِ خيرٌ لك من أن تصلِّي مائةَ ركعةٍ". وقالَ: "إنَّ الذي ليسَ في جوفهِ شيءٌ من القرآنِ كالبيتِ الخربِ ". قال - صلى الله عليه وسلم -: "الماهر بالقرآنِ مع السفرة الكرام البررةِ، والذي يقرأ القرآن ويتتعتعُ فيهِ. وهو عليهِ شاقٌّ له أجرانِ ". وقالَ: "من تعلَّم آيةً من كتابِ اللَّهِ استقبلتْه يومَ القيامةِ تضحكُ في وجهِهِ ". وقالَ: "من قرأ القرآنَ فاستظهرَهُ، فأحَلَّ حلالَهُ، وحرمَ حرامَهَ أدخله اللَّهُ الجنةَ، وشفَعه في عشرةٍ من أهلِ بيتِهِ، كلِّهم قد وجبتْ لهم النارُ". وقالَ: "من قرأ القرآنَ فأكملَهُ وعملَ به أُلبِسَ والداه تاجًا يومَ القيامةِ، ضوءُه أحسنُ من ضوءِ الشمسِ في بيوتِ الدُّنيا لو كانتْ فيكم فما ظنُّكم بالذي عمل بهذا؟! ". قال رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: "خيرُ الحديثِ كتابُ اللَّهِ ". وقالَ: "حملةُ القرآنِ عُرفاءُ أهلِ الجنةِ".

وقالَ: "أهلُ القرآنِ هم أهلُ اللَّهِ وخاصتُه ". وقالَ: " القرآنُ شافعٌ مشفعٌ وماحِلٌ مصدَّق من جعلَه أمامَه قادَهُ إلى الجنةِ، ومن جعلَهُ خلفَهُ ساقَهُ إلى النارِ". وقال: "من قرأ القرآنَ يقوم به آناءَ الليلِ والنهارِ، يُحلُّ حلالَهُ ويحرِّمُ حرامَهُ، حرَّم اللَّهُ لحمَهُ ودمَهُ على النارِ، وجعلَهُ مع السفرةِ الكرام البررةِ حتَّى إذا كان يومُ القيامةِ كانَ القرآنُ حجةً له ". قال رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: "القرآنُ غِنًى لا فقرَ بعده، ولا غِنًى دونَهُ ". وقالَ: "ثلاثةٌ لا يهولهم الفزعُ الأكبرُ، ولا ينالُهم الحسابُ، هم على كثيبٍ من مسكٍ حتَّى يُفرغَ من حسابِ الخلائقِ: رجل قرأ القرآنَ ابتغاءَ وجهِ اللَّهِ، وأمَّ به قومًا وهم به راضونَ ". وقالَ: "من قرأ القرآنَ فقد استدرجَ النبوةَ بين جنبيه غيرَ أنَّه لا يُوحى إليه ". "لا ينبغي لصاحبِ القرآنِ أن يجدَ مع من يجدُ، ولا يجهلَ مع من يجهَلُ وفي جوفِهِ كلامُ اللَّهِ ". قالَ - صلى الله عليه وسلم -: "من صلَّى صلاةً لم يقرأ فيها بأمِّ القرآنِ فهي خِداجٌ ".

وقالَ: "من لم يقرأ بأمِّ القرآنِ فلا صلاةَ له ". وقالَ: "من صلَّى ركعةً لم يقرأ بأمِّ القرآنِ فلم يصلِّ ". وقالَ: "ومن فاتَهُ قراءةُ أمِّ القرآنِ فقد فاتَهُ خيرٌ كثيرٌ". وكان النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يقرأُ بأمِّ القرآنِ وسورتينِ معها في الركعتينِ الأوليينِ من صلاةِ الظهرِ وصلاةِ العصرِ، وكان يقرأ في الركعتينِ الأخريينِ بأمِّ القرآنِ وكان يخفف الركعتينِ. فصلَّى ركعتينِ خفيفتين قبلَ صلاة الفجرِ حتَّى كانَ الصحابةُ يقولونَ: هلْ قرأ فيهما بأمِّ القرآنِ؟. وسمعتُ الحجاجَ يقولُ على المنبر: لا تقولوا: سورةَ البقرةِ، قولوا: السورةُ التي يُذكر فيها البقرةُ. ويقالُ: إن عبدَ اللَّهِ بن عمرَ مكثَ على سورةِ البقرةِ ثماني سنينَ يتعلمُها. ويقولُ أنسٌ - رضي الله عنه -: كان رجلٌ يكتبُ بين يدي رسولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: وكانَ الرجلُ إذا قرأ البقرةَ وآلَ عمرانَ يُعدُّ فينا عظيمًا. وكان رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يقرأُ في الصلاةِ دائمًا آيةَ: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا) . ويقولُ ابنُ عباسٍ: إنَّ رسولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كان ينامُ حتَّى منتصفِ الليلِ، فيستيقظُ،

ثمَّ يقرأُ الخمسَ أو العشرَ الآياتِ الأواخرِ، الخواتيم من سورةِ آلِ عمران. ويقولُ ابنُ عباسٍ أيضًا: قامَ رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - من الليلِ فخرجَ فنظرَ في السماءِ ثم تلا هذه الآيةَ التي في آلِ عمرانَ: (إِنَّ فِي خَلْقِ. . .) الآية. ويقول رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: "من قرأ البقرةَ وآلَ عمرانَ جاءَتا يومَ القيامةِ تقولانِ: ربَّنا لا سبيلَ عليهِ ". وقال - صلى الله عليه وسلم -: "تعلَّمُوا واقرؤُوا سورةَ البقرةِ وآلِ عمرانَ فإنَّما الزهراوانِ ". وسمعتُ الحجاجَ على المنبرِ يقولُ: قولُوا السورةُ التي يُذكرُ فيها آلُ عمرانَ. قال رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: "من قرأ سورةَ الكهفِ في يوم الجمعةِ، أضاءَ له من النورِ ما بينه وبين الجمعتينِ ". وقال: "من قرأ سورةَ الكهفِ ليلةَ الجمعةِ، أضاء له مِنَ النورِ فيما بينه وبين البيتِ العتيقِ ". وقالَ: "من قرأ الكهفَ لساعةٍ يريد يقوم من الليل قامها". وقال: "من قرأ عشر آياتٍ من الكهفِ لم يخفِ الدَّجال ".

وقالَ: "من حفظَ عشرَ آياتٍ من أولِ الكهفِ عُصِمَ من فتنةِ الدجالِ ". وقالَ: "من قرأَ ثلاثَ آياتٍ من أوَّلِ الكهفِ عُصِمَ من فتنة الدجالِ ". وقالَ: "من قرا أوَّلَ سورةِ الكهفِ وآخرَها، كانتْ له نورٌ من قدَمِهِ إلى رأسِهِ ". قال - صلى الله عليه وسلم -: "تجِيءُ الم السجدةُ يومَ القيامةِ لها جناحانِ تُظلُّ صاحبَها، تقولُ: لا سبيلَ عليك، لاسبيلَ عليكَ ". وقالَ: "في تنزيل (السجدة) وتباركَ (المُلك) فضلُ ستينَ درجةٍ على غيرِهما من سورِ القرآنِ ". وجاء عن رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "يس قلبُ القرآنِ لا يقرؤُها رجلٌ يريدُ اللهَ والدارَ الآخرةَ إلا غَفَرَ الله له، اقرؤوها على موتاكم ". وقالَ: "إن لكلِّ شيء قلبًا، وقلبُ القرآنِ يس، من قرأها كتبَ اللَّه له بقراءتها قراءةَ القرآنِ عشرَ مراتٍ ". وقالَ: "من قرأ يس في ليةٍا ابتغاءَ وجهِ اللَّهِ تعالى، غُفِرَ له ". وقالَ: "من دامَ على قراءةِ يس كلَّ ليلةٍ ثمَّ ماتَ، ماتَ شهيدًا ".

ويقولُ: سمعنا رجلاً يقرأ (حم) الثلاثينَ يعني سورةَ الأحقافِ. ونقولُ: قرأَنا (حم) لدخان. ونقول: قرأنا (حم) المؤمن. ويقولُ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "من قرأ آيةَ الكرسي وفاتحةَ حم المؤمنِ، لم يرَ شيئًا يكرهُهُ ". والقرائنُ التي يقرنُ بينهنَّ رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ثماني عشرةَ سورة من الفصلِ وسورتينِ مِنْ آلِ حم. يقالُ: إنما نزلَ أولُ ما نزلَ منه (أي من القرآنِ الكريمِ) سورة من المفصلِ فيها ذكرُ الجنةِ والنارِ. ويقولُ صحابي من أصحابِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: قرأتُ (سبح اسمَ ربِّك الأعلى) في سورٍ من المفصلِ. قال رجلٌ: قرأتُ المفصلَ البارحةَ كلَّه. وقال بعضهم: إنه لا يَرى السجودَ في المفصلِ. وسجدَ الرسولُ - صلى الله عليه وسلم - إحدى عشرةَ سجدةً ليس فيها من المفصلِ شيء. وكان الرسولُ - صلى الله عليه وسلم - لا يسجدُ في شيءٍ من المفصلِ منذُ تحوَّل إلى المدينةِ (هاجرَ إلى المدينة) فليس في المفصلِ سجدةٌ. كان النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يقرأُ في العشاءِ بسورٍ من أوساط المفصلِ نحوِ سورةِ المنافقينِ، وحزب المفصلِ من قافٍ، حتى يختم.

كان النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يقرأ المسبحاتِ كلَّ ليلةٍ قبلَ أن يرقدَ ويقولُ: "فيهنَّ آيةٌ خيرٌ منْ ألفِ آية". وأوصى النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - رجلاً إذا أتى مضجعَهَ أن يقرأ سورةَ الحشرِ، وقال: "إنْ مِتَّ متَّ شهيدًا". وقال الرسولُ - صلى الله عليه وسلم -: "من قرأ حين يصبحُ ثلاثَ آياتٍ، من آخرِ سورةِ الحشرِ وَكَّلَ اللَّهُ به سبعينَ ألفَ ملكٍ يصلُّون عليه حتَّى يُمسي وإن ماتَ في ذلك اليومِ ماتَ شهيدًا. ومن قالَها حين يُمسي كانَ بتلكَ المنزلةِ". وقالَ: "من قرأ خواتيمَ الحشرِ في ليلٍ أو نهارٍ فماتَ في يومِهِ أو ليلتِهِ، فقدْ أوجبَ اللهُ له الجنةَ". قال - صلى الله عليه وسلم -: "من قرأ: (إِذَا زُلْزِلَتِ) عدلتْ له بنصفِ القرآنِ ". وقالَ: " (إِذَا زُلْزِلَتِ) تعْدِلُ بنصفِ القرآنِ، و (وَالعَادِيَاتِ) تعدلُ بنصفِ القرآنِ ". ويقال: إنَّ رسولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قرأ يومَ الجمعةِ تباركَ وهم قائمٌ. وقيل: كان رسولُ اللَهِ - صلى الله عليه وسلم - في ليلةِ الجمعةِ يقرأ في الركعةِ الرابعةِ بفاتحةِ الكتابِ وتبارك المفصلِ.

قال - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ اللهَ لَيسمعُ قراءةَ (لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كفَرُوا) فيقول: أبشر عبدي. لأمكنَنَّ لكَ في الجنةِ حتى ترضَى". قالَ - صلى الله عليه وسلم -: " (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ) ربع القرآن ". وقال: " (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ) تعدل ربع القرآن ". وقال: "اقرأ (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ) ثم نمْ على خاتمتِها، فإنها براءة من الشركِ ". وقال: "ألا أدلكم على كلمة تنجيكُم من الإشراكِ باللَّهِ؛ تقرءون. (قلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ) عند منامِكُم ". وقال - صلى الله عليه وسلم - لعقبةَ بن عامرٍ: "ألا اعلمُكَ سورة، ما أُنزل في التوراةِ ولا في الزبورِ ولا في الإنجيلِ ولا في الفرقانِ مثلُها؟ " قلتُ: بلى، قالَ: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) . و (قلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ) ، و (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ) ". وقال لعقبةَ بن عامر أيضًا: "ألا أخبرُكَ بأفضلَ ما تعوَّذَ به المتعودونَ؟ " قالَ: بلى، قالَ: (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ) ، و (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ) ". وقالَ: "اقرأ (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) ، والمعوذتين حين تمسي وحين تصبحُ ثلاثَ مراتٍ

تكفيكَ من كلِّ شيءٍ". وقال: "من قرأ بعدَ صلاةِ الجمعةِ: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) . و (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ) ، و (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِ النَّاسِ) سبعَ مراتٍ أعاذَهُ اللَهُ من السوءِ إلى الجمعةِ الأخرى". كان أسيدُ بنُ حُضير يقرأ من الليلِ سورةَ البقرةِ، وفرسُهُ مربوطٌ عندَهُ إذْ جالتِ الفرسُ فسكتَ، فسكتتْ فقرأ فجالتِ الفرسُ، فسكتَ، وسكتت الفرسُ، ثم قرأ فجالتِ الفرسُ فانصرفَ، وكان ابنُه يحيى قريبًا منها فأشفق أنْ تصيبَه، فلمَّا اجتره رفعَ رأسهَ إلى السماءِ حتَّى ما يراها، فلمَّا أصبح حدث النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -: فقال: "اقرأ يا ابن حُضيرٍ، أقرأ يا ابن حُضيرٍ" قال: فأشفقتُ يا رسول اللَّه أن تطأ يحيى وكان منها قريبًا، فرفعتُ رأسي فانصرفتُ إليه، فرفعتُ رأسي إلى السماءِ، فإذا مثل الظلةِ، فيها أمثالُ المصابيح، فخرجتُ حتى لا أرَاها، قال: وتدري ما ذاك؟ قال: لا، قال: "تلك الملائكةُ دَنَتْ لصوتِك ولو قرأتَ لأصبحتْ ينظرُ الناسُ إليها لا تتوارَى منهم ". دخل عبدُ العزيزِ بنُ رفيع وشدادُ بنُ معقلٍ على ابنِ عباسٍ - رضي الله عنهما - فقال له شدادُ بنُ معقل: أتَرَكَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - منْ شيءٍ؟ قال: ما تركَ إلا ما بين الدفتين. ودخل عبدُ العزيز بنُ رفيع وشدادُ بن معقلٍ على محمدِ بنِ الحنفيةِ فسألاه فقال: ما ترك إلا ما بين الدفتين. قال رسولُ اللَّه - صلى الله عليه وسلم -: "مثلُ الذي يقرأُ القرآنَ كالأترجةِ طَعْمُها طيبٌ وريحُها طيب والذي لا يقرأُ القرآنَ كالتمرةِ طعمُها طيبٌ ولا ريحَ لها. ومثلُ الفاجرِ الذي يقرأُ

القرآنَ كمثلِ الرَّيحانةِ ريحُهَا طيبٌ وطعْمُها مرٌّ، ومثلُ الفاجرِ الذي لا يقرأ القرآنَ كمثلِ الحنظلةِ طعْمُها مُرٌّ ولا ريحَ لها". ويقولُ ابنُ عمرَ - رضي الله عنهما - عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنه قالَ: "إنما أجلُكُم في أجلِ من خلا من الأمم كما بين صلاةِ العصرِ ومغربِ الشمسِ، ومثلُكُم ومثلُ اليهودِ والنصارى، كمثلِ رجل استعملَ عمالاً فقال: من يعملُ لي إلى نصفِ النهارِ على قيراط قيراطٍ؟ فعملتِ اليهودُ فقال: من يعمل لي من نصفِ النهارِ إلى العصرِ؟ فعملتِ النصارى، ثم أنتم تعملونَ من العصرِ إلى المغربِ بقيراطينِ قيراطينِ " قالوا: نحنُ أكثرُ عملاً وأقلُّ عطاءً، قال: "هل ظلمتُكم من حقكم؟ قالوا: لا، قال: فذاكَ فضْلِي أوتيه من شئتُ ". وسألَ طلحةُ عبدَ اللَّهِ بنَ أبي أوفى: أأوصى النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -؟ فقال: لا، فقلتُ: كيف كتبَ على الناسِ الوصيةَ، أُمِروا بها ولم يوصِ؟ قال: أوصَى بكتابِ اللَّه. قال تعالى: (أَوَ لَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَئ عَلَيْهِمْ. . .) . وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: "لم يأذن اللَّهُ لشيء ما أذِنَ لنبيٍّ أن يتغنَّى بالقرآنِ " وقالَ صاحبٌ له: يريدُ يجهرُ به. وقال أبو هريرة: إن رسولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما أذِنَ اللَّهُ لشيءٍ ما أذِنَ لنبيٍّ أن يتغنى بالقرآنِ ".

وقال سفيانُ: تفسيرُه يسْتغنِي به. وسمعَ عبدُ اللَّهِ بنُ عمرَ - رضي الله عنهما - رسولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: "لا حسدَ إلا على اثنتينِ: رجلٌ آتاهُ اللَهُ الكتابَ وقامَ به آناءَ الليلِ. ورجلٌ أعطاه اللَّهُ مالاً فهو يتصدَّقُ به آناءَ الليلِ والنَّهارِ". وقال رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: "لا حسدَ إلا في اثنتينِ: رجلٌ علَّمه اللَهُ القرآنَ فهو يتلوهُ آناءَ الليلِ وآناءَ النهارِ، فسمعَهُ جارٌ له، فقال: ليتني أوتيتُ مثلَ ما أوتي فلانٌ، فعملتُ مثلَ ما يعملُ، ورجلٌ آتاهُ اللَّهُ مالاً فهو يهلكُه في الحقِّ، فقال رجلٌ: ليتني أوتيتُ مثلَ ما أوتي فلانٌ فعملتُ مثلَ ما يعملُ ". قال رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: "خيرُكُم من تعلَّم القرآن وعلَّمَهُ " وقيلَ: إنَّ أبا عبدِ الرحمنِ أقرأ في إمرةِ عثمانَ بن عفَّانَ حتَّى كان الحجاجُ، قال: وذاك الذي أقعدَني مقْعدي هذا. وقال رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: "أفضلكُم من تعلَّم القرآنَ وعلَّمَهُ ". وأتتِ امرأةٌ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فقالتْ: إنَّها قدْ وهبتْ نفسَهَا للَّه ولرسولِهِ - صلى الله عليه وسلم - فقال: "ما لي في النساء من حاجةٍ"، فقال رجلٌ: زوِّجنيها. قال: "أعطِهَا ثوبًا" قال: لا أجدُ، قال: "أعْطِها ولو خاتمًا من حديدٍ"، فاعتلَّ له فقال: "ما معك من القرآنِ؟ " قال: كذا وكذا، قال: "فقد زوجتُكَها بما معك من القرآنِ ".

قال تعالى: (فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرانَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيم) . وقال: (إِنَّ هَذَا الْقُرانَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ) . وقال: (وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (15) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (16) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (17) كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (18) . وقال: (نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ (45) . وقال: (ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (1) بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ (2) أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ (3) قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ (4) . وقال: (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا) . (وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِّنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرآنَ) . (وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (31) . (ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (1) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ (2) . واعلمْ أنَ اللَّه تعالى صرَفَ في هذا القرآنِ ليذَّكَّروا، ولكن ما زادَهُم إلا نفُورًا وجُحودًا ففي قلوبِهِم أقفالٌ مغلقة، وإذا قرأ محمد - صلى الله عليه وسلم - القرآن جعلَ اللَّهُ تعالى بينه وبين الذين لا يؤمنونَ بالآخرةِ حجابًا مستورًا، ولتقم الصلاةَ لدلوك الشمس إلى غسقِ الليل وقرآنَ الفجرِ، ما أروعَهُ! إن قرآنَ الفجرِ كان مشهودًا. وأنزلَ اللَّهُ من القرآنِ ما فيه شفاءٌ ورحمة للمؤمنينَ، ولئن اجتمعتِ الإنسُ

والجنُّ على أنْ يأتوا بمثلِ هذا القرآنِ لا يأتونَ بمثلِهِ ولعجزُوا عجْراً أبديا. وصرَّفه اللَّهُ للناسِ، صرَّف القرآنَ من كُلّ مثل. ولكنْ ما أنزلَهُ اللَّه ليشقى أحدٌ من الناسِ، ويطلبُ ربُّ العزة من محمدِ - صلى الله عليه وسلم - ألا يعْجلَ به من قبلِ أن يُقضى إليه وحيُه بإذنِه تعالى - جل شأنُه -. ويقولُ الرسولُ: (يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقرْآنَ مَهْجُورًا) . ويطمئنه اللَهُ فعلى محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - ألا يخافَ ولا يحزنَ فهم يقولونَ: (لولا نزل عليه القرآنُ جملةً واحدةً) ؟ وهم لا يعرفونَ أن تلك الآياتِ حكيمةٌ من لدنْ حكيم عليم، وكلامُهُم غثاءٌ أحْوى. القرآنُ الذي يقص على بني إسرائيل أكثرَ الذي هم في يختلفونَ دائمًا، ولقد أُمرتَ يا محمدُ أن تكونَ من المسلمينَ تاليًا للقرآنِ والذي فرضَهُ عليك لرادُّك إلى معادٍ. في هذا القرآنِ ضربَ الله للناسِ كلَّ الأمثالِ لعلَّهم يتفكرونَ ويعقلونَ. والذين كفرَوا قالُوا: إنَّهم لن يؤمنوا بهذا القرآنَ ولا بالذي بين يديه، بئس قولُهم، فالقرآنُ حكيمٌ، ومحمدُ ابنُ عبدِ اللَّه لا ريبَ من المرسلينَ، ما علَّمه اللَّهُ الشعْرَ وما ينبغي له، إن هوَ إلا ذكرٌ وقرآنٌ مبين. القرآنُ ذو الذكر ولكنَّ الذين كفروا في عزةٍ مزعومةٍ وشقاقٍ. القرآنُ يسره اللَّه للذكرِ فهلْ من مدَّكرٍ، ولنذكر ثمودَ وقومَ لوطٍ وآل فرعونَ إذ جاءهم النذرُ. فالرحمنُ علَّم القرآنَ، فهو قرآنٌ كريمٌ في كتابٍ مكنونٍ لو أنزله اللَّهُ على جبلٍ لرأيناه خاشعًا متصدِّعًا، أقبِلْ عليه يا محمدُ ورتِّلْه ترتيلاً. واقرءوا في السرِ والجهرِ ما تيسرَ منه. وهو قرآن مجيدٌ، في لوحِ محفوظٍ، قد نزله اللَّه تنزيلاً، ولكنْ ما عسَاهم لا يسجدونَ إذا قُرِئَ عليهم القرآنُ؛ إنه

قرآن عربيٌ مبينٌ لعلنا نعقلُ، ولو أنَّ قرآَنا سيرتْ به الجبالُ أو قُطِّعَتْ به الأرضُ أو كلِّم به الموتَى بل للَّهِ سبحانه الأمرُ جميعًا أفلم يعرفِ الذين آمنُوا أن لو يشاءُ اللَّهُ لهدى الناسَ جميعًا؛ ولا يزالُ الذين كفرُوا وجحذدوا لصيبُهم بما صنعُوا قارعةٌ، أو تحلُّ قريبًا من دارهم حتَّى يأتي وعد اللَّهِ المحتومُ، واللَّهُ لا يخلفُ الميعادَ. ولقد استهزِئَ برسلٍ من قبل محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - فأملى اللَّهُ للذين كفروا ثم أخذتْهم الصيحةُ، فانظرْ كيفَ كان عقاب اللَّه لهم جزاء فعْلِهِم ونُكرانِهِم. لقد أنزلَهُ اللَّهُ على رسولِهِ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - على مُكْثٍ فرَّقَهُ، ليقْرأه محمدٌ على الناسِ على مُكْثٍ أيضًا في هدوءٍ ودرس وتؤده كي تعم الفائدةُ. وكذلك أنزلَهُ اللَهُ قرآنًا عربيًا لقومٍ يعلمون، ولو جعلَهُ اللَّهُ قرآنًا أعجميًا. لقالُوا: لولا فُصّلتْ آياتُه، أعجميٌّ وعربي، قل لهم يا محمد: هو للذين آمنوا هُدًى وشفاءٌ والذين لا يؤمنونَ في آذانِهِم وقرٌ وهو عليهم عمًى أولئك يُنادَوْن من مكانٍ بعيدٍ ومَنْ عملَ صالحًا فلنفسِهِ، ومن أساء فعليها، وما ربُّك بظلام للعبيدِ. لقد أوحينا إليك يا محمدُ قرآنَا عربيًا لتنذرَ أمَّ القرى، جعلْناه قرآنًا عربيا لعلنا نعقلُ. نعقلُ هذا العجبَ الذي سمعنَاه، وعلينا جمعهُ وقرآنهُ وإذا قرأناه فلنتَّبِعْهُ ونعملْ في دنيانا كي ننالَ الجزاءَ الأوفى في أُخرانا. قال رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: "من قرأ حرفًا من كتابِ اللَّه فله حسنةٌ: والحسنةُ بعشرِ أمثالِها، لا أقول الم حرفٌ ولكن الف: حرف، ولام: حرف، وميم: حرفٌ".

وعن عقبةَ بنِ عامرٍ - رضي الله عنه -، قال: خرج رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ونحن في الصُّفَةِ فقال: "أيكم يحب أن يغدوَ كل يوم إلى بُطحانَ، أو إلى العقيقِ فيأتيَ منه بناقتين كوماوينِ في غيرِ إثمٍ ولا قطع رَحِم؟ ". فقلنا: يا رسولَ اللَّه، نُحبّ ذلك، قال: "أفلا يغدو أحدُكُم إلى المسجدِ فيعلمَ أو يقرأ آيتينِ من كتابِ اللَّه عزَّ وجلَّ خيرٌ له من ناقتين، وثلاث خيرٌ من ثلاث وأربعٌ خيرٌ له من أربع ومن أعدادهنِّ مِنَ الإبلِ ". عن أبي أُمامة - رضي الله عنه - قال: سمعتُ رسولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: "اقرءوا القرآنَ فإنه يأتي يومَ القيامةِ شفيعًا لأصحابِهِ ". قال رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: "يُؤتَى يومَ القيامةِ بالقرآنِ وأهلِه الذينَ كانُوا يعملونَ به في الدّنيا تقدَّمُه سورةُ البقرةِ وآلُ عمرانَ، تحاجَّانِ عن صاحبِهِما". قال رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: "خيرُكُم من تعلَّم القرآنَ وعلَّمَهُ ". قال رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: "الذي يقرأ القرآنَ وهو ماهر به مع السفرةِ الكرام البررةِ. والذي يقرأ القرآنَ وبتتعتعُ فيه وهوَ عليه شاق له أجرانِ ". وقال - صلى الله عليه وسلم -: "إن اللَّه يرفعُ بهذا الكتابِ أقوامًا ويضعُ به آخرينَ ". وقال - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ الذي ليسَ في جوفِهِ شيءٌ من القرآن كالبيت الخرِبِ ".

وقال عليه الصلاةُ والسلامُ: "يقالُ لصاحبِ القرآنِ: اقرأ وارتقِ ورتَل كما كنتَ ترتِّلُ في الدنيا، فإن منزلتَكَ عندَ آخرِ آية تقرؤها". قال النبيُّ عليه الصلاةُ والسلامُ: "تعاهدُوا هذا القرآنَ فوالذي نفسُ محمد بيده لهو أشدُّ تفلُتا من الإبلِ في عُقُلِها". وقالَ: "إنما مثلُ صاحبِ القرآنِ كمثلِ الإبلِ المعقَّلةِ، إن عاهدَ عليها، أمْسَكَها، وإنْ أطلقَها، ذهبتْ ". وقالَ: "ما أذَنَ اللَّهُ لشيء ما أذِنَ لنبي حسنِ الصوتِ يتغَنَّى بالقرآنِ يجهرُ به ". قال - صلى الله عليه وسلم -: "لقد أوتيتَ مِزمارًا منْ مزاميرِ آلِ داودَ". ويقول البراءُ بن عازبٍ - رضي الله عنه -: سمعتُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قرأ في العشاء بالتين والزيتون، فما سمعت أحدًا أحسن صوتًا منه. وقال رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: "من لم يتغن بالقرآنِ فليس منَّا". قال رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لابنِ مسعودٍ: "اقرأ عليَّ القرآنَ " قال ابنُ مسعودٍ: يا رسولَ اللَّه، أقرأ عليك وعليكَ أُنزِلَ؟ قال: "إني أحبُّ أنْ أسمعَهُ من غيرِي ".

فقرأ ابنُ مسعودٍ عليه سورةَ النساءِ حتَى جاء إلى هذه الآيةِ: (فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا) . قال الرسولُ: "حسبُكَ الآنَ " فالتفت إليه ابنُ مسعودٍ، فإذا عيناهُ تذرِفَانِ. ويقولُ رسولُ اللَّه - صلى الله عليه وسلم - لأبي سعيدٍ رافع بنِ المعلَّى - رضي الله عنه -: "إن أعظمَ سورةً في القرآنِ هىِ السبعُ المثاني والقرآنُ العظيمُ الذي أوتيتُه ". ويقولُ: "قل هو الله أحد، تعدلُ ثلثُ القرآنِ ". ويقولُ: "قل هو الله أحد، الله الصمد: ثلثُ القرآن ". ويقولُ: "والذي نفسي بيدِهِ، إنها لتعدلُ ثلثَ القرآن ". ويقولُ: "إنها تعدلُ ثلثَ القرآنِ ". ويقولُ: "إنَّ حبَّها أدخلك الجنة". ويقولُ رسولُ اللَّه لعقبة بن عامرٍ - رضي الله عنه -: "ألم ترَ آياتٍ أنزلتْ هذه الليلةَ لم يُرَ مثلُهن قط؟ قلْ أعوذُ برب الفلق، وقل أعوذ برب الناس ". وكان رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يتعوَّذُ من الجانِّ، وعينِ الإنسانِ، حتَّى نزلتِ المعوذتانِ، فلما نزلَتَا أخذ بهما وتركَ ما سواهُمَا.

قال رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: "من القرآنِ سورةٌ ثلاثونَ آيةً شفعتْ لرجل حتَّى غُفرِ له. وهي (تبارك الذي بيده الملك) ". قال رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: "لا تجعلُوا بيوتَكم مقابِرَ، إنَّ الشيطانَ ينفرُ من البيتِ الذي تُقرأ فيه سورةُ البقرةِ". قال رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لأُبي بنِ كعبٍ - رضي الله عنه -: "يا أبا المنذرِ أتدْرى أيَّ آية منْ كتابِ اللَّه معكَ أعظمُ؟ " قلتُ: (اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ) ، فضربَ في صدْرى وقال: "ليهنك العِلمُ أبا المنذرِ". وفي الأثر أن الرسولَ - صلى الله عليه وسلم - كان يعلِّم أبا هريرة - رضي الله عنه - أن يقرأ آيةَ الكرسي من أوَّلها إلى آخرِها إذا أوى إلى فراشِهِ، وبها لن يقرَبَهُ شيطانٌ حتى يصبح ويكون اللَّه حافظًا له. ويقولُ الرسولُ - صلى الله عليه وسلم -: "من حفظَ عشرَآياتٍ من أولِ سورةِ الكهفِ، عُصِمَ من الدَّجالِ ". وفي روايةٍ: "منْ آخرِ سورةِ الكهفِ ". ويقولُ ابنُ عباسٍ - رضي الله عنه -: بينما جبريلُ - عليه السلام - قاعدٌ عند النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - سمعَ نقيضًا من فوقِهِ، فرفع رأسَهُ فقال: هذا باب من السماءِ فُتح اليومَ، ولم يُفتح قط إلا اليومُ، فنزلَ منه ملكٌ، فقال: هذا ملكٌ نزل إلى الأرضِ

لم ينزلْ قط إلا اليومَ، فسلَّمْ، وقال: أبشرْ بنورينِ أُوتيتَهما، لم يُؤْتَهما نبيٌّ قبلك: فاتحةُ الكتابِ، وخواتيمُ سورةِ البقرة، لن تقرأ بحرفِ منها إلا أُعطيته. قال - صلى الله عليه وسلم -: "وما اجتمعَ قومٌ في بيتٍ من بيوتِ اللَّه يتلونَ كتابَ اللَّه، ويتدارسُونَه بينهم إلا نزلتْ عليهم السكينةُ، وغشيتْهُمُ الرحمةُ، وحفتْهُمُ الملائكةُ، وذكرَهُمُ اللَّه فيمن عندَه". كان جبريلُ يعرضُ القرآنَ على النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، عن فاطمة - عليها السلام -: فقد أسرَّ إليَّ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "أن جبريل يعارِضُني بالقرآنِ كلَّ سنةٍ، وإنَّه عارضني العامَ مرتينِ ولا أراه إلا حضرَ أجلي ". وكان النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أجودَ الناسِ بالخيرِ، وأجودَ ما يكونُ في شهرِ رمضانَ، لأنَّ جبريلَ كان يلقاهُ كلَّ ليلةٍ في شهرِ رمضانَ حتى ينسلخَ، يعرضُ عليه رسولُ اللَّه - صلى الله عليه وسلم - القرآنَ فإذا لقيهُ جبريلُ كان أجودَ بالخير من الرِّيح المرسلةِ. وكان القرآنُ يُعرضُ على النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - مرتين في العامِ الذي قُبضَ وكان يعتكفُ كلَّ عامٍ عشرًا فاعتكفَ عشرينَ في العامِ الذي قُبِضَ. يقولُ الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "خذوا القرآنَ من أربعةٍ: من عبدِ اللَّهِ بنِ مسعودٍ، وسالمٍ. ومعاذٍ، وأُبيّ بنِ كعبٍ ".

وخطب عبدُ اللَّه بنُ مسعودٍ بعضَ الصحابةِ قائلاً: واللهِ لقد أخذتُ من فيِّ رسولِ اللَّه عليه الصلاةُ والسلامُ بضعًا وسبعينَ سورةً، واللَّه لقد علمَ أصحابُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنِّي من أعلمِهِم بكتابِ اللَّهِ. وما أنا بخيرِهِم. ويقولُ شقيقُ بنُ سلمةَ الذي كان من حضورِ هذه الخطبةِ: فجلستُ في الحلقِ، أسمعُ ما يقولونَ: فما سمعتُ رادًّا يقولُ غيرَ ذلك. ويحكي إبراهيمُ عن علقمةَ أنهم كانوا بحمْص، فقرأ ابنُ مسعودٍ سورةَ يوسفَ، فقالَ رجلٌ: ما هكذا أنزلتْ. قال: قرأتُ على رسولِ اللَّه - صلى الله عليه وسلم - فقالَ: "أحسنتَ " ووجدَ منه ريحَ الخمرِ، فقال: أتجمعُ أن تكذبَ بكتابِ اللَّهِ وتشربَ الخمرَ؟ فضربَهُ الحدَّ. يقولُ عبدُ اللَّه بنُ مسعودٍ - رضي الله عنه -: واللَّهِ الذي لا إله غيرُه ما أُنزلتْ سورةٌ منْ كتابِ اللَّه إلا أنا أعلمُ أينَ أُنزلتْ؛ ولا نزلتْ آيةٌ من كتابِ اللَّه إلا أنا أعلم فيم أنزلت؛ ولو أعلمُ أحدًا أعلمُ مِنِّي بكتابِ اللَّه تبلُغهُ الإبلُ لركبتُ إليه. قال أبو سعيدٍ بن المعلَّى: إنَّه كانَ يصلِّي فدعاهُ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - فلم يجبْهُ، قالَ: يا رسولَ اللَّه إنِّي كنتُ أصلِّي، قال: "ألم يَقُلِ اللَّهُ: (اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ ولِلرَّسولِ إِذَا دَعَاكُمْ) ؟ " ثمَّ قال: "ألا أعلمُكَ أعظمَ سورة في القرآنِ، قبلَ أنْ تخرجَ من المسجدِ" فأخذَ الرسولُ بيدِ ابنِ المعلَّى، فلمَّا أرادُوا الخروجَ قال: يا رسولَ اللَّه، إنَّك قلتَ: لأعلمنَّك أعظمَ سورة من القرآنِ،

قال: " (الحمدُ لله ربِّ العالمينَ) هي السبعُ المثاني والقرآنُ العظيمُ الذي أوتيتُه ". قال أبو سعيدٍ الخدري: كنا في مسيرٍ لنا فنزلنا فجاءتْ جاريةٌ فقالتْ: إنَّ سيِّد الحيِّ سليمٌ، وإنَّ نفرنا غيبٌ فهلْ منكم راق؟ فقامَ معها رجلٌ ما كنَّا نأبِنُهُ برقيةٍ فرقاه، فبرَأ، فأمر له بثلاثينَ شاة وسقانا لبنًا، فلمَّا رجع قلْنا له: أكنتَ تحسنُ رقيةً؟ أو كنتَ ترقي؟ قال: لا ما رقيتُ إلا بأمِّ الكتابِ، قلْنا: لا تُحدِثُوا شيئًا حتى نأتيَ أو نسألَ النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلما قدمنا المدينةَ ذكرناهُ للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فقال: "وما كان يُدْرِيه أنَّها رقية؟ اقسمُوا واضربُوا لي بسهمٍ ". قال رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: "من قرأ بالآيتينِ من آخرِ سورةِ البقرةِ في ليلة كفتاهُ ". وقال أبو هريرة: وكلني رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بحفظِ زكاةِ رمضانِ، فأتاني آتٍ، فجعلَ يحثو من الطعامِ، فأخذتُهُ فقلتُ: لأرفعنَّك إلى رسولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فقصَّ الحديثَ، فقال: "إذا أويتَ إلى فراشِكَ فاقرأ آيةَ الكرسي، لن يزالَ معك من اللَّه حافظٌ ولا يقربُك شيطانٌ حتى تصبحَ ". وقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - َ: "صدقك وهو كذوبٌ، ذاك شيطانٌ ". كان رجلٌ يقرأ سورةَ الكهفِ، وإلى جانبِهِ حصانٌ مربوطٌ بشطنينِ. فتغشتْه سحابةٌ جعلتْ تدنُو وتدنُو وجعلَ فرسُهُ ينفرُ فلما أصبحَ أتى النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -

فذكر ذلك فقال: "تلك السكينة تنزَّلتْ بالقرآنِ،. كان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يسيرُ وعمرُ بنُ الخطابِ يسيرُ معه ليلاً، فسأله عمرُ عن شيء فلم يجبْه رسولُ اللَّه - صلى الله عليه وسلم -، ثم سالُه فلم يجبْه، ثم سأله فلم يجبْه، قال عمرُ لنفسه: ثكلتْك أمُّكَ، نزرتَ رسولَ اللَّه - صلى الله عليه وسلم - ثلاثَ مراتٍ كلَّ ذلك لا يجيبُك. قال عمرُ: فحركتُ بَعيري حتى كنتُ أمامَ الناسِ، وخشيتُ أن ينزلَ فِيَّ قرآنٌ، فما نشبتُ أن سمعتُ صارخًا يصرخُ، قال: فقلتُ: لقد خشيتُ أن يكونَ نزلَ فِيَّ قرآنٌ، قال: فجئتُ رسولَ اللَّه - صلى الله عليه وسلم -، فسلَّمتُ عليه، فقال: "لقد أنزلتْ علي الليلةَ سورة لهِيَ أحبُّ إليَّ مما طلعتْ عليه الشمسُ. ثم قرأ: (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا) ". وسمعَ رجل رجلاً يقرأ: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) يرددهُا، فلما أصبحَ جاء إلى رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فذكرَ ذلك له وكانَّ الرجلَ يتقالُّها، فقالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "والذي نفسي بيده إنها لتعدلُ ثلثَ القرآنِ". وقامَ رجل في زمنِ النبيّ - صلى الله عليه وسلم - يقرأ من السَّحرِ: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) لا يزيدُ عليها فلمَّا أصبحَ أتى رجل النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -. . . نحوه. وقال النبيُّ عليه الصلاةُ والسلامُ لأصحابِهِ: "أيعجزُ أحدُكم أن يقرأ ثلثَ القرآنِ في ليلة؟ " فشقَّ ذلك عليهم، وقالُوا: أينا يطيقُ ذلك يا رسولَ اللَّه: فقال: "الله الواحدُ الصمد ثلثُ القرآنِ ".

تقول عائشة - رضي الله عنها -: إنَّ رسولَ اللَّه - صلى الله عليه وسلم - ان إذا اشتكَى يقرأُ على نفسِهِ بالمعوذاتِ، وينفثُ، فلمَّا اشتدَّ وجعُه كنتُ اقرأُ عليه وأمسحُ بيدِهِ رجاء برَكَتِها. وعنها أيضًا: كان رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إذا أوَى إلى فراشِهِ كلَّ ليلة، جمعَ كفَّيه ثمَّ نفثَ فيهما فقرأ فيهما: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) . و (قُلْ أَغوذُ بَّرًبّ الْفَلَقِ) ، و (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ) ثمَّ يمسحُ بهما ما استطاعَ من جسدهِ يبدأَ بهما على رأسِهِ ووجهِه وما أقبلَ من جسدِهِ، يفعلُ ذلكَ ثلاثَ مراتٍ. * * *

سورة الفاتحة

سُورَةُ الفَاتِحَةِ (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (1) الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5) اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7) [قال البخاري] : حَدَّثَنَا عبْدُ الله بن يُوسُف: ثنا مالكٌ، عنْ أبي الزِّنادِ. عنِ الأعرج، عنْ أبي هريرةَ، أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "إذا قالَ أحدكمْ: آمينَ وقالتِ الملائكةُ في السماءِ: آمينَ، فوافقتْ إحْداهمَا الأخْرَى غُفرَ لهُ ما تقدَّمَ منْ ذنبِهِ ". وخرَّجَ مسلمٌ من روايةِ أبي يونسَ، عن أبي هريرةَ، أن رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا قالَ أحدُكم في الصلاة: آمينَ، والملائكةُ في السماءِ: آمينَ، فوافقَ إحداهمَا الأخرى غُفرَ له ما تقدَّمَ منْ ذنبِهِ ". ومن روايةِ سهيلً، عن أبيه، عن أبي هريرةَ، أن رسولَ اللَهِ - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا قالَ القارئُ: (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ) ، فقالَ منْ خلفَهُ: آمينَ. فوافقَ قولُهُ قولَ أهلِ السماءِ، غُفرَ لهُ ما تقدَّمَ منْ ذنبِهِ ".

وروى إسحاقُ بنُ راهويه: حدثنَا جريرٌ: ثنا ليثٌ، عن كعب، عن أبي هريرةَ، قالَ: قالَ رسولُ اللَهِ - صلى الله عليه وسلم -: "إذا قالَ الإمامُ: (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ) فقالَ: آمينَ، فوافقَ آمينُ أهلِ الأرضِ أمينَ أهلِ السماءِ، غَفَرَ اللَهُ للعبدِ ما تقدَّمَ منْ ذنبِهِ. ومثلُ من لا يقولُ: آمينَ كمثلِ رجل غزا مع قومٍ فاقترَعُوا، فخرجتْ سهامُهُم ولم يخرجْ سهمُه، فقال: لِمَ لَمْ يخرجْ سَهْمِي؛ فقيل: إنكَ لم تقلْ آمينَ ".. قال أبو هريرةَ: وكانَ الإمامُ إذا قالَ؛ (وَلا الضَّالِّينَ) جهرَ بـ آمينَ. كعبٌ هذا، قالَ أحمدُ: لا أدْري منْ هوَ. وقالَ أبو حاتم: مجهولٌ لا يعرَفُ. وقد ذكرْنا - فيما تقدَّمَ - أن الحديثَ على ظاهرهِ، وأن الملائكةَ في السماءِ تؤمِّنُ على قراءةِ المصلِّينَ في الأرضِ للفاتحةِ. وفي "صحيح مسلم " من رواية العلاءِ، عن أبيه، عن أبي هريرةَ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قالَ: "قالَ اللَهُ عزَّ وجل قسمتُ الصلاةَ بيني وبينَ عبدِي نِصفَيْنِ، ولعبدي ما سألَ، فإذا قالَ العبدُ: (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) قالَ اللَهُ: حمدني عبْدِي، فإذا قالَ: (الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) قالَ اللَّهُ: أثْنَى علي عبدي، فإذا قالَ: (مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) قال: مجَّدني عبدِي - وقالَ مرة: فوَّضَ إليَّ عبدِي فإذا قالَ: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) قالَ: هذا بينِي وبينَ عبدِي، ولعبدِي ما سألَ: فإذَا قالَ: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ) قالَ: هذا لعبدِي ولعبدِي ما سألَ ". فهذا الحديثُ يدل على أنَّ اللَّهَ يَسْتَمِعُ لقراءةِ المصلِّي حيثُ كان مناجيًا له،

ويردُّ عليه جوابَ ما يناجيه به كلمةً كلمةً، فأولُ الفاتحةِ حمدٌ، ثم ثناء، وهو تثنيةُ الحمدِ وتكريرُهُ، ثم تمجيدٌ، والثناءُ على اللَهِ بأوصافِ المجدِ. والكبرياءِ والعظمةِ، ثم ينتقلُ العبدُ منَ الحمدِ والثناءِ والتمجيدِ إلى خطابِ الحضورِ. كأنه صلُحَ حينئذٍ للتقريبِ منَ الحضرةِ فخاطبَ خطابَ الحاضرينَ، فقال: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) . وهذه الكلمةُ قدْ قيلَ: إنَّهَا تجمعُ سر الكتبِ المنزلةِ منَ السماءِ كلِّها" لأنَّ الخلقَ إنما خُلِقُوا ليؤْمَروا بالعبادةِ، كما قالَ: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِن والإِنسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ) ، وإنما أُرسلتِ الرسلُ وأُنزلتِ الكتبُ لذلكَ، فالعبادةُ حقُّ اللَّهِ على عبادِهِ، ولا قدرةَ للعبادِ عليها بدون إعانة اللَّهِ لهم، فلذلك كانتْ هذه الكلمةُ بينَ اللَّهِ وبين عبدِهِ، لأنَّ العبادةَ حقُّ اللَّهِ على عبدِه. والإعانةُ من اللَّهِ فضل من اللَّه على عبْدِهِ. وبعد ذلك الدعاءُ بهدايةِ الصراط المستقيمِ؛ صراطِ المُنْعَم عليهم، وهم الأنبياءُ وأتباعُهم منَ الصديقين والشهداء والصالحين، كما ذكرَ ذلكَ في سورة النساء. فمنِ استقامَ على هذا الصراطِ حصلَ له سعادةُ الدنيا والآخرةِ، واستقامَ سيْرُه على الصراطِ يومَ القيامةِ، ومن خرجَ عنه فهو إما مغضوب عليه، وهو من يعرفُ طريقَ الهُدَى ولا يتبعُه كاليهود، أو ضالّ عن طريقِ الهُدَى كالنصارى ونحوِهم منَ المشركين. فإذا ختم القارئُ في الصلاة قراءةَ الفاتحةِ، أجابَ اللَّهُ دعاءَه فقال: "هذا لعبدي ولعبدي ما سألَ "، وحينئذٍ تؤمِّنُ الملائكةُ على دعاءِ المصلِّي، فيشرعُ

للمصلِّين موافقتُهم في التأمينِ معهم، فالتأمينُ مما يستجابُ به الدعاء. وفي "صحيح مسلمٍ " عن أبي موسى الأشعريِّ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "إذا قالَ الإمامُ: (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ) فقُولُوا: آمينَ، يُجِبكُم اللَّهُ ". ولما كانَ المأمومُ مأمورًا بالإنصاتِ لقراءةِ الإمامِ، مأمورًا بالتأمينِ على دعائِهِ عندَ فراغ الفاتحةِ، لم يكن عليه قراءةٌ؛ لأنَّه قد أنصتَ للقراءةِ، وآمَّنَ على الدعاءِ فكأنَّهُ دعا؛ كما قالَ كثيرٌ منَ السلَفِ في قولِ اللَّهِ تعالَى لموسى وهارونَ: (قَدْ أُجِيبَت دعوَتُكُمَا) . قالُوا: كانَ موسى يدعُو، وهارونُ يُؤمِّنُ، فسمَّاهُما دَاعِيَيْنِ. * * * وقولُه - صلى الله عليه وسلم -: "إذا سألتَ فاسألِ اللَهَ، وإذا استعنتَ، فاستعنْ باللَّهِ "، هذا منْتَزعٌ من قولِهِ تعالَى: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) ، فإنَّ السؤالَ للهِ هو دعاؤه والرغبةُ إليهِ، والدُّعاءُ هو العبادةُ، كذا رُويَ عنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - من حديثِ النعمانِ بنِ بشيرٍ، وتلا قولَهُ تعالى: (وَقَالَ رَبُّكمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) ، خرَّجَهُ الإمامُ أحمدُ، وأبو داودَ، والترمذيُ، والنسائيُّ، وابنُ ماجةَ. وخرَّج الترمذيُّ من حديثِ أنسِ بنِ مالك عنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: "الدعاءُ مُخُّ العبادة"، فتضمنَ هذا الكلامُ أن يُسألَ اللَّهُ عزًّ وجلَّ، ولا يسألَ غيرُه،

وأن يُستعانَ باللَّهِ دونَ غيرِهِ. فأما السؤالُ، فقد أمرَ اللَّهُ بمسألتِهِ، فقالَ: (وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ) وفي الترمذي عنِ ابنِ مسعودٍ مرفوعًا: "سَلُوا اللَّهَ منْ فَضلِهِ، فإنَّ اللَّهَ يُحبُّ أن يُسألَ ". وفيه - أيضًا - عن أبي هريرةَ مرفُوعًا: "من لم يسألِ اللَّهَ يغضبْ عليهِ ". وفي حديثٍ آخرَ: "ليسألْ أحدُكُمْ ربَّه حاجَتَه كلَّها حتَّى يسألَهُ شِسْعَ نعلِهِ إذا انْقطعَ ". وفي النَّهي عن مسألةِ المخلوقينَ أحاديثُ كثيرةٌ صحيحةٌ، وقد بايعَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - جماعةً من أصحابِهِ على أن لا يسألُوا النَّاسَ شيئًا: منهم أبو بكرٍ الصدِّيقُ، وأبو ذرٍّ، وثوبانُ، وكان أحدُهم يسقطُ سوطُه أو خطام ناقتِهِ، فلا يسألُ أحدًا أن يُناولَه إياه) . وخرَّج ابنُ أبي الدُّنيا من حديثِ أبي عبَيدةَ بنِ عبدِ اللَّهِ بنِ مسعودٍ أنَّ رجلاً جاءَ إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فقالَ: يا رسولَ اللَّهِ، إنَّ بَني فُلانٍ أغاروا عليَّ فذهبُوا بابنِي وإبلِي، فقالَ له النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ آلَ محمَّدٍ كذا وكذا أهلَ بيتٍ ما لهُم مدٌّ منْ طعامٍ أو صاعٍ، فاسألِ اللَّهَ عزَّ وجلَّ "، فرجعَ إلى امرأتهِ، فقالت: ما قالَ لكَ؛ فأخبرَهَا، فقالتْ: نِعْمَ ما رَدَّ عليكَ، فما لبثَ أن ردَّ اللَّهُ عليه ابنَه وإبلَهُ أوفرَ ما كانتْ، فأتى النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فأخبرَهُ، فصعدَ المنبرَ فحَمِدَ اللَّهَ وأثنى عليهِ،

وأمرَ الناسَ بمسألةِ اللَّهِ عزَّ وجلَّ والرغبة إليهِ، وقرأَ: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ) . وقد ثبتَ في "الصحيحينِ " عنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - "إنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ ينزلُ كلَّ ليلة إلى سماءِ الدُّنيا حينَ يبْقَى ثلثُ اللَّيْلِ الآخرِ، يقولُ: هلْ من داع، فأستجيبَ له؛ هلْ من سائل فأعْطِيَهُ؛ هلْ منْ مُستغفرٍ فأغْفِرَ لَهُ؟ ". وخرَّج المحامليُّ وغيرُهُ من حديثِ أبي هريرةَ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قالَ: "قالَ اللَّهُ تعالَى: من ذا الذي دعانِي فلمْ أُجِبْهُ؟ وسألَني فلمْ أُعطِهِ؛ واستغفرَنِي، فلمْ أغفرْ لهُ، وأنا أرحمُ الراحمين؟ ". واعلمْ، أنَّ سؤالَ اللَّهِ عزَّ وجلَّ دونَ خلقِهِ هو المتعينُ، لأنَّ السؤالَ فيه إظهارُ الذلِّ من السائلِ والمسكنةِ والحاجةِ والافتقارِ، وفيه الاعترافُ بقدرةِ المسئولِ على رفع هذا الضرِّ، ونيلِ المطلوبِ، وجلبِ النافع ودرءِ المضارِّ، ولا يصلحُ الذلُّ والافتقارُ إلا للَّهِ وحدَه، لأنَّه حقيقةُ العبادة. وكانَ الإمامُ أحمدُ يدعُو ويقولُ: اللَّهمَّ كَمَا صُنتَ وجهِي عنِ السُّجودِ لغيرِك فصُنْه عن المسألةِ لغيرِك. ولا يقدرُ على كشفِ الضرِّ وجلبِ النفع سواهُ، كمَا قالَ: (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ) ، وقالَ: (مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ) .

واللَّهُ سبحانهُ يحبُّ أن يُسألَ ويُرْغَبَ إليهِ في الحوائج، ويُلَح في سؤالِه ودُعائِهِ، ويغضَبُ على من لا يسألُه، ويستدْعِي مِنْ عبادِهِ سؤالَهُ، وهو قادر على إعطاءِ خلقِه كُلِّهِم سُؤْلَهُم من غيرِ أن يَنْقُصَ منْ ملكِهِ شيء، والمخلوقُ بخلافِ ذلكَ كلِّه: يكرهُ أن يُسألَ، ويُحبُّ أن لا يُسألَ، لعجزِهِ وفقى وحاجتِهِ. ولهذا قالَ وهبُ بنُ منبهٍ لرجلٍ كانَ يأتي الملوكَ: ويحكَ، تأتي من يُغلِقُ عنكَ بابَه، ويُظهِرُ لك فقرَهُ، ويوارِي عنك غناهُ، وتَدعُ من يفتحُ لكَ بابَه بنصفِ الليلِ ونصفِ النهارِ، ويُظهرُ لك غناهُ، ويقولُ: ادعُنِي أستجبْ لكَ؟!. وقالَ طاووس لعطاءٍ: إياكَ أن تطلبَ حوائجَكَ إلى من أغلقَ دونَكَ بابَهُ ويجعلُ دونَهَا حجابَهُ، وعليكَ بمنْ بابُهُ مفتوحٌ إلى يومِ القيامةِ، أمركَ أن تسألَهُ ووعدَكَ أن يُجيبَكَ. وأما الاستعانةُ باللَّهِ عزَّ وجلَّ دونَ غيره من الخلقِ، فلأنَّ العبدَ عاجزٌ عن الاستقلالِ بجلب مصالحِهِ، ودفع مضارِّهِ، ولا معينَ لهُ علَى مصالح دينِه. ودنياهُ إلا اللَهُ عزًّ وجلَّ، فمنْ أعانَهُ اللَهُ، فهو المُعانُ، ومن خذَلَهُ فهو المخذولُ، وهذا تحقيقُ معنى قولِ: "لا حولَ ولا قوَّةَ إلا باللَّهِ "، فإنَّ المعنى لا تحوُّلَ للعبدِ منْ حال إلى حالٍ، ولا قُوَّةَ له على ذلكَ إلا باللَّهِ، وهذه كلمة عظيمة وهي كنز من كنوزِ الجنةِ، فالعبدُ محتاج إلى الاستعانةِ باللَّهِ في فعلِ المأموراتِ، وتركِ المحظوراتِ، والصبرِ على المقدوراتِ كلِّها في الدنيا وعندَ الموت وبعدَهُ من أهوالِ البرزخ ويومِ القيامةِ، ولا يقدرُ على الإعانةِ على ذلكَ إلا الَلهُ عزَّ وجل، فمنْ حقَّقَ الاستعانةَ عليه في ذلكَ كلِّه أعانَهُ. وفي

الحديث الصحيح عَنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "احْرصْ على ما ينفعُكَ، واستعن بالله ولا تعجر". ومن تركَ الاستعانةَ باللَّهِ، واستعانَ بغيره، وكَلَهُ اللَّهُ إلى منْ استعانَ به فصارَ مخذُولاً. كتبَ الحسنُ إلى عُمَرَ بنِ عبدِ العزيز: لا تستعن بغيرِ اللَّهِ فيكِلَكَ اللَّهُ إليهِ. ومن كلامِ بعضِ السلفِ: يا ربِّ عَجبتُ لمن يعرفك كيفَ يرجُو غيرَك، عجبتُ لمن يعرفُك كيفَ يستعينُ بغيرِكَ. * * * خرَّج الإمامُ أحمدُ والنسائيُّ، والترمذيُّ من حديثِ النوَّاسِ بنِ سِمْعَانَ، عنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قالَ: "ضربَ اللَّهُ مثلاً صِرَاطا مستقيمًا، وعلَى جنبتيِّ الصراطِ سُورانِ فيهِمَا أبوابٌ مفتحةٌ وعلَى الأبوابِ سُتورٌ مرخاةٌ، وعلى بابِ الصراطِ داعٍ، يقولُ: أيُّها الناسُ ادْخُلُوا الصراطَ جميعا ولا تعوجُوا، وداعٍ يدْعُو من جوفِ الصراطِ، فإذَا أرادَ أن يَفتحَ شيئًا منْ تلكَ الأبوابِ، قالَ: ويحكَ لا تَفْتَحْهُ فإنَّكَ إنْ تفتَحْهُ تلِجْهُ. والصراطُ: الإسلامُ. والسورانِ: حُدودُ اللَّهِ. والأبوابُ المفتَّحةُ: محارمُ اللَّهِ. وذلكَ الداعِي علَى رأسِ الصراطِ: كتابُ اللَّهِ - عز وجل - والداعِي من فوق: واعظُ اللَّهِ في قلبِ كلِّ مسلمٍ " وهذا لفظُ الإمامِ أحمدَ. وعندَ الترمدْيِّ زيادةُ: "وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ"

وحسَّنه الترمذيُّ، وخرَّجه الحاكمُ، وقالَ: صحيحٌ عَلى شرطِ مسلمِ، لا أعلمُ له علَّةً. ضربَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديثِ العظيم - الذي حكاهُ عن ربِّه - عز وجلَّ - مَثَل الإسلامِ: بالصراطِ المستقيم. وقد سمَّى اللَّهُ دِينَهُ الذي هوَ دينُ الإسلامِ صراطَا مستقيمًا في مواضعَ كثيرةٍ من كتابِهِ، كقولِهِ تعالَى: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7) . وقد فُسِّر الصراطُ هُنا: بكتابِ اللَّهِ. وكتابُ اللَّهِ فيه شرحُ دينِ الإسلام. وبيانُه وتفصيلُه والدعوةُ إليهِ. وعنِ جابرٍ، قالَ: الصراطُ المستقيمُ: هو الإسلامُ، وهوَ أوسعُ ممَّا بينَ السماءِ والأرضِ. وقالَ تعالَى: (قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (16) . وقالَ تعالَى: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ) . وخرَّجَ الإمامُ أحمدُ والنسائيُّ في "تفسيره، والحاكمُ منِ حديثِ ابنِ مسعودٍ،

قالَ: خطَّ رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - خطا بيدِهِ ثمَّ قالَ: "هذا سبيلُ اللَّهِ مُستقيما" وخطَّ عن يمينِهِ وشمالِهِ، ثم قالَ: "هذه السبلُ ليسَ مِنْهَا سبيل إلا عليهِ شيطانٌ يدْعُو إليهِ " ثمَّ قرأ: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ) . وخرَّجَ الإمامُ أحمدُ، وابنُ ماجةَ، من حديثِ مُجاهدٍ، عن الشَّعبيِّ. عن جابرٍ، قالَ: كُنَّا جلوسًا عندَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فخط خطا هكذا أمامهُم، قالَ: "هذا سبيلُ اللهِ " وخطينِ عن يمينِه، وخطينِ عن شمالِهِ، وقالَ: "هذه سبيلُ الشيطانِ " ثم وضعَ يدَهُ في الخطًّ الأوسطِ، ثمَّ تلا هذه الآيةَ: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ) ، الآية. وقد رُويَ عن ابنِ مسعودٍ، أنَّه سُئلَ عن الصراطِ المُستقيم فقالَ: تركَنَا محمدٌ - صلى الله عليه وسلم - في أدناهُ وطرفُه في الجنةِ، وعن يمينِهِ جوادٌّ وعن شمالِهِ جوادٌّ. وثمَّ رجا 4 يدعونَ من مرَّ بِهِم. فمن أخذَ في تلكَ الجوادِ انتهتْ بهِ إلَى النَّارِ، ومن أخذَ علَى الصراطِ انتهَى بهِ إلى الجنَّة. ثمَّ قرأَ ابنُ مسعودٍ: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ) خرَّجه ابنُ جريرٍ وغيرُه. وإنَما سُمِّيَ الصراطُ صِراطا: لأنَّه طريقٌ واسع سَهْل، يوصِّلُ إلى المقصودِ. وهذا مَثَلُ دينِ الإسلامِ في سائرِ الأديانِ، فإنَّه يُوصلُ إلى اللَّهِ وإلَى دارِه، وجوارِه، مع سهولَتِهِ وسعتِهِ. وبقيةُ الطرقِ وإنْ كانتْ كثيرةً، فإنَّها كلَّها مَعَ ضيقِهَا وعُسْرِها لا تُوصِّلُ

إلى اللَّهِ، بل تقطعُ عنه وتُوصلُ إلى دارِ سخطِهِ وغضبِهِ، ومجاوق ةِ أعدائهِ " ولهذا قالَ تعالَى: (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (85) . وقالَ تعالَى: (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ) . والإسلامُ العامُّ: هو دينُ اللَّهِ الَّذي كانَ عليهَ جميعُ الرسلِ، كما قالَ نوحٌ: (وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) ، وقالَ تعالَى:، (مِّلَّةَ أَبِيكمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ المُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ) ، وقالَ تعالَى: (وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (132) . وقالَ عن يوسف إنَّه قالَ: (فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (101) . وقالَ تعالَى عن ملكةِ سبأ: (وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (44) . وقالَ عنِ الحواريينَ: إنهم قالُوا: (آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ) . وقد وصفَ اللَّهُ في سُورةِ الفاتحةِ الصراطَ بأنَّه: (صِرَاطَ الذِينَ أَنعَمْتَ عَلَيْهِم) . ثم سمَّى الذينَ أنعمَ عليهم في سُورةِ النساءِ، وجعلَهُم أربعةَ أصنافٍ: النبيينَ والصِّديقينَ والشُّهداءَ والصالحينَ. فدلَّ على أنَّ هؤلاءِ كلَّهُم علَى هذا الصراطِ المستقيم، فلا يخرجُ عنهُم إلا: إمَّا مغضوبٌ عليهِ، وهو من عَرفَ الصراطَ وسلكَ غيرَهُ عمْدًا كاليهودِ والمشركينَ. وإمَّا ضالّ جاهل يسلكُ غيرَ الصراطِ جَهْلاً، ويظنُّ أنَّه الصراطُ. وحقيقةُ الإسلامِ: الاستسلامُ للَّه تعالَى والانقيادُ لطاعتِهِ. وأمَّا الإسلامُ

الخاصُّ، فهو دينُ مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم -. ومُنذ بَعثَ اللَّه محمَّدًا - صلى الله عليه وسلم - لم يقبلْ من أحدٍ دينًا غيرَ دينِهِ. وهوَ الإسلامُ الخاصُّ وجعل بقية الأديانِ كفرًا، لما تضمَّنَ اتباعُهَا من الكفرِ بدينِ محمدٍ والمعصيةِ للَّهِ في الأمرِ باتباعِه، فإنَّه ليسَ هناكَ إلا أحدُ أمرينِ: إمَّا الاستسلامُ للَّهِ والانقيادُ لطاعتِهِ وأوامر، وهوَ دينُ الإسلامِ الذي أمرَ اللَّهُ تعالَى بِهِ. وإمَّا المعصيةُ للَّهِ والمخالفةُ لأوامر، وذلكَ يستلزمُ طاعةَ الشيطانِ " لأن الشيطانَ يأمرُ بسلوكِ الطرقِ التي عن يمينِ الصراطِ وشمالِهِ، ويصدُّ عن سلوكِ الصراطِ المستقيم، كَمَا قالَ تعالَى: (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (60) وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (61) . قالَ تعالَى حاكِيًا عنِ الشيطانِ: (قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ (17) قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ (18) . وقالَ تعالَى: (قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (40) قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (41) إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ) . وصحَّ عن ابنِ مسعودٍ، أنَّه قالَ: إنَّ هذا الصراطَ مُحتضر، تحضرُهُ الشياطينُ. يا عبدَ اللَّهِ، هذا الطريقُ، هلُمَّ إلى الطريقِ، فاعتصِمُوا بحبلِ اللَّه، فإنَّ

حبلَ اللَّهِ هو القرآنُ، وهذا كَمَا أنَّ الكتبَ المنزَّلة، والرسلَ المُرسلةَ وأتباعَهُم يدعونَ إلى اتِّباع الصراطِ المستقيم، فالشيطانُ وأعوانُهُ وأتباعُهُ من الجنِّ والإنسِ يدعونَ إلى بقيةِ الطرقِ الخارجةِ عن الصراطِ المستقيم، كما قالَ تعالى: (كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (71) . والإسلامُ لهُ: هوَ الاستسلامُ، والإذعانُ، والانقيادُ، والطاعةُ. والإسلامُ قد فسَّره النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في حديثِ جبريل بالشهادتينٍ، معَ إقامِ الصلاةِ، وإتاء الزكاة، والحجِّ، والصيامِ. وأخبرَ - صلى الله عليه وسلم - في حديثٍ آخرَ: أنَّ الإسلامَ بُني على هذهِ الخمسِ: يعني: أنه أركانُ بنائِهِ التي لا يقومُ البناءُ إلا عليها، وبقيةُ الأعمالِ داخلة في مسمَّاهُ أيضًا. ورُويَ من حديث أبي الدرداءِ مرفوعًا ومن حديثِ حُذيفةَ مرفوعًا وموقوفًا، وعدَّ من سهامِهِ الجهاد. وأفضلُ الإسلامِ: أنْ يسلمَ المسلمونَ من لسانِهِ ويدِهِ، ومن حُسنِ إسلامِ المرءِ تركُه ما لا يعنيهِ.

وفي "صحيح مسلم " عن عبدِ اللَّهِ بنِ سلامٍ، قال: بَيْنَمَا أَنَا نَائِمٌ إِذْ أَتَانِي رَجُلٌ فَقَالَ لِي قُمْ فَأَخَذَ بِيَدِي فَانْطَلَقْتُ مَعَهُ قَالَ فَإِذَا أَنَا بِجَوَادَّ عَنْ شِمَالِي قَالَ فَأَخَذْتُ لِآخُذَ فِيهَا فَقَالَ لِي لَا تَأْخُذْ فِيهَا فَإِنَّهَا طُرُقُ أَصْحَابِ الشِّمَالِ قَالَ فَإِذَا جَوَادُّ مَنْهَجٌ عَلَى يَمِينِي فَقَالَ لِي خُذْ هَاهُنَا فَأَتَى بِي جَبَلًا فَقَالَ لِيَ اصْعَدْ قَالَ فَجَعَلْتُ إِذَا أَرَدْتُ أَنْ أَصْعَدَ خَرَرْتُ عَلَى اسْتِي قَالَ حَتَّى فَعَلْتُ ذَلِكَ مِرَارًا قَالَ ثُمَّ انْطَلَقَ بِي حَتَّى أَتَى بِي عَمُودًا رَأْسُهُ فِي السَّمَاءِ وَأَسْفَلُهُ فِي الْأَرْضِ فِي أَعْلَاهُ حَلْقَةٌ فَقَالَ لِيَ اصْعَدْ فَوْقَ هَذَا قَالَ قُلْتُ كَيْفَ أَصْعَدُ هَذَا وَرَأْسُهُ فِي السَّمَاءِ قَالَ فَأَخَذَ بِيَدِي فَزَجَلَ بِي قَالَ فَإِذَا أَنَا مُتَعَلِّقٌ بِالْحَلْقَةِ قَالَ ثُمَّ ضَرَبَ الْعَمُودَ فَخَرَّ قَالَ وَبَقِيتُ مُتَعَلِّقًا بِالْحَلْقَةِ حَتَّى أَصْبَحْتُ قَالَ فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَصَصْتُهَا عَلَيْهِ فَقَالَ أَمَّا الطُّرُقُ الَّتِي رَأَيْتَ عَنْ يَسَارِكَ فَهِيَ طُرُقُ أَصْحَابِ الشِّمَالِ قَالَ وَأَمَّا الطُّرُقُ الَّتِي رَأَيْتَ عَنْ يَمِينِكَ فَهِيَ طُرُقُ أَصْحَابِ الْيَمِينِ وَأَمَّا الْجَبَلُ فَهُوَ مَنْزِلُ الشُّهَدَاءِ وَلَنْ تَنَالَهُ وَأَمَّا الْعَمُودُ فَهُوَ عَمُودُ الْإِسْلَامِ وَأَمَّا الْعُرْوَةُ فَهِيَ عُرْوَةُ الْإِسْلَامِ وَلَنْ تَزَالَ مُتَمَسِّكًا بِهَا حَتَّى تَمُوتَ". وقال تعالى: (وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُم أَجْمَعِينَ) . فأخبرَ أنَّ قصدَ السبيل - وهو الطريقُ القاصدُ - عليه، يعني: أنه يُوصِّلُ إليه، وأنَّ من السبيلِ ما هو جائرٌ عنْ القصدِ غيرُ مُوصِّلٍ. فالسبيلُ القاصدُ: هو الصراطُ المستقيمُ. والسبيلُ الجائرُ: هو سبيلُ الشيطانِ الرجيم. وقد وحَّدَ طريقَهُ في أكثرِ المواضع، وجَمَعَ طرقَ الضلال؛

لأنَّ طريقَ الحقِّ أصلُهُ شيءٌ واحدٌ، ودينُ الإسلامِ العامُّ كما سبقَ وهو توحيدُ اللَّهِ وطاعتُهُ، وطُرقُ الضلالةِ كثيرة متبوعة، وإنْ جمعَهَا الشركُ والمعصيةُ. قولُهُ: "وعلى جَنْبتِي الصراط سُورانِ " ثم فسَّرها بحدودِ اللَّهِ. والمُرادُ: أنَّ اللَّهَ تعالى حدَّ حدودًا، ونهى عن تعدِّيهَا، فمنْ تعدَاهَا فقدْ ظلمَ نفسَهُ وخرجَ عن الصراطِ المستقيم الَّذي أُمِرَ بالثبوتِ عليهِ. ولمَّا كانَ السورُ يمنعُ من وراءَهُ مِنْ تعدِّيه ومجاوزَتِهِ: سمَّى حدودَ اللَّهِ سُورًا؛ لأنه يمنعُ منْ دخلَهُ من مجاوزتِهِ وتعدَي حدودِهِ. قالَ اللَّهُ تعالى: (تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا) ، وقال: (تِلكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ) إلى قوله: (وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مهِينٌ) . وقال: (تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) ، وقالَ: (وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ) . وفي حديثِ أبي ثعلبةَ الخُشنيِّ، عنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ اللَهَ فرضَ فرائضَ فلا تضيِّعُوها وحرَّمَ أشياءَ فلا تنتهِكُوها وحدَّ حدودًا فلا تعتدُوها". فحدودُ اللَّه تطلقُ ويُرادُ بها غالبًا: ما أذِنَ فيه وأباحَ فمن تعدَّى هذه الحدودَ فقدْ خرجَ ممَّا أحلَّه اللَّهُ إلى ما حرَّمهُ؛ فلهذا نُهِي عن تعدِّي حدودِ اللهِ، لأنَّ تعديهَا بهذا المعنى محرَّمٌ. ويُرادُ بها تارةً ما حرَّمَهُ اللَّهُ ونَهَى عنه.

وبهذا المعنى، يُقال: لا تقربُوا حدودَ اللَّه؛ كما قال تعالى: (تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوهَا) ، بعد أن نهى عن ارتكابِ المفطراتِ في نهارِ الصيامِ، وعن مباشرةِ النساءِ في الاعتكافِ في المساجدِ. فأرادَ بحدودِهِ هاهُنا: ما نَهَى عنه؛ فلذلكَ نَهَى عن قُربَانِهِ. فإنَّه تعالى جعلَ لكلِّ شيءٍ حدًّا، فجعلَ للمباح حدًّا، وللحرامِ حدًّا، وأمرَ بالاقتصارِ على حدِّ المباح وأنْ لا يُتعَدَّى. ونَهَى عن قربانِ حدِّ الحرامِ. وممَّا سُمِّي فيه المحرماتُ حُدودًا: قولُ النبيِّ - عز وجل -: "مثلُ القائم على حدودِ اللَّهِ والمدهنِ فيها كمثلِ قومٍ استهمُوا سفينةً" الحديثُ المعروف. والمرادُ بالقائم على حدودِ اللَّهِ: المنكرُ للمحرماتِ والناهي عنها. وفي حديثِ ابنِ عباسٍ، عنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "أنا آخذٌ بحُجزِكم اتَّقوا النارَ اتقوا الحدود" قالَها ثلاثاً". خرَّجه الطبرانيُّ والبزار. ومرادُهُ بالحدودِ: محارم اللَّه ومعاصيهِ، وقد تُطلقُ الحدودُ باعتبارِ العُقوباتِ المقدَّرةِ الرادعةِ عن الجرائم المغَلَّظةِ. فيُقالُ: حدُّ الزِّنا، حدُّ السرقة، حدُّ شربِ الخمر، وهو هذا المعروف من اسم الحدودِ في اصطلاح الفقهاءِ، ومنهُ قولُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - لأسامةَ: "أتشفعُ في حدٍّ من حدودِ اللَّهِ؟ " لمَّا شفع في المرأة التي سرَقَتْ. وفي حديث: "أقيموا الحدودَ في الحضرِ والسفرِ على القريبِ والبعيدِ".

وقالَ عليّ: أقيمُوا الحدودَ على ما ملكتْ أيمانُكُم. وأمَّا قولُه - صلى الله عليه وسلم - في حديثِ أبي بُردةَ: "لا يُجلَدُ فوقَ عشرِ جلداتٍ إلا في حدٍّ من حدودِ اللَّهِ عزَّ وجلَّ ". فقد اختَلَفُوا في المراد بالحدِّ هُنا: هل هو الحدودُ المقدَّرةُ شرْعًا، أم المُرادُ بالحدِّ ما حدَّه اللَّهُ ونهى عن قُربانِهِ، فيدخلُ فيه سائرُ المعاصِي، ويكونُ المرادُ: النهيَ عن تجاوزِ العشرِ جلداتٍ بالتأديبِ ونحوه، مما ليسَ عقوبةً على محرَّمٍ. هذا فيه اختلافٌ مشهور بين العلماءِ. وقالَ تعالى: (وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْم يَعْلَمُونَ) . وقال تعالى: (الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ) . والمُرادُ بحدودِ اللَّهِ هَاهُنا: ما يفصلُ بينَ الحلالِ والحرامِ، ويتميَّزُ به أحدُهُما من الآخرِ. وقد مدحَ اللَّهُ الحافظينَ لحدودِهِ في قولِهِ: (وَالْحَافِظُونَ لِحُدودِ اللَّهِ) . وفي الحديث المرفوع منْ حديثِ عمرِو بنِ شعيبٍ، عنْ أبيه عنْ جدِّه: "يمثَّلُ القرآنُ رجُلاً يومَ القيامةِ فيُؤْتَى بالرجلِ قدْ حمَلَهُ فخالفَ أمرَهُ ونهيَهُ، فيمثَّلُ له خَصْمًا فيقولُ: يا ربِّ حفَلتَهُ إياى فبئس حَامِلٍ. تعدَّى حدُودِي وضيَّعَ فرائِضي وركبَ معصَيتي.

وقالَ: ويُؤتَى بالرجلِ الصالح كانَ قدْ حمَلَهُ، فيمثلُ خَصْمًا دونَهُ، فيقولُ: يا ربّ حمَّلتَهُ إيَّاي فخيرُ حامِلٍ حفظَ حدودي وعمِلَ بفرائِضي واجتنبَ معصِيتِي ". والمراد بحفظِ الحدودِ هُنا: المحافظةُ على الواجباتِ والانتهاءُ عن المحرَّماتِ. وفي حديثِ النُعْمانِ بنِ بشيرٍ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "الحلالُ بيِّنٌ والحرامُ بيَنٌ وبينهُما أمورٌ مشتبهاتٌ لا يعلمُهُنَّ كثيرٌ من الناسِ، فمنِ اتَّقَى الشبهاتِ استبرأ لدِينِهِ وعرْضِهِ، ومنْ وقَعَ في الشبهاتِ وقَعَ في الحرام كالرَّاعي يرعَى حولَ الحِمَى يُوشِكُ أن يخالطَهُ. ألا وإنَّ لكل ملك حمىً، ألا وإن حمَى اللَّه في أرضه محارمُهُ ". وهو حديث متفق على صحتِهِ. ًًًَ فمثَّلَ المحرَّماتِ في هذا الحديثِ: بالحِمَى، وهو ما يحميهِ الملوك وتمنعُ من قُربانِهِ، وجعلَ الحلال بيِّنًا والحرامَ بيِّنًا، ومُرادُهُ: الحلالُ المحض والحرامُ المحضُ، فإنَّ لكلٍّ منهَا حُدودًا معروفةً في الشريعةِ. وجعلَ بينهُمَا أمورًا مشتبهةً على كثيرٍ من الناسِ، لا يدرونَ هلْ هيَ من الحلالِ أم منَ الحرامِ. فدلَّ على أنَّ من الناسِ من لا يشتبِهُ عليهِ حُكْمُها، فيعلمُ أنَّها حلالٌ أو أنَّها حرامٌ. فأمَّا من اشتبهَ عليه حُكْمُها: فإن الأوْلَى لهُ أنْ يتَّقيَهَا ويجتنبَهَا، كما قالَ عُمَرُ: ذَرُوا الرِّبا والرِّيبة) . وأخبر أنَه منْ وقعَ في الأمورِ المُشتبهةِ وقعَ في الحرامِ، والمُراد: أنَّ نفسَهُ

تدعُوه من ارتكابِ الشبهاتِ إلى ارتكابِ الحرامِ. ومثَّله بالراعي حولَ الحِمَى يُوشكُ أنْ يرتَعَ فيه، فأمَّا منْ بعُدَ عَنِ الحِمَى فإته يبعُد وقوعُه في الحرامِ؛ ولهذا قالَ منْ قالَ من السلفِ: اجعلْ بينَكَ وبينَ الحرامَ شيئًا من الحلالِ. وفي الحديثِ المرفوع، الَّذي خرَّجَهُ الترمذيُّ: "لا يبلغُ العبدُ أن يكونَ من المتقينَ حتَّى يدع ما لا بأسَ بِهِ حذرًا ممَّا به بأس". وهذه الأمورُ المشتبهاتُ: منْهَا ما يَقْوَى شبهُه بالحرامِ، ومنها ما يبعُد شبهُهُ بالحرامِ، ومنها ما يترددُ، لشبهةٍ بين الحلالِ والحرامِ. فالأولُ: يَقْوَى فيه التحردمُ، والثاني: يَقْوَى فيه الكراهةُ، والثالثُ: يترددُ فيه، واجتنابُ الكلِّ حسنٌ، وهو الأفضلُ والأوْلَى. وقولُهُ: " فيهمَا - يعني: السورينِ - أبواب مفتحة وعلى الأبوابِ سُتور مُرخاة". ثم فسَرَ الأبوابَ المُفتحةَ: بمحارمِ اللهِ، لما شبَّه حدودَ اللَّهِ بالسورينِ المكتنفينِ للصراطِ يَمْنَةً ويَسْرةً - والسورُ يقتضي المنع، وأصلُ الحدِّ في اللغةِ المنعُ - شبَّه المحارمَ بالأبوابِ المفتحةِ في السورينِ الذَيْنِ هُمَا حد الصراط المستقيم ونهايتُهُ، وجعلَ الأبوابَ مفتحةً غيرَ مغلَّقةٍ ولا مُقفلةٍ، وجعلَ عليها ستورًا مرخاةً بحيثُ يتمكنُ كل أحدٍ من رفع تلك الستورِ وولوج تلكَ الأبوابِ.

وهكذَا الشهواتُ المحرَّمةُ، فإنَّ النفوسَ متطلعةٌ إليها وقادرةٌ عليها، وإنَّما يمنعُ منها مانعُ الإيمانِ خاصةً، والنفوسُ مولعةٌ بمطالعة ما مُنعتْ منه؛ كَما في الحديثِ "لو يُمنعُ الناسُ فتَّ البعرِ لقالُوا فيه الدر". وفي حديثٍ آخر مرفوع: "لو نهيتُ أحدَهم أنْ يأتيَ الحجونَ لأوشكَ أنْ يأتيَه مِرَارًا وليسَ له إليه حاجةٌ". وحكايةُ ذِي النونِ المصريِّ مع يوسفَ بن الحسينِ الرازيِّ - في الطبقِ الذي أرسلَهُ، وأمرَهُ أنْ لا يكشِفَهُ - معروفةٌ. والمحرَّماتُ أمانةٌ مِنَ اللَّهِ عندً عبدِهِ، والسمعُ أمانةٌ، والبصرُ واللسانُ أمانةٌ. والفرجُ أمانةٌ، وهو أعظَمُهَا. وكذلك الواجباتُ كلُّها أماناتٌ: كالطهارةِ، والصيامِ، والصلاةِ، وأداءِ الحقوقِ إلى أهلها، قالَ اللَّهُ تعالَى: (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (72) ثم ذكرَ حكمَهُ، فقالَ: (لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ) . وفي الحديثِ الصحيح عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: "حُفَّتِ الجنةُ بالمكارِهِ وحفَّتِ النارُ بالشهواتِ ". وفي روايةٍ: "حُجبتْ " بدل: "حُفَّتْ ". فاللَّهُ سبحانَهُ امتحنَ عبادَهُ في هذهِ الدارِ بهذِهِ المحرَّماتِ من الشهواتِ

والشبهاتِ، وجعلَ في النَّفْسِ داعِيًا إلى حبِّها مع تمكِّنِ العبدِ منهَا وقُدرتِهِ فمن أدَّى الأمانةَ، وحفظَ حدودَ اللَّهِ ومنعَ نفسَهُ ما يُحبُّه من محارمِ اللَّهِ كانَ عاقبتَهُ الجنةُ؛ كما قال تعالَى: (وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى (41) . فلذلك يحتاجُ العبدُ في هذهِ الدارِ إلى مُجاهدةٍ عظيمةٍ، يُجاهدُ نفسَهُ في الله - عزَّ وجلَّ - كما في الحديثِ: "المجاهدُ مَنْ جاهَدَ نفسَهُ في اللَّه - عزَّ وجلَّ " فمنْ كانتْ نفسُه شريفةً، وهمَّتُهُ عالية لم يرض لَهَا بالمعاصِي، فإنها خيانة ولا يَرْضَى بالخيانة إلا مَن لا نفسَ لهُ. قال بعضُ السلفِ: رأيتُ المعاصِي نذالة، فتركتُها مروَّةً فاستحالتْ ديانةً. وقالَ آخرُ منهُم: تركتُ الذنوبَ حياءً أربعينَ سنةً، ثم أدركنِي الورعُ. وقالَ آخرُ: مَنْ عمِلَ في السرِّ عملاً يستحيي منهُ إذا ظَهَرَ عليه، فليسَ لنفسِهِ عندَهُ قدر. قالَ بعضُهُم: ما أكرمَ العبادُ أنفسَهُم بمثلِ طاعةِ اللَّهِ، ولا أهانوها بمثلِ معاصِي اللَّه عزَ وجلَّ. فمنِ ارتكبَ المحارمَ فقد أهانَ نفسَهُ. وفي المَثَلِ المضروبِ: أنًّ الكلبَ قالَ للأسدِ: يا سيدَ السباع، غيَر اسمِي فإنَّه قبيح. فقال لهُ: أنتَ خائنٌ، لا يصلحُ لكَ غيرَ هذا الاسمِ. قال: فجرّبْنِي. فأعطَاهُ شقةَ لحم، وقالَ: احفظْ لي هذهِ إلى غدٍ، وأنا أغيِّرُ اسمَكَ. فجاعَ، وجعلَ

ينظرُ إلى اللحم ويصبرُ. فلما غلبتْهُ نفسُهُ قالَ: وأيُّ شيءٍ أعملُ باسمِي. وما كلبٌ إلا اسم حَسَنٌ فأكَلَ. ولهذَا المَعْنَى: شبَّه اللَّهُ عالمَ السُّوءِ الَّذي لم ينتفعْ بعلمِهِ بالكلبِ " فقالَ تعالَى: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175) وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176) سَاءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ (177) . والمُرادُ بهذا المثلِ: أنَّ منْ لم يزجرْهُ علمُه عن القبيح، صارَ القبيحُ عادةً لهُ ولم يؤثرْ فيه علمُه شيئًا، فيصيرُ حالُه كحالِ الكلبِ اللاهثِ " فإنَه إنْ طُرِدَ لَهِثَ، وإنْ ترِكَ لَهِثَ، فالحالتانِ عنده سواءٌ. وهذا أخسُّ أحوالِ الكلبِ وأبشعُهَا، فكذلكَ من يرتكبُ القبائح مع جهلِهِ ومع علمِهِ، فلا يؤثِّرُ علمُه شيئًا" وكذلكَ مثل مَنْ لا يرتدع عن القبيح بوعظ ولا زجرٍ ولا غيرِهِ. فإنَّ فعلَ القبيح يصيرُ عادةً، ولا ينزجِرُ عنه بوعظٍ ولا تأديبٍ ولا تعليم. بل هو متبعٌ للهَوى على كلِّ حالٍ، فهذا كل من اتَبعَ هواهُ، ولم ينزجرْ عنهُ بوعظ ولا غيرِهِ. وسواءٌ كانَ الهَوى المُتبَع داعيًا إلى شهوةٍ حسيةٍ، كالزنا والسرقة وشربِ الخمرِ، أو إلى غضبٍ وحقدٍ وكبرٍ وحسدٍ، أو إلى شُبهةٍ مضلَّةٍ في الدِّينِ. وأشدُّ ذلكَ: حالُ من اتَّبع هواهُ في شبهةٍ مضلةٍ، ثمَّ من اتبع هواهُ في غضبٍ وكبرٍ وحقدٍ وحسدٍ، ثم من اتَّبع هواهُ في شهوةٍ حسيةٍ.

ولهذَا يُقالُ: إنَّ مَن كانتْ معصيتُهُ في شهوةٍ فإنَه يُرجَى له، ومن كانتْ معصيتُهُ في كبرٍ لم يُرج. ويُقال: إنَّ البدعَ أحبُّ إلى إبليسَ من المعاصِي " لأنَّ المعاصِيَ يُتابُ منها والبدعَ يعتقِدُهَا صاحبُها دِينًا فلا يتوبُ مِنهَا. والمقصودُ: أنَّه لمَّا كانتِ النفسُ والهَوى داعيينِ إلى فتح أبوابِ المحارِمِ وكشفِ ستورِها وارتكابِها، جعلَ اللَّهُ - عزَّ وجلَّ - لها داعيَيْنِ يزجرانِ مَن يُريدُ ارتكابَ المحارمِ وكشفَ ستورِهما. أحدُهما: داعِي القرآنِ، وهو الداعِي على رأسِ الصراطِ يدعُو الناسَ كلَّهم إلى الدخولِ في الصراطِ والاستقامةِ عليهِ، وأنْ لا يَعْوَجُّوا عنه يمنةً ولا يسرةً. ولا يفتحُوا شيئًا من تلكَ الأبوابِ التي عليَها الستورُ المُرخاةُ: قالَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ حاكيًا عن عبادِهِ المؤمنينَ أنَّهم قالُوا: (رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا) ، والمُرادُ به القرآنُ عندَ أكثرِ السلفِ. وقالَ حاكيًا عنِ الجنّ الذين استمعُوا القرآنَ، أنَّهُم لمَّا رجعُوا إلى قومِهِم قالُوا: (إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ (30) يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ) . وقد وصفَ اللَهُ نبيَّه - صلى الله عليه وسلم - بأنَّه يدعُو الخلقَ بالكتابِ إلى الصراطِ المستقيم؛ كما قالَ اللَّهُ - تعالَى: (كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (1) . وقالَ تعالَى: (وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (73) وَإِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ (74) .

وقد كانَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يدعُو الخلقَ بالقرآنِ إلى الدخولِ في الإسلامِ، الَّذي هو الصراطُ المستقيمُ، وبذلكَ استجابَ له خواصُّ المؤمنينَ كأكابرِ المهاجرينَ والأنصارِ. ولهذا المعْنَى قال مالكٌ: فُتحت المدينةُ بالقرآنِ. يعني: أنَّ أهلَهَا إنَّما دخلُوا في الإسلامِ بسماع القرآنِ. كما بعثَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - مصعبَ بنَ عميرٍ، قبلَ أنْ يُهاجِرَ إلى المدينةِ. فدعَا أهلَ المدينةِ إلى الإسلامِ بتلاوةِ القرآنِ عليْهِم، فأسلمَ كثيرٌ منْهُم. قال بعضُ السلفِ: من لم يردعْهُ القرآنُ والموتُ، لو تناطحتِ الجبالُ بين يديهِ لم يرتدعْ. وقالَ آخرُ: من لم يتَّعِظْ بثلاثٍ، لم يتعِظْ بشيءٍ: الإسلامِ والقرآنِ. والمشيبِ، كما قيلَ: كفى الشيبُ والإسلامُ للمرءِ ناهيًا قال يحيى بنُ معاذٍ: الإسلامَ نقيٌّ فلا تدنّسْهُ بآثامِكَ. منع الهَوى مِن كاعبٍ ومدام. . . نورُ المشيبِ وواعظُ الإسلامِ ومَن كان في الدنيا قد خرَجَ عن الاستقامةِ على الصراطِ، ففتحَ أبوابَ المحارمِ الَّتي في ستورِ الصراطِ يمنةً ويسرةً، ودخلَ إليْهَا - سواءٌ كانت المحارمُ من الشهواتِ أو مِنَ الشبهاتِ - أخذتْهُ الكلاليبُ الَّذي على ذلك الصراطِ يمنةً ويسرةً، بحسبِ ما فتحَ في الدنيا من أبوابِ المحارمِ ودخلَ إليْهَا. فمنهُم المكدوشُ في النارِ، ومنهم من تخدِشُهُ الكلاليبُ وينجُو. رأى بعضُ السلفِ - وكانَ شَابا - في منامِهِ: كأنَّ الناسَ حُشِرُوا، وإذا بنهرٍ من لهبِ النارِ عليه جسرٌ يجوزُ الناسُ عليهِ يُدْعونَ بأسمائِهِم. فمنْ دُعِيَ

أجابَ، فناج وهالِكٌ. قالَ: فدُعِيَ باسْمِي، فدخلتُ في الجسرِ فإذَا حدٌّ كحدِّ السيفِ يمورُ بي يمينًا وشِمالاً. فأصبحَ الرجلُ أبيضَ الرأسِ واللحيةِ، ممَّا رأى. سمعَ بعضُهم قائِلاً يقولُ شعرًا: أمامِي موقفٌ قُدَّام ربِّي. . . يُسائِلُنِي وينكشفُ الغطاءُ وحسْبِي أنْ أمرَّ على صراطٍ. . . كحدِّ السيفِ أسفلُه لَظاءُ فغُشِي عليه. قال الفُضيلُ لبِشرٍ: بلغَنِي أنَّ الصراطَ مسيرةَ خمسةَ عشرَ ألف فرسخ. فانظرْ كيفَ تكونُ عليهِ. قال بعضُ السلفِ: بلغَنا أنَّ الصراطَ يكونُ على بعضِ الناسِ أدقُّ مِنَ الشعرِ، وعلَى بعضِهِم كالوادِي الواسع. قال سهلٌ التستُريُّ: مَن دقَّ على الصراطِ في الدُّنيا عرضَ له في الآخرةِ ومن عرضَ له في الدنيا الصراطُ دقُّ عليهِ في الآخرةِ. والمعنى: أنَّ مَنْ صبَّر نفسَهُ على الاستقامةِ على الصراطِ ولم يعرجْ عنه يمنةً ويسرةً، ولا كشفَ شيئًا من الستورِ المُرخاةِ على جانبيهِ - مما تهواهُ النفوسُ من الشهواتِ أو الشبهَاتِ - بلْ سارَ علَى متنِ الصراطِ المستقيم حتَّى أتَى ربَّه وصبرَ على دِقَّةِ ذلكَ، عرضَ له الصراطُ في الآخرةِ. ومن وسَّعَ على نفسهِ الصراطَ في الدُّنيا، فلم يستقمْ على جادَّتِهِ - بل كشفَ ستورَهُ المرخاةَ من جانبيهِ يمنةً ويسرةً، ودخلَ ممَّا شاءتْ نفسُه من الشهواتِ والشبهاتِ - دقُّ عليه الصراطُ في الآخرةِ، فكانَ عليه أدقَّ من الشَّعرِ.

أمَا آنَ يا صاح أنْ تسْتَفيقَا. . . وأنْ تتناسَى الهَوى والفُسوقَا وقد ضحِكَ الشيبُ فاحزنْ لهُ. . . وصارَ مساؤُكَ فيه شُروقَا ألا فازجرِ النفسَ عنْ غيِّها. . . عساكَ تجوزُ الصراطَ الدَّقيقَا ودونَ الصراطِ لَنَا موقف. . . به يتناسَى الصديقُ الصَّديقَا فتُبصرُ ما شئتَ كَفًّا تُعضُّ. . . وعينًا تسحُّ وقلْبا خَفُوقَا إذا أطبقتْ فوقَهُم لم تكنْ. . . تسَمع إلا البكاء والشهيقَا شرابُهُم المُهْلُ في قعرِهَا. . . يقطَعُ أوصالَهُم والعُروقَا قال إبراهيمُ بنُ أدهمَ: كُلِ الحلالَ، وادع بما شئتَ. وقالَ لرجل: اعبدِ اللَّهَ سرًّا، حتى تخرجَ على الناسِ يومَ القيامةِ كمينًا. ومما أنشدَ بعضُهم شِعْرًا: أروحُ وقد ختمتُ على فؤادِي. . . بحبِّكَ أنْ يحلَّ به سِواكَا فلو أنِّى استطعتُ غضضتُ طَرفِي. . . فلم أبصرْ به حتَّى أراكَا أحبُّكَ لا ببعْضِي بل بكُلِّي. . . وإنْ لم يُبقِ حبُّك لي حِراكَا ويقبُحُ مِن سواكَ الفعلُ عندِي. . . وتفعلُه فيحسُنُ منكَ ذاكَا وفي الأحبابِ مخصوصٌ بوجدٍ. . . وآخرُ يدَّعي معه اشترَاكَا إذا اشتبكتْ دموعٌ في خدود. . . تَبَيَّن مَن بكى مِمَّنْ تباكَى فأمَّا منْ بكَى فيذوبُ وجْدًا. . . وينطقُ بالهَوى من قد تَشَاكَا * * *

سورة البقرة

سُورَةُ البَقَرَةِ قوله تعالى: (أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السَّمَاءِ) [قالَ البخاريُّ] : "باب: ما يَقُولُ إذَا أمْطَرَتْ ": وقال ابنُ عباسٍ: (كَصَيبً) البقرة: 19،: المطرُ. وقالَ غيرُهُ: صابَ وأصَابَ يَصُوبُ. حدَّثَنَا مُحمَّدُ بنُ مُقاتِلٍ أبو الحسنِ المرْوَزِيُّ: أنا عبدُ اللَّهِ - هُوَ: ابنُ المباركِ -: أنا عُبَيْدُ اللَّهِ، عنْ نافع، عنِ القاسم بنِ مُحمَّدٍ، عنْ عائشةَ، أنَّ رسولَ اللَهِ - صلى الله عليه وسلم - كانَ إذا رأى المَطَرَ قالَ: "صيَبا نافِعًا". تابَعَهُ: القاسمُ بنُ يحيى، عنْ عبيدِ اللَّهِ. ورواهُ الأوزاعيُّ وعُقيل، عنْ نافعِ. أمَّا ذكر المتابعاتِ على هذا الإسنادِ، لاختلافٍ وقعَ فيه: فإنَّه رُوي عن عبيدِ اللَّهِ، عن القاسم، عن عائشةَ، أنَّ رسولَ اللَّه - صلى الله عليه وسلم - من غيرِ ذكرِ: "نافع ". والصحيحُ: ذكرُ: " نافع " فيه. وقد رواه - أيضًا - يحيى القطانُ وعبدةُ بن سليمانَ، عن عبيدِ اللَّهِ. كذلك -: ذكره الدارقطنيُّ في "عللِهِ ".

فإن كان ذلك محفوظا عنهمَا، فكيفَ لم يذكرِ البخاريُّ متابعتَهَما لابنِ المباركِ، وعدل عنه إلى متابعةِ القاسم بن يحيى. وأما عقيلٌ، فرواهُ عنْ نافع، - عنِ القاسم، عنْ عائشةَ. ورواه - أيضًا - أيوبُ، عنِ القاسم، عنْ عائشةَ. خرَّجه الإمامُ أحمدُ، عنْ عبدِ الرزاقِ، عنْ معمرٍ، عنه، ولفظُ حديثِهِ: "اللهُمَ صيبا هنيئًا - أو - صيَبا هنيئًا". وأمَّا الأوازعيُّ، فقد رواهُ عن نافع، عنِ القاسم، عنْ عائشةَ، كما ذكرهُ البخاريُّ، ولفظُ حديثِهِ: "اللَّهُمَ اجعَلهُ صيبا هنيئًا". وقد خرَّج حديثَهُ كذلكَ الإمامُ أحمدُ وابنُ ماجةَ. وفي روايةِ ابنِ ماجةَ: أنَّ الأوزاعيَّ قال: "أخبرني نافعٌ "، كذا خرَّجه من طريقِ عبدِ الحميدِ بنِ أبي العشرين، عنه. وقد رُوي التصريحُ بالتحديثِ فيه عنِ الوليدِ بن مسلم، عنِ الأوزاعيِّ أيضًا. ورواه إسماعيلُ بنُ سماعةَ، عنِ الأوزاعيِّ، عنْ رجل، عن نافع، عن القاسم، عنْ عائشةَ. وقال البابْلُتِّيُّ: عنِ الأوزاعيِّ، عنْ محمدِ بنِ الوليدِ الزبيديِّ، عنْ نافع. عنِ القاسم، عنْ عائشةَ. وقال عقبةُ بنُ علقمةَ: عنِ الأوزاعيِّ، عنِ الزهريَ، عنْ نافع، عنِ

القاسم، عنْ عائشةَ. قال الدارَقُطنيُّ: وهو غيرُ محفوظٍ. وقال عيسى بنُ يونسَ وعبادُ بنُ جويريةَ: عنِ الأوزاعيِّ، عنِ الزهريِّ. عنِ القاسم، عنْ عائشةَ - منْ غيرِ ذكرِ: "نافع ". وكذا رُوي عنِ ابنِ المباركِ، عنِ الأوزاعيِّ. قال الدارقطنيُّ: فإنْ كانَ ذلك محفوظا عنِ الأوزافيَ، فهو غريبٌ عنِ الزهريِّ. وخرَّجه البيهقيُّ منْ روأيةِ الوليدِ بنِ مسلم: نَا الأوزاعيُّ: حدثني نافعٌ. ثم قال: كانَ ابنُ معينٍ يزعمُ أنَّ الأوزاعيَّ لم يسمعْ من نافع شيئًا. ثمَّ خرَّجه من طريقِ الوليدِ بنِ مَزْيَد: نَا الأوزاعيُّ: حدثني رجلٌ، عن نافع - فذكرَه. قال: وهذا يشهدُ لقولِ ابنِ معين. قلتُ: وقد سبقَ الكلامُ على روايةِ الأوزاعيِّ عنْ نافع في "بابِ: حملِ العنزة بين يَدَي الإمامِ يومِ العيدِ"، فإنَّ البخاريَّ خرَّج حديثًا للأوزاعيِّ عنْ نافع مصرحًا فيه بالسماع. وقد رُوي هذا الحديثُ عنْ عائشةَ من وجهٍ آخَر: خرَّجه الإمامُ أحمدُ وأبو داودَ والنسائيُّ وابنُ ماجةَ من حديثِ المقدَامِ بنِ شُريْح،

عنْ أبيهِ، عنْ عائشةَ، أنَّ النبيَّ، كانَ إذا أُمطرَ، قالَ: "اللَّهُمَّ صيَبا هنيئًا" - لفظُ أبي داودَ. ولفظُ النسائيِّ: "اللَّهُمَّ اجعله سيبًا نافِعًا". ولفظُ ابنِ ماجةَ: "اللَهُمَّ سيبًا نافعًا" - مرتينِ أو ثلاثًا. وفي رواية لابنِ أبي الدنيا في "كتاب المطرِ": "اللهُمَّ سقيًا نافعًا". وخرَّج مسلمٌ من طريقِ جعفر بنِ محمدٍ، عن عطاءٍ، عن عائشةَ، أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كانَ يقول إذا رأى المطرَ: "رحمة". وقد أشارَ البخاريُّ إلى تفسيرِ قولِهِ - صلى الله عليه وسلم -: "صيبا هنيئًا"، فذكرَ عنِ ابنِ عباسٍ، أنَّ الصيِّبَ هو المطرُ. وقد خرَّجه ابنُ أبي الدنيا في "كتابِ المطر" من روايةِ هارونَ بنِ عنترةَ. عن أبيه، عنِ ابنِ عباسٍ. وقالَ غيرُهُ: هو المطرُ الشديدُ. وقد ذكرَ البخاريُّ عن بعضِهِم، أنَّ الفعلَ الماضِي منه: "صابَ وأصابَ ". والمضارعُ منه: "يصوبُ ". وهذا عجيبٌ: فإنَّ "أصابَ " إنما تقالُ في ماضِي "يصيبُ "، مِنَ الإصابةِ التي هي ضدَّ الخطإِ. وأمَّا "صابَ يصوبُ "، فمعناه: نزلَ من علوٍ إلى سفْل. وأمَّا روايةُ من روى "سيِّبًا" بالسينِ، فيجوزُ أنَّ تكونَ السينُ مبدلةً من الصادِ.

قوله تعالى: (فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين (24)

وقيل: بل هو بسكونِ الياءِ، ومعناه: العطاءُ. ورُوي عنْ محمدِ بنِ أسلمَ الطوسيِّ، أنَّه رجَّح هذه الروايةَ؛ لانَّ العطاءَ يعمُّ المطرَ وغيرَهُ منْ أنواع الخيرِ والرحمةِ، وفي هذه الأحاديثِ كلِّها: الدعاءُ بأن يكونَ النازلُ من السماءِ نافعًا، وذلك سقيا الرحمةِ، دون العذابِ. وروى ابنُ أبي الدنيا بإسنادِهِ، عنْ عبدِ الملكِ بنِ جابرِ بنِ عتيك، أنَّ رجلاً من الأنصارِ كانَ قاعدًا عند عُمرَ في يومِ مطرٍ، فأكثرَ الأنصاريّ الدعاءَ بالاستسقاءِ، فضربَه عمرُ بالدِّرةِ، وقالَ: ما يدريكَ ما يكونُ في السقْيا، ألا تقول: سقْيا وادعةً، نافعةً، تسعُ الأموالَ والأنْفُسَ. * * * قوله تعالى: (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (24) قالَ اللَّهُ تعالَى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ) . وقال: (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ) . واختلفَ المفسرونَ في هذهِ الحجارةِ، فقالتْ طائفةٌ منهم الربيع بنُ أنسٍ: الحجارةُ هي الأصنامُ التي عبدَتْ من دونِ اللَّهِ، واستشهدَ بعضُهم لهذا بقولِهِ

تعالى: (إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ (98) لَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا) . قالَ ابنُ أبي حاتمٍ: حدثنا أبو صالح، حدثنا معاويةُ بنُ أبي صالح، عنْ أبي بكرٍ بنِ أبي مريمَ، عنْ أبيه أنَّ رسولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قالَ في قولِهِ: (إِذَا الشَّمْس كُوِّرَتْ) ، قالَ: "كورتْ في جهنمَ "، (وإِذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْ) ، قال: "انكدرتْ في جهنمَ، وكلُّ من عُبِدَ من دونِ اللهِ فهو في جهنمَ، إلا ما كانَ مِنْ عيسى وأمِّه ولو رضيا لدخلاَهَا" غريبٌ جدًّا، وأبو بكرٍ بنُ أبي مريمَ فيه ضعفٌ. وقد رُويَ أنَّ الشمسَ والقمرَ يكورانِ في النارِ. ورواهُ عبدُ العزيزِ بنِ المختارِ عنْ عبدِ اللَهِ - هو ابنُ فيروزَ الداناج - قالَ: سمعتُ أبا سلمةَ بنَ عبدِ الرحمنِ يحدثُ عن أبي هريرةَ عنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "الشمسُ والقمرُ ثورانِ يكورانِ في النارِ يومَ القيامةِ" خرَّجه البزار وغيرهُ. وخرَّجهُ البخاريُّ مختصرًا، ولفظُه: "الشمسُ والقمرُ يكورانِ يومَ القيامةِ". وخرَّج أبو يَعْلَى منْ روايةِ درستْ بنِ زيادٍ عن يزيدَ الرقاشيَ عن أنسٍ عنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قالَ: (الشمسُ والقمرُ ثورانِ عقيرانِ في النارِ" وهذا إسنادٌ ضعيف جدًّا. وقد قيلَ: إنَّ المعنى في ذلكَ أنَّ الكفارَ لمَّا عبدُوا الآلهةَ من دونِ اللَّهِ واعتقدُوا أنها تشفعُ لهم عندَ اللَّهِ وتقرِّبُهم إليه عوقِبُوا بأن جعلت معهم في

النارِ إهانةً لها وإذلالاً، ونكايةً لهم وإبلاغًا في حسرتِهِم وندامتِهِم، فإنَّ الإنسانَ إذا قرنَ في العذابِ بمنْ كانَ سببَ عذابِهِ كانَ أشدَّ في ألَمِهِ وحسرَتِهِ. ولهذا المعنى يقرنُ الكفارُ بشياطينهِم التي أضلتْهُم. قالَ اللَّهُ تعالَى: (وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36) وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (37) حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ (38) وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ (39) . قالَ مَعْمرٌ عنْ سعيدٍ الجريريِّ في هذهِ الآياتِ: بلغنَا أن الكافرَ إذا بُعِثَ يومَ القيامةِ منْ قبر، شُفِعَ بشيطانِهِ فلم يفارقْه حتى يصيرَهُما اللَّهُ إلى النارِ، فذاكَ حينَ يقولُ: (يَا لَيْتَ بيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ) . وقالَ أبو الأشهبِ عن سعيدٍ الجريريِّ عن عباسٍ الجشميِّ: إنَّ الكافرَ إذا خرجَ من قبرِهِ وجَدَ عندَ رأسِهِ مثلَ السرحةِ المحترقةِ شيطانةً فتأخذُ بيده. فتقولُ: أنا قرينتُكَ أدخلُ أنا وأنتَ جهنَّم، فذاك قولُهُ: (يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَينِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ) ، خرَّجَهما ابنُ أبي حاتمٍ وغيرُهُ، والسرحةُ: شجرةٌ كبيرةٌ. وقد أخبرَ اللَّهُ تعالى عن حنقِ الكفارِ على من أضلَّهُم بقولِهِ: (وقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا اللَّذَيْنِ أَضَلاَّنَا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامَا لِيكُونَا مِنَ الأَسْفَلِينَ) . فإذا قُرن أحدُهُم بمن أضلَّه في العذابِ كانَ أشدَّ لعذابِهِ، فإنَّ المكانَ المتسعَ يضيقُ على المتباغِضينِ باقترانِهِما في المكانِ الضيقِ. وأخبرَ اللَّهُ تعالى عن اختصامِ الكفارِ معَ من كانَ معهُم من الشياطينِ ومن

عبدُوه من دونِ اللَّهِ تعالى. قالَ اللَّهُ تعالى: (وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ (91) وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (92) مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ (93) فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ (94) وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ (95) قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ (96) تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (97) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (98) وَمَا أَضَلَّنَا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ (99) . ومن جملةِ أنواع عذابِ أهلِ النارِ فيها: تلاعنُهم وتباغضُهم، وتبرُّؤُ بعضُهم من بعضٍ، ودعاءُ بعضِهم على بعضٍ، بمضاعفةِ العذابِ، كما قالَ اللَّه تعالى: (كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ) . قالَ اللَّهُ تعالى: (وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا) الآيات. وقال اللَّهُ تعالى: (هَذَا فَوْجٌ مقْتَحِمٌ معَكُمْ لا مَرْحَبًا بِهِمْ) إلى قولِهِ: (إِنَّ ذَلِكَ لَحَق تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ) ، وحينئذ لا يبعدُ أن يقرنَ كلُّ كافرٍ بشيطانِهِ الذي أضَلَّهُ وبصورة من عَبَدَهُ من دونِ اللَّهِ من الحجارةِ. وقالَ ابنُ أبي الدنيا: حدثنا عبدُ اللَّه بنُ وضاح، حدثنا عبادة بنُ كليبٍ عن محمدِ بنِ هاشمٍ، قالَ: لما نزلتْ هذه الآية ُ: (وَقُودُهَا النَّاسُ والحِجَارَةُ) . وقرأها النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - فسمعَهَا شابٌّ إلى جنبِهِ فصُعِقَ، فجعلَ رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - رأسَهُ في حجره، رحمةً لَهُ، فمكثَ ما شاءَ أن يمكثَ، ثم فتحَ عينيهِ، فقالَ: بأبي أنتَ وأمِّي مثلَ أيِّ شيء الحجرُ؛ قالَ: "أما يكفيكَ ما أصابَكَ، على أنَّ الحجرَ الواحدَ منها لو وُضِعَ عن جبالِ الدنيا كلِّها لذابتْ منهُ، وإنَّ معَ

كل إنسانٍ منهُم حجرًا وشيطانا". وقالَ الحسنُ في موعظَتِهِ: أذكركَ اللهَ ما رحمتَ نفسَكَ، فإنَّك قد حذرتَ نارًا لا تطفأ، يهوِي فيها من صارَ إليها، ويترددُ في أطباقِهَا قرينُ شيطانٍ. ولزيقُ حجرٍ يتلهبُ في وجههِ شعلُها (لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا) . وأكثرُ المفسرينَ على أن المرادَ بالحجارةِ حجارةُ الكبريتِ توقدُ بها النارُ. ويقالُ: إن فيها خمسةُ أنواع من العذابِ ليسَ في غيرِها من الحجارةِ: سرعةُ الإيقادِ، ونتن الرائحةِ، وكثرةُ الدخانِ، وشدةُ الالتصاقِ بالأبدانِ، وقوةُ حرِّهَا إذا أحميتْ. قالَ عبدُ الملكِ بنُ عميرِ عنْ عبدِ الرحمنِ بنِ سابطٍ عنْ عمرِو بنِ ميمونَ عنِ ابنِ مسعودٍ في قولِهِ تعالى: (وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ) قالَ: هي حجارةٌ من الكبريتِ خلقَهَا اللَّهُ يومَ خلقَ السموات والأرضَ في السماءِ الدنيا يُعدها للكافرينَ. خرَّجه ابنُ أبي حاتمٍ والحاكمُ في "المستدركِ " وقال: صحيحٌ على شرطِ الشيخينِ. وقالَ السُّديُّ في "تفسيره" عنْ أبي مالكِ وعنْ أبي صالح، عنِ ابنِ عباسٍ وعن مرة عن ابنِ مسعودٍ، وعن أناسٍ من الصحابةِ: (فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ) . أما الحجارةُ حجارةٌ في النار من كبريتٍ أسودَ يعذبونَ به مع النارِ. وقالَ مجاهدٌ: حجارة من كبريتٍ أنتن من الجيفةِ. وهكذا قالَ أبو جعفرِ وابنُ جريج، وعمرُو بنُ دينار وغيرُهم. وقالَ ابنُ وهبٍ: أخبرَني عبدُ اللَّهِ بنُ عياشٍ، أخبرَني عبدُ اللَّهِ بن سليمانَ عنْ درَّاج عن أبي الهيثم، عن عيسى بنِ هلالي الصدفيّ، عنْ عبدِ اللَّهِ بنِ عمرو،

قالَ: قالَ رسولُ اللَهِ - صلى الله عليه وسلم -: " إن الأرضينَ بينَ كل أرض إلى التي تليهَا مسيرةُ خمسمائة سنةٍ، فالعُليا منها على ظهرِ حوتٍ قد التقَى طرفَاهُ في السماءِ، والحوتُ على صخرةٍ، والصخرةُ بيدِ ملكٍ، والثانية سجنُ الريح، فلما أرادَ اللَهُ إهلاكَ عادٍ أمرَ خازنَ الريح أن يرسلَ عليهم ريحًا تهلكُ عادًا، قالَ: يا ربِّ أرسلْ عليهم من الريح قدرَ منخرِ ثورٍ، قالَ له الجبارُ تباركَ وتعالى: إذنْ يكفي الأرضَ ومن عليها، ولكنْ أرسِل عليهم بقدرِ خاتمٍ، فهي التي قالَ اللَّهُ في كتابه: (مَا تَذَرُ مِن شيءٍ أتت عَلَيْهِ إِلا جَعَلَتْهُ كالرميمِ) ، والثالثةُ فيها حجارةُ جهنَم، والرابعةُ فيها كبريتُ جهنمَ " قالُوا: يا رسولَ اللَهِ أللنارِ كبريتٌ؟! قالَ: "نعم، والذي نفسي بيدِهِ إنَّ فيها لأوديةً من كبريت لو أرسلتْ فيها الجبالُ الرواسي لماعَتْ، والخامسةُ فيها حياتُ جهنمَ وإنَ أفواهَها كالأوديةِ تلسعُ الكافرَ اللسعةَ فلا يبْقى منه لحمٌ على وضَمٍ. والسادسةُ فيها عقاربُ جهنَّم، وإنَّ أدنى عقربة منها كالبغالِ الموكفةِ، تضربُ الكافرَ ضربةً تنسيه ضربتُها حرَّ جهنَّم، والسابعةُ سقرُ، وفيها إبليسُ مصفدٌ بالحديد أمامَهُ ويدُه من خلفِهِ، فإذا أرادَ اللَّه أن يطلِقَهُ لما يشاءُ من عبابٍ أطلَقَهُ " خرَّجه الحاكمُ في آخرِ: "المستدركِ " وقالَ: تفرد به أبو السمح، وقد ذكرتْ عدالتُه بنصِ الإمامِ يحيى بنِ معين، والحديثُ صحيحٌ ولم يخرِّجاه، وقالَ بعضُ الحفاظِ المتأخرين: هو حديثٌ منكرٌ، وعبدُ اللَهِ بنُ عياشٍ القتبانيُّ ضعَّفه أبو داودَ، وعندَ مسلم أنَه ثقةٌ، ودرَاج كثيرُ المناكيرِ، واللَّهُ أعلمُ. قلتُ: رفْعُه منكرٌ جدًّا، ولعله موقوفٌ، وغلطَ بعضُهم فرفَعَه، وروى

قوله تعالى: (ولهم فيها أزواج مطهرة)

عطاءُ بنُ يسارٍ عن كعب من قولِهِ نحوَ هذا الكلام أيضًا. وعن عبدِ العزيز بن أبي روادٍ قالَ: بلغني أنَّ رسولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - تلا هذهِ الآيةَ: (قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ) ، وعندهُ بعضُ أصحابِهِ وفيهم شيخٌ، فقالَ الشيخُ: يا رسولَ اللَّهِ حجارةُ جهنَّم كحجارةِ الدنيا؟ فقالَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "والذي نفسي بيده، إنَّ صخرةً من صخرِ جهنَّم أعظمُ من جبالِ الدنيا كلِّها" فوقعَ الشيخُ مغشيًّا عليه، فوضعَ النبي - صلى الله عليه وسلم - يدَهُ على فؤادِهِ، فإذا هو حيٌّ فناداه قلْ: "لا إله إلا اللَهُ " فقالَهَا، فبشَّره بالجنةِ، فقالَ أصحابُهُ: يا رسولَ اللهِ أمِنْ بيننا؟ قالَ: "نعم، يقولُ الله تبارك وتعالى: (ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ) " خرَّجه ابن أبي الدنيا. * * * قوله تعالى: (وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مطَهَّرَةٌ) وروى ابنُ جريرٍ في "تفسيره": نا يُونُسُ: نا ابنُ وهْبٍ، عنْ عبدِ الرحمنِ بنِ زيدِ بنِ أسلمَ، في قوله: (وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مطَهَّرَةٌ) قال: المطهرةُ: التي لا تحيضُ، قالَ: وكذلكَ خُلقَتْ حواءُ عليها السلامُ حتى عَصَتْ، فلما عصتْ قالَ اللَّهُ تعالى: "إني خلقْتُكِ مطهرةً، وسأدْميكِ كما أدْميتِ هذه الشجرة". وقد استدلَّ البخاريُّ لذلكَ بعمومِ قولِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: "إن هذا شيءٌ كتبه اللَّهُ على بنات آدمَ "، وهو استدلالٌ ظاهرٌ حسنٌ، ونظيرُهُ: استدلالُ الحسنِ على

قوله تعالى: (بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون (81)

إبطال قول من قال: أوَّل من رأى الشَّيْبَ إبراهيمُ عليه السلامُ، بعمومِ قول اللَّه عزَ وجلَّ: (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكم مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قوَّةً ثمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً) . * * * قوله تعالى: (بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (81) قالَ اللَهُ تعالى: (بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) . وفُسرتْ إحاطةُ الخطيئةِ بالموتِ على الشركِ، وفسِّرتْ بالموتِ على الذنوبِ الموجبةِ للنارِ من غيرِ توبةٍ منْهَا. فكأنَّ ذنوبَهُ أحاطتْ به من جميع جهاتِهِ، فلم يبقَ لَهُ مَخلصٌ منها. فالخطايا تُحيطُ بصاحبِهَا حتى تُهلكهُ، وقد ضربَ النبي - صلى الله عليه وسلم - مثلَ الخطايَا التي يتلبَّسُ بها العبدُ بمثل درع ضيقةٍ يلبسُهَا، فتضيقُ عليهِ حتى تخنقَهُ، ولا تنفكَّ عنهُ إلا بعملِ الحسناتِ من توبةٍ أو غيرِهَا من الأعمال الصالحةِ، ففي "المسند"، عن عُقبةَ بن عامرٍ، عنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قالَ: "إنَّ مثلَ الذي يعملُ السيئاتِ ثمَّ يعملُ الحسناتِ كمثلِ رجل كانتْ عليه درعٌ ضيقةٌ ثم خنقتْهُ، ثم عملَ حسنةً فانفكتْ حلقة ثم عملَ حسنةً أخرى فانفكتْ حلقة أخرى حتى يخرجَ إلى الأرضِ ". فلا يَخلُصُ العبدُ من ضيقِ الذنوبِ عليهِ وإحاطتِهَا بهِ، إلا بالتوبةِ والعملِ الصالح.

قوله تعالى: (قل إن كانت لكم الدار الآخرة عند الله خالصة من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين (94)

كانَ بعضُ السلفِ يُردد هذينِ البيتينِ بالليلِ، ويبكِي بكاءً شديدًا شعر: ابْكِ لذنبِكَ طولَ الليلِ مجتهدًا. . . إن البكاءَ معولُ الأحزانِ لا تنسَ ذنبكَ في النهارِ وطولِهِ. . . إن الذنوبَ تحيطُ بالإنسانِ * * * قوله تعالى: (قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (94) وقدْ دلَّ قولُهُ تعالى في حقَ اليهودِ: (قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) ، على أنَّ منْ كانَ على حالةٍ حسنةٍ من الاستعدادِ للقاءِ اللَّهِ فإنَّه يتمنَّى لقاءَ اللَّهِ ويحبُّه، وأنَّه لا يكرهُ ذلكَ إلا من هوَ مريبٌ في أمرِهِ. ولهذَا قالَ: (وَلَن يتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ) ، ثم قال تعالى: (وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ) ، فذمَّهم على حرصِهم على الحياةِ الدنيا. وفي "مسندِ الإمام أحمدَ" عنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "لا يتَمَنّيَنَ الموْتَ إلا منْ وَثَقَ بعَمَلِهِ ". وقد كان كثير من السلف الصالح يتمنونَ الموتَ شوقًا إلى لقاء اللَّه عزَّ وجلَ. ً

قوله تعالى: (ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون (102)

قوله تعالى: (وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (102) مَن آثرَ المعصيةَ على الطَّاعةِ فإنَّما حملَهُ على ذلكَ جهلُهُ وظنُّه أنَّها تنفعُهُ عاجلاً باستعجالِ لذَّتِها، وإن كانَ عندهُ إيمانٌ فهو يرجُو التخلُّصَ من سوءِ عاقبَتِها بالتوبةِ في آخرِ عمرِهِ، وهذا جهلٌ محْضٌ، فإنَّه يتعجلُ الإثمَ والخزي، ويفوته عزُّ التقوى وثوابُها ولذَّةُ الطاعة، وقد يتمكَّنُ من التوبةِ بعد ذلك، وقد يعاجلُهُ الموتُ بغتةً، فهو كجائع أَكَلَ طعامًا مسمومًا لدفع جوعِهِ الحاضر، ورجَا أن يتخلَّص من ضررِه بشُرِبِ الدِّرياق بعدَه، وهذا لا يفعلُه إلا جاهلٌ، وقد قالَ تعالَى في حقِّ الذين يؤثرون السحرَ: (وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (102) وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (103) . والمرادُ: أنَّهم آثرُوا السحرَ على التقوى والإيمانِ، لما رجُوا فيه من منافع الدنيا المعجلة، مع علمهِم أنَّهم يفوتُهم بذلكَ ثوابُ الآخرةِ، وهذا جهلٌ منهم، فإنَّهم لو علِمُوا لآثرُوا الإيمانَ والتقوى على ما عَداهُما، فكانُوا يُحرِزون أجرَ الآخرةِ ويأمنونَ عقابها، ويتعجَّلون عزَّ التقوى في الدنيا، وربَّما وصلُوا إلى ما يأمُلُونه في الدنيا أو إلى خير منه وأنفعُ، فإن أكثرَ ما يطلبُ بالسِّحرِ قضاءُ حوائجَ محرَّمة أومكروهةٍ عند اللَّه عزَّ وجلَّ. والمؤمنُ المتقي يُعوِّضُه اللَّهُ في الدنيا خيرًا مما يطلبُه السَّاحرُ ويؤثرُه، مع تعجيلهِ عِزَّ التَّقوى وشرفها، وثوابَ الآخرةِ وعُلُوَّ درجاتِهَا، فتبيَّنَ بهذا أنَ إيثارَ المعصيةِ على الطاعةِ إنما يحملُ عليه الجهلُ، فلذلكَ كان كُل مَنْ عصى

اللَّهَ جاهلاً، وكُلُّ مَنْ أطاعَه عالمًا، وكفى بخشيةِ اللهِ علمًا، وبالاغترار به جهلاً. وأما التوبةُ من قريبٍ فالجمهورُ على أنَّ المرادَ بها التوبةُ قبلَ الموتِ. فالعمرُ كلُّه قريبٌ، والدنيا كلُّها قريبٌ. فمن تابَ قبل الموتِ فقد تابَ من قريبٍ، ومن ماتَ ولم يتُبْ فقد بَعُدَ كلَّ البُعد. * * * عن جابرِ بنِ عبدِ اللَّهِ - رضي الله عنه -: أن رجلاَّ سَألَ رسولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فقالَ: أرأيتَ إذا صَلَّيتُ المكتُوباتِ، وصُمْتُ رمضانَ، وأحْللْتُ الحلالَ، وحرَّمتُ الحرامَ، ولم أزِدْ على ذلك شيئًا، أأدخلُ الجنَّة؟ قال: "نعَمْ " رواه مسلم. هذا الحديثُ: خرَّجه مسلمٌ من روايةِ أبي الزبيرِ عن جابرٍ، وزادَ في آخر: قال: واللَّهِ لا أزيدُ على ذلكَ شيئًا. وخرَّجه - أيضًا - من روايةِ الأعمشِ عن أبي صالح، وأبي سفيانَ عن جابرَ قالَ: قال النعمانُ بن قوقل: يا رسولَ اللَّهِ، أرأيتَ إذا صليتُ المكتوبة، وحرمتُ الحرامَ، وأحللتُ الحلالَ ولم أزدْ على ذلكَ شيئًا أأدخُلُ الجنَّةَ؟ قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "نعم ". وقد فسرَ بعضُهم تحليلَ الحلال باعتقادِ حلِّه، وتحريمَ الحرامِ باعتقاد حُرمتِه مع اجتنابِهِ، ويُحتملُ أن يرادَ بتحليلِ الحلالِ إتيانُه، ويكونُ الحلالُ ههنا عبارةً عمَّا ليس بحرامٍ، فيدخلُ فيه الواجبُ والمستحبُّ والمباحُ، ويكونُ المعنى أنَّه يفعلُ ما ليس بمحرَّمٍ عليه، ولا يتعدَّى ما أُبيحَ له إلى غيره، ويجتنبُ المحرَّماتِ. وقد رُوي عن طائفة من السلفِ، منهم ابنُ مسعود وابنُ عباس في قولِهِ عزَّ وجلَّ: (الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُوْلَئِكًّ يَؤمنُونَ بِهِ)

قالُوا: يُحلِّونَ حلالَهُ ويحرّمون حرامَه، ولا يحرِّفونه عن مواضعِهِ. والمرادُ بالتحليلِ والتحريمِ فعلُ الحلالِ واجتنابُ الحرامِ كما ذُكرَ في هذا الحديثِ. وقد قالَ اللَّه في حقّ الكفارِ الذينَ كانُوا يُغيّرونَ تحريمَ الشهورِ الحُرُمِ: (إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ) ، والمرادُ: أنَّهم كانُوا يُقاتِلونَ في الشهرِ الحرامِ عامًا، فيُحلونهُ بذلكَ، ويمتنعونَ من القتالِ فيه عامًا، فيحرِّمونَهُ بذلكَ. وقالَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (87) وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا) ، وهذِهِ الآيةُ نزلتْ بسببِ قومِ امتنعوا من تناولِ بعضِ الطيباتِ زهدًا في الدنيا وتقشفًا، وبعضُهم حرَّمَ ذلكَ عن نفسِهِ، إمَّا بيمينِ حَلَفَ بها، أو بتحريمهِ على نفسِهِ، وذلكَ كلُّه لا يوجبُ تحريمَهُ في نفسِ الأمرِ، وبعضُهم امتنعَ منه من غيرِ يمينٍ ولا تحريم، فسمَّى الجميعَ تحريمًا، حيثُ قصدَ الامتناعَ منه إضرارًا بالنفسِ، وكفًّا لها عن شهواتِهَا. ويقالُ في الأمثالِ: فلان لا يحلِّلُ ولا يحرِّمُ، إذا كان لا يمتنعُ من فعلِ حرامٍ، ولا يقفُ عندَ ما أُبيحَ له. وإن كان يعتقدُ تحريمَ الحرامِ، فيجعلونَ من فعلَ الحرامَ ولم يتحاشَ منه مُحلِّلاً له، وإن كانَ لا يعتقدُ حلَّه. وبكلّ حالٍ، فهذا الحديثُ يدلُّ على أن من قامَ بالواجباتِ، وانتهى عن المحرَّماتِ، دخلَ الجنَّةَ. وقد تواترتِ الأحاديثُ عنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - بهذا المعنى، أو ما هو قريب منه.

قوله تعالى: (واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى)

قوله تعالى: (وَاتَّخِذُوا مِن مَّقَامِ إبْرَاهِيمَ مُصَلًّى) [قالَ البخاريُّ] : "بابُ: قولِ اللَّهِ عزَّ وجلَّ: (وَاتَّخِذُوا مِن مَّقَامِ إبْرَاهِيمَ مُصَلًّى) . حديثُ عمرَ في سببِ نزولِ هذه الآيةِ، قد خرَّجهُ البخاريُّ فيما بعد. وسيأتي في موضعِهِ قريبًا - إن شاء اللَّه تعالَى. [قالَ البخاريُّ] : حدَّثنا الحُميْديُّ: ثنا سفيانُ: ثنا عمْرُو بنُ دينارٍ، قالَ: سألنا ابنَ عُمَرَ عن رجلٍ طافَ بالبيتِ العُمْرةَ، ولمْ يطفْ بيْنَ الصفا والمرْوةِ. أيأتِي امرأتَه؟ فقالَ: قدِمَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - فطافَ بالبيْتِ سبْعًا، وصلَّى خلفَ المقامِ ركْعتينِ، وطافَ بيْنَ الصَّفا والمرْوةِ، وقدْ كانَ لكُمْ في رسولِ اللَّهِ أسْوَةٌ حسنةٌ. وسألنا جابرَ بنَ عبد اللَّه، فقالَ: لا يقْربنَّها حتَّى يطوف بيْن الصَّفا والمروة. مقصودُهُ من هذا الحديثِ هاهنا: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - لما اعتمرَ طافَ بالبيتِ وصلَّى خلف المقامِ ركعتينِ، وكذلك فَعلَ في حَجتِهِ - أيضًا. وقد رَوى جابر أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - تلا هذهِ الآيةَ عندَ صلاتِهِ خلف المقامِ: (وَاتَّخِذوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى) . خرَّجه مسلمٌ. وهذا كلُّه يدلّ على أنَّ المرادَ بمقامِ إبراهيمَ في الآيةِ: مقامُه المُسمَّى بذلكَ

عندَ البيتِ، وهوَ الحَجَرُ الذي كانَ فيه أثرُ قدمِه عليه السلام، وهذا قولُ كثيرٍ منَ المفسرينَ. وقال كثير منهم: المرادُ بمقامِ إبراهيمَ: الحجُّ كلُّه. وبعضُهم قالَ: الحرمُ كلُّه. وبعضُهم قالَ: الوقوفُ بعرفةَ، ورميُ الجمارِ والطوافُ، وفسَّرُوا المصلَّى: بالدعاءِ، وهو موضعُ الدعاءِ. ورُوي هذا المعنى عن ابنِ عباسٍ ومجاهدٍ وغيرِهِما. وقد يُجْمعُ بين القولينِ، بأنْ يُقالَ: الصلاةُ خلفَ المقامِ المعروف داخل فيما أُمِرَ به من الاقتداءِ بإبراهيمَ عليه السلامُ مما في أفعالِهِ في مناسكِ الحجِّ كلِّها واتخاذِهَا مواضعَ للدعاءِ وذكرِ اللَّهِ. كما قالتْ عائشةُ - ورُوي مرفوعًا -: "إنَّما جُعِلَ الطوافُ بالبيتِ والسعيُ بينَ الصفا والمروةِ ورَمْيُ الجمارِ لإقامةِ ذِكْرِ اللهِ ". خرَّجه أبو داودَ والترمذيُّ. فدلالةُ الآيةِ على الصلاةِ خلفَ مقامِ إبراهيمَ عليه السلامُ لا تُنافي دلالتَها على الوقوفِ في جميع مواقفِه في الحجِّ لذكرِ اللَّهِ ودعائِهِ والابتهالِ إليهِ. واللَّه أعلمُ. وبكلِّ حالٍ؛ فالأمرُ باتخاذِ مقامِ إبراهيمَ مُصلًّى لا يدْخلُ فيه الصلاةُ إلى البيتِ إلا أن تكونَ الآيةُ نزلتْ بعد الأمرِ باستقبالِهِ، وحديثُ عمر قد يُشرعُ بذلك.

فيكون حينئذٍ مما أُمِرَ به من اتخاذ مقامِ إبراهيمَ مُصلًّى: استقبالُ البيتِ الذي بناهُ في الصلاةِ إليه، كما كانَ إبراهيمُ يستقبلُهُ، وخصوصًا إذا كانتِ الصلاةُ عندَهُ. وعلى هذا التقديرِ يَظْهرُ وجهُ تبويبِ البخاريِّ على هذه الآية في "أبواب استقبالِ القبلةِ"، وإلا ففيه قَلَقٌ. واللَّه أعلمُ. * * * [قالَ البخاريُّ] : حدَّثنا عمْرُو بْنُ عوْنٍ: ثنا هُشيْمٌ، عنْ حمُيدٍ، عنْ أنسٍ، قالَ: قالَ عُمَرُ: وافقتُ ربي في ثلاثٍ: قُلتُ: يا رسولَ اللَّهِ، لو اتَّخَذْنَا منْ مقامِ إبراهيمَ مُصلًّى، فنزلَتْ: (وَاتَّخِذُوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهيم مُصَلًّى) ، وآيةُ الحِجابِ، قُلتُ: يا رسولَ اللَّه، لوْ أمرتَ نساءَكَ أن يحْتَجِبْنَ، فإنَه يُكَلِّمُهُن البَرُّ والفاجرُ، فنزلَتْ آيةُ الحِجابِ، واجْتَمعَ نساءُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في الغيْرةِ عليْهِ، فقُلْتُ لهُن: (عَسَى رَبُّهُ إِن طَلَّقَكنَّ أَن يُبْدِلَهُ أزوَاجًا خَيْرًا مِّنكُنَّ) ، فنزلتْ هذهِ الآيةُ. وقالَ ابنُ أبي مريمَ: أبنا يحيى بنُ أيوبَ: حدَّثني حُميدٌ، قالَ: سمعتُ أنسًا - بهذا. هذا الحديثُ مشهورٌ عن حميدٍ، عنْ أنسٍ، وقد خرَّجَهُ البخاريُّ - أيضًا - في "التفسيرِ" من حديثِ يحيى بن سعيدٍ، عنْ حُميدٍ. ورواه - أيضًا - يزيدُ بن زُرَيعْ وابن عُليَّةَ وابنُ أبي عدي وحماد بنُ سلمةَ

وغيرُهُم، عن حميدٍ، عنْ أنسٍ. وإنَّما ذكرَ البخاريُّ روايةَ يحيى بنِ أيوبَ: حدثنى حميد، قالَ: سمعتُ أنسًا؛ ليبينَ به أنَّ حميدًا سمعَهُ من أنس، فإنّ حميدًا يروي عن أنسٍ كثيرًا. ورُوي عن حمادِ بنِ سلمةَ، أنَّه قالَ: أكثرُ حديثِ حميد لم يسمعْه من أنسٍ، إنَما سمعه من ثابت، عنهُ. ورُوي عن شعبةَ، أنه لم يسمعْ من أنسٍ إلا خمسةَ أحاديث. وروي عنه، أنَّه لم يسمع منه إلا بضعة وعشرينَ حديثًا. وقد سبقَ القولُ في تسامح يحيى بنِ أيوبَ والمصريينَ والشاميينَ في لفظةِ: "ثنا" -: كما قاله الإسماعيليُّ. وقالَ عليٌّ بنُ المدينيُّ في هذا الحديثِ: هو من صحيح الحديثِ. ولم يخرِّجْ مسلمٌ هذَا الحديثَ، إنَّما خرَّج من روايةِ سعيدِ بنِ عامرٍ. عن جُويريةَ، عن نافع، عن ابنِ عمرَ، عن عُمرَ، قالَ: وافقتُ ربِّي في ثلاثٍ: في الحجابِ، وفي أُسارَى بَدْرٍ، وفي مقامِ إبراهيمَ. وقد أعلَّه الحافظُ أبو الفضلِ بنُ عمارٍ الشهيدُ - رحمه اللَّهُ - بأنَّه روي عن سعيدِ بنِ عامرٍ، عن جُويريةَ، عن رجل، عن نافع، أنَّ عُمرَ قالَ: وافقتُ ربي في ثلاث: فدخَلَ في إسنادِهِ رجلٌ مجهولٌ، وصار منقطعًا. وروى ابنُ أبي حاتم من طريقِ عبدِ الوهابِ بنِ عطاءٍ، عن ابنِ جُريج،

عن جعفرِ بنِ محمدٍ، عن أبيه: سمعتُ جابرًا يُحدِّث عن حجةِ الوداع قالَ: لما طافَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ له عُمرُ: هذا مقامُ إبراهيمَ؟ قالَ: "نعمَ "، قالَ: أفلا نتخذُهُ مُصلًّى؛ فأنزلَ اللَّهُ (وَاتَّخِذُوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى) . وهذا غريب، وهو يدلُّ على أنَّ هذا القولَ كانَ في حجةِ الوداع، وأنَّ الآيةَ نزلتْ بعد ذلكَ، وهو بعيدٌ جدًّا، وعبدُ الوهابِ ليسَ بذاك المتقنِ. وقد خالفَهُ الحفاظُ، فرووا في حديثِ حجةِ الوداع الطويلِ، عن جعفرِ بنِ محمدٍ، عن أبيه، عن جابرٍ، أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أتى إلى المقامِ، وقرأ: (وَاتَّخِذُوا مِن مقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى) ، ثم صلَّى ركعتينِ، والمقامُ بينه وبينَ البيتِ. وروى الوليدُ بنُ مسلم، عنْ مالكٍ، عن جعفرٍ، عن أبيهِ، عن جابرٍ. قالَ: لمَّا وقفَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يومَ فتح مكةَ عندَ مقامِ إبراهيمَ، قالَ له عُمَرُ: يا رسول اللهِ، هذا مقامُ إبراهيمَ الذي قالَ اللَهُ: (وَاتَخِذُوا مِن مّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى) ؟ قال: "نعَمْ ". قال الوليدُ: قلتُ لمالكٍ: هكذا حدَّثك؟ قال: نعَمْ. وقد خرَّجه النسائي بمعناه. والوليدُ كثيرُ الخطأِ -: قاله أبو حاتمٍ وأبو داودَ وغيرُهُما. وذكر فتح مكةَ فيه غريب أو وهْمٌ، فإنَّ هذا قطعةٌ من حديثِ جابرٍ في حجةِ الوداع.

وقد رُويَ حديثُ أنسٍ، عن عُمرَ من وجهٍ آخر: خرَّجه أبو داودُ الطيالسيُّ: ثنا حمادُ بنُ سلمةَ: ثنا علي بن زيدٍ، عن أنسٍ، قالَ: قالَ عمرُ: وافقتُ ربِّي في أربع - فذكرَ الخصالَ الثلاثَ المذكورةَ في حديثِ حميدٍ، إلا أنَّه قال في الحِجابِ: فأنزلَ اللَّهُ: (وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ) ، قال: ونزلتْ هذه الآيةُ: (ولَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن سُلالَةٍ مِّن طِينٍ) ، فلما نزلتْ قلتُ أنا: تباركَ اللَّهُ أحسنُ الخالقينَ، فنزلَ: (فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ) . وقولُ عُمرَ: "وافقتُ ربِّي في ثلاثٍ "، ليسَ بصيغةِ حصرٍ، فقدْ وافقَ في أكثرَ من هذه الخصالِ الثلاثِ والأربع. ومما وافقَ فيه القرآنَ قبلَ نزولهِ: النهيُّ عن الصلاةِ على المنافقينَ. وقولُهُ لليهودِ: من كانَ عدوًّا لجبريلَ، فنزلتِ الآيةُ. وقولُهُ للنبي - صلى الله عليه وسلم - لما اعتزل نساءَه ووَجَدَ عليهنَّ: يا رسولَ اللَّهِ، إنْ كنتَ طلقتَهَنَّ، فإن اللَّه معكَ وملائكتَه وجبريلَ وميكائيل، وأنا وأبو بكر والمؤمنونَ معك. قالَ عمرُ: وقلَّ ما تكلمتُ - وأحمدُ اللَّهَ - بكلامٍ إلا رجوتُ أن يكونَ اللَّه يصدِّقُ قولِي الذي أقولُ، فنزلتْ آيةُ التخييرِ: (عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ) . وقد خرَّج هذا الأخيرَ مسلمٌ من حديثِ ابنِ عباسٍ، عن عمرَ. وأما موافقتُهُ في النهيِّ عنِ الصلاةِ على المنافقينَ، فمخرَّجٌ في

قوله تعالى: (وما كان الله ليضيع إيمانكم)

"الصحيحينِ " من حديثِ ابنِ عباسٍ، عن عُمرَ - أيضًا. وأما موامفقتُهُ في قولِهِ: (مَن كَانَ عَدُوًّا لِّجِبْرِيلَ) ، فرواه: أبو جعفرٍ الرازيُّ، عن حُصينِ بنِ عبدِ الرحمنِ، عنْ ابنِ أبي ليلى، عن عُمرَ. ورواه: داودُ، عن الشعبيِّ، عن عمرَ، هما منقطعانِ. وقد رُوي موافقته في خصالٍ أخَرَ، وقد عدَّ الحافظُ أبو موسى المدينيُّ من ذلك اثنتي عشرةَ خصلةً. وتخريجُ البخاريِّ لهذا الحديثِ في هذا البابِ: يدلّ على أنه فسر قولَهُ تعالَى: (وَاتَخِذُوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى) ، بالأمرِ بالصلاةِ إلى البيتِ الذي بناهُ إبراهيمُ، وهو الكعبةُ، والأكثرونَ على خلاف ذلكَ، كما سبقَ ذكرُه. * * * قوله تعالى: (وَمَا كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ) خرَّج البخاريُّ ومسلم: من حديثِ: أبي إسحاقَ، عن البراءِ، أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كانَ أولَ ما قدِمَ المدينةَ نزَلَ على أجْدادِهِ - أوْ قالَ: أخوالِهِ - من الأنْصارِ، وأنَّه صلَّى قِبَلَ بيتِ المقْدسِ ستَّةَ عشرَ شهرًا - أوْ سبعة عشر شهْرًا - وكان يُعجبُهُ أنْ تكونَ قبْلَتُهُ قِبَلَ البيت، وأنَّه صلَّى أوَّل صلاة صلاَّها صلاةَ العصرِ، وصلَّى معه قومٌ، فخرجَ رجل ممَّنْ صلَّى معه، فمرَّ على أهْلِ مسجدٍ وهُمْ راكعُونَ، فقال: أشْهَدُ باللَّه، لقدْ صلَّيْتُ مع رسولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قبَلَ مكَّةَ،

فدارُوا كما هُمْ قِبَلَ البيْتِ. وكانتِ اليهودُ قد أعْجبَهُم إذْ كانَ يُصلِّي قِبلَ بيتِ المقدسِ. وأهلُ الكتابِ، فلمَّا ولَّى وجهه قبل البيتِ، أنكروا ذلك. قال زُهيْر: ثنا أبو إسحاقَ، عنِ البراءِ - في حديثِهِ هذا - أنَّه ماتَ على القبْلةِ قبْلَ أن تُحوَّل رجالٌ وقُتِلُوا، فلم نَدْرِ ما نقولُ فيهم، فأنزلَ اللَّه تعالى: (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ) . قالَ البخاريُّ: يعنِي: صلاتَكُمْ. وبوَّبَ على هذا الحديثِ: "بابُ: الصلاةِ منَ الإيمانِ ". والأنصارُ للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فيهم نسب؛ فإنَهم أجدادُه وأخوالُه من جهةِ جدِّ أبيه هاشمِ بنِ عبدِ منافٍ، فإنه تزوَّج بالمدينة امرأةً من بني عديِّ بنِ النجارِ، يُقالُ لها: سلمَى، فولدتْ له ابنَه عبدَ المطلبِ، وفي رأسِهِ شيبة، فسمِّي شيبةً. وذكرَ ابنُ قتيبةَ: أن اسمَهُ عامر، والصحيحُ: أن اسمَه شيبة. وإنَّما قيل له: عبدُ المطلب؛ لأنَّ عمَّه المطلبَ بنَ عبدِ مناف قدمَ به منَ المدينةِ إلى مكة، فقالتْ قريش: هذا عبدُ المطلبِ، فقالَ: ويحكُم، إنَّما هو ابنُ أخي شيبةُ بنُ عمرو، وهاشم اسمُه عمْرو. ففي حديث البراءِ هذا: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - لما قدِمَ المدينةَ نزلَ على اجدادِهِ - أو قالَ: أخوالِهِ - منَ الأنصارِ. وظاهرُهُ: يدلُّ على أنَه نزلَ على بني النجار؛ لأنَّهم هُمْ أخوالُه وأجدادُه. وإنما أرادَ البراءُ جنسَ الأنصارِ دونَ خصوصِ بني النجارِ. وقد خرَّج البخاريُ في "كتاب الصلاةِ" و"أبواب الهجرةِ" من حديثِ .

أنسٍ، أنَّ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - لما قدِمَ المدينةَ نزلَ في علوِ المدينة، في حيٍّ يقالَ لهمْ: بنُو عمْرو بنِ عوفٍ، فأقامَ فيهم أربعَ عشرة ليلةً، ثم أرسلَ إلى ملإِ بني النجارِ، فجاءُوا متقلِّدينَ سيوفهم. قال: وكأني أنظر إلى رسولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - على راحلتِهِ وأبو بكرٍ ردفَه وملأُ بني النجارِ حولَهُ، حتى ألقى بفناءِ أبي أيوبَ - وذكرَ الحديثَ. وخرَّج - أيضًا - معنى ذلك، من حديث الزهريِّ، عن عروةَ بنِ الزبيرِ. وأما ما ذكرَهُ البراءُ في حديثِهِ: أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - صلَّى بالمدينةِ قِبَلَ بيت المقدسِ ستةَ عشرَ - أو سبعة عشرَ - شهرًا، فهذا شكّ منه في مقدارِ المدة. ورُوي عن ابنِ عباسٍ، أنَ مدةَ صلاتِهِ بالمدينةِ إلى بيتِ المقدسِ كانت ستةَ عشرَ شهرًا. خرَّجه أبو داودَ. وخرَّج - أيضًا - من حديثِ معاذٍ، أنَّ مدةَ ذلك كانَ ثلاثةَ عشرَ شهرًا. وروَى كثيرُ بنُ عبدِ اللَّهِ المُزنيّ - وهو ضعيفٌ -، عن أبيه، عن جدِّهِ عمرِو ابنِ عوف، قالَ: كنَّا معَ رسولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - حينَ قدِمَ المدينةَ، فصلَّى نحو بيتِ المقدسِ سبعةَ عشرَ شهرًا.

وقالَ سعيدُ بن المسيبِ: صلَّى رسولُ اللَّه - صلى الله عليه وسلم - نحوَ بيت المقدسِ تسعةَ عشرَ شهرًا، ثم حُوِّلتِ القبلةُ بعدَ ذلكَ قِبَلَ المسجدِ الحرامِ، قبْلَ بدرٍ بشهرينِ. ورواه بعضهم، عن سعيد، عن سعدِ بنِ أبي وقاصٍ. والحفاظُ يروْن، أنَّه لا يصحُ ذكرُ: "سعدِ بنِ أبي وقاصٍ " فيه. وقيلَ: عن سعيدِ بنِ المسيبِ - في هذا الحديثِ -: ستة عشرَ شهرًا. وكذا قالَ محمدُ بنُ كعبٍ القرظيُّ وقتادةُ وابنُ زيدٍ، وغيرُهُم: إنَّ مدةَ صلاتِهِ إلى بيتِ المقدسِ كانتْ ستة عشرَ شهرًا. وقالَ الواقديُّ: الثبتُ عندنا أنَّ القبلةَ حُوِّلتْ إلى الكعبةِ يوم الاثنينِ. للنصفِ من رجبٍ، على رأسِ سبعةَ عشرَ شهرًا. وعن السُّدِّيِّ، أنَّ ذلكَ كانَ على رأسِ ثمانيةَ عشرَ شهرًا. وقيلَ: كانَ بعدَ خمسةَ عشرَ شهرًا ونصف. ولا خلافَ أنَّ ذلك كانَ في السنةِ الثانيةِ منَ الهجرةِ، لكن اختلفوا في أيِّ شهرٍ كانَ؛ فقيلَ: في رجبٍ، كما تقدمَ، وحُكي ذلك عن الجمهورِ، منهم: ابنُ إسحاقَ. وقيلَ: في يومِ الثلاثاءِ نصفَ شعبانَ، وحُكيَ عن قتادةَ، واختارَه محمدُ

ابنُ حبيبٍ الهاشميُّ وغيرُهُ. وقيلَ: بل كانَ في جُمادى الأولِ، وحُكيَ عن إبراهيمَ الحربيَ، ورواه الزهريُّ عن عبدِ الرحمنِ بنِ عبدِ اللَّهِ بنِ كعبِ بنِ مالكٍ. وقولُهُ: "وكان يعجبُه - يعني: النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أن تكونَ قبلتُه قبلَ البيتِ " - يعني: الكعبةَ. هذا؛ يشهدُ له قولُ اللَّه تعالى: (قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ) . وروى معاويةُ بنُ صالحٍ، عن عليِّ بنِ أبي طلحةَ، عن ابنِ عباسٍ، قالَ: لما هاجرَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينةِ، وكانَ أكثرَ أهلِهَا اليهودُ، أمرَهُ اللَّهُ أنْ يستقبلَ بيتَ المقدسِ، ففرحتِ اليهودُ، فاستقبلَها رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بضعةَ عشر شهرًا، فكانَ رسولُ اللَّه - صلى الله عليه وسلم - يحبُ قبلة إبراهيمَ، فكانَ يدعو وينظرُ إلى السماءِ. فأنزلَ اللَّهُ: (قَذ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ) الآية. وقالَ مجاهد: إنَّما كان يحبُّ أنْ يُحوَّل إلى الكعبة، لأنَّ يهودَ قالُوا: يخالفُنا محمد ويتبعُ قبلَتنا. وقالَ ابنُ زيد: لمَّا لْزلَ: (فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ) . قالَ رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: "هؤلاءِ قومُ يهود يستقبلون بينًا من بيوت اللَّهِ - لبيتِ المقدسِ - لو أئا استقبلناه "، فاستقبلَه النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - ستةَ عشرَ شهرًا، فبلغَه أن اليهود تقولُ: واللهِ، ما درى محمد وأصحابُهُ أين قبلتُهُم حتَّى هديناهم، فكرهَ ذلك النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - ورفع وجهَه إلى السماءِ، فنزلتْ هذه الآية ُ: (قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ) .

ويشهدُ لهذا: ما في حديثِ البراءِ: "وكانتِ اليهودُ قد أعجبَهم إذْ كان يصلِّي قِبلَ بيتِ المقدسِ وأهلُ الكتابِ - يعني: من غيرِ اليهودِ، وهُم النصارَى - فلمَّا ولَّى وجهَه قِبلَ البيتِ أنكرُوا ذلك ". وقد اختلفَ الناسُ: هل كانَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بمكةَ قبلَ هجرتِهِ يصلِّي إلى بيتِ المقدسِ، أو إلى الكعبة؟ فرُوي عن ابنِ عباسٍ، أنَّه كانَ يصلِّي بمكةَ نحوَ بيتِ المقدسِ، والكعبةُ بينَ يديه. خرَّجه الإمام أحمدُ. وقال ابنُ جُرَيج: صلَّى أول ما صلَّى إلى الكعبةِ، ثم صُرِفَ إلى بيتِ المقدسِ، وهو بمكةَ، فصلَّتِ الأنصارُ قبْلَ قدومِهِ - صلى الله عليه وسلم - إلى بيتِ المقدسِ ثلاثَ حجج، وصلَّى بعد قدومِهِ ستةَ عشرَ شهرًا، ثم وجَّههُ اللَّهُ إلى البيت الحرامِ. وقال قتادةُ: صلتِ الأنصارُ قبلَ قدومِهِ - صلى الله عليه وسلم - المدينةَ نحوَ بيتِ المقدسِ حولينِ. واستدل من قال: إنَّما صلَّى النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - إلى بيتِ المقدسِ ستةَ عشرَ شهرًا، أو سبعةَ عشرَ شهرًا، فدل على أنَّه لم يصلِّ إليه غيرَ هذهِ المدة. ولكن قد يقال: إنَّه إنَّما أرادَ بعدَ الهجرةِ.

ويدلُّ عليه - أيضًا -: أن جبريلَ صلَّى بالنبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أولَ ما فُرضتِ الصلاةُ عند بابِ البيتِ، والمصلِّي عند بابِ البيتِ لا يستقبلُ بيتَ المقدس، إلا أن ينحرفَ عن الكعبةِ بالكليَّة ِ، ويجعلُها عن شمالِهِ، ولم ينقلْ هذا أحد [] . وهؤلاءِ" منهم مَن قال: ذلكَ كانَ باجتهادٍ منه لا بوحي، كما تقدمَ عن ابنِ زيدٍ. وكذا قالَ أبو العاليةَ: إنَّه صلَّى إلى بيتِ المقدسِ يتألفُ أهلَ الكتابِ. وفي "صحيح الحاكم " عن ابنِ جريج، عن عطاءٍ، عن ابنِ عباسٍ: (وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ) ، فاستقبل رسولُ اللَّه - صلى الله عليه وسلم -، فصلَّى نحوَ بيت المقدسِ. وتركَ البيتَ العتيقَ، فقالَ الله تعالى: (سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا) . يعنونَ: بيتَ المقدسِ، فنسخَها اللَّهُ وصرفَه إلى بيتِ العتيقِ. وقال: صحيح على شرطِهِما. وليس كما قال " فإنَّ عطاءً هذا هو الخُراسانيُّ، ولم يلقَ ابنَ عامرٍ. كذا وقعَ مصرَحًا بنسبَتِهِ في "كتاب الناسخ والمنسوخ " لأبي عبيدٍ، ولابنِ أبي داودَ، وغيرِهِما. وقولُ البراءِ: "وكانَ أول صلاة صلاها العصرَ". يعني: إلى الكعبةِ، بعدَ الهجرةِ. وقد رُوي عن عمارةَ بنِ أوسٍ - وكانَ قد صلَّى القبلتينِ -، قالَ: كنَّا في

إحدى صلاتَي العشيِّ ونحنُ نصلِّي إلى بيت المقدسِ، وقد قضيْنَا بعضَ الصلاةِ، إذْ نادى منادٍ بالبابِ: إنَّ القبلةَ قد حُوّلتْ، فأشهدُ على إمامِنا أنَّه تحرَف. خرَّجه الأثرمُ وغيرُهُ. وخرَّج الأثرمُ وابنُ أبي حاتمٍ من حديثِ تُوَيْلة بنت أسلمَ، قالت: صليتُ الظهرَ - أو العصرَ - في مسجدِ بني حارثةَ، فاستقبلْنَا مسجدَ إيلياءَ. فصليْنَا سجدتينِ، ثمَّ جاءنا مَن يخبرُنا أنَّ رسول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قد استقبلَ البيتَ الحرامَ، فتحوَّل النساءُ مكانَ الرجال، والرجال مكانَ النساء، فصَلَّيْنَا السجدتينِ الباقيتينِ، ونحنُ مستقبلو البيتِ الحرامِ. وقد رُوي أن هذه الصلاةَ كانتْ صلاةَ الفجرِ. ففي "الصحيحينِ " عن ابنِ عمرَ، قال: بينَا الناسُ بقباءَ في صلاةِ الصبح، إذ جاءهم آتٍ، فقال: إنَّ رسول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قدْ أُنزل عليه الليلةَ قرآنٌ، وقد أُمِرَ أن يستقبلَ الكعبة، فاسْتَقْبِلُوها، وكانتْ وجوهُهُم إلى الشامِ، فاستدارُوا إلى الكعبة. وخرَّج مسلمٌ - معناه - من حديث أنس - أيضًا.

وقد قيلَ - في الجمع بينَ الأحاديثِ -: إنَّ التحويلَ كان في صلاةِ العصرِ. ولم يبلغْ أهلَ قباءَ إلا في صلاةِ الصبح. وفيه نظرٌ. وقيلَ: إنَّ تلكَ الصلاةَ كانتِ الظهرَ. وقد خرَّجه النسائيُّ فى "تفسيرِه " من حديث أبى سعيد بن المعلَّى، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ورُوي عن مجاهدٍ. وحديثُ البراءِ: يدل على أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - صلَّى صلاةَ العصرِ كلَّها إلى الكعبةِ، وأنَّ الذين صلَّوْا إلى بيتِ المقدسِ ثمَّ استدارُوا إلى الكعبةِ هُم قومٌ كانوا في مسجد لهمْ، وراءَ إمامٍ لهم، وفي حديثِ ابنِ عمرَ: أنَّهم أهلُ مسجدِ قباءَ، وفي حديثِ تويلة: مسجدِ بني حارثةَ. وقد رُوي أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - ومَن صلَّى معه هم الذينَ استدارُوا في صلاتهم، وأنَّ الكعبة حُوّلتْ في أثناءِ صلاتِهِم. وقد رُوي نحوُه عن مجاهدٍ وغيره. وقد ذكرَ ابنُ سعدٍ في "كتابِهِ "، قال: يقالُ: إنَّ رسولَ اللَّه - صلى الله عليه وسلم - صلى ركعتين من الظهرِ في المسجدِ بالمسلمين، ثم أُمِرَ أن يتوجهَ إلى المسجد الحرامِ، واستدارَ إليه ودارَ معه المسلمون، ويقال: بل زارَ رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أمًّ بشرِ بنِ البراءِ بنِ معرور

في بني سلمةَ، فصنعتْ لهم طعامًا، وكانت الظهرُ، فصلَّى رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بأصحابِهِ ركعتينِ، ثم أُمِرَ أنْ يوجه إلى الكعبةِ، فاستدارَ إلى الكعبةِ، واستقبلَ الميزابَ، فسُمِّي المسجدُ مسجدَ القبلتينِ. وحَكَى عن الواقديّ، أنَّه قال: هذا الثبتُ عندنا. وروى أبو مالكٍ النخَعيُّ عبدُ الملكِ بنُ حسينٍ، عن زيادِ بنِ عِلاقةَ، عن عمارةَ بنِ رُويبةَ، قال: كُنَّا معَ رسولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - في إحدى صلاتَي العشيِّ، حينَ صُرِفتِ القبلةُ، فدارَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - ودُرْنَا معه في ركعتينِ. خرَّجه ابنُ أبي داود. وأبو مالكٍ، ضعيف جدًّا. والصوابُ: روايةُ قيسِ بنِ الربيع، عن زيادِ بنِ علاقةَ، عن عمارةَ بنِ أوسٍ، وقد سبق لفظُه. ورَوى عثمانُ بنُ سعدٍ، قال: ثنا أنسُ بنُ مالكٍ، قالَ: انصرفَ رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - نحوَ بيتِ المقدسِ وهو يصلِّي الظهرَ، وانصرفَ بوجهه إلى القبلةِ. خرَّجه البزارُ وغيرُهُ. وعثمانُ هذا، تُكُلِّمَ فيه. وخرَّج الطبرانيّ من روايةِ عمارةَ بنِ زاذانَ، عن ثابتٍ، عن أنسٍ،

قال: صُرفَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - عن القبلةِ وهم في الصلاةِ، فانحرفُوا في ركوعِهم. وعمارةُ، ليسَ بالقويِّ. وخالفَه حماد بنُ سلمةَ، فروى عن ثابتٍ، عن أنسٍ، أنَّ رسول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كانَ يصلِّي نحوَ بيتِ المقدسِ، فنزلتْ: (قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ) الآيةَ، فمرَّ رجلٌ من بني سلمةَ وهم ركوع في صلاةِ الفجرِ، فنادَى: ألا إنَّ القبلةَ قد حُوِّلت، فمالُوا كما هُمْ نحوَ القبلةِ. خرَّجه مسلمٌ. وهذا هو الصحيحُ. فإنْ كانَ التحويلُ قد وقعَ في أثناءِ الصلاةِ، وقد بنى النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - على ما مضى من صلاتِه إلى بيت المقدسِ؛ استدلَّ بذلكَ على أنَّ الحكمَ إذا تَحوَلَ المصلِّي في أثناء صلاتِهِ انتقلَ ما تحوَّل إليه، وبنى على ما مضى من صلاته. فيدخلُ في ذلكَ الأَمَةُ إذا أُعتِقَتْ في صلاتِها وهي مكشوفةُ الرأسِ. والسترة قريبةٌ، والمتيممُ إذا وجدَ الماءَ في صلاتِهِ قريبًا، وقدرَ على الطهارةِ بهِ، والمريضُ إذا صلَّى بعضَ صلاتِهِ قاعدًا، ثم قدرَ على القيامِ. وإنْ كانَ التحويلُ وقعَ قبلَ صلاةِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - بأصحابِهِ، ولكن لم يبلغْ غيرَهم إلا في أثناءِ صلاتِهِم فبنَوْا؛ استدلَّ به على أن من دخلَ في صلاتِه باجتهادٍ سائغ إلى جهةٍ، ثمَّ تبينَ لهُ الخطأُ في أثناءِ الصلاةِ، أنَّه ينتقل ويبني. ويستدلُّ به على أنَّ حكمَ الخطابِ لا يتعلقُ بالمكلفِ قبلَ بلوغِهِ إياه.

ويستدلُّ بهِ - على التَّقْديرَينِ - على قبولِ خبرِ الواحدِ الثقةِ في أمورِ الدياناتِ، مع إمكانِ السماع منَ الرسولِ - صلى الله عليه وسلم - بغيرِ واسطةٍ، فمع تعذرِ ذلكَ أولَى وأحرى. وما يقالُ من أنَّ هذا يلزمُ منه نسخُ المتواترِ - وهو الصلاةُ إلى بيتِ المقدسِ - بخبرِ الواحدِ، فالتحقيقُ في جوابِهِ: أنَّ خبرَ الواحدِ يفيدُ العلمَ إذا احتفتْ بهِ القرائنُ، فنداءُ صحابيًّ في الطرقِ والأسواقِ بحيثُ يسمعُهُ المسلمونَ كلُّهم بالمدينةِ، ورسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بها موجود لا يتداخل مَن سمِعَه شكّ فيه أنَّه صادق فيما يقولُهُ وينادي به. واللَّهُ أعلم. وقولُ البراءِ: "إنَّه ماتَ على القبلةِ قبلَ أن تُحوَّل رجالٌ وقُتِلُوا، فلم ندرِ ما نقولُ فيهم، فأنزلَ اللَّهُ: (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضيعَ إِيمَانَكمْ) ". فهذا خرَّجه مسلمٌ من طريقِ إسرائيلَ، عن أبي إسحاقَ، عنِ البراءِ - أيضًا. ورواه شريكٌ، عن أبي إسحاقَ، عن البراءِ - موقوفًا - في قولِهِ تعالى: (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيضِيعَ إِيمَانَكُمْ) ، قالَ: صلاتكم إلى بيتِ المقدسِ. وخرَّجَ الإمامُ أحمدُ وأبو داودَ والترمذيُّ - وصحَّحه - من حديثِ سماكٍ، عن عكرمةَ، عنِ ابنِ عباسٍ، قال: لما وُجِّه النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - إلى الكعبةِ، قالُوا: يا رسولَ اللَّهِ، كيفَ بإخوانِنا الذَيْنَ ماتُوا وهُم يصلونَ إلى بيتِ

المقدسِ؛ فأنزل اللَّهُ عزَّ وجلَّ: (وَمَا كَانَ اللَّه لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ) الآية. قالَ عبيدُ اللَّه بنُ موسى: هذا الحديثُ يخبرُكَ أن الصلاةَ من الإيمانِ. وهذا هو الذي بوَّبَ عليه البخاريُّ في هذا الموضع؛ ولأجلهِ ساقَ حديثَ البراءِ فيه. وكذلك استدلَّ به ابنُ عيينةَ وغيرُهُ من العلماءِ على أنَّ الصلاةَ من الإيمانِ. وممَّن رُويَ عنه أنَّه فسَّر هذه الآيةَ بالصلاةِ إلى بيتِ المقدسِ: ابنُ عباسٍ من روايةِ العوفيِّ، عنه - وسعيدُ بنُ المسيبِ، وابنُ زيدٍ، والسُّدِّيُّ وغيرُهُم. وقال قتادةُ والربيعُ بنُ أنسٍ: نزلتْ هذه الآية ُ لمَّا قالَ قومٌ من المسلمينَ: كيف بأعمالِنا التي كنا نعملُ في قبلتنا الأولى؟ وهذا يدلُّ على أنَّ المرادَ بها الصلاةُ أيضًا؛ لأنَّها هي التى تختصُّ بالقبلة من بينِ الأعمال، ولم يذكرْ أكثرُ المفسرينَ في هذا خلافًا، وأنَّ المرادَ بالإيمانِ ها هنا الصلاةُ، فإنَّها عَلمُ الإيمانِ وأعظمُ خصالِهِ البدنيةِ. وروى ابنُ إسحاقَ: حدثني محمدُ بنُ أبي محمدٍ، عن عكرمة أو سعيدِ ابنِ جبير -، عن ابنِ عباسٍ: (وَمَا كَانَ اللَّه لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ) .

قوله تعالى: (فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون (152)

قال: أيْ: بالقبلةِ الأولى، وتصديقِكم نبيَّكم، واتِّباعه إلى الآخرةِ، أيْ: ليعطينَكم أجرَهما جميعًا، (إِنَّ اللهَ بِالناسِ لَرَءُوفٌ رحِيمٌ) . وعنِ الحسنِ في هذه الآيةِ، قالَ: ما كانَ اللَّهُ ليضيعَ محمدًا - صلى الله عليه وسلم - وانصرافَكم معه حيثُ انصرفَ، (إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رحِيمٌ) . وهذا القولُ: يدلُّ على أنَّ المرادَ بالإيمانِ التصديقُ مع الانقياد، الاتباعُ المتعلقُ بالقبلتينِ معاً، فيدخلُ في ذلكَ الصلاةُ - أيضًا. * * * قوله تعالى: (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ (152) وفي "صحيح مسلم" عن أبي هريرةَ وأبي سعيدٍ - كلاهُما - عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: "إنَّ لأهلِ ذكرِ اللَّهِ أربعا: تنزلُ عليهمُ السَّكينةُ، وتغشاهمُ الرَّحمةُ، وتحفُّ بهم الملائكةُ، ويذكرُهُم الرَّبُّ فيمن عندَهُ". وقد قالَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ: (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ) ، وذِكْرُ اللَّهِ لعبدِهِ: هو ثناؤهُ عليهِ في الملإِ الأعلَى بين الملائكةِ ومباهاتُهُم به وتنويهُهُ بذكره. قال الربيعُ بنُ أنسٍ: إنَّ اللَّهَ ذاكر مَنْ ذكرهُ، وزائد مَنْ شكَرَهُ، ومعذِّب من كفره. وقال عزَ وجلَّ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (42) هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ) .

وصلاةُ اللَّهِ عزَّ وجلَّ على العبدِ: هو ثناؤهُ عليهِ بين ملائكته. وتنويههُ بذكر، كذا قالَ أبو العاليةَ، ذكرهُ البخاريُّ في "صحيحِهِ ". وقالَ رجل لأبي أمامةَ: رأيتُ في المنامِ كأن الملائكةَ تُصلّي عليكَ كلَّما دخلتَ، وكلَّما خرجتَ، وكلَّما قمتَ، وكلَّما جلستَ، فقالَ أبو أمامةَ: وأنتم لو شئتم صلَّت عليكم الملائكةُ، ثم قرأ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (42) هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ) . * * * قالَ تعالى: (وَاشْكرُوا لِي وَلا تَكْفُرونِ) ، وقال: (وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) . والشكرُ بالقلب واللسانِ، والعملُ بالجوارح؛ فالشكرُ بالقلبِ: الاعترافُ بالنعم للمنعم، وأَنها منه وبفضلِهِ. وجاءَ من حديثِ عائشةَ مرفوعًا: "ما أنعمَ اللَّهُ على عبد نعمةً فعلمَ أنَّها من عندِ اللَّهِ إلا كتبَ اللَهُ له شكرَهَا". ومن الشكر بالقلبِ: محبةُ اللهِ على نعمِهِ، ومنه حديثُ ابنِ عباسٍ المرفوعُ: "أحبوا اللَّهَ لما يغذوكُم به من نعمِهِ ". قالَ بعضُهم: إذا كانتِ القلوبُ جبلتْ على حبِّ من أحسنَ إليهَا فواعجبًا لمنْ لا يَرى محسِنًا إلا اللَّه! كيف لا يميلُ بكلِّيته إليه! وقالَ بعضُهم:

إذا أنتَ لم تَزْددْ على كلِّ نعمة. . . لمؤتِيكَهَا حبًّا فلستَ بشَاكرٍ إذا أنتَ لم تؤثرْ رِضا اللهِ وحدَهُ. . . على كلِّ ما تهْوَى فلستَ بصَابرٍ والشكرُ باللسانِ: الثناءُ بالنعم وذكرُها وتعدادُها، وإظهارُهَا، قالَ اللَّهُ تعالى: (وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ) . وفي حديثِ النعمانِ بنِ بشيرٍ المرفوع: "التحدثُ بالنعم شكر وتركُها كفر". وقالَ عمرُ بنُ عبدِ العزيزِ: "ذكرُ النعم شكرُها". وكانَ يقولُ في دعائِهِ: "اللَّهُمَّ إنِّي أعوذُ بكَ أن أُبدلَ نعمتَكَ كُفرًا، وأن أكفرَهَا بعد معرفتِهَا أو أنسَاهَا فلا أُثنِي بهَا". قال فضيلٌ: "كانَ يُقال: مِن شكرِ النعمةِ أن تحدِّثَ بهَا" وجلسَ ليلةً هو وابنُ عيينةَ يتذاكرنِ النعمَ إلى الصباح. والشكرُ بالجوارح: أن لا يستعانَ بالنعم إلا على طاعةِ اللَّهِ عزَّ وجلَّ، وأن يحذرَ من استعمالِهَا في شيءٍ من معاصِيه؛ قالَ تعالَى: (اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شكْرًا) . قال بعضُ السلف: "لما قيلَ لهم هذا؛ لم تأتِ عليهم ساعةٌ إلا وفيهم مُصَلٍّ. وكانَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يقومُ حتى تتورمَ قدماهُ. وقالَ: "أفلا أكونُ عبدًا شكورًا". ومرَّ ابنُ المنكدرِ بشابٍ يقاومُ امرأةً، فقالَ: "يا بنيَّ ما هذا جزاء نعمةِ اللَّهِ عليكَ ". العجبُ ممَّنْ يعلمُ أنَّ كلَّ ما بِهِ من النعم من اللَّهِ ثمَّ لا يستحيي من الاستعانةِ بها على ارتكابِ ما نهاهُ.

قوله تعالى: (وبشر الصابرين (155) الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون (156) أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون (157)

هبِ البعثَ لم تأتِنا رسلُهُ. . . وجَاحِمَةُ الجحيم لم تُضرَمِ أليسَ من الواجبِ المسْتَحِقِّ. . . حياءُ العبادِ من المُنعِمِ وحافظْ عليها بشكرِ الإلهِ. . . فشكرُ الإله يزيلُ النقمِ دخلَ خالدُ بنُ صفوانَ على عمرَ بنِ عبدِ العزيزِ، فقالً: يا أميرَ المؤمنينَ. إنَّ اللَّهَ لم يرضَ أن يكونَ أحدٌ فوقك، فلا ترضَ أن يكونَ أحدٌ أولى بالشكر له منكَ. فبكى عمرُحتى غُشِيَ عليهِ. * * * قوله تعالى: (وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157) الرِّضا فضلٌ مندوبٌ إليه، مستحبٌّ، والصبرُ واجبٌ على المؤمنِ حتمٌ. وفي الصَّبرِ خيرٌ كثيرٌ، فإنَّ اللَّه أمرَ به، ووعدَ عليه جزيلَ الأجرِ. قال اللَّهُ عزَّ وجلَّ: (إِنَّمَا يُوَفَى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ) . وقال: (وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157) . قال الحسنُ: الرِّضا عزيزٌ، ولكنَّ الصبر معولُ المؤمنِ. والفرقُ بين الرِّضا والصبرِ: أن الصَّبرَ: كفُّ النَّفس وحبسُها عن التسخطِ مع وجودِ الألم، وتمنِّي زوالِ ذلكَ، وكفُّ الجوارح عن العملِ : بمقتضَى الجزع، والرِّضا: انشراحُ الصدرِ وسعتُهُ بالقضاءِ، وترك تمنَي زوالِ ذلك المؤلم، وإنْ وجدَ الإحساسَ بالألمِ، لكنَّ الرِّضا يخفِّفُه، لما يباشر

القلبَ من رَوح اليقينِ والمعرفةِ، وإذا قوِيَ الرِّضا، فقد يزيلُ الإحساسَ بالألم بالكليّة. كان العقلاءُ في عهد النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - إذا سمعُوا كلامَهُ وما يدعُو إليه، عرفُوا أنَّه صادقٌ، وأنَه جاء بالحقًّ، وإذا سمعُوا كلامَ مسيلمةَ، عرفُوا أنَه كاذبٌ، وأنَّ هجاءَ بالباطلِ، وقد رُويَ أن عمرَو بنَ العاصِ سمعُهُ قبلَ إسلامِهِ يدَّعي أنَّه أنزلَ عليه: يا وَبْرُ يا وَبْر، لَكِ أذنانِ وصَدْرُ، وإنَّك لتعلمُ يا عمرُو، فقالَ: واللَّه إني لأعلم أنك: تكْذِبُ. وقال بعضُ المتقدمينُ: صوِّرْ ما شئتَ في قلبِكَ، وتفكَّر فيهِ، ثم قِسه إلى ضدِّه، فإنَّك إذا ميَّزْتَ بينهُمَا، عرفتَ الحقَّ من الباطلِ، والصدقَ من الكذبِ، قال: كأنك تصَورُ محمدًا - صلى الله عليه وسلم -، ثم تتفكر فيما أتَى به من القرآنِ فتقرأُ: (إنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ الَّليْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ) الآية، ثم تَتَصورُ ضدَّ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - تجدُهُ مسيلمةَ، فتتفكرُ فيما جاء به فتقرأُ: ألا يا رَبَّةَ المَخْدع. . . لقَدْ هُيئ لَكِ المَضْجَعْ يعني: قولَه لِسجاح حين تزوَّج بِهَا، قال: فترى هذا - يعني القرآن - رصينًا عجيبًا، يلوطُ بالقلبِ، ويحْسُنُ في السمع، وترى ذا - يعني قولَ مسيلمةَ - باردًا غثًّا فاحشًا، فتعلمُ أن محمَّدًا حق أُتِيَ بوحي، وأنَّ مسيلمةَ كذَّابٌ أُتِيَ بباطلٍ. * * *

قوله تعالى: (ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وآتى المال على حبه ذوي القربى

قوله تعالى: (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (177) [قالَ البخاريُّ] : وقوْلُ اللَّهِ عزَّ وجلَّ: (لَيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّوا وجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ) إلى قوله: (وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) . وأمور الإيمانِ: خصالُهُ وشُعَبُهُ المتعددة. واستدل البخاريُّ بقولهِ تعالى: (وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (177) . وقد سألَ أبو ذر النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - عنِ الإيمانِ. فتلا عليهِ هذهِ الآيةَ. وهذا يدلُّ على أن الخصالَ المذكورةَ فيها، هي خصالُ الإيمانِ المطلقِ، فإذا أطلقَ الإيمانُ دخلَ فيه كلُّ ما ذكرَ في هذهِ الآيةِ، كما سألَ السائلُ عن الإيمانِ، فتلا عليهِ النبى - صلى الله عليه وسلم - هذهِ الآيةَ. وإذا قُرن الإيمانُ بالعملِ، فقد يكونُ من بابِ عطفِ الخاص على العامَ. وقد يكون المرادُ بالإيمانِ حينئذٍ التصديقَ بالقلبِ، وبالعملِ عملَ الجوارح. كما ذكرَ في هذهِ الآيةِ الإيمانَ باللهِ واليومِ الآخرِ والملائكةِ والكتابِ والنبيينَ، ثمَّ عطفَ عليه أعمالَ الجوارح.

والبرُّ يطلقُ بمعنيينِ: أحدهما: بمعنى الإحسانِ إلى الناسِ، كما يُقال: البرُّ والصِّلةُ، وضدُّه العُقُوقُ. وفي "صحيح مسلم " أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - سُئِلَ عنِ البِرِّ، فقالَ: "البرُّ: حُسْنُ الخُلُق". وكان ابنُ عمرَ - رضي الله عنها - يقولُ: إنَّ البرَّ شيْء هيِّنٌ: وجْهٌ طليق، وكلام ليِّنٌ. المعنى الثاني: مما يُرادُ بالبِرِّ فعْلُ الطَّاعاتِ كُلّها، وضدُّهُ الإثمُ، وقد فسَّر اللهُ تعالى البِرَّ بذلك في قولِهِ: (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (177) . فتضمَّنتِ الآية ُ أنَّ أنواعَ البِرِّ ستَّةُ أنواع، مَن استكملهَا فقد استكمَلَ البِرَّ. أولها: الإيمانُ بأصولِ الإيمانِ الخمسةِ. وثانيها: إيتاءُ المالِ المحبوبِ لذوي القُرْبَى واليتامى والمساكين وابنِ السبيلِ والسَّائلين وفي الرقاب. وثالثُها: إقامُ الصلاةِ. ورابعُها: إيتاءُ الزكاةِ. وخامسُها: الوفاءُ بالعهدِ. وسادسُها: الصَّبْرُ على البأساءِ والضَّرَّاءِ وحين البأس.

قوله تعالى: (ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون (185)

وقال إبراهيمُ التيميُّ: ما من عبدٍ وهبَهُ اللَّهُ صبرًا على الأذى، وصبرًا على البلاءِ وصبرًا على المصائبِ، إلا وقد أُوتي فضلاً، ما أوتيهِ أحدٌ بعدَ الإيمانِ باللَّه عز وجلَّ. وهذا منتزعٌ من قولِه تعالى: (وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (177) والمرادُ بالبأساءِ: الفقرُ ونحوُه، وبالضَّرَّاءِ. المرضُ ونحوُه. وحينَ البأسِ: حالُ الجهادِ. وقال عمرُ بنُ عبدِ العزيزِ: ما أنعمَ اللَّه علَى عبدٍ نعمةً فانتزعَهَا منه. فعاضَهُ مكانَ ما انتزعَ منه الصبرَ إلا كانَ ما عوضَهُ خيرًا مما انتزعَ منه، ثم تلا: (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ) . وكان بعضُ الصالحينَ في جيبهِ ورقةٌ يفتحُهَا كلَّ ساعةٍ فينظرُ فيها، وفيها مكتوبٌ: (وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا) . والصبرُ الجميلُ هو أن يكتمَ العبدُ المصيبةَ ولا يخبرَ بِهَا. قالَ طائفةٌ من السلفِ في قولِهِ تعالى: (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ) ، قال: لا شكوى معه. * * * قوله تعالى: (وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (185) وقد أمرَ اللَّه سبحانه وتعالى عبادَهُ بشُكْر نعمةِ صيام رمضانَ بإظهارِ ذكْرِهِ. وغيرِ ذلكَ من أنواع شكرِهِ، فقال: (وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (185)

فمن جملةِ شكرِ العبْدِ لربِّه على توفيقِه لصيامِ رمضانَ وإعانتِهِ عليه ومغفرةِ ذنوبِهِ أنْ يصومَ له شكرًا عقيب ذلكَ. كانَ بعضُ السلفِ إذا وُفِّقَ لقيام ليليةٍ من الليالي أصبَحَ في نهارِهَا صائمًا. ويجعلُ صيامَه شكرًا للتوفيق للقيامِ. وكان وهيبُ بنُ الوردِ يُسأل عن ثوابِ شيء من الأعمالِ، كالطوافِ ونحوه، فيقول: تسألوا عن ثوابِهِ؟! ولكنْ سلُوا ما الذي على مَن وُفِّقَ لهذا العملِ من الشكرِ، للتوفيقِ والإعانةِ عليهِ؟! إذا أنْتَ لم تَزْدَدْ على كُلِّ نعْمَةٍ. . . لموليكها شكْرًا فلسْتَ بشاكرٍ كُلُّ نعمةٍ على العبدِ منَ اللهِ في دِينٍ أو دنيا يحتاجُ إلى شكرٍ عليها، ثمَّ التوفيقُ للشكرِ عليها نعمةٌ أخرى تحتاجُ إلى شكرٍ ثانٍ، ثم التوفيقُ للشكر الثاني نعمةٌ أخرى يحتاج إلى شكر آخر، وهكذا أبدًا فلا يقدِرُ العبادُ على القيامِ بشكْرِ النعم. وحقيقةُ الشُّكْرِ الاعترافُ بالعجزِ عن الشكر، كما قيل: إذا كان شكْري نعْمةَ اللَّهِ نعْمَةً. . . عليَّ لَهُ في مِثْلِها يجبُ الشُّكْرُ فكيفَ بُلُوغُ الشُّكْرِ إلا بفَضْلِهِ. . . وإن طالتِ الأيَّامُ واتَصَلَ العُمْرُ قال أبو عمرٍو الشيبانيُّ: قالَ موسى - عليه السلامُ - يومَ الطُّور: يا ربّ! إنْ أنا صليتُ فَمِن قِبَلِكَ، هان أنا تصدَّقْتُ فمن قبَلكَ، وإن بلَّغْتَ رسالاتك فَمِنْ قِبَلِكَ، فكيف أشكرك؟ قال: يا موسى، الَآنَ شكرتَني، فأمَّا مقابلة نعمة التوفيق لصيامِ شهر رمضانَ بارتكابِ المعاصي بعده، فهو من فِعْلِ مَن بدَّلَ نِعْمةَ اللَّهِ كفرًا، فإن كان قد عَزَمَ في صيامِهِ على معاودةِ المعاصِي بعدَ انقضاءِ الصيامِ، فصيامُه عليه مردودٌ، وبابُ ألرَّحمةِ في وجههِ مسدودٌ. قال كعبٌ: مَن صامَ رمضانَ وهو يُحدِّثُ نفسَهُ أنَّه إن أفطر رمضانَ

قوله تعالى: (وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون (186)

أن لا يعصِي اللَّهَ، دخلَ الجنةَ بغيرِ مسألةٍ ولا حساب، ومَن صامَ رمضانَ وهو يحدِّثُ نفسَه أنَّه إذا أفطر عصَى ربَّه، فصيامُه عليه مردودٌ. * * * لمَّا كانتِ المغفرةُ والعِتْقُ من النارِ كلٌّ منهما مرتبًا على صيامِ رمضانَ وقيامِهِ، أمرَ اللَّهُ سبحانَه وتعالى عندَ إكمالِ العدَّةِ بتكبيره، وشكره، فقال: (وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكمْ تَشْكُرُونَ) . فشُكْرُ من أنعَمَ على عبادِهِ بتوفِيقهِم للصيامِ، وإعانتِهِم عليه، ومغفرتِه لهم بهِ، وعتقهِم من النَّارِ، أن يذكُروه ويشكروه ويتَّقوه حقَّ تُقَاتِهِ. وقد فسَّرَ ابنُ مسعودٍ رضيَ اللَهُ عنه تقواه حقَّ تُقاتِهِ بأنْ يطاعَ فلا يُعْصَى، ويذكرَ فلا يُنْسى، ويُشكرَ لا يُكْفَر. فيا أربابَ الذُّنوبِ العظيمةِ! الغنيمةَ الغنيمةَ في هذه الأيام الكريمةِ؛ فما منها عوضٌ ولا لها قيمةٌ، فكم يعتقُ فيها من النَّارِ من ذي جريرة وجريمة. فمن أُعتقَ فيها من النَّارِ فقد فازَ بالجائزةِ العميمةِ والمنحةِ الجسيمةِ. * * * قوله تعالى: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186) وقد أخبرَ اللَّهُ تعالَى بقربِهِ ممن دعاهُ، وإجابتِهِ لهُ، فقالَ: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ) . وقد رُوي في سببِ نزولهَا: أنَّ أعرابيًّا قالَ: يا رسولَ اللَّهِ، أقريبٌ ربُّنا فنناجيهِ، أم بعيدٌ فننادِيهِ؟ فأنزل اللَّهُ عزَّ وجلَّ: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ) .

خرَّجه ابنُ جريرٍ، وابنُ أبي حادمٍ. وروى عبدُ الرزاقِ، عن جعفرِ بنِ سليمانَ، عن عوفٍ، عن الحسنِ، قال: سالَ أصحاب رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - رسولَ اللَّه - صلى الله عليه وسلم -: أين ربُّنا؟ فأنزلَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ: (وَإِذَاْ سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيب) . وروى عبدُ بنُ حميدٍ بإسنادِهِ، عن عبدِ اللَّهِ بنِ عبيدِ بنِ عميرٍ، قالَ: نزلتْ هذهِ الآية ُ: (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) ، قالُوا: كيفَ لنا بهِ أن نلقَاهُ حتى ندعُوه؟ فأنزلَ اللَّهُ عز وجل على نبيِّه - صلى الله عليه وسلم -: (وَإِذَا سَألَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيب أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ) . فقالُوا: صدَق ربُّنا، هوَ بكلِّ مكانِ. وقَد خرَّج البخاريُّ في "الدعوات " حديثَ أبي مُوسى، أنَهم رَفَعُوا أصواتَهُم بالتكبير، فقالَ لَهُم النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّكم لا تدعونَ أصمَّ ولا غائبًا، إنَّكم تدعون سميعًا قريبًا". وفي روايةٍ: "إنَّه أقربُ إليكُم من أعناقِ رواحِلِكُمْ ". ولم يكنْ أصحابُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - يفهمونَ من هذهِ النصوصِ غيرَ المعنى الصحيح المرادِ بها، يستفيدونَ بذلكَ معرفةَ عظمةِ اللَّهِ وجلالِهِ، واطلاعِهِ على عبادِهِ وإحاطتِهِ بهم، وقربِه من عابديهِ، وإجابتِه لدعائهِم، فيزدادونَ به خشيةً للَّهِ وتعظيمًا وإجلالاً ومهابةً ومراقبةً واستحياءً، ويعبدونَهُ كأنَّهم يرونَه. ثم حدث بعدَهُم مَن قلَّ ورعُهُ، وساءَ فهمُهُ وقصدُهُ، وضعفت عظمةُ اللَّه وهيبتُهُ في صدره، وأرادَ أن يُري الناسَ امتيازَهُ عليهم بدِقةِ الفهمِ وقوةِ النظرِ.

فزعمَ أنَّ هذه النصوصَ تدلُّ على أن اللَّهَ بذاتِهِ في كلِّ مكانٍ، كما يحكى ذلك عن طوائفَ من الجهميةِ والمعتزلةِ ومن وافقَهُم، تعالى اللَّهُ عمَّا يقولون علوًّا كبيرًا، وهذا شيءٌ ما خطرَ لمن كان قبلَهُم من الصحابة - رضي اللَّه عنهم، وهؤلاءِ ممن يتبعُ ما تشابَهَ منه ابتغاءَ الفتنةِ وابتغاءَ تأويله " وقد حذَّر النبي - صلى الله عليه وسلم - أُمَّتَه منهم في حديثِ عائشةَ الصحيح المتفقِ عليهِ. وتعلَّقُوا - أيضًا - بما فهمُوه بفهمهم القاصرِ مع قصدِهِم الفاسدِ بآياتٍ في كتاب اللَّهِ، مثل قولِهِ تعالى: (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كنتُمْ) . وقولِهِ: (مَا يَكُون مِن نَّجْوَى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ) . فقالَ من قال من علماءِ السلفِ حينئذٍ: إنَّما أرادَ أنَّه معهم بعلمِهِ، وقصدُوا بذلكَ إبطالَ ما قالَهُ أولئكَ، مما لم يكنْ أحدٌ قبلهم قالَهُ ولا فهمَهُ من القرآنِ. وممن قالَ: إنَّ هذهِ المعيةَ بالعلم مُقاتِلُ بنُ حيَّانَ، ورويَ عنه أنَه رواهُ عن عكرمةَ، عن ابنِ عباسٍ. وقاله الضحاكُ، قالَ: اللَّهُ فوقَ عرشِهِ، وعلمُهُ بكلِّ مكانٍ. ورويَ نحوُه عن مالكٍ وعبدِ العزيزِ الماجشون والثوريِّ وأحمدَ وإسحاقَ وغيرِهِم من أئمةِ السلفِ. وروى الإمامُ أحمدُ: ثنا عبدُ اللَّهِ بنُ نافع، قال: قالَ مالكٌ: اللَّهُ في السماءِ، وعلمُهُ بكلِّ مكانٍ. وروي هذا المعنى عن علي وابنِ مسعودٍ - أيضًا. وقالَ الحسنُ في قولِهِ تعالى: (إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ) .

قالَ: علمُهُ بالناسِ. وحكى ابنُ عبدِ البَرِّ وغيرُهُ إجماعَ العلماءِ من الصحابةِ والتابعينَ في تأويلِ قولِهِ: (وَهُوَ مَعَكمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ) ، أنَّ المرادَ علمُهُ. وكلُّ هذا قصدُوا به ردَّ قولِ من قالَ: إنَّه تعالى بذاتِهِ في كل مكانٍ. وزعم بعضُ من تَحَذْلَقَ أنَّ ما قاله هؤلاءِ الأئمةُ خطأٌ، لأنَّ علم اللَّهِ صفةٌ لا تفارقُ ذاتِهِ، وهذا سوءُ ظنٍّ منه بأئمةِ الإسلامِ؛ فإنَّهم لم يريدُوا ما ظنَّه بهم، وإنما أرادُوا أن علمَ اللَّهِ متعلِّقٌ بما في الأمكنةِ كلِّها ففيها معلوماتِهِ، لا صفةَ ذاتِهِ، كما وقعتِ الإشارةُ في القرآنِ إلى ذلكَ بقولِهِ تعالى: (وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا) ، وقولِهِ: (رَبَّنَا وَسِعْتَ كلَّ شَيْء رَّحْمَةً وَعِلْمًا) . وقولِهِ: (ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُج مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ) . وقالَ حربٌ: سألتُ إسحاقَ عن قولِهِ: (مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ) ، قال: حيثُ ما كنتَ هو أقربُ إليكَ من حبلِ الوريدِ، وهو بائِنٌ من خلقِهِ. وروى عمرُ بنُ أبي سلمةَ، عن أبيه، أنَّ عمرَ بنَ الخطابِ مرَّ بقاصٍّ وقد رفعُوا أيدِيهم، فقالَ: ويلكم! إنَّ ربكم أقربُ ممَّا ترفعون، وهو أقربُ إلى أحدِكُم من حبلِ الوريدِ. وخرَّجه أبو نُعيمٍ، وعندَهُ: أنَّ المارَّ والقائلَ بذلك هو ابنُ عمرَ. وخطبَ عمرُ بنُ عبدِ العزيزِ، فذكرَ في خطبتِهِ: إنَّ اللَّهَ أقربُ إلى عبادِهِ من حبلِ الوريدِ. وكانَ مجاهدٌ حاضِرًا يسمعُ، فأعجبه حسنُ كلامِ عمرَ.

وهذا كلّه يدلُّ على أن قربَ اللَّه من خَلْقِهِ شاملٌ لهم، وقرئهُ من أهلِ طاعتِهِ فيه مزيدُ خصوصيةٍ، كما أنًّ معيّتهُ مع عبادِهِ عامَّة حتى ممَّن عصاهُ. قالَ تعالَى: (يَستَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفونَ مِنَ اللهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِدْ يبَيِّتونَ مَا لا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ) ، ومعيّته مع أهلِ طاعتهِ خاصةً لهُم، فهو سبحانه مع الذين اتقَّوا والذين هم محسنونَ. وقال لموسى وهارونَ: (إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسمعُ وَأَرَى) . وقال موسى: (إِنَّ مَعِيَ رَبِي سَيَهْدِينِ) . وقال في حقِّ محمدٍ وصاحبِهِ: (إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا) . ولهذا قالَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - لأبي بكرٍ في الغارِ: "ماظنُّك باثنينِ اللَهُ ثالثُهما". فهذه معية خاصةٌ غيرَ قولِهِ: (مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلاثَة إِلَّا هو رَابِعُهُمْ) الآية، فالمعيَّةُ العامُّةُ تقتضِي التحذير من علمِهِ واطلاعِهِ وقدرتِهِ وبطشِهِ وانتقامِهِ، والمعيةُ الخاصةُ تقتضِى حسنَ الظنِّ بإجابتِهِ ورضَاه وحفظِهِ وصيانتِهِ، فكذلك القربُ. وليسَ هذا القربُ كقربِ الخلقِ المعهودِ منهم، كما ظنَه من ظنه من أهلِ الضلالِ، وإنَّما هو قربٌ ليسَ يشبهُ قربَ المخلوقينَ، كما أنَّ الموصوفَ به (لَيْسَ كمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) . وهكذا القولُ في أحاديث النزولِ إلى سماءِ الدنيا، فإنَه من نوع قربِ الربِّ من داعيهِ وسائليهِ ومستغفريهِ. وقد سئلَ عنه حماد بنُ زيدٍ، فقالَ هو في مكانِهِ يقربُ من خلقه كما يشاءُ.

قوله تعالى: (فالآن باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم)

ومرادُه أنَّ نزولَهُ ليس هو انتقال من مكانٍ إلى مكانٍ كنزول المخلوقينَ. وقال حنبل: سألتُ أبا عبدِ اللَّه: ينزل اللَّهُ إلى سماءِ الدُّنيا؟ قال: نعم. قلتُ: نزولُهُ بعلمِهِ أو بمَاذا؟ قال: اسكتْ عن هذا، مالكَ ولهذَا؛ أمْضِ الحديثَ على ما رُوي بلا كيفٍ ولا حَدٍّ، إلا بما جاءت به الآثار، وجاءَ به الكتابُ، قال اللَّهُ: (فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ) ، ينزل كيفَ شاءَ. بعلمِهِ وقدرتِهِ وعظمتِهِ، أحاطَ بكلِّ شيء علمًا، لا يبلغُ قَدْرَه واصفٌ، ولا ينأَى عنه هَربُ هاربٍ، عزَّ وجلَّ. ومرادُهُ: أنَّ نزولَهُ تعالى ليس كنزول المخلوقينَ، بل هو نزول يليقُ بقدرتِهِ وعظمتِهِ وعلمِهِ المحيطِ بكلِّ شيءٍ، والمخلوقونَ لا يحيطونَ به عِلمًا، وإنَّما ينتهونَ إلى ما أخبرهم به عن نفسِهِ، أو أخبرَ به عنه رسولُهُ. فلهذا اتفقَ السلفُ الصالحُ على إمرارِ هذهِ النصوصِ كما جاءت من غيرِ زيادةٍ ولا نقصٍ، وما أشكلَ فهمُهُ منها، وقصرَ العقلُ عن إدراكِهِ وُكِلَ إلى عالمه. * * * قوله تعالى: (فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ) وقد قال طائفة من السَّلفِ في تفسيرِ قولِهِ تعالَى: (فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ) : إنه طلبُ ليلةِ القدرِ. والمعنى في ذلكَ أنَّ اللَّهَ تعالى لما أباحَ مباشرةَ النِّساءِ في ليالي الصيامِ، إلى

قوله تعالى: (تلك حدود الله فلا تقربوها كذلك يبين الله آياته للناس لعلهم يتقون (187)

أنْ يتبيَّنَ الخيطُ الأبيضُ من الخيطِ الأسودِ، أمَرَ مَعَ ذلك بطلبِ ليلةِ القدْرِ. لئلا يشتغلَ المسلمونَ في طولِ ليالِي الشهرِ بالاستمتاع المباح، فيفوتُهم طلبُ ليلةِ القدْرِ، فأمرَ مع ذلكَ بطلبِ ليلةِ القَدْرِ بالتهجُّد من الليلِ، خصوصًا في الليالِي المرجُوِّ فيها ليلةُ القَدْرِ، فمن هاهُنا كانَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يصيبُ من أهلِهِ في العشرينَ من رمضانَ، ثم يعتزلُ نساءَه ويتفرغَّ لطلب ليلةِ القَدْرِ في العشر الأواخرِ. * * * قوله تعالى: (تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (187) وقولُهُ - صلى الله عليه وسلم -: "كالراعِي يرعَى حولَ الحِمَى يُوشِكُ أن يرتَعَ فيه، ألا وإنَّ لكلِّ ملكٍ حِمَى، وإنَّ حِمَى اللَّهِ محارمُهُ ": هذا مَثَلٌ ضربَهُ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - لمنْ وقع في الشبهاتِ، وأنَّه يقرُبُ وقوعُهُ في الحرامِ المحضِ، وفي بعضِ الرواياتِ أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "وسأضربُ لَكُم مثلاً" ثم ذكرَ هذا الكلامَ، فجعلَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - مثلَ المحرَّماتِ كالحِمى الَّذي تحميه الملوكُ، ويمنعونَ غيرَهم من قُربانِهِ، وقد جعلَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - حولَ مدينتِهِ اثني عشرَ ميلاً حِمى محرَّمًا، لا يُقطعُ شجرُه، ولا يُصادُ صيدُه، وحَمَى عمرُ وعثمانُ أماكنَ ينبتُ فيها الكلأ لأجلِ إبلِ الصدقةِ. واللَّهُ عزَّ وجلَّ حَمَى هذه المحرَّماتِ، ومنعَ عبادَهُ من قربانِهَا، وسمَّاها حدودَه، فقالَ تعالَى: (تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (187) .

وهذا فيه بيانُ أنَّه حدَّ لهم ما أحلَّ لهُم وما حرَّم عليهم، فلا يقربُوا الحرامَ، ولا يتعدَّوْا الحلالَ، ولذلكَ قالَ في آيةٍ آخرى: (تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) . وجعلَ من يرعى حولَ الحِمى وقريبا منه جديرًا بأن يدخُلَ الحِمى ويرتعَ فيه. فكذلكَ منْ تعدَّى الحلالَ، ووقعَ في الشبهاتِ، فإنَّه قد قاربَ الحرامَ غايةَ المقاربةِ، فما أخلقَهُ بأن يُخالِطَ الحرامَ المحضَ، ويقع فيهِ، وفي هذا إشارةٌ إلى أنَّه ينبغي التباعدُ عن الحرَّماتِ، وأنْ يجعلَ الإنسانُ بينه وبينها حاجزًا. وقد خرَّج الترمذيُ وابنُ ماجةَ مِنْ حديثِ عبدِ اللَّهِ بنِ يزيدَ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "لا يبلغُ العبدُ أن يكونَ من المتَقين حتى يدع ما لا بأسَ به حذرًا مما به بأس". وقال أبو الدرداءِ: تمامُ التقوى أن يتقي اللَّهَ العبدُ، حتَّى يتقيَه منْ مثقالِ ذرَّةٍ، وحتى يتركَ بعضَ ما يرى أنَّه حلالٌ، خشية أن يكون حرامًا، حجابًا بينه وبيْنَ الحرامِ. وقال الحسنُ: ما زالتِ التقوى بالمتقينَ حتى تركُوا كثيرًا من الحلالِ مخافةِ الحرامِ. وقال الثوريُّ: إنَّما سُموا "المتقين " لأنَّهم اتَّقوا ما لا يُتَّقى. ورُوي عن ابنِ عمرَ قالَ: إنِّى لأحبُّ أن أدع بيني وبين الحرامِ سترة من الحلالِ لا أخرقُها. وقال ميمونُ بنُ مهرانَ: لا يسْلَمُ للرجلِ الحلالُ حتى يجعلَ بينه وبين الحرامِ حاجزًا من الحلالِ. وقال سفيانُ بن عيينةَ: لا يصيبُ عبد حقيقةَ الإيمانِ حتى يجعلَ بينه وبين

قوله تعالى: (وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة وأحسنوا إن الله يحب المحسنين (195) وأتموا الحج والعمرة لله) .

الحرامِ حاجزًا من الحلالِ، وحتى يدعَ الإثمَ وما تشابَهَ منه. ويَستدلُّ بهذا الحديثِ مَنْ يذهبُ إلى سدِّ الذرائع إلى المحرماتِ وتحريمِ الوسائلِ إليها، ويدُلُّ على ذلكَ أيضًا من قواعدِ الشَّريعة تحريمُ قليلِ ما يُسكر كثيرُه، وتحريمُ الخلوةِ بالأجنبيةِ، وتحريمُ الصَّلاةِ بعدَ الصُّبح وبعدَ العصرِ سدًّا لذريعةِ الصَّلاةِ عند طلوع الشمسِ وعندَ غروبِهَا، ومنعُ الصَّائم من المباشرةِ إذا كانت تحرِّكُ شهوتَهُ، ومنعُ كثيرٍ من العلماءِ مباشرةَ الحائض فيما بين سرَّتها ورُكبتِهَا إلا مِنْ وراءِ حائلٍ، كما كان النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يأمرُ امرأتَه إذا كانت حائضًا أن تتَّزر، فيباشِرُها من فوق الإزارِ. ومن أمثلةِ ذلكَ وهو شبيهٌ بالمثلِ الذي ضربَهُ النبي - صلى الله عليه وسلم - من سيَّبَ دابَّتَه ترعى بقُرْبِ زرع غيره، فإنَّه ضامنٌ لما أفسدتْهُ من الزرع، ولو كانَ ذلك نهارًا. هذا هو الصحيحُ، لأنَّه مفرط بإرسالِهَا في هذه الحالِ. وكذا الخلافُ لو أرسلَ كلبَ الصَّيدِ قريبًا من الحرمِ، فدخل الحرمَ فصادَ فيه، ففي ضمانِهِ روايتانِ عن أحمدَ، وقيل: يضمنُهُ بكلِّ حالٍ. * * * قوله تعالى: (وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (195) وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) . وفي "مسندِ الإمامِ أحمدَ" عن بُرَيْدَةَ - رضي الله عنه -، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "النفقةُ

وقال الله تعالى: (الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج)

في الحَجِّ كالنَّفقةِ في سبيلِ اللهِ بسبعمائةِ ضعفٍ". وخرَّجه الطبرانيُّ من حديثِ أنسٍ رضيَ اللَّهُ عنه، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قالَ: "النفقةُ في سبيلِ اللِّهِ؛ الدِّرْهَمُ فيه بسبعمائةِ" ويُدلُّ عليه قولُهُ تعالى: (وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (195) وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) . ففيه دليلٌ على أنَّ النفقةَ في الحجِّ والعمرةِ تدخلُ في جملةِ النَّفقة في سبيلِ اللَّهِ. وقد كانَ بعضُ الصحابةِ جعلَ بعيرَهُ في سبيلِ اللَّهِ، فأرادتْ امرأتُهُ أن تحجَّ عليه، فقالَ لها النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "حجِّي عليه؛ فإنَّ الحجَّ في سبيلِ اللَّهِ ". وقد خرَّجه أهلُ المسانيد والسنن من وجوهٍ متعدِّدةٍ، وذكره البخاريُّ تعليقًا، وهذا يستدل به على أنَّ الحجَّ يصرف فيه من سهمِ سبيلِ اللَّهِ المذكورِ في آيةِ الزكاةِ، كما هو أحدُ قولي العلماءِ، فيعطى من الزَّكاةِ من لم يحجَّ ما يحجُّ به. وفي إعطائِهِ لحجِّ التطوعُّ اختلافٌ بينهم أيضًا. * * * وقال الله تعالى: (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ) قالَ ابنُ عمرَ: الفسوقُ: ما أصيبَ مِنْ معاصِي اللَّهِ صيدًا كانَ أو غيرُهُ،

وعنه قالَ: الفسوقُ إتيانُ معاصِي اللَّهِ في الحرمِ. وقال عزَّ وجلَّ: (وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ) . وكانَ جماعة من الصحابةِ يتَّقون سُكْنى الحرمِ، خشيةَ ارتكابِ الذُّنوبِ فيه: منهمُ ابنُ عباسٍ، وعبدُ اللَّهِ بن عمرِو بنِ العاصِ، وكذلكَ كانَ عمرُ بنُ عبدِ العزيزِ يفعلُ، وكانَ عبدُ اللَّهِ بنِ عمرِو بنِ العاصِ يقولُ: الخطيئةُ فيه أعظمُ. ورُويَ عن عمرَ بنِ الخطابِ - رضي الله عنه - قال: لأنْ أُخطى سبعينَ خطيئةً - يعني بغير مكةَ - أحبُّ إليَّ منْ أن أُخطئ خطيئةً واحدةً بمكةَ. وعن مجاهدٍ قالَ: تُضاعفُ السيئاتُ بمكةَ كما تُضاعفُ الحسناتُ. وقال ابنُ جريجِ: بلغني أن الخطيئةَ بمكةَ بمائةِ خطيئةٍ، والحسنةَ على نحو ذلكَ. وقال إسحاقُ بنُ منصور: قلتُ لأحمدَ: في شيء من الحديثِ أنَ السيئةَ تُكتبُ بأكثرَ منْ واحدةٍ؟ قالَ: لا، ما سمعْنا إلا بمكَّةَ لتعظيم البلدِ "ولو أنَّ رجلاً بعَدنِ أبْيَنَ همَّ ". وقال إسحاقُ بنُ راهويه كما قالَ أحمدُ، وقولهُ: "ولو أنَّ رجلاً بعدنِ أبْينَ همَّ "، هو من قولِ ابنِ مسعود، وسنذكرُهُ فيما بعدُ إن شاءَ اللَّهُ تعالى. وقد تضاعفُ السيِّئاتُ بشرفِ فاعلِها، وقوَّةِ معرفتهِ باللَّهِ، وقُرْبِهِ منه، فإنَّ من عصى السُّلطانَ على بساطه أعظمُ جُرْمًا ممَّن عصاهُ على بُعدٍ، ولهذا توعَّدَ اللَّهُ خاصَّة عبادِهِ على المعصيةِ بمضاعفةِ الجزاءِ، وإن كانَ قد عصمَهم منها. ليبيِّنَ لهُم فضلَهُ عليهم بعصمَتِهم منْ ذلكَ، كما قالَ تعالى:

قوله تعالى: (وتزودوا فإن خير الزاد التقوى)

(وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا (74) إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ) . وقال تعالى: (يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (30) وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا (31) . وكانَ عليٌّ بنُ الحسينِ يتأوَّلُ في آل النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - من بني هاشم مثك ذلك لقربِهِم من النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -. * * * قوله تعالى: (وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى) وقد رُويَ عن ابنِ عباسٍ، قالَ: كانَ أهلُ اليمنِ يَحُجُّون ولا يتزوَّدونَ. ويقولونَ: نحن متوكِّلون، فيحجونَ، فيأتونَ مكةَ، فيسألونَ الناسَ، فأنزلَ اللَّهُ هذه الآيةَ: (وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى) ، وكذا قالَ مجاهد، وعكرمةُ، والنخعيُّ، وغيرُ واحدٍ من السلفِ، فلا يُرخَصُ في ترك الكَسْبِ بالكليةِ إلا لمنِ انقطعَ قلبُه عن الاستشرافِ إلى المخلوقينَ بالكليةِ. وقدْ رُويَ عن أحمدَ أنه سُئلَ عن التوكُلِ، فقالَ: قطعُ الاستشرافِ باليأسِ من الخلقِ، فسُئلَ عن الحجةِ في ذلكَ، فقالَ: قولُ إبراهيمَ عليه السلامُ لما عرضَ له جبريلُ وهو يُرْمَى في النارِ، فقالَ لهُ: ألكَ حاجة، فقالَ: أمَّا إليكَ فلا. وظاهرُ كلامِ أحمدَ أنَّ الكسبَ أفضلُ بكلِّ حالٍ، فإنَّه سُئلَ عمَّن يقعدُ ولا يكتسبُ ويقولُ: توكَّلتُ على اللَّهِ، فقالَ: ينبغي للناسِ كُلِّهم يتوكَّلونَ على

قوله تعالى: (واستغفروا الله إن الله غفور رحيم (199)

اللَّهِ، ولكنْ يعودونَ على أنفسِهِم بالكَسْبِ. ورَوَى الخَلاَّلُ بإسنادِه عن الفضيلِ بنِ عِياضٍ أنَّهُ قيلَ لهُ: لو أن رجلاً قعدَ في بيتِهِ زعمَ أنَّه يثقُ باللًّهِ، فيأتيِه برزقهِ، قالَ: إذا وثقَ باللَّهِ حتى يعلمَ منه أنَّه قدْ وثقَ به لم يمنعْهُ شيءٌ أرادَهُ، لكنْ لم يفعلْ هذا الأنبياءُ ولا غيرُهم، وقد كانَ الأنبياءُ يؤجَرون أنفسَهم، وكانَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يؤجِّرُ نفْسَه وأبو بكرٍ وعمرُ، ولم يقولوا: نقعدُ حتَّى يرزقُنا اللَّهُ عزَّ وجلَّ. وقالَ اللَّهُ عزَّ وجل: (وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللهِ) ، ولا بُدَّ من طلبِ المعيشةِ. وقد رُوي عن بِشْرٍ ما يُشعرُ بخلافِ هذا، فرَوَى أبو نُعيمٍ في "الحلْيةِ" أنَّ بشرًا سُئلَ عن التوكُلِ، فقالَ: اضطرابٌ بلا سكونٍ، وسكونٌ بلا اضطرابٍ، فقالَ له السائلُ: فسِّره لنا حتى نفقهَ، قالَ بشرٌ: اضطرابٌ بلا سكونٍ: رجلٌ يضطربُ بجوارحِهِ، وقلبُه ساكنٌ إلى اللَّهِ لا إلى عملِهِ، وسكونٌ بلا اضطرابِ: فرجلٌ ساكنٌ إلى اللَّهِ بلا حركةٍ، وهذا عزيزٌ، وهوَ من صفاتِ الأبدالِ. * * * قوله تعالى: (وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (199) والاستغفارُ طلبُ المَغْفرةِ، والمغفرةُ هى وِقَايةُ شَرِّ الذنوبِ معَ سَترِهَا وقد كثرُ في القرآنِ ذكرُ الاستغفارِ، فتارةً يؤمرُ به، كقولِهِ: (وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) ، وقولِهِ: (وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إِليه) . وتارةً يمدحُ أهلَهُ، كقولِهِ: (وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ) . وقوله:

(وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) ، وقوله: (وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ) . وتارةً يذكرُ أن اللَّهَ يغفرُ لمن استغفرهُ، كقولِهِ: (وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا (110) . وكثيرًا ما يُقرن الاستغفارُ بذكر التوبةِ، فيكونُ الاستغفارُ حينئذٍ عبارةً عن طلبِ المغفرةِ باللسانِ، والتوبةُ عبارةٌ عن الإقلاع عن الذنوبِ بالقلوبِ والجوارح. وتارةً يفردُ الاستغفارُ، ويُرتَّبُ عليه المغفرةُ، كما ذكرَ في هذا الحديثِ وما أشبههُ، فقد قيلَ: إنَه أريدَ به الاستغفارُ المقترنُ بالتوبةِ، وقيلَ: إنَّ نصوصَ الاستغفارِ المفردةَ كلَّها مطلقةٌ تُقيَّدُ بما يذكر في آيةِ "آلِ عمرانَ " من عدمِ الإصرارِ؛ فإنَّ اللَّه وعدَ فيها المغفرةَ لمن استغفرَهُ من ذنوبِهِ، ولم يُصِرَّ على فعلِهِ، فتُحْمَلُ النُصوصُ المطلقةُ في الاستغفارِ كلها على هذا المقيد. ومجرَّدُ قولِ القائل: اللَّهُمَّ اغفر لي، طلبٌ منه للمغفرةِ ودعاءٌ بها، فيكونُ حكمُهُ حكمَ سائرِ الدعاءِ، فإنْ شاءَ اللَّهُ أجابه وغفرَ لصاحبِهِ، لا سيما إذا خرجَ عن قلبِ منكسرٍ بالذنبِ أو صادفَ ساعةً من ساعاتِ الإجابةِ كالأسحارِ وأدبارِ الصلواتِ. ويُروَى عن لُقمانَ عليه السلامُ أنّه قالَ لابنِه: يا بنيَّ عَوِّدْ لسانكَ اللَّهمَّ اغفرْ لي، فإنَّ للَّهِ ساعاتٍ لا يَرُدُّ فيها سائلاً. وقال الحسنُ: أكثِروا من الاستغفارِ في بيوتِكم، وعلى موائِدكم، وفي طُرقِكُم، وفي أسواقِكُم، وفي مجالسِكُم أينما كُنتُم، فإنَّكم ما تدرونَ متى تنزلُ المغفرةُ.

وخرَّج ابن أبي الدنيا في كتاب " حسنِ الظنِّ " من حديثِ أبي هريرةَ مرفوعًا: "بينما رجلٌ مستلقٍ إذْ نظرَ إلى السماءِ وإلى النجومِ، فقال: إني لأعلمُ أن لكِ ربًّا خالِقًا، اللَّهُمَّ اغفرْ لي، فغفرَ له ". وعن مُوَرِّقٍ قالَ: كانَ رجلٌ يعملُ السيئاتِ، فخرجَ إلى البريةِ، فجمعَ ترابًا، فاضطجَعَ عليه مستلقيًا، فقالَ: ربِّ اغفرْ لي ذنوبي، فقالَ: إنَّ هذا ليعرفُ أنَّ له ربَّا يغفرُ ويعذِّب، فغفرَ له. وعن مُغيثِ بنِ سُميٍّ، قالَ: بينما رجلٌ خبيثٌ، فتذكر يومًا، فقال: اللَّهمَّ غُفرانَك، اللَّهمَّ غفرانَك، اللَّهمَّ غفرانَك، ثم ماتَ فغُفِر له. ويشهد لهذا ما في "الصحيحينِ " عن أبي هريرةَ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: "أنَّ عبدًا أذنَبَ ذنبا، فقالَ: ربِّ أذنبتُ ذنبًا فاغفرْ لي. قالَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ: عَلِمَ عبدي أنَّ له ربًّا يغفر الذنب، ويأخذُ به، غفرتُ لعبدِي، ثمَّ مكثَ ما شاء الله، ثم أذنبَ ذنبًا آخر فذكرَ مثل الأولِ مرتينِ أُخريينِ " وفي روايةٍ لمسلمٍ أنه قالَ في الثالثةِ: "قد غفرتُ لعبدِي، فليعملْ ماشاءَ". والمعنى ما دامَ على هذه الحالِ كلَّما أذنبَ استغفرَ. والظاهرُ أنَّ مرادَهُ الاستغفارُ المقرونُ بعدم الإصرارِ، ولهذا في حديثِ أبي بكرٍ الصديقِ - رضي الله عنه -، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما أصرَّ من استغفرَ وإن عادَ في اليوم سبعين مرّة" وخرَّجه أبو داودَ والترمذيُّ. وأمَّا استغفارُ اللسانِ معَ إصرارِ القلبِ على الذنبِ، فهو دُعاءٌ مجرَّدٌ إنْ

شاء اللَّهُ أجابهُ، وإن شاءَ ردَّه. وقد يكون الإصرارُ مانعًا من الإجابةِ، وفي "المسندِ" من حديثِ عبدِ اللَّهِ ابنِ عمرٍو مرفوعًا: "ويلٌ للذينَ يُصرُّون على ما فعلُوا وهم يَعلَمون ". وخرَّج ابنُ أبي الدنيا من حديثِ ابنِ عباسٍ مرفوعًا: "التائبُ من الذَّنبِ كمن لا ذنبَ لهُ، والمستغفرُ من ذنبٍ وهو مُقيم عليه كالمستهزئِ بربِّهِ " ورَفعُه منكر، ولعلَّه موقوف. قال الضحاكُ: ثلاثة لا يُستجاب لهم، فذكرَ منهُم: رجل مقيم على امرأةِ زِنى كلَّما قَضِى منها شهوتَهُ، قالَ: ربِّ اغفرْ لي ما أصبتُ من فلانةٍ، فيقولُ الربُّ: تحوَّلْ عنها، وأغفرُ لكَ، فأمَّا ما دمتَ مقيمًا عليها، فإنِّي لا أغفرُ لكَ، ورجل عندَهُ مالُ قومٍ يَرى أهلَهُ، فيقول: ربِّ اغفرْ لي ما آكلُ من مالِ فلانٍ، فيقولُ تعالى: ردَّ إليهم مالَهُم، وأغفرُ لكَ، وأمَّا ما لم تردَّ إليهم، فلا أغفرُ لك. وقولُ القائلِ: أستغفرُ اللهَ، معناه: أطلبُ مغفرتَهُ، فهو كقولِهِ اللَهُمَّ اغفرْ لِي، فالاستغفارُ التامُ الموجبُ للمغفرةِ: هو ما قارنَ عدمَ الإصرارِ، كما مدحَ اللَّهُ أهلَهُ، ووعدَهُم المغفرةَ. قال بعضُ العارفينَ: من لم يكنْ ثمرةَ استغفاره تصحيحَ توبتِهِ، فهوَ كاذب في استغفاره، وكان بعضُهم يقولُ: استغفارُنا هذا يحتاجُ إلى استغفارٍ كثيرٍ، وفي ذلكَ يقولُ بعضُهم: أستغفرُ اللَّهَ من أستغفرُ اللَّهَ. . . منْ لفْظَةٍ بَدَرَتْ خالفْتُ معناها

قوله تعالى: (واذكروا الله في أيام معدودات)

وكيفَ أرجُو إجاباتِ الدُّعاءِ وقد سدَدْتُ بالذَّنبِ عندَ اللَّهِ مجرَاها فأفضلُ الاستغفارِ ما اقترَنَ به ترْكُ الإصرارِ، وهو حينئذٍ توبة نصوح، وإن قالَ بلسانِهِ: أستغفرُ اللَّهَ، وهو غيرُ مقلع بقلبِهِ، فهو داع للَّه بالمغفرةِ، كما يقولُ: اللَّهُمَّ اغفر لي، وهو حسن، وقد يُرجَى له الإجابةُ، وأما من قالَ: هو توبةُ الكذابينَ، فمرادُه: أنَّه ليسَ بتوبة، كما يعتقدُهُ بعضُ الناسِ، وهذا حقّ، فإن التوبةَ لا تكونُ مع الإصرارِ. * * * قوله تعالى: (وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ) [قال البخاري] : "بابُ فضْلِ العملِ في أيَّامِ التشريقِ ": وقالَ ابنُ عباسٍ: (وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ) : أيامُ العشرِ. والأيَّامُ المعدوداتُ: أيَّام التَّشريقِ. وكانِ ابنُ عمرَ وأبو هريرةَ يخْرُجَانِ إلى السُّوقِ في أيام العشْرِ، يُكبِّرانِ ويُكبرُ الناسُ بتكبيرِهِمَا، وكبَّر محمدُ بنُ علي خلفَ النَّافلة. بوَّبَ على فضلِ أيام التشريق والعملِ فيها، وذكر في البابِ أيامَ التشريق وأيامَ العشرِ، وفضلَهُما جميعًا. وذكر عنِ ابنِ عباسٍ: أنَّ الأيامَ المعلوماتِ المذكورةَ في سورة الحج هي أيامُ العشرِ، والأيامَ المعدوداتِ المذكورةَ في سورة البقرةِ هي أيامُ التشريقِ.

وفي كلٍّ منهما اختلافٌ بين العلماءِ. فأمَّا المعلوماتُ: فقد رُوي عن ابنِ عباسٍ، أنَّها أيامُ عشرِ ذي الحجةِ، كما حكاه عنه البخاريُّ. ورُوي - أيضًا - عن ابنِ عُمرَ، وعن عطاءٍ والحسنِ ومجاهدِ وعكرمةَ وقتادةَ. وهو قولُ أبي حنيفة والشافعيِّ وأحمدَ - في المشهور عنه. وقالت طائفةٌ: الأيامُ المعلوماتُ: يومُ النحرِ ويومانِ بعدَهُ، رُوي عن ابنِ عمرَ وغيرِه من السلفِ، وقالُوا: هي أيامُ الذَّبح. ورُويَ - أيضًا - عن علي وابنِ عباسٍ، وعن عطاءٍ الخراسانيِّ والنخعيِّ. وهو قولُ مالكٌ وأبي يوسفَ ومحمدٍ وأحمدَ - في رواية عنه. ومن قالَ: أيامُ الذبح أربعةٌ، قالَ: هي يومُ النحرِ وثلاثةُ أيامٍ بعدَه. وقد رُوي عن أبي موسى الأشعريِّ، أنَّه قالَ - في خطبتِهِ يومَ النحرِ -: هذا يومُ الحجِّ الأكبرِ، وهذه الأيامُ المعلوماتُ التسعةُ التي ذكرَ اللَّهُ في القرآنِ، لا يُردُّ فيهنَّ الدُّعاءُ، هذا يومُ الحجِّ الأكبرِ، وما بعدَه من الثلاثةِ اللائي ذكرَ اللَّهُ الأيامُ المعدوداتُ، لا يُرَدُ فيهنَّ الدُّعاءُ. وهؤلاء جعلُوا ذكرَ اللَّهِ فيها هو ذكره على الذَّبائح. ورُويَ عن محمد بنِ كعبٍ، أنَّ المعلوماتِ أيامُ التشريقِ خاصة. والقولُ الأولُ أصحُّ، فإنَّ اللَّهَ سبحانه وتعالى قالَ بعد ذكره في هذه الأيامِ المعلوماتِ: (ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (29) .

والتفثُ: هو ما يصيبُ الحاجَّ منَ الشعَثِ والغبارِ. وقضاؤه: إكماله. وذلك يحصل يومَ النحرِ بالتحللِ فيه من الإحرامِ، فقد جعلَ ذلكَ بعد ذكر في الأيامِ المعلوماتِ، فدلَّ على أنَّ الأيَّامَ المعلوماتِ قبل يومِ النحرِ الذي يقضى فيه التفث ويُطَّوف فيه بالبيت العتيقِ. فلو كانت الأيامُ المعلوماتُ أيامَ الذبح لكان الذكرُ فيها بعدَ قخحاءِ التفثِ ووفاءِ النذورِ والتطوفِ البيتِ العتيقِ، والقرآنُ يدلُّ على أنَّ الذكرَ فيها قبلَ ذلك. وأمَّا قولُهُ تعالى: (عَلَى مَا رَزَقَهم مِّنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ) . فإمَّا أنْ يقالَ: إنَّ ذكرَه على الذبائح يحصلُ في يوم النحرِ، وهو أفضلُ أوقاتِ الذبح، وهو آخرُ العشرِ. وإمَّا أنْ يقالَ: إنَّ ذكرَه على ما رزقَنا من بهيمةِ الأنعامِ، ليسَ هو ذكره على الذبائح، بل ذكرُهُ في أيامِ العشرِ كلِّها، شكرًا على نعمةِ رزقهِ لنا من بهيمةِ الأنعامِ، فإنَّ للَّهِ تعالى علينا فيها نِعَمًا كثيرةً دنيويةً ودينيةً. وقد عدَّدَ بعضَ الدنيويةِ في سورة النَّحلِ، وتختصُ عشرُ ذي الحجةِ منها بحملِ أثقالِ الحاجِّ، وإيصالهم إلى قضاء مناسكِهِم والانتفاع بركوبِها ودرِّها ونسلِها وأصوافِهَا وأشعارِهَا. وأمَّا الدينية فكثيرةٌ، مثلُ: إيجابِ الهدْي وإشعارِه وتقليدِهِ، وغالبًا يكونُ ذلكَ في أيامِ العشرِ أو بعضِهَا، وذبحهُ في آخرِ العشرِ، والتقربُ به إلى اللَّهِ. والأكلُ من لحمِهِ، وإطعامُ القانِع والمعترِّ.

فلذلك شُرعَ ذكرُ اللَّهِ في أيامِ العشر شكرًا على هذه النعم كلِّها، كما صرَّح به في قولِهِ تعالى: (كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّروا اللَّهَ عَلَى ما هَدَاكُم) ، كما أمَرَ بالتكبيرِ عندَ قضاءِ صيامِ رمضانَ، وإكمالِ العدةِ، شكرًا على ما هدانا إليه من الصيامِ والقيامِ المقتضِي لمغفرةِ الذنوبِ السابقةِ. وأمَّا الأيامُ المعدوداتُ: فالجمهورُ على أنَّها أيامُ التشريقِ، ورُوي عن ابنِ عُمرَ وابنِ عباسٍ وغيرِ هِما. واستدل ابنُ عُمرَ بقولهِ: (فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ) . وإنَّما يكون التعجيلُ في ثاني أيامِ التشريقِ. قال الإمامُ أحمدُ: ما أحسنَ ما قالَ ابنُ عمرَ. وقد رُوي عن ابنِ عباسٍ وعطاء أنها أربعةُ أيام: يومُ النحرِ، وثلاثة بعدَه. وفي إسناد المرويِّ عن ابنِ عباسٍ ضعفٌ. وأمَّا ما ذكرَه البخاريُّ عن ابنِ عمرَ وأبي هريرةَ، فهو من روايةِ سلامٍ أبي المنذرِ، عنْ حميدٍ الأعرج، عن مجاهدٍ، أن ابنَ عمرَ وأبا هريرةَ كانا يخرجانِ في العشر إلى السوقِ يكبِّرانِ، لا يخرجَانِ إلا لذلكَ. خرَّجه أبو بكر عبدُ العزيز بنُ جعفرَ في "كتاب الشافي " وأبو بكرٍ المروذيُّ القاضي في "كتاب العبدين ". ورواه عفانُ: نا سلام أبو المنذرِ - فذكره، ولفظه: كانَ أبو هريرةَ وابنُ عُمرَ يأتيانِ السوقَ أيامَ العشر، فيكبِّرانِ، ويكبِّرُ الناسُ معهما، ولا يأتيانِ لشيءٍ

إلا لذلكَ. وروى جعفر الفريابيُّ، من روايةِ يزيدَ بنِ أبي زياد، قالَ: رأيتُ سعيدَ بنَ جبير وعبدَ الرحمنِ بن أبي ليلى ومجاهدًا - أو اثنينِ من هؤلاء الثلاثةِ - ومن رأينَا من فقهاءِ الناسِ يقولون في أيامِ العشرِ: "اللَّهُ أكبرُ اللَّهُ أكبرُ، لا إله إلا اللهُ، واللَّه أكبرُ اللَّهُ أكبرُ وللَّهِ الحمدُ". وروى المروزيُّ، عن ميمونَ بن مهرانَ، قالَ: أدركتُ الناسَ وإنَّهم ليكبرون في العشرِ، حتى كنت أشبهه بالأمواج من كثرتِهَا، ويقول: إنَّ الناسَ قد نقصُوا في تركِهمُ التكبيرَ. وهو مذهبُ أحمدَ، ونصَّ على أنَّه يجهرُ به. وقال الشافعيُّ: يكئرُ عند رؤيةِ الأضاحي. وكأنه أدخله في التكبيرِ على بهيمةِ الأنعامِ المذكورِ في القرآنِ، وهو وإنْ كان داخلاً فيه، إلا أنه لا يختصُّ به، بل هو أعمُّ من ذلكَ كما تقدم. وهذا على أصلِ الشافعيِّ وأحمدَ: في أن الأيامَ المعلوماتِ هي أيامُ العشرِ. كما سبق. فأمَّا من قالَ: هي أيامُ الذبح، فمنهُم من لم يستحبُّ التكبيرَ في أيامِ العشرِ، وحُكي عن مالكٍ وأبي حنيفة. ومنَ الناسِ مَن بالغَ، وعدَّه من البدع، ولم يبلغْه ما في ذلكَ من السُّنَّةِ. وروى شعبةُ قالَ: سألتُ الحكمَ وحمادًا عنِ التكبيرِ أيامَ العشرِ؛ فقالا: لا؛ مُحْدَثٌ. خرَّجه المروزيُّ.

وخرَّج الإمامُ أحمد من حديثِ ابنِ عُمرَ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "ما منْ أيام أعظم عندَ اللَّهِ ولا أحبُّ إليه العملُ فيه من هذه الأيام العشرِ، فأكثروا فيهنَّ منَ التهليلِ والتكبيرِ والتحميدِ". ويروى نحوُه من حديثِ ابنِ عباسٍ - مرفوعًا، وفيه: "فأكثروا فيهنَّ التهليل والتكبير، فإنَّها أيامُ تهليلٍ وتكبير وذكر اللَّهِ عزَّ وجلَّ ". وأمَّا ما ذكره عن محمدِ بنِ على في التكبيرِ خلفَ النافلةِ، فهوَ في أيامِ التشريقِ. ومرادُه: أنَ التكبيرَ يُشْرعُ في أيامِ العشرِ وأيام التشريقِ جميعًا. * * * أيام مِنًى هي الأيامُ المعدوداتِ التي قالَ اللَهُ عزَّ وجلَّ فيها: (وَاذْكرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ معْدُودَاتٍ) ، وهي ثلاثةُ أيام بعدَ يومِ النحرِ، وهيَ أيامُ التشريقِ، هذا قولُ ابنِ عمرَ وأكثر العلماءِ. ورُوي عن ابنِ عباسِ وعطاءٍ أنَّها أربعة أيام: يومُ النَّحْرِ، وثلاثةُ أيامٍ بعدَه، وسمَّاها عطاء أيَّامَ التشريقِ، والأولُ أظهرُ. وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أيَّامُ مِنًى ثلاثةٌ، (فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ) " خرَّجه أهل السنن الأربعة من حديثِ عبدِ الرحمنِ بنِ يَعْمُرَ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم.

وهذا صريحٌ في أنَّها أيامُ التشريقِ، وأفضلُها أولُها، وهو يوم القَرِّ؛ لأنَّ أهلَ مِنًى يستقرِّون فيه، ولا يجوزُ فيه النَّفر. وفي حديثِ عبد اللَّهِ بن قُرْط عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أعظم الأيام عندَ اللَّهِ يومُ النَّحرِ، ثمَّ يومُ القَرِّ". وقد رُوي عن سعيد بنِ المسيبِ أنَّ يومَ الحج الأكبرِ هو يومُ القَرِّ، وهو غريبٌ. ثم يومَ النَّفْر الأوَّل، وهو أوسطُها. ثم يومَ النَّفْر الثاني، وهو آخرُها، قال اللَّهُ تعالى: (فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ) . قال كثيرٌ من السّلَفِ: يريدُ أن المتعجِّل والمتأخِّر يُغفَر له، ويذهبُ عنه الإثمُ الذي كان عليه قبلَ حجِّه، إذا حجَّ فلم يرفُثْ ولم يَفْسُقْ، ورَجَعَ من ذنوبِهِ كيومِ ولدتْهُ أمُّه، ولهذا قال تعالى: (لِمَنِ اتَّقَى) ، فتكونُ التقوى شَرْطا لذهابِ الإثم على هذا التقديرِ، وتصيرُ الآيةُ دالَّةً على ما صرَح به قول النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: "مَن حجَّ فلم يرْفُثْ ولم يَفْسُقْ رجع من ذُنوبِه كيومِ ولدتْهُ أمَّهُ ". وقد أمرَ اللَّهُ تعالى بذكْرِه في هذه الأيامِ المعدُوداتِ، كما قالَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّها أيامُ اكْل وشُرْب وذِكرِ اللَّهِ عزَّ وجلَّ " وذِكْرُ اللَّهِ عزَّ وجلَّ المأمورُ بهِ في أيامِ التشريقَِ أنواعٌ متعددة: منها: ذِكْرُ اللَّه عزَّ وجلَّ عقبَ الصَّلواتِ المكتوباتِ بالتكبيرِ في أدْبارها. وهوَ مشروعٌ إلى آخرِ أيَّام التشريقِ عند جمهورِ العلماءِ. وقد رُوي عن عمرَ

وعليٍّ وابنِ عباسٍ، وفيه حديث مرفوع في إسنادِهِ ضعف. ومنها: ذِكْرُه بالتَّسميةِ والتكبيرِ عند ذبْح النُّسُك، فإنَّ وقتَ ذبْح الهدايا والأضاحي يمتدُّ إلى آخر أيامِ التشريقِ عند جماعةٍ من العلماءِ، وهو قولُ الشافعيِّ، ورواية عن الإمامِ أحمدَ، وفيه حديثٌ مرفوع: "كلُّ أيام مِنًى دبْحٌ "، وفي إسنادهِ مقالٌ. وأكثرُ الصحابةِ على أنَّ الذبح يختصُّ بيومين من أيَّامِ التشريقِ مع يومِ النَّحْرِ، وهو المشهورُ عن أحمدَ، وقول مالكٍ، وأبي حنيفةَ، والأكثرينَ. ومنها: ذِكْرُ اللَّهِ عزَّ وجلَّ على الأكْلِ والشربِ؛ فإن المشروع في الأكلِ والشربِ أن يُسمِّيَ اللَّه في أولِهِ، ويحمَدَهُ في آخر. وفي الحديثِ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: "إن اللَّهَ عزَّ وجلَّ يرْضَى عن العبْدِ أن يأكُلَ الأكْلَةَ فيحمدَهُ عليها، ويشربَ الشَّرْبةَ فيحمَدَهُ عليها". وقد رُوي أنَّ من سمَّى على أول طعامه وحمدَ اللَّهَ على آخر، فقد أدَّى ثمنَه، ولم يُسأل بعدُ عن شكر. ومنها: ذِكْرُهُ بالتكبيرِ عند رَمْي الجمارِ في أيَّامِ التشريقِ، وهذا يختصُّ بِهِ أهلُ الموسم. ومنها: ذِكْرُ اللَّه تعالَى المطلقُ، فإنَّه يستحبُّ الإكثارُ منه في أيَّامِ التشريقِ. وقد كان عُمَرُ يُكبِّر بمنًى في قبّته، فيسمعُهُ الئاسُ فيكبِّرون فترتجّ منًى تكبيرًا. وقد قال اللَّهُ تعالى:

(فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ (200) وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (201) . وقد استحبَّ كثير من السَّلفِ كثرةَ الدعاء بهذا في أيام التشريقِ. قال عكرمة: كان يُستحبُّ أن يُقالَ في أيامِ التشريقِ: (رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) . وعن عطاءٍ، قال: ينبغِي لكُلِّ من نَفَر أن يقولَ حين ينفرُ متوجهًا إلى أهلِه: (رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) . خرَّجهما عبدُ بن حُميدٍ في "تفسيره" وهذا الدعاءُ من أجمع الأدعيةِ للخير. وكانَ النبي - صلى الله عليه وسلم - يكثرُ منه. ورُوي أنَّه كان أكثرَ دعائِهِ، وكانَ إذا دعا بدعاءٍ جعله معه، فإنَّه يجمعُ خيرَ الدنيا والآخرةِ. قالَ الحسنُ: الحسنةُ في الدُّنيا العْلمُ والعبادةُ، وفي الآخرةِ الجنة. وقالَ سفيانُ: الحسنةُ في الدنيا العِلْمُ والرزقُ الطيّبُ؛ وفي الآخرةِ الجنة. والدُّعاءُ من أفضلِ أنواع ذكْرِ اللَّهِ عزَّ وجلَّ. وقد روى زيادٌ الجصَّاصُ عن أبي كنانةَ القرشيِّ أنَّه سمع أبا مُوسى الأشعريَّ، يقولُ في خطبتِهِ يومَ النَّحْر: بعد يومِ النَّحرِ ثلاثةُ أيامٍ التي ذكرَ اللَّهُ الأيامَ المعدُوداتِ لا يُرَدُّ فيهنَ الدُّعاءُ. فارفعُوا رغبتكُم إلى اللَّهِ عزَّ وجلَّ. وفي الأمرِ بالذكرِ عند انقضاء النُّسُك معنًى، وهو أنَّ سائر العباداتِ

تنقضِي ويُفرغُ منها، وذِكْرُ اللَّه باقٍ لا ينقضي ولا يفرغ منه، بل هو مستمرٌ للمؤمنينَ في الدنيا والآخرةِ. وقد أمرَ اللَّه تعالى بذكر عند انقضاءِ الصلاةِ، قال اللَّهُ تعالى: (فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ) . وقال تعالى في صلاةِ الجمعةِ: (فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا) . وقال تعالى: (فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7) وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ (8) . رُوي عن ابنِ مسعود، قالَ: فإذا فرغتَ من الفرائضِ فانْصَبْ. وعنه في قولِه تعالى: (وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ) قال: في المسألةِ، وأنتَ جالسٌ. وقال الحسنُ: أمرَه إذا فرغَ من غزوهِ أن يجتهدَ في الدُّعاءِ والعبادةِ. والأعمالُ كلُّها يُفرغُ مِنْهَا، والذِّكْرُ لا فراغَ له، ولا انقضاءَ، والأعمالُ تنقطعُ بانقطاع الدنيا ولا يبقى منها شيءٌ في الآخرة، والذِّكرُ لا ينقطعُ. المؤمنُ يعيشُ على الذكرِ، ويموتُ عليه، وعليه يُبعثُ. أحسِبْتُمُ أنَّ اللياليَ غَيَّرَْتْ. . . عهْدَ الهَوى لا كانَ مَن يتغيَرُ يفنى الزَّمانُ وليس يفنى ذِكْرُكُمْ. . . وعلى محبَّتِكُم أمُوتُ وأحْشَرُ قال ذو النون: ما طابتِ الدُّنيا إلا بذكره، ولا الآخرةُ إلا بعفوه، ولا الجنَّةُ إلا برؤيتِهِ.

بذكر اللَّهِ ترْتَاحُ القُلُوبُ. . . ودُنيانا بذكْراهُ تطيبُ إذا ذُكِرَ المحبوبُ عندَ حبيبِهِ. . . ترَنَّح نشوانٌ وحنَّ طروبُ فأيَّامُ التشريقِ يجتمعُ فيها للمؤمنينَ نعيمُ أبدانهِم بالأكْل والشُّربِ، ونعيمُ قلوبهِم بالذِّكرِ والشكرِ، وبذلكَ تتمُّ النِّعمةُ، وكلمَا أحدثُوا شكرًا على النِّعمةِ كان شكرُهُم نعمةً أخرى، فيحتاجُ إلى شكرٍ آخرَ، ولا ينتهي الشكر أبدًا. إذا كان شكْرِي نعْمةَ اللَّهِ نعْمَةً. . . عليَّ لَهُ في مِثْلِها يجبُ الشُّكْرُ فكيف بلوغ الشُّكْر إلا بفضلِهِ. . . وإنْ طالتِ الأيَّامُ واتَّصلَ العُمْرُ وفي قول النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّها أيامُ أكْلٍ وشُرْب وذِكْرِ اللَّهِ عزَّ وجلَّ "، إشارةٌ إلى أنَّ الأكل في أيام الأعيادِ والشُّربَ إنَّما يستعانُ به على ذِكْرِ اللَّهِ تعالى وطاعتِهِ، وذلكَ من تمامِ شُكْرِ النِّعْمة أن يستعانَ بها على الطاعاتِ. وقد أمرَ اللَّهُ تعالى في كتابِهِ بالأكلِ من الطَيِّباتِ والشكرِ لَهُ، فمنَ استعانَ بنعمِ اللَّهِ على معاصِيه فقدْ كفرَ نِعْمةَ اللَّهِ وبدَّلَها كُفْرًا، وهو جديرٌ أن يُسْلَبَها، كما قيل: إذا كنتَ في نعْمةٍ فارْعَها. . . فإنَّ المعاصي تُزيلُ النعم وداوِمْ عليها بشُكْر الإلهِ. . . فشُكْرُ الإله يزيلُ النقَم وخصوصًا نعمةُ الأكلِ من لحومِ بهيمةِ الأنعامِ، كما في أيامِ التشريقِ، فإنَّ هذه البهائمَ مطيعةٌ للَّه لا تعصيه، وهي مُسبِّحةٌ له قانتةٌ، كما قال تعالى: (وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ) ، وأنَّها تسجد لَهُ، كما أخبرَ بذلكَ

في سورةِ النحلِ وسورةِ الحج، وربما كانت أكثر ذكرًا للَّهِ من بعضِ بني آدمَ. وفي "المسندِ" مرفوعًا: "رُبَّ بهيمةٍ خيرٌ من راكِبِها، وأكثرُ للَّهِ منه ذكرًا". وقد أخبر اللَّه تعالى في كتابِهِ أنَّ كثيرًا من الجنِّ والإنسِ كالأنعامِ بل هم أضلُّ. فأباحَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ ذبْحَ هذه البهائم المطيعةِ الذاكرةِ له لعبادِهِ المؤمنينَ حتى تتقوى بها أبدانُهم، وتكمُلَ لذَّاتُهم في أكلِهِم اللحومَ، فإنَها من أجلِّ الأغذيةِ وألذِّها، مع أنَّ الأبدانَ تقومُ بغيرِ اللحم من النباتاتِ وغيرها، لكن لا تكمُل القوَّةُ والعقلُ واللذةُ إلا باللحم، فأباحَ للمؤمن قَتْلَ هذه البهائم والأكْلَ من لحومها، ليكمّل بذلك قوَّةَ عباده وعقولَهم، فيكونُ ذلك عوْنًا لهم على علومٍ نافعةٍ وأعمال صالحةٍ يمتازُ بها بنو آدمَ على البهائم، وعلى ذكْرِ اللَّه عزَّ وجلَّ، وهو أكثرُ من ذكرِ البهائم، فلا يليقُ بالمؤمن مع هذا إلا مقابلةُ هذه النعم بالشكرِ عليهَا، والاستعانةُ بها على طاعةِ الله عزَّ وجلَّ، وذكْرِه حيثُ فضَّلَ اللَّهُ ابنَ آدمَ على كثيرٍ من المخلوقات، وسخَّر له هذه الحيواناتِ، قال اللَّهُ تعالى: (فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (36) . فأمَّا من قَتَلَ هذه البهائمَ المطيعةَ الذَّاكرة للَّهِ عزَّ وجلَّ، ثم استعانَ بأكلِ لحومِهَا على معاصِي اللَّهِ عزَّ وجلَّ، ونسِي ذكرَ اللَّهِ عزَّ وجلَّ، فقد قَلَبَ الأمرَ وكفرَ النِّعمةَ، فلا كانَ من كانتِ البهائمُ خيرًا منه وأطوعً. نهارُك يا مَغْرُورُ سهْوٌ وغَفْلَة. . . وليلُك نَوْمٌ والرَّدَى لكَ لازِمُ

وتتعَبُ فيما سَوْفَ تكرَهُ غِبَّهُ. . . كذلك في الدُّنيا تعيشُ البهائمُ وإنَّما نُهيَ عن صيامِ أيامِ التشريقِ، لأنَّها أعيادٌ للمسلمينَ مع يومِ النَّحرِ. فلا تُصامُ بمنًى ولا غيرها عندَ جمهورِ العلماء، خلافًا لعطاءٍ، في قولِهِ: إنَّ النهي مختصّ بأهل منًى، وإنَّما نُهِي عن التطوَع بصيامها، سواء وافقَ عادةً أو لم يُوافق. فأمَّا صيامُها عن قضاءِ فرضٍ أو نَذْرٍ، أو صيامُها بمنًى للمتمتع إذا لم يجدِ الهَدْيَ، ففيه اختلافٌ مشهورٌ بين العلماءِ، ولا فرقَ بينَ يومٍ منها ويومٍ عند الأكثرين، إلا عندَ مالكٍ، فإنَّه قال: في اليومِ الثالثِ منها يجوزُ صيامُه عن نَذْرٍ خاصةً. وفي النهي عن صيامِ هذه الأيامِ والأمرِ بالأكلِ فيها والشُّرب سِرٌّ حسنٌ. وهو أنَّ اللَّهَ تعالى لمَّا علِمَ ما يُلاقي الوافِدون إلى بيتِهِ من مشاقِّ السَّفرِ وتعبِ الإحرامِ وجهادِ النفوسِ على قضاء المناسك، شرع لهم الاستراحةَ عقيبَ ذلك بالإقامةِ بمنًى يومَ النَّحْرِ وثلاثةَ أيامٍ بعدَه، وأمرَهُم بالأكْلِ فيها من لحومِ نُسُكِهم، فهم في ضيافةِ اللَّهِ عزَّ وجلَّ فيها، لطفًا من اللَّه بهم، ورأفةً ورحمةً. وشاركَهُم أيضًا أهلُ الأمصارِ في ذلكَ؛ لأنَّ أهلَ الأمصارِ شاركُوهم في حصولِ المغفرةِ والنَّصَبِ للَّهِ والاجتهادِ في عشْرِ ذي الحجَّة، بالصَّومِ والذِّكْرِ والاجتهادِ في العباداتِ، وشاركُوهم في حُصولِ المغفرةِ وفي التقرُّبِ إلى اللَّهِ تعالى بإراقةِ دماءِ الأضاحي، فشاركُوهم في أعيادهم، واشتركَ الجميعُ في الراحةِ في أيامِ الأعيادِ بالأكْلِ والشربِ، كما اشتركُوا جميعًا في أيام العشْرِ في الاجتهادِ في الطاعةِ والنَّصَبِ، وصارَ المسلمونَ كلُّهم في ضيافةِ

قوله تعالى: (ويسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله إن الله يحب التوابين ويحب

اللَّهِ عزَّ وجل في هذه الأيامِ، يأكلونَ من رزقِه، ويشكرونَهُ على فضلِهِ. ونُهوا عن صيامِها؛ لأنَّ الكريمَ لا يليقُ به أن يُجيعَ أضيافَهُ، فكأنَّه قيل للمؤمنينَ في هذه الأيامِ: قد فَرغ عملُكم الذي عَمِلْتُموه، فما باقي لكُم إلا الرَّاحةُ؛ فهذه الرَّاحةُ بذلك التعبِ، كما أُريح الصائمونَ لله في شهر رمضانَ بأمرِهم بإفطارِ يومِ عيدِ الفطر. ويؤخذُ من هذا إشارةٌ إلى حالِ المؤمنِ في الدنيا، فإنَّ الدُّنيا كلَّها أيامُ سفرٍ كأيَّامِ الحجِّ، وهي زمانُ إحرامٍ المؤمنِ عمَّا حرَّم اللَّهُ عليه من الشهواتِ. فمن صبَرَ في مدَّةِ سفرِهِ على إحرامِهِ وكفَّ عن الهوى، فإذا انتهى سفرُ عمى، ووصَلَ إلى مِنَى المُنَى، فقد قضى تَفَثَه ووفَّى نذْرَه، فصارتْ أيامُه كلُّها كأيامِ مِنًى، أيامُ أكل وشُربٍ وذكر اللَّه عزَّ وجلَّ. وصارَ في ضيافةِ اللَّهِ عزَّ وجل في جوارر أبدَ الأبدِ، ولهذا يُقال لأهلِ الجنةِ: (كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) ، (كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ) . وقد قيل: إنَّها نزلتْ في الصُّوَامِ في الدنيا. * * * قوله تعالى: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (222) وقولِ اللَّهِ عزَّ وجلَّ: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى) إلى قوله: (وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ) .

خرَّج مسلمٌ في "صحيحهِ " من حديثِ حمَّاد بن سلَمَةَ: نا ثابتٌ، عن أنَسٍ، أنَّ اليهودَ كانوا إذا حاضت المرأةُ فيهم لم يُؤاكلُوها ولم يُجامِعوهُنَّ في البيوتِ، فسأل أصحابُ النبيَِّ - صلى الله عليه وسلم - النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، فأنزل اللَّهُ عزَّ وجلَّ: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ) إلى آخرِ الآيةِ. فقال رسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "اصْنَعُوا كُلَّ شَيْءٍ إلا النكِّاحَ " - وذكر بقيَّةَ الحديثِ. فقولُهُ عزَّ وجلَّ: (وَيَسْألُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ) ، أي: عن حُكمِهِ والمباشرةِ فيه. و"المحيضُ "، قيل: إنَّه مَصْدَرٌ كالحَيْضِ، وقيلَ: بل هو اسم للحيض. فيكونُ اسمَ مصدرٍ. وقولُهُ تعالى: (قُلْ هُوَ أَذًى) ، فُسِّر الأذى بالدَّمِ النَّجسِ وبما فيه من القَذَرِ والنّتنِ وخروجهِ من مَخْرج البَوْل، وكل ذلك يُؤذِي. قال الخطَّابيُّ: الأذي هو المكروهُ الذي ليسَ بشديد جدًّا، كقولِهِ: (لَن يَضُرُوكُمْ إِلاَّ أَذًى) ، وقولِهِ: (إِن كانَ بِكمْ أَذًى مِن مَطَرٍ) ، قال: والمرادُ: أذًى يعتزِل منها مَوْضِعَه لا غيره، ولا يتعدَّى ذلك إلى سائرِ بدنِها، فلا يُجْتنبْنَ ولا يُخْرَجْنَ من البيوت كفعلِ المَجُوسِ وبعض أهلِ الكتابِ، فالمرادُ: أن الأذى بهنَّ لا يبلغ الحدَّ الذي يُجاوِزُونه إليه، وإنَّما يُجْتنب منهن موضحُ الأذى، فإذا تطهَّرنَ حلَّ غِشْيانُهنَّ. وقولُهُ تعالى: (فَاعْتَزِلُوا النسَاءَ فِي الْمَحِيضِ) ، قد فسَّره النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - باعتزال النكاح. وسيأتي فيما بعدُ - إنْ شاء اللَّهُ تعالى - ذِكْرُ ما يَحْرُم من

مباشرةِ الحائضِ وما يَحِلُّ منه في البابِ الذي يخْتَصُّ المباشرةَ من الكتابِ. وقد قيلَ: بأن المرادَ بالمحيضِ ها هُنا: مكانَ الحيضِ، وهو الفَرجُ، ونصَّ على ذلكَ الإمامُ أحمدُ، وحكاه الماورْدِيُّ عن أزواج النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وجمهورِ المفسرينَ، وحكى الإجماعَ على أنَّ المرادَ بالمحيضِ المذكورِ في أولِ الآية: الدَّمُ. وقد خالفَ في ذلك ابنُ أبي موسى من أصحابنِا في "شرح الخِرَقي ". فزعم أن مذهبَ أحمدَ أنَّه الفرجُ - أيضًا -، وفيه بُعدٌ. وجمهورُ أصحابِ الشافعيِّ على أنَّ المرادَ بالمحيضِ في الآيةِ الدَّمُ، في الموضعينِ. وقولُهُ: (وَلا تَقْرَبُوهُنَّ) ، نهي بعدَ الأمرِ باعتزالِهنَّ في المحيضِ عن قرْبأنهنَّ فيه، والمرادُ به: الجماعُ - أيضًا -، وفيه تأكيد لتحريمِ الوَطْءِ في الحيضِ. وقولُهُ: (حَتَّى يَطْهُرْنَ) فيه قراءتان: "يَطهُرْنَ " - بسكُونِ الطاءِ وضمَ الهاءِ -، و"يَطَّهَّرْنَ " - بفتح الطاءِ وتشديدِهَا وتشديدِ الهاءِ. وقد قيل: إنَّ القراءة الأولى أُريدَ بها انقطاعُ الدَّمِ، والقراءةُ الثانيةُ أُريدَ بها التَّطَهُّر بالماءِ. وممن فسر الأولى بانقطاع الدمِ ابنُ عباسٍ ومُجاهد وغيرُهما. وابنُ جريرٍ وغيرُهُ: يشيرونَ إلى حكايةِ الإجماع على ذلكَ. ومنَعَ غيرُه الإجماعَ، وقال: كل من القراءتينِ تحتملُ أن يُراد بها الاغتسالُ بالماءِ، وأنْ يُراد بها انقطاعُ الدمِ، وزوَالُ أذَاهُ.

وفي ذلك نظر، فإنَّ قراءةَ التشديدِ تدل على نسبة فِعْلِ التطهر إليها. فكيف يُراد بذلكَ مجردُ انقطاع الدمِ ولا صنع لها فيه. وقولُهُ: (حَتَّى يَطْهُرْنَ) ، غاية النَّهْي عن قربأنهن، فيدل بمفهومِهِ على أنَّ ما بعد التطهير يزول النهي. فعلى قراءةِ التشديدِ المُفَسَّرة بالاغتسال إنَّما يزول النَّهْيُ بالتطهرِ بالماءِ. وعلى قراءةِ التخفيفِ يدل على زوال النهي بمجردِ انقطاع الدمِ. واستدل بذلكَ فرقةٌ قليلة على إباحةِ الوطْءِ بمجرد انقطاع الدمِ، وهو قول أبي حنيفةَ، وأصحابِهِ، إذا انقطعَ الدمُ لأكثرِ الحيضِ، أو لدونِهِ، ومضَى عليها وقتُ صلاةٍ، أو كانتْ غيرَ مخاطبةٍ بالصلاةِ كالذِّمِّيَّة. وحُكي عن طائفةٍ إطلاقُ الإباحةِ، منهم: ابنُ بُكَيْرٍ وابنُ عبدِ الحَكَم. وفي نقله عنهُما نظرٌ. والجمهورُ على أنَّه لا يباحُ بدونِ الاغتسال، وقالُوا: الآيةُ وإنْ دلَّتْ بمفهومِهَا على الإباحةِ بالانقطاع إلا أن الإتيانَ مشروطٌ له شَرْطٌ آخرُ وهو التَّطَهُر، والمرادُ به: التطهرُ بالماءِ، بقوله: (فَإِذَا تَطَهَرْنَ فَأتُوهُنَّ) . فدل على أنَّه لا يكفي مجردُ التطهرِ، وأن الإتيانَ متوقفٌ على التطهرِ، أو على الطُهْرِ والتَّطَهُّرِ بَعْدَه، وفسَّر الجمهورُ التَّطَهُّرَ بالاغتسال، كما في قولهِ: (وَإِن كنتُمْ جُنُبًا فَاطَهَّرُوا) . وحُكي عن طائفةٍ من السَّلفِ: أن الوضوءَ كافٍ بعد انقطاع الدمِ، منهم: مُجاهدٌ، وعِكْرمةُ، وطاوسٌ، على اختلافٍ عنهم في ذلك. قال ابنُ المنذرِ: رُوِّينا بإسنادٍ فيه مقال عن عطاءٍ وطاوسٍ ومجاهدٍ، أنهم

قالُوا: إذا أدركَ الزوجَ الشَّبَقُ أمَرَها أنْ تتوضأ، ثم أصابَ منها وأصحُّ من ذلكَ عن عطاءٍ ومجاهدٍ موافقةُ القولِ الأولِ - وكراهتَه بدونِ الغُسلِ -، قالَ: ولا يثبتْ عن طاوسٍ خلافُ ذلك قال وإذا بطَلَ أن يَثبت عن هؤلاء قولٌ ثانٍ كان القولُ الأولُ كالإجماع، انتهى. ولذلك ضَعَفَ القاضي إسماعيلُ المالكي الروايةَ بذلك عن طاووس وعطاء لأنَّها من روايةِ لَيْثِ بنِ أبي سُلَيْم عنهما، وهو ضعيفٌ. وحُكي عن بعضِ السلفِ أن التطهرَ غَسْلُ الفرْج خاصة، رواه ابن جريج ولَيْث عن عطاءٍ، ورواه مَعْمَرٌ عن قتادةَ، وحكاه بعض أصحابنا عن الأوزاعيِّ، ولا أظنَّه يصحُّ عنه، وقاله قومٌ من أهل الظاهرِ. والصحيحُ الذي عليه جمهورُ العلماءِ: أنّ تطَهُّر الحائضِ كتطهر الجُنُب. وهو الاغتسال. ولو عَدِمَتِ الماءَ، فهل يُباح وطؤهَا بالتيمم؛ فيه قولان: أحدهما: يباحُ بالتيمم، وهو مذهبُنا، ومذهبُ الشافعيَ وإسحاقَ والجمهورِ، وقولُ يحيى بن بُكَيْرٍ من المالكية، والقاضِي إسماعيلَ منهم أيضًا. وقالَ مكْحُولٌ ومالكٌ: لا يُباح وطْؤُها بدون الاغتسال بالماءِ. وقوله: (فَأتُوهُنَّ) ، إباحةٌ، وقولُهُ: (مِنْ حَيْثُ أَمَرَكمُ اللَّهُ) . أي: باعتزالِهنَّ، وهو الفَرْجُ، أو ما بين السّرَّةِ والركبةِ، على ما فيه من الاختلافِ كما سيأتِي. روي هذا عن ابنِ عباسٍ، ومُجاهد وعِكرِمةَ. وقيلَ: المرادُ: من الفَرْج دون الدُّبر، رواه عليٌّ بنُ أبي طلْحةَ عنِ ابنِ عباسٍ.

وروى أبانُ بنُ صالح، عن مجاهدٍ، عن ابنِ عباسٍ، قال: (مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُم اللَّهُ) أن تعتزلوهنَّ. ورواه عِكْرمةُ، عن ابنِ عباسٍ - أيضًا. وقيل: المرادُ من قِبَلِ التطهرِ لا من قِبَلِ الحيض، ورُوي عن ابن عباسٍ - أيضًا -، وغير. و"التوابون ": الرَّجَّاعونَ إلى طاعةِ اللَّهِ من مخالفتِهِ. و"المتطهرونَ ": فسَّره عطاءٌ وغيرُهُ: بالتطهرِ بالماءِ، ومجاهدٌ وغيرةُ: بالتطهرِ من الذنوبِ. وعن مجاهدٍ، أنَّه فسَّره: بالتَّطهرِ من أدبارِ النساءِ. ويشهدُ له قولُ قومِ لُوطٍ: (إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ) . * * * والاعتزالُ الذي أمرَ اللَّهُ به: هو اجتنابُ جماعِهِنَّ، كما فَسَره بذلك رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وقال عِكْرمةُ: كان أهلُ الجاهليةِ يصنعونَ في الحيضِ نحوًا سن صنيع المَجُوسِ، فذكرُوا ذلكَ لرسولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، فنزلتْ: (وَيسْألُونَكَ عَنِ المَحِيضِ قلْ هُوَ أَذًى) الآية، فلم يَزِدِ الأمرُ فيهن إلا شدَّةً، فنزلت: (فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأتوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ) : أن تعتزِلُوا. أخرَّجَهُ القاضِي إسماعيلُ، بإسنادٍ صحيح. وهو يدلُّ على أنَّ أولَ ما نزلَ الأمرُ باعتزالِهنَّ فَهِمَ كثيرٌ من الناسِ منه

قوله تعالى: (لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم)

الاعتزال في البيوتِ والفرش كما كانوا يصنعونَ أوَّلاً، حتى نزل آخرُ الآيةِ: (فَأتُوهُنَّ مِنْ حَيْث أَمَرَكمُ اللَّهُ) ، ففُهِم من ذلك أن اللَّهَ أمر باعتزالِهنَّ في الوطْءِ خاصةً. وفسَّر النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - ذلك بقولِهِ: "اصنعوا كلَّ شيءٍ غيرَ النِّكاح "، وبِفعْله مع أزواجِهِ؛ حيث كان يباشرهنَّ في المحيضِ. * * * قوله تعالى: (لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ) [قال البخاريّ] : "بابُ: قول النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - "أنا أعلمُكُمْ باللَّهِ "، وأنَّ المعرفةَ فعْلُ القَلْبِ، لقوْلِهِ تعالى: (وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ) . مرادُه بهذا التبويبِ: أن المعرفةَ بالقلبِ التي هي أصلُ الإيمانِ فعلٌ للعبدِ وكسبٌ له، واستدلَّ بقوله تعالى: (بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ) ، فجعلَ للقلوبِ كسبًا، كما جعل للجوارح الظاهرةِ كسبًا. والمعرفةُ: هي مركبة من تصور وتصديقٍ، فهي تتضمنُ علمًا وعملاً، وهو تصديقُ القلبِ، فإن التصورَ قد يشتركُ فيه المؤمنُ والكافرُ. والتصديقُ يختصُّ به المؤمنُ، فهو عملُ قلبِهِ وكسبهُ. وأصلُ هذا: أن المعرفةَ مكتسبة، تُدركُ بالأدلةِ، وهذا قول أكثرِ أهلِ السنن من أصحابِنا وغيرِهِم، ورجَّحه ابنُ جريرٍ الطبريُّ.

وروى بإسنادِهِ، عن الفضيلِ بنِ عياضٍ، أنَّه قال: أهلُ السنةِ يقولونَ: الإيمانُ: المعرفةُ والقولُ والعملُ. وقالت طائفةٌ: إثها اضطراريةٌ، لا كسبَ فيها. وهو قولُ بعض أصحابِنا، وطوائفَ منَ المتكلمينَ والصوفيةِ وغيرِهِم. وخرَّج البخاريُّ في هذا البابِ: حديثَ: هشامٍ، عنْ أبيه، عنْ عائشةَ، قالتْ: كانَ رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إذا أمرَهُم أمرَهُم منَ الأعمالِ بما يطيقُونَ، قالُوا: إنَّا لسْنا كهيْئتكَ يا رسولَ اللَّهِ، إنَّ اللَّهَ قد غفَرَ لكَ ما تقدَّم من ذنْبِكَ وما تأخَّرَ، فيغضبُ حتَى يُعرفَ الغضبُ في وجْههِ، ثمَّ يقولُ: "إنَّ أتقاكم وأعلمَكُم بالله أنا". كانَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يأمرُ أصحابَه بما يطيقونَ من الأعمالِ، وكانوا لشدةِ حرصِهِم على الطاعاتِ يريدونَ الاجتهادَ في العملِ، فربما اعتذرُوا عن أمرِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - بالرفقِ، واستعمالِهِ له في نفسه، أنَّه غيرُ محتاج إلى العملِ بضمانِ المغفرةِ له، وهم غيرُ مضمونٍ لهم المغفرةُ، فهم محتاجونَ إلى الاجتهادِ، ما لا يحتاجُ هوَ إلى ذلك، فكانَ - صلى الله عليه وسلم - يغضبُ من ذلك، ويخبرُهُم أنَّه أتقاهم للَّهِ وأعلمُهُم به. فكونُه أتقاهُم للَّهِ يتضمنُ شدةَ اجتهادِهِ في خصالِ التقوى، وهو العملُ. وكونُه أعلمُهُم به يتضمنُ أنَّ علمَه باللَّهِ أفضلُ من علمِهِم باللَّهِ. وإنَّما أراد علمَه باللَّهِ، لمعنيينِ: أحدُهما: زيادةُ معرفتِهِ بتفاصيلِ أسمائه وصفاتِه وأفعالِه وأحكامِه وعظمتِه

وكبريائِه، وما يستحقُّه من الجلال والإكرامِ والإجلال والإعظامِ. والثاني: أن علمَهُ باللَّهِ مستندٌ إلى عينِ اليقينِ؛ فإنَّه رآهُ، إما بعينِ بصرِه. أو بعينِ بصيرتِه. كما قالَ ابنُ مسعودٍ وابنُ عباسٍ وغيرُهما: رآه بفؤادِه مرتينِ.. وعلمُهم به مستندٌ إلى علمِ يقينٍ، وبينَ المرتبتينِ تباينٌ. ولهذا سألَ إبراهيمُ - عليه السلامُ - ربَّه أن يرقيه من مرتبةِ علمِ اليقينِ إلى مرتبةِ عينِ اليقينِ، بالنسبةِ إلى رؤيةِ إحياءِ الموتى، وقد سبقَ التنبيهُ على ذلكَ والكلامُ في تفاصيل المعرفةِ القائمةِ بالقلبِ. فلمَّا زادتْ معرفةُ الرسولِ بربِّه، زادتْ خشيتُه له وتقواه، فإنَّ العلمَ التامَّ يستلزمُ الخشيةَ، كما قالَ تعالى: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ العُلَمَاءُ) . فمن كان باللَّهِ وبأسمائِه وصفاتِه وأفعالِه وأحكامِه أعلم، كان له أخشى وأتقى، وإنَّما تنقص الخشيةُ والتقوى بحسبِ نقصِ المعرفةِ باللَّهِ. وقد خرَجَ البخاريُ في آخرِ: "صحيحِهِ " عن مسروقٍ، قالَ: قالتْ عائشةُ: صنعَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - شيئًا، ترخَّصَ فيه، وتنزَّه عنه قومٌ، فبلغ ذلك النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، فحَمِدَ اللَّهَ، ثمَّ قالَ: "ما بالُ أقوامٍ يتنزَّهون عن الشيءِ أصنَعُه، فواللَّهِ؛ إنِّي لأعلمُهُم باللهِ وأشدُّهم له خشيةً". وفي "صحيح مسلم" عن عائشةَ، أنَّ رجلاً قالَ لرسولِ اللَهِ - صلى الله عليه وسلم -: يا رسولَ اللهِ إني أصبحُ جنبًا، وأنا أريدُ الصيامَ. فقالَ رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: "وأنا أصبحُ جنبًا، وأنا أريدُ الصيامَ، فأغتسلُ وأصومُ ".

فقال الرجلُ: يا رسولَ اللَّهِ، إنك لستَ مثلَنا، قد غُفرَ لك ما تقدَّم من ذنبك وما تأخَّرَ، فغضب رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، وقال: "إنِّي لأرجو أنْ أكونَ أخشاكُم للَّهِ وأعلَمكُم بما أتَقِي ". وفي حديثِ أنسٍ، أن ثلاثةَ رهطٍ جاءُوا إلى بيوتِ أزواج النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -. يسألونَ عن عبادةِ رسولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، فلمَّا أُخبروا بها كأنَّهم تقالُّوهَا، فقالُوا: وأينَ نحنُ منَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قد غَفَرَ اللَّهُ له ما تقدَّم من ذنبهِ وما تأخَرَ، فقالَ أحدُهم: أمَّا أنا، فإنِّي أصلِّي الليلَ أبدًا، وقالَ آخرُ: أصومُ الدهرَ ولا أفطرُ. وقال الآخرُ: أنا أعتزلُ النساءَ ولا أتزوّجُ أبدًا. فجاءَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - إليهم، فقالَ: "أنتم الذين قلتُمْ كذ وكذا؛ أما واللَّهِ، إنِّي لأخشاكُم للَّهِ، وأتقاكُم له، لَكِنِّي أصومُ وأُفطرُ، وأصلِّي، وأرقدُ، وأتزوج النساءَ، فمن رغبَ عن سنتي فليسَ منِّي ". وقد خرَّجاه في "الصحيحينِ " بمعناه. ففي هذه الأحاديثِ كلِّها: الإنكارُ على مَن نسبَ إليه التقصيرَ في العملِ للاتكالِ على المغفرةِ، فإنَّه كان يجتهدُ في الشكرِ أعظمَ الاجتهادِ، فإذا عُوتبَ على ذلكَ، وذُكرتْ له المغفرةُ، أخبرَ أنَه يفعلُ ذلك شكرًا. كما في "الصحيحينِ " عن المغيرةَ، أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كان يقومُ حتى تتفطَّر قدمَاه، فيقالَ له: تفعلُ هذا، وقد غُفِرَ لك ما تقدَّم من ذنبِكَ وما تأخَّرَ. فيقولُ: "أفلا أكونُ عبدًا شكورًا". وقد كان يواصلُ في الصيامِ وينهاهم، ويقول: "إنِّي لستُ كهيئتِكم، إنِّي أظلُّ

عند ربي يطعمنِي ويسقيني ". فنسبةُ التقصيرِ إليه في العملِ لاتكالِه على المغفرةِ خطأ فاحشٌ، لأنه يقتضي أن هديَه ليسَ هو أكمل الهديِ وأفضلَه، وهذا خطأ عظيم، ولهذا كانَ - صلى الله عليه وسلم - يقولُ في خطبته: "خير الهديِ هديُ محمد". ويقتضي - أيضًا - هذا الخطأ أنَّ الاقتداءَ بهديِه في العملِ ليس هو أفضلَ. بلِ الأفضلُ الزيادةُ على هديه في ذلك، وهذا خطأ عظيم جدًّا؛ فإنَّ اللَّهَ تعالى قد أمرَ بمتابعتِه، وحثَّ عليها، قال تعالى: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ) . فلهذا كان - صلى الله عليه وسلم - يغضبُ من ذلك غضبًا شديدًا، لما في هذا الظن من القدح في هديه ومتابعتِه والاقتداءِ به. وفي روايةِ للإمامِ أحمد: "واللَّهِ، إنّي لأعلمُكُم باللَّهِ، وأتْقَاكم له قلبًا". وقولُه في الروايةِ التي خرَّجها البخاريُّ في هذا الباب: "إنَّ أتقاكمْ وأعلمكُم باللَّهِ أنا"، فيه: الإتيانُ بالضميرِ المنفصلِ مع تأتَي الإتيانِ بالضميرِ المتصلِ، وهو ممنوع عند أكثرِ النحاةِ، إلا للضرورةِ، كقولِ الشاعِرِ: ضَمِنَتْ إيَّاهُمُ الأرْضُ في دَهْرِ الدَّهَارِيرِ وإنَّما يجوزُ اختيارًا، إذا لم يتأتَّ الإتيانُ بالمتصلِ، مثلُ أن تبتدئ بالضميرِ قبلَ عاملِهِ، نحوُ: (إِياكَ نَعْبُدُ) ، فإنَه لا يُبتدئ بضميرٍ متصلٍ، أو يقعُ بعدَ نحوِ: "إلا إياهُ ".

قوله تعالى: (ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن إن كن يؤمن بالله واليوم الآخر)

فأمَّا قولُ الشاعر: أنْ لا يُجَاوِرُنَا إلاكِ ديَّارُ فَشَاذٌّ. وأمَا قولُهُ: وإنَّما يُدَافعُ عنْ أحْسَابِهِم أنا أوْ مثْلِي فهو - عندهم - متأوَّل على أنَّ فيه مَعْنى الاستثناءِ. كأنَّه قال: ما يدافعُ عن أحْسابهم إلا أنا. ولكن؛ هذا الذي وقعَ في هذا الحديثِ يشهدُ لجوازه من غيرِ ضرورةٍ. ويكون حينئذٍ قولُهُ: "إنَّما يدافعُ عن أحْسابِهم أنا" شاهدًا له، غيرَ محتاج إلى تأويلٍ. واللَّهُ أعلم. * * * قوله تعالى: (وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) أما قولُ اللَّهِ عزَّ وجلَّ: (وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ) فإنَّه يدلُّ على أنَّ المرأةَ مؤتمنةْ على الإخبار بما في رحِمِها. ومُصَدَّقة فيه إذا ادَّعَتْ من ذلك مُمْكِنًا. روى الأعْمشُ، عن مُسْلمٍ، عن مسروق، عن أبيِّ بنِ كعْبٍ. قال: إنَّ من الأمانةِ أن ائتمنتِ المرأة على فَرْجِها.

وقد اختلفَ المفسرونَ من السلفِ فمن بعدَهم في المرادِ بقولِهِ تعالى: (مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ) ، ففسَّره قومٌ بالحملِ، وفسَّره قومٌ بالحيضِ. وقال آخرونَ: كل منهما مراد، واللَّفظُ صالحٌ لهما جميعًا، وهذا هو المروِي عن أكثرِ السلفِ، منهم: ابن عمرَ، وابنُ عباسٍ، ومجاهد، والحسنُ والضَّحاك. وأمَّا ما ذكره عن عَليٍّ وشُرَيْحٍ: فقال حَرْبٌ الكرمانيُّ: ثنا إسحاقُ - هو: ابن راهويه -: ثنا عيسى بن يونسَ، عن إسماعيلَ بنِ أبي خالدٍ، عن الشَّعْبيِّ، أنَّ امرأةً جاءت إلى عليِّ بن أبي طالبٍ فقالت: إني طُلِّقْتُ، فحضْتُ في شهرٍ ثلاثَ حِيَضٍ؛ فقال عليٌّ لشريح: قُل فيها، فقالَ: أقول فيها وأنت شاهد، قال: قُلْ فيها، قال: إنْ جاءت ببطانة من أهلها ممن يُرضى دينُهنَّ وأمانتهن فقل: إنَّها حاضت ثلاثَ حيضٍ طَهُرت عند كل حيضة، صُدِّقَتْ، فقال عليٌّ: قالون. قال عيسى: با لرُّوميَّةِ: أصبتَ. قال حرْبٌ: وثنا إسحاقُ: أبنا محمدُ بن بكرٍ، ثنا سعيدُ بنُ أبي عَرُوبةَ. عن قتادةَ، عن عزرةَ، عن الحسنِ العُرَنيِّ، أنَّ امرأةً طلَّقها زوجُها، فحاضت في خمس وثلاثينَ ليلةً ثلاثَ حيضٍ، فرفعتْ إلى شُريح فلم يَدرِ ما يقول فيها، ولم يَقُل شيئًا، فرُفعت إلى عليِّ بنِ أبي طالب، فقال: سلُوا عنها جاراتِها، فإنْ كان هكذا حيضُها فقد انْقضَتْ عدَّتها، وإلا فأشهر ثلاثٌ. وهذا الإسنادُ فيه انقطاعٌ، فإنَّ الحسنَ العُرني لم يدرك عليًّا -: قاله

قوله تعالى: (فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا ومن يفعل ذلك فقد ظلم نفسه)

أبو حاتمٍ الرازيُّ. وأمَّا الإسنادُ الذي قبله، فإنَّ الشعبيَّ رأى عليًّا يرجُم شُراحة ووصفَه. قال يَعْقُوبُ بنُ شيْبةَ: لكنه لم يُصحَّح سماعُه منه. * * * قوله تعالى: (فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ) قال تعالى: (فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ) . وقال: (وَبُعولَتُهُنَّ أَحَق بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلاحًا) . فدلَّ ذلكَ على أنَّ من كانَ قصدُه بالرَّجعةِ المضارَّةَ، فإنَّه آثم بذلكَ، وهذا كما كانُوا في أوَّلِ الإسلامِ قبل حصرِ الطَّلاقِ في ثلاثٍ، يطلًّقُ الرجلُ امرأتَه ثمَّ يتركُها حتى تقاربَ انقضاءَ عدَّتها، ثمَّ يراجعُها، ثم يطلِّقُها، ويفعلُ ذلكَ أبدًا بغيرِ نهايةٍ، فيدعُ المرأة لا مُطلقة ولا ممسكةً، فأبطلَ اللَّهُ ذلك، وحصر الطلاقَ في ثلاثِ مراتٍ. وذهبَ مالكٌ إلى أنَّ من راجعَ امرأتَهُ قبلَ انقضاءِ عدَّتِها، ثم طلَّقها من غيرِ مسيس: إن قصدَ بذلك مضارَّتها بتطويلِ العدَّة لم تستأنفِ العدَّةَ، وبَنتْ على ما مضى منها، وإنْ لم يقصدْ ذلكَ استأنفتْ عدَّةً جديدةً، وقيل: تَبْنِ مطلقًا، وهو قولُ عطاءٍ وقتادةَ، والشافعيِّ في القديم، وأحمدَ في روايةٍ. وقيل: تستأنفُ مطلقًا، وهو قولُ الأكثرينَ، منهم: أبو قِلابة، والزُّهريُّ

قال تعالى: (لا تضار والدة بولدها ولا مولود له بولده)

والثَّوريُّ وأبو حنيفة والشافعيُّ - في الجديدِ - وأحمدُ في روايةٍ وإسحاقُ وأبو عُبيدٍ وغيرُهم. قال تعالى: (لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ) قال مجاهدٌ في قولِهِ: (لا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا) قال: لا يَمنع أمَّه أن تُرضِعَهُ ليحزنَها، وقال عطاءٌ وقتادةُ والزهريُّ وسفيانُ والسُّدِّيُّ وغيرُهم: إذا رضيَتْ ما يرضَى به غيرُها فهي أحقُّ به. وهذا هو المنصوصُ عن أحمدَ، ولو كانتَ الأمُّ في حبالِ الزَّوج. وقيلَ: إن كانتْ في حبالِ الزَّوج، فله منعُها منْ إرضاعِهِ، إلا أن لا يُمكنَ ارتضاعُه من غيرِها، وهو قولُ الشافعيِّ، وبعضِ أصحابِنا، لكن إنَّما يجوزُ ذلكَ إذا كان قصدُ الزوج به توفيرَ الزوجة للاستمتاع، لا مجرَّدَ إدخالِ الضررِ عليها. وقوله تعالى: (وَلا مَوْلُودٌ لهُ بِوَلَدِهِ) يدخلُ فيه أدنَّ المطلقةَ إذا طلبتْ إرضاعَ ولدِهَا بأجرةِ مثْلِها لزمَ الأب إجابتُها إلى ذلك، وسواءٌ وُجِدَ غيرُها أو لم يُوجَدْ، هذا منصوصُ الإمامِ أحمدَ، فإنْ طلبَتْ زيادةً على أجرةِ مثلها زيادةً كثيرةً، ووجدَ الأبُ منْ يُرضعُه بأجرةِ المثلِ، لم يلزمِ الأبَ إجابتُها إلى ما طلبَتْ، لأنَّها تقصدُ المضارَّةَ، وقد نصَّ عليه الإمامُ أحمدُ أيضًا. * * *

قوله تعالى: (حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين)

قوله تعالى: (حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ) [قال البخاريّ] : ثنا إبْراهيمُ بنُ موسى: ثنا عيسى - هو: ابنُ يونسَ -، ثنا إسماعيلُ - هو: ابنُ أبي خالدٍ -، عنِ الحارثِ بنِ شُبَيْلٍ. عنْ أبي عمرو الشيبانيِّ، قال: قالَ لي زَيدُ بنُ أرقمَ: إنْ كُنَّا لنتكلمُ في الصلاةِ على عهدِ رسولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، فيكلِّمُ أحدُنا صاحبَه بحاجَته حتى نزلتْ: (حافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى) ، فأُمِرْنا بالسُّكُوتِ. وخرَّجه مسلمٌ، وزاد فيه: "ونُهينا عن الكلامِ "، وليس عنده: ذكرُ عهدِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -. وخرَّجه النسائيُّ، وعندَهُ: "فأمِرْنا حينئذ بالسكوتِ ". وخرَّجه الترمذيُّ، ولفظُه: كنا نتكلمُ خلفَ رسولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - في الصلاةِ، فيكلمُ الرجلُ منَّا صاحبَه إلى جنبِه، حتى نزلتْ (وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ) ، قال: "فأُمرنا بالسكوت، ونُهينا عن الكلامِ ". وهذه الروايةُ صريحةٌ برفع آخر. واختلفَ الناسُ في تحريمِ الكلامِ في الصلاةِ: هل كان بمكةَ، أو بالمدينةِ؟ فقالتْ طائفةٌ: كان بمكةَ. واستدلُّوا بحديثِ ابنِ مسعودٍ المتقدمِ، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - امتنعَ من الكلامِ عند قدومِهِم عليه من الحبشةِ، وإنَّما قدِمَ ابنُ مسعود عليه من الحبشةِ إلى مكةَ،

ثم هاجرَ إلى المدينةِ، كذا ذكرَه ابنُ إسحاقَ وغيرُه. ويعضدُ هذا: أنَه رُويَ: أنَّ امتناعهم من الكلامِ كان بنزولِ قولِهِ: (وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعوا لَهُ وَأَنصِتوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) ، وهذه الآيةُ مكيَّةٌ. فروى أبو بكرٍ بنُ عياشٍ، عن عاصمٍ، عن المسيّبِ بنِ رافعِ، قالَ: قالَ ابنُ مسعودٍ: كنا يسلمُ بعضُنا على بعضٍ في الصلاةِ، فجاءَ القرآنُ (وَإِذَا قُرِئَ الْقرْآن فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتوا) . وأخرَّجَه ابنُ جريرٍ وغيرُه. وهذا الإسنادُ منقطعٌ؛ فإن المسيبَ لم يلقَ ابنَ مسعودٍ. وروى الهَجَريُّ، عن أبي عياضٍ، عن أبي هريرةَ، قال: كانوا يتكلَّمون في الصلاةِ، فلما نزلتْ هذه الآيةَُ (وَإِذَا قرِئَ الْفرْآنُ) ، والآيةُ الأخرى، قال: فأمِرْنا بالإنصاتِ. وخرَّجه بقيُّ بنُ مخلدٍ في "مسندهِ ". وخرَّجه غيرُه، وعنده: "أو الآيةُ الأخرى" - بالشكِّ. والهجريُّ، ليس بالقويِّ. ولكن يشكلُ على أهلِ هذه المقالةِ حديثُ زيدِ بنِ أرقم، الذي خرَّجه البخاريُّ هاهنا، فإن زيدًا أنصارفيٌ، لم يصلِّ خلفَ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - بمكةَ، إنَّما صلى خلفه بالمدينةِ، وقد أخبر أنهم كانوا يتكلَّمون حتى نزلتْ (وقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ) ، وهي مدنيةٌ بالاتفاق. وأجابَ أبو حاتمٍ ابنُ حبانِ - وهو ممن يقولُ: إن تحريمَ الكلامِ كان

بمكة -: وأجيبَ عن هذا بجوابينِ: أحدُهما: أن زيدَ بنَ أرقم حكى حال الأنصارِ وصلاتَهم بالمدينةِ قبلَ هجرة النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - إليهم، وأنَّهم كانوا يتكلمونَ حينئذٍ في الصلاةِ، فإنَّ الكلامَ حينئذٍ كان مباحًا، وكانَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - إذْ ذاكَ بمكةَ، فحكى زيد صلاتَهم تلك الأيامَ، لا أنَّ نسخَ الكلامِ كانَ بالمدينةِ. قلتُ: هذا ضعيف، لوجهينِ: أحدُهما: أن في روايةِ الترمذيِّ: "كنَّا نتكلمُ خلفَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في الصلاةِ"، فدلَّ على أنَّه حكى حالَهم في صلاتِهم خلفَ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - بعد هجرتِهِ إلى المدينةِ. والثاني: أنه ذكرَ أنهم لم يُنْهوا عن الكلامِ حتى نزلتِ الآية ُ، وهي إنَما نزلتْ بعدَ الهجرةِ بالاتفاقِ، فعلمَ أنَّ كلامَهم استمرَّ في الصلاةِ بالمدينةِ، حتى نزلتْ هذه الآية ُ. ثم قال ابنُ حبانَ: والجوابُ الثاني: أن زيدًا حكى حال الصحابةِ مطلقًا من المهاجرينَ وغيرِهم. ممن كانَ يصلِّي مع النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قبلَ تحريمِ الكلامِ في الصلاةِ، ولم يرد الأنصارَ، ولا أهلَ المدينةِ بخصوصِهم، كما يقولُ القائلُ: فعلْنا كذا وإنَّما فعلَه بعضُهم. قلتُ: وهذا يردُّه قولُه: "حتى نزلتِ الآية ُ"، فإنَّه يصرحُ بأن كلامَهم استمرَّ إلى حين نزولِها، وهي إنما نزلتْ بالمدينةِ. وأجابَ غيرُ ابنِ حبانَ بجوابينِ آخرينِ:

أحدُهما: أنَّه يحتملُ أنه كان نهى عن الكلامِ متقدمًا، ثم أذنَ فيه، ثم نهى عنه لما نزلتِ الآيةُ. والثاني: أنه يحتملُ أن يكونَ زيدُ بنُ أرقم ومن كان يتكلَّمُ في الصلاةِ لم يبلغْهم نهيُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فلما نزلتِ الآيةُ انتهَوْا. وكلا الجوابينِ فيه بُعْدٌ، وإنَّما انتهوا عند نزولِ الآيةِ، بأمرِ النبي - صلى الله عليه وسلم - بالسكوتِ، ونهيِه عن الكلامِ، كما تقدمَ. وقالت طائفةٌ أخرى: إنَّما حُرِّمَ الكلامُ في الصلاةِ بالمدينةِ؛ لظاهرِ حديثِ زيدِ بنِ أرقم، ومنعُوا أن يكونَ ابنُ مسعود رجعَ من الحبشةِ إلى مكةَ. وقالُوا: إنما رجع من الحبشةِ إلى المدينةِ، قبيل بَدْرٍ. واستدلُّوا بما خرَّجه أبو داودَ الطيالسيُّ في "مسندِهِ " من حديثِ عبدِ اللَّهِ بنِ عتبةَ، عن ابنِ مسعود، قال: بعثنَا النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - إلى النجاشيِّ، ونحن ثمانونَ رجلاً، ومعنا جعفرُ بنُ أبي طالب - فذكرَ الحديثَ في دخولِهم على النجاشيِّ، وفي آخر -: فجاءَ ابنُ مسعود، فبادرَ، فشهدَ بدرًا. وروى آدمُ ابنُ أبي إياسٍ في "تفسيره": حدثَنا أبو مَعْشر، عن محمدِ بنِ كعبٍ، قال: قدمَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - المدينةَ، والناسُ يتكلمونَ بحوائجِهم في الصلاةِ، كما يتكلَّمُ أهلُ الكتابِ، فأنزلَ اللَّهُ: (وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ) ، فسكتَ القومُ عن الكلامِ. وهذا مرسلٌ. وأبو معشرٍ، هو: نجيحٌ السِّنديُّ، يتكلمونَ فيه. وقد اتفقَ العلماءُ على أنَّ الصلاةَ تبطلُ بكلامِ الآدميين فيها عمدًا لغيرِ

قوله تعالى: (فإن خفتم فرجالا أو ركبانا فإذا أمنتم فاذكروا الله كما علمكم ما لم تكونوا تعلمون (239)

مصلحةِ الصلاةِ، واختلفُوا في كلامِ الناسي والجاهلِ والعامدِ لمصلحةِ الصلاةِ. فأمَّا كلامُ الجاهلِ، فيأتي ذكرُه - قريبًا. وأمَّا كلامُ الناسي والعامد لمصلحة، فيأتي ذكرُه في "أبواب سجود السهوِ" قريبًا - إن شاءَ اللَّه تعالى َ. * * * قوله تعالى: (فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (239) [قال البخاريُّ] : "بابُ: صلاةِ الخوفِ رِجَالاً ورُكْبَانًا": رَاجِل: قَائِمٌ. حدَّثنا سعيدُ بنُ يحيى بنِ سعيدٍ القُرشيُّ: أنا أبي: نا ابنُ جُريج عن موسى بنِ عقبةَ، عن نافع، عن ابنِ عمرَ - نحوًا من قولِ مجاهدٍ: إذا اختلطُوا قيامًا. وزادَ ابنُ عمرَ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: "وإن كانُوا أكثرَ منْ ذلكَ فليُصَفُوا قيامًا ورُكبَانًا". وخرَّج مسلم من حديثِ سفيانَ، عن موسى بن عقبةَ، عن نافعِ، عن ابنِ عمرَ، قال: صلَّى رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - صلاةَ الخوفِ في بعضِ أيامه، فقامتْ طائفة معه، وطائفةٌ بإزَاءِ العدوِّ، فصلَّى بالذين معه ركعةً، ثم ذهبُوا، وجاء الآخرونَ فصلَّى بهم ركعةً، ثم قضتِ الطائفتانِ ركعةً، ركعةً.

قال: وقالَ ابنُ عمرَ: فإذا كان خوف أكثرُ من ذلك فصلِّ راكبًا أو قائمًا تُومِيءُ إيماءً. فجعلَ هذ الوجهَ من قولِ ابنِ عُمرَ، ولم يرفعْه. وروى أبو إسحاق الفزاريُّ، عن موسى بن عقبةَ، عن نافع، عن ابنِ عمرَ - الحديثَ مرفوعًا، ولم يذكرْ في آخرِه: "فإذا كان خوف أكثرُ من ذلك " - إلى آخر. وخرَّج ابنُ ماجةَ وابنُ حبانَ في "صحيحِه " من حديثِ جريرٍ، عن عبيدِ اللَّهِ بنِ عمرَ، عن نافع، عنِ ابنِ عمرَ، عنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في صلاةِ الخوفِ - فذكرَ صفتِها بمعنى حديثِ موسى بنِ عقبةَ، وقال في آخرِ الحديثِ: "فإنْ كانَ خوفًا أشدَّ من ذلك فَرِجالاً أو رُكبانًا". وقد خالفَ جريرًا يحيى القطَّانُ وعبدُ اللَّهِ بنُ نُميرٍ ومحمدُ بنُ بشرٍ وغيرُهم، روَوْه عن عبيدِ اللَّهِ، عن نافع، عن ابنِ عمرَ - موقوفًا كلَّه. ورواه مالكٌ في "الموطإِ"، عن نافع، عنِ ابنِ عُمرَ - في صفةِ صلاةِ الخوفِ بطولِهِ -، وفي آخره: "فإن كان خوفًا هو أشدَّ من ذلك صلُّوا رجالاً قيامًا على أقدامِهم، أو ركبانًا، مستقبلي القبلةِ، أو غيرَ مستقبِليها". قال مالكٌ: قال نافع: لا أرى ابنَ عمرَ ذكرَ ذلك إلا عن رسولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -. وخرَّجه البخاريُّ في "التفسيرِ" من طريقِ مالكٍ كذلك.

قال ابنُ عبدِ البرِّ: رواه مالكٌ، عن نافع على الشكِّ في رفعهِ، ورواه عن نافع جماعةٌ لم يشكُّوا في رفعهِ، منهمُ: ابنُ أبي ذئبٍ وموسى بنُ عقبةَ وأيوبُ بنُ موسى. وذَكَرَ الدارقطنيُّ أن إسحاق الطبَّاعَ رواه عن مالكٍ ورفعَهُ من غيرِ شكٍّ. وهذا الحديثُ ينبغِي أن يضافَ إلى الأحاديثِ التي اخْتَلفَ في رفعِها نافعٌ وسالم، وهي أربعةٌ سبقَ ذكرُها بهذَا الاختلافِ في رفع أصلِ الحديثِ في صلاةِ الخوفِ عن نافع. وبقي اختلافٌ آخرُ، وهو في قولِهِ في آخرِ الحديثِ: "فإنْ كان خوفًا أكثرَ من ذلك " إلى آخر؛ فإن هذا قد وقفه بعضُ من رفعَ أصلَ الحديثِ، كما وقفَه سفيانُ، عن موسى بن عقبةَ، وجعلَه مُدرجًا في الحديثِ. وقد ذكرَ البخاريُ؛ أنَّ ابنَ جريج رفعَه عن موسى، وخرَّجه من طريقِه كذلك. وأمَّا قولُ مجاهدٍ المشارُ إليه في روايةِ البخاريِّ: روى ابنُ أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ: (فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَانًا) ، إذا وقعَ الخوفُ صلَّى على كلِّ وجهةٍ، قائمًا أو راكبًا أو ما قدرَ، ويومئُ برأسِهِ، ويتكلَّمُ بلسانهِ. وروى أبو إسحاقَ الفزاريُّ، عن ابن أبي أنيسةَ، عن أبي الزبير، قالَ: سمعتُ جابرًا سُئلَ عن الصلاةِ عند المسايفة؟ قال: ركعتينِ ركعتينِ، حيث توجهتَ على دابتكَ تومى إيماءً. ابنُ أبي أنيسةَ، أظنُّه: يحيى، وهو ضعيفٌ.

وخرَّج الإسماعيليُّ في "صحيحِه "، وخرَّجه من طريقه البيهقى، من روايةِ حجاج بنِ محمدٍ، عن ابنِ جريجٍ، عن ابنِ كثيرٍ، عن مجاهدٍ، قال: إذا اختلطُوا، فإنَما هو التكبير والإشارةُ بالرأسِ. قال ابنُ جريج: حدثني موسى بنُ عقبةَ، عن نافع، عن ابنِ عُمرَ، عنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - بمثلِ قولِ مجاهدٍ: إذا اختلطُوا، فإنَّما هو التكبيرُ والإشارةُ بالرأسِ. وزاد: عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: "فإنْ كثرُوا فليصلُّوا ركبانًا أو قياما على أقدامِهِم " - يعني: صلاةَ الخوفِ. وخرَّجه - أيضًا - من رواية سعيدِ بنِ يحيى الأمويِّ، عن أبيه، عن ابنِ جريجٍ، ولفظُه: عن ابنِ عمرَ - نحوًا من قولِ مجاهد: إذا اختلطوا، فإنَّما هو الذكرُ وإشارةٌ بالرأسِ. وزاد ابنُ عمرَ: عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: "وإن كانُوا أكثرَ من ذلك فليصلُّوا قيامًا وركبانًا ". كذا قرأتُه بخط البيهقيِّ. وخرَّجه أبو نُعيمٍ في "مستخرجِهِ على صحيح البخاريّ " من هذا الوجهِ. وعندَهُ: "قيامًا وركباناً"، وهو أصحُّ. وهذه الروايةُ أتمُّ من روايةِ البخاريِّ. ومقصودُ البخاريِّ بهذا: أنَّ صلاةَ الخوفِ تجوزُ على ظهورِ الدوابِّ

للركبانِ، كما قال تعالى: (فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ ركبانًا) . ويعني: "رجالاً": قيامًا على أرجلهم، فهو جمعُ راجلٍ، لا جمعَ رجلٍ، و"الركبانُ ": على الدوابِّ. وقد خرَّج فيه حديثًا مرفوعًا. وقد روي عن ابنِ عمرَ وجابرٍ، كما سبق. وقال ابنُ المنذرِ: أجمعَ أهلُ العلم على أن المطلوبَ يصلِّي على دابتِهِ - كذلك قال عطاءُ بنُ أبي رباحِ، والأوزاعيُّ، والشافعيّ وأحمدُ، وأبو ثورٍ -، وإذا كان طالبًا نزلَ فصلى بالأرضِ. قال الشافعيُّ: إلا في حالٍ واحدةٍ، وذلك أن يقل الطالبونَ عن المطلوبين. ويُقطَع الطالبونَ عن أصحابِهم، فيخافون عودةَ المطلوبين عليهم، فإذا كانُوا هكذا كان لهم أن يصلُّوا يُومِئُون إيماءً، انتهى. وممن قال: يصلِّي على دابته ويومِئُ: الحسنُ والنخعي والضحاكُ، وزاد: أنه يصلِّي على دابَّتِه طالبًا كانَ أو مطلوبًا، وكذا قال الأوزاعيُّ. واختلفتِ الروايةُ عن أحمدَ: هل يصلِّي الطالبُ على دابتِه، أم لا يصلِّي إلا على الأرضِ؟ على روايتين عنه، إلا أن يخافَ الطالبُ المطلوبَ، كما قال الشافعيُّ، وهو قولُ أكثرِ العلماءِ. قال أبو بكرٍ عبدُ العزيزِ بنُ جعفرٍ: أما المطلوبُ، فلا يختلفُ القولُ فيه، أنه يصلِّي على ظهرِ الدابةِ. واختلفَ قولُه في الطالبِ، فقالُوا عنه: ينزلُ فيصلِّي على الأرضِ، وإن خافَ على نفسِهِ صلَّى وأعادَ، وإنْ أخَّرَ فلا بأسَ، والقولُ الآخرُ: أنه إذا خافَ أن ينقطعَ عن أصحابِهِ أن يعودَ العدوُّ عليه، فإنه يصلِّي على ظهرِ دابتِه، فإنه مثلُ المطلوبِ لخوفِهِ، وبه أقولُ. انتهى. وما حكاه عن أحمدَ من أن الطالبَ إذا خافَ فإنه يصلِّي ويعيدُ، فلم يذكر

به نصًّا عنه، بل قد نصَ على أنه مثلُ المطلوبِ. قال - في رواية أبي الحارث -: إذا كان طالبًا وهو لا يخافُ العدوَّ، فما علصتُ أحدًا رخَّص له في الصلاة على ظهرِ الدابةِ، فإن خافَ إنْ نزلَ أن ينقطعَ من الناسِ، ولا يأمنُ العدوًّ فليصل على ظهرِ دابتِه ويلحقُ بالناسِ. فإنه في هذه الحالِ مثلُ المطلوبِ. ونَقَلَ هذا المعنى عنه جماعةٌ، منهم: أبو طالبٍ والأثرمُ. وله أن يصلِّيَ مستقبلَ القبلةِ وغيرَ مستقبلِها على حسبِ القدرةِ. وفي وجوبِ استفتاح الصلاةِ إلى القبلةِ روايتانِ عن أحمدَ: فمن أصحابِنا من قال: الروايتانِ مع القدرةِ، فأمَّا معَ العجزِ فلا يجبُ. روايةً واحدةً. وقال أبو بكرٍ عبدُ العزيزِ عكسَ ذلك، قال: يجبُ مع القدرةِ لأ ومع عدمِ الإمكانِ، روايتانِ. وهذا بعيدٌ جدًّا - أعني: وجوبَ الاستفتاح إلى القبلةِ مع العجزِ، ولعلَّ فائدة إيجابِ الإعادةِ بدونِهِ. ولهم أن يصلُّوا صلاةَ شدةِ الخوفِ رجالاً وركبانًا في جماعةٍ، نصَّ عليه أحمدُ، وهو قولُ الشافعيِّ ومحمدِ بنِ الحسنِ. وقال أبو حنيفةَ والثوريُّ والأوزاعيُّ: لا يصلونَ جماعةً، بل فرادَى؛ لأنَّ المحافظةَ على الموقفِ والمتابعةِ لا تمكنُ. وقال أصحابُنا ومَن وافقهم: يُعْفَى عن ذلك هاهنا، كما يُعْفَى عن استدبارِ القبلةِ والمشي في صلواتِ الخوفِ، وإن كان معَ الانفرادِ يمكن تركُ ذلك.

قوله تعالى: (ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين (251)

قالُوا: ومتى تعذَّرتِ المتابعةُ لم تصحَّ الجماعةُ بلا خلافٍ. * * * قوله تعالى: (وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (251) وقد قيلَ في تأويلِ قولِهِ تعالى: (وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ) : إنه يدخل فيها دفْعُهُ عن العُصاةِ باهلِ الطَّاعةِ، وجاءَ في الآثارِ: إنَّ اللهِ يدْفَعُ بالرجلِ الصالح عن أهلهِ وولدِهِ وذريَّتِه ومنْ حَوله. وفي بعضِ الآثارِ يقول اللَّهُ عزَّ وجلَّ: "أحبُّ العبادِ إليَّ المتحابونَ بجلالِي المشَّاءونَ في الأرضِ بالنصيحةِ، المشَّاءونَ على أقدامِهِم إلى الجُمُعاتِ ". وفي رواية: "المعلَّقةُ قلوبُهم بالمساجدِ، والمستغفرونَ بالأسحارِ، فإذا أردْتُ إنزالَ عذاب بأهلِ الأرضِ فنظَرْتُ إليهم صرفْتُ العذابَ عن الناسِ " وقال مكحولٌ: ما دامَ في الًنَّاسِ خمسةَ عشرَ يستغفرُ كلّ منهُم اللَّهَ كلَّ يومٍ خمسًا وعشرينَ مرَّةً لم يَهْلِكُوا بعذابِ عامَّة. والآثارُ في هذا المعنى كثيرةٌ جدًّا. * * * قوله تعالى: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (260) [قال البخاريُّ] : وقال إبراهيمُ عليهِ السلامُ: (وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) وقد فسَّرها سعيدُ بن جبيرٍ بالازديادِ من الإيمانِ، فإنَّه قال لَهُ:

قوله تعالى: (إن تبدوا الصدقات فنعما هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم ويكفر عنكم من سيئاتكم والله بما تعملون خبير (271)

(أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) ، فطلبَ زيادةً في إيمانِهِ؛ فإنَّه طلبَ أن ينتقل من درجةِ علم اليقينِ إلى درجة عينِ اليقينِ وهي أعلى وأكمل، وفي "المسندِ" عن ابنِ عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ليس الخبر كالمعاينةِ". * * * قوله تعالى: (إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (271) في صدقةِ السِّرِ، وفي فضلِهَا، نصوصٌ كثيرة، فمن القُرآنِ: قولُهُ: (وَإِن تخْفُوهَا وَتؤْتوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لكمْ) . ومن السنة: حديثُ: "رجلٌ تصدَّق بصدقةٍ فأخفَاهَا، حتى لا تعلمَ شمالُه، ما تُنفق يمينُه ". وحديثُ: "الجاهرُ بالقرآنِ كالجاهرِ بالصدقةِ، والمسرُّ بالقرآنِ كالمُسِر بالصدقةِ". وحديثُ أنسٍ: "لمَّا خلقَ اللَّهُ الأرضَ، جعلَتْ تميدُ فخلقَ الجبالَ.. " الحديثَ، وفي آخره: "قيلَ: فهل منْ خلقِكَ شيء أشدُّ من الريحِ؛ قالَ: نعمْ، ابنُ آدمَ يتصدقُ بيمينِه فيُخفِيهَا عنْ شمالِهِ ". وحديثُ أبي ذر، وزادَ: ثمَّ نزعَ بهذه الآية: (إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ) .

وحديثُ: "صدقة السرِّ، تُطفئُ غضبَ الربَ عزَّ وجلَّ، وتدفعُ مِيتةَ السوءِ" خرَّجه الترمذيُّ، وابنُ حبانٍ. وحديثُ أبي طلحةَ، لمَّا تصدَّقَ بحائِطِه، وقالَ: "لو استطعتُ أن أُسره، لم أعلنْه " خرَّجه الترمذيُّ في "تفسير". واختلفُوا في الزكاةِ: هلِ الأفضلُ إسرارُها أم إظهارُها؟ فرُويَ عن عليِّ بنِ أبي طلحةَ، عنِ ابنِ عباسٍ، قالَ: جعلَ اللَّهُ صدقةَ الفريضة علانيتَها أفضلَ من سرِّها، يُقالُ: بخمسةٍ وعشرينَ ضعفًا، خرَّجه ابنُ جريرٍ. وفي روايةٍ، قال: وكذلك جميعُ الفرائضِ والنوافلِ في الأشياءِ كلِّها. وقال سفيانُ الثوريّ في هذه الآيةِ: هذا في التطوع. وعن يزيد بنِ أبي حبيب: إنَّما نزلتْ هذه الآية ُ في اليهودِ والنصارى وكان يأمرُ بِقَسم الزكاةِ في السرِّ، قالَ ابنُ عطيةَ: وهذا مردود، لا سيَّما عند السلفِ الصالح، فقد قالَ ابنُ جريرٍ الطبريِّ: أجمعَ الناسُ، أنَّ إظهارَ الواجبِ، أفضلُ. قال المهدويُّ: وقيل المُرادُ بالآيةِ فرضُ الزكاةِ والتطوعُ، وكان الإحفاءُ فيها أفضلَ في مدّة النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، ثمَّ ساءتْ ظنونُ الناسِ، بعد ذلك، فاستحسنَ العلماءُ، إظهارَ الفرائضِ، لئلا يُظن بأحدٍ المنعُ. قال ابنُ عطيةَ: وهذا القولُ مخالف للآثارِ، قالَ: ويشبه في زمنِنا أنْ

يحسنَ التسترُ بصدقةِ الفرضِ، فقد كثر المانعُ لها، وصار إخراخها عُرضةً للرِّياءِ. وهذا الذي تخيَّله ابنُ عطيةَ ضعيف، فلو كانَ الرجلُ في مكانٍ يتركُ أهلُه الصلاةَ، فهل يُقال: إن الأفضلَ أنْ لا يُظهرَ صلاتَه المكتوبة؟!. وقال النَّقاشُ: إنَّ هذه الآيةَ نسخَها قولُهُ تعالى: (الَّذِينَ يُنفِقونَ أَموَالَهُم بِالَّليْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً) الآية. انتهى ما ذكرَهُ. ودعوى النسخ ضعيف جدًّا، وإنَّما معْنى هذه الآيةِ، كمَعْنى التِي قبلها: إنَّ النفقةَ تُقبلَ سرًّا، وعلانيةً. وحُكي عن المهدويِّ أنَّ قولَه تعالى: (لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِن اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ) ، رخَّصتْ في صدقةِ الفرضِ، على أهلِ القراباتِ المشركين. قال ابنُ عطيةَ: وهذا عندي مردود. وحكي عن ابنِ المنذرِ نَقْلُ إجماع من يحفظُ: أنَّه لا يُعْطَى الذِمِّيُّ من صدقةِ المالِ شيئًا. قلتُ: رُوي عن ابنِ عمرَ أنَّه قال: في قولِهِ تعالى: (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلفقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ) : أن المساكينَ: أهلُ الكتابِ، وإسنادُهُ لا يثبتُ. وروى الثعلبيُّ بإسنادِهِ عن سعيدِ بنِ سُويدٍ الكلبيِّ يرفعُه، أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - سئل عن الجهرِ بالقراءة، والإخفاءِ فقالَ -: هي كمنزلةِ الصدقةِ (إِن تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِن تخْفوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لكُمْ) . وروى الثعلبيُّ في "تفسيره"، عن أبي جعفرٍ في قولِهِ تعالى: (إِن تُبْدُوا الضَدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ) قال: هي الزكاةُ المفروضةُ، (وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لكُمْ)

قوله تعالى: (الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا

قال: يعني التطوعَ. هذا تفسير غريب. * * * قوله تعالى: (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (275) يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (276) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (277) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ (279) [قال البخاريُّ] : "بابُ: تحْريمِ تجارةِ الخَمْرِ في المسْجِدِ": حدثنا عبْدانُ، عنْ أبي حمزةَ، عن الأعمش، عنْ مسلمٍ عن مسروقٍ، عن عائشةَ، قالتْ لما أُنزلتْ الآياتُ من سُورة البقرةِ في الرِّبا خرجَ رسولُ اللِّه - صلى الله عليه وسلم - إلى المسجدِ، فقرأهُنَّ على الناسِ، ثمَّ حرَّم تجارةَ الخمرِ. ذكْرُ الخمرِ بالتحريمِ - إما لشربِه، أو للتجارةِ فيه -: من جملةِ تبليغ دينِ اللَّهِ وشرعِهِ، وذلكَ لأنَّه تُصان عنه المساجدُ، فإنَّ اللَّهَ ذكرَ في كتابِهِ الذي يُتلى في الصلواتِ في المساجدِ: الخمرَ والميسرَ والأنصابَ والأزلامَ، كما ذكرَ: الزِّنا والرِّبا وسائرَ المحرمات من الشركِ والفواحشِ، ولم يزلِ النبي - صلى الله عليه وسلم - يتلُو

ذلكَ في المسجدِ في الصلواتِ وغيرِها، ولم يزلْ يذكرُ تحريمَ ما حرَمه اللَّهُ في المساجدِ وفي خطبِهِ على المنبرِ، وهذا البابُ مما لا تدعُو الحاجةُ إليه؛ لظهوره. ولكن يشكل في هذا الحديثِ أمرانِ: أحدُهُما: أن تحريمَ التجارة في الخمرِ مما شرعَ من حينِ نزولِ تحريمِ الخمرِ. ولم يتأخرْ إلى نزولِ آياتِ الرًّبا، فإنَّ آياتِ الرّبا من آخر ما نزلَ من القرآنِ. كما رَوَى البخاريّ في "التفسيرِ" من روايةِ الشعبيِّ، عن ابنِ عباسٍ، قال: آخرُ آيةٍ نزلتْ على رسولِ اللَّه - صلى الله عليه وسلم - آيةُ الرئا. وفي "الصحيحينِ " عن جابرٍ، أنه سمعَ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - عامَ الفتح وهو بمكةَ يقولُ: "إن اللَهَ ورسولَهُ حرَّمَ بيع الخمر والميتةَ والخنزيرَ والأصنامَ ". وخرَّج مسلم من حديثِ أبي سعيد الخدري، أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "يا أيها النَّاسُ، إن اللَّهَ يعرِّض بالخمرِ، ولعل الله سينزلُ فيها أمرًا، فمنْ كانَ عندَهُ منها شيء فليبْعهُ ولينتفعْ بهِ " قال: فما لبثنا إلا يسيرًا حتَى قالَ: "إن اللَّه حرَّم الخمرَ، فمنْ أدركتْه هذه الآيةُ وعندَهُ منها شيء فلا يشربْ ولا يبعْ "، قال: فاستقبلَ الناسُ بما كانَ عندَهُم منها في طريقِ المدينةِ فسفكُوهَا. وهذا نصّ في تحريمِ بيعِها مع تحريمِ شربِها. والثاني: أن آياتِ الربا ليسَ فيها ذكرُ الخمرِ، فكيفَ ذكرَ تحريمَ التجارةِ في الخمرِ مع تحريمِ الرِّبا؟ ويجابُ عن ذلكَ: بأنَّ مرادَ عائشةَ: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أخبرَ بتحريمِ التجارةِ في

الخمرِ مع الرِّبا، وإنْ كانَ قد سبقَ ذكرُ تحريمِ بيع الخمرِ. وقد رَوى حجَّاجُ بنُ أرطأة - حديثَ عائشةَ -، عن الأعمشِ بإسنادِ البخاريِّ، ولفظُهُ: لما نزلتْ الآياتُ التي في سورةِ البقرةِ نَهَى رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عن الخمرِ والرِّبا. وإنَّما أرادَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - واللَّهُ أعلمُ - بتحريمِ التجارةِ في الخمرِ مع الربا ليُعْلمَ بذلك أنَّ الرِّبا الذي حرَّمه اللَّهُ يشملُ جميعَ أكل المالِ مما حرَّمه اللَّهُ من المعاوضاتِ، كما قالَ: (وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا) ، فما كانَ بيْعًا فهو حلالٌ، وما لم يكن بيْعًا فهو رِبًا حرام - أي: هو زيادة على البيع الذي أحلَّه اللَّهُ. فدخلَ في تحريمِ الربا جميعُ أكلِ المالِ بالمعاوضاتِ الباطلةِ المحرمةِ، مثلُ رِبا الفضلِ فيما حرَّم فيه التفاضلُ، وربا النَّسَاء فيما حرَّم فيه النَّسأ، ومثل أثمانِ الأعيانِ المحرَّمة، كالخمرِ والميتةِ والخنزيرِ والأصنامِ، ومثل قَبولِ الهدية على الشَّفاعةِ، ومثل العقودِ الباطلةِ، كبيع الملامسةِ والمنابذةِ، وبيع حَبَلِ الحبلةِ. وبيع الغَرَرِ، وبيع الثمرة قبل بدوِّ صلاحِها، والمُخَابرةِ، والسَّلَفِ فيما لا يجوز السَّلَفُ فيه. وكلامُ الصحابةِ في تسميةِ ذلكَ رِبًا كثير، وقد قالُوا: القَبَالاتُ رِبا، وفي النَّجشِ أنه رِبا، وفي الصفقتين في الصفقةِ أنه رِبا، وفي بيع الثمرةِ قبلَ بدوِّ صلاحِها أنَه رِبا. ورُوي: أنَّ غَبْنَ المُسْتَرسلِ رِبًا، وأنَّ كلَّ قرْضٍ جَرَّ نفْعًا فهو رِبًا.

وقال ابنُ مسعود: الرِّبا ثلاثة وسبْعُونَ بابًا. وخرَّجه ابنُ ماجةَ والحاكمُ عنه مرفوعًا. وخرَّج الإمامُ أحمدُ وابنُ ماجةَ، أن عمر قالَ: من آخرِ ما نزلَ آيةُ الرِّبا، وإنَّ رسولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قبِضَ قبلَ أن يُفسِّرها لنا، فدَعُوا الرِّبا والريبةَ. يشيرُ عمرُ إلى أنَّ أنواعَ الرِّبا كثيرة، وأنَّ من المُشْتَبِهَاتِ ما لا يتحققُّ دخولُه في الرِّبا الذي حرَّمه اللَّهُ، فما رابكم منه فدعُوه. وفي "صحيح مسلم " عن عمرَ، أنَّه قالَ: ثلاث وددتُ أنَّ رسولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كانَ عهِدَ إلينا عهْدًا ننتهي إليه: الجَدُّ، والكَلالةُ، وأبوابّ من أبوابِ الرَبا. وبعضُ البيوع المنهيِّ عنها نُهِيَ عنها سدًا لذريعةِ الرِّبا، كالمُحاقَلةِ. والمزَابنةِ، وكذلك قِيلَ في النهي عن بيع الطعامِ قبل قبضِهِ، وعن بيعتينِ في بيعيةٍ، وعن ربح ما لم يضمنْ، وبسطُ هذا موضعُهُ "البيوعُ ". وإنَّما أشرْنَا هنا إلى ما يبيِّنْ كثيرةَ أنواع أبوابِ الرِّبا، وأنَّها تشملُ جميعَ المعاوضاتِ المحرمة، فلذلكَ لمَّا نزلَ تحريمُ الرِّبا نَهَى النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - عن الرِّبا، وعن بيع الخمرِ، ليبينَ أنَّ جميعَ ما نُهِيَ عن بيعِهِ داخل في الرِّبا المنهيِّ عنه. واللَّهُ أعلم. * * *

قوله تعالى: (لله ما في السماوات وما في الأرض وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء

قوله تعالى: (لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (284) آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285) لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (286) ولمَّا نزل قولُه تعالى: (وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ) ، شقَّ ذلك على المسلمين، وظنُّوا دخُولَ هذه الخواطرِ فيهِ، فنزلتْ الآية ُ التي بعدَها، وفيها قولُه: (رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ) ، فبيَّنت أنَّ ما لا طاقةَ لهُم بهِ، فهو غيرُ مؤاخذٍ لهِ. ولا مُكلَّف به، وقد سمَّى ابنُ عباسٍ وغيرُه ذلك نسْخًا، ومرادهُم أنَّ هْذه الآيةَ أزالتِ الإيهامَ الواقعَ في النُّفوسِ من الآيةِ الأُولى، وبيَّنت أنَّ المرادَ: بالاَية الأُولى العزائمُ المصمَّمُ عليْهَا، ومثل هذا البيان كانَ السلفُ يسمّونَه نسخًا. * * *

سورة آل عمران

سُورَةُ آلِ عِمْرَان قوله تعالى: (إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللهِ الإِسْلامُ) إنَّ الشهادتينِ منْ خصالِ الإسلامِ بغير نزاع، وليسَ المرادُ الإتيانَ بلفظِهِمَا دونَ التَّصديقِ بهما، فعُلِمَ أنَّ التصديق بهِمَا، داخلٌ في الإسلامِ، وقد فسَّرَ الإسلامَ المذكورَ في قولِهِ تعالى: (إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللهِ الإِسْلامُ) . بالتَوحيدِ والتَّصديقِ، طائفةٌ من السلفِ، منهُم محمدُ بنُ جعفرِ بنِ الزُّبيرِ. وأمَّا إذا نُفِيَ الإيمانُ عنْ أحدٍ، وأُثبتَ له الإسلامُ، كالأعرابِ الَّذينَ أَخبرَ اللَّهُ عنهُم، فإنَه ينتفِي عنهُم رسُوخُ الإيمانِ في القلبِ، وتثبُتُ لهم الشاركةُ في أعمالِ الإسلامِ الظاهرةِ مع نوع إيمان يُصحِّحُ لهم العملَ، إذْ لولا هذا القدرُ منَ الإيمانِ، لم يكونُوا مسلمينَ، وإنَّما نَفَى عنهُمُ الإيمانَ، لانتفاءِ ذوقِ حقائقه، ونقصِ بعضِ واجباتِهِ، وهذَا مبنيٌّ على أنَّ التصديقَ القائمَ بالقلوبِ يتفاضل. * * * قوله تعالى: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (31) المحبةُ الصحيحةُ تقتضِي المتابعةَ والموافقةَ في حبِّ المحبوباتِ وبغضِ

المكروهاتِ، قالَ عزَّ وجلَّ: (قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ) . وقال تعالى: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ) . قال الحسنُ: قال أصحابُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: يا رسولَ اللَّهِ، إنَّا نُحبّ ربَّنا حبًّا شديدًا، فأحبَّ اللَّه أن يجعلَ لحبّه علمًا، فأنزلَ اللَّهُ هذه الآية. وفي "الصحيحين " عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: "ثلاثٌ منْ كُنَّ فيه وجَدَ حلاوةَ الإيمانِ: أنْ يكونَ اللَّهُ ورسولُهُ أحبَّ إليه ممَّا سواهُمَا، وأنْ يُحبَّ المرءَ لا يُحبُه إلا للَّهِ، وأنْ يكره أن يرْجِعَ إلى الكُفرِ بعد إذ أنقذَهُ اللَّهُ منه كما يكرَهُ أنْ يُلقَى في النارِ". فمنْ أحبَّ اللَّهَ ورسولَهُ محبةً صادقةً من قلبِهِ، أوجبَ له ذلكَ أنْ يحبَّ بقلبِهِ ما يُحبُّه اللَّهُ ورسولُهُ، ويكرهُ ما يكرههُ اللَّهُ ورسولُهُ، ويرضَى بما يَرضَى اللَّهُ رسولُهُ، ويسخطُ ما يسخطهُ اللَّهُ ورسولُهُ، وأنْ يعملَ بجوارحِهِ بمقتضَى هذا الحبِّ والبغضِ، فإنْ عملَ بجوارِحِهِ شيئًا يخالفُ ذلكَ، بأن ارتكبَ بعض ما يكرههُ اللَّهُ ورسولُه، أو تركَ بعضَ ما يحبهُ اللَّهُ ورسولُهُ مع وجوبِهِ والقدرةِ عليه، دل ذلكَ على نقصِ محبَّته الواجبةِ، فعليهِ أن يتوبَ من ذلكَ ويرجعَ إلى تكميلِ المحبةِ الواجبةِ. قال أبو يعقوب النَّهْرُجُوريُّ: كلُّ من ادَّعى محبةَ اللَّه عزَّ وجل ولم يوافقِ اللَّهَ في أمرِهِ، فدعواهُ باطلةٌ، وكلُّ محب ليسَ يخافُ اللَّهً، فهو مغرور.

وقالَ يحيى بنُ معاذٍ: ليسَ بصادقٍ من ادَّعى محبةَ اللَّهِ عزَ وجلَّ ولم يحفظْ حدودَهُ. وسُئلَ رُويمٌ عن المحبةِ، فقالَ: الموافقةُ في جميع الأحوالِ، وأنشدَ: ولو قُلتَ لي مُتْ مِتُّ سمعًا وطاعةً. . . وقُلتُ لداعِي الموتِ أهلاً ومرْحبًا ولبعضِ المتقدمينَ: تعصي الإلهَ وأنت تزعُمُ حُبَّه. . . هذا لعَمْرِي في القياسِ شَنيعُ لو كانَ حُبُّك صادقًا لأطعتَه. . . إنَّ المُحِبَّ لمن يُحبُّ مطيعُ فجميعُ المعاصِي تنشأُ من تقديمِ هوى النفوسِ على محبةِ اللَّهِ ورسولِهِ. وقد وصفَ اللَهُ المشركينَ باتِّباع الهَوى في مواضعَ منْ كتابِهِ، وقال تعالى: (فَإِن لَّم يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاه بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ) . وكذلكَ البدعُ إنَّما تنشأُ من تقديمِ الهَوى على الشَّرع، ولهذا يُسمَّى أهلُها أهلَ الأهواءِ. وكذلكَ المعاصِي إنَّما تقعُ من تقديمِ الهوى على محبةِ اللَّهِ، ومحبةِ ما يحبه. وكذلك حَبُّ الأشخاصِ: الواجبُ فيه أنْ يكونَ تبعًا لما جاءَ بهِ الرسولُ - صلى الله عليه وسلم -. فيجبُ على المؤمنِ محبةُ اللَّهِ ومحبةُ من يحبُّهُ اللَّهُ من الملائكةِ والرسلِ والأنبياءِ والصديقينَ والشهداءِ والصالحينَ عمومًا، ولهذا كانَ من علاماتِ وجودِ حلاوةِ الإيمانِ أن يُحبَّ المرءَ لا يحبُه إلا للَّهِ، ويحرِّمَ موالاةَ أعداءِ اللهِ ومن يكرهُهُ اللَّهُ عمومًا، وقد سبقَ ذلكَ في موضع آخرَ، وبهذا يكونُ الدِّينُ

كلُّه للِّهِ. و"منْ أحبَّ للَّهِ وأبغضَ للِّهِ، وأعطَى للهِ، ومنع للهِ، فقدِ استكملَ الإيمانَ ". ومن كانَ حُبُّه وبُغضُه وعطاؤه ومنعُه لِهَوى نفسِهِ، كانَ ذلك نقصًا في إيمانِهِ الواجبِ، فيجبُ عليه التَّوبةُ من ذلكَ والرُّجوعُ إلى اتِّباع ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - من تقديمِ محبةِ اللَّهِ ورسولِهِ، وما فيهِ رضا اللَّهِ ورسولِهِ على هوى النفوسِ ومراداتِهَا كلِّها. قال وهيبُ بنُ الوردِ: بلغَنَا - واللَّهُ أعلمُ - أنَّ موسى - عليهِ السلامُ - قالَ: يا ربَ أوصِني؟ قال: أوصيكَ بي، قالَهَا ثلاثاً، حتَّى قال في الآخرةِ: أوصيكَ بي أن لا يعرضَ لكَ أمرٌ إلا آثرتَ فيه محبَّتِي على ما سِواها، فمنْ لم يفعلْ ذلكَ لم أزكِّهِ ولم أرحمْهُ. والمعروفُ في استعمال الهَوى عند الإطلاقِ أنَّه الميلُ إلى خلافِ الحق، كما في قولِهِ عزَّ وجلَّ: (وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ) . وقالَ: (وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى (41) . وقد يُطلقُ الهوى بمعنى المحبةِ والميلِ مطلقًا، فيدخلُ فيه الميل إلى الحقِّ وغيرِهِ، وربَّما استُعْمِلَ بمعنى محبةِ الحقِّ خاصةً والانقيادِ إليه. وسئلَ صفوانُ بنُ عسَّالٍ: هل سمعتَ من النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - يذكرُ الهَوى؟ فقال: سأله أعرابيٌّ عن الرجل يُحبُّ القومَ ولم يلحقْ بِهِم، فقال: "المرءُ مَعَ مَنْ أحبَّ ".

قوله تعالى: (إذ قالت امرأت عمران رب إني نذرت لك ما في بطني محررا فتقبل مني إنك أنت السميع العليم (35)

ولمَّا نزلَ قولُهُ عزَّ وجل: (تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ) ، قالتْ عائشةُ للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: ما أرَى ربَّك إلا يُسارِعُ في هواك. وقال عمرُ في قصة المشاورةِ في أُسارَى بدرٍ: فهوَى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ما قالَ أبو بكرٍ، ولم يَهْوَ ما قلتُ، وهذا الحديثُ مما جاء استعمالُ الهَوى فيه بمعنى المحبةِ المحمودةِ. وقد وقعَ مثلُ ذلكَ في الآثارِ الإسرائيليةِ كثيرًا، وكلامُ مشايخ القومِ وإشاراتُهم نظمًا ونثرًا يكثُر فيها هذا الاستعمال. وممَّا يناسبُ معنى الحديثِ من ذلكَ قولُ بعضهِم: إن هواكَ الَّذي بقلْبِي. . . صَيرنِي سامِعًا مطِيعًا أخذتَ قلْبي وغَمْضَ عيني. . . سَلَبتنِي النَّومَ والهُجُوعا فذَرْ فؤادِي وخُذْ رُقادِي. . . فقالَ: لا بلْ هُمَا جميعًا * * * قوله تعالى: (إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (35) فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (36) فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (37" [قالَ البخاريُّ] : وقال ابنُ عباسٍ: (نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا)

: للمسجدِ يخدُمُها. هذا من روايةِ عطاءِ بنِ السائبِ، عن سعيدِ بنِ جُبيرٍ، عن ابنِ عباسٍ. وقاله - أيضًا -: مُجاهد، وعكرمة، وقتادةُ، والربيعُ بنُ أنسٍ وغيرُهم. وقال قتادةُ والربيعُ وغيرُهما: كانوا يُحَرِّرُونَ الذكورَ من أولادِهِم للكنيسةِ يخدُمُها، فكانتْ تظن أنَّ ما في بطنِهَا ذكرًا، فلمَّا وضعتْ أنثى اعتذرتْ من ذلكَ إلى اللَّهِ، وقالتْ: (وَلَيْسَ الذَّكَر كالأُنثَى) ، لأنَ الأنثى لا تقْوى على ما يقْوَى عليه الذكرُ من الخدمةِ، ولا تستطيعُ أن تلازمَ المسجدَ في حيضِها، فقالَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ: (فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبول حَسَنٍ) - يعني: أنَّ اللَّهَ قبِلَ نَذْرَها، وإنْ كان أنثَى، فإنه أعلمُ بما وضعتْ، وهذا كان في دينِ بني إسرائيلَ. وقد ذكَرَ طائفة من المفسرينَ: أنَّ هذا كانَ شرعًا لهُم، وأنَّ شرْعَنا غيرَ موافقٍ له. وخالفهُم آخرونَ: قال القاضي أبو يَعْلَى في "كتاب أحكام القرآنِ ": هذا النذرُ صحيح في شريعتِنَا، فإنَّه إذا نذَرَ الإنسانُ أن ينَشِّئَ ولدَهُ الصغيرَ على عبادةِ اللَّهِ وطاعتِهِ وأنْ يعلمَه القرآنَ والفقهَ وعلومَ الدِّينِ صَحَّ النذرُ. وهذا الذي قالَهُ حقٌّ، فقدْ قالَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "من نذَرَ أن يطيعَ اللهَ فليطعْه ". فلو نذرَ أحد أن يخدُمَ مسجدا للَّهِ عزَّ وجلَّ لزِمَه الوفاءُ بذلكَ مع القدرةِ،

قوله تعالى: (كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله)

وأمَّا إنْ نذَرَ أن يجعلَ ولده للَّهِ ملازمًا لمسجدٍ يخدُمُه ويتعبَّدُ فيه، فلا يبعد أن يلزمَهُ الوفاءُ بذلكَ، فإنَّه نذرُ طاعةٍ فيلزمه أن يجرِّد ولدَه لما نذرَهُ له، ويجبُ على الولدِ طاعةُ أبيه إذا أمرَهُ بطاعةِ اللِّهِ عزَّ وجلَّ. وقد نصَّ الإمامُ أحمدُ على أن الكافرينِ إذا جعَلا ولدهُمَا الصغيرَ مسلمًا صار مسلمًا بذلكَ. ولو وقفَ عبْدَهُ على خدمةِ الكعبةِ صحَ - نصَّ عليه أحمدُ - أيضًا. ونصَّ في عبدٍ موقوفٍ على خدمةِ الكعبةِ أنَّه إذا أبَى أن يخدُمَ بيعَ واشتُري بثمنِهِ عبد يخدمُ مكانَهُ. ورَوَى سعيدُ بنُ سالم القداحُ، عن ابنِ أبي نَجيح، عن أبيهِ، أنَّ معاويةَ أخدَمَ الكعبةَ عبيدًا بعثَ بهم إليها، ثم اتَّبعتطْ ذلك الولاةُ بعدَهُ. خرَّجه الأزْرقي. * * * قوله تعالى: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ) قال اللَّهُ تعالى: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ) . قالَ أبو هريرةَ - رضي الله عنه - في هذه الآيةِ: يجيئونَ بهِم في السَّلاسلِ حتَّى يُدخلونَهُم الجنَّةَ. وفي الحديثِ المرفوع: "عجبَ ربُّك من قومٍ يُقَادُون إلى الجنَّةِ بالسّلاسلِ ".

قوله تعالى: (وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين (133)

فالجهادُ في سبيلِ اللَّهِ دعاءُ الخلْقِ إلى الإيمانِ باللَّهِ ورسولِهِ بالسَّيفِ واللسان، بعدَ دعائهِم إليه بالحجَّةِ والبرهانِ. وقد كانَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في أولِ الأمرِ لا يقاتلُ قومًا حتى يدعُوهم. فالجهادُ به تعلُو كلمةُ الإيمانِ، وتتسعُ رُقْعَةُ الإسلامِ، ويكثُرُ الداخلون فيه. وهو وظيفةُ الرُّسل وأتباعهم، وبه تصيرُ كلمةُ اللَّهِ هي العُليا. والمقصودُ منه أن يكونَ الدِّينُ كلُّه للَّهِ، والطاعةُ له، كما قال تعالى: (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ) . والمجاهدُ في سبيلِ اللَّه هو المقاتلُ لتكونَ كلمةُ اللَّهِ هي العُليا خاصَّة. * * * قوله تعالى: (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134) وقد وصفَ اللَّهُ في كتابِهِ أهلَ الجنةِ ببذل النَّدى وكفِّ الأذى ولو كانَ الأذَى بحقٍّ فقال: (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134) . فهذا حال معاملتِهِم للخلقِ، ثم وصفَ قيامَهُم بحقِّ الحقِّ فقالَ: (وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135) أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (136) .

فوصفَهُم اللَّهُ عندَ الذنوبِ والاستغفارِ وعدمِ الإصرارِ وهو حقيقةُ التوبةِ النصوح. وقريبٌ من هذهِ الآيةِ قولُهُ تعالى: (فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ (12) فَكُّ رَقَبَةٍ (13) أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ (15) أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ (16) ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (17) أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (18) . والعقبةُ قد فسَّرَها ابنُ عباس بالنارِ. وفسَّرها ابنُ عمرَ بعقبةٍ في النارِ كما تقدَّم، فأخبرَ سبحانَهُ أنَّ اقتحامَهَا. وهو قطعُها ومجاوزتُها يحصلُ بالإحسانِ إلى الخلقِ، إما بعتقِ الرقبةِ وإما بالإطعامِ في المجاعة، والمطعَمُ إما يتيمٌ من ذوي القُربى أو مسكينٌ قد لصِقَ بالترابِ فلم يبقَ له شيءٌ، ولا بدَّ مع الإحسانِ أن يكونَ من أهلِ الإيمانِ، والآمرُ لغيرِهِ بالعدلِ والإحسانِ، وهو التواصِي بالصبرِ والتواصي بالمرحمةِ، وأخبرَ سبحانَهُ أنَّ هذه الأوصافَ: أوصافُ أصحابِ الميمنةِ. * * * قوله تعالى: (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134) [قالَ البخاريُّ] : "بابُ: خوفِ المؤمنِ أنْ يَحْبَطَ عملُهُ وهو لا يَشْعُرُ":

وقال إبراهيمُ التَيْمي: ما عرضتُ قوْلِي على عملي إلا خشيتُ أن أكُونَ مُكَذَّبًا. وقال ابنُ أبي مليكةَ: أدركتُ ثلاثينَ منْ أصحابِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، كلُّهم يخافُ النِّفاقَ على نفسِهِ، ما منهم أحدٌ يقولُ: إنَّه على إيمانِ جبريلَ وميكائيلَ. ويذكَرُ عنِ الحسنِ: ما خافَهُ إلا مُؤمنٌ، ولا أَمِنَهُ إلا مُنافقٌ. وما يحذَرُ منَ الإصرارِ على النفاق والعصيانِ من غيرِ توبة؛ لقولِ اللَّهِ تعالى: (وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمون) . مرادُ البخاريِّ بهذا البابِ: الردُّ على المرجئةِ، القائلين بأنَّ المؤمنَ يقطعُ لنفسهِ بكمالِ الإيمان، وأنَّ إيمانَهُ كإيمانِ جبريلَ وميكائيلَ، وأنَّه لا يخافُ على نفسِهِ النفاقَ العمليًّ ما دام مؤمنًا. فذكر عن إبراهيمَ التيميِّ، أنَّه قال: ما عرضتُ قولي على عملي إلا خشيتُ أن أكونَ مكذَّباً. وهذا معروفٌ عنه. وخرَّجه جعفر الفريابيُّ، بإسنادٍ صحيح عنه، ولفظُه: ما عرضتُ قولي على عملي إلا خشيتُ أن أكون كذابًا. ومعناهُ: أنَّ المؤمنَ يصفُ الإيمانَ بقولِهِ، وعمَلُهُ يقصرُ عن وصفِه، فيخشى على نفسه أن يكونَ عملُه مكذبا لقولهِ. كما رُوي عن حذيفةَ، أنَّه قال: المنافقُ الذي يصفُ الإسلامَ، ولا يعملُ له. وعن عمرَ، قالَ: إنَّ أخوفَ ما أخافُ عليكمُ المنافقُ العليمُ. قالُوا: وكيفَ

يكونُ المنافقُ عليمًا؟ قالَ: يتكلمُ بالحكمةِ، ويعملُ بالجورِ - أو قال: بالمنكرِ. وقال الجعدُ أبو عثمانَ: قلتُ لأبي رجاءٍ العطارديِّ: هل أدركتَ منْ أدركتَ من أصحابِ رسول اللِّهِ - صلى الله عليه وسلم - ّ يخشَونَ النفاق؟ قال: نعم، إنِّي أدركتُ - بحمدِ اللَهِ - منهم صدرًا حسنًا، نعم، شديدًا، نعم، شديدًا - وكان قد أدركَ عمرَ. وممَّن كان يتعوذُ من النفاقِ ويتخوَّفه من الصحابةِ: حذيفةُ وأبو الدرداءِ وأبو أيوب الأنصاريُّ. وأما التابعونَ، فكثير: قال ابنُ سيرينَ: ما عليَّ شيء أخوفُ من هذه الآية: (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ) . وقالَ أيوبُ: كلُّ آيةٍ في القرآنِ فيها ذكرُ النفاقِ، فإنِّي أخافُها على نفسِي. وقال معاويةُ بنُ قرَّةَ: كان عُمَرُ يَخْشاهُ، وآمنُهُ أنا؟! وكلامُ الحسنِ في هذا المعنى كثيرٌ جدا، وكذلك كلامُ أئمةِ الإسلامِ بعدَهم. قال زيدُ بنُ أبي الزرقاءِ، عن سفيانَ الثوريِّ: خلافُ ما بيننا وبينَ المرجئةِ ثلاثٌ. نقول: الإيمانُ قولٌ وعملٌ، وهم يقولون: الإيمانُ قول ولا عملٌ. ونقولُ: الإيمانُ يزيدُ وينقصُ، وهم يقولونَ: لا يزيدُ ولا ينقصرُ. ونحنُ نقول: النفاقُ، وهمْ يقولونَ: لا نفاقَ. وقال أبو إسحاقَ الفزاريُّ، عن الأوزاعيِّ: قد خاف عمرُ على نفسِهِ النفاقَ، قال: فقلتُ للأوازعيِّ، إنهم يقولون: إن عمرَ لم يخفْ أن يكون

يومئذٍ منافقًا حين سأل حذيفة، لكن خافَ أن يُبتَلَى بذلك قبلَ أن يموتَ قال: هذا قولُ أهلِ البدع. وقال الإمامُ أحمدُ - في روايةِ ابنِ هانئٍ - وسئلَ: ما تقول فيمن لا يخافُ النفاقَ على نفسِه؟ فقال: ومن يأمنُ على نفسِه النفاقَ؟ وأصلُ هذا: يرجعُ إلى ما سبقَ ذكْرُهُ من أن النفاقَ أصغرُ وأكبرُ. فالنفاقُ الأصغرُ هو نفاقُ العملِ، وهو الذي خافه هؤلاءِ على أنفسهم. وهو بابُ النفاقِ الأكبرِ، فيُخْشى على من غلبَ عليه خصال النفاقِ الأصغرِ في حياتِهِ أن يخرِجَه ذلك إلى النفاقِ الأكبرِ، حتى ينسلخَ من الإيمانِ بالكليةِ. طما قال اللَّهُ تعالى: (فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّه قُلُوبَهُمْ) . وقال: (وَنُقَلّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ) . والأثرُ الذي ذكرَهُ البخاريُّ عن ابنِ أبي مليكةَ، هو معروفٌ عنه من روايةِ الصلتِ بنِ دينارٍ، عنه. وفي الصلتِ ضعفٌ. وفي بعضِ الرواياتِ عنهُ، عنِ ابنِ أبي مليكةَ، قال: أدركتُ زيادةً على خمسمائةٍ من أصحابِ رسول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، ما ماتَ أحدٌ منهم إلا وهو يخافُ النفاقَ على نفسِهِ. وأما الأثرُ الذي ذكرَهُ عن الحسنِ، فقال: ويُذْكَر عنِ الحسنِ، قال: ما خافَه إلا مؤمنٌ، ولا أَمِنَهُ إلا منافقٌ.

فهذا مشهور عن الحسنِ، صحيحٌ عنه. والعجبُ من قولِه في هذا: "ويُذْكَرُ". وفي قولِهِ في الذي قبلَهُ: "وقالَ ابنُ أبي مليكةَ" جزمًا. قال الإمامُ أحمدُ في "كتاب الإيمانِ " له: حدثنا مؤمل، قال: سمعتُ حمَّادَ بنَ زيد، قال: ثنا أيوبُ، قال: سمعتُ الحسنَ يقولُ: واللَّهِ، ما أصبحَ على وجهِ الأرض مؤمن، ولا أمسَى على وجهها مؤمن، إلا وهو يخافُ النفاقَ على نفسه، وما أمِنَ النفاقَ إلا منافق. حدثنا روحُ بنُ عبادةَ، قالَ: ثنا هشام، قالَ: سمعتُ الحسنَ يقولُ: واللَّهِ. ما مضى مؤمن ولا بقي إلا يخافُ النفاقَ، ولا أمِنَهُ إلا منافق. وروى جعفرُ الفريابيُّ في "كتاب صفة المنافقِ " من حديثِ جعفرِ بنِ سليمانَ، عن معلَّى بنِ زيادٍ، قال: سمعتُ الحسنَ يحلفُ في هذا المسجدِ باللَّهِ الذي لا إله إلا هو، ما مضى مؤمن قطُّ ولا بقي إلا وهو من النفاقِ مشفقٌ، ولا مضى منافق قطُّ ولا بقيَ إلا وهو منَ النفاقِ آمِن. قال: وكانَ يقولُ: من لم يخفِ النفاقَ فهو منافقٌ. وعن حبيبِ بنِ الشهيدِ، عنِ الحسنِ، قال: إنَّ القومَ لما رأوْا هذا النفاقَ يغُولُ الإيمانَ لم يكن لهم همّ غيرَ النفاقِ. والرواياتُ في هذا المعنى عن الحسنِ كثيرةٌ. وقولُ البخاريِّ بعدَ ذلكَ: "وما يحذرُ من الإصرارِ على النفاقِ والعصيانِ

من غيرِ توبة، لقولِ اللَّهِ تعالى: (وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ) . فمرادُه: أنَّ الإصرارَ على المعاصِي وشعبِ النفاق من غيرِ توبة؛ يُخشى منها أن يعاقبَ صاحبُها بسلبِ الإيمانِ بالكليَّة، وبالوصولِ إلى النفاقِ الخالصِ وإلى سوءِ الخاتمةِ، نعوذُ باللَّهِ من ذلكَ، كما يقال: إنَّ المعاصي بريدُ الكفرِ. وفي "مسندِ الإمامِ أحمدَ" من حديثِ عبدِ اللَّهِ بنِ عمرٍو، عنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: "ويل لأقْماع القولِ، ويل للذين يُصرُّون على ما فعلوا وهم يعلمون ". وأقماعُ القولِ: الذين آذانهم كالقمع، يدخلُ فيه سماعُ الحقِّ من جانبٍ. ويخرجُ من جانبٍ آخرَ، لا يستقرُّ فيه. وقد وصفَ اللَّهُ أهلَ النارِ بالإصرارِ على الكبائرِ، فقال: (وَكانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنثِ الْعَظِيم) . والمرادُ بالحنثِ: الذنبُ الموقِعُ في الحنْثِ، وهوَ الإثمُ. وتبويبُ البخاريِّ لهذا البابِ يناسبُ أن يذكرَ فيه حبوطَ الأعمالِ الصالحةِ ببعضٍ الذنوبِ، كما قال تعالى: (يَا أَيهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِي وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكمْ وَأَنتمْ لا تَشْعُرُونَ) . قال الإمامُ أحمدُ: حدثنا الحسنُ بنُ موسى، قالَ: ثنا حمادُ بنُ سلمةَ. عن حبيب بنِ الشهيد، عن الحسنِ، قالَ: ما يرى هؤلاءِ أن أعمالاً تحبطُ أعمالاً، واللًّهُ عزَّ وجلًّ يقولُ: (لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ) إلى قوله: (أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لا تَشْعُرُونَ) .

وما يدل على أن هذا - أيضًا - قولُ اللَّهِ عزَّ وجل: (يَا أَيهَا الَذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأَذَى) الآية. وقال: (أَيَوَدُّ أَحَدُكم أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ من نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ) الآية. وفي "صحيح البخاريِّ "، أن عمر سألَ الناسَ عنها، فقالُوا: اللَّه أعلمُ. فقال ابنُ عباس: ضربتْ مثلاً لعمل. قال عمرُ: لأيِّ عملٍ؟ قال ابنُ عباسٍ: لعملٍ. قال عمرُ: لرجل غني يعملُ بطاعةِ اللَّهِ، ثم يبعثُ اللَّهُ إليه الشيطان فيعملُ بالمعاصي، حتى أغرقَ أعمالَه. وقال عطاء الخراساني: هو الرجلُ يختمُ له بشركٍ أو عملِ كبيرةٍ، فيحبطُ عملَه كلَّه. وصحَّ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، أنَّه قال: "من ترك صلاةَ العصرِ حبطَ عملُهُ ". وفي "الصحيح " - أيضًا -: "أنَّ رجلاً قال: واللَّهِ، لا يغفرُ اللَّهُ لفلانٍ، فقالَ اللهُ: من ذا الذي يتألَّى عليَّ أن لا أغفرَ لفلانٍ، قد غفرتُ لفلانٍ وأحبطتُ عملَك ". وقالتْ عائشةُ: أَبْلِغِي زيدًا، أنه أحبطَ جهادَه مع رسول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، إلا أن يتوب. وهذا يدلُّ على أن بعضَ السيئاتِ تحبطُ بعضَ الحسناتِ، ثم تعودُ بالتوبةِ منها.

وخرَّج ابنُ أبي حاتمٍ في "تفسيره"، من روايةِ أبي جعفرَ، عن الربيع بن أنسٍ، عن أبي العاليةِ، قال: كانَ أصحابُ رسولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يرونَ أنه لا يضرّ مع الإخلاص ذنبٌ، كما لا ينفعُ مع الشركِ عملٌ صالحٌ، فأنزلَ الله عزَّ وجلَّ: (يَا أَيهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعوا اللَّهَ وَأَطِيعوا الرَّسولَ وَلا تبْطِلُوا أَعْمَالَكمْ) . فخافُوا الكبائرَ بعدُ أن تحبطَ الأعمالَ. وبإسنادهِ، عن الحسنِ، في قولِهِ: (وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ) ، قال: بالمعاصي. وعن معمرٍ، عن الزهري، في قولِهِ تعالى: (وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُم) قال: بالكبائر. وبإسنادِهِ، عن قتادةَ، في هذه الآيةِ، قال: من استطاعَ منكم أن لا يبطلَ عملاً صالحًا عملَه بعملٍ سيئٍ فليفعلْ، ولا قوةَ إلا باللَّهِ، فإن الخير ينسخُ الشرَّ، وإن الشرَّ ينسخُ الخير، وإن مِلاكَ الأعمالِ خواتيمُها. وعن السّدِّيِّ، قال في هذه الآية: يقول: لا تعصوا الرسولَ - صلى الله عليه وسلم - فيما يأمرُكم به من القتالِ، فتبطل حسناتُكم وعن مقاتلِ بنِ حيان، قال: بلغَنَا أنها نزلتْ فشقَّت على أصحابِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وهم يومئذ يروْنَ أنه ليس شيءٌ من حسناتِهِم إلا هي مقبولةٌ، فلما نزلتْ هذه الآيةُ، قال أبو بكرٍ: ما هذا الذي يبطلُ أعمالنا؟ فبلغني - واللهُ أعلمُ - أنهم ذكروا الكبائرَ التي وجبتْ لأهلها النارُ، حتى جاءت الآيةُ الأخرى: (إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ) . فقال ابنُ عمرَ: لما جاءتْ هذه الآية ُ، كفَفْنا عن القولِ في ذلك، وردَدْنا إلى اللَّهِ عزَّ وجلَّ،

وكنا نخافُ على من رَكبَ الكبائرِ والفواحشَ أنها تهلكُه. والآثارُ عن السلفِ في حبوطِ بعضِ الأعمالِ بالكبيرةِ كثيرة جدًّا، يطولُ استقصاؤها. حتَّى قالَ حذيفةُ: قذفُ المُحْصنةِ يَهدِمُ عملَ مائة سنةٍ. وخرَّجه البزار عنه مرفوعًا. وعن عطاءٍ، قال: إنَّ الرجل ليتكلَّمُ في غضبِهِ بكلمةٍ، يهدِم بها عملَ ستينَ سنةٍ، أو سبعينَ سنةٍ. وقال الإمامُ أحمدُ - في روايةِ الفضلِ بنِ زيادٍ، عنه -: ما يؤمنُ أحدُكم أن ينظرَ النظرةَ، فيحبطَ عملُه. وأمَّا مَن زعم أن القولَ بإحباطِ الحسناتِ بالسيئاتِ قولُ الخوارج والمعتزلةِ خاصةً، فقد أبطلَ فيما قال، ولم يقفْ على أقوالِ السلفِ الصالح في ذلك. نعم، المعتزلةُ والخوارجُ أبطلُوا بالكبيرةِ الإيمانَ كلَّه، وخلَّدُوا بها في النارِ. وهذا هو القولُ الباطلُ، الذي تفرَدُوا به في ذلك. ثم خرَّج البخاريُ في هذا البابِ حديثينِ: أحدُهما: حديث: شُعْبةَ، عن زُبيدٍ، قالَ: سألتُ أبا وائل عن المُرْجئة؟ فقالَ: حدَّثني عبدُ اللَّهِ، أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "سبابُ المسلم فُسُوقٌ وقِتالُهُ كفرٌ". فهذا الحديثُ ردَّ به أبو وائلٍ على المرجئةِ، الذي لا يُدخلون الأعمالَ في

الإيمانِ، فإن الحديثَ يدلُّ على أنَّ بعضَ الأعمالِ يسمَّى كفرًا، وهو قتالُ المسلمينَ، فدلَّ على أنَّ بعضَ الأعمالِ يسمَّى كفرًا، وبعضَها يسمَّى إيمانًا. وقد اتهمَ بعضُ فقهاءِ المرجئة أبا وائلٍ في روايةِ هذا الحديثِ. وأما أبو وائلٍ، فليس بمتهمٍ، بل هو الثقةُ العدلُ المأمونُ. وقد رواه معه، عن ابنِ مسعودٍ - أيضًا - أبو عمرٍو الشيبانيُّ وأبو الأحوصِ وعبدُ الرحمنِ بنُ عبدِ اللَّهِ بنِ مسعودٍ. لكن، فيهم من وقفَه. ورواه - أيضًا - عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: سعدُ بنُ أبي وقاصٍ، وغيرُه. ومثلُ هذا الحديثِ: قولُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: "لا ترجعوا بعدِي كفارًا، يضربُ بعضُكم رقابَ بعضٍ". وقد سبقَ القولُ في تسميةِ بعضِ الأعمالِ كفرًا وإيمانًا مستوفًى في مواضعَ. قال أبو الفرج زينُ الدّينِ ابنُ رجبٍ: وقد ظهرَ لي في القرآن شاهدٌ لتسميةِ القتالِ كفرًا، وهو قولُه تعالى - مخاطبًا لأهلِ الكتابِ -: (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (84) ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ) .

والمعنى: أنَّ اللَّهَ حرَّم على أهلِ الكتابِ أن يقتلَ بعضُهم بعضًا، أو يخرجَ بعضُهم بعضًا من دارِه، وكان اليهودُ حلفاء الأوسِ والخزرج بين المدينة، فكانَ إدْا وقعَ بينَ الأوسِ - أو الخزرج - وبينَ اليهودِ قتالٌ، ساعدَ كل فريقٍ من اليهودِ بحلافه من الأوسِ والخزرج على أعدائِهم، فقتلوهم معهم. وأخرجُوهم معهُم من ديارِهم، بعد أن حُرِّم عليهم ذلكَ في كتابهِم وأقرُّوا بهِ، وشهدُوا به، ثُمَّ بعدَ أن يؤسَرَ أولئكَ اليهودُ يفدوهُم هؤلاءِ الذين قاتلُوهم، امتثالاً لما أُمِروا به في كتابِهم من افتداءِ الأسرى منهم. فسمَّى اللَّهُ عزَّ وجلَّ فعلَهم للافتداءِ لإخوانهم إيمانًا بالكتابِ، وسمَّى قتلَهم وإخراجَهم من ديارِهم كفرًا بالكتابِ، فدلتْ هذه الآية ُ على أنَّ القتالَ والإخراجَ من الديارِ إذا كان محرَّمًا يسمَّى كفرًا، وعلى أن فعلَ بعضِ الطاعاتِ يسمَّى إيمانًا؛ لأنه سمَّى افتداءهم للأسارى إيمانًا. وهذا حسنٌ جدًّا، ولم أرَ أحدًا من المفسرينَ تعرَّض له، وللَّهِ الحمدُ والمنَّةُ. والحديثُ الثاني: حديث: عُبادةَ بنِ الصامتِ، أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - خرَجَ يُخبرُ بليْلةِ القدْرِ، فتَلاحَى رَجُلانِ من المسلمينَ، فقالَ: "إنِّي خرجتُ لأخْبِرَكُم بليلةِ القدْرِ، وإنَّه تلاحَى فُلانٌ وفُلانٌ فَرُفِعَتْ، فعسى أن يكون خيرًا لكُم، التمسُوها في السَّبعْ والتِّسع والخَمْسِ ". إنَّما خرَّج البخاريُّ هذا الحديثَ في هذا البابِ، لذكرِ التلاحي. والتلاحي: قد فسِّر بالسبابِ، وفسِّر بالاختصامِ والمُمَاراةِ من دونِ سبابِ.

ويؤيدُ هذا: أنه جاء في روايةٍ في "صحيح مسلم ": "فجاء رجلانِ يحتقَّان "أيْ: يطلبُ كلُّ واحدٍ منهما حقَّه من الآخرِ، ويخاصمُه في ذلكَ. فمن فسَّره بالسبابِ احتملَ عنده إدخال البخاريِّ للحديثِ في هذا البابِ: أنَّ السباب تُعجَّلُ عقوبتُه حتى يُحرمَ المسلمونَ بسببِه معرفةَ بعضٍ ما يحتاجُون إليه من مصالح دينهم. وإنما رجا النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أن يكون ذلك خيرًا، لأن إبهامَ ليلةِ القدْرِ أدْعى إلى قيام العشر كلِّه - أو أوْتَارِه - في طلبِها، فيكونُ سببًا لشدةِ الاجتهادِ وكثرتِه، ولكنَّ بيانَ تلك الليلةِ ومعرفتَهم إياها بعينِها له مزيةٌ على إبهامِها، فرُفِع ذلك بسبب التلاحي. فدلَّ هذا الحديثُ على أن الذنوبَ قد تكون سببًا لخفاءِ بعضِ معرفةِ ما يحتاجُ إليه في الدِّينِ. وقال ابنُ سيرينَ: ما اختلفَ في الأهلِ (1) حتى قُتلَ عثمانُ. فكلَّما أحدثَ الناسُ ذنوبًا أوجب ذلك خفاءَ بعضِ أمورِ دينِهِم عليهم. وقد يكونُ في خفائِه رخصةٌ لمن ارتكبَه، وهو غيرُ عالمٍ بالنهي عنه، إذ لو علِمَه ثم ارتكبَه لاستحقَّ العقوبةَ. ومَن فسَّر التلاحي بالاختصامِ، قال: مرادُ البخاريِّ بإدخالهِ هذا الحديثَ في هذا البابِ: أنَّ التلاحِي من غيرِ سبابٍ ليس بفسوق، ولا يترتَّبُ عليه حكمُ الفسوقِ، لأنه كان سببًا لما هو خيرٌ للمسلمينَ.

_ (1) كذا في الأصل، ولعله الأهلة.

قوله تعالى: (فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر

وهذا هو الذي أشارَ إليه الإسماعيليُّ. وفيه نظر. واللَّهُ أعلمُ. ويحتملُ أن يكونَ مرادُ البخاريِّ: أن السبابَ ليس بمخرج عن الإسلامِ. مع كونِه فسوقا، ولهذا قالَ في الحديثِ: "فتلاحى رجلانِ من المسلمين ". فسمَّاهُما مسلمينِ مع تلاحِيهما. وفي "مسندِ البزارِ" من حديثِ معاذٍ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، أنَّه قالَ: "إنَّ أولَ شيءٍ نهاني عنه ربِّي بعد عبادةِ الأوثانِ شربُ الخمرِ، وملاحاةُ الرِّجالِ ". وفي إسنادِهِ: عمرُو بنُ واقدٍ الشاميُّ، وهو ضعيف جدًّا. وإنما حُرمتِ الخمرُ بعدَ الهجرةِ بمدةٍ. ولكن رواه الأوزاعيُّ، عن عروةَ بنِ رُوَيم - مرسلاً. خرَّجه أبو داودَ في "مراسيلِهِ ". * * * قوله تعالى: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159) فالعبدُ يحتاجُ إلى الاستعانةِ باللَّهِ والتوكلِ عليهِ في تحصيلِ العزمِ، وفي العملِ بمقتضَى العزمِ بعدَ حصولِ العزمِ، قالَ اللَّهُ: (فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ) .

والرشدُ: هو طاعةُ الله ورسولِه، قالَ اللهُ تعالى: (وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7) . وكان النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يقولُ في خطبتِهِ: "من يطع اللَّهَ ورسولَهُ فقدْ رَشَد، ومن يعصِ اللهَ ورسولَهُ فقد غَوَى". والرشدُ ضِدُّ الغَيِّ، قال تعالى: (قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ) . فمن لم يكنْ رشيدًا فهوَ إمَّا غاوٍ وإمَّا ضال، كما قالَ تعالى: (مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى) . فالغاوي: من تعمَّدَ خلافَ الحقِّ، والضالُّ: من لم يتعمَّدْ. والعزمُ نوعانِ: أحدُهما: عزمُ المريدِ على الدخولِ في الطريقِ، وهو من البداياتِ. والثانِي: العزمُ على الاستمرارِ على الطاعاتِ بعدَ الدخولِ فيها، وعلى الانتقالِ من حالٍ كامل إلى حالٍ أكملَ منهُ، وهو مِنَ النهاياتِ، ولهذا سمَّى اللَّهُ تعالى خواصَّ الرسلِ وهم أُولُو العزمِ، وهم خمسةٌ، وهم أفضلُ الرسلِ، فالعزمُ الأولُ يحصِّلُ للعبدِ الدخولَ في كلّ خيرٍ والتباعُد من كلِّ شر إذْ به يحصلُ للكافرِ الخروجُ من الكفرِ والدخولُ في الإسلامِ، وبه يحصلُ للعاصِي الخروجُ من المعصيةِ والدخولُ في الطاعةِ، فإذا كانتِ العزيمةُ صادقةً. وصمَّمَ عليها صاحبُها، وحملَ على هَوَى نفسِهِ وعلى الشيطانِ حملةً صادقةً ودخلَ فيما أُمِرَ به من الطاعاتِ؛ فقد فازَ. وعونُ اللَّهِ للعبدِ على قدرِ قوةِ عزيمتِهِ وضعفِهَا، فمنْ صمَّمَ على إرادةِ

قوله تعالى: (لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين (164)

الخيرِ أعانَهُ وثبته؛ كما قِيل: على قدرِ أهلِ العزمِ تأتى العزائمُ. . . وتأتِي على قدرِ الكرامِ المكارمُ قال أبو حازمٍ: إذا عَزَمَ العبدُ على تركِ الآثامِ أتتْهُ الفتوح. يشيرُ إلى ما يفتحُ عليه بتيسيرِ الإنابةِ والطاعةِ ومقاماتِ العارفينَ. سُئِلَ بعضُ السلفِ: متى ترتحلُ الدُّنيا من القلبِ؟ قال: إذا وقعتِ العزيمةُ، ترحلتِ الدنيا من القلبِ ودرجَ القلبُ في ملكوتِ السماءِ، وإذا لم تقع العزيمةُ اضطربَ القلبُ ورجعَ إلى الدُّنيا، مَنْ صدقَ العزيمةَ يئسَ منه الشيطانُ، ومتى كانَ العبدُ مترددًا طمعَ فيه الشيطانُ وسوَّفَهُ ومنَاه، يا هذا، كلما رآكَ الشيطانُ قد خرجتَ من مجلسِ الذكرِ كما دخلتَ، وأنت غيرُ عازمٍ على الرشدِ فرِحَ بك إبليسُ، وقال: فديتُ من لا يفلحُ. * * * قوله تعالى: (لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (164) إنَّ أعظم نعم اللَّهِ على هذه الأُمَّة إظهارُ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - لهم وبعثتهُ وإرسالُهُ إليهم، كما قال تعالى: (لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ) . فإنَّ النِّعْمةَ على الأُمَّةِ بإرسالِهِ أعظمُ من النِّعْمةِ عليهم بإيجادِ السماءِ. والأرضِ، والشَّمسِ، والقمرِ، والرِّياح، والليلِ، والنَّهارِ، وإنزال المطرِ،

وإخراج النباتِ، وغيرِ ذلك؛ فإنَّ هذه النِّعمة كلَّها قد عمَّتْ خلْقًا من بني آدمَ كفَرُوا باللَّهِ وبرُسُلهِ وبلقاءهِ، فبدّلوا نعمةَ اللَّهِ كفرًا. وأمَّا النِّعْمةُ بإرسالِ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، فإنَّ بها تمَّتْ مصالحُ الدنيا والآخرةِ، وكَمُلَ بسببها دينُ اللهِ الذي رَضيَهُ لعبادِه، وكان قبولُه سببَ سعادَتِهِم في دُنياهم وآخرتِهِم، فصيامُ يومٍ تجدَّدَتْ فيه هذه النِّعمُ من اللَّه على عبادهِ المؤمنينَ حسنٌ جميلٌ، وهو من بابِ مقابلةِ النِّعم في أوقاتِ تجدُّدِها بالشكر. ونظيرُ هذا صيامُ يومِ عاشوراءَ حيث أنجَى اللَّهُ فيه نوحًا من الغرقِ، ونجَّى فيه موسى وقوْمَه من فرعون وجنودِهِ، وأغرقهم في اليمِّ، فصامَهُ نوح وموسى شكرًا للَّهِ، فصامَهُ رسول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - متابعةً لأنبياءِ اللَّهِ، وقال لليهودِ: "نحنُ أحقُّ بموسى منكم " فصامه وأمَرَ بصيامِهِ. وقد رُوي أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كان يتحرَّى صيامَ يومِ الاثنينِ ويومِ الخميس، رُوي ذلك عنه من حديثِ عائشةَ، وأبي هريرةَ، وأسامةَ بن زيدٍ. وفي حديثِ أُسامةَ أنَّه سأله عن ذلك، فقال - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّهما يومان تُعرَضُ فيهما الأعمالُ على رَبِّ العالمين، فأُحِبُّ أن يُعْرَضَ عمَلِي وأنا صائم". وفي حديثِ أبي هريرةَ، أنَّه سُئِلَ عن ذلك، فقال، "إئه يُغْفَرُ فيهما لكل مسلم، إلا مُهْتجِرَيْنِ، يقولُ: دعْهُما حتى يصطلحا".

وفي "صحيح مسلم" عن أبي هريرة مرفوعًا: "تفتح أبوابُ الجنةِ يومَ الاثنين والخميس، فيُغْفَرُ لكلّ عبدٍ لا يُشْركُ باللَّهِ شيئًا، إلا رجلٌ كانتْ بينه وبين أخيه شحناءُ. فيقالُ: أنظِرُوا هذين حتَّى يصْطلحا". ويُروى من حديثِ أبي أمامة مرفوعًا: "تُرْفع الأعمالُ يومَ الاثنينِ والخميسِ. فيُغْفَرُ للمستغْفِرينَ، ويُتركُ أهلُ الحِقْدِ بحقدِهِم ". وفي "المسندِ" عن أبي هريرةَ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ أعمالَ بني آدمَ تُعْرَضُ على اللَّهِ تبارك وتعالى عشيّةَ كلِّ خميسٍ، ليلة الجُمعة، فلا يُقْبَل عَمَلُ قاطع رَحِم ". كان بعضُ التابعينَ يبْكي إلى امرأته يومَ الخميسِ وتبكي إليه، ويقول: اليومَ تُعْرَضُ أعمالُنا على اللَّهِ عز وجلَّ. يا من يُبَهْرِجُ بعملِهِ، على مَنْ تُبَهْرِجُ، والناقدُ بصيرٌ؛ يا منْ يُسوِّفُ بتطويلِ أمَلِه، إلى كمْ تسوِّفُ والعُمُرُ قصير؟ صرُوفُ الحَتْفِ مُتْرَعَةُ الكؤوسِ. . . تُدارُ على الرَّعايا والرُّؤوسِ فلا تتْبَعْ هواكَ فكل شَخْصٍ. . . يصيرُ إلى بِلى وإلى دُرُوسِ وخَفْ مِن هوْلِ يومٍ قمطريرٍ. . . مَخُوفٍ شرةُ ضنْكٍ عبُوسِ فما لَكَ غيرُ تقوى اللَهِ زادًا. . . وفِعْلُكَ حين تُقْبَرُ من أنيسِ فحَسِّنْهُ ليُعْرضَ مُستقيمًا. . . ففي الاثنينِ يُعرَضُ والخميسِ * * *

قوله تعالى: (ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون (169) فرحين بما آتاهم الله من فضله

قوله تعالى: (وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (170) أما الأنبياءُ عليهمُ الصلأةُ والسلامُ، فليسَ فيهم شكّ أنَّ أرواحَهم عندَ اللَّه في أعلى عليين. وقد ثبتَ في "الصحيح " أنَّ آخرَ كلمة تكلَّم بها النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - عند موتِهِ أنْ قالَ: "اللَّهُمَّ الرفيقُ الأعلى" وكرَّرها حتى قبضَّ. وقال رجل لابنِ مسعود: قُبضَ رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فأينَ هُو؟ قال: في الجنةِ. وأمَّا الشهداءُ فأكثرُ العلماءِ على أنهم في الجنةِ، وقد تكاثرتِ الأحاديثُ بذلك. ففي "صحيح مسلم " عن مسروق، قالَ: سألنا عبدَ اللَّهِ بنَ مسعودَ - رضي الله عنه -، عن هذه الآيةِ: (وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) ، فقالَ: أما إنا قدْ سألنا رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عن ذلكَ، فقال: "أرواحُهُم في جوفِ طيرٍ خضرٍ، لها قناديلُ معلقة بالعرشِ، تسرحُ في الجنةِ حيثُ شاءتْ، ثم تأوي إلى تلكَ القناديلِ، فاطَّلع إليهم ربُّهم اطلاعة، فقالَ: هل تشتهونَ شيئًا؛ قالُوا: أيَّ شيء نشتهي ونَحنُ نسرحُ من الجنةِ حيثُ شِئنا، ففعلَ ذلكَ بهم ثلاثَ مرات، فلمَّا رأوَا أنَّهم لم يُتركوا من أنْ يُسألوا، قالُوا: يا ربَّ نريدُ أن تردَّ أرواحَنا في أجسادِنا حقى نقتلَ في سبيلِكَ مرة أُخرى، فلمَّا رأى أنْ ليسَ لهم حاجةً تُرِكُوا ".

روى الإمام أحمدُ، وأبو داودَ، والحاكم، من حديثِ سعيدِ بنِ جبيرٍ. عن ابنِ عباسٍ - رضي الله عنها -، قالَ: قالَ رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: "لمَّا أصيبَ إخوانُكم بأحدٍ جعلَ اللَّهُ أرواحَهم في أجوافِ طيرٍ خضرٍ، تردُ أنهارَ الجنةِ، وتأكلُ من ثمارِها، وتأوِي إلى قنادِيلَ من ذهبٍ، معلقةٍ في ظلِّ العرشِ، فلمَّا وجدُوا طيبَ مأكلهِم ومشربِهِم ومقيلِهم، قالُوا: من يبلغُ عنَّا إخوانَنا أنا أحياءٌ في الجنةِ نرزقُ، لئلا ينكُلوا عن الحربِ، ولا يزهدُوا في الجهادِ؟ " قال: "فقال اللَّهُ عزَّ وجلَّ: أنا أبلِّغُهم عنكُم، فأنزلَ اللَّهُ تعالى: (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) ". وخرَّج أبو عبد اللَّهِ بن منده وغيرُهُ، حدثنا إسماعيلُ بنُ المختارِ عن عطيةَ. عن أبي سعيدٍ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "أرواحُ الشهداءِ في طيرٍ خضرٍ، ترعى في رياضِ الجنةِ، ثم يكونُ مأواها إلى قناديلَ معلقةٍ بالعرشِ، فيقولُ لهم الربّ عزَّ وجلَّ: هلْ تعلمونَ ك رامةً أكرمَ مِنْ كرامةٍ أَكْرَمتُكُموها؟ فيقولون: لا، إنَّا وَدَدْنا أنك رددتَ أرواحَنا في أجسادنا حتى نقاتلَ مرةً أخرى، فنقتلَ في سبيلِكَ ". وخرَّج أبو الشيخ الأصبهانيُّ وغيرُهُ، من طريقِ عبدِ اللَّهِ بنِ ميمونَ، عن عمِّه مصعبِ بنِ سليمٍ، عن أنسٍ - رضي الله عنه -، أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "يبعثُ اللَهُ الشهداءَ من حواصلِ طيرٍ بيضٍ كانُوا في قناديلَ معلقةٍ بالعرشِ ". وخرَّج الإمامُ أحمدُ، والترمذيُّ وصححه، من حديثِ عمرِو بنِ دينارٍ. عن الزهريِّ، عن عبد الرحمن بن كعبِ بنِ مالكٍ، عن أبيه، أنَّ رسولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -

قالَ: "إنَّ أرواح الشهداءِ في طير خضر، تعْلُقُ من شجرِ الجنة". كذا رواه عمرُو، عنِ الزهريّ، ورواه سائرُ أصحابِ الزهريِّ عنه، ولم يذكرُوا: الشهداءَ، إنَّما ذكروا نسمةَ المؤمنِ وسيأتِي حديثُهم إن شاءَ اللَّهُ. وقد ذكرنا فيما تقدم حديثَ أبي عبادةَ عيسى بنِ عبدِ الرحمنِ، عن الزهريِّ، عن عامرِ بنِ سعدٍ، عن إسماعيلَ بنِ طلحةَ بنِ عبيدِ اللَّهِ، عن أبيه، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في شهداءِ أحدٍ، وهو منكر، وأبو عبادةَ هذَا: ضعيفٌ جدًّا. وخرَّج ابنُ منده، من طريقِ معاويةَ بنِ صالح، عن سعيدٍ بنِ سويدٍ، أنّه سألَ ابنَ شهابٍ عن أرواح المؤمنينَ فقالَ: بلغني أن أرواحَ الشهداءِ كطيرٍ خضرٍ معلقة بالعرشِ، تغدُو ثم تروحُ إلى رياضِ الجنةِ، تأتي ربَّها عزَّ وجلَّ في كلِّ يومٍ تسلِّمُ عليه، وهذا أشبهُ. وكذا قال الضحاكُ، وإبراهيمُ التيميُّ، وغيرُهما من السلفِ، في أرواح الشهداءِ. وخرَج ابنُ منده، من طريقِ عبدِ الرحمن بن زيادِ بنِ أنعمَ، عن حِبَّانَ بنِ أبي جبلةَ، قالَ: بلغني أنَّ رسولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "إنَّ الشهداءَ إذا استشهدُوا أنزلَ اللَّهُ جسدًا كأحسنِ جسد، ثم يقالُ لروحه: ادخلي فيه، فينظر إلى جسدهِ الأولِ ما يُفْعلُ به، ويتكلمُ فيظنُ أنهم يسمعونَ كلامَه، وينظرُ بهِم، فيظنُّ أنهم ينظرونَه، حتى تأتيَه أزواجُه - يعني الحورَ العينِ - فيذهبْنَ بِهِ ". ويشهدُ لهذه النصوصِ - أيضًا - ما في "الصحيحينِ " عن جابرٍ، قالَ:

قالَ رجل يومَ أُحُدٍ: أين أنا إنْ قتلتُ يا رسولَ اللَّه؟ قال: "في الجنة"، فألقى تمراتٍ كنَّ في يدهِ، ثم قاتلَ حتى قُتِلَ. وفي "صحيح مسلم " عن أنسٍ - رضي الله عنه -، أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال لأصحابِهِ يومَ بدرٍ: "قومُوا إلى جنة عرضُها السماواتُ والأرضُ ". وذكر قصةَ عميرِ بن الحمامِ. وفي "صحيح البخاريِّ " عن المغيرةِ بن شعبةَ، قالَ: أخبرنا نبيُّنا - صلى الله عليه وسلم - عن رسالةِ ربِّنا أنه من قُتِلَ صارَ إلى الجنةِ. و"فيه " - أيضًا - عن المسورِ بنِ مَخْرَمةَ، ومروانَ بنِ الحكم، أنَّ عمرَ - رضي الله عنه -، قال للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم - يومَ الحديبيةِ: أليسَ قتلانا في الجنةِ وقتلاهُم في النارِ؟ قال: "بلَى". وفي "صحيح مسلم" عن أبي مُوسى، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "إنَّ أبوابَ الجنةِ تحتَ ظلالِ السيوفِ ". وفي "صحيح البخاريِّ " عن أنسٍ - رضي الله عنه -، قالَ: أصيبَ حارثة يومَ بدرٍ - وهو غلامٌ - فجاءتْ أمُّه إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فقالتْ: يا رسولَ اللَّهِ، قد عرفتَ منزلةَ حارثةَ مِنِّي، فإن يكنْ في الجنةِ صبرتُ واحتسبتُ، وإن تكن الأُخرى ترى ما أصنعُ؟ قالَ: "ويحكِ أو هبلتِ؟ جنة واحدة هي؟ إنها جنان كثيرة، وإنهُ في جنةِ الفردوسِ ".

وخرَّج الترمذيُّ، والحاكم، من حديثِ أبي هريرةَ - رضي الله عنه -. عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "رأيتُ في الجنةِ جعفرًا يطيرُ مع الملائكةِ". وخرَّج الحاكم من حديثِ ابنِ عباس - رضي الله عنه -، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "دخلتُ البارحةَ الجنةَ فنظرتُ فيها، فإذا جعفرُ يطيرُ مع الملائكةِ، وإذا حمزةُ متكئٌ على سرير". وخرَّج الإمامُ أحمدُ، وأبو يَعْلى، وابنُ أبي الدنيا، من حديثِ ثابتٍ. عن أنسٍ - رضي الله عنه -، قالَ: كانَ رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - تعجبُهُ الرؤيا الحسنةُ، فكانَ فيما يقولُ: "هل رأى أحا منكم رؤْيا؟ " فإذا رأى الرجلُ الذي لا يعرفُه الرؤْيا، سألَ عنه، فإن أخبرَ عنه بمعروفٍ كان أعجبَ لرؤياه، قال: فجاءتِ امرأةٌ فقالتْ: يا رسولَ اللَّهِ، رأيتُ في المنامِ كأنَي خرجتُ فأُدْخِلتُ الجنةَ، فسمعتُ وجبةً ارتجتْ لها الجنةُ، فإذا أنا بفلانٍ وفلان وفلانٍ، حتى عدَّتْ اثني عشرَ رجلاً - وبعثَ رسولُ اللَّه - صلى الله عليه وسلم - سرية قبل ذلكَّ فَجيءَ بهم عليهم ثيابٌ طلس تشخبُ أوداجُهم، فقالَ: "اذهبوا بهم إلى نهرِ البيذخ، فغمسُوا فيه، فأخرجُوا ووجوهُهم كالقمرِ ليلةَ البدرِ، وأُتوا بكراسي من ذهبٍ فأقعدوا عليها، وجيءَ بصحفةٍ من ذهب فيها بسر، فأكلوا من بُسره ما شاءُوا فما يقلِّبونَها لوجهٍ إلا أكلوا من فاكهةٍ ما شاءُوا". قالتْ: وأكلتُ معهُم، قال: فجاءَ البشيرُ من تلك السريةِ، فقال: يا رسولَ اللَّه! كان كذا وكذا، وأصيبَ فلان وفلان حتى عدَّ اثني عشر رجلاً، فقالَ: عليًّ بالمرأةِ" فقال: "قصِّي رؤياكَ على هذا" فقال الرجلُ: هو كما قالتْ، أصيب فلان وفلان.

وروى ابنُ عيينةَ، عن عبدِ اللَّهِ بنِ أبي يزيدَ، سمعَ ابنَ عباسٍ، يقول: أرواحُ الشهداءِ تجول في حواصلِ طيرٍ خضرٍ، تعْلُقُ في ثمرِ الجنةِ. وروى معمر، عن قتادةَ، قالَ: بلغنا أن أرواحَ الشهداءِ في حواصلِ طيرٍ بيضٍ، تأكلُ من ثمارِ الجنةِ. وروى أبو عاصم، عن ثورِ بنِ يزيدَ، عن خالدِ بنِ معدانَ، عن عبدِ اللَّهِ ابنِ عمرٍو، قال: أرواحُ الشهداءِ في أجوافِ طيرٍ كالزرازيرِ، يتعارفونَ ويرزقونَ من ثمرِ الجنةِ. وروى ابنُ المباركِ، عن زائدةَ، حدَّثنا ميسرةُ الأشجعيُّ، عن عكرمةَ، عن ابنِ عباسٍ، عن كعبٍ - رضي الله عنه -، قال: جنةُ المأوَى: جنةٌ فيها طير خضرٌ، ترعى فيها أرواحُ الشهداءِ. كذا رواه عطيةُ، عن ابنِ عباسٍ، قالَ: قلت لكعبٍ: إني أسألُك عن أشياءَ فإنْ كانتْ في كتابِ اللَّهِ فحدِّثْني، وإن لم يكنْ في كتابِ اللَّهِ فلا تحدثني. فذكرَ مسائلَ، فقال كعبٌ: ما سألْتَني عن شيءٍ إلا وهوَ في كتابِ اللَّهِ، قال: وأمَّا جنةُ المأوى فإنَّها جنة فيها أرواحُ الشهداءِ، في أجوافِ طيرٍ خضرٍ، تأوي إلى قناديلِ الجنةِ. وروى أبو المغيرةِ عبدُ القدوسِ بن الحجاج، حدثنا عمرُو بنُ عمرَ الأحموسي، عن السفرِ بنِ نسيرٍ، قال: سئلَ أبو الدرداء عنْ أرواح الشهداءِ فقال: هي طيرٌ خضرٌ، معلقةٌ في قناديلَ تحت العرشِ، تسرحُ في الجنةِ حيثُ شاءتْ، ثم ترجعُ إلى قناديلِها. وروى ليثٌ عنِ أبي قيسٍ، عن هذيلٍ، عن ابنِ مسعودٍ، قالَ: أرواحُ

الشهداءِ طيرٌ خضرٌ في قناديلَ تحتَ العرشِ تسرحُ في الجنةِ حيثُ شاءتْ، ثم تأوِي إلى قناديلِها. ورُوي عن مجاهد، أنه قالَ: ليس الشهداءُ في الجنة، ولكنَّهم يرزقونَ منها. ً فروى آدمُ بنُ أبي إياسٍ، حدثنا ورقاءُ، عن ابنِ أبي نجيحِ، عن مجاهدٍ في قولِهِ تعالى: (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءِّ عِندَ رَبِّهِم يرْزَقُونَ) الآية. قال: يقول: أحياءٌ عندَ ربِّهم يرزقونَ من ثمرِ الجنةِ، ويجدونَ ريحَها وليسُوا فيها. وروى ابنُ المباركِ، عن ابنِ جريجٍ، عن مجاهدٍ، قال: ليس هم في الجنةِ، ولكنَّهم يأكلونَ من ثمارِهَا، ويجدونَ ريحَهَا. وقد يستدل لقولِهِ بما رواه ابنُ إسحاقَ، عن عاصمٍ بنِ عمرَ بنِ قتادةَ، عن محمودِ بنِ لبيدٍ، عن ابن عباسٍ رضيَ اللَّهُ عنهما، قال: قال رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: "الشهداءُ على بارقِ نهر بباب الجنة، في قبة خضراءَ، يخرجُ عليهم رزقُهم من الجنةِ بكرةً وعشيًّا". ًً وخرَّجه ابنُ منده، ولفظُه: "على بارقِ نهر في الجنةِ". وهذا يدلُّ على أنَّ النهرَ خارجٌ من الجنةِ، وابنُ إسحاقَ مدلسٌ، وليس يصرحُ بالحديثِ هنا، ولعلَّ هذا في عمومِ الشهداءِ، والذينَ في القناديلِ التي تحتَ العرشِ خواصُّهم، ولعلَّ المرادَ بالشهداءِ هنا من هو شهيدٌ من غيرِ قَتْلٍ.

في سبيلِ اللَّهِ، كالمطعونِ والمبطون والغريقِ وغيرِهم ممنْ وردَ النصُّ بأنه شهيدٌ. والأحاديثُ السابقةُ كلُّها فيمن قُتِلَ في سبيلِ اللَّهِ، وبعضُها صريحٌ في ذلكَ. وفي بعضِها أن الآيةَ نزلتْ في ذلك، وهو قولُهُ تعالى: (وَلا تَحْسَبَنَ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا) الآية، والاَية نصٌّ في المقتولِ في سبيلِ اللَّهِ. وقد يطلقُ الشهيدُ على من حقَّقَ الإيمانَ وشهدَ بصحتِهِ بقولِهِ، كما قال تعالى: (وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُوْلئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِندَ رَبِّهِمْ) . قالَ ابنُ أبي نجيحٍ، عن مجاهد، في هذه الآية يقولُ: يشهدونَ على أنفسِهِم بالإيمانِ باللَّهِ. وروى سفيانُ، عن رجلٍ، عن مجاهدٍ، قالَ: كلُّ مؤمنٍ صدِّيقٌ وشهيدٌ. ثم قرأ: (وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُوْلَئِكَ همُ الصِّدِيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِندَ رَبِّهِمْ) . وخرج ابن أبي حاتمٍ، من رواية رِشدين بنِ سعدٍ، عن ابنِ عقيلٍ، عن أبيه عن أبي هريرةَ - رضي الله عنه -، قالَ: كلُّكم صديقٌ وشهيد، قيلَ له: ما تقولُ يا أبا هريرة؟ قالَ: اقرأوا: (وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُوْلَئِكَ هُم الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِندَ رَبِّهِمْ) . وخرَّج ابنُ جريرٍ، من طريقِ إسماعيلَ بنِ يحيى التيمي،

عن ابنِ عجلانَ، عن زيدِ بنِ أسلمَ، عن البراءِ بن عازدب، عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "مؤمنو أمتِي شهداءٌ" ثم تلا رسولُ اللَّهِ هذه الآيةَ: (وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلهِ أوْلَئِكَ هُمُ الصِّدِيقُونَ وَالشّهَدَاءُ عِندَ رَبِّهِمْ) ، وإسماعيلُ هذا: ضعيفٌ جدًّا. ويَعضَدُ هذا ما وردَ في تفسير قولِه تعالى: (لِّتَكونوا شهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا) من شهادةِ هذه الأمةِ للأنبياءِ عليهم السلامُ بتبليغ رسالاتِهم. وبكلِّ حالٍ فالأحاديثُ المتقدمةُ كلُّها في الشهيدِ المقتولِ في سبيلِ اللَّهِ عزَّ وجلَّ لا تحتملُ غيرَ ذلكَ، وإنَّما النظرُ في حديثِ ابنِ إسحاقَ هذا واللَّهُ أعلمُ. وأما بقيةُ المؤمنينَ سوى الشهداءِ؛ فينقسمونَ إلى: أهلِ تكليف، وغيرِ أهلِ تكليفٍ؛ فهذانِ قسمانِ: أحدُهما: غيرُ أهل التكليفِ: كأطفالِ المؤمنينَ. فالجمهورُ على أنهم في الجنة، وقد حكى الإمامُ أحمدُ الإجماعَ على ذلك. وقال - في روايةِ جعفرِ بنِ محمدٍ -: ليسَ فيهم اختلافٌ، يعني أنهم في وقالَ - في روايةِ الميمونيّ -: لا أحدَ يشكُّ أنَّهم في الجنةِ. وذكر الخلالُ من طريقِ حنبل، عن أحمدَ، قالَ: نحن نقرُّ بأنّ الجنةَ قد خلقتْ، ونؤمنُ بها، والجنةُ والنار مخلوقتانِ، قال اللَّهُ عزَّ وجل: (النَّارُ يُعْرَضونَ عَلَيْهَا غُدوًّا وَعَشِيًّا) ، لآلِ فرعونَ، وقالَ: أرواحُ ذراري

المسلمينَ، في أجوافِ طيرٍ خضرٍ، تسرحُ في الجنةِ، يكفلُهم أبوهم إبراهيمُ. فيدلُّ هذا على أنهما قد خلقَتا. وكذلكَ نصَّ الشافعيُّ على أن أطفال المسلمينَ في الجنةِ. وجاء صريحًا عن السلفِ على أنَّ أرْواحهم في الجنةِ كما روى الليثُ، عن أبي قيسٍ، عن هذيلٍ، عن ابنِ مسعودٍ، قالَ: إنَّ أرواحَ الشهداءِ في أجوافِ طيرٍ خضرٍ، تسرحُ بهم في الجنةِ حيث شاءُوا، وإن أرواحَ ولدانِ المسلمينَ في أجوافِ عصافيرَ في الجنة، تسرحُ بهم في الجنة حيثُ شاءتْ فتأوِي إلى قناديلَ معلقةٍ في العرشِ. خرَّجه ابنُ أبي حاتمٍ. ورواه الثوريُّ والأعمشُ، عن أبي قيسٍ، عن هذيلٍ، من قولِه، لم يذكرِ ابنَ مسعودٍ. وخرَّج البيهقيُّ، من طريقِ عكرمة، عن ابنِ عباسٍ، عن كعبٍ، نحوَه. وخرَّج الخلالُ، من طريقِ ليثٍ، عن أبي الزبيرِ، عن عبيدِ بنِ عميرٍ. قالَ: إنَّ في الجنةِ لشجرةً لها ضروعٌ كضروع البقرِ، يغذَّى به ولدانُ أهلِ الجنةِ، حتَّى إنَّهم ليستنونَ استنانَ البكارةِ. وخرَّج ابنُ أبي حاتمِ بإسنادهِ، عن خالدِ بن معدانَ، قالَ: إنَّ في الجنةِ شجرةً يقال لها: طُوبى ضروعٌ كلُّها، تُرْضِعُ صبيانَ أهلِ الجنةِ، وإنّ سقْطَ المرأةِ يكونُ في نهرٍ من أنهارِ الجنةِ، يتقلبُ فيه حتى تقومَ الساعةُ، فيبعثُ ابنَ أربعينَ سنةٍ. ويدلُّ على صحةِ ذلك ما في "صحيح مسلمٍ" عن أنسٍ قالَ: لما تُوفِّي

إبراهيمُ عليه السلامُ، قالَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ إبراهيمَ ابني، وإنه ماتَ في الثدْي، وإنَّ له لظئرَيْنِ فيكفَلانِ رِضاعَهُ في الجنةِ" وخرَّجَ ابنُ ماجةَ نحوَه من حديثِ ابنِ عباسٍ - رضي الله عنهما -. وحْرَّج الإمامُ أحمد نحوَه من حديثِ البراءِ بن عازبٍ. وروى سعيدُ بن منصورٍ، عن إسماعيلَ بنِ عياشٍ، عن عبدِ اللَّهِ بن عثمانَ بنِ خُثَيْم، عن مكحولٍ، أن رسولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "إن ذرارِي المؤمنينَ أرواحُهم في عصافيرَ في شجرٍ في الجنةِ، يلقاهُم أبوهُم إبراهيمُ عليه السلامُ ". وكذا رواه عليٌّ بنُ عثمانَ اللاحقيُّ، عن حمَّادِ بنِ سلمةَ، عن أبنِ خُثَيْم. عن مكحولٍ، إلا أنه قالَ: عصافيرُ حْضر في الجنةِ. وهذا مرسلٌ، ولفظه يشبُه لفظَ الحديثِ الذي احتجَ به الإمامُ أحمدُ على خلقِ الجنةِ، كما تقدَّم. وقد رُويَ متصلاً من وجهٍ آخرَ، من روايةِ عبدِ الرحمنِ بنِ ثابتِ بنِ ثوبانَ، عن عطاءِ بنِ قُرة، عن عبدِ اللَّهِ بنِ ضمرةَ، عن أبي هريرةَ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "ذرارِي المؤمنينَ يكفلُهم إبراهيمُ عليه السلامُ في الجنةِ" خرَّجه ابنُ حبانَ في "صحيحِه " والحاكمُ وقالَ: صحيحُ الإسنادِ. وخرَّجهُ الإمامُ أحمد، عن موسى بن داودَ، عن ابنِ ثوبانَ، إلا أنَّه ذكرَ أنَّ موسى شكَّ في رفعهِ. ولكنْ رواهُ غيرُ واحدٍ، عن ثوبانَ، ولم يشكُّوا في رفعِهِ.

ورُويَ من وجهٍ آخرَ، من روايةِ مؤملٍ، عن سفيانَ، عن ابنِ الأصبهانيِّ. عن أبي حازمً، عن أبي هريرةَ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "أولادُ المسلمين في جبلٍ في الجنةِ، يكفلُهم إبراهيمُ وسارةُ - عليهما السلامُ - فإذا كان يومُ القيامةِ دُفعوا إلى آبائِهِم ". وكذا رواه محمدُ بنُ عبدِ اللَّهِ بنِ نمير، عن وكيع، عن سفيانَ مرفوعًا. ورواهُ ابنُ مهدي وأبو نعيم، عن سفيانَ، موقوفًا، قال الدارقطنيُّ: والموقوفُ أشبهُ. ومما يستدلُّ لهذا - أيضًا - ما خرَّجه البخاريُّ عن سمرةَ بتِ جندبٍ. عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه رأى في منامِهِ جبرائيل وميكائيل أتياه فانطلَقَا بهِ، وذكر حديثًا طويلاً، وفيه: "فإذا روضة خضراءُ فيها شجرةٌ عظيمةٌ وإذا شيخٌ في أصلِها حولَهُ صبيانُ، فصعدَا بي الشجرةَ وأدخلاني دارًا لم أرَ قط أحسنَ منها، فإذا فيها رجالٌ وشيوخ وشبابٌ وفيها نساءٌ وصبيانٌ "، وذكرَ الحديثَ وفيه: "قالا: فأمَّا الشيخُ الذي رأيتَ في أصلِ الشجرةِ فذاك إبراهيمُ، وأمَّا الصبيانُ الذي رأيتَ حولَه فأولادُ الناسِ ". وفي روايةٍ: "فكل مولودٍ ماتَ على الفطرةِ، وأمَّا الدارُ التي دخلتَ أولاً فدارُ عامةِ المؤمنينَ، وأمَّا الدارُ الأخرى فدار عامةِ الشهداءِ ". ورواه ابنُ خلدةَ، عن أبي رجاءٍ العطارديِّ، عن سمرةَ، وفي حديثِه: "قلتُ: فالذينَ في الروضة؟ قال: أولئكَ الأطفالُ، وُكِّلَ بهم إبراهيمُ عليه السلامُ، يربِّيهم إلى يوم القيامةِ".

وخرَّج الطبرانيُّ، والحاكم، من حديثِ سليم بنِ عامرٍ، عن أبي أمامةَ. عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "بينَا أنا نائم انطلقَ بي إلى جبل وعرٍ"، فذكرَ الحديثَ، وفيه: "ثمَّ انطلقَ بي حتى أشرفتُ على غلمانٍ يلعبونَ بين نهرين، قلتُ: مَنْ هؤلاءِ؟ قال: ذراري المؤمنينَ يحضنُهم أبوهم إبراهيمُ - عليه السلامُ - ثم انطلقَ بي حتى أشرفتُ على ثلاثة نفرٍ، قلتُ: من هؤلاءِ؟ قال: إبراهيمُ وموسى وعيسى - عليهم السلامُ - وهم ينتظرونك ". وذهبتْ طائفةٌ إلى أنَّه يشهدُ لأطفالِ المؤمنينَ عمومًا أنهم في الجنةِ ولا يُشهد لآحادِهِم، كما يُشهدُ للمؤمنينَ عمومًا أنهم في الجنةِ، ولا يشهد لآحادهم وهو قولُ إسحاقَ بن راهويه، نقله عنه إسحاقُ بنُ منصورٍ وحربٌ في مسائلِهما، ولعلَّ هذا يرجعُ إلى الطفل المُعَيَّنِ لا يُشْهَد لأبيه بالإيمانِ، فلا يُشْهدُ له حينئذٍ أنه من أطفالِ المؤمنين، فيكونُ الوقفُ في آحادهم كالوقفِ في إيمانِ آبائِهم. وحكى ابنُ عبد البرِّ عن طائفةٍ من السلفِ القولَ بالوقفِ في أطفالِ المؤمنينَ، وسمَّى منهم حمادَ بنَ زيدٍ، وحمادَ بنَ سلمةَ، وابنَ المباركِ. وإسحاقَ، وهذا بعيدٌ جدًّا، ولعله أخذَ ذلكَ من عموماتِ كلامٍ لهم، وإنما أرادوا بها أطفالَ المشركين. وكذلكَ اختارَ القولَ بالوقفِ طائفةٌ منهُم: الأثرمُ، والبيهقيُّ. وذكِرَ أنَّ ابنَ عباسٍ رجعَ إليه والإمامُ أحمدُ ذكر أن ابنَ عباسٍ إنما قالَ ذلك في أطفال المشركينَ، وإنما أخذه البيهقي من عمومِ لفظٍ رُويَ عنه، كما أنه رُوي في

بعص ألفاظِ حديثِ أبي هريرةَ، أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - سُئلَ عن الأطفالِ، فقالَ: "اللهُ أعلمُ بما كانُوا عاملينَ "، ولكن الحفَّاظَ الثقاتِ ذكرُوا أنه سئلَ عن أطفالِ المشركينَ. واستدلَّ القائلونَ بالوقفِ، بما أخرَّجَهُ مسلم، من حديثِ فضيلِ بنِ عمرو، عن عائشةَ بنتِ طلحةَ، عن عائشةَ أمِّ المؤمنينَ - رضي الله عنها -، قالتْ: توفِّي صبيّ، فقلتْ: طُوبى له، عصفور من عصافيرِ الجنةِ. فقالَ رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: "أو لا تدرينَ أنَّ اللَّهَ خلقَ الجنةَ وخلقَ النارَ، فخلقَ لهذهِ أهلاً ولهذِه أهلاً". وخرَّجه مسلم - أيضًا - من طريقِ طلحةَ بنِ يحيى، عن عمّتِه عائشةَ بنتِ طلحةَ، عن عائشةَ أمِّ المؤمنينَ رضيَ اللَّهُ عنها، قالتْ: دُعِيَ رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إلى جنازةِ صبيٍّ من الأنصارِ، فقلتُ: يا رسولَ اللَّهِ طُوبى لهذا، عصفور من عصافيرِ أهلِ الجنةِ، لم يعملِ السوءَ ولم يدركه، قال رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: "أو غيرَ ذلكَ يا عائشةَ، إن اللَّهَ خلق للجنَّةِ أهلاً، خلقَهُم لها وهمْ في أصلابِ آبائِهِم ". وقد ضعَف الإمامُ أحمدُ رضيَ اللَهُ عنه هذا الحديثَ من أجلِ طلحةَ بنِ يحيى، وقالَ: قد رَوى مناكيرَ، وذكر له هذا الحديثَ، وقال ابنُ معينٍ فيه: ليس بالقويِّ. وأما روايةُ فضيلِ بنِ عمرٍو له عن عائشةَ، فقال أحمدُ: ما أراه سمعهُ إلا من طلحةَ بنِ يحيى، يعني أنه أخذه عنه، ودلَّسهُ، حيثُ رواه عن عائشةَ بنتِ طلحةَ.

وذكر العقيليُّ أنه لا يُحفظُ إلا من حديثِ طلحةَ. ويعارِضُ هذا ما خرَّجه مسلمٌ، من حديثِ أبي السليلِ، عن أبي حسانَ، قال: قلتُ لأبي هريرةَ: إنه قد مات لي ابنتانِ، فما أنتَ محدِّثي عن رسولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بحديثٍ تطيبُ به أنفسنَا عن موتانَا، قال: نعم، صغارُهم دعاميصُ أهلِ الجنة، يتلقَّى أحدُهم أباه - أو قالَ أبويه - فيأخذُ بثوبِهِ، أو قال بيدهِ - كما آخذُ أنا بصنفةِ ثوبِكَ هذا فلا يتباهى أو قال: فلا ينتهي حتَّى يدخلَه اللَّهُ وأباهُ الجنةَ". وفي "الصحيحينِ " عن أنسٍ رضيَ اللَّه عنه، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "ما من الناسِ مسلم يموتُ له ثلاثة من الولدِ لم يبلغوا الحِنْثَ إلا أدخلَهُ اللَّهُ الجنةَ بفضلِ رحمتِهِ إياهُم ". ولهذا قالَ الإمامُ أحمدُ: "هو يُرجى لأبويه، فكيف يُشكُّ فيه؟ " يعني أنه يُرجى لأبويه بسببه دخول الجنةِ. ولعلَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - نهى أولاً عن الشهادةِ لأطفال المسلمينَ بالجنةِ قبل أن يطلع على ذلك، لأن الشهادةَ على ذلك تحتاجُ إلى علم به، ثم اطلعَ على ذلك فأخبرَ بهِ، واللَّهُ أعلمُ. القسم الثاني: أهل التكليف من المؤمنين سوى الشهداء: وقد اختلفَ العلماءُ فيه قدِيمًا وحديثًا والمنصوصُ عن الإمامِ أحمدَ: أنَّ أرواحَ المؤمنينَ في الجنةِ، ذكرَ ذلك الخلال في كتابِ "السنةِ" عن غيرِ واحدٍ عن حنبلٍ، قال: سمعتُ أبا عبدِ اللَّهِ يقول: أرواحُ الكفارِ في النارِ، وأرواحُ

المؤمنينَ في الجنةِ، وقال حنبل في موضع آخرَ: قال: عمومُ أرواح المؤمنينَ في الجنةِ، وأرواحُ الكفارِ في النارِ، والأبدانُ في الدنيا يعذِّبُ اللَّهُ من يشاءُ. ويرحمُ من يشاءُ بعفوهِ. قال أبو عبدِ اللَّهِ: ولا نقولُ إنهما يفنيانِ، بلْ هُما على علم الله باقيتانِ. يبلغُ اللَّهُ فيهما عملَه، نسأل اللَّهَ التثبيتَ وأن لا يُزِيغَ قلوبنا بعد إذ هدانا. وقولُهُ: ولا نقولُ: هما يفنيانِ، يعني الجنةَ والنارَ، فإن في أولِ الكلامِ عن حنبلٍ، أن أبا عبدِ اللَّهِ حكى قصةَ ضرار، وحكايتَه اختلافَ العلماءِ في خلقِ الجنةِ والنارِ، وأن القاضيَ الجمعي أهدر دمَ ضرار، فلذلكَ استخفَى إلى أن ماتَ. وأن أبا عبدِ اللَّه، قالَ: هذا كفرٌ، يعني القولَ بأنهما لم يُخْلَقَا بعدُ. قال حنبل: وسألتُ أبا عبدِ اللَّهِ، عمَّن قالَ: إنْ كانتا خلِقَتَا فإنهما إلى فناء، ثمَّ ذكرَ هذا الجوابَ عن أحمدَ. ولا يصحُّ أن يقالَ: إنَّ أحمدَ إنما نفى الفناءَ عنهُما معًا، فيصدق ذلك بأن تكونَ الجنةُ وحدها لا تَفْنى لأنَّ ما بعدَ هذا مبطلٌ لهذا التأويلِ، وهو قوله: بلْ هما على علم اللَّهِ باقيتانِ. فإنَّ هذا ينفي ذلك الاحتمالَ والتوهمَ، ويثبتُ لهما البقاءُ معًا، وهذا كما تقولُ: زيدٌ وعمرُ ولا يعلمانِ، فهذا قد يحتمل أن يرادَ به نفي العلم عنهُما جميعًا دونَ أحدِهما، فإذا قلتَ بعدَ ذلك: بل هُما جاهلانِ، زالَ ذلك الاحتمالُ، وأثبتَ الجهلَ لهما جميعًا، وأيضًا فلا يقعُ استعمالُ نفي عن شيئينِ والمرادُ نفيُ اجتماعهما خاصةً، إلا معَ - صلى الله عليه وسلم - بَيَّنَ ذلك في سياقِ الكلامِ، أو عن لفظٍ يدلُّ عليه، فأمَّا مع الإطلاقِ فلا يقع ذلكَ، بل لا يجوزُ استعمالُهُ مع الإيهامِ، كما لا يُقالُ: الجنةُ والنارُ لا يفنيانِ،

وكما لا يُقالُ: الخالقُ والمخلوقُ لا يفنيانِ، ويرادُ به أنَّ المخلوقَ وحدَه يقنى، ولا يقالُ: الدنيا والآخرةُ لا تبقيانِ، ويُرادُ به أنَّ الدنيا وحدها تفْنى، ولا يُقالُ: إنَّ محمدًا ومسيلمةَ لا يصدَّقانِ أو لا يكذَّبانِ، ويرادُ به صدقَ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - وحده، وكذبُ مسيلمة وحدَه، فإن هذا كلَّه استعمالٌ قبيحٌ ممنوعٌ؛ ولا يُعهدُ مثلُه في كلامِ أحدٍ ممنْ يُعتدُّ بهِ. وقولُ أحمدَ بعد هذا: "نسألُ اللَّهَ التثبيتَ أن لا يُزيغَ قلوبنَا بعدَ إذْ هدَانا" يدلُّ على أنَّ القولَ بخلافِ ذلك عندَهُ من الضلالِ والزيغ، وقد صرَّح بهذا فيما نقلَهُ عنه حربٌ، قال حربٌ في مسائِلِهِ: هذا مذهبُ أئمة أهل العلمِ وأصحابِ الأثرِ، وأهلِ السنةِ المعروفينَ بها، المقتدَى بِهِم، وأدركتُ من أدركتُ من علماءِ أهل العراقِ والحجازِ والشامِ وغيرِهم، فمن خالف شيئًا مِنْ هذه المذاهبِ أو طعن فيها أو عاب قائلها فهو مبتدعٌ خارجٌ من الجماعةِ، زائلٌ عن منهج السنة وسبيلِ الحقِّ، وهو مذهبُ أحمدَ، وإسحاق والحميديِّ، وسعيدِ بنِ منصورٍ، وغيرِهم ممَّن جالسْنَا، وأخذنا عنهم العلمَ، فكانَ من قولِهِم: الإيمانُ قولٌ وعملٌ - وذكرَ العقيدةَ ومن جملتها - قالَ: ولقد خُلِقتِ الجنةُ وما فيها وخُلِقَتِ النارُ وما فيها، خَلَقَهما اللَّهُ ثم خلقَ الخلقَ لهما لا يفنيانِ، ولا يفْنى ما فيهما أبدًا، فإن احتجَّ مبتدعٌ أو زنديقٌ بقولِ اللَّهِ تعالى: (كلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ) ، ونحو هذا، فقلْ له: كل شيء ممَّا كتبَ اللَّهُ عليه الفناءَ والهلاكَ هالكٌ، والجنةُ والنارُ خلقتا للبقاءِ لا للفناءِ ولا للهلاكِ، وهُما من الآخرةِ لا من الدُّنيا. . . وذكر بقيةَ العقيدةِ. فقوله في آخرِ كلامِهِ: "خلقتا للبقاءِ لا للفناءِ ولا للهلاكِ " يبطل تأويلَ مَنْ تأوَّلَ أولَ الكلامِ على أنَّ المرادَ به لا يفْنى مجموعُهُما.

وقد نُقلَ هذا الكلامُ الذي نقلَهُ حربٌ كلُّه، عن أحمدَ صرِيحًا. كذلك نقلَهُ عنه أبو العباسِ أحمدُ بنُ جعفرِ بنِ يعقوبَ الأصطخريُّ، أنَّه قال: إنَّ هذه مذاهبَ أهلِ العلم وأصحابِ الأثرِ، وأهلِ السنةِ، المتمسكينَ بعروقِها، المعروفينَ بها، المقتدَى بهم فيها، ومن لدنْ أصحابِ رسولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إلى يومِنا هذا، وأدركتُ من أدركتُ من علماءِ الحجازِ وأهلِ الشامِ وغيرِهِم، فمنْ خالفَ شيئًا من هذهِ المذاهبِ، أو طعنَ فيها، أو عابَ قائلَها، فهو مخالفٌ مبتدعٌ خارجٌ من الجماعةِ، زائلٌ عن منهج السنةِ وسبيلِ الحقِّ - فذكرَ العقيدةَ كلَّها - وفيها: وقد خُلقتِ الجنةُ وما فيها، وخُلِقَتِ النارُ وما فيها، خلقهُما اللَّهُ، وخلقَ الخلقَ لَهُما، ولا يفنيانِ، ولا يَفْنى ما فيهما أبدًا، فإن احتجَّ مبتدعٌ أو زنديقٌ بقولِ اللَّهِ عزَّ وجلَّ: (كلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ) ، ونحو هذا من متشابه القرآنِ؟ قيلَ لهُ: كلُّ شيءٍ هالك مما كتبَ اللَّهُ عليه الفناءَ والهلاكَ هالكٌ، والجنةُ والنارُ خلقتا للبقاءِ لا للفناءِ ولا للهلاكِ، وهُما من الآخرةِ لا من الدُّنيا، وذكرَ بقيةَ العقيدةِ. وقدْ رُويَتْ هذه العقيدةُ عن الإمامِ أحمدَ: أرواحُ المؤمنينَ في الجنةِ وأرواخُ الكفارِ في النارِ. وقد حكَى القاضي أبو يَعْلَى في كتابِ "المعتمدِ" ومن تبعهُ من الأصحابِ هذا الكلامَ عن عبدِ اللَّهِ بنِ أحمدَ عن أبيه، ولم ينقلْه عبدُ اللَّهِ عن أبيهِ إنَّما نقلَهُ عن حنبلٍ. إنما نقل عبدُ اللَّهِ عن أبيه، فقالَ الخلالُ: أنبأنا عبدُ اللَّهِ بنُ أحمدَ بنُ حنبلٍ، قال: سألتُ أبي عن أرواح الموتى، أتكونُ في أفنيةِ قبورِها، أم في

حواصلِ طيرٍ، أم تموتُ كما تموتُ الأجسادُ؟ قال: رُوي عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قالَ: "نسمةُ المؤمنِ إذا ماتَ طائرٌ يعلقُ في شجرِ الجنةِ حتَّى يرجعَهُ اللَّهُ إلى جسدِهِ يومَ بعثه ". وقد رُوي عن عبدِ اللَّهِ بنِ عمرٍو قالَ: أرواحُ المؤمنينَ في أجوافِ طيرٍ خضرٍ كالزرازيرِ ثم يتعارفونَ فيها ويرزقونَ من ثمارِهَا. وقال بعضُ الناسِ: أرواحُ الشهداءِ في أجوافِ طيرٍ خضرٍ، تأوِي إلى قناديلَ في الجنةِ معلقةٍ بالعرشِ. انتهى. وهذا الكلامُ - أيضًا - يدلُّ على أنَّ أرواحَ المؤمنينَ عندَ اللَّهِ في الجنةِ، لأنَّه ذكَرَ في جوابِهِ الأحاديثَ الدالةَ المرفوعةَ والموقوفةَ على ذلكَ. ولم يذكرْ سوى ذلكَ، ففي روايةِ حنبلٍ جزمَ بأنَّ أرواحَ المؤمنينَ في الجنةِ. وفي روايةِ عبدِ اللَّهِ ذكرَ الأدلةَ على ذلكَ. فأمَّا الحديثُ المرفوعُ الذي ذكرَهُ، فهو من روايةِ مالكٍ، عن ابنِ شهابٍ. أنَّ عبدَ الرحمنِ بنَ كعبِ بنِ مالكٍ أخبره أنَّ أباه كعْبًا، كان يحدِّثُ عن رسولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "إنَّما نسمةُ المؤمنِ طائرٌ يعلق في شجرِ الجنةِ، حتى يرجعَهُ اللَّهُ إلى جسدهِ "، كذا رواه مالكٌ في "الموطإ" ورواه عن مالكٍ جماعة منهُم الشافعيُّ، ورواه الإمامُ أحمد في "مسندهِ " عن الشافعيِّ، وخرَّجهُ الشافعيّ من طريقِ مالكٍ أيضًا.

وخرَّجه ابنُ ماجةَ من طريقِ الحارثِ بنِ فضيلٍ، عن الزهريِّ، بهذا الإسنادِ. وكذا رواه عن الزهريِّ: يونسُ والزبيديُّ والأوزاعيُّ وابنُ إسحاقَ، ورواه شعيبٌ وابنُ أخي الزهريِّ وصالحُ بنُ كيسانَ، عن الزهريِّ، عن عبدِ الرحمنِ بنِ عبدِ اللَّهِ بنِ كعب بنِ مالكٌ عن جدة كعبٌ. وقال صالحٌ في حديثِهِ: إنَّه بلَغَه أنَّ كعبًا كان يحدًّثُ؛ وقال شعيبٌ في حديثِهِ: إنَّ كعبًا كان يحدِّثُ فهو على روايةِ صالح ومن وافقه فهو منقطعٌ، وذكر محمد بنُ يحيى الذهليُّ أنَّ ذلكَ هو المحفوظُ، وخالفَهُ ابنُ عبدِ البرِّ في ذلكَ. ورجَّح روايةَ مالكٍ ومن وافقَهُ، وقد روي - معنى حديثِ كعبِ - من وجوه متعددة. فروى حمادُ بنُ سلمةَ، عن محمدِ بنِ عمرو، عن أبي سلمةَ، عن أبي هريرةَ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فذكرَ حديثَ القبرِ بطولِهِ، وفيه في حقِّ المؤمنِ، قال: "ويُعادُ الجسدُ إلى ما بُدئُ منهُ، ويجعل روحُه في نسيمٍ طيب يعلقُ في شجرِ الجنةِ" خرَّجه الطبراني وغيرُهُ. وخرَّجه ابنُ حبانُ في "صحيحِه " من طريقِ معمرٍ، عن محمدِ بنِ عمرٍو بهِ، ولفظُه: "وتُجعلُ نسمتُه في النسيمِ الطيبِ، وهو طير يعلقُ في شجرِ الجنةِ" وقد سبقَ أنَّ غيرَهُما رواه عن محمدِ بنِ عمرٍو، ووقَفَهُ على أبي هريرةَ. وقد تقدَّم حديثُ أمِّ هانئ الأنصاريةِ عنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "يكونُ النَّسَمُ طيرًا تعلَّقُ بالشجرِ، حتى إذا كان يومُ القيامةِ دخلتْ كلّ نفسي في جسدِها". وخرَّج ابنُ منده، من روايةِ موسى بنُ عبيدةَ الربَذيِّ، عن عبدِ اللَّهِ بنِ زيدِ، عن أمِّ بشرِ بنتِ العرورِ، قالتْ: قالَ رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ أرواحَ المؤمنينَ

في حواصِلِ طيرٍ خضرٍ، تَرعَى في الجنةِ، تاكُلُ من ثمارِهَا، وتشربُ مِنْ مائِها، وتأوِي إلى قناديلَ من ذهبٍ تحتَ العرشِ، فتقولُ: ربَّنا ألحِقْ بنا إخوانَنا وآتِنَا ما وعدْتنا، وإنَّ أرواحَ الكفارِ في حواصلِ طيرٍ سود، تأكلُ من النارِ، وتشربُ مِنَ النارِ، وتأوِي إلى حجرة في النارِ، فيقولونَ: ربَّنا لا تلحِق بنا إخوانَنا، ولا تؤْتِنا ما وعدْتنا". وموسى بنُ عبيدةَ شيخ صالح، شغلتْه العبادةُ عن حفظِ الحديثِ، فكثرتْ المناكيرُ في حديثه. وخرَّج ابنُ منده - أيضا - من روايةِ معاويةَ بنِ صالح، عن سمرةَ بنِ جندبٍ، قالَ: سئلَ رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عن أرواح المؤمنينَ، فقالَ: "في طيرٍ حضرٍ تسرحُ في الجنةِ حيثُ شاءَتْ ". قالُوا: يا رسولَ اللَّهِ، أرواحُ الكفارِ؟ قال: "محبوسةٌ في سجينٍ ". وهذا مرسل. وخرَّج أيضًا من روايةِ عيسى بنِ موسى، عن سفيانَ الثوريِّ، عن ثورِ بنِ يزيدَ، عن خالدِ بن معدانَ، عن عبدِ اللَّهِ بنِ عمرٍو، قالَ: قالَ رسولُ اللِّهِ - صلى الله عليه وسلم -: "أرواحُ المؤمنينَ في أجوافِ طيرٍ كالزرازير كلُ من ثمرِ الجنة". ثم قالَ ابنُ منده: رواه جماعةٌ عن الثوريِّ موقوفًا، يعني على عبدِ اللَّهِ بنِ عمرٍو. قلتُ: والصوابُ وقفُه. وقد سبقَ أنَّ الإمامَ ذكرَهُ في روايةِ ابنِهِ عبدِ اللَّهِ موقوفًا، وكذا رواهُ وكيع. عن ثورِ بنِ يزيدَ، عن خالدِ بنِ معدانَ، عن عبدِ اللَّهِ بنِ عمرٍو، قال: أرواحُ المؤمنينَ في أجوافِ طيرٍ خضرٍ كالزرازيرِ، يتعارفونَ فيها، ويرزقونَ من ثمارِها. خرَّجه الخلالُ. وخرَّجَ - أيضًا - من حديثِ أبي هاشم، عن أبي إسحاق، عن أبي

الأحوصِ، عن عبدِ اللَّهِ بنِ مسعودٍ، فذكرَ احتضارَ المؤمنِ، وأنَّ روحَهُ تعادُ إلى جسدِه عند سؤالهِ في القبرِ، ثم تُرفعُ روحُهُ، فتجعلُ في أعْلى عليين. ثم تلا عبدُ اللهِ الآيةَ: (إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (18) وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ (19) كِتَابٌ مَرْقُومٌ (20) . قال: في السماءٍ السابعةِ، فأمَّا الكافرُ فذكرَ الكلامَ، وتلا: (إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (7) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ (8) . قالَ: الأرضُ السابعةُ. ورُوي مثلُ هذا المعنى عن أبي هريرةَ وعبدِ اللَّهِ بنِ عمرٍو. وذكرَه ابنُ عبدِ البرِّ. وروى سعيدٌ، عن قتادةَ قالَ: ذُكر لنا أنَّ عبدَ الله بنَ عمرٍو كانَ يقولُ: في سجِّين هي الأرض السفلى فيها أرواح الكفارِ. وروى ابنُ المباركِ، عن ابن لهيعةَ، عن يزيدَ بنِ أبي حبيبٍ، أنَّ منصورَ بنَ أبي منصورٍ، حدّثه، قالَ: سألتُ عبدَ اللهِ بنَ عمرٍو، عن أرواحِ المسلمينَ حينَ يموتونَ، قالَ: ما تقولونَ يا أهلَ العراقِ؟ قلتُ: لا أدرِي. قالَ: فإنَّها صُوَر طيرٍ بيضٍ في ظلِّ العرشِ، وأرواحُ الكفارِ في الأرضِ السابعَةِ. وروى - أيضًا - عن كعبٍ، من روايةِ الأعمشِ، عن شمْر بنِ عطيةَ عنْ هلالِ بنِ يسافٍ قالَ: كنّا جلوسًا إلى كعبٍ، فجاءَ ابنُ عباسٍ، فقالَ: يا كعبُ، كل ما في القرآنِ قد عرفتُ، غيرَ أربعةِ أشياءَ، فأخبرْنِي عنهُنَّ، فسأله عن سجِّينٍ وعلِّيين، فقال كعبٌ: أما علِّيون فالسماءُ السابعةُ فيها أرواحُ المؤمنينَ، وأمَّا سجِّين فالأرضُ السابعةُ السُّفلى وفيها أرواحُ الكفارِ تحتَ خد إبليس.

وقد ثبتَ بالأدلةِ أنَّ الجنةَ فوقَ السماءِ السابعةِ، وأنَّ النارَ تحتَ الأرضِ السابعةِ وقد ذكرْنا ذلك في كتابِ: "صفة النارِ" مستوفىً. وروى أبو نُعيمٍ، من طريقِ الحكم بنِ أبانَ، قالَ: نزلَ بي ضيفٌ من أهلِ صنعاءَ، فقال: سمعتُ وهبَ بنَ منبه، يقولُ: إنَّ للَّهَ عزَّ وجلَّ في السماءِ السابعةِ دارًا يُقالُ لها: البيضاءُ، تجتمعُ فيها أرواحُ المؤمنينَ، فإذا ماتَ الميتُ من أهلِ الدنيا تلقتْهُ الأرواحُ، فيسألونَهُ عن أخبارِ أهلِ الدنيا، كما يسألُ الغائبُ أهلَهُ إذا قدِمَ عليهِم. وخرَّج ابنُ منده، من طريقِ سفيانَ، عن يحيى بنِ سعيدٍ، عن سعيدِ بنِ المسيبِ، أنَّ سلمانَ الفارسيَّ وعبدَ اللَّهِ بنَ سلامٍ، لقيَ أحدُهُما صاحبَهُ. فقالَ: إنْ متَّ قبلي فحدِّثني بما لقيتَ، وإنْ مِتُ قبلَك حدَّثْتُك بما لقيتُ. قالَ: وكيف يكونُ ذلك؟ فقال: أرواحُ المؤمنينَ تذهبُ في الجنةِ حيثُ شاءتْ. وخرَّجه ابنُ أبي الدنيا، من طريقِ جرير عنْ يحيى به. وخرَّج - أيضًا - من طريقِ ابنِ لهيعةَ، عن يزيدِ بنِ أبي حبيبٍ، عن منصورِ بنِ أبي منصورٍ، أنه سألَ عبدَ اللَّهِ بنِ عمرٍو، عن أرواح المؤمنينَ إذا ماتُوا أينَ هِي؟ قالَ: هي صورُ طيرٍ بيضٍ، في ظلِّ العرشِ. وروى ليثٌ، عن أبي قيسٍ، عن هذيلٍ، عن ابنِ مسعود، قالَ: إنَّ أرواحَ آلِ فرعود في أجواف طير سود، تغدُو على جهنَّم، وتروحُ إليها، فذلكَ عرضُها. َ

وقالَ عبدُ الرحمنِ بنُ زيدِ بنِ أسلمَ، في قولِهِ تعالى: (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا) ، قالَ: هم فيها اليوم، يُعدَى بهم ويُراح إلى أن تقومَ الساعةُ. خرَّجهما ابنُ أبي حاتمٍ. وخرَّج اللالكائيُّ، من روايةِ عاصم، عن أبي وائل، عن أي موسى الأشعريِّ، قال: تخرجُ روحُ المؤمنِ وهي أطيبُ من المسكِ، فتعرجُ به الملائكةُ إلى ربِّه عزَّ وجل، حتى تأتِي ربَّه، وله برهانٌ مثلُ الشمسِ، وروحُ الكافرِ - يعني: أنتن من الجيفةِ -، وهو بوادِي حضرموْت، في أسفلِ الثَّرَى، من سبع أرضينَ. وقد يُستدلّ للقولِ بأنَّ أرواحَ المؤمنين في الجنةِ، وأرواحَ الكفارِ في النارِ. من القرآنِ بأدلة، منها قولُه تعالى: (فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (84) وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ (85) . إلى قولِهِ: (فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (88) فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ (89) وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (90) فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (91) وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (92) فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ (93) وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ (94) . هو دخولُ النارِ مع إحراقِهَا وإنضاجِها، فجعل هذا كلَّه متعقبًا للاحتضارِ والموت. وكذلك قولُه تعالى في قصةِ المؤمنِ في سورةِ يس: (قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26) بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ (27) . وإنَّما قالَ هذا بعدَ أن قتلوه، ورأى ما أعدَّ اللَّهُ له وكذلكَ قولُهُ: (يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي (30) . على تأويلِ من تأوَّل ذلك عند الاحتضارِ.

وكذلك قولُهُ تعالى: (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُوا أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ (37) قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ) . ونظيرُ هذه الآيةِ قولُهُ: (الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28) فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (29) . وممَّا يُستدلُّ به - أيضًا - لذلكَ، ما رواه مجالدٌ، عن الشعبيِّ، عن جابرٍ. أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - سُئلَ عن خديجةَ، قال: "أبصرتُها على نهر من أنهارِ الجنة، في بيت من قصبٍ، لا لغو فيه ولا نصب " خرَّجه البزارُ والطبرانيُّ. َ وخرَج الطبرانيُّ أيضًا بإسنادٍ منقطع عن فاطمةَ رضيَ اللَّهُ عنها، أنها قالتْ للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: أين أُمُّنَا خديجة رضيَ اللَّه عنها؟ قال: "في بيتٍ من قصبٍ لا لغوٌ فيه ولا نصب مع مريمَ وآسيةَ امرأةِ فرعونَ " قالتْ: ممن هذا القصبُ؟ قال: "من القصبِ المنظوم بالدررِ واللؤلؤ والياقوتِ ". وخرَّج أبو داودَ في "سننهِ " من حديثِ أبي هريرةَ، أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - لما رجمَ الأسلميّ - الذي اعترفَ عنده بالزِّنا - قال: "والذي نفسِي بيدِه إنه الآن لفي أنهارِ الجنةِ ينغمسُ فيها".

فصل وإنَّما تدخلُ أرواحُ المؤمنينَ والشهداءِ الجنةَ إذا لم يمنعْ من ذلكَ مانع، من كبائرَ تستوجبُ العقوبةَ، أو حقوقِ آدميينَ حتَّى يبرأَ منها. ففي "الصحيحينِ " عن أبي هريرةَ رضي اللَّهُ عنه، أنَ مِدْعَمًا قتلَ يومَ خيبرٍ، فقال الناسُ: هنيئًا له الجنةَ، فقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "كلاَّ، والذي نفسِي بيده إن الشَّمْلةَ التي أخذَهَا يومَ خيبرَ لم تصبْها المقاسمُ لتشتعلُ عليه نَارًا". وعن سمرةَ بنِ جندبٍ، قالَ: صلَّى بنا رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فقالَ: "ها هنا أحدٌ من بني فلانٍ؟ " ثلاثًا، فلم يجبْهُ أحد، ثم أجابهُ رجلٌ، فقالَ: "إنَّ فلانًا الذي تُوفِّيَ احتبسَ عن الجنةِ من أجلِ الدَّينِ الذي عليهِ، فإن شئتم فافْتَكُّوه - أو فافدُوه - وإن شئتُم فأسْلِمُوه إلى عذاب اللهِ عزَّ وجلَّ " خرَّجَه الإمامُ أحمدُ، وأبو داودَ، والنسائيُّ، بألفاظ مختلفة. وخرَّج البزارُ من حديثِ ابنِ عباسٍ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - نحوه. وفي حديثِه قالَ: "إنَّ صاحبَكُم محبوس على بابِ الجنةِ" أحسبه قال: بدينٍ. وخرَّج الإمامُ أحمدُ، والترمذيُّ، وابنُ ماجةَ، من حديثِ ثوبانَ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قالَ: "من فارقَ الروحُ الجسدَ، وهو بريءٌ من ثلاث، دخلَ الجنةَ، من الكبرِ، والغلولِ، والدَّينِ ". وخرَّج الطبرانيُّ، من حديثِ أنسٍ، قالَ: أُتِي النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - برجل يصلِّي

عليه، فقالَ: "على صاحبِكُم دَيْنٌ؟ " فقالُوا: نعم، قالَ: " فما ينفعُكُم أنْ أصلِّيَ على رجلٍ مرتهن في قبرِهِ، لا تصعدُ روحُه إلى السماءِ، فلو ضمِنَ رجلٌ دَيْنَه قمتُ فصلَّيتُ عليه، فإنَّ صلاِتي تنفعُهُ ". وفي المعنى أحاديث متعددة. وخرَّج ابنُ أبي الدنيا، في كتابِ "من عاشَ بعد الموتِ " من طريقِ سيَّارِ ابنِ جسرٍ، قالَ: خرج أبي وعبدُ اللَهِ بنُ زيدٍ، يريدانِ الغزوَ، فهجمُوا على رَكيةٍ عميقةٍ واسعةٍ، فأدلَوا حبالَهُم بقدرٍ، فإذا القدر قد وقعت في الرَّكِيَّةِ. قالَ: فقرنوا حبالَ الرفقةِ بعضُها ببعضٍ، ثم دخلَ أحدُهما إلى الرَّكيِّ، فلمَّا صارَ في بعضِه إذا هُوَ بهمهمةٍ في الرَّكِيِّ، فرجعَ فصعدَ، فقالَ: أتسمعُ ما أسمعُ؟ قالَ: نعمْ، فناولني العمودَ، فأخذ العمود ثم دخلَ الرَّكِيَّةَ، فإذا هُو برجلٍ جالسٍ على ألواح وتحتَهُ الماءُ. فقالَ: أجنيّ أم إنسيّ؟ قال: بل إنسيٌّ، فقالَ: ما أنت؟ قال: أنا رجل من أهلِ إنطاكية، وإني مِتُّ فحبسنِي ربِّي عزَّ وجلَّ ها هُنا بدَيْنٍ عليَّ، وإن ولَدي بإنطاكية، ما يذكروني، ولا يقضونَ عنَي. فخرجَ الذي كان في الرَّكِيًّةِ، فقال لصاحبِهِ: غزوةٌ بعدَ غزوة، فدعْ أصحابَنا يذهبونَ، فسارُوا إلى إنطاكية، فسألوا عن الرجلِ وعن بَنِيه، فقالوا: نعم، إنه - واللَّهِ - لأبونا، وقد بعنا ضيعةً لنا، فامشوا معنا حتى نقضيَ عنهُ دَيْنَهُ، قال: فذهبُوا معهُم، حتى قضوا ذلك الدَّينَ، قال: ثم رجعْنا من إنطاكية حتى أتيْنَا موضعَ الركيةِ، ولا نشكُّ أنها ثمَّ، فلم يكنْ ركيةً ولا شيء فأمسُوا فباتُوا هناكَ. فإذا الرجلُ قد أتاهُم في منامِهِم، وقال: جزاكمُ اللَّهُ خيرًا، فإن ربِّي عزَّ وجلَّ حَوَلني إلى مكانِ كذا وكذا من الجنةِ حيثُ قُضِي عنَي دَيني.

وروى في كتابِ "المناماتِ " قال: حدثنا زكريا بنُ الحارثِ البصريُّ، قالَ: رُئِيَ محمدُ بنٍ عبادٍ في النومِ، فقيلَ لهُ: ما فعلَ اللَّهُ بك؟ فقالَ: لولا دَيْنِي أُدْخِلتُ الجنةَ. وقالتْ طائفةٌ: الأرواحُ في الأرضِ، ثم اختلفُوا. فقالتْ فرقةٌ منهم: الأرواحُ تستقرُّ على أفنيةِ القبورِ. وهذا القولُ هو الذي ذكرَه عبدُ اللَّهِ ابن الإمامِ أحمدَ لأبيه في سؤالِهِ المتقدمِ. وحكى ابنُ حزمٍ هذا القولَ عن عامَّة أصحابِ الحديثِ. وقال ابنُ عبدِ البرِّ: كان ابنُ وضَّاحٍ يذهبُ إليه، ويحتجُّ بحديثِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - حين خرجَ إلى المقبرةِ فقال: "السلامُ عليكُم دارَ قومٍ مؤمنينَ "، فهذا يدلُّ على أنَّ الأرواحَ بأفنيةِ القبور. ورجَّح ابنُ عبدِ البرِّ أنَّ أرواحَ الشهداءِ في الجنةِ، وأرواحَ غيرِهِم على أفنيةِ القبورِ تسرحُ حيثُ شاءتْ. وذَكرَ عن مالكٍ أنه قالَ: بلغَنِي أنَّ الأرواحَ مرسلةٌ تذهبُ حيثُ شاءتْ. وعن مجاهدٍ قالَ: الأرواحُ على القبورِ سبعةُ أيامٍ، من يومِ دفنِ الميتِ، لا تفارقُ ذلكَ. واستدلَّ هو وغيرُه بحديثِ ابنِ عمرَ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "إذا ماتَ أحدُكُم عُرِضَ عليه مقعدُه بالغداةِ والعشيِّ، إنْ كانَ من أهل الجنةِ فمنْ أهلِ الجنةِ، وإنْ كانَ من أهلِ النارِ فمِنْ أهلِ النارِ، يُقالُ له: هذا مقعدُك حتَّى يبعثَكَ اللَهُ يومَ القيامةِ"

وهذا يدلُّ على أنَّ الأرواحَ ليستْ في الجنةِ، وإنّما تعرضُ عليها بكرةً وعشيًّا. كذلك ذكرَ ابنُ عطيةَ وغيرُه. وهذا لا حجةَ لهم فيه لوجهين: أحدهما: أنه يحتملُ أنْ يكون العرضُ بكرةً وعشيًّا على الروح المتصلةِ بالبدنِ، والروحُ وحدَها في الجنةِ فتكونُ البشارةُ والتخويفُ للجسدِ في هذينِ الوقتينِ باتصالِ الروح به. وأما الروحُ فهيَ أبدًا في نعيم أو عذابٍ. والثاني: أن الذي يُعرضُ بالغداةِ والعشيِّ هو مسكنُ ابنِ آدمَ الذي يستقرُ فيه في الجنةِ أو النارِ، وليستِ الأرواحُ مستقرةً فيه في مدةِ البرزخ، وإنْ كانتْ في الجنةِ أو النارِ. ولهذا جاءَ في حديثِ البراءِ بنِ عازبٍ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ المؤمنَ إذا فتحَ له في قبى بابٌ إلى الجنةِ، وقيلَ له: هذا منزلُكَ. فيقولُ: ربِّ أقِم الساعةَ حتَى أرجعَ إلى أهلِي ومالِي ". وأمَّا السَّلامُ على أهلِ القبورِ فلا يدلّ على استقرارِ أرواحهِم على أفنيةِ قبورِهم، فإنَّه يسلِّمُ على قبورِ الأنبياءِ والشهداءِ، وأرواحُهم في أعلى عليِّين، ولكنْ لها مع ذلكَ اتصالٌ سريعٌ بالجسدِ، ولا يعلمُ كُنْهَ ذلكَ وكيفيتَهُ على الحقيقةِ إلا اللَّهُ عزَّ وجلَّ. ويشهدُ لذلكَ الأحاديثُ المرفوعةُ والموقوفةُ على أصحابِهِ، كأبي الدرداءِ. وعبدِ اللَّهِ بنِ عمرِو بنِ العاصِ رضي اللَّه عنهم، في أنَّ النائمَ يُعرجُ بروحِهِ إلى العرشِ مع تعلّقها ببدنِهِ، وسرعةِ عودِها إليه عند استيقاظهِ، فروحُ الموتى

المتجردةُ عن أبدانِهِم أوْلَى بعروجِهَا إلى السماءِ وعودِها إلى القبرِ في مثلِ تلك السرعةِ، واللَّهُ أعلمُ. وخرَّج ابنُ منده، من طريقِ عليِّ بنِ زيدٍ، عن سعيدِ بنِ المسيبِ، أنَّ سلمانَ قال لعبدِ اللَّهِ بنِ سلامٍ: إنَّ أرواحَ المؤمنينَ في برزخٍ مِنَ الأرضِ تذهبُ حيثُ شاءتْ، وإنَّ أرواحَ الكفارِ في سجِّين. وخرَّجه ابن سعدٍ في "طبقاتِهِ " ولفظُه: "إنَّ روحَ المؤمنِ تذهبُ في الأرضِ حيثُ شاءتْ، وروحَ الكافر في سجين ". وعليٌّ بنُ زيدٍ ليسَ بالحافظِ، خالفَهُ يحيى بنُ سعيد الأنصاريّ مع عظمتِهِ وجلالتِه وحفظِهِ. فرواه عن سعيدِ بنِ السيبِ، قالَ فيهِ: إنَّ أرواحَ المؤمنينَ تذهبُ في الجنةِ حيثُ شاءتْ، كما سبقَ ذكرهُ، وخرَّجه ابنُ سعدٍ في "طبقاتِهِ " ولفظُه: "إنَّ المؤمنَ روحُهُ تذهبُ في الأرضِ حيثُ شاءتْ، ونسمُ الكافرِ في سجِّين ". وقد تقدَّمَ عن مالكٍ أنَّه قالَ: بلغَنِي أنَّ الأرواحَ مرسلة تذهبُ حيثُ شاءتْ، وخرَّجه ابنُ أبي الدنيا، عن خالدِ بنِ خداشٍ، قالَ: سمعتُ مالكًا يقولُ ذلكَ. وخرَّج - أيضًا - عن حسينِ بنِ على العجليِّ، حدثنا أبو نُعيمٍ، حدثنا شريلث عن يعْلَى بنِ عطاءِ، عن أبيه، عن عبدِ اللَّهِ بنِ عمرٍو، قالَ؛ مثلُ: المؤمنِ حينَ تخرجُ نفسُهُ، أو قالَ روحُهُ، مثلُ رجلٍ كان في سجْنٍ، فأُخْرِجَ منه، فهو ينفسحُ في الأرضِ ويتقلبُ فيها. ومما استدلَّ به على أنَّ الأرواحَ في الأرضِ، حديثُ البراءِ بن عازبٍ. الذي تقدَّم سياقُ بعضِه، وفيه صفةُ قبضِ رُوح المؤمنِ: "فإذا انتهَى إلى العرشِ

كتبَ كتابَهُ في علِّيين، ثم يقولُ الربُّ عزَّ وجلَّ: ردُّوا عبدِي إلى مضجعِهِ، فإنَي وعدتُهم أني منها خلقتُهم، وفيها أُعيدُهم، ومنها أُخرِجُهم تارةً أخرى، فيُرَدُّ إلى مضجعِهِ ". وذكرَ الحديثَ. وقال في روء الكافرِ: "فيصعدُ بها إلى السماءِ، فتغلق دونه أبوابُ السماءِ قال: ويُقالُ: اكتبوا كتابَهُ في سجِّين، قالَ: ثم يقالُ: أعيدُوا عبدِي إلى الأرضِ، فإني وعدتُهُم أنِّى منها خلقتُهم، وفيها أعيدُهُم، ومنها أخرجُهم تارةً أخرى". وفي روايةٍ: "فيقولُ اللَّهُ تعالى: ردُّوا روحَ عبدِي إلى الأرضِ، فإنِّي وعدتُهُم أنِّي أردُّهم فيها" ثم قرأ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: (مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى (55) . وهذا يدل على أنَّ أرواحَ المؤمنينَ تستقرُ في الأرضِ، ولا تعودُ إلى السماءِ بعد عرضِها ونزولهَا إلى الأرضِ، ولكنَّ حديثَ البراءِ وحدَهُ لا يعارضُ الأحاديثَ المتقدمةَ في أنَّ الأرواحَ في الجنةِ، ولا سيما الشهداءُ. وفي "صحيح مسلم" عن عبدِ اللَّهِ بن شقيقٍ، عن أبي هريرةَ، في صفةِ قبضِ روء المؤمنِ، قالَ: "ثم يصعدُ به إلى اللهِ - عزَّ وجلَّ - فيقولُ: ردُوه إلى آخر الأجلبنِ "، وذكرَ مثلهُ في روءِ الكافرِ، وقال فيه: وردَّ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ريطةً كانتْ له على أنفهِ، يعني لمَّا ذكر نتن ريحهِ. وهذا يشهدُ لرفع الحديث كلِّهِ. وخرَّج ابنُ أبي الدنيا، منْ حديثِ قتادةَ عن قسامةَ بنِ زهيرٍ، عن أبي هريرةَ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ المؤمنَ إذا احتُضِرَ أتتهُ الملائكةُ بحريرة فيها مسكٌ وضبائرُ الريحانِ، فتُسل روحُهُ كما تُسلُّ الشعرةُ من العجينِ، وتقولُ: أيتها النفسُ المطمئنةُ اخرجِي راضيةً، مرضيًّا عنكِ إلى روحِ اللَّهِ وكرامتِهِ، فإذا خرجتْ روحُه وُضِعَتْ على

ذلكَ المسكِ والريحانِ، وطويتْ عليها الحريرةُ، وبُعثِ بها إلى عليين. وإنَّ الكافرَ إذا احتضرَ أتتْهُ الملائكةُ بمسحٍ فيه جمرةٌ، فتنزعُ روحُهُ نزعًا شديدًا، ويقالُ: أيتها النفس الخبيثةُ، اخرجِي ساخطةً مسخوطًا عليكِ إلى هوانِ اللَّهِ وعذابِهِ، فإذا أُخرجَتْ روحُه وُضِعَتْ على تلكَ الجمرةِ، فإنَّ لها نشيشًا، يُطوى عليها المسحُ ويذهبُ بها إلى سِجِّين ". وخرَّجه النسائيُّ وغيرُه، من حديثِ قتادةَ، عن أبي الجوزاءِ عن أبي هريرةَ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، ولفظُهُ مخالفٌ لما قبلَهُ، وذكرَ فيه في روح المؤمنِ: حين ينتهوا به إلى السماءِ العُليا، وقال في روح الكافرِ، حينَ ينتهوا به إلى الأرضِ السّفلى. وقد ذكرنا فيما تقدَّم عن ابنِ مسعودٍ: أنَّ الروحَ بعدَ السؤالِ في القبرِ تُرفع إلى عليينَ، وتلا قولَهُ تعالى: (كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ الأَبْرَارِ لَفِي عِلِيِّينَ) . وقالتْ فرقة: تجتمعُ الأرواحُ بموضع من الأرضِ، كما روى همامُ بنُ يحيى المسعوديُّ، عن قتادةَ: قالَ: حدثني رجل، عن سعيدِ بن المسيبِ، عن عبدِ اللَّهِ بن عمرٍو، قالَ: إنَّ أرواحَ المؤمنينَ تجتمعُ بالجابيةِ، وأمَّا أرواحُ الكفارِ فتجمعُ بسبخةٍ بحضرموت، يُقال لهُ: برهوتُ، خرَّجه ابنُ منده. ورواه هشامُ الدستوائيُّ، عن قتادةَ، عن سعيدِ بن المسيبِ من قولِهِ، ولم يذكرْ عبدَ اللَّهِ بنِ عمرو، خرَّجه من طريقِ ابنِ أبي الدنيا، وقد تبيّنَ أن قتادةَ لم يسمعْه من سعيدٍ، إنما بَلَغَه عنه ولا يدرِ عَمَّن أخذهُ. وخرَّج ابنُ منده، من طريقِ فراتِ القزازِ، عن أبي الطفيلِ، عن علي. قال: شرُّ وادٍ بئر في الأحقافِ: برهوتُ، بئرٌ في حضرمَوت، ترده أرواحُ الكفارِ.

قال: ورواه حمادُ بنُ سلمةَ، عن عليِّ بن زيدٍ، عن يوسفَ بن مهرانَ. عن ابنِ عباسٍ: عن عليٍّ - رضي الله عنه -، قال: أبغضُ بقعة في الأرضِ وادٍ بحضرموت، يُقال له: بَرهوتُ، فيه أرواحُ الكفارِ، وفيه بئر ماؤُه بالنهارِ أسودُ كأنه قيحٌ تأوِي إليه الهوامُ. وروى بإسناده عن شهرِ بنِ حوشبٍ، أنَّ كعبًا رأى عبدَ اللَّهِ بنَ عمرٍو. وقد تكالبَ الناسُ عليه يسألونَهُ، فقال رجل لرجلٍ: سله أينَ أرواحُ المؤمنينَ؟ قال: بالجابيةِ وأرواحُ الكفارِ ببرهوتَ. وبإسنادٍ عن سفيانَ، عن أبانَ بنِ تغلبٍ، قال: قال رجل: بتّ فيه - يعني وادي برهوت، وكأنَّما حُشدتْ فيه أرواحُ الناسِ، وهم يقولونَ: يا دومةُ يا دومةُ، قال أبانُ: فحدثنا رجل من أهلِ الكتابِ: هو المَلكُ الذي على أرواحِ الكفارِ. قال سفيانُ: وسألنا الحضرميّينَ، فقالُوا: لا يستطيعُ أن يبيتَ فيه أحدٌ بالليلِ. وقال ابنُ قتيبةَ في كتابِ: "غريبِ الحديثِ ": ذكرَ الأصمعيُّ، عن رجلٍ من أهلِ برهوتَ - يعني البلدَ فيه هذا البئرُ -، قال: نجدُ الرائحة المنتنةَ الفظيعةَ جدًّا، ثم نمكثُ حينًا، فيأتينا الخبرُ بأن عظيمًا من عظماء الكفارِ قد ماتَ، فنرى أن تلكَ الرائحةَ منْهُ. قال: وقالَ ابنُ عيينةَ: أخبرنِي رجل أنه أمْسَى ببرهوتَ، فكأنَّ فيه أصواتُ الحاجِّ، قال: وسألتُ أهلَ حضرموت، فقالُوا: لا يستطيعُ أحدُنا أن

يمشي به فيه. وقال ابنُ أبي الدنيا: حدثنا الحسينُ بنُ عبدِ العزيزِ، حدثنا عمرو بنُ أبي سلمةَ، عن عمرَ بنِ سليمانَ، قالَ: ماتَ رجلٌ من اليهودِ وعندَهُ وديعةٌ لمسلم، وكانَ لليهوديِّ ابنٌ مسلمٌ، فلم يعرفْ موضعَ الوديعةِ، فأخبرَ شعيبًا الجبائيَّ، فقال: ائت برهوتَ فإنَّ دونهُ عينٌ تسيبُ، فإذا جئتَ في يومِ السبتِ فامشِ عليها حتَّى تأتِي عينًا هناكَ، فادعُ أباك فإنه سيجيبُكَ، فاسألْه عما تريدُ، فعلَ ذلك الرجلُ، ومضى، حتى أتى العينَ، فدعا أباه مرتينَ أو ثلاثاً فأجابَهُ، فقالَ: أين وديعةُ فلانٍ؟ فقال: تحت إسكفةِ البابِ، فادفعْها إليه. وفي كتابِ "الحكاياتِ " لأبي عمرٍو أحمدَ بنِ محمدٍ النيسابوريِّ، قالَ: حدثنا أبو بكرٍ بنُ محمدِ بنِ عيسى الطرطوسيُّ، حدثنا حامدُ بنُ يحيى حدثنا يحيى بنُ سليم، قالَ: كانَ عندنا بمكةَ رجلُ صدق من أهلِ خراسانَ يُودعَ الودائعَ فيؤدِّيها، فأودعه رجلٌ عشرة آلافِ دينارٍ، وغابَ، فحضرتِ الخراسانيَّ الوفاةُ، فما ائتمنَ أحدًا من ولدِهِ، فدفنَهَا في بعضِ بيوتِهِ، وماتَ. فقدِمَ الرجلُ وسألَ بنيهِ، فقالُوا: ما لنا بها علمٌ، قالَ العلماءُ الذين بمكةَ. وهم يومئذٍ متوافرونَ، فقالُوا: ما نراهُ إلا من أهلِ الجنةِ، وقد بلغَنا انَّ أرواحَ أهل الجنةِ، في زمزمَ، فإذا مضى من الليلِ ثلثُه أو نصفُهَ فائتِ زمزمَ، فقفْ على شفيرِهَا، ثم نادِهِ، فإنا نرجُو أن يجيبَكَ، فإنْ أجابكَ فاسْألْه عن مالِكَ. فذهبَ كما قالُوا: فنادَى أولَ ليلةٍ وثانيةٍ وثالثةٍ، فلم يُجَبْ، فرجَعَ إليهم. فقالَ: ناديتُ ثلاثا فلم أُجَبْ؛ فقالُوا: إنا للَّه وإنا إليه راجعون، ما نرى صاحبَك إلا من أهل النارِ، فاخرجْ إلى اليمنِ، فإنَّ بها واديًا يُقالُ له: برهوتَ، فيه بئرٌ يقالُ له: يلهوتُ فيها أرواحُ الكفارِ، فقِفْ على شفيرها فنادِهِ

في الوقت الذي ناديتَهُ في زِمزمَ، فذهب كما قيل له في الليلِ، فنادَى يا فلانُ يا فلانُ بنُ فلانٍ أنا فلانُ بنُ فلانٍ، فأجابَهُ في أولِ صوتِ، فقال له: ويحكَ ما أنزلَكَ ها هنا وقد كنتَ صاحبَ خيرٍ؟ قال: كان لي أهلٌ بخراسانَ، فقطعتُهم حتى مِتُّ، فأخذَنِي اللَّهُ فأنزلني هذا المنزلَ، وأمَّا مالُك فإني لم آمنْ عليه ولدِي، وقد دفنتُه في موضع كذا. فرجع صاحبُ المالِ إلى مكةَ، فوجدَ المالَ في المكانِ الذي أخبرَهُ. ورجَّحت طائفةٌ من العلماء أن أرواحَ الكفارِ في بئر برهوت، منهم القاضي أبو يعْلَى من أصحابِنا في كتابِه: "المعتمد" وهو مخالفٌ لنص أحمدَ: أنَّ أرواح الكفارِ في النارِ. ولعلَّ لبئر برهوت اتصالاً في جهنَّم في قعرِها، كما رُوي في البحرِ أنَّ تحته جهنَّم، واللَّه أعلمُ. ويشهدُ لذلكَ ما سبقَ من قولِ أبي موسى الأشعريِّ: فروحُ الكافرِ بوادي حضرَموت، في أسفلِ الثرى من سبع أرضينَ. وقال صفوانُ بنُ عمرٍو: سألتُ عامرَ بنَ عبدِ اللَّهِ اليمانيَّ، هل لأنفسِ المؤمنينَ مجتمعٌ؟ فقال: يُقالُ: إن الأرضَ التي يقولُ اللَّهُ: (أَنَّ الأَرْض يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ) ، قالَ: هي الأرض التي تجتمعُ فيها أرواحُ المؤمنينَ، حتى يكونَ البعثُ. خرَّجه ابنُ منده، وهذا غريبٌ جدًّا، وتفسيرُ الآيةِ بذلك ضعيفٌ. وخرَّج ابنُ أبي الدنيا، في كتابِ "من عاشَ بعدَ المماتِ " من طريقِ

عبدِ الملكِ بنِ قدامةَ، عن عبدِ اللَّهِ بن دينارٍ، عن أبي أيوبَ اليمانيِّ، عن رجلٍ من قومِهِ يقال له: عبدُ اللَّه، إنه ونفرٌ من قومِهِ ركبُوا البحرَ، وإنَّ البحرَ أظلمَ عليهم أيامًا، ثم انجلتْ عنهم تلك الظلمةُ، وهم قرب قريةٍ، قالَ عبدُ اللَّه: فخرجتُ ألتمسُ الماءَ، فإذا أبوابَ المدينةِ مغلقة، تجأجأ فيها الريحُ فهتفتُ بها، فلم يجبْني أحدٌ، فبينا أنا كذلك إذ طلعَ عليَّ فارسانِ، تحتَ كلِّ واحدٍ منهما قطيفةٌ بيضاءُ، فسألانِي عن أمرِي، فأخبرتُهما بالذي أصابَنا في البحرِ، وإني خرجتُ أطلبُ الماءَ. فقالا لي: يا عبدَ اللَّهِ، اسْلُكْ في هذه السكّةِ، فإنك ستنتهِي إلى بركةٍ فيها ماءٌ فاسْقِ منها، ولا يهولنّك ما ترى فيها، قال: فسألتُهما عن تلكَ البيوتِ المغلقةِ التي تجاجا فيها الريحُ فقالا: هذه بيوت فيها أرواحُ الموتى. قال: فخرجتُ حتى انتهيتُ إلى البركةِ، فإذا فيها رجلٌ مصلوبٌ معلَّقٌ على رأسِهِ، يريدُ أن يتناولَ الماءَ بيدِهِ، وهو لا ينالُه، فلما رآني هتفَ بِي. وقال: يا عبدَ اللَّهِ اسقنِي، قال: فغرفتُ بالقدح لأناوَلَهُ فقبضتْ يدِي، قالَ لي: بلَّ العمامةَ ثم ارمِ بها إليَّ، قال: فبللت العمامة لأرمي بها إليه. فقبضت يدي العمامةَ، ثم بللتُ ثانيًا لأرمي بها إليه قبضتْ يدي. فقلتُ: يا عبدَ اللَّه غرفتُ بالقدح لأناولكَ فقُبِضَتْ يدي، ثم بللتُ العمامة لأرمي بها إليكَ فقُبِضَتْ يدي، فأخبرْنِي من أنت؟ فقال: أنا ابنُ آدم، أنا أول من سفكَ دمًا في الأرضِ. خرَّجَ أبو نعيمٌ بإسنادِهِ عن ابنِ وهبٍ، حدثنا عبدُ الرحمنِ بنُ زيدٍ بنِ أسلمَ، قالَ: بينا رجلٌ في مركبٍ في البحرِ، إذ انكسرَ بهم مركبُهم، فتعلقَ بخشبةٍ، فطرحتُه في جزيرة من الجزائرِ، فخرج يمشي، فإذا هو بماءٍ، فتبعهُ

فدخلَ في شعبٍ، فإذا رجل في رجليه سلسلةٌ مربوطٌ بها، بينه وبينَ الماءِ شبرٌ، فقال: اسقني رحمكَ اللَهُ، قال: فأخذتُ ملءَ كفي ماءً فرفعَ بالسلسلةِ فذهبَ الماءُ، فلما ذهبَ الماءُ حطّ الرجل: قال: ففعلتُ ذلكَ ثلاثَ مرَّاتٍ، أو أربعًا، قال: فلما رأيتُ ذلك منه، قلتُ له: ما لكَ ويحكَ؟ قال: هو ابنُ آدم الذي قتلَ أخاهُ، والله ما قُتِلَتْ نفسٌ ظُلْمًا منذ قتلتُ أخي إلا يعذِّبني اللهُ بها، لأنِّي أوَّل من سنًّ القتلَ. وروى تمامُ بنُ محمدِ الرازيُّ في كتابِ "الرهبانِ " حدثنا عصمةُ العبادانيُّ. قال: كنتُ أجول في بعضِ الفلواتِ، إذ بصرتُ دِيرًا وفيه صومعةٌ، وفيها راهب، فناديتُه، فأشرفَ عليَّ، فقلتُ له: من أينَ تأتيكَ الميرةُ؟ قال: من مسيرة شهرٍ. قلتُ: حدثني بأعجبِ ما رأيتَ في هذا الموضع. قال: بينا أنا ذاتَ يومٍ أديرُ ببصري في هذهِ البريةِ القفرِ وأتفكر في عظمةِ اللَّهِ وقدرتِهِ، إذ رأيتُ طائرًا أبيضَ مثلَ النعامةِ كبيرًا، قد وقعَ على تلك الصخرةِ - وأومئ بيده إلى صخرةٍ بيضاء فتقيأ رأسًا، ثمَّ رجلاً، ثم ساقًا، فإذا هو كلما تقيأ عضوًا من تلك الأعضاءِ التمتْ بعضُها إلى بعضِ أسرعَ من البرقِ، فإذا هَمَّ بالنهوضِ نقره الطائرُ نقرةً قطعه أعضاءً، ثم يرجعُ فيبتلعه، فلم يزل على ذلك أيامًا، فكثرَ تعجبي منه، وازددتُ يقينًا بعظمة اللَّهِ، وعلمت أن لهذهِ الأجسادِ حياةً بعد الموتِ، وذكر أنه سأل عن ذلكَ الرجلَ يومًا عن أمر. فقال: أنا عبدُ الرحمنِ بنُ مُلجم، قاتلُ عليِّ بنِ أبي طالبٍ كرَّم اللَّه وجهَهُ. أمرَ اللَّهُ هذا المَلَكَ أن يعذِّبني إلى يومِ القيامة، قال: وقال لي الملكُ: أمرَنِي رسول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أن أمضي بهذا الجسدِ إلى جزيرةِ في البحرِ الأسودِ التي يخرجُ منه هوامُ أهلِ النارِ، فأعذدهُ إلى يومِ القيامةِ.

وقد رويتْ هذه الحكايةُ من وجه آخرَ، خرَّجها ابنُ النجارِ في "تاريخه " من طريقِ السلَفيِّ، بإسنادٍ له، إلى الحسينِ بنِ محمدِ بنِ عبيدِ العسكريَ. أخبرنا إسماعيلُ بنُ أحمدَ بنِ عليِّ بنِ أحمدَ بنِ يحيى بنِ النجم - سنةَ ثلاثَ عشرةَ وثلاثمائة - أنه حضر مع يوسفَ بنِ أبي التياح ببلاد سنجاطَ حينَ فتحَهَا، وأن سنباطَ حضر مجلسَهُ، وحدّثه عن راهبٍ سماه لي، فأحضرَ يوسفُ الراهبَ، فحدَّثه الراهبُ بعد الامتناع، أن مَلِكا نفاهُ إلى جزيرةٍ على البحرِ منفردةٍ، قال: فرأيتُ يومًا طيرًا - فذكرَ شبيهًا بالحكايةِ. ورُويتْ من وجهٍ آخرَ، من طريقِ أبي عبدِ اللَّهِ محمدِ بن أحمدَ بنِ إبراهيمَ الرازيِّ، صاحب "السداسياتِ " المشهورةِ، عن عليِّ بنِ بقاءِ بنِ محمدٍ الوراقِّ، حدثنا أبو محمدٍ عبد الرحمنِ بن عمرَ البزارِ، قال: سمعتُ أبا بكر محمدَ بنَ أحمدَ بنَ أبي الأصبغ، قال: قَدِم علينا شيخٌ غريبٌ، فذكرَ أنه كان نصرانيًّا سنينَ، وأنه تعبَّدَ في صومعتِهِ قال: فبينما هو جالسٌ ذاتَ يومٍ، إذ جاءَ طائرٌ كالنسرِ، أو كالكرْكِيِّ. فذكر شبيهًا بالحكايةِ مختصرًا. وكلُّ ما وردَ من هذه الآثارِ فإنه محمولٌ على أنَّ الأرواحَ تنتقل من مكانٍ إلى مكانٍ، ولا يدلُّ على أنَّها تستقرُ في موضع معينٍ من الأرضِ، واللَّهُ أعلمُ. ويشهدُ لهذا ما رُوي عن شهرِ بنِ حوشبٍ، قال: كتبَ عبدُ اللَّهِ بنُ عمرٍو إلى أبي بن كعبٍ، يسأله: أين تلْتَقِي أرواحُ أهلِ الجنةِ وأرواحُ أهلِ النارِ. فقال: أما أرواحُ أهلِ الجنةِ فبالباديةِ، وأما أرواحُ الكفارِ، فبحضرَموت، ذكره ابنُ منْدَه تعلِيقًا.

وقالتْ طائفة من الصحابةِ: الأرواحُ عندَ اللَّهِ عزَّ وجلَّ، وقد صحَّ ذلك عن ابنِ عمرٍو، وقد سبقَ قولُهُ. وكذلكَ رُوي عن حذيفةَ، خرَّجه ابن منده، من طريقِ داودَ الأوديِّ، عن الشعبيِّ، عن حذيفةَ، قال: إنَّ الأرواحَ موقوفة عندَ اللَّهِ تعالى، تنتظرُ موعدَها، حتَّى ينفخَ فيها، وهذا إسناد ضعيف، هذا لا ينافي ما وردتْ به الأخبارُ من محلِّ الأرواح على ما سبقَ. وقال طائفةٌ: أرواحُ بني آدمَ عند أبيهم آدمَ عليه السلامُ عن يمينِه وشمالِه وهذا يستدل له بما في "الصحيحينِ " عن أنسٍ، عن أبي ذرٍّ - رضي الله عنه -، عن النبيًّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: "فرج سقف بيتي وأنا بمكة"، فذكر الحديثَ وفيه: "فلمَّا فتحَ، علونَا السماءَ الدنيا، فإذا رجل قاعد عن يمينِهِ أسوِدَة، وعن يسارِهِ أسودة، فإذا نظر قِبَل يمينهِ ضحكَ، وإذا نظرَ قِبَلِ شمالهِ بَكى، فقال: مرحبًا بالنبيِّ الصالح والابن الصالحِ، قلتُ لجبريلَ: من هذَا؟ قال: هذا آدمُ، وهذه الأسودةُ عن يمينِهِ وعن شمالِهِ نسمُ بني آدمَ، فأهل اليمينِ منهم أهلُ الجنةِ، والأسودةُ التي عن شمالِهِ أهلُ النارِ، فإذا نظرَ عن يمينِهِ ضحكَ، وإذا نظرَ عن شمالِهِ بَكَى.. " وذكر بقية الحديثِ. وظاهرُ هذا اللفظِ يقتضِي أنَّ أرواحَ الكفارِ في السماءِ، وهذا مخالف لقولِهِ تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ كذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَاب السَّمَاءِ) ، وكذلك حديثُ البراءِ وأبي هريرةَ وغيرِهما، أنَّ السماءَ لا تفتحُ لروح الكافرِ، وأنها تطرحُ طرْحًا، وأنَّ رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -، قرأ: (وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَاَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ)

قد حملَهُ بعضُهم على أنَّ هذه الأرواحَ التي عن يمينِ آدمَ وشمالِه هي أرواحُ العصاةِ من الموحدينَ وحملَها بعضُهم على أنها أرواحُ بنيهِ الذينَ لم تُخلقْ أجسادُهُم بعد، وهذا في غايةِ البعدِ مع منازعةِ بعضِهم في خلقِ الأرواح قبل أجسادِها. وقد وردَ من حديثِ أبي هريرةَ، ما يزيلُ هذا الإشكالَ كلَّه، من روايةِ أبي جعفر الرازيِّ، عن الربيع بنِ أنسي عن أبي العاليةَ أو غيرِه، عن أبي هريرةَ. فذكر حديثَ الإسراء بطول، إلى أن قال: "ثمَّ صعد به إلى سماءِ الدنيا، فاستفتح، فقيل: من هذا؟ قال: جبريلُ، قيلَ: ومن معك؟ قال: محمدٌ قالُوا: وقد أُرسِلَ محمد؟ قال: نعمْ، قالَ: حيَّاه اللَّهُ من أخٍ ومن خليفة، فنِعْمَ الأخُ، ونعمَ الخليفةُ، ونعِمَ المجيءُ جاءَ، قال: فدخلَ فإذا هو برجلٍ تامِّ الخلقِ، لم ينقص خلقِه شيء كما ينقص من خلقِ الناسِ، عن يمينِهِ باب يخرجُ منه ريح طيبة وعن شمالِهِ باب يخرجُ منه ريح خبيثة إذا نظرَ إلى البابِ الذي عن يمينِهِ ضحكَ واستبشرَ، وإذا نظرَ إلى البابِ الذي عن شمالهِ بكى وحزنَ، قالَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: يا جبريلُ من هذا الشيخُ التامُّ الخلقِ الذي لم ينقصْ من خلقِهِ شيء؛ وما هذانِ البابانِ؟ قال: هذا أبوكَ آدمُ صلَّى اللَّهُ عليه وسلَّم. البابُ الذي عن يمينِه بابُ الجنةِ، فإذا نظرَ من يدخلُ الجنةَ من ذرينِه ضحكَ واستبشرَ، والبابُ الذي عن شمالِهِ بابُ جهنّم، فإذا نظرَ من يدخلُ من ذريتِه النارَ بكى وحزِنَ "، وذكر الحديثَ. وقد خرَّجه بتمامِهِ البزَّارُ في "مسندهِ "، وأبو بكرٍ الخلالُ وغيرُ واحدٍ. وفيه التصريحُ بأن أرواحَ ذريته في الجنة والنارِ، وأنه ينظرُ إلى أهلِ الجنة من بابٍ عن يمينِه، وإلى أهلِ النارِ من باب عن شمالِه، وهذا لا يقتضِي أن تكون

الجنةُ والنارُ في السماءِ الدنيا، وإنَّما معناه أنَّ آدمَ في السماء الدنيا، يفتحُ له بابانِ إلى الجنةِ والنارِ، ينظرُ منهما إلى أرواح ولدِه فيهما. وقد رأى النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - الجنةَ والنارَ في صلاةِ الكسوفِ وهو في الأرضِ وليستِ الجنةُ في الأرضِ. ورُوي أنه رآها ليلةَ الإسراء في السماءِ؛ ليستِ النارُ في السماءِ. ويشهدُ لذلكَ - أيضًا - ما في حديثِ أبي هارونَ العبدِيِّ - مع ضعفِ حديثِهِ - عن أبي سعيدٍ الخدريِّ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في حديثِ الإسراءِ الطويلِ إلى أنْ ذكرَ السماءَ الدنيا: "وإذا أنا برجلٍ كهيئتِه يومَ خلقَهُ اللَهُ - عزَّ وجلَّ - لم يتغيرْ منه شيءٌ، وإذا تُعْرَضُ عليه أرواحُ ذريتِهِ، فإذا كان روحُ مؤمنٍ قال: روحٌ طيبةٌ، وريحٌ طيبة اجعلُوا كتابَهُ في عليّينَ. وإذا كان روحُ كافرٍ، قال: روحٌ خبيثةٌ، وريحٌ خبيثة اجعلُوا كتابه في سجِّين، قلتُ: يا جبريلُ من هذا؟ قال: أبوكَ آدمُ "، وذكر الحديثَ. ففي هذا أنه تُعْرَضُ عليه أرواحُ ذريتِه في السماءِ الدنيا، وأنه يأمرُ بجعلِ الأرواح في مستقرِّها من علِّيينَ وسجًّينَ، فدلَّ على أن الأرواحَ ليس محل استقرارِها في السماءِ الدُّنيا. وزعمَ ابنُ حزمٍ أنَّ اللَّه خلقَ الأرواحَ جملةً قبلَ الأجسادِ، وأنه جعلها في برزخ، وذلك البرزخُ عند منقطع العناصرِ، يعني حيثُ لا ماءَ ولا هواءَ ولا نارَ ولا ترابَ، وأنه إذا خلقَ الأجسادَ أدخلَ فيها تلكَ الأرواحَ، ثم يعيدها عند قبضِها إلى ذلك البرزخ، وهو الذي رآها رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - في ليلةِ أُسْرِي به، عند سماءِ الدنيا، أرواحُ أهلِ السعادةِ عن يمينِ آدمَ، وأرواحُ أهلِ الشقاوةِ عن يسارِهِ، وذلك عند منقطع العناصرِ، وتُجعلُ أرواحُ الأنبياء والشهداءِ إلى الجنةِ. قال: وذكرَ محمدُ بنُ. نصر المروزيُّ، عن إسحاقَ بنِ راهويه، أنه ذكرَ هذا

الذي قلنَاه بعينِه، قالَ: وعلى هذا أجمعَ أهلُ العلم، قالَ ابنُ حزمٍ: وهو قولُ جميع أهلِ الإسلامِ، هذا مختصرُ ما ذكرَهُ، ولا يُعرفُ ما قالَهُ في هذا عن أحدٍ من أهلِ الإسلامِ غيرِهِ. فكيفَ يكونُ قولَ جميعَ أهلِ الإسلامِ، وكلامُهُ يقتضِي أن الأرواحَ رآها النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - ليلةَ الإسراءِ تحتَ السماءِ الدُّنيا، والحديثُ إنما يدلُّ على أنه إنما راَها فوقَ السماءِ الدنيا، وما حُكِي عن محمدِ بن نصرٍ، عن إسحاقَ بنِ راهويْهِ، فلا يدلُّ على ما قالَهُ بوجهٍ، فإن محمدَ بنَ نصرٍ حكى عن إسحاقَ بنِ راهويْهِ إجماعَ أهلِ العلم على أنَّ اللَّهَ تعالى استخرجَ ذريتَهُ من صلبِهِ قبلَ خلقَ أجسادِهم واستنطَقَهُم واستشهدَهُم على أنفسِهِم (ألَسْتُ بِرَبِّكم قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا) . ولم يذكر أكئرَ من هذا، وهذا لا يدلُّ على شيءٍ مما قاله ابنُ حزمٍ في مستقرِّ الأرواح الميتةِ، بل ولا على أنَّ الأرواحَ بقيتْ على حالِها، بلْ في بعضِ الأحاديثِ أنه ردَّها إلى صلبِ آدمَ، ولم يقلْ إسحاقُ ولا غيرُه من المسلمينَ: إن مستقرَ الأرواح حيثُ منقطع العناصِر، بل وليسَ هذا من جنسِ كلامِ المسلمينَ، بل من جنسِ كلامِ المتفلسفةِ. وقد خرَّج ابنُ جريرٍ الطبريُّ في كتابِ "الآدابِ " لهُ، من طريقِ أبي معشرٍ، عن محمدِ بنِ كعبٍ، عن المغيرةِ بنِ عبدِ الرحمنِ، قالَ: قالَ سلمانُ لعبدِ اللَّهِ بنِ سلامٍ: إنَّ متَّ قبلي فأخبرْنِي بما تلْقَى، وإنْ متُّ قبلكَ أخبرتُك بما ألْقى، فقالَ له الناسُ: يا عبدَ اللَّهِ كيف تخبرُنا وقد مِتَّ؟ قالَ: ما منْ روح تُقبضُ من جسدٍ إلا كانتْ بينَ السماءِ والأرضِ حتى تُردَّ في جسدهِ الذي أخذتْ منه، وهذا لا يثبتُ وهو منقطعٌ، وأبو معشرٍ: ضعيفٌ، وقد سبقَ روايةُ سعيدِ بنِ المسيبِ لهذه القصة بغير هذا اللفظِ وهو الصحيحُ.

وقد تقدمَ في سؤال عبدِ اللَّهِ بنِ الإمامِ أحمدَ لأبيهِ عن الأرواح هل تموتُ بموتِ الأجسادِ؟ وهذا يدلُّ على أنَّ هذا قد قيل أيضًا وهو كذلكَ. وقد حُكِي عن طائفة من المتكلمينَ وذهبَ إليه جماعة من فقهاءِ الأندلسِ قدِيمًا، منهم عبدُ الأعلى بنُ وهبٍ ومحمدُ بنُ عمرَ بن لبابة، ومن متأخرِيهم كالسهيلي وأبي بكرِ بنِ العربيِّ وغيرِهِما، قال أبو الوليد بنُ الفرضيِّ في "تاريخ الأندلسِ ": أخبرني سليمانُ بنُ أيوبَ، قالَ: سألتُ محمدَ بنَ عبدِ الملكِ بنِ أيمن، عنِ الأرواح؟ فقال لِي: كانَ محمدُ بنُ عمرَ بنِ لبابةِ يذهبُ إلى أنها تموتُ. وسألته عن ذلكَ؟ فقال: كذا كانَ عبدُ الأعْلَى يذهبُ فيها، قال ابنُ أيمن، فقلتُ له: إنَّ عبدَ الأعْلَى كان قدْ طالعَ كتبَ المعتزلةِ ونظرَ في كلامِ المتكلمينَ، فقال: إنَّما قلدتُ عبدَ الأعْلَى ليسَ عليَّ من هذا شيء. انتهى. وقد استدل أربابُ هذا القول بقولِهِ تعالى: (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الموتِ) ، وهذا حقّ كما أخبرَ اللَّهُ به، لا مِرْيَةَ فيه، ولكن الشأنَ في فهم معناهُ، فإن النفسَ يُرادُ بها مجموعُ الروح والبدنِ. كما في قولِهِ تعالى: (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8". وقوله سبحانه وتعالى: (فَلا تُزَكوا أَنفُسَكُمْ) . وقوله تعالى: (وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ) وقوله تعالى: (كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كسَبَتْ رَهِينَة) . وقوله تعالى: (يَوْمَ تَأتِي كلّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن ئفْسِهَا) . وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "ما منْ نفسٍ مَنْفُوسةٍ إلا اللَهُ خالقُها".

وقوله - صلى الله عليه وسلم - ا: "ما مِنْ نفسٍ منْفُوسة اليومَ، يأتي عليها مائةُ سنة وهي حيَّةّ يومئذٍ". وفي رواية: "لا يأتي مائةُ سنة وعلى الأرضِ نفسٌ منفوسةٌ اليومَ ". والمرادُ موتُ الأحياءِ الموجودينَ في يومِهِ ذلكَ، ومفارقةَ أرواحِهِم لأبدانِهِم، قبلَ المائةِ سنةِ، ليس المرادُ عدمَ أرواحِهِم واضمحلالِهَا، فكذلك قولُهُ سبحالهُ وتعالى: (كلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ) ، إنَّما المرادُ كلُّ مخلوق فيه حياةٌ فإنَه يذوقُ الموتَ، وتفارقُ رُوحُه بدَنَه، فإنْ أرأدَ من قالَ: إن النفسَ والروحَ تموتُ، إنها تذوقُ ألمَ مفارقةِ الجسدِ فهو حق، وإنْ أرادَ أنَّها تُعدم وتتلاشى فليسَ بحق، وقدْ استنكرَ العلماءُ هذه المقالةَ، حتى قالَ سحنونُ بنُ سعيد وغيرُهُ: هذا قولُ أهلِ البدع، والنصوصُ الكثيرةُ الدالةُ على بقاءِ الأرواح بعدَ مفارقِتها للأبدانِ تردُّ ذلكَ وتبطلُهُ. ولكن قد تخيلَ بعضُ المتأخرينَ موتَ الأرواح عند النفخةِ الأولى مستدِلاً بقوله تعالى: (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَوَاتِ وَمَن فِي الأَرْض إلاَّ مَن شَاءَ اللهُ) . وردَّ عليه آخرونَ، وقالَ: إنَّما المرادُ أنه يموتُ من لم يكنْ ماتَ قبلَ ذلكَ، ولكنْ وردَ عن طائفةٍ من السلفِ في قولِهِ: (إِلاَّ مَن شَاءَ اللَّهُ) أن المستثنى هم الشهداءُ. روي ذلك عن أبي هريرةَ وابنِ عباس وسعيدِ بنِ جبيرٍ وغيرِهم - رضي الله عنهم -. ورُوي ذلكَ عن أبي هريرةَ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في حديثِ الصورِ الطويلِ، ومن وجهٍ آخرَ بإسنادٍ أجودَ من إسنادِ حديثِ الصورِ، وهذا يدلُّ على أن للشهداءِ حياةً يشاركونَ بها الأحياءَ، حتى يحتاجَ إلى استثنائهِم ممن يصعقُ من

الأحياءِ وقد قيلَ في الأنبياءِ مثلُ ذلكَ أيضًا. وعلى هذا حمَلَ طائفةٌ من العلماءِ منهمُ البيهقي وأبو العباسِ القرطبيُّ قولَ النبي - صلى الله عليه وسلم - في قوله تعالى: (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى) ، فأكونُ أنا أولُ من يبعثُ، فإذا موسى آخذٌ بالعرشِ، فلا أدْرِي أحوسبَ بصعقةِ الطورِ أم بُعثَ قبلِى". وفي رواية: "أوْ كانَ ممن استَثْنى اللَّهُ ". فإن حياةَ الأنبياءِ أكملُ من حياةِ الشهداءِ، بلا ريبٍ، فيشملُهم حكمُ الأحياءِ أيضًا، ويصعقونَ مع الأحياءِ حينئذ، لكن صعقةُ غشي لا صعقةَ موتٍ، إلا موسى فإنه تردَّدَ فيه هل صُعِقُ أم كان ممن استثْنى اللَّهُ، فلم يُصعقْ لمجازاةِ اللَّه له، بصعقةِ الطورِ؛ ولكنْ على هذا التقدير فموسى مبعوثٌ قبل مَحمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، لا محالةَ، فكيفَ تردَّد النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - في ذلك في كونِ الشهداءِ لا يُصعقونَ والأنبياءُ يُصعقُونَ، إشكالٌ أيضًا، واللَّه أعلمُ بمرادِهِ ومرادِ رسولِه - صلى الله عليه وسلم - في ذلك كلِّه. والفرقُ بينَ حياةِ الشهداءِ وغيرِهم منَ المؤمنينَ الذين أرواحُهُم في الجنةِ. وجهين: أحدُهُما: أنَّ أرواحَ الشهداءِ تُخلقُ لها أجسادٌ، وهي الطيرُ التي تكونُ في حواصِلِها، ليكملَ بذلك نعيمُها، ويكونُ أكملُ من نعيم الأرواء المجردةِ عنِ الأجسادِ، فإن الشهداءَ بذلُوا أجسادَهُم للقتلِ في سبيلِ اللَهِ فعوّضوا عنها بها الأجسادَ في البرزخ. والثاني: أنهم يُرزقونَ في الجنةِ، وغيرُهُم لم يثبتْ له في حقِّه مثلُ ذلكَ فإنه

جاءَ أنهم يُعلَّقون في شجرِ الجنةِ. ورُوي يعلقون بفتح اللامِ وضَقَها، فقيلَ: إنَّهما بمعى، وأنَّ المرادَ الأكلُ من الشجرِ، قال ابنُ عبدِ البرِّ: وقيل: بلْ روايةُ الضمِّ معناها الأكلُ، وروايةُ الفتح معناها التعلُّق. وهو التسترُ. وبكلِّ حالٍ فلا يلزم مساواتُهُم للشهداءِ في كمالِ تنعمهم بالأكلِ، واللَّهُ أعلم. وقد ذهبَ طائفةٌ من المتكلمينَ إلى أن الروحَ عرضٌ لا تبقى بعدَ الموتِ. وحملُوا ما وردَ من عذابِ الأرواح ونعيمِها بعدَ الموتِ على أحدِ أمرينِ: إما أنَّ العرضَ الذي هو الحياةُ يعادُ إلى جزءٍ من البدنِ، أو على أنْ يخلقَ في بدنٍ آخرَ. وهذا الثاني باطلٌ قطْعًا، لأنه يلزمُ منه أنْ يعذَّب بدنٌ غيرُ بدنِ الميتِ، معَ روح غيرِ روحِهِ، فلا يعذَّبُ حينئذٍ بدنُ الميتِ ولا رُوحُه، ولا يتنعمانِ أيضًا، وهذا باطلٌ قطعًا، والأولُ باطلٌ - أيضًا - بالنصوصِ الدالةِ على بقاءِ الروح منفردةً عن البدنِ بعد مفارقتِها له، وهي كثيرةٌ جدًّا وقد سبقَ ذكرُ بعضِها. وقد احتجَّ بعضُهم على فناءِ الأرواح وموتِها بما رُوي عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنه كانَ إذا دخلَ المقابرَ قالَ: "السَّلامُ عليكُم أيتُها الأرواحُ الفانيةُ، والأبدانُ الباليةُ، والعظامُ النخرةُ، التي خرجتْ من الدُّنيا وهي باللَّه مؤمنه اللَّهُمَّ أدخلْ عليهم رَوْحًا منكَ وسَلاما مِنَّا". وهذا حديثٌ خرَّجه ابنُ السُّني، من طريقِ عبدِ الوهابِ بنِ جابرِ التيميِّ، حدثنا حبانُ بنُ عليٍّ، عن الأعمشِ، عن أبي رزينٍ، عن ابنِ مسعودٍ - رضي الله عنه -، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وهذا لا يثبت رفعُه، وعبدُ الوهابِ لا يُعرفُ، وحبّانُ ضعيف، ولو صحَّ حُمِلَ على أنَّه أرادَ بفناءِ الأرواح ذهابَها من الأجسادِ

قوله تعالى: (الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل (173)

المشاهدةِ، كما في قوله تعالى: (كلّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ) ، وبعضُ الأبدانِ باقية، كأجسادِ الأنبياءِ عليهم الصلاةُ والسلامُ وغيرِهم، وإنما تفارقُ أرواحُها أجسادَها. وذَكَرَ بعضُهم عن ابنِ عباسٍ - رضي الله عنهما - أنه سئل أينَ تكونُ الأرواح إذا فارقتِ الأجسادَ؟ فقال: أين يكونُ السراجُ إذا طُفِي، والبصرُ إذا عَمِيَ، ولحمُ المريضِ إذا مَرِض؛ فقالُوا: إلى أينَ؟ قال: فكذلكَ الأرواحُ، وهذا لا يصحّ عنِ ابنِ عباسٍ رضي اللَّهُ عنهما، واللَّهُ أعلم. * * * قوله تعالى: (الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173) إذا وفَّق اللَهُ عبدًا: توكَّلَ بحفْظِهِ وكلاءته، وهدايتِهِ وإرشادِهِ، وتوفيقِه وتسديدِهِ. وإذا أخذلَهُ وكله إلى نفسِهِ أو إلى غيرِه، ولهذا كانتْ هذه الكلمةُ: (حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) ، كلمةً عظيمةً، وهي التي قالها إبراهيمُ عليه الصلاةُ والسلامُ حين أُلقيَ في النارِ، وقالَهَا محمد رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - حين قالَ لهُ الناسُ: (إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعوا لَكمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) ، وقالتْهَا عائشةُ حين ركبتِ الناقةَ لمَّا انقطعتْ عن الجيشِ، وهي كلمةُ المؤمنينَ. فمن حقَّق التوكلَ على اللَّهِ لم يكلْهُ إلى غيره، وتولاَّه بنفسِهِ. وحقيقةُ التوكلِ: تكِلة الأمورِ كلِّها إلى من هي بيدِهِ. فمن توكَّلَ على اللَّهِ

قوله تعالى: (لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب ولهم عذاب أليم (188)

في هدايتِهِ وحراستِه وتوفيقِهِ وتأييدِهِ ونصى ورزقِهِ، وغير ذلك من مصالح دينِهِ ودنياهُ تولَّى اللًّه مصالحَهَ كلَّها، فإنَّه تعالى ولِيُّ الذين آمنوا. وهذا هو حقيقةُ الوثوقِ برحمةِ اللَّهِ كما في هذا الدعاءِ "فإني لا أثقُ إلا برحمتِكَ ". فمن وثقَ برحمةِ ربِّه ولم يثقْ بغيرِ رحمتِهِ، فقد حقَّقَ التوكلَ على ربِّه في توفيقِهِ وتسديدِهِ، فهو جديرٌ بأن يتكفلَ اللَهُ بحفظِهِ، ولا يكلُهُ إلى نفسِهِ. * * * قوله تعالى: (لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (188) ومِنْ أظهرِ التَّعييرِ: إظهارُ السوءِ وإشاعتُه في قالَبِ النُّصح وزعْمُ أنه إنما يحملُهُ على ذلك العيوبُ إما عامًا أو خاصًا وكان في الباطن إنما غرضُهُ التعييرُ والأذَى فهو من إخوانِ المنافقينَ الذينَ ذمَّهم اللَّهُ في كتابه، في مواضعَ، فإنَّ اللًّهَ تعالى ذمَّ من أظهرَ فعلاً وقولاً حسنًا وأرادَ به التوصُّلَ إلى غَرَضٍ فاسدٍ يقصدُهُ في الباطنِ، وعدَّ ذلك من خصال النفاقِ كما في سورةِ براءةَ التي هتَكَ فيها المنافقينَ وفضَحَهُمْ بأوصافهم الخبيثة، (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ) . وقال تعالى: (لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا..) ، وهذه الآيةُ نزلتْ في اليهودِ لمَّا سالهم النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - عن شيء فكتمُوه وأخبرُوه بغيرِه، وقد أرَوْه أنْ قد أخبرُوه بما سألهم عنه، واستحمدُوا بذلك عليه وفرحوا بما أتَوا من كتمانِهِ ما سألهُم عنه.

كذلك قالَ ابنُ عباسٍ - رضي الله عنه -، وحديثُه بذلكَ مخرَّجٌ في "الصحيحين ". وعن أبي سعيد الخدري: أن رجالاً من المنافقين كانُوا إذا خرج رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إلى الغزوِ وتخلَّفوا عنه وفرِحُوا بمقعدهِم خلافَ رسولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، فإذا قدِمَ رسولُ اللَّهُ اعتذرُوا إليه وحَلَفُوا، وأحبُوا أن يُحمدوا بما لم يفعلوا. فنزلتْ هذه الآية ُ. فهذه الخصالُ، خصالُ اليهودِ والمنافقينَ، وهو أن يُظهرَ الإنسانُ في الظاهرِ قولاً أو فعلاً، وهو في الصورةِ التي ظهرَ عليها حسنٌ، ومقصودُهُ بذلك التوصُّلُ إلى غَرَضٍ فاسدٍ، فيحمدُهُ على ما أظهر من ذلك الحسَنِ، ويتوصَّلُ هو به إلى غرَضِهِ الفاسدِ الذي هو أبْطَنَهُ، ويفرحُ بحمدِهِ على ذلك الذي أظهرَ أنه حسنٌ وفي الباطنِ شيء، وعلى توصُّلِهِ في الباطنِ إلى غرضِهِ الستَيِّئ، فتتمُّ له الفائدةُ وتُنفّذُ له الحيلةُ بهذا الخداع!!. ومَنْ كانتْ هذه صفتُهُ فهو داخلٌ في هذه الآيةِ ولا بُدَّ، فهو مُتَوَعَّدٌ بالعذابِ الأليم، ومثالُ ذلك: أن يُريدَ الإنسانُ ذمَّ رجل وتنقُّصَهُ وإظهارَ عيْبِهِ لينفر الناس عنه إما محبةً لإيذائهِ أو لعداوتِهِ، أو مخافةً من مُزاحمتِهِ على مالٍ أو رئاسة أو غير ذلك من الأسبابِ المذمومةِ، فلا يتوصَّل إلى ذلك إلا بإظهار الطَّعْنِ فيه بسببِ ديني، مثل: أن يكونَ قد ردَّ قولاً ضعيفًا من أقوالِ عالمٍ مشهور فيشيعُ بين من يُعَظِّم ذلك العالِمَ، أن فلانًا يُبْغِضُ هذا العالِمَ ويذمُّه ويطعنُ عليه فيغِرُّ بذلك كلَّ من يُعظمه ويُوهمهُم أن بُغْضَ الرادِّ وأذاهُ من أعمال العربِ، لأنه ذبٌّ عن ذلك العالِم، ورفع الأذى عنه، وذلك قُربةٌ إلى

اللَّهِ تعالى وطاعتِهِ فيجمعُ هذا الظْهِرُ للنصح بين أمرين قبيحين مُحرَّمين: أحدهما: أن يُحملَ ردُّ هذا العالِم القولَ الآخرَ على البُغْضِ والطَّعْنِ والهَوَى، وقد يكونُ إنَّما أراد به النُّصحَ للمؤمنينَ، وإظهارَ ما لا يحلُّ له كتمانُه من العلم. والثاني: أن يُظهرَ الطَّعْنَ عليه ليتوصَّل بذلكَ إلى هواه وغَرَضه الفاسد في قالَبِ النُّصح والذَّبِّ عن عُلماءِ الشرع، وبمثلِ هذه المكيدةِ كان ظلمُ بني مروانَ وأتباعُهم يستميلونَ الناسَ إليهم ويُنفِّرون قلوبَهُم عن عليِّ بنِ أبي طالبٍ والحسنِ والحسينِ وذريتِهم - رضي الله عنه أجمعين. وأنه لما قُتِلَ عثمانُ - رضي الله عنه - لم تَرَ الأمَّةُ أحقَّ من عليٍّ - رضي الله عنه - فبايعوه فتوصَّلَ منْ توصَّل إلى التنفير عنه، بأنْ أظهرَ تعظيمَ قتلَ عثمانَ وقُبْحَهُ، وهو في نفس الأمر كذلكَ، ضُمَّ إلى ذلك أن المُؤلِّب على قتلِهِ والسَّاعِي فيه عليّ - رضي الله عنه -، وهذا كان كَذِبًا وبهْتًا. وكان عليّ - رضي الله عنه - يحلفُ ويُغَلِّظُ الحَلِفَ على نفي ذلكَ، وهو الصادقُ البارُّ في يمينِهِ - رضي الله عنه -، وبادرُوا إلى قتالِهِ ديانةً وتقربا ثم إلى قتالِ أولادِهِ رضوانُ اللهِ عليهم، واجتهدَ أولئكَ في إظهارِ ذلك وإشاعتِهِ على المنابِرِ في أيَّامِ الجُمع وغيرِها من المجَامِع العظيمةِ، حتى استقرَّ في قلوبِ أتباعِهِم أنَّ الأمرَ على ما قالوه، وأن بني مروانَ أحقُّ بالأمرِ من عليٍّ وولدِهِ لقُربِهِم من عُثمانَ، وأخْذهم بثأرِه، فتوصَّلوا بذلكَ إلى تأليفِ قُلوبِ الناسِ عليهم، وقتالهم لعليٍّ وولدِهِ من بعْدِهِ، ويثبُتُ بذلكَ لهم المُلْكُ، واستوثقَ لهم الأمرُ. وكان بعضُهم يقولُ في الخَلْوة لمن يثقُ إليه كلامًا ما معناه: "لم يكن أحد

من الصحابة أكفأ عن عثمان من عليٍّ " فيقالُ له: لِمَ يسبُّونه إذًا؛ فيقول: "إنَّ المُلْكَ لا يقومُ إلا بذلك ". ومُرادُهُ أنَّه لولا تنفيرُ قلوبِ الناسِ عن عليٍّ ووَلَدِهِ ونسبُهم إلى ظلم عثمانَ لما مالتْ قلوبُ الناسِ إليهم، لما علموه من صفاتِهِم الجميلةِ وخصائصِهم الجليلةِ، فكانوا يُسرعون إلى مُتابعتهم ومبايعتِهم فيزولُ بذلك مُلكُ أميَّة. وينصرفُ الناسُ عن طاعتِهِم. * * * ومن هذا البابِ - أيضًا - أن يحبَّ ذُو الشرفِ والولايةِ أن يُحمدَ على أفعالِهِ ويُثْنَى عليه بها، ويَطلبُ من الناسِ ذلك، ويَتَسببُ في أذى من لا يُجيبُه إليه، ورُبَّما كان ذلك الفعلُ إلى الذمِّ أقربَ منه إلى المدح، ورُبَّما أظهر أمرًا حسنًا في الظاهرِ، وأحبَّ المدحَ عليه وقصَدَ به في الباطنِ شرًّا، وفرِحَ بتمْويهِ ذلك وترويجه على الخلقِ. وهذا يدخلُ في قولِهِ تعالى: (لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ) ، الآية. فإن هذه الآيةَ إنما نزلتْ فيمن هذهِ صفاتُهُ، وهذا الوصفُ - أعني: طلبَ المدح منَ الخلقِ ومحبَّتَهُ والعقوبةَ على تركِهِ - لا يصلحُ إلا للَّه وحدَهُ لا شريكَ لهُ، ومن هُنا كان أئمةُ الهُدى ينهَوْن عن حمدِهِم على أعمالِهِم وما يَصدُرُ منهم منَ الإحسان إلى الخلْقِ، ويأمرُونَ بإضافةِ الحمدِ على ذلكَ للَّهِ وحدَهُ لاشريكَ لهُ، فإن النًّعَمَ كلَّها منه.

وكانَ عُمرُ بنُ عبد العزيزِ - رحمه اللَّهُ - شديدَ العنايةِ بذلكَ، وكتبَ مرَّةً إلى أهلِ الموْسم كتابًا يُقرأ عليهم، وفيه الأمرُ بالإحسانِ إليهم، وإزالةُ المظالم التي كانَتْ عليهم، وفي الكتابِ: "ولا تَحْمدُوا على ذلكَ كُلِّه إلا اللَّه، فإنَّه لوْ وَكَلَنِي إلي نفْسِي كُنْتُ كغيرِي ". وحكايتُهُ مع المرأةِ التي طلبتْ منه أن يَفرضَ لبَناتها اليتامى مشهورةٌ، فإنها كانتْ لها أربعُ بنَاتٍ، ففرض لثْنتينِ منهنَّ، وهي تحمدُ اللَّه، ثم فرض للثالثةِ فشكرتْهُ فقال: إنَّما كُنَّا نفرِضُ لهُنَّ حيثُ كُنتِ تولينَ الحمدَ أهلَهُ، فمُري هذه الثلاثَ يُواسينَ الرابعةَ. أو كما قال - صلى الله عليه وسلم -. أرادَ أن يُعرفَ أنَّ ذا الولايةِ إنما هو مُنتصب لتنفيذِ أمر اللَّه، وآمرٌ العبادَ بطاعتِهِ تعالى، وناهٍ لهم عن محارمِ اللَّهِ، ناصحٌ لعبادِ اللَّهِ بدُعائهم إلى اللَّهِ. فهو يقصدُ أن يكون الدينُ كلُّه للَّه، وأن تكونَ العِزَّة للَّه، وهو مع ذلك خائفٌ من التقصيرِ في حقوقِ اللَّه تعالى - أيضًا -. فالمحبُّونَ للَّهِ غايةُ مقاصدِهِم من الخلقِ أن يُحبُّوا اللَّهَ ويطيعُوه. ويُفردوه بالعبوديةِ والإلهيةِ، فكيفَ من يزاحِمُهُ في شيء من ذلكَ؛ فهو لا يريدُ منَ الخلقِ جزاءًا ولا شُكُورًا، وإنما يرجُو ثوابَ عملِهِ من اللَّهِ كما قال اللَّهُ تعالى: (مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (79) وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (80) . وقال - صلى الله عليه وسلم -: "لا تُطرُوني كما أطرَتِ النصارى المسيحَ ابنَ مريمَ، إنَّما أنا عبد، فقولُوا: عبدَ اللَّهِ ورسولَهِ ".

وكان رسول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ينُكر على من لا يتأدَّبُ معه في الخطابِ بهذا الأدبِ، كما قال: "لاتقولُوا: ما شاءَ اللَّهُ وشاءَ محمدٌ بلْ قُولُوا: ما شاءَ اللَّهُ ثم شاءَ محمدٌ". وقال: لمن قال: ما شاء اللَّه وشِئتَ: "أجَعَلتَنِى للَّه ندًا؟ بل ما شاءَ اللَّهُ وحده ". فمِن هُنا كان خُلفاءُ الرُّسل وأتباعُهم من أُمراءِ العدل وأتباعِهم وقُضاتِهم لا يدْعُون إلى تعظيم نُفُوسهم ألبتَّة، بل إلى تعظيم اللَّه وحدَه، وإفرادِهِ بالعبوديةِ والإلهيةِ، ومنهُم من كان لا يريدُ الولايةَ إلا للاستعانةِ بها على الدعوةِ إلى اللَّهِ وحدَه. وكان بعضُ الصالحينَ يتولَّى القضاءَ ويقول: ألا أتولاهُ لأستعينَ به على الأمر بالمعروفِ والنهي عن المُنكر. ولهذا كانتِ الرُّسل وأتباعُهُم يصبرونَ على الأذى في الدعوة إلى اللَّهِ. ويتحملونَ في تنفيذِ أوامرِ اللَّه من الخلقِ غايةَ المشقةِ وهُم صابرونَ، بل رَاضُون بذلكَ، فإنَّ المحبَّ رُبَّما يتلذذُ بما يُصيبه منَ الأذى في رضى محبوبِه. كما كانَ عبدُ الملك بنُ عمرَ بنِ عبدِ العزيز - رحمه اللَّهُ - يقولُ لأبيه في خلافتِهِ إذا حرصَ على تنفيذِ الحق وإقامةِ العدل: با أبَتِ، لودِدْت أنِّي غَلتْ

بي وبِكَ القُدورُ في اللَّهِ عزَ وجلَّ. وقال بعضُ الصالحين: وددتُ أنَّ جسمي قُرِضَ بالمقاريضِ وأنَ هذا الخلقَ كلَّهم أطاعُوا اللَّهَ عزَّ وجلَّ، فعُرِض قولُهُ على بعضِ العارفينَ فقال: إن كان أراد بذلك النصيحةَ للخلقِ وإلا فلا أدري، ثم غُشيَ عليه. ومعنى هذا: أن صاحبَ هذا القولِ قد يكونُ لَحِظَ نُصحَ الخلقٍ والشفقةَ عليهم من عذابِ اللَّه، وأحبَّ أن يفديَهم من عذابِ اللَّهِ بأذى نفسِهِ، وقد يكونُ لَحِظَ جلالَ اللَّهَ وعظمتِه وما يستحقُهُ من الإجلالِ والإكرامِ والطَّاعةِ والمحبةِ، فوَدَّ أن الخلقَ قاموا بذلك، وإن حصلَ له في نفسِهِ غايةُ الضرر. وهذا هو مشهدُ خَواصِّ المُحبين العارفينَ بملاحظتِهِ فغشي على هذا الرجلِ العارفِ. وقد وصفَ اللَّهُ تعالى في كتابِهِ أن المحبين له يجاهدون في سبيله ولا يخافون لومة لائم. وفي ذلك يقولُ بعضُهُم: أجدُ الملامةَ في هَواَك لذيذةً. . . حبًّا لذكْرِكَ فلْيَلُمْنِي اللُّوَّمُ * * *

سورة النساء

سُورَةُ النِّسَاءِ قوله تعالى: (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا (3) ومما يستدلُّ به على فضلِ قلةِ العيالِ قولُهُ تعالى: (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا) ، على تفسير من فسَّرَهُ بكثرة العيال، ولكنَّ الجمهورَ على تفسير بالجورِ والحيفِ، فإنَّ ملكَ اليمينِ قد تكثرُ به الأولادُ أكثرُ من الزوجاتِ الأربع، فإنه لا ينحصرُ في عددٍ. وكانَ الإمامُ أحمدُ ينكرُ على من كرهَ كثرةَ الأزواج والعيال، ويستدلُّ بحال النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وأصحابِه من كثرةِ أزواجهِم وعيالِهِم، وبمثلِ قولهِ: "تزوجُوا الودودَ الولودَ، فإنِّي أكاثرُ بكُمُ الأممَ يومَ القيامةِ"، ولكنه يأمرُ مع هذا بطلبِ الحلالِ والكسبِ، والصبرِ على الفقرِ وإنْ شقَّ. فالإمامُ أحمدُ أمرَ بما جاءَ الأمرُ به في الشرع، وسفيانُ نظرَ إلي قلَّةِ صبرِ الناسِ إلى ما يئولُ إليهِ حالُهم عند كثرةِ عيالهِم منْ تركِ الورع، والتكسبِ من الوجوهِ المكروهةِ، وهذا هُوَ الغالبُ على النَّاسِ لا سيَّما مع قلةِ العِلْم والصبرِ، وأمَّا حالُ الصابرينَ على العيالِ المحافظينَ على الورع معهُم فعزيز جدًا.

قوله تعالى: (وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم فليتقوا الله وليقولوا قولا سديدا (9)

قوله تعالى: (وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (9) قال المباركُ بنُ كاملٍ: سمعتُ عبدَ الوهابِ بنِ قاسم بنِ عليٍّ الشعرانيَّ. قال: رأيتُ جعفرَ الدرزيجاني جاء إلى بغدادَ، فالتقى به أبو الحسين الدرزيجانيُ، فقال له: كيف تركتَ الصبيانَ؟ فقال له: (وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (9) تقوى اللَّهِ لنا ولَهُم. * * * قوله تعالى: (يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (11) وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ (12) .

قال تعالى: (يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) . فهذا حكمُ اجتماع ذكورِهم وإناثِهم أنَّه يكونُ للذكرِ منهم مثلُ حط الأنثيينِ، ويدخلُ في ذلك الأولادُ، وأولادُ البنينَ باتِّفاقِ العلماءِ، فمتى اجتمعَ من الأولادِ إخوةٌ وأخواتٌ، اقتسَمُوا الميراثَ على هذا الوجهِ عند الأكثرينَ، فلو كانَ هناكَ بنتٌ للصُّلبِ أو ابنتانِ، وكان هناك ابنُ ابنٍ مع أخته اقتسما الباقِي أثلاثا، لدخولِهم في هذا العمومِ. هذا قولُ جمهورِ العلماءِ، منهم عمرُ وعليٌّ وزيدٌ وابنُ عباسٍ، وذهبَ إليه عامَّة العلماءِ، والأئمةُ الأربعة. وذهبَ ابنُ مسعودٍ إلى أنَّ الباقي بعدَ استكمالِ بناتِ الصُّلبِ الثلثين، كلُّه لابن الابنِ، ولا يُعصِّبُ أخته، وهو قولُ علقمةَ وأبي ثورٍ وأهلِ الظاهرِ، فلا يُعصِّبُ عندَهُم الولدُ أختَه إلا أن يكونَ لها فريضةٌ لو انفردتْ عنه، فكذلك قالُوا فيما إذا كان هناكَ بنتٌ وأولادُ ابنٍ ذكورٌ وإناث: إنَّ الباقي لجميع ولد الابنِ، للذكرِ منهم مثلُ حظِّ الأنثيينِ. وقال ابنُ مسعودٍ في بنتٍ وبناتِ ابنٍ وبني ابنٍ: للبنتِ النصفُ، والباقي بين ولدِ الابنِ، للذكرِ مثلُ حظِّ الأُنثيين إلا أن تزيدَ المقاسمةُ بناتَ الابنِ على السدسِ، فيُفرضُ لهنَّ السدسُ، ويجعلُ الباقي لبني الابنِ، وهو قولُ أبي ثَوْر. وأمَّا الجمهورُ، فقالُوا: النصفُ الباقي لولدِ الابنِ، للذكرِ مثلُ حط الأنثيين عملاً بعمومِ الآيةِ، وعندهم أن الولدَ وإن نزَلَ يُعَصّبُ من في درجتِهِ بكلِّ

حالٍ، سواء كان للأنثى فرض بدونه أو لم يكن، ولا يُعَصِّبُ من أعلى منه من الإناثِ إلا بشرطِ أن لا يكونَ لها فرضٌ بدونه، ولا يُعصِّبُ من أسفلَ منه بكلِّ حالٍ. ثم قالَ تعالى: (فَإِن كنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَك وَإِن كانَت واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ) ، فهذا حكمُ انفرادِ الإناثِ من الأولاد أن للواحدةِ النصفَ، ولما فوقَ الاثنتينِ الثلثانِ، ويدخلُ في ذلك بناتُ الصلبِ وبناتُ الابنِ عند عدمهِنَّ، فإنِ اجتمعنَ، فإن استكملَ بناتُ الصلبِ الثلثين، فلا شيءَ لبناتِ الابنِ المنفرداتِ، وإن لم يستكملِ البناتُ الثُّلثين، بل كانَ ولدُ الصلبِ بنتًا واحدةً، ومعها بناتُ ابنٍ، فللبنتِ النِّصفُ، ولبناتِ الابنِ السدسُ تكملةَ الثلثين، لئلا يزيدَ فرض البنات على الثلثين. وبهذا قَضى النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في حديثِ ابنِ مسعودٍ الذي تقدَّمَ ذكرُهُ، وهو قولُ عامَّةِ العلماءِ، إلا ما رُوي عن أبي مسعودٍ وسلمانَ بنِ ربيعةَ أنه لا شيء لبنتِ الابنِ، وقد رجعَ أبو موسى إلى قولِ ابنِ مسعودٍ لما بلغَهُ قولُهُ في ذلك. وإنما أُشكِلَ على العلماءِ حكمُ ميراثِ البنتينِ، فإنَّ لهما الثلثين بالإجماع كما حكاه ابن المنذرِ وغيرُه، وما حُكيَ فيه عن ابن عباسٍ أنَّ لهما النِّصفَ. فقد قيل: إن إسنادَهُ لا يصحُّ، والقرآنُ يدل على خلافِهِ، حيث قال تعالى: (وَإِن كانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْف) ، فكيف تُورث أكثرُ من واحدةٍ

النصفَ؛ وحديثُ ابن مسعودٍ في توريثِ البنتِ النصفَ وبنتِ الابنِ السدسَ تكملة الثلثين يدلُّ على توريثِ البنتين الثلثين بطريقِ الأولى. وخرَّجَ الإمامُ أحمدُ، وأبو داودَ، والترمذيُّ من حديثِ جابرٍ: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - ورَّث ابنتيْ سعدِ بنِ الرَّبيع الثلثينِ. ولكن أشكلَ فهمُ ذلكَ من القرآنِ لقولِهِ تعالى: (فَإِن كنَّ نِسَاءً فَوقَ اثْنَتَين) ، فلهذا اضطربَ الناسُ في هذا، وقالَ كثيرٌ من الناسِ فيه أقوالاَ مستبعدة. ومنهم من قالَ: استُفيد حكم ميراث الابنتين من ميراث الأختين، فإنَّه قال تعالى: (فَإِن كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهمَا الثلثَانِ مِمَّا تَرَكَ) ، واستفيد حكمُ ميراثِ أكثر من الأختينِ من حكم ميراثِ ما فوقَ الاثنتينِ. ومنهم من قال: البنتُ مع أخيها لها الثلثُ بنصِّ القرآنِ، فلأن يكونَ لها الثلثُ مع أختِهَا أولى، وسلكَ بعضُهم مسلكًا آخر، وهو أنَّ اللَّهَ تعالى ذكرَ حُكمَ توريثِ اجتماع الذكورِ والإناثِ من الأولادِ، وذكر حُكْمَ توريثِ الإناثِ إذا انفردنَ عن الذكور، ولم ينصَّ على حكم انفرادِ الذكور منهم عن الإناثِ، وجعل حُكمَ الاجتماع أن الذكرَ له مثلُ حظِّ الأنثيين، فإن اجتمعَ مع الابنِ ابنتان فصاعدًا، فله مثلُ نصيبِ اثنتينِ منهنَّ، وإن لم يكنْ معهُ إلا ابنةٌ واحدةَ فله الثلثانِ ولها الثلثُ، وقد سمَّى اللَّه ما يستحقه الذكرُ حظَّ الأنثيين مطلقًا، وليس الثلثان حظَّ الأنثيين في حالِ اجتماعِهِمَا مع الذكرِ، لأنَّ حظَّهما حينئذٍ النِّصفُ، فتعيَّن أن يكونَ الثُّلثان حظَّهما حال الانفرادِ.

وبقي ها هنا قسم ثالثٌ لم يصرِّح القرآنُ بذكر، وهو حكمُ انفرادِ الذكورِ من الولدِ، وهذا مما يُمكن إدخالُهُ في حديثِ ابن عباسٍ: "فما بقي فلأوْلى رجل ذَكَرٍ"، فإنَّ هذا القسمَ قد بقي ولم يصرَّح بحكمه في القرآن، فيكون المالُ حينئذٍ لأقربِ الذكور مِنَ الولد والأمرُ على هذا، فإنَّه لو اجتمعَ ابن وابنُ ابنٍ، لكانَ المالُ كُلُّه للابنِ، ولو كان ابنُ ابنٍ وابنُ ابنِ ابني، لكانَ المالُ كُلُّه لابنِ الابنِ على مقتضى حديثِ ابنِ عباسٍ، واللَّه أعلم. ثم ذكر تعالى حكمَ ميراثِ الأبوين، فقال: (وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ) ، فهذا حكمُ ميراثِ الأبوين إذا كانَ للولدِ المتوفَّى ولدٌ، وسواءٌ في الولدِ الذكر والأنثى، وسواء فيه ولدُ الصلبِ وولدُ الابنِ، هذا كالإجماع من العلماءِ، وقد حكى بعضُهُم عن مجاهدٍ فيه خلافًا، فمتى كانَ للميتِ ولدٌ، أو ولدُ ابنٍ، وله أبوان، فلكلِّ واحدٍ من أبويه السُّدسُ فرضًا، ثم إن كان الولدُ ذكرًا، فالباقي بعد سدسي الأبوين له، وربما دخل هذا في قوله - صلى الله عليه وسلم -: "ألحقوا الفرائض بأهلهِا، فما بقي فلأوْلى رَجُل ذَكَرٍ ". وأقرب العصباتِ الابنُ، وإن كان الولدُ أنثى، فإن كانتَا اثنتينِ فصاعدًا. فالثُّلثان لهنَّ، ولا يَفضُلُ منَ المالِ شيءٌ، وإن كانت بنتًا واحدةً، فلها النصف ويفضلُ من المال سدسٌ آخر، فيأخذُهُ الأبُ بالتَّعصيبِ، عملاً بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "ألحقوا الفرائض بأهلِهَا، فما بقي فلأولى رجل ذكر". فهو أولى رجلٍ ذكر عندَ فقدِ الابنِ، إذ هو أقربُ من الأخ وابنِه والعمِّ وابنِهِ. ثم قال تعالى: (فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ)

يعني: إذا لم يكن للميت ولدٌ، وله أبوانِ يرثانِه، فلأُمه الثلث، فيُفهم من ذلك أنَّ الباقي بعد الثلثِ للأبِ، لأنه أثبتَ ميراثَه لأبويه، وخصَ الأمَّ من الميراثِ بالثلثِ، فعلم أنَّ الباقي للأبِ، ولم يقُل: فللأبِ - مثلاً -: ما للأمِّ، لئلا يُوهم أنَّ اقتسامَهُما المال هو بالتَّعصيبِ كالأولاد والإخوةِ، إذا كان فيهم ذكورٌ وإناثٌ. وكان ابنُ عباسٍ يتمسَّكُ بهذهِ الآيةِ بقولِهِ في المسألتين الملقبتينِ بالعُمريتينِ وهما زوجٌ وأبوان، وزوجةٌ وأبوان، فإن عمر قضى أن الزوجين يأخذان فرضَهُما من المال، وما بقي بعد فرضهما في المسألتين، فللأم ثلثُه، والباقي للأب، وتابعه على ذلك جمهور الأمَّة. وقال ابن عباسٍ: بل للأم الثلثُ كاملاً، تمسُّكًا بقوله: (فَإِن لَمْ يَكُن لَّهُ وَلَدٌ وَوَرِثَة أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ) . وقد قيلَ في جوابِ هذا: إنَّ اللَّهَ إنما جعل للأمِّ الثلثَ بشرطينِ: أحدُهما أن لا يكونَ للولدِ المُتوفَّى ولدٌ، والثاني: أن يرثَه أبواه، أي: أن ينفرِدَ أبواه بميراثه، فما لم ينفردْ أبواه بميراثِهِ، فلا تستحقُّ الأئمُ الثلثُ، وإن لم يكن للمتوفَّى ولدٌ. وقد يقال - وهو أحسنُ -: إن قوله: (وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ) . أي: مما ورثه الأبوانِ، ولم يقل: فلأمه الثلثُ مما ترك كما قال في السُّدسِ. فالمعنى أنَّه إذا لم يكن له ولدٌ، وكان لأبويه من ماله ميراثٌ، فللأمَ ثُلُثُ ذلك الميراثِ الذي يختصّ به الأبوان، ويبقى الباقي للأبِ. ولهذا السرِّ - واللهُ أعلمُ - حيثُ ذكرَ اللَّه الفروضَ المقدَّرةَ لأهلها، قال

فيها: (مِمَّا تَرَكَ) ، أو ما يدلُّ على ذلك، كقوله: (مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ) ، ليبين أن ذا الفرضِ حَقُّه ذلك الجزءُ المفروضُ المقدَّر له من جميع المالِ بعد الوصايا والديونِ، وحيثُ ذكر ميراثَ العصباتِ، أو ما يقتسمُه الذُّكورُ والإناثُ على وجهِ التَّعصيبِ، كالأولادِ والإخوةِ لم يقيِّده بشيءٍ من ذلك، ليبيِّنَ أنَّ المالَ المقتسَمَ بالتَّعصيبِ ليسَ هو المال كُلَّهُ، بل تارةً يكونُ جميعَ المالِ، وتارةً يكونُ هو الفاضلَ عن الفروضِ المفروضةِ المقدَّرةِ. وهُنا لمَّا ذكرَ ميراثَ الأبوينِ من ولدِهِما الذي لا ولدَ لَهُ، ولم يكنْ اقتسامُهُما للميراثِ بالفرضِ المحضِ، كما في ميراثِهِما مع الولد، ولا كان بالتَّعصيب المحض الذي يُعصب فيه الذَّكر الأنثى، ويأخذ مِثليَ ما تأخذُهُ الأنثى، بل كانتِ الأمُّ تأخذُ ما تأخذُهُ بالفرضِ، والأبُ يأخذُ ما يأخذُهُ بالتَّعصيبِ، قال: (وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُث) ، يعني: أن القدرَ الذي يستحقُّه الأبوانِ من ميراثِهِ تأخذُ الأمُّ ثلثُه فرضًا، والباقي يأخذه الأب بالتَّعصيبِ، وهذا ممَّا فتح اللَّه به، ولا أعلم أحدًا سبقَ إليه، وللَّه الحمد والمنَّة. ثم قال تعالى: (فَإِن كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ) ، يعني للأمِّ السدس مع الإخوةِ من جميع التركة الوروثةِ التي يقتسمُها الورثةُ، ولم يذكرْ هُنَا ميراثَ الأبِ مع الأمِّ، ولا شكًّ أنَّه إذا اجتمعَ أمٌّ وإخوةٌ وليس معهم أبٌ، فإنَّ للأمِّ السدسَ، والباقي للإخوةِ. ويحجُبُها الأخوانِ فصاعدًا عندَ الجمهورِ. وأما إن كانَ مع الأمِّ والإخوةِ أبٌ، فقال الأكثرونَ: يحجبُ الإخوةَ الأمُّ ولا يرثون، ورُويَ عن ابنِ عباسٍ أنهم يرثُون السُّدسَ الذي حجبوا عنه الأمَّ

بالفرضِ، كما يَرِثُ ولدُ الأمِّ مع الأمِّ بالفرضِ. وقد قيلَ: إنَّ هذا مشيّ على قولِهِ: "إنَّ الكلالة من لا ولدَ له خاصّة". ولا يُشترط للكلالةِ فقْدُ الوالدِ، فيرثُ الإخوةُ مع الأبِ بالفرضِ. ومن العلماءِ المتأخرين من قالَ: إذا كانَ الإخوةُ محجوبينَ بالأبِ، فلا يَحجُبُون الأمَ عن شيءٍ، بل لها الثُّلثُ، ورجَّحَهُ الإمامُ أبو العباسِ ابنِ تيميةَ رحمة اللَّهِ عليه، وقد يُؤخذُ من عمومِ قولِ عمرَ - رضي الله عنه - وغيره من السَّلف: من لا يرثُ لا يَحجبُ، وقد قالَ نحوَه أحمدُ والخِرَقي، لكن أكثرَ العلماءِ يحملونَ ذلكَ على أنَّ المرادَ منْ ليسَ له أهليّةُ الميراث بالكليَّة ِ كالكافرِ والرقيقِ، دونَ من لا يرثُ لانحجَابِهِ بمنْ هو أقربُ منه، واللًّهُ أعلم. وقد يشهدُ للقولِ بأن الإخوةَ إذا كانُوا محجوبينَ لا يحجُبونَ الأمَّ أنَّ اللَّهَ تعالى قال: (فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ) ، ولم يدْكرِ الأبُ، فدلَّ على أنَّ ذلك حكمُ انفرادِ الأم مع الإخوةِ، فيكون الباقي بعد السدسِ كلِّه لهم، وهذا ضعيفٌ، فإن الإخوةَ قد يكونون من أمٍّ، فلا يكون لهم سوى الثلث، واللَّهُ تعالى أعلمُ. واعلم أن اللَّهَ تعالى ذكرَ حُكْمَ ميراثِ الأبوين، ولم يذكر الجَدَّ ولا الجَدةَ. فأما الجدةُ، فقد قال أبو بكرٍ الصديقُ وعمرُ بنُ الخطابِ - رضي الله عنهما -: إنه ليسَ لهَا في كتابِ اللَّهِ شيء، وقد حكَى بعضُ العلماءِ الإجماعَ على ذلكَ، وأنَ فرضَهما إنما ثبتَ بالسُّنّة، وقيلَ: إنَّ السدسَ طُعْمةٌ أطعَمَها رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وليس بفرضِ، كذا رُوي عن ابنِ مسعودٍ وسعيدِ بنِ المُسيبِ.

وقد رُوي عنِ ابنِ عباسٍ من وجوهٍ فيها ضعف أنها بمنزلةِ الأمَ عند فقْدِ الأمِّ ترثُ ميراثَ الأمِّ، فترثُ الثلثَ تارةً، والسدسَ أخرى، وهذا شذوذٌ، ولا يصحُّ إلحاقُ الجدّة بالجدِّ، لأن الجدَّ عصبة يُدْلى بعصبة، والجدّة ذاتُ فرضٍ تُدلي بذات فرض فضعفت، وقد قيل: إنَّه ليس لها فرضٌ بالكليةِ، وإنما السدسُ طعمةٌ أطعَمَها النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولهذا قالتْ طائفةٌ ممن يرى الردَّ على ذوي الفروضِ: إنه لا يرد على الجدةِ، لضعفِ فرضِها، وهو روايةٌ عن أحمدَ. وأما الجد، فاتَّفقَ العلماءُ على أنَّه يقومُ مقامَ الأبِ في أحوالِهِ المذكورةِ من قبلُ، فيرثُ مع الولدِ السُّدسَ بالفرضِ، ومع عدمِ الولد يرثُ بالتعصيبِ، وإن بقيَ شيء مع إناثِ الولدِ أخذهُ بالتعصيبِ - أيضًا - عملاً بقوله: "فما أبقت الفرائضُ، فلأولى رَجُلٍ ذكر ". ولكن اختلفُوا إذا اجتمعَ أمٌّ وجد مع أحدِ الزوجينِ، فرُوي عن طائفةٍ من الصَّحابةِ أن للأمِّ ثُلُثَ الباقي، كما لو كانَ معها الأبُ كما سبقَ، رُوي ذلك عن عمرَ، وابنِ مسعودٍ كذا نقلهُ بعضُهم، ومنهم من قال: إنما رُوي عن عمرَ، وابنِ مسعودٍ في زوج وأم وجد: أن للأمِّ ثلثَ الباقي. ورُوي عن ابنِ مسعود رواية أخرى: أنَّ النِّصفَ الفاضلَ بين الجدِّ والأمِّ نصفانِ، وأمَّا في زوجةٍ وأمًّ وجدٍّ، فرُوي عن ابنِ مسعودٍ رواية شاذّة: أنَّ للأمِّ ثلثَ الباقي، والصَّحيحُ عنه، كقولِ الجمهورِ: أن لها الثُّلثَ كاملاً، وهذا يشبهُ تفريقَ ابنِ سيرينَ في الأمِّ مع الأبِ أنَه إن كانَ معهُما زوج، للأمِّ ثلثُ الباقي، وإن كان معهُمَا زوجةٌ، فللأمِّ الثُلث. وجمهورُ العلماءِ على أنَّ الأمَّ لها الثلثُ مع الجدِّ مطلقًا، وهو قولُ على

وزيدٍ، وابنِ عباسٍ، والفرقُ بين الأمِّ مع الأبِ ومعَ الجدِّ أنها مع الأبِ يشملُها اسمٌ واحدٌ، وهما في القُربِ سواءٌ إلى الميتِ، فيأخذُ الذكر منهما مثلَ حظِّ الأنثى مرتينِ كالأولادِ والإخوةِ، وأما الأمُّ مع الجدِّ، فليسَ يشملُها اسمٌ واحدٌ، والجدُّ أبعدُ من الأبِ، فلا يلزمُ مُساواتُهُ به في ذلكَ. وأمَّا إن اجتمع الجدُّ مع الإخوةِ، فإن كانُوا لأمٍّ سَقَطُوا به، لأنهم إنما يرثون من الكلالةِ، والكلالةُ: منْ لا وَلَدَ له ولا والد، إلا رواية شذَّتْ عن ابنِ عباسٍ. وأما إن كانوا لأبٍ أو لأبوين، فقد اختلفَ العلماءُ في حكم ميراثِهِم قديمًا وحديثًا، فمنهم من أسقطَ الإخوةَ بالجدِّ مطلقًا، كما يسقطونَ بالأبِ، وهذا قولُ الصديق، ومعاذ، وابنِ عباسٍ، وغيرهم، واستدلُّوا بأنَّ الجدَّ أبٌ في كتابِ اللَّهِ عزَّ وجلَّ، فيدخلُ في مسمى الأبِ في المواريثِ، كما أنَّ ولدَ الولدِ ولدٌ، ويدخل في مسمَّى الولد عندَ عدم الولدِ بالاتفاقِ، وبأن الإخوة إنما يرثونَ مع الكلالةِ، فيحجبُهُم الجدُّ كالإخوةِ من الأم، وبأنَّ الجدَّ أقوى من الإخوةِ، لاجتماع الفرضِ والتَّعصيب له من جهةٍ واحده، فهو كالأبِ. وحينئذ، فيدخلُ في عموم قوله - صلى الله عليه وسلم -: "فما بقي، فلأولى رجلٍ ذكر". ومنهم من شرَّك بين الإخوةِ والجدِّ وهو قولُ كثيرٍ من الصحابةِ، وأكثر الفقهاءِ بعدهم على اختلافٍ طويل بينهم في كيفية التشريكِ بينهم في الميراثِ، وكان من السلفِ منْ يتوقَّف في حكمهم ولا يُجيبُ فيهم بشيء. لاشتباهِ أمرهم وإشكالِهِ، ولولا خشيةُ الإطالةِ لبسطنا القولَ في هذه المسألةِ. ولكن ذلك يؤدِي إلى الإطالةِ جدًّا.

وأما حكمُ ميراثِ الإخوةِ للأبوينِ أو للأبِ، فقد ذكره اللَّه تعالى في آخر سورة النساءِ في قولِهِ تعالى: (يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ) . والكَلالةُ: مأخوذةٌ من تكلُّلِ النسبِ وإحاطتِهِ بالميثِ، وذلك يقتضِي انتفاءَ الانتسابِ مطلقًا من العمودينِ الأعلى والأسفل، وتنصيصُه تعالى على انتفاءِ الولدِ تنبيهٌ على انتفاءِ الوالدِ بطريقِ الأوْلى، لأن انتسابَ الولدِ إلى والدِهِ أظهرُ من انتسابِهِ إلى ولدِهِ، فكانَ ذكرُ عدمِ الولد تنبيهًا على عدمِ الوالدِ بطريقِ الأولى. وقد قال أبو بكرٍ الصديقُ - رضي الله عنه -: الكلالةُ: مَنْ لا وَلَدَ له ولا والدَ، وتابعَهُ جمهورُ الصحابةِ والعلماءِ بعدَهُم. وقد رُوي ذلك مرفوعًا من مراسيلِ أبي سلمةَ بنِ عبدِ الرحمنِ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، خرَّجه أبو داود في "المراسيل "، وخرَّجه الحاكم من روايةٍ، عن أبي سلمة، عن أبي هريرةَ مرفوعًا، وصحَّحَه ووصْلُه بذكرِ أبي هريرةَ ضعيف. فقوله: (إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أختٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ) ، يعني إذا لم يكنْ للميتِ ولدٌ بالكليَّة ِ لا ذكرٌ ولا أنثى، فللأختِ - حينئذٍ - النِّصفُ مما تركَ فرضًا، ومفهومٌ هذا أنه إذا كان له ولد فليسَ للأختِ النِّصفُ فرضًا، ثم إنْ كان الولدُ ذكرًا، فهو أولى بالمالِ كلِّه لما سبقَ تقريرُه في ميراثِ الأولاد الذُّكور إذا انفردُوا، فإنهم أقربُ العصباتِ، وهم يُسقطُون الإخوةَ فكيف لا يُسقِطون

الأخوات؛ وأيضًا، فقد قال تعالى: (وَإِن كانوا إِخْوَةً رِّجَالاً وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ) ، وهذا يدخل فيه ما إذا كانَ هناك ذو فرضةٍ كالبناتِ وغيرِهنَّ، فإذا استحقَّ الفاضلُ ذكورَ الإخوةِ مع الأخواتِ، فإذا انفردُوا، فكذلك يستحقُّونه وأوْلى، وإن كانَ الولدُ أنثى، فليسَ للأختِ هنا النِّصفُ بالفرضِ، ولكن لها الباقي بالتَّعصيب عندَ جمهورِ العلماءِ، وقد سبقَ ذكرُ ذلك والاختلافُ فيه، فلو كانَ هناكَ ابنٌ لا يستوعِبُ المالَ وأختٌ، مثلُ ابنٍ نِصْفُه حُر عندَ من يُورِّثه نصفَ الميراثَ، وهو مذهبُ الإمامِ أحمدَ وغيرِه من العلماءِ، فهل يقالُ: إن الابنَ هنا يسقط نصفَ فرضِ الأختِ، فترثَ معه الرُّبعَ فرضًا؛ أم يقال: إنَه يصيرُ كالبنتِ فتصيرَ الأختُ معه عصبة كما تصيرُ مع الأخت، لكنه يُسقط نصفَ تعصيبها، فتأخذُ معه النِّصفَ الباقي بالتعصيب؛ هذا محتملٌ، وفي هذه المسألةِ لأصحابِنا وجهانِ. وقوله تعالى: (وَهُوَ يَرِثُهَا إِن لَّمْ يَكن لَّهَا وَلَدٌ) ، يعني أنَّ الأخَ يستقلُّ بميراثِ أخته إذا لم يكن لها ولدٌ ذكرٌ أو أنثى، فإن كان لها ولدٌ ذكرٌ، فهو أوْلى من الأخ بغير إشكالٍ، فإنَّه أولى رجلٍ ذكرٍ، وإن كان أنثى، فالباقي بعد فرضِها يكونُ للأخ، لأنَّه أوْلى رجلٍ ذكر، ولكن لا يستقلُّ بميراثِها حينئذِ، كما إذا لم يكن لها ولدٌ. وقوله: (فَإِن كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ) يعني: أنَّ فرضَ الثِّنتين الثلثان، كما أنَّ فرضَ الواحدةِ النِّصفُ، فهذا كلُّه في حكم انفرادِ الإخوةِ والأخواتِ. وأما حكمُ اجتماعِهِم، فقد قالَ تعالى: (وَإِن كانُوا إِخْوَةً رِّجَالاً وَنسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ) ، فيدخلُ في ذلكَ ما إذا كانوا مفردينِ، وأما إذا كان هناكَ

ذو فرضٍ منَ الأولادِ أو غيرِهم، كأحدِ الزوجينِ أو الأمّ أو الإخوةِ من الأم. فيكونُ الفاضلُ عن فروضِهم للإخوةِ والأخواتِ بينهم للذَّكَر مثلُ حظِّ الأنثيين. فقد تبيَّن بما ذكرناهُ أنَّ وجودَ الولد إنما يُسقط فرضَ الأخواتِ منَ الأبوينِ أو الأبِ، ولا يُسقط توريثهُن بالتَّعصيبِ مع أخواتِهِنَّ بالإجماع، ولا تَعْصيبَهُنَّ بانفرادهِنَّ مع البناتِ عثدَ الجمهورِ، فالكلالةُ شرطٌ لثبوتِ فرضِ الأخواتِ، لا لثبوتِ ميراثِهنَّ، كما أنَّه ليسَ بشرطٍ لميراثِ ذكورهم بالإجماع، وهذا بخلافِ ولدِ الأمِّ، فإنَّ انتفاءَ الكلالةِ أسقطت فروضَهم، وإذا أسقطت فروضَهم، سقطت مواريثُهُم، لأنَّه لا تعصيبَ لهم بحالٍ لإدلائهم بأنثى، والأخوات للأبوين أو للأب يدلون بذكرٍ، فيرثنَ بالتَّعصيبِ مع إخوتِهِنَّ بالاتفاقِ، وبانفرادِهِنَّ مع البناتِ عند الجمهورِ. وإذا كانَ الولدُ مسقطًا لفرضِ ولد الأبوينِ، أو الأبِ دونَ أصلِ توريثهم بغيرِ الفرضِ، فقد يقال: إنَّ اللَّهَ تعالى إنَّما خصَّ انتفاءَ الولدِ في قوله: (لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ) ، ولم يذكر انتفاءَ الولدِ، أو الأبِ، لأنَّه كان يدخلُ فيه الجدُّ، والجدُّ لا يُسقطُ ميراثَ الإخوةِ بالكليَّة، وإنَّما يشتركون معه في الميراثِ، تارةً بالفرضِ، وتارةً بغيرهِ، وهذا على قول من يقول: إنَّ الجدَّ لا يُسقطُ الإخوةَ - وهمُ الجمهورُ - ظاهرٌ، وهذا كلُّه في انفرادِ ولدِ الأبوينِ أو الأبِ، فإن اجتمعُوا فإن العصباتِ منْ ولدِ الأبوينِ يُسقطونَ ولدَ الأبِ كلهم بغير خلافٍ حتى في الأختِ منَ الأبوينِ مع البنتِ عند من يجعلُها عصبةً يُسقط بها الأخ من الأبوينِ. وفي "المسندِ" و"الترمذيِّ " و"ابن ماجةَ " عن علي قال: قَضَى رسول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -

أن أعيانَ بني الأم يرثُون دونَ بني العلاَّتِ، يرثُ الرَّجُلُ أخاه لأبيه وأمّهِ دونَ أخيه لأبيه. وقال عمرُو بنُ شُعيبٍ: قضى رسولُ اللَّه - صلى الله عليه وسلم - أن الأخَ للأبِ والأم أولى بالكلالةِ بالميراثِ، ثم الأخُ للأبِ، وهذا - أيضا - مما يدخلُ في قولِهِ عليه الصلاةُ والسلامُ: "فما بقي فلأوْلى رجُلٍ ذكرَ". والتحقيقُ في ذلك: أن كلَّ ما دلَّ عليه القرآنُ، ولو بالتَّنبيه، فليسَ هو ممَّا أبقته الفرائضَ، بل هوَ من إلحاقِ الفرائضِ المذكورةِ في القرآنِ بأهلِهَا. كتوريثِ الأولادِ ذكورِهم وإناثِهم الفاضلَ عن الفروضِ، للذَّكرِ مثلُ حظِّ الأنثيينِ، وتوريثِ الإخوةِ ذكورِهم وإناثِهم كذلك، ودلَّ ذلكَ بطريقِ التَّنبيه على أنَّ الباقي يأخذه الذَّكرُ منهم عند الانفرادِ بطريق الأوْلى، ودلَّ - أيضًا - بالتَّنبيه على أنَّ الأختَ تأخذُ الباقي مع البنتِ كما كانتْ تأخذُهُ مع أخيهَا، ولا يُقدَّمُ عليها من هو أبعدُ منها، كابنِ الأخ والعمِّ وابنِهِ، فإنَّ أخاها إذا لم يُسقِطها فكيف يُسقِطها من هو أبعدُ منه؛ فهذا كلُّه من باب إلحاقِ الفرائضِ بأهلها، ومن باب قسمة المالِ بين أهلِ الفرائضِ على كتابِ اللًّهِ. وأمَّا منْ لم يُذكر باسمِهِ منَ العصباتِ في القرآنِ، كابنِ الأخ والعمِّ وابنِه. فإنَّما دخلَ في عموماتِ مثلِ قولِهِ تعالى: (وَأُولوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَولى بِبَعْضٍ فِي كتَابِ اللَّهِ) ، وقوله: (وَلِكل جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ) ، فهذا يحتاجُ في توريثِهم إلى هذا الحديثِ: أعني حديثَ ابنِ عباسٍ، فإذا لم يُوجَدْ للمالِ وارثٌ غيرُهم، انفردُوا به، ويقدَّم منهُمُ الأقربُ

فالأقربُ، لأنَه أولى رجلٍ ذكر، وإن وُجِدَتْ فروضٌ لا تستغرقُ المالَ، كأحدِ الزوجينِ أو الأمِ، أو ولد الأمِّ، أو بناب منفرداتٍ، أو أخواتٍ منفرداتٍ، فالباقي كلُّه لأوْلى ذكرٍ من هؤلاءِ. ولهذا لو كانَ هؤلاء إخوةً رجالاً ونساءً، لاختصَّ به رجالُهم دون نسائِهم، بخلافِ الأولادِ والإخوةِ فإنَّه يشتركُ في الباقي أو في المالِ كلِّه ذكورُهم وإناثُهِم، بنصِّ القرآنِ، والحديثُ إنَّما دلَّ على توريثِ العصباتِ الذينَ يختصُّ ذكورُهم دونَ إناثِهم، وهم مَنْ عدا الأولادِ والإخوةِ، فهذا حكمُ العصباتِ المذكورينَ في كتابِ اللَّهِ، وفي حديثِ ابنِ عباسٍ. وأما ذوو الفروضِ، فقد ذكرنَا حكمَ موارِيثِهم، ولم يبقَ منهم إلا الزوجانِ والإخوةِ للأم. فأما الزوجانِ، فيرثانِ بسببِ عقدِ النكاح، ولمَّا كان بين الزوجينِ من الألفةِ والمودةِ والتَّناصُرِ والتعاضُدِ ما بينَ الأقاربِ، جُعِلَ ميراثُهما كميراثٍ الأقاربِ، وجُعل للذَّكرِ منهما مثْلا ما للأنثى، لامتيازِ الذكرِ على الأنثى بمزيدِ النَّفع بالإنفاقِ والنصرةِ. وأما ولدُ الأمِّ، فإنَهم ليسُوا من قبيلةِْ الرَّجُلِ، ولا عشيرِتِه، وإنما هم في المعنى من ذوي رحمِهِ، ففرضَ اللَّهُ لواحدِهِم السُّدُسَ، ولجماعتِهِم الثُّلثَ صِلَةً، وسوَّى فيه بين ذكورِهِم وإناثِهم، حيثُ لم يكنْ لذكرِهِم زيادةً على أنثاهم في الحياةِ من المعاضدةِ والمناصرةِ، كما بين أهلِ القبيلةِ والعشيرةِ الواحدةِ، فسوَّى بينَهُم في الصلةِ، ولهذا لم تُشرع الوصيَّةُ للأجانبِ بزيادةٍ على الثلثِ، بل كانَ الثُّلثُ كثيرًا في حقِّهم، لأنَهم أبعدُ من ولدِ الأمِّ. فينبغِي أن لا يُزادوا على ما يُوصل به ولدُ الأمِ، بل ينقصونَ منه.

واستدلَّ بعضُهم بقولِهِ: "فما بقيَ فلأوْلى رجلٍ ذكر" على أنْ لا ميراثَ لذوي الأرحامِ، لأنَّه لم يجعلْ حقَّ الميراثِ لمنْ لم يُذكر في القُرآنِ إلا لأقربِ الذكورِ، وهذا الحكمُ يختصُّ بالعصباتِ دونَ ذوِي الأرحامِ، فإنَّ منْ ورَّث ذوي الأرحامِ، ورَّث ذكورَهُم وإناثَهُم. وأجابَ من يرى توريثَ ذوي الأرحامِ بأنَّ هذا الحديثَ دلَّ على توريثِ العصباتِ، لا على نفي توريثِ غيرِهم، وتوريثُ ذوي الأرحامِ مأخوذٌ من أدلةٍ أخرى، فيكونُ ذلكَ زيادةً على ما دلَّ عليه حديثُ ابنِ عباسٍ. وأمَّا قوله: "لأوْلى رجلٍ ذكَرٍ" مع أنَّ الرجُلَ لا يكون إلا ذكرًا، فالجوابُ الصحيحُ عنه أنه قد يُطْلَقُ الرجل ويرادُ به الشخصُ، كقولِهِ: "منْ وَجَدَ ماله عندَ رجلٍ قد أفلس " ولا فرقَ بين أن يجده عند رجل أو امرأة، فتقييدُه بالذَّكر ينفي هذا الاحتمالَ، ويُخلصهُ للذكرِ دونَ الأنثي وهو المقصود، وكذلك الابنُ: لمَّا كان قد يُطلق، ويُراد به أعمُّ من الذكر، كقوله: ابن السبيل، جاء تقييدُ ابنِ اللّبون في نُصُبِ الزكاة بالذكرِ. وللسهيليِّ كلامٌ على هذا الحديثِ فيه تكلُّف وتعسُّفٌ شديد ولا طائلَ تحتَه، وقد ردَّه عليه جماعة ممن أدركنَاهُم، واللَّهُ أعلمُ. * * * قال تعالى: (مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍ) وفي حديثِ أبي هريرةَ المرفوع: "إنَّ العبد ليعملُ بطاعةِ اللَّهِ ستِّينَ سنة، ثم

يَحضُره الموتُ، فيضارَّ في الوصيةِ، فيدخلُ النارَ"، ثم تلا: (تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ) ، إلى قوله: (وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَاا) . وخرَّجه الترمذيُّ وغيرُه بمعناه. وقال ابنُ عباسٍ: الإضرارُ في الوصيةِ من الكبائرِ، ثم تلا هذه الآية. والإضرارُ في الوصيَّةِ تارةً يكونُ بأنْ يخُصَّ بعضَ الورثةِ بزيادةٍ على فَرْضَه الذي فرَضَهُ اللَّهُ له فيتضرَّرُ بقيَّةُ الورثةِ بتخصِيصِه، ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إنًّ اللَّهَ قدْ أعطى كلَّ ذي حق حقَّه، فلا وصيَّةَ لوارث ". وتارةً بأن يُوصِي لأجنبيًّ بزيادة على الثُّلثِ، فتنقصُ حقوقاُ الورثةِ، ولهذا قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "الثلث والثلثُ كثيرٌ. ومتى وصَّى لوارثٍ أو لأجنبيٍّ بزيادةٍ على الثلثِ لم ينفذْ ما وصىَّ به إلا بإجازة الورثةِ، وسواء قصدَ المضارَّة أو لم يقصدْ، وأمَّا إنْ قصدَ المضارة بالوصيًّةِ لأجنبيٍّ بالثلثِ فإنه يأثمُ بقصدِهِ المضارَّة، وهلْ تُرَدُّ وصيَّتُه إذا ثبتَ ذلكَ بإقراور أم لا؛ حكَى ابنُ عطيةَ روايةً عن مالكٌ أنها تُرَدُّ، وقيلَ: إنه قياسُ مذهبِ أحمد. * * *

قوله تعالى: (إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب فأولئك يتوب الله عليهم وكان الله عليما حكيما (17)

قوله تعالى: (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (17) وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (18) خرَج الإمامُ أحمدُ والترمذيُّ وابنُ حبانَ في "صحيحِهِ " من حديثِ ابنِ عمرَ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: "إنَّ اللَّهَ عزَّ وجلَّ يقبَلُ توبةَ العبدَ ما لم يُغَرْغِر" وقال الترمذيُّ: حديثٌ حسنٌ. دلَّ هذا الحديثُ على قبولِ توبةِ اللَّهِ عزَّ وجلَّ لعبده ما دامَتْ روحُه في جسدِهِ لم تبلُغ الحُلْقُومَ والتراقي. وقد دلَّ القرآنُ على مثلِ ذلك أيضًا، قال اللَّهُ عزَّ وجلَّ: (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا) ، وعمَلُ السُّوءِ إذا أفرد دَخَل فيه جميعُ السَّيئات، صغيرُها وكبيرُها، والمرادُ بالجهالة الإقدامُ على عملِ السُّوء. وإنْ علِمَ صاحبُه أنه سوء، فإنَّ كُلَّ من عَصَى اللًّهَ فهو جاهلٌ، وكُلَّ من أطاعَهُ فهو عالمٌ، وبيانُهُ من وجهينِ: أحدُهما: أنَّ من كانَ عالِمًا باللَّهِ تعالى وعظمتِهِ وكبريائِهِ وجلالِهِ، فإنَّه يَهَابُهُ ويخشاهُ، فلا يقعُ منه مع استحضارِ ذلكَ عصيانُه، كما قال بعضُهم: لو تفكَّر الناسُ في عظمةِ اللَّه تعالى ما عَصَوهُ، وقال آخرُ: كفَى بخشيةِ اللَّه عِلْمًا، وكَفى بالاغترارِ باللَّهِ جهلاً.

والثاني: أنَّ مَنْ آثرَ المعصيةَ على الطاعةِ فإنَّما حَمَلَهُ على ذلك جهلُه وظنُّه أنها تنفعُهُ عاجلاً باستعجالِ لذَّتِها، وإن كان عندهُ إيمان فهو يرجو التخلُّصَ من سوءِ عاقِبتها بالتوبةِ في آخر عمى، وهذا جَهْل محْضٌ، فإنَّه يتعجَّلُ الإثمَ والخزي، ويفوتُه عِزُّ التقوى وثوابُها ولذَّةُ الطاعة، وقد يتمكَّنُ من التوبةِ بعد ذلك، وقد يعاجلُهُ الموتُ بغتةً، فهو كجائع أكلَ طعامًا مسمومًا لدفع جوعه الحاضر، ورجا أن يتخلَّص من ضرره بِشُرْبِ الدِّرياق بعده، وهذا لا يفعله إلا جاهلٌ، وقد قال تعالى في حقِّ الذين يؤثرونَ السحرَ: (وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (102) وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (103) . والمرادُ: أنَّهم آثرُوا السحرَ على التقوى والإيمانِ، لما رجوا فيه من منافع الدنيا المعجلةِ، مع علمهم أنَّهم يفوتُهم بذلكَ ثوابُ الآخرةِ، وهذا جهلٌ منهم، فإنَّهم لو علمُوا لآثرُوا الإيمانَ والتقوى على ما عَداهُمَا، فكانُوا يحرزونَ أجرَ الآخرةِ ويامنونَ عقابَها، ويتعجَّلونَ عِزَّ التقوى في الدنيا، وربما وصلُوا إلى ما يأمُلُونه في الدنيا أو إلى خيرٍ منه وأنفعُ، فإنَّ أكثر ما يُطلبُ بالسِّحرِ قضاءُ حوائجَ محرَّمةٍ أو مكروهةٍ عندَ اللَّهِ عزَّ وجلَّ. والمؤمنُ المتقي يُعوِّضُه اللَّهُ في الدنيا خيرًا مما يطلبُه السَّاحرُ ويؤثِرُه، مع تعجيلهِ عِزَّ التّقوى وشرفِها، وثوابَ الآخرةِ وعلُوَّ درجاتِهَا، فتبيَّن بهذا أنَّ إيثارَ المعصيةِ على الطاعةِ إنما يحملُ عليه الجهلُ، فلذلكَ كان كُل منْ عصَى اللَّهَ جاهلاً، وكُلُّ من أطاعه عالِمًا، وكفى بخشية اللَّهِ علْمًا، وبالاغترارِ به جهْلاً.

وأمَّا التوبةُ من قريبٍ فالجمهورُ على أنَّ المرادَ بها التوبةُ قبلَ الموتِ، فالعمرُ كلُّه قريب، والدنيا كلُّها قريبٌ، فمن تابَ قبلَ الموتِ فقد تابَ من قريبٍ. ومن ماتَ ولم يتُبْ فقد بَعُدَ كلَّ البُعد، كما قيل: يقولون لا تبْعد وَهُم يدْفِنُونني. . . وأينَ مكانُ البُعْد إلا مكانِيا وقال آخرُ: مِن قبْل أن تلقِي وليـ. . . سَ النأْيُ إلا نأيُ دارِك وكما قيل: فهم جِيرةُ الأحياءِ أمَّا مزارُهُم. . . فدانٍ وأمَّا المُلْتَقى فبَعيدُ فالحيُّ قريبٌ، والميتُ بعيدٌ من الدنيا على قُربه منها، فإنَّ جسْمَهُ في الأرضِ يبْلى ورُوحَه عند اللَّهِ تُنَعَّم أو تُعَذَّبُ، ولقاؤهُ لا يرجى في الدنيا. كما قيل: مقيمٌ إلى أن يبعثَ اللَّهُ خلْقَهُ. . . لقاؤك لا يُرجَى وأنتَ قريبُ تزيدُ بِلى في كل يومٍ وليلةٍ. . . وتُنْسَى كما تُبْلى وأنتَ حبيبُ وهذان البيتانِ سمعَهما داودُ الطائيُّ - رحمه اللَّه - من امرأة في مقبرةٍ تَنْدُبُ بهما ميّتًا لها، فوقعتا من قلبه موقِعًا، فاستيقظَ بهما ورَجَع زاهدًا في الدنيا. راغبًا في الآخرة، فانقطع إلى العبادةِ إلى أن ماتَ - رحمه اللَّهُ. فمن تابَ قبل أن يغرغِر، فقد تاب من قريبٍ، فتقبَلُ توبتُهُ ورُوي عن ابنِ عباسٍ، في قوله تعالى: (يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ) ، قال: قبل المرض والموت، وهذا إشارة إلى أن أفضلَ أوقاتِ التوبةِ، هو أن يبادرَ الإنسانُ بالتوبةِ في صحتِهِ قبل نُزولِ المرضِ به حتَّى يتمكَّن حينئذٍ من العمل الصالح.

ولذلك قَرَنَ اللَّه تعالى التوبةَ بالعملِ الصالح في مواضعَ كثيرة من القرآنِ. وأيضًا فالتوبةُ في الصحةِ ورجاءِ الحياةِ تُشبهُ الصَّدَقةَ بالمالِ في الصحةِ ورجاءِ البقاءِ، والتوبةُ في المرضِ عند حضورِ أماراتِ الموت تشبهُ الصدقةَ بالمالِ عندَ الموتِ، فكأنَّ من لا يتوبُ إلا في مرضه قد استفْرغً صِحَتَه وقوَتَه في شهواتِ نفسه وهواه ولذَّات دنياه، فإذا أيسَ من الدنيا والحياةِ فيها تابَ حينئذٍ وتركَ ما كانَ عليه، فأين توبةُ هذا من توبةِ مَنْ يتوبُ من قريبٍ، وهو صحيحٌ قويٌّ قادرٌ على عملِ المعاصي، فيتركها خوفًا من اللَّهِ عزَّ وجلَّ، ورجاءً لثوابه، وإيثارًا لطاعتِهِ على معصيتِه. دخلَ قومٌ على بِشْرِ الحافي، وهو مريضٌ، فقالوا له: على ماذا عزَمْتَ؟ قال: عزَمْتُ أنى إذا عُوفِيتُ تُبْتُ، فقال له رجلٌ منهم: فهلا تُبْتَ السَّاعةَ؟ فقال: يا أخي: أما علِمْتَ أنَّ الملوك لا تقبَلُ الأمانَ ممن في رجليه القيدُ. وفي رقبتِه الغلُّ؛ إنَّما يُقبَلُ الأمانُ ممن هو راكبٌ الفرسَ والسيفُ مجرَّدٌ بيده. فبكى القومُ جميعًا. ومعنى هذا أنَّ التائب في صحتِه بمنزلة من هو راكبٌ على متن جوادِهِ وبيدِهِ سيفٌ مشهور، فهو يقدرُ على الكَرِّ والفَرِّ والقتالِ، وعلى الهربِ من الملكِ وعصْيانِهِ، فإذا جاء على هذه الحالِ إلى بينَ يدي الملكِ ذليلاً له، طالبًا لأمانهِ، صارَ بذلك من خواص الملكِ وأحبابِهِ، لأنَه جاءهُ طائعًا مختارًا له، راغبًا في قربه وخدمتِهِ. وأمَّا من هو في أسْرِ الملك، وفي رِجْلِه قيْدٌ، وفي رقبتِهِ غُلٌّ، فإنه إذا طلب الأمانَ من الملكِ فإنَّما طلبه خوفًا على نفسه من الهلاكِ، وقد لا يكونُ محبّا للملكِ ولا مؤثرًا لرضاه، فهذا مَثَلُ من لا يتوبُ إلا في مرضِهِ عند

موتِهِ، والأولُ بمنزلة من يتوبُ في صحَّته وقوَّتِهِ وشبيبته، لكن مَلكُ الملوكِ. أكرمُ الأكرمين، وأرحَمُ الراحمينَ، وكُلُّ خلْقه أسيرٌ في قبضتِهِ، لا يُعْجِزُه منهم أحَدٌ، لا يُعْجِزُه هاربٌ، ولا يفوتُه ذاهبٌ، كما قيل: لا أقدَرَ ممَّن طلبتُه في يده، ولا أعْجَز مِمَّن هو في يد طالبِهِ، مع هذا فكُلُّ منْ طلبَ الأمانَ من عذابِهِ من عبادِهِ أمنَهُ على أي حالٍ كانَ، إذا علم منه الصِّدْقَ في طلبه أنشد بعض العارفين: الأمانَ الأمانَ وِزْرِي ثَقِيلُ. . . وذُنُوبي إذا عدَدْتُ تَطُولُ أوْبَقَتْنِي وأوْثَقَتْنِي ذُنُوبي. . . فتُرَى لي إلى الخلاصِ سبيلُ وقوله عزَّ وجلَّ: (وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (18) . فسوَّى بين مَن تابَ عند الموتِ ومن ماتَ من غيرِ توبةٍ، والمرادُ بالتوبةِ عندَ الموتِ التوبةُ عند انكشافِ الغطاءِ، ومعاينةِ المحتضرِ أمورَ الآخرةِ. ومشاهدةِ الملائكةِ، فإنَّ الإيمانَ والتوبةَ وسائرَ الأعمالَ إنَّما تنفعُ بالغيبِ، فإذا كُشِفَ الغِطاءُ وصارَ الغيبُ شهادةً، لم ينفع الإيمانُ ولا التوبةُ في تلكَ الحالِ. وروى ابنُ أبي الدنيا بإسنادِهِ عن على، قال: لا يزالُ العبدُ في مهلٍ من التَّوبةِ ما لم يأتِه ملَكُ الموتِ يقبضُ رُوحَه، فإذا نزل ملَكُ الموتُ فلا توبةَ حينئذ. وبإسنادِهِ عن الثوريِّ، قال: قال ابنُ عمرَ: التوبةُ مبسوطةٌ ما لم ينزلْ سلطانُ الموت. وعن الحسن، قال: التوبةُ معروضةٌ لابنِ آدمَ ما لم يأخُذِ الموتُ بِكَظَمِه.

وعن بكرٍ المزنيِّ، قال: لا تزالُ التوبةُ للعبدِ مبسُوطةً ما لم تأتِه الرسلُ، فإذا عاينَهم انقطعتِ المعرفةُ، وعن أبي مجْلَزٍ قال: لا يزالُ العبدُ في توبةٍ ما لم يعاين الملائكةَ. وروى أيضًا في "كتاب الموت " بإسنادِهِ عن أبي موسى الأشعريِّ، قال: إذا عايَنَ الميتُ الملَكَ ذهبتِ المعرفةُ. وعن مجاهد نحوه. وعن حصينٍ، قالَ: بلغني أنَّ ملَكَ الموتِ إذا غَمَزَ ورِيدَ الإنسانِ حينئذٍ يشخَصُ بصرُهُ، ويذهَلُ عن الناسِ. وخرَّج ابنُ ماجةَ حديثَ أبي موسى الأشعريِّ مرفوعًا، قال: سألتُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -: متى تنقطعُ معرفةُ العبد من الناس؟ قال: "إذا عاينَ ". وفي إسنادِهِ مقالٌ. والموقوفُ أشبَهُ. وقد قيل: إنَّه إنَّما مُنع من التوبةِ حينئذٍ، لأنَّه إذا انقطعتْ معرفتُه وذهَلَ عقلُه، لم يتصوَّر منه ندم ولا عزْم، فإنَّ النَّدمَ والعزمَ إنَّما يصحُّ مع حضورِ العقْل، وهذا ملازم لمعاينةِ الملائكةِ، كما دلَّت عليه هذه الأخبار. وقولُه - صلى الله عليه وسلم - في حديثِ ابنِ عمرَ: "ما لم يُغَرْغِر"، يعني إذا لم تبلُغْ رُوحُه عند خروجِهَا منه إلى حلْقِه، فشبَّه تردُّدها في حلقِ المحتضرِ بما يتغرْغَرُ به الإنسانُ من الماءِ وغيرِه، ويردده في حلقِهِ. وإلى ذلكَ الإشارة في القرآن بقولِهِ عزَّ وجلَّ: (فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (84) وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ (85) . وبقولِهِ عزَّ وجلَّْ (كلَّا إِذا بَلَغَتِ التَرَاقِيَ) . وروى ابنُ أبي الدنيا بإسنادِهِ، عن الحسنِ، قالَ: أشدُّ ما يكونُ الموتُ على

العبدِ إذا بلغتِ الروحُ التَّراقيَ، قالَ: فعندَ ذلكَ يضطربُ ويعلو نَفَسُهُ ثم بكى الحسنُ - رحمه اللَّه تعالى. عِشْ ما بدَالك سالما. . . في ظِلِّ شاهقةِ القُصورِ يُسْعَى عليكَ بما اشتهيـ. . . ت لدَى الرَّواح وفي البُكُور فإذا النُّفوسُ تقَعْقَعَتْ. . . في ضيقِ حَشْرَجَةِ الصُّدورِ فهناكَ تعْلمُ مُوقِنًا. . . ما كنْتَ إلا في غُرورِ واعلم؛ أن الإنسانَ ما دامَ يؤملُ الحياةَ فإنه لا يقطعُ أملَه من الدنيا، وقد لا تسمحُ نفسُه بالإقلاع عن لذَّاتِها وشهواتِها من المعاصِي وغيرِها، ويُرجِّيه الشيطان التوبةَ في آخرِ عُمُر، فإذا تيقَّن الموتَ، وأيسَ من الحياة، أفاقَ من سكرته بشهواتِ الدنيا، فندِم حينئذٍ على تفريطه ندامةً يكادُ يقتلُ نفسَهُ. وطلبَ الرَّجعةَ إلى الدنيا ليتوبَ ويعمَلَ صالحًا، فلا يجابُ إلى شيءٍ من ذلك، فيجتمعُ عليه سكرةُ الموتِ مع حَسرةِ الفَوْتِ. وقد حذَّر اللَهُ تعالى عبادَهُ من ذلكَ في كتابِهِ؛ ليستعدُّوا للموتِ قبلَ نزولِهِ، بالتوبةِ والعملِ الصالح، قال اللَّهُ تعالى: (وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ (54) وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (55) أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (56) . سُمِعَ بعضُ المُحْتضرين عند احتضاره يلطِمُ على وجههِ ويقول:، (يا حَسْرَتَى عَلَى مَا فرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ) ، وقال آخر عند احتضاره: سخرَت بي الدنيا حتى ذهبتْ أيامي. وقال آخرُ عند موتِهِ: لا تغرنَّكُم الحياة الدنيا كما غرَّتني.

وقال اللَّهُ تعالى: (حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا) ، وقال اللَّهُ تعالى: (وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ (10) وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (11) . قال اللَهُ تعالى: (وَحِيلَ بَيْنَهمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ) ، وفسَّره طائفةٌ من السَّلفِ؛ منهم عمرُ بنُ عبد العزيزِ رحمه اللَّه: بأنهم طلبوا التوبةَ حين حِيلَ بينهم وبينها. قال الحسنُ: اتقِ اللَّه يا ابنَ آدمَ، لا يجتمع عليك خَصْلتانِ، سكرةُ الموتِ. وحَسْرةُ الفوْتِ. وقال ابنُ السَّمَّاك: احْذر السَّكرةَ والحَسْرةَ أن يفجأك الموتُ وأنت على الغِرَّةِ، فلا يصفُ واصفٌ قدْرَ ما تلقى ولا قدْرَ ما ترى. قال الفُضيلُ: يقول اللَّه عزَّ وجلَّ: ابنَ آدمَ، إذا كنتَ تتقلَّب في نِعمتي وأنتَ تتقلَّبُ في معصيتي، فاحْذَرْني لا أصْرعُك بين معاصيَّ. وفي بعض الإسرائيليات: ابنَ آدم، احْذر لا يأحذك اللَّهُ على ذنب فتلقاهُ لا حُجَّةَ لك، مات كثير من المُصِرِّين على المعاصي على أقبح أحوالهم وهم مباشرون للمعاصي، فكان ذلك خزيًّا لهم في الدنيا مع ما صاروا إليه من عذاب الآخرةِ. وكثيرًا ما يقَعُ هذا للمصِرِّين على الخمرِ المدمنينَ لشربِهَا، كما قال القائلُ: أتأمنُ أيها السكرانُ جهْلا. . . بأنْ تفْجاكَ في السُّكْر المنِيَّة فتضْحى عِبْرةً للنَّاسِ طُرأ. . . وتلقى اللهَ مِن شَرِّ البريَّة

سكر بعضُ المتقدمين ليلةً، فعاتبته زوجتُه على تركِ الصلاةِ، فحلف بطلاقِهَا ثلاثًا لا يُصلِّي ثلاثة أيام، فاشتدَّ عليه فراقُ زوجتِهِ، فاستمرَّ على ترك الصلاة مدَّة الأيام الثلاثة، فماتَ فيها على حالِهِ وهو مُصِرّ على الخمر. تاركٌ للصلاةِ. كان بعضُ المصرّين على الخمر يُكنى أبا عمرو، فنام ليلةً وهو سكران. فرأى في منامه قائلاً يقول له: جَدَّ بك الأمرُ أبا عمرو. . . وأنْتَ معْكُوفٌ على الخَمْر تشربُ صَهْباءَ صُرَاحِيَّةً. . . سالَ بكَ السَّيْلُ ولا تدْرِي فاستيقظ منزعجًا وأخبر مَن عنده بما رأى، ثم غلبَه سُكْرُه فنامَ، فلمَّا كان وقتُ الصُّبح مات فجأة. قال يحيى بن معاذٍ: الدنيا خمرُ الشيطان، من سكرَ منها لم يُفقْ إلا في عسْكَر الموتى نادمًا مع الخاسرين. وفي حديثٍ خرَّجه الترمذيُّ مرفوعًا: "ما من أحد يموتُ إلا نَدِمَ " قالوا: وما ندامتُه؟ قال: "إنْ كان مُحْسِنًا ندِمَ أن لا يكون ازداد، وإن كان مسيئًا ندِمَ أن لا يكون استعتَبَ ". إذا ندم المحسنُ عندَ الموتِ فكيفُ يكون حالُ المسيء. غايةُ أمنيَّةِ الموتى في قبورِهم حياةُ ساعةٍ يستدركون فيها ما فاتهم من توبة وعملٍ صالحِ، وأهلُ الدنيا يفرِّطون في حياتِهم فتذهبُ أعمارُهم في الغفْلَّةَ ضياعًا، ومنهم من يقطَعُها بالمعاصي.

قال بعضُ السلفِ: أصبحتُم في أمنيَّةٍ ناسٍ كثيرٍ، يعني أنَّ الموتَى كلَّهم يتمنَّون حياةَ ساعةٍ، ليتوبوا فيها ويجتهدُوا في الطَّاعةِ، ولا سبيل لهم إلى ذلك، وقد أنشدَ بعضُهُم: لو قيلَ للقومِ ما مُنَاكُم طلَبُوا. . . حياةَ يومٍ ليتوبُوا فاعْلَم ويْحَكِ يا نَفْسُ ألا تيقُّظٌ. . . ينْفَعُ قبلَ أن تزِل قدمِي مضى الزَّمان في توَانٍ وهَوَى. . . فاسْتدْرِكي ما قدْ بقي واغْتنمِي الناسُ في التوبة على أقسامٍ: فمنهم: من لا يوفَّقُ لتوبة نصوح، بل ييسَّر له عملُ السَّيّئات من أوَّل عُمُره إلى آخره حتى يموتَ مُصِرًّا عليها، وهذه حالةُ الأشقياء. وأقبحُ من ذلك من يُسِّر له في أوّلِ عمر عملُ الطاعاتِ، ثم خُتِمَ له بعملٍ سيِّى حتى ماتَ عليه، كما في الحديثِ الصحيح: "إنَ أحدكم ليَعْملُ بعملِ أهلِ الجنةِ، حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبقُ عليه الكتابُ فيعمَلُ بعملِ أهلِ النار فيدخُلُها". وفي الحديثِ الذي خرَّجه أهلُ السننِ: "إنّ العبدَ ليعْملُ بعملِ أهلِ الجنةِ سبعينَ عامًا، ثم يحضرُه الموتُ فيجورُ في وصيتِهِ فيدخلُ النارَ". ما أصعبَ الانتقال من البصرِ إلى العَمَى، وأصعبُ منه الضلالةُ بعد الهُدى، والمعصيةُ بعد التُّقى. كم من وجوهٍ خاشعةٍ وُقِّعَ على قصص أعمالِها: (عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ (3) تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً) ، كم من شارَفَ مركَبُهُ

ساحِلَ النَّجاة، فلمَّا همَّ أن يرْتَقِي لعِبَ به موْجُ الهوى فغرق. الخلْقُ كلُّهم تحت هذا الخطرِ. قلوبُ العبادِ بينَ أصبعينِ من أصابع الرحمنِ يُقلِّبها كيف يشاءُ. قال بعضُهُم: ما العجبُ ممن هلكَ كيفَ هلكَ، إنَّما العجب ممن نجا كيف نجا، وأنشدَ: يا قلبُ إلام تطالبُني. . . بلِقا الأحبابِ وقدْ رحَلُوا أرسلتُك في طلبي لهُمُ. . . لتعودَ فضِعْتَ وما حَصَلُوا سلِّمْ واصْبِرْ واخضعْ لهُمُ. . . كم قبْلَكَ مِثلكَ قد قَتَلُوا ما أحسنَ ما علَّقْتَ به. . . آمالَك مِنْهُمْ لو فعلوا وقسمٌ: يفنى عمرُهُ في الغفلةِ والبطالة، ثم يوفَّقُ لعملٍ صالحِ فيموت عليه. وهذه حالة من عملَ بعملِ أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع. فيسبق عليه الكتابُ فيعمَلُ بعملِ أهل الجنة فيدخلها. الأعمالُ بالخواتيم، وفي الحديثِ: "إذا أراد اللَّهُ بعبد خيرًا عسَلَه " قالوا: وما عسْلُه؟ قال: "يوفِّقه لعمل صالحٍ ثم يقبضُهُ عليه ". وهؤلاء منهم من يوقَظُ قبل موته بمدَّةٍ يتمكَّن فيها من التزوُّد بعملٍ صالح. يختم به عمرَه، ومنهم من يُوقَظُ عندَ حضورِ الموت فيُوفَّقُ لتوبةٍ نصوح يموت عليها. قالتْ عائشة - رضي الله عنها -: إذا أرادَ اللَّه بعبدٍ خيرًا قيَّضَ له مَلَكًا قبل موتِهِ بعامٍ

فيُسدِّدُه وييسِّرهُ حتى يموتَ وهو خير ما كان، فيقولُ الناسُ: ماتَ فلان خير ما كان. وخرَّجه البزارُ عنها مرفوعًا، ولفظُه: "إذا أراد الله بعبدٍ خيرًا بعثَ إليه ملَكًا من عامِهِ الذي يموتُ فيه فيُسَدِّدُه وييسِّره، فإذا كان عند موته أتاه مَلَكُ الموت فقعد عند رأسه، فقالَ: أيتها النفس المطمئنة اخْرُجي إلى مغفرة من اللَّهِ ورضوانٍ، فذلك حين يُحِبُّ لقاءَ اللهِ ويحبُّ اللُّهُ لقاءَه، وإذا أرادَ اللَهُ بعبدٍ شرًّا بعثَ إليه شيطانًا من عامِهِ الذي يموتُ فيه فأغواهُ، فإذا كان عند موتِهِ أتاه ملكُ الموت فقَعَدَ عند رأسه، فقال: أيتها النفس الخبيثةُ، اخْرُجِي إلى سخط من اللَهِ وغضبٍ، فتتفرق في جسده، فذلكَ حين يُبغضُ لقاءَ اللهِ، ويُبْغِضُ الله لقاءَه "وفي الدعاء المأثورِ: "اللهمَّ، اجعلْ خير عملي خاتمتَه، وخير عمري آخره" وفي "المسند" عن عبدِ اللَّهِ بن عمرِو بن العاص، قالَ: من تاب قبْلَ موْتِهِ عامًا تِيبَ عليه، ومن تاب قبل موتِه شهرًا تِيبَ عليه، حتى قال: يومًا، حتى قال: ساعةً، حتى قال: فُوَاقًا. قالَ: قال له إنسان: أرأيتَ إن كان مشركًا فأسلمَ؟ قال: إنما أحدِّثُكم ما سمعتُ من رسولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -. وفيه ايضا، عن عبد الرحمنِ البيلماني، قال: اجتمع أربعة من أصحاب رسولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، فقال أحدُهم: سمعْتُ رسولَ اللَّهِ يقولُ: "إن اللَّه عزَّ وجلَّ يقبلُ توبةَ العبْدِ قبلَ أن يموت بيومٍ " قال الآخر: أنتَ سمعتَ هذا من رسولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -

قال: نعم، قال: وأنا سمعْتُ رسولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إنَّ الله عزَ وجلَّ يقبل توبة العبدِ قبل أن يموتَ بنصف يوم ". فقال الثالثُ: أنتَ سمعْتَ هذا من رسولِ اللَّه - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: نعم، قال: وأنا سمعتُ رسولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إن اللَّه عزَّ وجلَّ يقبَلُ توبةَ العبدِ قبل أن يموتَ بضَحْوَة" قال الرابع: أنتَ سمعتَ هذا من رسولِ اللَّه - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: نعم، قال: وأنا سمعتُ رسولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إن اللَّه عزَّ وجلَّ يقبل توبةَ العبدِ ما لم يُغَرْغِرْ بنفسه ". وفيه أيضًا: عن أبي سعيدٍ الخدريَ - رضي الله عنه -. عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: "إن الشيطان قال: وعِزَّتِك يا رب، لا أبرحُ أُغوِي عبادَك ما دامتْ أرواحُهم في أجسادِهِم. فقال الربُّ عزَّ وجلَّ: وعِزتي وجلالي، لا أزالُ أكفِرُ لهم ما استغفروني ". ذكر ابن أبي الدنيا بإسناد له: أنَّ رجلاً من ملوكِ البصرةِ كان قد تَنَسَّك. ثمَّ مالَ إلى الدنيا والشيطان فبنى دارًا وشيَّدها، وأمر بها ففُرشتْ له ونُجِّدَتْ، واتَّخذ مأدُبةً، وصنع طعامًا ودعا الناس، فجعلوا يدخلون فيأكلون ويشربونَ وينظرونَ إلى بنائه ويعجبون منه، ويدْعُون له ويتفرَّقون، فمكث بذلك أيامًا حتى فرغَ من أمر الناس. ثم جلسَ في نفرٍ من خاصة إخوانه، فقال: قد ترون سُروري بدارِي هذه، وقد حدَّثت نفسِي أن أتخذ لكلِّ واحدٍ من ولدي مثلَها، فأقيموا عندِي أيامًا أستمتع بحديثِكم وأشاوركم فيما أريدُ من هذا البناءِ لولدي، فأقاموا عنده أيامًا يلْهُون ويلعبون ويشاوِرُهم كيف يبني لولده، وكيف يريد أن يصنع، فبينما هم ذات ليلةٍ في لهوهِم إذ سمعوا قائلاً يقولُ من أقاصي الدَّار:

يا أيها الباني النَّاسِي مَنِيَّتَه. . . لا تأمننَّ فإنَّ الموتَ مكتُوبُ على الخلائِق إن سُرُّوا وإنْ فرِحوا. . . فالموتُ حتْفٌ لذي الآمالِ منصُوبُ لا تبنين ديارًا لسْتَ تسْكُنُها. . . وراجِع النُسْك كيما يغفرَ الحُوبُ قال: ففزع من ذلك وفزع أصحابه فزعًا شديدًا، وراعَهُم ما سمعوا من ذلك، فقال لأصحابه: هل سمِعْتم ما سمِعْتُ؟ قالوا: نعم، قال: فهل تجدون ما أجدُ؟ قالوا: وما تجدُ؟ قال: أجد واللَّه مسْكة على قلبي ما أراها إلا علَّة الموت، قالوا: كلا، بل البقاءُ والعافية، قال: فبكى وقال: أنتم أخلائي وإخواني فما لي عندكُم؟ قالوا: مُرْنا بما أحببتَ. قال: فأمر بالشراب فأُهريق، وبالملاهي فأخرجت، ثم قال: اللَّهُمَّ إني أشهدُك ومن حضر من عبادِك أني تائبٌ إليك من جميع ذنوبي، نادم على ما فرطَّت أيام مُهلتي، وإياك أسالُ إن أقلْتَنِي أن تُتِمَّ عليَّ نعمتك بالإنابةِ إلى طاعتِك، وإن أنت قبضتني إليك أن تغفرَ لي ذنوبي تفضلاً منك عليَّ. واشتدَّ به الأمرُ فلم يزلْ يقول: الموتُ واللهِ، الموتُ واللَّهِ، حتى خرجتْ نفسُه فكان الفقهاء يرون أنه مات على توبة. وروى الواحدي في كتابِ "قتلى القرآنِ " بإسنادٍ له، أن رجلاً من أشراف أهلِ البصرةِ كان مُنحدرًا إليها في سفينةٍ ومعه جاريةٌ له، فشربَ يومًا، وغنَّتَهُ جاريته بعودٍ لها، وكان معهم في السفينة فقير صالحٌ، فقال له: يا فتى تُحسِنُ مثل هذا؟ قال: أُحْسِنُ ما هو أحسن منه، وكان الفقيرُ حسنَ الصوت. فاستفتح وقرأ: (قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا (77) أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ) .

فرمَى الرَّجُلُ ما بيده من الشرابِ في الماء، وقال: أشهدُ أن هذا أحسنُ مما سمعت، فهل غير هذا؟ قال: نعم فتلا عليه: (وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا) الآية، فوقعت من قلبه موْقعًا، ورمَى بالشرابِ وكسر العُودَ، ثم قال: يا فتى هل هنا فرجٌ قال: نعم. (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53) . فصاح صيْحة عظيمةً، فنظروا إليه فإذا هو قد ماتَ - رحمه اللَّه. وروى ابنُ أبي الدنيا بإسنادٍ له أنَّ صالحًا المُرِّيَّ - رحمه اللَّه - كان يومًا في مجلسِه يقُصُّ على الناس، فقرأ عنده قارئ: (وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ (18) . فذكر صالحٌ النار وحالَ العصاة فيها، وصِفَةَ سياقهم إليها، وبالغ في ذلك وبكى الناس، فقام فتًى كان حاضرًا من مجلسِه، وكان مسرفًا على نفسه، فقال: أكُلُّ هذا في القيامة؟ قال صالح: نعم، وما هو أكثر منه، لقد بلغني أنَّهم يصرخُون في النار حتى تنقطع أصواتُهم فلا يبقى منهم إلا كهيئة الأنينِ من المريضِ المدنَفِ، فصاح الفتى: يا للَّه وا غفْلتاهُ عن نفسِي أيامَ الحياة، وا أسفاهُ على تفريطي في طاعتك يا سيداهُ وا غفلتاه على تضييع عمري في دارِ الدنيا ثم استقبلَ القِبْلةَ، وعاهَدَ اللَّهَ على توبةٍ نصوح، ودعا اللَّهَ أنا يتقبَّلَ منه وبكى حتى غُشي عليه، فحُمِلَ من المجلسِ صريعًا، فمكث صالح وأصحابه يعودُونه أيامًا، ثم مات، فحضره خَلْقٌ كثير، فكان صالح يذكره في مجلسِهِ كثيرًا، ويقول: وبأبي قتيل القرآن؛ وبأبي قتيلَ المواعظِ والأحزانِ؛ فرآه رجل في منامِهِ، فقال: ما صنعتَ؟ قال: عمَتْنِي بركةُ مجلس صالح فدخلتُ في

سعة رحمة اللَّه التي (وَسِعَتْ كُل شَيْءٍ) . من آلمتُه سياطُ المواعظِ فصاح فلا جناح، ومن زاد ألمه فمات فدسُهُ مباح. قضى اللَّهُ في القتْلى قصاصَ دمائهم ولكن دماء العاشقين جُبَارُ وبقي ها هنا قسمٌ آخرُ، وهو أشرفُ الأقسامِ وأرفعُها، وهو من يُفْني عمرَه في الطاعة، ثمَّ يُنبَّه على قرْبِ الأجلِ، ليجدَّ في التزودِ ويتهيأ للرحيلِ بعملٍ صالح للقاء، ويكونُ خاتمةً للعملِ قال ابنُ عباسٍ: لما نزلتْ على النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: (إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ) ، نُعِيتْ لرسولِ اللِّه - صلى الله عليه وسلم - نفسُه؛ فأخذ في أشدِّ ما كان اجتهادًا في أمر الآخرةِ. قالت أم سلمةَ: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - في آخرِ أمرهِ لا يقومُ ولا يقعُد ولا يذهبُ ولا يجيءُ إلا قال: "سبحان الله وبحمدهِ " فذكرتُ ذلك له، فقال: "إني أمِرتُ بذلك " وتلا هذه السورة. وكان من عادتِهِ أن يعتكفَ في كُلِّ عامٍ في رمضانَ عشرًا، ويعرضُ القرآنَ على جبريلَ مرة، فاعتكف في ذلك العامِ عشرين يومًا، ويعرض القرآنَ مرَتينِ، وكان يقولُ: "ما أرى ذلك إلا لاقترابِ أجِلي " ثم حجَ حجةَ الوداع، وقال للناس: "خذوا عنَي مناسككم، فلعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا". وطفقَ يودعُّ الناسَ، فقالوا: هذه حجَّةُ الوداع، ثم رجع إلى المدينةِ فخطبَ قبل وصولِهِ إليها، وقال: "أيها الناس إنَّما أنا بشر، يُوشِكُ أن يأتيَني رسولُ ربِّي فأجيبَ "

، ثم أمر بالتمسُّكِ بكتابِ اللِّه، ثم توفي بعد وصولِهِ إلى المدينةِ بيسير - صلى الله عليه وسلم - إذا كان سيِّدُ المحسنينَ يُؤمَرُ أن يختِمَ عمرَه بالزِّيادة في الإحسان فكيف يكون حالُ المسيء. دُو بيْت: خُذْ في جد فقد تولَّى العُمُر. . . كم ذا التفريطُ قد تدانى الأمرُ أقبِل فعسى يُقبلُ منك العُذْر. . . كم تبني كم تنقضُ كم ذا الغَدْرُ مرض بعضُ العابدينَ فوُصِف له دواءٌ يشربُه، فأتي في منامه فقيل له: أتشربُ الدواء والحورُ العينُ لك تُهَيّأ؛ فانتبه فزِعًا، فصلَّى في ثلاثة أيام. حتى انحنى صُلْبُه، ثم ماتَ في اليوم الثالثِ. وكان رجلٌ قد اعتزل وتعبَّد، فرأى في منامِهِ قائلاً يقول له: يا فلان ربُّك يدعوك فتجهَّزْ واخْرُج إلى الحجِّ، ولسْتَ عائدًا، فخرج إلى الحج فماتَ في الطريقِ. رأى بعضُ الصالحينَ في منامِهِ قائلاً يُنشدُهُ: تأهَّبْ للذي لا بُدَّ منه. . . من الموت المُوَكَّل بالعبادِ أترضى أن تكون رفيق قومٍ. . . لهُمْ زادٌ وأنتَ بغير زادٍ خرَّج ابنُ ماجةَ من حديثِ جابرٍ، أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - خطب، فقال في خطبتِهِ: "أيَّها الناس، توبوا إلى ربّكم قبل أن تموتوا، وبادروا بالأعمال الصالحة قبل أن تُشْغَلُوا".

وفي سنده ضعف، فأمرَ بالمبادرةِ بالتوبةِ قبل الموت، وكلُّ ساعةٍ تمرُّ على ابن آدمَ فإنَّه يمكنُ أن تكون ساعة موتِهِ، بل كلُّ نفسٍ، كما قِيل: لا تأمَن الموتَ في طرف ولا نفَسٍ. . . ولو تمنَّعْتَ بالحُجَّابِ والحَرَسِ قال لقمانُ لابنِهِ: يا بني، لا تؤخِّر التوبةَ، فإنَّ الموتَ يأتي بغتةً. وقالَ بعضُ الحكماءِ: لا تكنْ ممن يرجُو الآخرةَ بغير عملٍ، ويؤخِّرُ التوبةِ لطولِ الأملِ. إلى اللَّه تب قبل انقضاءٍ من العمر. . . أُخَيَّ ولا تأمَنْ مفاجأة الأمر ولا تستصمَنْ عن دُعائي فإنما. . . دعوتُك إشفاقًا عليك من الوزرِ فقد حَذَّرَتْك الحادثاتُ نزولها. . . ونادَتْك إلا أنَّ سمعَكَ ذو وَقْرِ تَنُوحُ وتبكي للأحبَّة إن مضَوا.. ونفْسَكَ لا تبكي وأنتَ على الإثْرِ قال بعضُ السلف: أصبِحُوا تائبين، وأمسُوا تائبين، يشير إلى أنَّ المؤمن لا ينبغي أن يُصبح ويُمسي إلا على توبةٍ، فإنه لا يدري متى يفجأه الموتُ صباحًا أو مساءً، فمن أصبح أو أمسى على غير توبة، فهو على خطرٍ، لأنه يُخشى أن يلقَى اللَّه غير تائب، فيُحشر في زمرة الظالمين، قال اللَّه تعالى: (وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأوْلَئِكَ هُم الظَّالِمونَ) . تُبْ من خطاياكَ وابْكِ خشْيَةً. . . ما أثبت منها عليك في الكُتُبِ أيَّةُ حالٍ تكون حالَ فتًى. . . صارَ إلى ربِّه ولم يتُبِ تأخيرُ التوبةِ في حال الشباب قبيحٌ، ففي حال المشيبِ أقبْحُ وأقبَحُ. نَعَى لك ظِلَّ الشبابِ المشيبُ. . . ونادتْكَ باسم سواكَ الخطوبُ

فكُنْ مستعدًا لداعِي الفنا. . . فكُلُّ الذي هو آتٍ قريبُ ألسْنا نَرَى شهواتِ النُفوسِ. . . تفْنَى وتبقى علينا الذُّنوبُ يخافُ على نفسِهِ من يتوبُ. . . فكيفَ يكنْ حالُ من لا يتوبُ فإن نزلَ المرضُ بالعبدِ فتأخيرُهُ للتوبةِ حينئذٍ أقبحُ من كلِّ قبيع، فإنَّ المرضَ نذيرُ الموتِ، وينبغي لمن عادَ مريضًا أن يذكره التوبةَ والاستغفارَ، فلا أحسنَ من ختامِ العملِ بالتوبةِ والاستغفارِ، فإنْ كان العملُ سيئًا كان كفَّارةً له، وإنْ كان حسنًا كان كالطابَع عليه. وفي حديث "سيد الاستغفارِ" المخرَّج في "الصحيح " أنَّ من قاله إذا أصبح وإذا أمسَى، ثم ماتَ من يومِهِ أو ليلتِهِ، كان من أهلِ الجنةِ، وليُكْثِرْ في مرضِهِ من ذكر اللَّهِ عزَّ وجلَّ، خصوصًا كلمةَ التوحيدِ، فإنَّه من كانتْ آخِرَ كلامِهِ دخل الجنة. وفي حديثِ أبي سعيد وأبي هريرةَ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنه: "من قالَ في مرضِهِ: لا إله إلا اللَّهُ، اللَّهُ أكبرُ، لا إله إلا اللَّهُ وحده لا شريكَ لهُ، له الملك وله الحمدُ، لا إله إلا اللَّهُ، ولا حولَ ولا قوةَ إلا باللَّهِ، فإنْ مات من مرضه لم تطعَمْهُ النار". خرَّجه النسائي وابنُ ماجةَ والترمذيُّ وحسَّنه. وفي روايةٍ للنسائي: "من قالَهُنَّ في يومٍ أو في ليلةٍ أو في شهرٍ، ثم ماتَ في ذلك اليومِ أو في تلك الليلةِ، أو في ذلك الشهرِ، غُفِرَ له ذنبُه ". ويُروى من حديثِ حذيفةَ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "من خُتم له بقولِ لا إله إلا اللَّهُ دخلَ الجنة، ومن خُتِمَ له

بصيام يومٍ أراد به وَجْهَ اللَّه أدخله اللَّه الجنة، ومنْ خُتِمَ له بإطعام مسكينٍ أراد به وجه اللَّه أدخله اللَّه الجنةَ". كان السلف يرون أن من مات عقيبَ عمل صالح، كصيامِ رمضانَ، أو عقيبَ حج أوعمرةٍ، أنَّه يُرجَى له أن يدخل الجنة، وكانوا مع اجتهادهم في الصحة في الأعمالِ الصالحةِ يجددون التوبةَ والاستغفارَ عندَ الموتِ، ويختمُونَ أعمالهم بالاستغفارِ وكلمةِ التوحيدِ. لما احتُضِرِ العلاءُ بن زيادٍ، بكى، فقيلَ له: ما يُبكيك؟ قال: كنتُ واللَّهِ أحب أن أستقبلَ الموتَ بتوبةٍ. قالوا: فافعلْ رحمك اللَّه، فدعا بطَهُور فتطهَّر، ثم دعا بثوبٍ له جديد فلبسه، ثم استقبلَ القبلةَ، فأومَأ برأسه مرتينِ أو نحو ذلك، ثم اضطجع ومات. ولما احتُضِرَ عامر بن عبد الله بكى، وقال: لمثل هذا المصرع فليعملِ العاملونَ، اللَهُمَّ إنِّي أستغفرك من تقصيرِي وتفريطي، وأتوبُ إليك من جميع ذنوبي، لا إله إلا اللَهُ، ثم لم يزل يردِّدُها حتى ماتَ - رحِمَه اللَّهُ. وقال عمرو بن العاص - رحمه اللَّهُ - عند موتِهِ: اللَّهُمَ أمرتنا فعصيْنا. ونهيتنا فركبنا، ولا يسعُنا إلا عفوُك، لا إله إلا اللَهُ، ثم ردَّدها حتى مات. وقال عمرُ بنُ عبدِ العزيزِ - رحمهُ اللَّهُ - عند موتِهِ: أجلِسُوني، فأجلسُوه. فقالَ: أنا الذي أمرْتَني فقصَّرْتُ، ونهيتني فعصيْتُ، ولكن لا إله إلا اللَّهُ، ثم رَفَعَ رأسه فأحَدَّ النظرَ، فقالُوا له: إنَّك تنظرُ نظرًا شديدًا يا أميرَ المؤمنين. قال: إنِّي أرى حضرةً ما هم بإنسٍ ولا جنٍّ، ثم قُبضَ رحمةُ اللَّهُ عليه. وسمعوا تاليًا يتلو: (تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (83) .

يا غافِل القلْبِ عن ذِكْرِ المَنيَّاتِ. . . عما قليل ستثْوِي بين أمْواتِ فاذكُرْ مَحَلَّكَ مِن قبْلِ الحُلُولِ بهِ. . . وتُبْ إلى اللَّهِ منْ لهوٍ ولذاتِ إنَّ الحمامَ لهُ وقْتٌ إلى أجَلٍ. . . فاذْكُرْ مصائبَ أيَّامٍ وساعاتِ لا تطمئن إلى الدنيا وزينتها. . . قدْ حانَ للموْتِ يا ذا اللبِّ أن ياتِي التَوبةَ التوبةَ قبل أن يصل إليكم من الموت النَّوْبة، فيحصلُ المفرطُ على الندمِ والخيبةِ. الإنابة الإنابةَ قبل غَلْقِ بابِ الإجابةِ، الإفاقةَ الإفاقةَ فقد قرُبَ وقتُ الفاقَة. ما أحسنَ قلقَ التُّوَّاب! ما أحْلَى قدومَ الغُيَّابِ! ما أجملَ وقوفَهم بالبابِ! أسأتُ ولم أُحْسنُ وجئتُك تائبًا. . . وأنَّى لعبْدٍ من مواليه مهْرَبُ يُؤمِّلُ غُفرانًا فإنْ خابَ ظَنُّه. . . فما أحَدٌ منه على الأرضِ أخيَبُ من نزلَ به الشيبُ فهو بمنزلةِ الحاملِ التي تمَتْ شهورُ حَمْلِها، فما تنتظر إلا الولادةَ، كذلك صاحبُ الشيبِ لا ينتظر غير الموت، فقبيحٌ منه الإصرارُ على الذنبِ. أىُّ شيءٍ تُريدُ منِّي الذُّنوبُ. . . شَغُفَتْ بي فليس عنِّي تَغيبُ ما يضرُ الذنُوبَ لو أعتقتني. . . رحمةً بي فقد علاني المشيبُ ولكن توبة الثالث أحسنُ وأفضلُ. في حديث مرفوع خرَّجه ابنُ أبي الدنيا: "إنَ اللَّه يحبّ الشابَّ التائبَ ". قال عُمير بن هانئٍ: تقول التوبةُ للشابِ: أهلاً ومرحبًا، وتقول للشيخ: نقبَلُكَ على ما كان منك.

الشابُّ ترك المعصيةَ مع قوَّةِ الدَّاعِي إليها، والشيخُ قد ضعُفتْ شهوتُه وقلّ داعيه فلا يستويانِ، وفي بعض الآثار، يقول اللَّهُ عزَّ وجلَّ: أيها الشابُّ. التارك شهوتَه، المبتذِلُ شبابَه لأجلي، أنتَ عندِي كبعضِ ملائكتي. قال عمرُ بنُ الخطابِ - رضي الله عنه -: إنَّ الذين يشتهونَ المعاصِي ولا يعملونَ بها (أولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ) كم بين حالِ الذي (قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَتْوَايَ) ، وبين شيخ عِنِّين يُدعَى لمثلِ ذلك فيجيبُ. كان عمرُ يَعُسُّ بالمدينةِ فسمعَ امرأةً غابَ عنها زوجُها تقولُ: تطاولَ هذا الليلُ واسْوَدَّ جانبُه. . . وأرَّقني أن لا خليلٌ ألاعِبُهْ فواللَّهِ لولا اللَّه لا شيءَ غيرُهُ. . . لَحُرِّكَ من هذا السَّرير جوانِبُه ولكن تقْوى اللَّهِ عنْ ذا تَصُدُّني. . . وحِفظا لبَعْلي أن تنالَ مراكبُه ولكنَّني أخْشَى رَقيبًا موكَّلاً. . . بأنْفُسِنا لا يَفْتُرُ الدَّهْرَ كاتبُه فقال لها عمرُ: يرحمك اللَّهُ، ثم بعثَ إلى زوجها فأمره أن يقدُمَ عليها. وأمَرَ أن لا يغيبَ أحد عن امرأته أكثر من أربعة أشهر وعشرًا. الشيخُ قد تركتك الذنوب، فلا حمدَ له على تركها. كما قيل: تاركَكَ الدْنبُ فتارَكْتَهُ. . . بالفعْلِ والشهَوْةُ في القلبِ فالحَمْدُ للذَّنْبِ على تركِهِ. . . لا لكَ في تركِكَ للذَّنْبِ أما تستحِي منا لما أعرضَتْ لذاتُ الدنيا عنك فلم يبقَ لك فيها رغبةٌ. وصِرْتَ من سَقَطِ المتاع لا حاجةَ لأحدٍ فيك، جئت إلى بابنا فقلْتَ: أنا

تائبٌ، ومع هذا فكُلُّ من أوى إلينا آويناه، وكلُّ من استجارَ بنا أجرْناه، ومن تابَ إلينا أحببناه، أبشر، فربَّما يكون الشَّيبُ شافعًا لصاحبه من العقوباتِ. مات شيخ كان مفرِّطًا، فرؤي في المنامِ، فقيل له: ما فعَلَ اللَّهُ بك، قال: قال لي: لولا أنَّك شيخ لعذَّبْتُك. وقفَ شيخٌ بعرفةَ والنَّاسُ يضِجُّون بالدُّعاءِ، وهو ساكتٌ، ثم قبض على لحيته، وقال: يا ربِّ، شيخ يا ربِّ، شيخ يرجُو رحمتك. لمَّا أتَوْنا والشَّيْبُ شافعُهُمْ. . . وقدْ توالَى عليهم الخَجَلُ قُلْنا لِسُودِ الصَّحائفِ انقلِبي. . . بيضًا فإنَّ الشُّيوخَ قد قُبِلُوا كان بعضُ الصالحينَ يقولُ: إنّ الملوكَ إذا شابَتْ عبيدُهُم. . . في رِقِّهم عتقُوهُم عِتْقَ أبرارِ وأنتَ يا خالِقي أوْلى بذا كَرَمًا. . . قد شِبْتُ في الرقِّ فأعْتِقْنِي منَ النَارِ أيها العاصِي، ما يقطعُ من صلاحِك الطَّمَعُ، ما نصبنا اليومَ شركَ المواعِظِ إلا لتقَعُ، إذا خرجتَ من المجلسِ وأنتَ عازِم على التوبةِ، قالتْ لك ملائكةُ الرحمةِ: مرحبًا وأهلاً، فإن قال لكَ رفقاؤُك في المعصيةِ: هَلُمَّ إلينا، فقلْ لهُم: كلاَّ، ذاك خَمْرُ الهوى الذي عهدتمُوه قد استحالَ خلاَّ: يا مَن سوَد كتابَهُ بالسيئاتِ قد آنَ لك بالتَّوبةِ أن تمحُو. يا سكرانَ القلبِ بالشهواتِ أما آن لفؤادِك أن يصحُو. يا ندامَاي صحَا القلبُ صَحَا. . . فاطرُدُوا عنِّي الصبَا والمَرَحا زَجَرَ الوعْظُ فؤادِي فارْعَوى. . . وأفاقَ القلْبُ منِّي وصَحَا هَزَم العَزْمُ جُنودًا للهوى. . . فاسِدِي لا تعْجَبُوا إن صَلَحَا

قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما (29)

بادِرُوا التَوْبةَ من قبلِ الرَّدى. . . فمُنادِيه يُنادينا الوَحَا * * * قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (29) وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (30) [قالَ البخاريُّ] : ويُذْكر: أنَّ عمرَو بن العاصِ أجنبَ في ليلةٍ باردةٍ فتيمَّم، وتلا: (وَلا تَقْتُلُوا أَنفسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا) ، فذكر ذلك للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فلم يُعَنِّفْ. حديثُ عمرِو بن العاصِ خرَّجه أبو داود من روايةِ يحيى بنِ أيُّوبَ. عن يزيدَ بنِ أبي حبيبٍ، عن عِمرانَ بنِ أبي أنَسٍ، عن عبدِ الرحمنِ بن جُبيرٍ، عن عمرِو بنِ العاصِ، قال: احتلمْتُ في ليلةٍ بارد في غزوةِ ذاتِ السَّلاسلِ، فأشفقتُ إن اغتسَلْتُ أنْ أهلِكَ، فتيَمَّمْتُ ثم صلَّيت بأصحابي الصُّبْح، فذكرُوا ذلكَ للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فقال: "يا عمرُو، صليتَ بأصحابك وأنت جُنب! " فأخبرتُه بالذي منَعَني من الاغتسالِ، وقلتُ: إني سمعتُ اللَّهَ يقولُ: (وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِن اللهَ كَانَ بِكمْ رَحِيمًا) ، فضحِكَ رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، ولمْ يقُل شيئًا. وخرَّجه - أيضًا - من طريقِ عمرِو بنِ الحارثِ وغيرِه، عن يزيدَ بنِ أبي

حبيبٍ، عن عِمرانَ، عن عبدِ الرحممنِ بن جُبَيْرٍ، عن أبي قيْسٍ مولى عمرِو ابنِ العاصِ، أن عمرَو بن العاصِ كانَ على سَرِيَّة - فذكر الحديثَ بنحوهِ. وقال فيه: فغسَلَ مَغابِنَه وتوضَّأ وضوءه للصلاةِ، ثم صلَّى بهم - وذكر باقيه بنحوه، ولم يذكرِ التيممَ. وفي هذه الروايةِ زيادةُ: "أبي قيسٍ " في إسنادِهِ، وظاهرُهَا الإرسالُ. وخرَّجه الإمامُ أحمدُ والحاكم، وقال: على شرط الشيخينِ، وليس كما قال، وقال أحمدُ: ليس إسنادُه بُمتصلٍ. وروى أبو إسحاقَ الفزاريُّ في "كتابِ السيرِ" عن الأوْزاعيِّ، عن حسَّان بنِ عطيّةَ، قال: بعَثَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بعْثًا وأمَّر عليهم عمرَو بنَ العاصِ، فلما أقبلوا سألهم عنه، فأثْنَوْا خيرًا، إلا أنه صلَّى بنا جُنبا، فسأله، - فقال: أصابتْنِي جنابة فخشيتُ على نفسِي من البردِ، وقد قال اللَّهُ تعالى: (وَلا تقْتُلوا أَنفسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكمْ رَحِيمًا) ، فتيبسَّمَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -. وهذا مرسلٌ. وقد ذَكَره أبو داودَ في "سننِهِ " تعليقًا مختصرًا، وذكر فيه: أنه تيمَّمَ. وأكثرُ العلماءِ: على أن من خافَ من استعمال الماءِ لشدةِ البردِ فإنه يتيمم ويصلِّي، جُنبا كان أو مُحْدِدثًا. واختلفوا: هل يُعِيد أم لا؟ فمنهُم من قال: لا إعادةَ عليه، وهو قول الثوريِّ، والأوْزاعيِّ. .

وأبي حنيفةَ، ومالكٍ، والحسنِ بنِ صالح، وأحمدَ في روايةٍ. ومنهم من قال: عليه الإعادةُ بكلِّ حالٍ سواءٌ كان مسافرًا أو حاضرًا، وهو قولُ الشافعيِّ، وروايةٌ عن أحمدَ. ومنهم من قالَ: إن كانَ مسافرًا لم يُعِد، وإن كانَ حاضِرًا أعادَ، وهو قولٌ آخرُ للشافعيِّ، وروايةٌ عن أحمدَ، وقولُ أبي يوسف ومحمدٍ. وحكى ابنُ عبدِ البرِّ عن أبي يوسفَ وزُفَرَ: أنه لا يجوزُ للمريضِ في الحضرِ التيممُ بحالٍ. وذكرَ أبو بكرٍ الخلاَّلُ من أصحابِنا: أنه لا يجوزُ التيممُ في الحضرِ لشدةِ البردِ، وهو مخالفٌ لنصِّ أحمدَ وسائرِ أصحابهِ. وحكى ابنُ المنذرِ وغيرُه عن الحسنِ وعطاءٍ: أنه إذا وَجَدَ الماءَ اغتسل به وإن ماتَ، لأنه واجدٌ للماءِ، إنما أُمِرَ بالتيمم من لم يجدِ الماءَ. ونقلَ أبو إسحاق الفزاريُّ في كتابِ "السيرِ" عن سُفيانَ نحوَ ذلك، وأنه لا يتيممُ لمجردِ خوفِ البردِ، وإنما يتيممُ لمرضٍ مخوفٍ، أو لعدمِ الماءِ. وينبغي أن يُحمل كلامُ هؤلاءِ على ما إذا لم يخْشَ الموتَ، بل أمكنهُ استعمالُ الماء المُسخَّن وإن حصلَ له به بعضُ ضررٍ، وقد رُوي هذا المعنى صريحًا عن الحسنِ - أيضًا - وكذلك نقلَ أصحابُ سفيانَ مذهبَهُ في تصانيفهم، وحكَوا أن سفيان ذكر أن الناسَ أجمعُوا على ذلكَ. وقد سبقَ الكلامُ في تفسيرِ الآيةِ، وأنَّ اللهَ تعالى أذِن في التيمم للمريضِ وللمسافرِ ولمن لم يجدِ الماءِ من أهلِ الأحداثِ مُطلقًا، فمن لم يجدِ الماءَ

فالرحْصةُ له محققة. * * * وفرَّق اللَّهُ بين الظلم والعُدوانِ، في قوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (29) وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (30) . وقد يُفرق بين الظلم والعُدوانِ، بأنَّ الظلمَ: ما كانَ بغيرِ حقً بالكليَّة. كأخذ مالٍ بغير استحقاقٍ لشيء منه، وقتلِ نفس لا يحلُّ قتلُها، وأمَّا العُدوانُ: فهو مُجاوزةُ الحدودِ وتعدَّّيَهَا فيما أصلُه مباح، مثل أن يكونَ له على أحدٍ حقّ من مالٍ أو دمٍ أو عرضٍ، فيستوفي أكثرَ منه، فهذا هو العُدوانُ، وهو تجاوزُ ما يجوزُ أخذُه، فيأخذُ ما لَهُ أخْذُهُ وما ليسر له أخْذُهُ. وهو من أنواع الرِّبا المحرَّمةِ. وقد ورد "السبتانِ بالسبةِ رِبا". والظلمُ المُطلقُ: أخذُ ما ليسَ له أخْذُهُ ولا شيءٍ منه من مال أو دمٍ أو عرضٍ. كلاهما في الحقيقةِ ظلم، وقد حرَّم اللَّهُ الظلمَ، وفي "الصحيح " عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: "يقولُ اللَهُ: يا عبادِي، إنِّي حرَّمتُ الظلمَ على نفسِي وجعلتُه بينكُم محرَّمًا فلا تظالموا ".

وفي "الصحيحينِ " عنه - صلى الله عليه وسلم - قال: "الظلمُ ظلماتٌ يومَ القيامةِ". وفيهما عنه - صلى الله عليه وسلم -، قالَ: "إن اللهَ يُملي للظالم حتى إذا أخذَهُ لم يُفلته " ثم قرأ: (وَكَذَلِكَ أَخْذ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ) . وفي "البخاري" عنه - صلى الله عليه وسلم -، قال: "من كانت عنده مظلمةٌ لأخيه فليتحلله منها، فإنَّه ليس ثَمَّ دينارٌ ولا دِرْهَمٌ من قبل أن يُؤخذَ لأخيهِ من حسناتِهِ فإن لم يكنْ له حسنات أخذ من سيئاتِ أخيه فطُرحتْ عليهِ ". وفي "صحيح مسلم " عنه - صلى الله عليه وسلم - قال: (أتدرونَ من المفلسُ؟ " قالوا: المُفلسُ من لا درهمَ له ولا متاعَ. قال: "إن المفلس من أمَّتي من يأتي يومَ القيامةِ بصلاةٍ وصيامٍ وقيامٍ، وقد شتمَ هذا، وأكلَ مالَ هذا، وسفكَ دمَ هذا، وضربَ هذا، فيقضِي هذا من حسناتِهِ وهذا من حسناتِهِ، فإذا فنيتْ حسناتُهُ قبل أنْ يُقضَى ما عليهِ، أُخِذَ من سيئاتِهِم فطرحتْ عليه، ثم طُرِحَ في النارِ". وفي الحديثِ: "لتؤدنَّ الحقوقَ إلى أهلها يومَ القيامةِ، حتى يُقادَ للشاةِ الجمَّاءِ من الشاةِ القرناءِ ". وفي حديثِ عبدِ اللَّهِ بنِ أُنيسٍ: "وليسألَنَّ الحجرُ لم نكبَ الحجرَ، وليسألن العُودَ لم خدشَ صاحبَهُ ".

شعر: فخِفِ القضاءَ غدًا إذا وافيتَ ما. . . كسبتْ يداك اليومَ بالقِسطاسِ أعضاؤُهُم فيه الشهودُ وسجنُهم. . . نارٌ وحاكمُهُم شديدُ الباسِ في موقفٍ ما فيه إلا شاخصٌ. . . أو مهطعٌ أو مقنعٌ للراسِ إن تمطلِ اليومَ الحقوقَ مع الغِنى. . . فغدًا تؤديهَا معَ الإفلاسِ والظلمُ المحرَّمُ: تارةً يكون في النفوسِ، وأشدهُ في الدماءِ وتارةً في الأموالِ، وتارةً في الأعراضِ، ولهذا قالَ - صلى الله عليه وسلم - في خطبتِهِ في حجةِ الوداع: "إنَّ دماءَكُم وأموالَكُم وأعراضَكُم عليكم حرامٌ كحرمةِ، يومِكُم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا". وفي روايةٍ: ثم قال: "ألا اسمعوا منِّي تعيشُوا، ألا لا تظالموا ألا لا تظالموا، فإنه لا يحلّ مالُ امرئٍ مسلمٍ إلا عن طيبِ نفْسٍ منه ". وفي "صحيح مسلمٍ " عنه - صلى الله عليه وسلم -، قالَ: "كلُّ المسلم على المسلم حرامٌ دمُهُ ومالُهُ وعِرضُه ". فظلمُ العبادِ شر مكتسبٌ، لأنَّ الحقَّ فيه لآدميّ مطبوع على الشحِّ، فلا يتركُ من حقِّه شيئًا لا سِيَّما مع شدةِ حاجتِهِ يومَ القيامةِ، فإن الأمَّ تفرحُ يومئذٍ إذا كانَ لهَا حقٌّ على ولدِهَا لتأخذَ منهُ. ومع هذا؛ فالغالبُ أنَّ الظالمَ تُعجَّل له العقوبةُ في الدنيا وإنْ أُمهل، كما قالَ - صلى الله عليه وسلم -: "إن اللَّهَ يُملي للظالم حتَّى إذا أخذَهُ لم يفلتْهُ " ثم تلا: (وكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَة إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ) .

وذهبَ قوم من أهلِ الحديثِ وغيرُهم إلى أنَّ هذهِ الأعمالَ تُكفِّرُ الكبائرَ. ومنهُم ابنُ حزمٍ الظاهريُّ، وإيَّاه عنى ابنُ عبدِ البرِّ في كتابِ "التمهيدِ" بالردِّ عليه، وقالَ: قد كنتُ أرغبُ بنفسِي عن الكلامِ في هذا البابِ، لولا قولُ ذلكَ القائلِ، وخشيتُ أن يغترَّ به جاهل، فينهمِكَ في الموبقاتِ، اتكالاً على أنَّها تكفِّرُها الصلواتُ دونَ الندمِ والاستغفارِ والتوبةِ، واللَّهَ نسألُهُ العصمةَ والتوفيقَ. قلتُ: وقد وقعَ مثلُ هذا في كلامِ طائفةٍ من أهلِ الحديثِ في الوضوءِ ونحوِه، ووقعَ مثلُه في كلام ابنِ المنذرِ في قيامِ ليلةِ القدرِ، قالَ: يُرجى لمنْ قامَهَا أن يغفرَ لهُ جميعُ ذنوبه صغيرُها وكبيرُها، فإن كان مرادُهم أنَّ مَنْ أتى بفرائضِ الإسلامِ وهو مُصِرًّ على الكبائرِ تُغفرُ له الكبائرُ قطْعًا، فهذا باطلٌ قطعًا، يُعْلَمُ بالضرورةِ من الدِّينِ بطلانُهُ، وقد سبقَ قولُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - "منْ أساءَ في الإسلام اخِذَ بالأولِ والآخرِ" يعني: بعملِهِ في الجاهليةِ والإسلامِ، وهذا أظهرُ من أن يحتاجَ إلى بيانٍ، وإن أرادَ هذا القائلُ أن من تركَ الإصرارَ على الكبائرِ، وحافظَ على الفرائضِ من غيرِ توبةٍ ولا ندم على ما سلفَ منه. كُفِّرَتْ ذُنوبُهُ كلُّهَا بذلكَ، واستدلَّ بظاهرِ قولِهِ: (إِن تَجْتَنِبوا كبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلاً كَرِيمًا) . وقال: السيئاتُ تشملُ الكبائرَ والصغائرَ، وكما أنَّ الصغائرَ تُكفَّرُ باجتنابِ الكبائرِ من غيرِ قصدٍ ولا نيّة، فكذلكَ الكبائرُ، وقد يستدلُّ لذلكَ بأنَّ اللَّهَ وعدَ المؤمنينَ والمتقينَ بالمغفرةِ وبتكفيرِ السيِّئاتِ، وهذا مذكورٌ في غيرِ موضع من القرآنِ، وقد صارَ هذا من المتقين، فإنَّه فعلَ الفرائضَ، واجتنبَ الكبائرَ،

قوله تعالى: (إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلا كريما (31)

واجتنابُ الكبائرِ لا يحتاجُ إلى نيَّةٍ وقصدٍ، فهذا القولُ يمكنُ أن يُقالَ في الجملةِ. والصَّحيحُ قولُ الجمهورِ: إنَّ الكبائرَ لا تُكفَّرُ بدونِ التوبةِ، لأنَّ التوبةَ فرضٌ على العبادِ، وقد قالَ عزَّ وجلَّ: (وَمَن لَّمْ يَتبْ فَأوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) . وقد فسَّرتِ الصحابةُ كعمرَ وعليٍّ وابنِ مسعودٍ التوبةَ بالندمِ، ومنهم من فسرها بالعزمِ على أن لا يعودَ، وقد رويَ ذلك مرفوعًا من وجهٍ فيه ضعف. لكن لا يعلمُ مخالفٌ من الصحابةِ في هذا، وكذلك التابعونَ ومَن بعدَهُم. كعمرَ بنِ عبدِ العزيزِ، والحسنِ، وغيرِهما. وأما النصوصُ الكثيرةُ المتضمنةُ مغفرةَ الذنوبِ، وتكفيرَ السيئات للمتقينَ. كقولِهِ تعالى: (إِن تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنكمْ سَيِّئَاتِكُمْ ويغفِرْ لَكُمْ) . وقولِهِ: (وَمَن يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يكَفِّرْ عَنْهُ سَيئَاتهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ) . وقولِهِ: (وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفَر عَنْهُ سَيئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا) . فإنه لم يُبينْ في هذهِ الآياتِ خصالَ التقوى، ولا العملَ الصالحَ. ومن جملةِ ذلكَ: التوبةُ النصوحُ، فمَنْ لم يتُبْ، فهو ظالمٌ، غيرُ متَقٍ. * * * قوله تعالى: (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا (31) وقد بَيَّنَ في سورةِ آلِ عمرانَ خصالَ التقوى التي يَغفر لأهْلِهَا ويدخلهم

الجنةَ، فذكرَ منها الاستغفارَ، وعدمَ الإصرارِ، فلم يضمنْ تكفير السيئاتِ ومغفرة الذنوبِ إلا لمن كان على هذهِ الصفةِ، واللهُ أعلمُ. الصغائرُ هل تجبُ التَّوبةُ منها كالكبائرِ أم لا؟ لأنها تقعُ مكفرةً باجتنابِ الكبائرِ، لقولِهِ تعالى: (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا) ؟ هذا ممَّا اختلفَ الناسُ فيه. فمنهم من أوجبَ التوبةَ مِنْهَا. وهو قولُ أصحابِنا وغيرِهم من الفقهاءِ والمتكلمينَ وغيرِهم. وقد أمر اللَّهُ بالتوبةِ عقيبَ ذكرِ الصغائرِ والكبائرِ، فقالَ تعالى: (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (30) وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ) الآية إلى قولِهِ: (وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) . وأمرَ بالتوبةِ من الصَّغائرِ بخصوصِهَا في قولِهِ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (11) . ومن الناس من لم يُوجب التوبةَ منها، وحكي عن طائفةٍ من المعتزلةِ ومن المتأخرينَ من قالَ: يجبُ أحدُ أمرينِ، إمَّا التَوبةُ منها، أو الإتيانُ ببعض المكفِّرات للذنُوب من الحسناتِ. وحكى ابنُ عطيّة في "تفسيره" في تكفير الصغائر بامتثالِ الفرائضِ واجتنابِ الكبائرِ قولينِ:

أحدهما - وحكاه عن جماعة من الفقهاءِ وأهلِ الحديثِ -. أنه يُقطع بتكفيرها بذلك قطعًا، لظاهر الآية والحديثِ. والثاني - وحكاه عن الأصوليين -: أنه لا يُقطع بذلك، بل يُحمل على غلبةِ الظنِّ وقوَّة الرجاء، وهو في مشيئةِ اللَّه عزَّ وجلَّ، إذ لو قطع بتكفيرها، لكانتِ الصغائر في حكم المباح الذي لا تبِعَةَ فيه، وذلك نقضٌ لِعُرى الشريعة. قلتُ: قد يقال: لا يُقطع بتكفيرها لأنَّ أحاديثَ التكفيرِ المطلقةِ بالأعمالِ جاءتْ مقيَّدةً بتحسينِ العملِ، كما وردَ ذلك في الوضوءِ والصَّلاةِ، وحينئذٍ فلا يتحقَّقُ وجودُ حسنِ العملِ الذي يوجب التَّكفير، وعلى هذا الاختلافِ الذي ذكره ابنُ عطيّة ينبني الاختلافُ في وجوبِ التوبةِ من الصغائر. وقد خرَّج ابنُ جريرٍ من روايةِ الحسنِ أن قومًا أتوا عمرَ، فقالوا: نرى أشياءَ من كتابِ اللَّهِ لا يُعْمَلُ بها، فقال لرجلٍ منهم: أقرأتَ القرآن كُلَّه؟ قال: نعم، قال: فهل أحصيتَهُ في نفسك؟ قال: اللَّهُمَّ لا، قال: فهل أحصيتَهُ في بصرك؟ فهل أحصيتَهُ في لفظك؟ هل أحصيتَهُ في أثَرِكَ؟ ثم تتبعهم حتَّى أتى على آخرِهِم، ثم قال: ثكِلَت عمرَ أمُّهُ أتكلفونه أن يُقيمَ على الناس كتابَ اللَّهِ؟ قد علم ربُّنا أنه سيكون لنا سيئات، قال وتلا: (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا (31) . وبإسنادِهِ عن أنس بن مالكٍ أنه قال: لم أرَ مثلَ الذي بلغنا عن ربِّنا تعالى، ثم لم نَخْرُجْ له عن كلِّ أهلٍ ومال، ثم سكت، ثم قال: واللَّه لقد

كلَّفنا ربُّنا أهونَ من ذلك، لقد تجاوزَ لنا عمَّا دونَ الكبائر، فما لنا ولها؛ ثم تلا: (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا (31) . وخرَّجه البزارُ في " مسندِهِ " مرفوعًا، والموقوف أصحَّ. وقد وصف اللَّهُ المحسنينَ باجتنابِ الكبائرِ، قالَ اللَّهُ تعالى: (وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى (31) الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ) . وفي تفسيرِ اللَّمم قولانِ للسَّلفِ: أحدُهُما: أنَّه مقدماتُ الفواحشِ كاللمسِ والقبلةِ ة. وعن ابن عباسٍ: هو ما دونَ الحدَّينِ: وعيدِ الآخرةِ بالنارِ وحدَ الدنيا. والثاني: أنَّه الإلمامُ بشيءٍ من الفواحشِ والكبائر مرَّةً واحدةً، ثم يتوبُ منه. ورويَ عن ابنِ عباسٍ وأبي هريرة. ورويَ عنه مرفوعًا بالشَّكِّ في رفعِهِ، قال: "اللمةُ من الزنى ثم يتوبُ فلا يعودُ، واللمةُ من شرب الخمرِ ثم يتوبُ فلا يعودُ، واللمة من السرقةِ ثم يتوبُ فلا يعود". ومن فسَّر الآيةَ بهذا قالَ: لا بدَّ أن يتوبَ مِنْهُ، بخلافِ من فسَّرَهُ بالمقدِّماتِ، فإنَّه لم يشترطْ توبةً.

والظاهرُ: أن القولينِ صحيحانِ، وأنَّ كلاهُما مرادٌ من الآيةِ، وحينئذٍ فالمحسنُ: هو من لا يأتِي بكبير إلا نادرًا ثم يتوبُ منها، ومن إذا أتى بصغيره كانتْ مغمورةً في حسناتِهِ المكفرةِ لها، ولا بُد أن لا يكونَ مصِرًّا عليها، كما قال تعالى: (وَلَمْ يصِرّوا عَلَى مَا فَعَلوا وَهُمْ يَعْلَمون) . ورويَ عن ابن عباسِ أنَّه قالَ: لا صغيرةَ مع إصرار، ولا كبيرةَ مع استغفار، ورويَ مرفوعًا من وجوهٍ ضعيفة. وإذا صارتِ الصغائرُ كبائرَ بالمداومةِ عليها، فلا بُدَّ للمحسنينَ من اجتنابِ المداومةِ على الصغائر حتى يكونوا مجتنبينَ لكبائرِ الإثم والفواحشِ. وقال اللَّهُ عزَّ وجلَّ: (وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (36) وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (37) وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (38) وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (39) وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ) . فهذه الآياتُ تضمنتْ وصفَ المؤمنينَ بقيامِهِم بما أوجبَ اللَّه عليهم منَ الإيمانِ والتوكلِ، وإقامِ الصلاةِ، والإنفاقِ مما رزقهَمُ اللَهُ والاستجابةُ للهِ في جميع طاعاتِهِ، ومع هذا، فهم مجتنبون كبائرَ الإثم والفواحش، فهذا هو تحقيقُ التقوى، ووصفهم في معاملتهم للخلقِ بالمغفرةِ عندَ الغضبِ، وندبهم إلى العفوِ والإصلاح. وأمَّا قولُهُ: (وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ) ، فليس منافيًا للعفوِ، فإن الانتصارَ يكونُ بإظهارِ القُدرة على الانتقامِ، ثم يقعُ العفوُ بعد ذلك، فيكونُ أتمَّ وأكملَ، قال النخعيُّ في هذهِ

الآية ِ: كانُوا يكرهونَ أن يُستذلُّوا فإذا قَدَرُوا عَفَوْا. وقال مجاهدٌ: كانوا يكرهون للمؤمنِ أن يذلَّ نفسَهُ، فيجترئُ عليه الفُسَّاقُ، فالمؤمنُ إذا بُغِي عليهِ يُظهرُ القدرةَ على الانتقامِ، ثم يعفوُ بعدَ ذلك، وقد جَرَى مثلُ هذا لكثيرٍ من السلفِ، منهم قتادةُ وغيرُه. فهذه الآياتُ تتضمنُ جميعَ ما ذكره النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في وصيته لمعاذٍ، فإنَّها تضمنتْ أصولَ خصالِ التقوى بفعلِ الواجباتِ، والانتهاءِ عن كبائرِ المحرَّماتِ ومعاملةِ الخلقِ بالإحسانِ والعفوِ، ولازِمُ هذا أنَّه إنْ وقعَ منهم شيء من الإثم من غيرِ الكبائرِ والفواحشِ، يكونُ مغمورًا بخصالِ التَّقوى المقتضيةِ لتكفيرِهَا ومحوِها. وأما الآياتُ التي في سورةِ "آل عمرانَ "، فوَصَفَ فيها المتقينَ بالإحسانِ إلى الخَلْقِ، وبالاستغفارِ من الفواحشِ وظلم النفسِ، وعدمِ الإصرارِ على ذلكَ. وهذا هو الأكملُ، وهو إحداثُ التوبة، والاستغفارُ عَقِيْبَ كل ذنبٍ مِنَ الذنوبِ صغيرًا كان أو كبيرًا، كما رُويَ أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - وصَّى بذلكَ معاذًا، وقد ذكرناهُ فيما سبَقَ. وإنما بسطنا القولَ في هذا، لأنَّ حاجةَ الخلقِ إليه شديدة، وكلّ أحد يحتاجُ إلى معرفةِ هذا، ثم إلى العملِ بمقتضاهُ، واللَّهُ الموفقُ والمعين. * * *

قوله تعالى: (ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن واسألوا الله من فضله

قوله تعالى: (وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (32) قول اللَّهِ عزَّ وجلَّ: (وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ) . فقد فُسِّرَ ذلك بالحسدِ، وهو تمنّي الرجلِ نفسَ ما أُعطي أخوهُ من أهلٍ ومالٍ وأن ينتقلَ ذلك إليهِ، وفُسِّرَ بتمنِّي ما هو ممتنع شرعًا أو قدرًا، كتمنِّي النِّساءِ أن يكنَّ رجالاً أو يكون لهن مثلُ ما للرجالِ من الفضائِل الدينيةِ، كالجهادِ. والدنيويةِ كالميراثِ والعقلِ والشهادةِ، ونحو ذلك. وقيل: إنَّ الآيةَ تشملُ ذلك كُلَّه. * * * قوله تعالى: (وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا (36) وأمَّا إكرامُ الجارِ والإحسانُ إليه، فمأمور به، وقد قال اللَهُ عزَّ وجل: (وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا) . فجمعَ اللَّهُ تعالى في هذهِ الآيةِ بينَ ذكرِ حقِّه على العبدِ وحقوقِ العبادِ على العبدِ - أيضًا - وجعلَ العبادَ

الذينَ أمرَ بالإحسانِ إليهم خمسةَ أنواع: أحدُها: من بينه وبينَ الإنسانِ قرابة، وخصَّ منهُمُ الوالدين بالذِّكرِ. لامتيازِهِمَا عن سائرِ الأقاربِ بما لا يشْركونهما فيه، فإنهما كانا السببَ في وجودِ الولدِ ولهما حقُّ التربيةِ والتأديبِ وغيرِ ذلك. الثاني: منْ هو ضعيف محتاج إلى الإحسان وهو نوعانِ: من هو محتاج لضعفِ بدنِهِ، وهو اليتيمُ، ومن هو محتاج لقلَّةَ مالِهِ، وهو المسكينُ. والثالثُ: منْ له حقُّ القُربِ والمخالطةِ، وجعلَهُم ثلاثةَ أنواعْ جار ذو قُربى، وجار جُنب، وصاحبُ بالجنبِ. وقد اختلفَ المفسرونَ في تاويلِ ذلكَ، فمنهُم من قالَ: الجارُ ذو القُربى: الجارُ الذي له قرابة، والجارُ الجُنب: الأجنبيّ، ومنهم من أدخلَ المرأةَ في الجارِ ذىِ القربى، ومنهم من أدخلها في الجار الجنب، ومنهم من أدخلَ الرَّفيقَ في السَّفرِ في الجارِ الجُنب. وقد رُوي عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يقولُ في دعائِهِ: "أعوذُ بك من جارِ السَّوءِ في دار الإقامةِ، فإنَّ جارَ الباديةَ يتحوَّلُ ". ومنهم من قال: الجارُ ذو القربى: الجارُ المسلمُ، والجارُ الجنبُ: الكافرُ. وفي "مسندِ البزارِ" من حديثِ جابرٍ مرفوعًا: "الجيرانُ ثلاثة: جار له حقّ واحد وهو أدنى الجيرانِ حقًّا، وجاز له حَقَّانِ، وجاز له ثلاثةُ حقوقٍ، وهو أفضلُ الجيرانِ حقًّا. فأمَّا الذي له حق واحد فجارْ مشركٌ لا رَحِمَ له، له حقُّ الجوارِ، وأمَّا الذي له حقَّانِ، فجارٌ مسلمٌ له حقُّ الإسلام، وحقّ الجوارِ، وأمَّا الذي له ثلاثةُ حقوقٍ، فجارٌ مسلمٌ ذو رحمٍ، له حقُّ الإسلام،

وحق الجوارِ، وحقُّ الرحم ". وقد رُوي هذا الحديثُ من وجوه أخرَ متصلةٍ ومرسلةٍ، ولا تخلو كلُّها منْ مقال. وَقيلَ: الجارُ ذو القُربى: هو القريبُ الجوارِ الملاصقُ، والجارُ الجنبُ: البعيدُ الجوارِ. وفي "صحيح البخاريِّ ": عن عائشةَ، قالتْ: قلتُ: يا رسولَ اللَّه إنَّ لي جارينِ، فإلى أيهِمَا أُهدِي؛ قالَ: "إلى أقربِهِمَا منك بابًا". وقالَ طائفة من السلفِ: حدُّ الجوارِ أربعون دارًا، وقيل: مستدار أربعينَ دارًا من كل جانبٍ. وفي "مراسيلِ الزهريِّ ": أن رجلاً أتى النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يشكُو جارًا له، فأمر النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بعضَ أصحابِهِ أن ينادِي: "ألا إنَّ أربعين دارًا جار". قال الزهريُّ: أربعون هكذا، وأربعون هكذا، وأربعون هكذا، وأربعون هكذا، يعني بين يديه ومِن خلفِهِ، وعن يمينِهِ، وعن شمالِهِ. وسئلَ الإمامُ أحمدُ عمَّن يطبخُ قدرًا، وهو في دار السبيل، ومعه في الدار نحو ثلاثين أو أربعين نفسًا: يعني أنهم سكان معه في الدارِ، فقال: يبدأ بنفسِهِ، وبمن يعول، فإن فضلَ فضل، أعطى الأقرب إليه، وكيفَ يُمكنه أن يُعطِيهُم كلَّهم؛ قيلَ لهُ: لعل الذي هو جارُهُ يتهاونُ بذلكَ القدرِ ليسَ له عنده موقعٌ؛ فرأى أنه لا يبعثُ إليه.

وأمَّا الصَّاحبُ بالجنبِ ففسره طائفةٌ بالزَّوجةِ، وفسرهُ طائفة منهم ابنُ عباسٍ بالرَّفيقِ في السفر، ولم يريدُوا إخراجَ الصاحبِ الملازِمِ في الحضرِ، إنما أرادُوا أن صحبةَ السفرِ تكفِي، فالصحبةُ الدائمةُ في الحضرِ أوْلى، ولهذا قالَ سعيدُ بنُ جبيرٍ: هو الرفيقُ الصالحُ، وقالَ زيدُ بنُ أسلمَ: هو جليسُك في الحضرِ، ورفيقُك في السفرِ، وقالَ ابنُ زيدٍ: هو الرَّجلُ يعتريكَ ويُلِمُّ بك لتنفعه. وفي "المسندِ" والترمذيِّ، عن عبدِ اللَّهِ بنِ عمرِو بنِ العاصِ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "خيرُ الأصحابِ عندَ اللهِ خيرُهم لصاحبِهِ، وخيرُ الجيرانِ عند اللهِ خيرُهُم لجارِهِ ". الرابعْ: من هو واردٌ على الإنسانِ، غيرُ مقيم عندَهُ، وهو ابن السبيلِ: يعني المسافرَ إذا وردَ إلى بلد آخرَ، وفسَّره بعضُهم بالضَّيفِ: يعني به ابنَ السبيلِ إذا نزلَ ضيفًا على أحدٍ. والخامس: ملكُ اليمين، وقد وصَّى النبي - صلى الله عليه وسلم - بهم كثيرًا وأمر بالإحسانِ إليهم، ورُوي أنَّ آخرَ ما وصَّى به عندَ موتِهِ: "الصَّلَاةَ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ". وأدخل بعضُ السلفِ في هذه الآيةِ: ما يملُكُه الإنسانُ من الحيواناتِ والبهائم. * * *

قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ولا جنبا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا

قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا (43) [قال البخاريُّ] : "كتابُ الغُسْلِ "، وقولُ اللَّهِ تعالى: (وَإِن كنتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَروا) إلى قوله: (لَعَلَّكُمْ تَشْكرُونَ) ، وقوله: (يَا أَيّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى) إلى قولِهِ: (عَفُوًّا غَفْورًا) . صدَّر البخاريُّ - رحمه اللَّهُ - "كتابَ الغُسْلِ " بهاتينِ الآيتينِ، لأن غُسلَ الجنابةِ مذكورٌ فيهما. أما قولُه تعالى: (وَإِن كنتُمْ جُنُبًا فَاطَهَّرُوا) ، فأمْر للجنبِ إذا قام إلى الصلاة أن يتطهَّر. وتطهُّرُ الجُنبِ هو غُسْلُه، كما في تطهُّر الحائضِ إذ انقطعَ دمُها، ولهذا قال تعالى: (وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ) . والمرادُ بتطهرهنَّ: اغتسالُهُنَّ عند جمهورِ العلماءِ، فلا يُباحُ وطؤها حتى تغتسلَ، وسيأتي تفسيرُ الآيةِ في "كتابِ الحيضِ " - إن شاء اللَّهُ تعالى. وأما قولُه تعالى: (لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا) ، فنهْي عن قُربانِ الجنبِ الصلاةَ حتى يغتسلَ، فصرَّح هُنا بالغُسْلِ، وهو تفسيرُ التطهيرِ المذكورِ في آيةِ المائدةِ. وهل المرادُ: نهيُ الجنبِ عن قُربانِ الصلاةِ حتى يغتسلَ، إلا أن يكونَ

مسافرًا - وهو عابرُ السبيلِ -، فيعدمُ الماءَ، فيصلِّي بالتيمم؛ أو المرادُ: نهيُ الجنبِ عن قربانِ موضع الصلاةِ - وهو المسجدُ - إلا عابرَ سبيل فيه. غيرَ جالسٍ فيه، ولا لابث؛ هذا مما اختلفَ فيه المفسرونَ من السلفِ. وبكلِّ حالٍ؛ فالآيةُ تدلُّ على أن الجنبَ ما لم يغتسلَ مَنْهِيّ عن الصلاةِ، أو عن دخولِ المسجدِ، وأنَّ استباحةَ ذلك يتوقفُ على الغسلِ، فيُستدلُّ به على وجوبِ الغُسل على الجنبِ إذا أرادَ الصلاةَ، أو دخولَ المسجدِ. * * * وقد تأول طائفةٌ من الصحابةِ قولَ اللَّهِ عزَّ وجلَّ: (لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقولُونَ وَلا جُنُبًا إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا) . بأنَّ المرادَ: النهيُ عن قُربانِ موضع الصلاةِ - وهو المسجدُ - في حالِ الجنابةِ، إلا أن يكونَ عابرَ سبيلٍ، وهو المجتازُ به من غيرِ لبثٍ فيه. وقد رُوي ذلك عن ابنِ مسعودٍ، وابنِ عباسٍ، وأنسٍ - رضي الله عنهم -. وفي "المسندِ" عن ابنِ عباسٍ، أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - سدَّ أبوابَ المسجدِ غيرَ بابِ عليٍّ. قالَ: "فيدخلُ المسجدَ جنبًا، وهو طريقُه ليسَ له طريق غيرُهُ ". وروى ابنُ أبي شيبة بإسنادِهِ، عن العوامِ، أن عليًا كان يمرُّ في المسجدِ وهو جنب.

قوله تعالى: (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد افترى إثما عظيما (48)

وبإسنادِهِ، عن جابرٍ، قالَ: كانَ أحدُنا يمشِي في المسجدِ وهو جنبٌ. مجتازًا. وخرَّجه - أيضًا - سعيدُ بنُ منصورٍ وابنُ خزيمةَ في "صحيحِهِ ". وعن زيدِ بن أسلمَ، قالَ: كان أصحابُ رسولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يمشون في المسجدِ، وهمْ جنبٌ. خرَّجه ابنُ المنذرِ وغيرُه. * * * وخرَّج ابنُ أبي حاتمٍ من روايةِ قيسٍ، عن خُصيفٍ، عن مجاهدٍ، في قولِهِ تعالى: (وَإِن كنتُم مَّرْضَى) ، قالَ: نزلتْ في رجلٍ من الأنصارِ. كان مريضًا فلم يستطع أن يقومَ فيتوضأ، ولم يكنْ له خادم فيناولَهُ، فأتى رسولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فذكر ذلك لهُ، فأنزلَ اللَّهُ تعالى هذهِ الآية. * * * قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا (48) قالَ تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ..) ، فمن جاء مع التوحيدِ بقُرابِ الأرضِ - وهو ملؤُهَا، أو ما يقاربُ ملأَهَا - خطايا، لقيَهُ اللَّهُ بقرابِهَا

مغفرة، لكنْ هَذا مع مشيئةِ اللَّهِ - عزَّ وجلَّ -، فإن شاء غفرَ له، وإن شاءَ أخذه بذنوبِهِ، ثم كان عاقبتُهُ ألاَّ يُخلَّدَ في النار، بل يخرج منها، ثم يدخلُ الجنَةَ. قال بعضُهم: الموحِّد لا يُلقى في النارِ كما يُلقى الكفارُ، ولا يَلقى فيها ما يَلقى الكفارُ، ولا يبقى فيها كما يبقى الكفارُ، فإنْ كَمُلَ توحيدُ العبدِ وإخلاصُه للَّهِ فيه، وقامَ بشروطِهِ كلها بقلبِهِ ولسانِهِ وجوارحِهِ، أو بقلبِهِ ولسانِهِ عندَ الموتِ، أوجبَ ذلك مغفرةَ ما سلفَ من الذنوبِ كلِّها، ومنعَهُ من دخولِ النَّارِ بالكليةِ. فمن تحقَّق بكلمةِ التوحيدِ قَلبُه أخرجَتْ منه كلَّ ما سوى الله محبةً وتعظيمًا وإجلالا ومهابةً، وخشيةً، ورجاءً وتوكُّلاً، وحينئذٍ تحرَقُ ذنوبه وخطاياهُ كلُّها ولو كانتْ مثلَ زبدَ البحرِ، وربما قلبتَها حسناتٍ، كما سبق ذكره في تبديلِ السيئاتِ حسناتٍ، فإنَّ هذا التوحيدَ هو الإكسيرُ الأعظمُ، فلو وُضع ذرَّة منها على جبالِ الذنوبِ والخطايا، لقلبها حسناتٍ، كما في "السندِ" وغيره، عن أم هانِئ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: "لا إله إلا اللَّهُ لا تترُكُ ذنبا ولا يسبِقها عمل ". وفي "المسندِ" عن شدَّادِ بنِ أوسٍ، وعبادة بن الصامت أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال لأصحابِهِ: "ارفعُوا أيديَكم، وقولُوا: لا إلهَ إلا اللًّهُ "، فرفعنا أيدينا ساعةً، ثم وضعَ رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يدَهُ، ثم قالَ: "الحمدُ اللَّهِ، اللهُمَّ بعثتني بهذهِ الكلمةِ، وأمرتنِي بهَا، ووعدتنِي الجنةَ عليْهَا، وإنَّك لا تُخلِفُ الميعادَ"، ثم قالَ: " أبشِرُوا، فإن اللهَ قد غفرَ لكُم".

قوله تعالى: (إن الذين كفروا بآياتنا سوف نصليهم نارا كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب إن الله كان عزيزا حكيما (56)

*** قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا (56) قال اللَّهُ عزَّ وجلَّ: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ) . روى نافعٌ مولى يوسف السلمي عن نافع عن ابنِ عمرَ، قالَ: قرأ رجلٌ عندَ عمرَ هذه الآيةَ: (كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا) . فقال عمرُ: أعِدْ علي فأعادَهَا عليهِ، فقال معاذُ بنُ جبلٍ: عندي تفسيرُها، تبدَّل في الساعةِ الواحدةِ مائةَ مرة، فقال عمرُ: هكذا سمعتُ رسولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -. خرَّجه ابنُ أبي حاتمٍ وابنُ مردويه. وخرَّجه ابنُ مردويهِ أيضًا من طريقِ نافع أبي هرمز أنبانا نافعٌ عن ابنِ عمرَ قال: تلا رجلٌ عندَ عمرَ هذه الآيةَ: (كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا) ، فقال عمرُ: أعِدْه عليَّ، وثَمَّ كعب، فقالَ: يا أميرَ المؤمنينَ أنا عندِي تفسيرُ هذه الآيةِ قرأتُها قبلَ الإسلام، قالَ: فقالَ: هاتِهَا يا كعبُ، فإن جئت به كما سمعتُ من رسولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - صدَّقناك، وإلا لم ننظرْ إليها. قالَ: إني قرأتُها قبلَ الإسلامِ: ((كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا) ، في الساعة الواحدة عشرينَ ومائةَ مرة، فقالَ عمرُ: هكذا سمعتُ من رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -.

قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خ

نافع أبو هرمزٍ ضعيفٌ جدًّا، وهو نافعُ مولى يوسفَ السلمي أيضًا، عند طائفةٍ من الحفاظ منهم ابن عدي، ومنهم من قال: هما اثنانِ وكلاهما ضعيفٌ. وروى الربيعُ بنُ برةَ عن الفضلِ الرقاشيِّ أنَّ عمرَ سألَ كعبًا عن هذه الآيةِ فقالَ: إن جلَدَه يحرقُ ويجدَد في ساعةٍ أو في مقدارِ ساعةٍ مائةَ ألفِ مرةٍ. قال عمرُ: صدقتَ، وهذا منقطعٌ. وروى ثوير بن أبي فاختة - وهو ضعيفٌ - عن ابنِ عمرَ أنه قالَ في هذه الآية ِ: إذا أُحرقتْ جلودُهُم بُدلُوا جلودًا بيضاءَ أمثالِ القراطيس. خرَّجه ابنُ أبي حاتمٍ. وخرَّج أيضًا بإسنادِهِ عن يحي بن يزيدَ الحضرميِّ أنه بلغه في هذهِ الآيةِ. قالَ: يجعلُ اللَّهُ للكافرِ مائةَ جلدٍ لين كلِّ جلدين لونٌ من العذابِ. وعن هشامٍ عن الحسنِ في هذهِ الآيةِ، قالَ: تأكلُهُم النارُ كلَّ يومٍ سبعينَ ألفَ مرةٍ كلما أكلتهم قيلَ لهُم: عودُوا، فيعودُون كما كانوا. وعن الربيع بنِ أنسٍ، قالَ: مكتوبٌ في الكتابِ الأولِ أن جلدَ أحدِهِم أربعونَ ذراعًا، وسنَّه تسعونَ ذراعًا، وبطنَهُ لو وُضِعَ فيه جبلٌ لوسعَهُ، فإذا أكلتِ النارُ جلودَهُم بُدلُوا جلودًا غيرَها. * * * قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (59)

قوله تعالى: (لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة

وسُئل عكرمة عن أمِّ الولدِ؟ فقالَ: تعتقُ بموتِ سيِّدها فقيلَ لهْ بأيِّ شيء تقولُ؟ قالَ: بالقرآنِ، قالَ: بأيِّ القرآنِ؟ قالَ: (أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) ، وعمرُ من أولي الأمر. وقال وكيعٌ: إذا اجتمع عمرُ وعليٌّ على شيء، فهو الأمرُ. ورُوي عن ابنِ مسعودٍ أنَّه كان يحلفُ بالله: إنَّ الصراطَ المستقيمَ هو الذي ثبتَ عليه عمرُ حتى دخلَ الجنة. * * * قوله تعالى: (لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (95) دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (96) قوله تعالى: (فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (95) دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً) . قال ابنُ عباسٍ وغيرُهُ؛ القاعدونَ المفضَّلُ عليهم المجاهدونَ درجةً هم القاعدونَ من أهلِ الأعذارِ، والقاعدونَ المفضَّل عليهم المجاهدون درجات هم القاعدونَ من غيرِ أهلِ الأعذارِ.

قوله تعالى: (وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا إن الكافرين كانوا لكم عدوا مبينا (101)

قوله تعالى: (وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا (101) وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (102) [قالَ البخاريُّ] : وقول اللَّه عزَّ وجلَّ: (وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا (101) وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ) إلى قولِهِ: (إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا) . قوله تعالى: (وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاح أَن تَقْصُرُوا منَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا) . قد ذكر طائفة من السلفِ أنها نزلتْ في صلاةٍ في السفرِ، لا في صلاةِ السفرِ بمجردِهِ، ولهذا ذكرَ عقيبها قولَه تعالى: (وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ) .

ثمَّ ذكر صفةَ صلاةِ الخوفِ، فكان ذلك تفسيرًا للقَصْرِ المذكورِ في الآيةِ الأولى. وهذا هو الذي يُشير إليه البخاريُّ، وهو مَرْوي عن مُجاهد والسُّدِّيِّ والضَّحَّاكِ وغيرِهِم، واختارَهُ ابنُ جريرٍ وغيرُهُ. وتقديرُ ذلك من وَجْهَيْنِ: أحدُهُما: أنَّ المراد بقصرِ الصلاةِ قصرُ أركانِها بالإيماءِ ونحوهِ، وقصرُ عددِ الصلاةِ إلى ركعةٍ، فأمَّا صلاة السفرِ، فإنها ركعتانِ، وهي تمامٌ غيرُ قصرٍ، كما قاله عمرُ - رضي الله عنه -. ورَوى سماكٌ الحنفيُّ، قالَ: سمعتُ ابنَ عمرَ، يقولُ: الركعتانِ في السفرِ تمامٌ غيرُ قصرٍ، إنما القصرُ صلاةُ المخافةِ. خرَّجه ابنُ جريرٍ وغيرُه. ورَوى ابنُ المباركِ عن المسْعُودِيِّ، عن يزيدَ الفقِيرِ، قالَ: سمعتُ جابرَ بنَ عبدِ اللَّهِ يُسألُ عن الركعتينِ في السفرِ، أقصْرٌ هُما؟ قال: إنَّما القصرُ ركعةٌ عند القتال، وإن الركعتينِ في السفرِ ليستا بقصرٍ. وخرَّج الجوزَجانيُّ من طريقِ زائدةَ بنِ عُميرٍ الطَّائيِّ، أنه سأل ابنَ عباسٍ عن تقصيرِ الصلاةِ في السفرِ، قال: إنها ليستْ بتقصير، هما ركعتانِ من حين تخرجُ من أهلِكَ إلى أن ترجعَ إليهم.

وخرَّج الإمامُ أحمد بإسنادٍ منقطع، عن ابنِ عباسٍ، قالَ: صلَّى رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ركعتينِ ركعتينِ، وحين أقامَ أربعًا أربعًا، وقال ابن عباسٍ: فمن صلَّى في السفرِ أربعًا كمن صلَّى في الحضرِ ركعتينِ. وقال ابنُ عباسٍ. لم تُقصر الصلاةُ إلا مرَّةً واحدةً حيثُ صلَّى رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ركعتنِ، وصلَّى الناسُ ركعةً واحدةً. يعني: في الخوفِ. وروى وكِيع، عن سفيانَ، عن سالمٍ الأفْطسِ، عن سعيدِ بنِ جبيرٍ، قالَ: صلَّى رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - صلاةَ الخوفِ ركعةً ركعةً. قال سعيد: كيف تكون مقصورةً وهما ركعتانِ. والوجهُ الثاني: أن القصرَ المذكورَ في هذهِ الآيةِ مطلق، يدخلُ فيه قصرُ العددِ، وقصرُ الأركانِ، ومجموعُ ذلك يختصُّ بحالةِ الخوفِ في السفرِ، فأمَّا إذا انفردَ أحدُ الأمرينِ - وهو السفرُ أو الخوف - فإنه يختصّ بأحدِ نوعي القصرِ، فانفرادُ السفرِ يختصُّ بقصرِ العددِ، وانفرادُ الخوفِ يختصُّ بقصرِ الأركانِ. لكنْ هذا مما لم يُفهم من ظاهرِ القرآنِ، وإنما بيَّن دلالته عليه رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، والآيةُ لا تنافيه، وإن كانَ ظاهرُها لا يدلُّ عليه، والله سبحانه وتعالى أعلمُ. وقيلَ: إنَّ قولَه: (وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تقصُروا مِنَ الصَّلاةِ)

نزلتْ بسببِ القصر في السفرِ من غيرِ خوفٍ، وأنَّ بقيةَ الآية ِ مع الآيتينِ بعدَها نزلتْ بسببِ صلاةِ الخوفِ. رُوي ذلك عن عليٍّ - رضي الله عنه -. خرَّجه ابنُ جريرٍ عنه، بإسنادٍ ضعيفٍ جدًّا، لا يصحُّ. واللَّه سبحانه وتعالى أعلمُ. وقد رُوي ما يدلُّ على أنَّ الآيةَ الأُولى المذكورَ فيها قصرُ الصلاةِ إنما نزلتْ في صلاةِ الخوفِ. فروى منصورٌ، عن مجاهدٍ، عن أبي عيَّاشٍ الزرقي، قالما: كنا مع رسولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بعُسْفان - وعلى المشركينَ خالدُ بنُ الوليدِ - فصلَّيْنا الظهرَ، فقال المشركونَ: لقد أصبْنا غِرَّةً، لقد أصبْنَا غفْلةً، لو كنا حمَلْنا عليهم وهُم في الصلاةِ، فنزلتْ آيةُ القصرِ بينَ الظهرِ والعصرِ، فلما حضرتِ العصرُ قامَ رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مستقبلَ القبلةِ، والمشركونَ أمامَه، فصفَّ خلفَ رسولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -. صفٌّ، وصف بعد ذلك الصفِّ صفٌّ آخر، فركعَ رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وركعُوا جميعًا، ثم سجدُوا وسجدَ الصفُّ الذين يلُونَه، وقام الآخرونَ يحرسونَهم، فلما صلَّى هؤلاءِ سجدتينِ وقاموا، سجدَ الآخرونَ الذين كانوا خلفَه، ثم تأخَّر الصفُّ الذي يليه إلى مقامِ الآخرينَ، وتقدَّمَ الصفُّ الآخرُ إلى مقامِ الصفِّ الأولِ، ثم ركعَ رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وركعُوا جميعًا، ثم سجدَ وسجدَ الصفُّ الذي يليه، وقام الآخرونَ يحرسونَهم، فلما جلسَ رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - والصفُّ الذي يليه سجدَ الآخرونَ، ثم جلَسُوا جميعًا فسلَّم عليهم

جميعًا، فصلاَّها بعُسْفان، وصلاَّها يومَ بني سُلَيْم. خرَّجه الإمامُ أحمدُ وأبو داودَ - وهذا لفظُه - والنسائيُّ وابنُ حبانَ في " صحيحِه " والحاكم، وقال: على شرطِهما. وفي رواية للنسائيِّ وابنِ حبان، عن مجاهدٍ: نا أبو عيَّاشٍ الزرقيُّ. قالَ: كُنَّا مع رسولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -. . . فذكرَهُ. ورَدَّ ابنُ حبانَ بذلك على من زعَمَ: أن مجاهدًا لم يسمعْه من أبي عيَّاشٍ. وأن أبا عياش لا صُحبة له. كأنه يشيرُ إلى ما نقله الترمذيُّ في "عللِهِ " عن البخاريِّ، أنه قالَ: كلّ الرواياتِ عندي صحيحٌ في صلاةِ الخوفِ، إلا حديثُ مجاهدِ عن أبي عياش الزرقيِّ، فإني أراه مرسلاً. وابن حبانَ لم يَفهْم ما أرادَه البخاريُّ، فإنَّ البخاريَّ لم ينكرْ أن يكونَ أبو عيَّاشٍ له صحبة، وقد عَدَّة في "تاريخه " من الصحابةِ، ولا أنكرَ سماعَ مجاهدٍ من أبي عيَّاشٍ، وإنَّما مرادُه: أن هذا الحديثَ الصوابُ: عن مجاهدٍ إرسالُهُ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - من غيرِ ذكرِ أبي عياشٍ، كذلك رواهُ أصحابُ مجاهدٍ، عنهُ بخلافِ روايةِ منصورٍ، عنه، فرواهُ عكرمةُ بنُ خالدٍ وعُمر بن ذَرٍّ وأيوبُ ابنُ موسى ثلاثتُهم عن مجاهدٍ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - مرسلاً من غيرِ ذكرِ أبي عياشٍ.

وهذا أصحّ عند البخاريِّ، وكذلكَ صحَّح إرسالَهُ عبدُ العزيز النخشبيُّ وغيرُهُ من الحفاظِ. وأما أبو حاتمٍ الرازيُّ، فإنَّه قال - في حديثِ منصور، عن مجاهدٍ، عن أبي عياشٍ -: إنه صحيحٌ، قيل له: فهذه الزيادةُ "فنزلتْ آيةُ القصرِ بينَ الظهرِ والعصرِ" محفوظة هي؛ قالَ: نعم. وقال الإمامُ أحمدُ: كُلُّ حديثٍ رُوي في صلاةِ الخوفِ فهو صحيحٌ. وقد جاءَ في روايةٍ: فنزلتْ: (وَإِذَا كنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ) . وهذا لا ينافي روايةَ: "فنزلتْ آيةُ القصرِ" بل تبيَّن أنه لم تنزل آيةُ القصرِ بانفرادِها في هذا اليومِ، بل نزل معها الآيتانِ بعدَها في صلاةِ الخوفِ. وهذا كلّه مما يشهد بأن آية القَصْرِ أُريدَ بها قصْرُ الخوفِ في السفرِ، وإنْ دلَّت على قصرِ السفرِ بغيرِ خوفٍ بوَجْهٍ من الدلالةِ، واللَّهُ سبحانه وتعالى أعلمُ. [قالَ البخاريُّ] : نا أبو اليمانِ: ثنا شُعيْب عن الزُّهريِّ، قالَ: سألتُهُ: هلْ صلَّى النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - صلاةَ الخوفِ؟ فقالَ: أخبرني سالمٌ أنَّ عبدَ اللَّه بنَ عُمرَ. قالَ: غزوتُ معَ رسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قبلَ نَجْدٍ، فوازَيْنا العدُوَّ، فصاففنا لهُم، فقام رسول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُصلِّي لنا، فقامتْ طائفةٌ معَهُ وأقْبلتْ طائفة على العدوِّ، وركعَ رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بمن معَهُ وسجدَ سجْدتيْنِ، ثمَّ انصرفُوا مكانَ الطائفة التي لم تُصَلِّ، فجاءُوا فركعَ رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بهم ركعةً وسجدَ سجْدتينِ، ثم سلَّمَ، فقامَ كُل واحدٍ منهم فركعَ لنفْسِهِ ركعة وسجدَ سجدتينِ ".

وخرَّجه في موضع آخرَ من روايةِ معمرٍ. وخرَّجه مسلمٌ من روايةِ معمرٍ وفُلَيْح كلاهُما، عن الزهريِّ، به - بمعناه. وقد رُوي عن حُذيفةَ نحوُ روايةِ ابنِ عمرَ - أيضًا. خرَّجه الطبرانيُّ من روايةِ حكَّام بنِ سلْم، عن أبي جعفرٍ الرازيِّ، عن قتادةَ، عن أبي العاليةِ، قالَ: صلَّى بَنا أبو موسى الأشْعريُّ بأصبهانَ صلاةَ الخوفِ، وما كانَ كبيرُ خوْفٍ؛ ليريَنا صلاةَ رسولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فقام فكبَّرَ، وكبَّرَ معه طائفة من القومِ، وطائفة بإزاء العدوِّ، فصلَّى بهم ركعة فانصرفوا، وقامُوا مقامَ إخوانِهِم، فجاءت الطائفةُ الأخرى فصلَّى بهم ركعةً أخرى، ثم سلَّمَ، فصلَّى كل واحدٍ منهمُ الركعةَ الثانية وُحْدَانًا. ورواه سعيدُ بنُ أبي عَروبةَ، عن قتادةَ، عن أبي العاليةِ، أنَّ أبا موسى كان بالدارِ من أرضِ أصبهانَ، وما بها كَبيرُ خوفٍ، ولكن أحب أن يعلِّمهم دينَهم وسنةَ نبيِّهم، فجعلَهم صفَّينِ: طائفةً معها السلاحُ مُقْبِلةً على عدوِّها، وطائفةً من ورائهَا، فصلَّى بالذين بإزائِه ركعةً، ثم نكصُوا على أدبارِهم حتى قامُوا مقامَ الأخرَى، وجاءُوا يتخفَلونَهم حتى قاموا وراءَه فصلَّى بهم ركعةً أخرَى، ثم سلَّم، فقام الذين يلونَه والآخرونَ فصلَّوا ركعةً ركعةً، ثم سلَّم بعضُهم على بعضٍ، فتمَّتْ للإمامِ ركعتانِ في جماعةٍ، وللناسِ ركعةٌ ركعة.

يعني: في جماعةٍ. خرَّجه ابنُ أبي شيبة، وعنه بقيُّ بنُ مَخْلدٍ في "مسندهِ ". وهو إسنادٌ جيدٌ. وهو في حكمُ المرفوع، لما ذكر فيه من تعليمِهم بسُنةِ نبيِّهم. ورواه أبو داود الطيالسيُّ، عن أبي حُرَّةَ، عن الحسنِ، عن أبي موسى، أنَّ رسولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - صلَّى بأصحابهِ - فذكرَ نحوَه، وفيه زيادةٌ على حديثِ ابنِ عُمرَ: أنَّ الطائفة الأولى لما صلَّت ركعة وذهبتْ لم تستدبر القبلةَ، بل نَكَصَتْ على أدبارِها. ورُويَ - أيضًا - عن ابنِ مسعود، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك، من روايةِ خُصَيفٍ، عن أبي عُبيدةَ، عن عبدِ اللَّهِ، قالَ: صلَّى بنا رسول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - صلاةَ الخوفِ، فقامُوا صفَّين، فقامَ صفٌّ خلفَ رسولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، وصفٌّ مُستقبلَ العدوِّ، فصلَّى رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بالصفِّ الذين يلُونَه ركعةً، ثم قامُوا فذهبُوا، فقامُوا مقامَ أولئك مستقبلي العدوِّ، وجاءُوا أولئك فقامُوا مقامَهم. فصلَّى بهم رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ركعةً، ثم سلَّم، ثم قامُوا فصلَّوا لأنفسِهِم ركعةً، ثم سلَّموا ثم ذهبُوا، فقامُوا مقامَ أولئك مستقبلي العدوِّ، ورجع أولئك إلى مقامِهِم، فصلَّوْا لأنفسهِمِ ركعةً ثم سلَّموا. خرَّجه الإمامُ أحمدُ - وهذا لفظُه - وأبو داودَ - بمعناه. وخُصَيفٌ، مختلَفٌ في أمر، وأبو عُبيدةَ لم يسمعْ من أبيهِ، لكن

رواياتُه عنه أخذَها عن أهلِ بيتِه، فهي صحيحة عندهم. وهذه الصفةُ توافقُ حديثَ ابنِ عمرَ وحذيفةَ، إلا في تقدُّمِ الطائفةِ الثانيةِ بقضاءِ ركعةٍ، وذَهابهم إلى مقامِ أولئك مستقبلي العدوِّ، ثم مجيءِ الطائفة الأولَى إلى مقامِهم فقضوْا ركعةً. وحديثُ ابنِ عمرَ وحذيفةَ فيهما: قيامُ الطائفتينِ يقضُون لأنفسِهِم. وظاهرُهُ: أنهم قامُوا جملةً وقضَوْا ركعة ركعةً وُحْدَانًا. وقد رواه جماعة، عن حصيف، عن أبي عُبيدةَ، عن ابنِ مسعودٍ، وزادُوا فيه: أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - كبَّر وكبَّر الصفاَّنَ معه جميعًا. وقد خَرَّجه كذلك الإمامُ أحمدُ وأبو داود. وزاد الإمامُ أحمدُ: "وهمْ في صلاةٍ كلُّهم ". واختلفَ العلماءُ في صلاةِ الخوفِ على الصفةِ المذكورةِ في حديثِ ابنِ عُمرَ وما وافقَهُ: فذهبَ الأكثرونَ إلى أنها جائزة وحسنة، وإن كان غيرُها أفضلَ منها، هذا قولُ الشافعيِّ - في أصحِّ قوليه - وأحمدَ وإسحاقَ وغيرِهم. وقالت طائفةٌ: هي غيرُ جائزة على هذه الصفةِ، لكثرةِ ما فيه من الأعمالِ المباينةِ للصلاةِ من استدبارِ القبلةِ والمشىِ الكثيرِ، والتخلُّفِ عن الإمامِ، وادَّعَوا أنها منسوخة، وهو أحدُ القولينِ للشافعيِّ. ودعوى النسخ ها هنا لا دليلَ عليها.

وقالتْ طائفة: هي جائزةٌ كغيرِها من أنواع صلاةِ الخوفِ الواردةِ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، لا فضلَ لبعضِها على بعضٍ، وهو قولُ إسحاقَ -: نقله عنه ابن ُمنصورٍ. ونقلَ حرب عن إسحاقَ، أن حديثَ ابنِ عمرَ وابنِ مسعودٍ يعملُ به إذا كانَ العدوُّ في غير جهةِ القبلةِ. وكذلك حكى بعضُ أصحابِ سفيانَ كلامَ سفيانَ في العملِ بحديثِ ابنِ عُمرَ على ذلك. وقالتْ طائفة: هي أفضلُ أنواع صلاةِ الخوفِ، هذا قولُ النخعيِّ، وأهلِ الكوفةِ وأبي حنيفةَ، وأصحابِهِ، ورواية عن سفيانَ، وحكيَ عن الأوزاعيِّ وأشهبَ المالكيِّ. وروى نافع، أنَ ابنَ عمرَ كان يعلِّم الناسَ صلاةَ الخوفِ على هذا الوجهِ. وحُكِي عن الحسنِ بنِ صالح، أنه ذهبَ إلى حديثِ ابنِ مسعودٍ، وفيه: أن الطائفةَ الثانيةَ تصلِّي مع الإمامِ الركعةَ الثانيةَ، ثم إذا سلَّم قضتْ ركعةً، ثم ذهبتْ إلى مكانِ الطائفةِ الأولى، ثم قضت الطائفةُ الأولَى ركعةً، تم تسلِّمُ. وقد قيلَ: إنَّ هذا هو قولُ أشهبَ. وحكَى ابنُ عبدِ البر، عن أحمدَ، أنَّه ذهبَ إلى هذا - أيضًا. وقال بعضُ أصحابِنا: هو أحسنُ من الصلاةِ على حديثِ ابنِ عمر" لأنَّ صلاةَ الطائفةِ الثانيةِ خلتْ عن مفسدٍ بالكليةِ.

وحُكي عن أبي يوسفَ ومحمدٍ والحسنِ بن زيادٍ والمزَنيِّ: أنَّ صلاةَ الخوفِ لا تجوز بعد النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، لظاهرِ قولِ اللَّهِ تعالى: (وَإِذَا كنتَ فِيهِم فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ منْهُم مَّعَكَ) الآية. قالُوا: وإنَّما يصلِّي الناسُ صلاةَ الخوفِ بعدَهُ بإمامين، كلُّ إمامٍ يصلي بطائفةٍ صلاةً تامةً، ويسلِّم بهم. وهذا مردودٌ بإجماع الصحابةِ على صلاتِها في حروبِهم بعدَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وقد صلاَّها بعدَهُ: عليٌّ بنُ أبي طالبٍ، وحذيفةُ بنُ اليمانِ، وأبو موسى الأشعريُّ، مع حضورِ غيرِهم من الصحابةِ، ولم ينكرْه أحدٌ منهم. وكان ابنُ عمرَ وغيرُه يعلِّمون الناسَ صلاةَ الخوفِ، وجابرٌ، وابنُ عباس وغيرُهما يروونها للناس تعليمًا لهم، ولم يقل أحدٌ منهم: إن ذلك من خصائصِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -. وخطابُه - صلى الله عليه وسلم - لا يمنعُ مشاركةَ أُمَّتِه له في الأحكام، كما في قوله تعالى: (يَا أَيهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ) . وقوله. (خُذ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ) . وحُكي عن مالكٍ، أنها تجوزُ في السفرِ دون الحضرِ، وهو قول عبدِ الملكِ ابنِ الماجشونِ من أصحابِهِ. ويحتجُّ له بحملِ آيةِ القصرِ على صلاةِ الخوفِ، وقد شُرط لها شرطانِ: السفرُ والخوفُ، كما سبقَ، ولأنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - إنَّما كان يصلِّي صلاةَ الخوفِ في

أسفارِهِ، ولم يصلِّها في الحضرِ مع أنه حُوصرَ بالمدينةِ عامَ الخندقِ، وطالتْ مدةُ الحصارِ، واشتدَّ الخوفُ، ولم يصلِّ فيها صلاةَ الخوفِ. وقد قيلَ: إنَّ صلاةَ الخوفِ إنَّما شُرعتْ بعدَ غزوةِ الأحزاب في السنةِ السابعةِ. وقد ذكرَ البخاريُّ في "المغازي " من "كتابِهِ " هذا - تعليقًا - من حديثِ عِمرانَ القطَّانِ، عن يحيى بن أبي كَثيرٍ، عن أبي سلمةَ، عن جابرٍ، قال: صلَّى رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بأصحابِهِ في الخوفِ في غزوةِ السابعةِ: غزوةِ ذاتِ الرقاع. وخرَّجه الإمامُ أحمد من روايةِ ابنِ لهيعةَ، عن أبي الزبيرِ، عن جابرٍ. قالَ: غزَا رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - سِتَّ مِرَارٍ قبلَ صلاةِ الخوفِ، وكانتْ صلاةُ الخوفِ في السابعةِ. وقد تقدَّمَ في حديثِ أبي عيَّاشٍ، أنَّ أولَ صلاةِ الخوفِ كانت بعُسْفانَ. وعلى المشركين خالدٌ. وقد روى الواقديُّ بإسنادٍ له، عن خالدِ بنِ الوليدِ، أنَّ ذلك كان في مخْرج النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - إلى عُمرةِ الحديبيةِ. وقد تقدَّمَ أنَّ أبا موسى صلَّى بأصبهَانَ هذه الصلاةَ، ولم يكن " هناك كبيرُ خوفٍ، وإنَّما صلَّى بهم ليعلِّمَهم سنةَ صلاةِ الخوفِ. وهذا قد يحملُ على أن كانَ ثمَّ خوفٌ يُبيحُ هذه الصلاةَ، ولم يكن وُجد

قوله تعالى: (فإذا قضيتم الصلاة فاذكروا الله قياما وقعودا وعلى جنوبكم فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا (103)

خوفٌ شديدٌ يبيحُ الصلاةَ بالإيماءِ. وقد قالَ أصحابُنا وأصحابُ الشافعيّ: لو صلَّى صلاةَ الخوفِ على ما في حديثِ ابنِ عُمرَ في غيرِ خوف لم تصح صلاةُ المأمومين كلهم؛ لإتيانِهِم بما لا تصحُّ معه الصلاةُ في غيرِ حالةِ الخوفِ من المشي والتخلّفِ عن الإمامِ. فأما الإمامُ، فلأصحابِنا في صلاتِهِ وجهانِ، بناءً على أنَّ الإمامَ إذا بَطَلَتْ صلاةُ منْ خلفَه، فهل تبطلُ صلاتُهُ لنيته الإمامةَ وهو منفردٌ، أو يتمُّها منفردًا وتصحُّ؛ وفيه وجهان للأصحابِ. * * * قوله تعالى: (فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا (103) [قالَ البخاريُّ] : وقولُ الله عزَّ وجلِّ: (إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ علَى الْمُؤْمِنِينَ كتَابًا مَّوْقُوتًا) ، مُوَقَتَا، وَقًّتَهُ علَيْهِم. أمَّا "الكتابُ " فالمرادُ به: الفرْضُ ولم يُذْكَر في القرآن لفظُ الكتاب وما تصرَّف منه إلا فيما هو لازِم: إمَّا شرعًا، مثل قوله: (كُتِبَ عَلَيْكمْ الصِّيَامُ) ، (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ) ، وقوله: (كتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ) . وإمَّا قدرًا، نحو قوله: (كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَن أَنَا وَرُسُلِي) . وقوله: (وَلَوْلا أَن كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ) .

وأما قوله: (مَوْقُوتًا) ففيه قولان: أحدهما: أنه بمعنى المؤقَتِ في أوقات معلومة، وهو قولُ ابنِ مسعودٍ وقتادةَ وزيد بن أسلمَ، وهو الذي ذكره البخاريّ هنا، ورجَّحه ابنُ قُتيبةَ وغيرُ واحدٍ. قال قتادةُ في تفسيرِ هذهِ الآيةِ: قال ابنُ مسعود: إنَّ للصلاةِ وقتًا كوقتِ الحجَ. وقال زيدُ بنُ أسلمَ: مُنجَّمًا، كلما مضى نَجْمٌ جاء نَجْمٌ، يقول: كلما مضى وقت جاء وقت. وقالتْ طائفةٌ: معنى (مَوْقُوتًا) : مفروضًا أو واجبًا: قاله مجاهدٌ والحسنُ وغيرُهُما. ورَوَى عليّ بن أبي طلحة، عن ابنِ عباس، قال: يعني: مفروضًا. وتأوَّل بعضُهم الفرضَ هنا على التقدير، فرَجعَ المعنى حينئذٍ إلى تقديرِ أعدادِها ومواقيتِها، واللَّهُ أعلمُ. وقال الشافعيّ: الموقوتُ - واللَّهُ أعلمُ -: الوقتُ الذي تُصلَّى فيه وعددُها.

قوله تعالى: (لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضات الله فسوف نؤتيه أجرا عظيما (114)

قوله تعالى: (لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (114) وقوله: (لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (114) فنَفَى الخيرَ عن كثيرٍ مما يتناجى به الناسُ إلا في الأمرِ بالمعروفِ، وخصَّ من أفرادِهِ الصَّدقةَ والإصلاحَ بينَ الناسِ لعمومِ نفعِهِما، فدلَّ ذلكَ على أنَّ التناجِي بذلكَ خير، وأمَّا الثوابُ عليه مِنَ اللَّهِ، فخصَّه بمنْ فعله ابتغاءَ مرضاتِ اللَّهِ. وإنَّما جعلَ الأمرَ بالمعروفِ مِنَ الصَّدقة والإصلاح بينَ الناسِ وغيرِهما خيرًا، وإنْ لم يُبْتَغَ به وجهُ اللَّهِ، لما يترَتَّبُ على ذلكَ منَ النَّفعْ المُتعدِّي. فيَحْصُلُ به للناسِ إحسانٌ وخيرٌ، وأمَّا بالنسبةِ إلى الأمرِ، فإن قَصَدَ به وجْهَ اللهِ، وابتغاءَ مرضاتِهِ، كان خيرًا له وأُثِيبَ عليه، وإنْ لم يقصدْ ذلك، لم يكن خيرًا له، ولا ثوابَ له عليه. وهذا بخلافِ من صامَ وصلَّى وذكرَ اللَّهَ، يَقصدُ بذلك عَرَضَ الدنيا، فإنَّه لا خيرَ له فيه بالكُليّة، لأنَّه لا نفعَ في ذلكَ لصاحبِهِ، لما يترتَّب عليه من الإثم فيهِ، ولا لغير؛ لأنَّه لا يتعدَّى نفعُه إلى أحدٍ، اللَّهُمَّ إلا أنْ يحصُلَ لأحدٍ به اقتداء في ذلك. * * *

قوله تعالى: (ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءا يجز به ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا (123)

قوله تعالى: (لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (123) وخرَّج الترمذيُّ من حديثِ عائشةَ أنها سألتِ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - عن قولِهِ تعالى: (وَإِن تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يحَاسِبْكُم بِهِ اللَّهُ) . وعن قولِهِ: (مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ) ، فقال: "هذه معاتبةُ اللَّهِ العبدَ بما يصيبُه من الحمَّى، والنكبةِ، حتى البضاعةِ يضعها في جيبِ قميصِه، فيفقدُها، فيفزعُ لذلك، حتَّى إنَّ العبدَ ليخرجَ من ذنوبِهِ، كما يخرجُ التَبْر الأحمرُ من الكِيرِ". وقال: حسنٌ غريب. * * * وفي الترمذي عن أبي بكرٍ الصديقِ أنه كانَ عندَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فقرأ هذه الآيةَ حين أنزلتْ: (مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ) . قالَ: ولا أعلم إلا أنِّي وجدتُ في ظهري انفصامًا، فتمطأتُ لَهَا. وقلتُ: يا رسولَ اللَّهِ، وأيُّنا لم يعملْ سوءًا؟ أو إنَّا لمجزيون بما عملْنَا؟ فقالَ رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: "أمَّا أنت يا أبا بكرٍ والمؤمنونَ، فتجزونَ بذلكَ في الدُّنيا، حتى تلقوا اللَّهَ وليس لكم ذنب وأمَّا الآخرونَ فيجمعُ ذلك لهم حتَّى يُجزوا به يومَ القيامةِ". وفي "مسندِ بقيِّ بن مَخْلَدٍ" بإسنادٍ جيدٍ - عن عائشةَ أنَّ رجلاً تلا هذه الآية: (مَن يَعْمَلْ سوءًا يجْزَ بِهِ) ، فقالَ: إنا لَنُجْزَى بكلِّ عملٍ عملنا؛ هلكنا إذًا! فبلغَ ذلكَ رسولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فقالَ: "نعم، يُجزى به المؤمنُ في

قوله تعالى: (وما في الأرض ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم أن اتقوا الله وإن تكفروا فإن لله ما في السماوات وما في الأرض وكان الله غنيا حميدا (131)

الدنيا، في نقسِهِ، في جسدِهِ فما دونَهُ. * * * قوله تعالى: (وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا (131) حقُّ اللَّهِ على عبادِهِ أن يتَقُوهَ حقَّ تقاتِه، والتَّقوى وصيةُ اللهِ للأولينَ والآخرينَ، قالَ تعالى: (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ) . وأصلُ التقوى: أن يجعل العبدُ بينه وبينَ ما يخافُهُ ويحذرُهُ وقايةً تقيهِ منه. فتقوى العبدِ لربِّه أن يجعلَ بينَه وبينَ ما يخشاهُ من رّبه من غضبِهِ وسخطِهِ وعقابِهِ وقايةً تقيه من ذلك، وهو فعلُ طاعتِهِ واجتنابُ معاصيهِ. وتارةً تُضافُ التقوى إلى اسم اللهِ عزَّ وجلَّ، كقولِهِ تعالى: (وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) ، وقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) . فإذا أضيفت التقوى إليه سبحانَهَ وتعالى، فالمعنى: اتقوا سخطَهُ وغضبَهُ. وهو أعظمُ ما يُتَّقَى، وعن ذلكَ ينشأ عقابُهُ الدنيويُّ والأخرويُّ. قال تعالى: (وَيُحَذِّرُكمُ اللَّهُ نَفْسَهُ) وقال تعالى: (هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ) ، فهوَ

سبحانَهُ أهلٌ أن يُخشى ويُهابَ، ويُجلَّ ويُعَظَّمَ في صدورِ عبادِهِ حتَّى يعبدوُهُ ويُطيعوهُ، لما يستحقُّه من الإجلالِ والإكرامِ، وصفاتِ الكبرياءِ والعظمةِ وقوَّة البطشِ، وشدَّةِ البأسِ. وفي الترمذيِّ عن أنس عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في هذهِ الآيةِ: (هُوَ أَهْلُ التَّقوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ) ، قال: "قال اللَّهُ تعالى: أنا أهلٌ أنْ أُتَّقى، فمنْ اتقاني فلم يَجْعَل معِي إلهًا آخرَ، فأنا أهْل أن أغْفِرَ له ". وتارةً تُضافُ التقوى إلى عقابِ اللَّهِ وإلى مكانِهِ، كالنارِ، أو إلى زمانِه. كيومِ القيامةِ، كما قالَ تعالى: (وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ) . وقال تعالى: (فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ) ، وقال تعالى: (وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إلى اللَّهِ) . (وَاتَّقُوا يَومًا لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئًا) . ويدخلُ في التقوى الكاملةِ فعلُ الواجباتِ وتركُ المحرَّماتِ والشبهاتِ. وربما دخلَ فيها بعدَ ذلكَ فعلُ المندوباتِ، وتركُ المكروهاتِ، وهيَ أعْلى درجاتِ التَّقوى، قالَ اللَّهُ تعالى: (الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) . وقال تعالى: (وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (177) .

قال مُعُاذُ بنُ جبلٍ: يُنادَى يومَ القيامةِ: أين المتقونَ؟ فيقومون في كَنَفٍ من الرحمنِ لا يحتجِبُ منهُم ولا يستترُ، قالُوا لَهُ: مَن المتَّقونَ؟ قال: قومٌ اتَّقوا الشِّركَ وعبادةَ الأوثانِ، وأخلصُوا للَّهِ بالعبادةِ. وقالَ ابنٍ عباسٍ: المتَقونَ الذين يحْذَرون من اللَهِ عقوبتَه في تركِ ما يعرِفُون من الهُدى، ويَرجونَ رحمته في التصديقِ بما جاء به. وقال الحسنُ: المتقونَ اتَّقَوْا ما حُرِّم عليهِم، وأدَوا ما افْتُرِص عليهم. وقال عُمرُ بنُ عبد العزيزِ: ليسَ تقوى اللَهِ بصيامِ النهارِ، ولا بصيامِ الليلِ. والتخليطِ فيما بيْنَ ذلكَ، ولكن تقوى اللَّهِ تركُ ما حرَّم اللَّهُ، وأداءُ ما افترضَ اللَّه، فمن رُزِقَ بعدَ ذلك خيرًا، فهو خيرٌ إلى خيرٍ. وقال طلقُ بن حبيبٍ: التَّقوى أن تعملَ بطاعة اللَّهِ على نورٍ من اللَّهِ ترجُو ثوابَ اللَّه، وأن تتركَ معصيةَ اللَّهِ على نورٍ من اللهِ تخافُ عقابَ اللهِ. وعن أبي الدرداءِ قالَ: تمامُ التقوى أن يتقيَ اللَّهَ العبدُ حتى يتقيَة من مثقال ذرَّه، حتى يترك بعضَ ما يرى أنه حلالٌ خشيةَ أن يكونَ حرامًا يكونَ حجابًا بينه وبين الحرامِ، فإنَّ اللَهَ قد بيَّنَ للعبادِ الذي يُصيرِهم إليه فقال: (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8) . فلا تحقرنَّ شيئًا من الخيرِ أن تفعلَهُ، ولا شيئًا من الشرِّ أن تتقيَهُ. وقال الحسنُ: ما زالتِ التَّقوى بالمتقينَ حتَّى تركُوا كثيرًا من الحلالِ مخافةَ الحرامَ. وقال الثوريُّ: إنَّما سُمُّوا متقينَ، لأنهم اتقوْا ما لا يُتَّقَى. وقال موسى بنُ أعْينَ: المتقونَ تنزَّهوا عن أشياءَ من الحلالِ مخافةَ أن يقعُوا

في الحرامِ، فسماهُم اللَّهُ متقينَ. وقد سبقَ حديثُ: "لا يبلغُ العبدُ أن يكونَ من المتقينَ حتَى يدعَ ما لا بأسَ به حذرًا مما به بأس ". وحديث: "من اتَقى الشبهاتِ استبرأ لِدِينِهِ وعِرْضِهِ ". وقال ميمونُ بنُ مِهرانُ: المُتَّقي أشدُّ محاسبةً لنفسِهِ، من الشريكِ الشحيح لشريكه. وقال ابنُ مسعودٍ في قولِهِ تعالى: (اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ) . قال: أن يُطاعَ، فلا يُعصَى، ويُذكرُ فلا يُنْسَى، وأن يُشكرَ، فلا يُكفر. وخرَّجه الحاكمُ مرفوعًا، والموقوفُ أصحُّ، وشكرُه يدخلُ شيه جميعُ فعلِ الطاعاتِ. ومعنى "ذكره فلا يُنْسى": ذكرُ العبدِ بقلبِهِ لأوامرِ اللَّهِ في حركاتِهِ وسكناتِهِ وكلماتِهِ فيمتثلها، ولنواهِيهِ في ذلكَ كلِّه فيجتنبهَا. وقد يغلِبُ استعمالُ التقوى على اجتنابِ المحرَّماتِ، كما قالَ أبو هريرةَ وسئلَ عن التَّقوى، فقالَ: هلْ أخذتَ طريقًا ذا شوْك؟ قالَ: نعم، قالَ: فكيف صنعتَ؟ قالَ: إذا رأيتُ الشوكَ عدلتُ عنه، أو جاوزتُه، أو قصرتُ عنه، قال: ذاك التَّقوى. وأخذ هذا المعنى ابنُ المعتز فقال: خلِّ الذنُوب صَغيرَها. . . وكبيرَها فهوَ التُّقَى

واصْنَع كماشٍ فَوْقَ أرْ. . . ضِ الشَّوْكِ يحْذَرُ ما يرَى لا تحْقِرَنَ صغيرةً. . . إن الجبالَ من الحَصَى وأصلُ التَّقوى: أن يعلمَ العبدُ ما يُتَّقى ثم يتَّقِي. قال عونُ بن عبدِ اللَّهِ: تمامُ التقوى أن تبتغيَ علمَ ما لم تعلمْ منها إلى ما علمتَ منها. وذكر معروفٌ الكرخيُّ عن بكر بن خُنيسٍ، قال: كيف يكون متقيًا من لا يدري ما يَتَّقي؟ ثم قال معروفٌ: إذا كنتَ لا تحسنُ تتقي أكلتَ الرِّبا، وإذا كنتَ لا تُحسن تتقي لقيتك امرأةٌ فلم تَغُضَّ بصرَك، وإذا كنتَ لا تحسنُ تتقي وضعتَ سيفَكَ على عاتقِكَ. وقد قالَ النبي - صلى الله عليه وسلم - لمحمدِ بنِ مسلمةَ: "إذا رأيتَ أُمَّتي قد اختلفَتْ، فاعمدْ إلى سيفِكَ فاضْرِبْ به أُحُدًا". ثم قال معروفٌ: ومجلسِي هذا لعلَّهُ كان ينبغي لنا أن نتَّقيَه، ثم قالَ: ومجيئكم معِي من المسجدِ إلى هَاهُنا كان ينبغِي لنا أن نتقيَهُ، أليس جاءَ في الحديثِ: "إنه فتنة للِمَتْبُوع، مذلةٌ للتابع ". يعني: مشيَ الناسِ خلفَ الرجلِ. وفي الجملةِ، فالتقوى هي وصيةُ اللَّهِ لجميع خلْقِهِ، ووصيةُ رسولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لأمتِهِ، وكانَ - صلى الله عليه وسلم - إذا بَعَثَ أميرًا على سَرِيَّةٍ أوصاهُ في خاصةِ نفسهِ بتقوى اللَّهِ، وبمن معهُ من المسلمينَ خيرًا.

ولما خطبَ رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - في حَجَّةِ الوداع يومَ النَّحرِ وصَّى الناسَ بتقوى اللَّهِ وبالسمع والطاعةِ لأئمتِهِم. ولما وعَظَ الناسَ، وقالُوا له: كأنَّها موعظةُ مودعٍ فأوصِنَا، قالَ: "أُوصيكم بتقْوَى اللهِ والسَّمعْ والطَّاعةِ". وفي حديثِ أبي ذزٍّ الطويلِ الذي خرَّجهُ ابنُ حبانَ وغيرُه: قلتُ: يا رسولَ اللَّهِ، أوصِني، قالَ: "أوصيكَ بتقوى اللهِ، فإنَه رأسُ الأمرِ كلِّهِ ". وخرَّج الإمامُ أحمدُ من حديثِ أبي سعيدٍ الخدريَ، قالَ. قلتُ: يا رسولَ اللَّهِ، أوصِنِى، قالَ: "أوصيكَ بتقوى اللَّهِ، فإنَّه رأسُ كل شيءِ، وعليكَ بالجهادِ، فإنَّه رهبانيةُ الإسلام". وخرَّجه غيرُه ولفظُهُ: قالَ: "عليكَ بتقوى اللَّهِ، فإنها جِماعُ كلِّ خيرٍ". وفي الترمذيِّ عن يزيدَ بنِ سلمةَ: أنه سألَ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: يا رسولَ اللَّهِ، إني سمعتُ منكَ حديثًا كثيرًا فأخافُ أن ينسنِي أوَّلَه آخرُه، فحدَثني بكلمة تكونُ جِماعًا، قالَ: "اتَقِ اللَّه فيما تعْلَمُ ". ولم يزلِ السلفُ الصالحُ يتَواصَوْنَ بِهَا، كان أبو بكرٍ الصديقُ - رضي الله عنه -، يقولُ في خطبتِهِ: أما بعدُ، فإنِّي أُوصيكُم بتقْوَى اللَّهِ، وأن تُثْنُوا عليه بما هو أهلُهُ،

وأن تَخلِطُوا الرغبةَ بالرهبةِ، وتجمعُوا الإلحافَ بالمسألةِ، فإنَّ اللَّهَ عزَّ وجل أثنى على زكريا وأهلِ بيتِهِ، فقالَ: (إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ (90) . ولمَّا حضرتهُ الوفاةُ، وعهدَ إلى عمرَ، دعاهُ فوصَّاهُ بوصيَّةٍ، وأوَّلُ ما قالَ لهُ: اتَّقِ اللَّهَ يا عُمرُ. وكتبَ عُمَرُ إلى ابنِهِ عبدِ اللَهِ: أمَّا بعدُ، فإني أوصيك بتقوى اللَّهِ عزَّ وجلَّ، فإنَّه من اتَّقاه وقاهُ، ومنْ أقرضَهُ جزاه، ومنْ شكرهُ زاده، فاجعلِ التَّقوى نصبَ عينيك وجلاء قلبك. واستعمل عليٌّ بنُ أبي طالبٍ رجلاً على لسَرِيَّةٍ، فقالَ لَهُ: أُوصيكَ بتقوى اللَّهِ عزَّ وجلَّ الذي لا بُدَّ لك من لقائِهِ، ولا مُنتهى لك دونَه، وهو يَمِلكُ الدنيا والآخرة. وكتبَ عُمرُ بنُ عبدِ العزيزِ إلى رجلٍ: أُوصيكَ بتقْوَى اللَّهِ عزَ وجلَّ التي لا يقبلُ غيرَها، ولا يرحَمُ إلا أهلَها، ولا يُثيبُ إلا عليها، فإنَّ الواعظينَ بها كثير، والعاملينَ بها قليل، جعلنا اللَّهُ وإيَّاك من المتقينَ. ولما وُلِّي خطبَ، فحَمِد اللَّهَ، وأثنى عليه، وقالَ: أُوصيكم بتقوى اللَّهِ عزَّ وجلَّ، فإنَّ تقوى اللَّهِ عزَّ وجلَّ خلف من كلِّ شيءٍ، وليس من تقوى اللَّهِ خلَفٌ. وقالَ رجل ليونسَ بنِ عُبيدٍ: أوصِنِي، فقالَ: أُوصيك بتقوى اللَّهِ والإحسانِ. فإنَّ اللَّهَ مع الذين اتَّقوا والذين هم محسِنُون.

وقال له رجل يُريدُ الحَجَّ: أوصِنِي، فقالَ له: اتَّقِ اللَّهَ، فمن اتَّقى اللَّهَ فلا وحشةَ عليه. وقيل لرجل من التابعينَ عندَ موتِه: أوصِنَا، فقالَ: أوصيكُم بخاتمةِ سورةِ النحلِ: (إِنَّ اللَّهَ معَ الَّذِينَ اتَّقَوا وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُون. وكتبَ رجل من السلفِ إلى أخٍ له: أوصيكَ بتقْوَى اللَّه، فإنَّها أكرمُ ما أسررتَ، وأزينُ ما أظهرتَ، وأفضلُ ما ادَّخرتَ، أعاننَا اللًّهُ وإيَّاك عليها. وأوجبَ لنا ولكَ ثوابَها. وكتبَ رجل إلى أخٍ لهُ: أُوصيكَ وأنفسَنا بالتقْوى، فإنَّها خيرُ زادِ الآخرةِ والأُولى، واجعلْهَا إلى كلِّ خيرٍ سبيلكَ، ومنْ كلِّ شرٍّ مهرَبك، فقدْ توكل اللَّهُ عزَّ وجلَّ لأهلِهَا بالنجاةِ مما يحذرُون، والرزق من حيثُ لا يحتسبونَ. وقالَ شعبةُ: كنتُ إذا أردتُ الخروجَ، قلتُ للحكم: ألك حاجة؟ فقال: أوصيكَ بما أوصَى به النبيّ - صلى الله عليه وسلم - معاذَ بنَ جبلٍ: "اتَّق اللهَ حيثُما كنتَ، وأتْبِعِ السيئةَ الحسنةَ تمْحُها، وخالِقِ الناسَ بخُلُقٍ حسنٍ ". وقد ثبتَ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يقولُ في دعائه: "اللَهُمَّ إني أسألُك الهُدى والتُّقى والعفَّة والغِني ". * * *

قوله تعالى: (إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ولن تجد لهم نصيرا (145)

قوله تعالى: (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا (145) قال اللَهُ عزَّ وجلَّ: (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ) . وقد قرئ "الدركُ " بسكونِ الراءِ وتحريكِها وهىَ لغتانِ، قال الضحاكُ: الدرْكُ إذا كان بعضُها فوقَ بعضٍ، والدرَكُ إذا كان بعضُها أسفلَ من بعضٍ، وقال غيرُه: الجنةُ درجاتٌ والنارُ دركاتٌ. وقد تسمَّى النارُ درجاتٍ أيضًا، كما قالَ تعالى بعد أن ذكر أهلَ الجنةِ وأهلَ النارِ: (وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مَمَّا عَمِلُوا) ، وقال: (أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (162) هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ) . قال عبدُ الرحمن بن زيد بنِ أسلمَ: درجاتُ الجنةِ تذهبُ علوًّا ودرجاتُ النارِ تذهبُ سُفُولاً. وروى ابنُ أبي الدنيا بإسنادِهِ عن عكرمةَ في قولِهِ تعالى: (لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ) ، قالَ: لها سبعةُ أطباقٍ. وعن قتادةَ: (لِّكُلِّ بَاب مِنْهُمْ جُزْءٌ مًقْسُومٌ) ، قال: هي واللَّهِ منازلٌ بأعمالهم. وعن يزيدَ بنِ أبي مالكٍ الهمدانيِّ، قال: لجهنمَ سبعةُ نيران تأتلق ليس منها نارٌ إلا وهي تنظرُ إلى التي تحتَه مخافةَ أن تأكلَها. وعن ابنِ جريجٍ في قولِهِ: (لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ) قال: أوَّلها جهنَّمُ. ثمَّ لظَى، ثم الحطمةُ، ثم السعيرُ، ثم سقر، ثم الجحيمُ، ثم الهاويةُ، وفيها أبو جهل. وروى سلامُ المدائنيُّ - وهو ضعيفٌ - عن الحسنِ عن أبي سنانَ عن

الضحاكِ، قالَ: للنارِ سبعةُ أبوابٍ هي سبعةُ أدراكٍ بعضُها على بعضٍ. فأعلاَها فيه أهلُ التوحيدِ يعذبَون على قدرِ أعمالهم وأعمارهم في الدنيا ثم يخرجون منها، وفي الثاني اليهودُ، وفي الثالثِ النَّصَارى، وفي الرابع الصابئُون، وفي الخامسِ المجوسُ، والسادسُ فيه مشركُو العربِ، وفي السابع المنافقونَ، وهو قوله: (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ) . وروى العلاءُ بنُ المسيبِ عن أبيهِ وخيثمةُ بنُ عبدِ الرحمن قالا: قالَ ابنُ مسعودٍ: أيُّ أهلِ النارِ أشدُّ عذابًا؟ قالُوا: اليهودُ والنصارَى والمجوسُ، قال: لا ولكن المنافقينَ في الدركِ الأسفلِ من النارِ في توابيت من نارٍ مطبقةٍ عليهم ليسَ لها أبوابٌ. ورَوى عاصمٌ عن أبي صالح عن أبي هريرةَ في قولِهِ تعالى: (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ) ، قال: الدركُ الأسفلُ بيوتّ لها أبوابٌ تطبقُ عليها فيوقدُ من فوقِهم ومن وتحتِهم، قال تعالى: (لَهُم مِّن فوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ) . وقال ابنُ المباركِ، عن يحيى بن أيوبَ، عن عبيدِ اللَّهِ بنِ زحرٍ، عن أبي يسارٍ قال: الظلةُ من جهنَّمَ فيها سبعونَ زاويةً، في كلّ زاويةٍ صنفٌ من العذابِ ليسَ في الأخرى. وروى ابنُ أبي حاتمٍ بإسنادِهِ عن كعب، قال: اقتحامُ العقبةِ في كتابِ اللهِ، يعني قوله: (فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ) ، سبعينَ درجةً في النار. وعن ضمرةَ قالَ: سمعتُ أبا رجاء قال: بلغَنِي أنَّ العقبةَ التي ذكرَ اللَهُ في كتابِهِ مطلعهَا سبعةُ آلافِ سنة ومهبطُهَا سبعةُ آلافِ سنةٍ.

وعن عطيةَ عن ابنِ عمرَ، قال في العقبةِ: جبلٌ في جهنَّم، أفلا أجاوزه بعتقِ رقبةٍ؟!! وعن مقاتلِ بنِ حئانَ قال: هيَ عقبةٌ في جهنَّم، قيلَ: بأيِّ شيءٍ تُقطعُ. قال: رقبةٌ. وفي "الصحيحينِ " ولفظُه للبخاريِّ عن ابنِ عمرَ، قال: رأيتُ في المنامِ أنه جاءني ملكانِ في يدِ كلِّ واحدٍ منهما مقمعةٌ من حديد، ثم لقيني ملكٌ في يدِهِ مقمعةٌ من حديدٍ، قالُوا: لنْ تُرع، نِعْمَ الرجلُ أنتَ كنتَ تكثرُ الصلاةَ من الليلِ، فانطلقُوا بي حتَّى وقفُوا بي على شفير جهنَّم، فإذا هي مطويةٌ كطي البئر لها قرونٌ كقرونِ البئر، بين كلِّ قرنينِ ملكٌ بيدِهِ مقمعةٌ من حديدٍ، وإذا فيها رجال معلقون بالسلاسِلِ رءوسُهُم أسفلُهم، وعرفت رجالاً من قريشٍ فانصرفُوا بي عن ذاتِ اليمين، فقصصتُها على حفصةَ، فقصتها حفصةُ على رسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فقال: "إنَّ عبدَ اللَّهِ رجلٌ صالحٌ ". عن خالدِ بنِ عميرٍ، قال: خطبنا عتبةُ بنُ غزوانَ فقال: إنَّه ذُكِر لنا أنَّ الحجرَ يُلقى من شفةِ جهنَم فيهوِي فيها سبعينَ عامًا ما يدركُ لها قعرًا، واللَّهِ لنملأنَّه، أفعجبْتُم؟ خرَّجهُ هكذا مسلمٌ موقوفًا، وخرَّجه الإمامُ أحمدُ موقوفًا ومرفوعًا والموقوفُ أصح. وخرَّج الترمذيُّ من حديثِ الحسنِ، قال: قال عتبةُ بنُ غزوانَ على منبرِنَا هذا - يعني منبرَ البصرةِ - عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنَّ الصخرة العظيمةَ لتُلقَى من شفيرِ جهنَّم فتهوِي سبعينَ عامًا وما تفضي إلى قعرها". قال: وكان عمرُ يقول:

أكثِرُوا ذكرَ النارِ، فإنَّ حرَّها شديدٌ، وإن قعرَهَا بعيدٌ، وإن مقامِعَها حديد. ثم قالَ: لا يعُرفُ للحسنِ سماعٌ من عتبةَ بنِ غزوانَ. وخرَّج مسلمٌ أيضًا من حديثِ أبي هريرةَ، قالَ: كُنَّا عندَ النبي - صلى الله عليه وسلم - يومًا فسمعنا وجبةً، فقالَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "أتدرونَ ما هذا؟ " فقلنا: الله ورسولُه أعلمُ. قالَ: "هذا حجرٌ أرسلَ في جهنَّم منذ سبعينَ خرِيفا، فالآنَ انتهَى إلى قعرِهَا". وخرَّج أيضًا عن أبي هريرةَ قالَ: والذي نفسُ أبي هريرةَ بيدِهِ، إنَّ قعرَ جهنَم لسبعين خرِيفًا. وخرَّج الحاكمُ منْ حديثِ أبي هريرةَ أيضًا عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "لو أُخذَ سبعُ خلفاتٍ بشحومهنَّ فألقينَ من شفيرِ جهنم ما انتهينَ إلى آخرِهَا سبعينَ عامًا". وخرَّج البزارُ والطبرانيُّ من حديثِ بريدةَ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "إنَ الحجرَ ليزنُ سبعَ خلفاتٍ يُرمى به في جهنَّمَ فيهوِي سبعينَ خرِيفًا، وما يبلغُ قعرَهَا". وخرَّج ابنُ حبانَ في "صحيحِهِ " من حديثِ أبي مُوسى الأشعريِّ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "لو أنَّ حجرًا قُذفَ به في جهنَّم لهوَى سبعينَ خرِيفًا قبل أن يبلغَ قعرَها". وقد سبقَ من حديثِ أنسٍ وأبي سعيدٍ مَعنى حديثِ أبي هريرةَ في سماع الهدَّةِ.

وقال ابنُ المباركِ: أنبأنا يونسُ عن الزهريِّ، قالَ: بلغنا أنَّ معاذَ بنَ جبلٍ كانَ يحدِّثُ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "والذي نفْسِي بيدِه إنَّ ما بينَ شفةِ النارِ وقعرها كصخرةٍ زنةُ سبع خلفات بشحومهن ولحومِهِنَّ وأولادهِنًّ، تهوي من شفة النارِ قبلَ أن تبلغُ قعرَها سبعينَ خريِفًا". قال ابنُ المباركِ: وإنَّ هُشيْمًا قالَ: أخبرني زكريا بنُ أبي مريمَ الخزاعيُّ. قال: سمعتُ أبا أمامةَ يقولُ: إنَّ ما بين شفيرِ جهنَّم مسيرةَ سبعينَ خرِيفًا من حجرٍ يهوي أو صخرةٍ تهوي عظَمُها لعِظَمُ عشرِ عُشراواتٍ عظامٍ سمان، فقال له رجل: هلْ تحتَ ذلك منْ شيءٍ يا أبا أمامةَ؛ قالَ: نعمْ، غيّ وآثام. وقد رُوي هذا بإسنادٍ فيه ضعف من طريقِ لقمانَ بنِ عامرٍ عن ابي أمامةَ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وزادَ فيه قلتُ: وما غيٌّ وما آثام؟ قال: "بئرٌ يسيلُ فيهما صديدُ أهلِ النارِ". وهما اللتانِ ذكرَهُما اللَّهُ تعالى في كتابِهِ (فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا) . وفي الفرقان: (يَلْقَ أَثَامًا) . والموقوفُ أصحُّ. وقد رُوي من وجهٍ آخرٍ، قالَ حريزُ بنُ عثمانَ: حدَّثَنِي عبدُ الرحمنِ بنُ ميسرةَ الحضرمي عن أبي أمامةَ أنه كانَ يقولُ: إنَّ جهنَّم ما بينَ شفتيَها إلى قعرِها سبعون، أو قالَ: خمسونَ خرِيفًا للحجرِ المتردِّي، والحجر مثلُ سبع خلفاتٍ مملوءةٍ شحمًا ولحمًا. خرَّجه الجوزجَانيُ. وروى مجالدٌ عن الشعبيِّ، عن مسروقٍ، عن عبدِ اللَّهِ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "ما منْ حاكمٍ يحكمُ بينَ الناسِ إلا يُحبسُ يومَ القيامةِ وملكٌ آخذٌ بقفاهُ حتى يقِفَهُ

على جهنَّم، ثم يرفعُ رأسَهُ إلى اللَهِ عزَّ وجلَّ، فإنْ قالَ له: ألقِهِ ألقاهُ في مَهوى أربعينَ خرِيفًا" خرَّجه الإمامُ أحمدُ. وروى عبدُ اللَّهِ بنُ الوليدِ الوصافيُّ، حدثنا عبدُ اللَّهِ بنُ عبيدِ بنِ عميرٍ عن أبيه، قال: قال رسول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: "يجاءُ بالوالي يومَ القيامةِ فينبذُ على جسرِ جهنمَ فيرتجّ ذلك الجسرُ به ارتجاجة لا يبقى منه مفصلٌ إلا زالَ عن مكانِهِ، فإن كان مُطيعًا للَّهِ في عملهِ مَضَوا به، وإنْ كانَ عاصيًا للَّهِ في عملهِ انخرقَ به الجسرُ، فيهوِي في جهنَّم مقدارَ خمسينَ عامًا" فقال له عمرُ: من يطلبُ العملَ بعدَ هذا؟ قال أبو ذرٍّ: من سلتَ الله أنفه وألصق خدَّه بالترابِ، فجاء أبو الدرداءِ فقال له عمرُ: يا أبا الدرداءِ هلْ سمعتَ من النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - حديثًا حدَّثني به أبو ذرٍّ، قالَ: فأخبره أبو ذرٍّ فقال: نعمْ ومع الخمسينَ خمسونَ عامًا يهوِي به إلى النارِ، الوصافيُّ لا يحفظُ الحديثَ، كان شيخًا صالحًا رحمه اللَّهُ. وروى سويدُ بنُ عبدِ العزيزِ وفيه ضعفٌ شديدٌ عن سيار عن أبي وائلٍ أنَّ أبا ذرٍّ قال لعمرَ: سمعتُ رسول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يقول فذكرَ معناه، وفي حديثه: "وإنْ كان مسيئًا انخرقَ به الجسرُ فهوَى في قعرِهَا سبعينَ خرِيفا". وفي موعظة الأوزاعيِّ للمنصورِ، قال: أخبرَني يزيدُ بنُ جابر، عن عبدِ الرحمنِ بنِ أبي عمرةَ الأنصاريِّ أن أبا ذرٍّ وسلمانَ قالا لعمر: سمعنا سول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يقولُ، فذكراه بمعناهُ. وقال: (هَوَى به في النارِ سبعينَ خرِيفًا". وفي "الصحيحين " عن أبي هريرةَ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنَّ العبدَ ليتكلَّمُ بالكلمةِ ما يتبينُ فيها، يزلَُّ بها في النارِ أبعدَ ما بين المشرقِ والمغربِ ".

وخرَّج الإمامُ أحمدُ والترمذيُّ وابنُ ماجةَ من حديثِ أبي هريرةَ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "إنَّ الرجلَ ليتكلَّمُ بالكلمة لايَرى بها بأسًا يهوِي بها في النارِ سبعينَ خرِيفًا". وخرَّج البزارُ نحوَه من حديثِ ابنِ مسعود عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -. وفي "تفسيرِ ابنِ جريرٍ" من روايةِ العوفي عن ابنِ عباسٍ، في قولِهِ تعالى: (وقَالُوا لَن تَمَسَّنَا النَّار إِلاَّ أَيَّامًا مَّعْدُودَةً) . قالَ: ذُكِرَ أنَّ اليهودَ وجدُوا في التوراةِ مكتوبًا أن ما بينَ طرفي جهنَم مسيرةُ أربعينَ سنةً إلى أن ينتهوا إلى شجرةِ الزقومِ ثابتة في أصل الجحيم. وكان ابن عباسٍ يقولُ: إن الجحيمَ سقر وفيها شجرةُ الزقومِ، فزعمَ أعداءُ اللَّه أنه إذا خَلا العددُ الذي وجدُوا في كتابِهِم أيامًا معدودةً، وإنما يعني بذلكَ السيرَ الذي ينتهي إلى أصلِ الجحيم، فقالُوا: إذا خلا العدد انقضى الأجلُ فلا عذابَ، وتذهبُ جهنم وتهلكُ، فذلك قولُهُ: (لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّامًا معْدُودَةً) . يعنون بذلكَ الأجلَ، فقالَ ابنُ عباس: لما اقتحمُوا من بابِ جهنَّم سارُوا في العذابِ حتى انتهَوا إلى شجرةِ الزقومِ آخرُ يومٍ من الأيامِ المعدودة. وهي أربعونَ سنةً، فلمَّا أكلُوا من شجرةِ الزقومِ وملؤوا البطونَ آخرَ يومٍ من الأيامِ المعدودةِ، قال لهمْ خزنةُ سقر: زعمتُم أنكم لن تمسَّكُمَ النارُ إلا أيامًا معدودةً وقد خلا العددُ وأنتم في الأبدِ، فأخذَ بهم في الصعودِ في جهنم يرهقونَ. ففي هذه الروايةِ عن ابنِ عباسٍ أنَّ قعرَ جهنَّمَ ومسافةَ عمقِها أربعونَ عامًا. وأنَّ ذلك هو معنى ما في التوراةِ، ولكنَّ اليهودَ حرَّفُوه فجعلوهُ مسافةَ ما بين طرفيَها، وزعمُوا أنه إذا انقضتْ هذه المدةُ أنَّ جهنَّم تخربُ وتهلك، فإنَّ ذلك

قوله تعالى: (لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم وكان الله سميعا عليما (148)

من كذبِهِم على اللَّهِ، وتحرِيفِهِم التوراة. * * * قوله تعالى: (لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا (148) ورُوي عنِ ابنِ عباسٍ، في قولِهِ تعالى: (لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ) ، قال: لا يحبُّ اللَّه أن يدعُو أحدٌ على أحدٍ، إلا أن يكونَ مظلومًا، فإنَه قد رُخِّصَ لهُ أن يدعُوَ على من ظلَمَهُ، وذلكَ قولُهُ تعالى: (إِلاَّ مَن ظُلِم) ، ومن صَبَرَ فهوَ خيرٌ. وقال الحسنُ: قد أرخصَ له أن يدعوَ على من ظَلَمَهُ، وذلكَ قوله تعالى: (إِلاَّ مَن ظُلِم) ، ومن صبر فهو خيرٌ. وقال الحسنُ: قد أرخصَ له أن يدعوَ على من ظلَمَه، من غيرِ أن يعتَدِي عليهِ. وروي عنه قالَ: لا تدعُ علِيه، ولكنْ قُل: اللَّهُمَّ أعني عليه. واستخرِج حقِّي منه. * * *

قوله تعالى: (يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة إن امرؤ هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك وهو يرثها إن لم يكن لها ولد فإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان م

قوله تعالى: (يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (176) وقد اختلفَ العلماءُ في معنى قولِهِ - صلى الله عليه وسلم -: "ألحقُوا الفرائضَ بأهلِهَا": فقالتْ طائفةٌ: المرادُ بالفرائضِ الفروضُ المقدَّرةُ في كتابِ اللَهِ تعالى. والمرادُ: أعطُوا الفروضَ المقدرةَ لمن سمَّاها اللَهُ لهم، فما بقِيَ بعدَ هذه الفروضِ، فيستحقّه أوْلى الرجال، والمرادُ بالأوْلى: الأقربُ، كما يقال: هذا يلي هذا، أي: يَقرُبُ منه، فأقربُ الرجال هو أقربُ العَصَباتِ، يستحقُّ الباقي بالتعصيبِ، وبهذا المعنى فسَّر الحديثَ جماعةٌ من الأئمةِ، منهم: الإمامُ أحمدُ، وإسحاقُ بنُ رَاهويه، نقله عنهما إسحاقُ بنُ منصورٍ. وعلى هذا، فإذا اجتمعَ بنتٌ وأختٌ وعمٌّ، أو ابنُ عم، أو ابنُ أخ. فينبغِي أن يأخذَ الباقِي بعدَ نصف البنتِ العصبةُ، وهذا قولُ ابنِ عباسٍ، وكان يتمسَّكُ بهذا الحديثِ، ويقر بأنًّ النَّاسَ كلَّهم على خلافِهِ، وذهبتْ الظاهريةُ إلى قولِهِ أيضًا. وقال إسحاقُ: إذا كانَ مع البنتِ والأختِ عصبةٌ، فالعصبةُ أوْلَى، وإن لى يكن معَهُمَا أحدٌ، فالأختُ لها الباقى، وحُكي عن ابنِ مسعودٍ، أنه قالَ: البنتُ عصبةُ مَنْ لا عصبَةَ له، ورَدَّ بعضُهم هذا، وقال: لا يصحُّ عن ابنِ مسعودٍ. وكان ابنُ الزبيرِ ومسروقّ يقولانِ بقولِ ابنِ عباسٍ، ثم رجعَا عنه. وذهب جمهورُ العلماءِ إلى أن الأختَ مع البنتِ عصبةٌ لها ما فضلَ،

منهم: عمرُ، وعليّ، وعائشةُ، وزيد، وابنُ مسعودٍ، ومعاذُ بنُ جبلٍ. وتابعهم سائرُ العلماءِ. وروى عبدُ الرزاقِ، أخبرنا ابنُ جريج: سألتُ ابنَ طاووس عن ابنةٍ وأختٍ، فقالَ: كانا أبي يذكرُ عن ابنِ عباسٍ، عن رجلٍ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فيها شيئًا، وكان طاووسُ لا يرضَى بذلكَ الرجلِ، قالَ: وكان أبي يشكُّ فيها، ولا يقولُ فيها شيئًا، وقد كانَ يسأل عنْهَا. والظاهرُ - واللَّهُ أعلمُ -: أن مرادَ طاووس هو هذا الحديث، فإنَّ ابنَ عباسٍ لم يكنْ عندَهُ نصّ صريحٌ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في ميراثِ الأختِ مع البنتِ، إنما كان يتمسك بمثلِ عمومِ هذا الحديثِ. وما ذكره طاووسٌ أن ابنَ عباسٍ رواه عن رجل وأنه لا يرضاه، فابن عباسٍ أكثرُ رواياته للحديثِ عن الصحابةِ، والصحابةُ كلُّهم عدولٌ قد رضي اللَّه عنهم، وأثنى عليهم، فلا عبرةَ بعد ذلك بعدمِ رضا طاووس. وفي "صحيح البخاريِّ " عن أبي قَيْسٍ الأوْديِّ، عن هُزيلِ بنِ شرحبيلَ. قالَ: جاءَ رجلٌ إلى أبي مُوسى، فسألَهُ عن ابنةٍ وابنةِ ابنٍ وأختٍ لأبٍ وأمٍّ. فقالَ: للابنةِ النصفُ، وللأختِ ما بَقِيَ وائتَ ابنَ مسعودٍ فسيُتابعني، فأتى ابنَ مسعودٍ، فذكر ذلك له، فقال: لقد ضللتُ إذًا وما أنا من المهتدين. لأقضينَّ فيها بقضاءِ رسولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: للابنةِ النِّصف، ولابنةِ الابنِ السُّدُسُ تكْمِلَةُ الثلثين، وما بَقِيَ، فللأختِ، قال: فأتينا أبا مُوسى، فأخبرناه بقولِ ابنِ مسعودٍ، فقالَ: لا تسألونُي ما دامَ هذا الحَبْرُ فيكُم. وفيه - أيضًا - عن الأعْمشِ، عن إبراهيمَ، عن الأسودِ بنِ يزيدَ، قال:

قَضى فينا معاذُ بنُ جبلٍ على عهدِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -: النصفُ للابنة، والنصفُ للأختِ، ثم تركَ الأعْمشُ ذِكْرَ عهْدِ رسولِ اللًّهِ - صلى الله عليه وسلم -، فلم يذكره. وحْرَّجه أبو داود من وجهٍ آخرَ عن الأسودِ، وزادَ فيه: ونبيُّ اللَهِ - صلى الله عليه وسلم - يومئذٍ حي. واستدلَّ ابنُ عباسٍ لقولِهِ بقولِ اللَّهِ عزَّ وجل: (قلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ) ، وكان يقولُ: أأنتم أعلمُ أمِ اللَّهُ؟ يعني أن اللَّهَ لم يجعلْ لها النصفَ إلا مع عدمِ الولد، وأنتم تجعلونَ لها النصفُ مع الولدِ وهو البنت. والصوابُ: قولُ عمرَ والجمهورِ، ولا دلالةَ في هذه الآيةِ على خلافِ ذلكَ، لأن المرادَ بقولِهِ: (فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ) بالفرضِ، وهذا مشروطٌ بعدمِ الولدِ بالكلية، ولهذا قال بعدَهُ: (فَإِن كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلثَانِ مِمَّا تَرَكَ) ، يعني بالفرضِ، والأخت الواحدةِ إنَّما تأخذُ النصفَ مع عدمِ وجودِ الولدِ الذكرِ والأنثى، وكذلك الأختان فصاعدًا إنما يستحقُّون الثُّلثين مع عدمِ وجودِ الولدِ الذكرِ والأنثى، فإن كان هناك ولدٌ، فإن كان ذكرًا، فهو مقدَّمٌ على الإخوةِ مطلقًا ذكورهم وإناثهم، وإن لم يكن هناكَ ولدٌ ذكرٌ، بل أنثى، فالباقِي بعد فرضِها يستحقُّهُ الأخُ مع أختِهِ بالاتفاقِ، فإذا كانت الأختُ لا يُسقِطُها أخوها، فكيفَ يُسقطها من هو أبعدُ منه من العَصَباتِ كالعمِّ وابنِهِ؛ وإذا لم يكن العصبةُ الأبعدُ مسقطَا لها، فيتعيَّنُ تقديمُها عليه، لامتناع مشاركتِهِ لها.

فمفهومُ الآيةِ: أن الولدَ يمنعُ أن يكون للأختِ النصفُ بالفرضِ، وهذا حقٌّ، ليس مفهومُها أنَّ الأختَ تسقطُ بالبنتِ، ولا تأخذُ ما فضل من ميراثِهَا، يدلُّ عليه قولُهُ تعالى: (وَهُوَ يَرِثُهَا إِن لَّمْ يَكُن لَّهَا وَلَدٌ) . وقد أجمعتِ الأُمَّةُ على أنَّ الولدَ الأُنثى لا يمنعُ الأخَ أن يرثَ من مالِ أختِهِ ما فضلَ عن البنتِ أو البناتِ، وإنَّما وجودُ الولدِ الأنثى يمنعُ أنْ يجوزَ الأخُ ميراثَ أختِهِ كُلَّه، فكما أنَّ الولدَ إن كانَ ذكرًا، منعَ الأخَ من الميراثِ، وإن كان أنثى، لم يمنعْهُ الفاضلَ عن ميراثِهَا، وإن منعَهُ حيازةَ الميراثِ، فكذلك الولدُ إن كانَ ذكرًا منَعَ الأختَ الميراثَ بالكليةِ، وإن كانَ أنثى، منعتِ الأختَ أن يفرضَ لها النصفُ، ولم تمنعْهَا أن تأخذَ ما فَضَلَ عن فرضها، واللَّهُ أعلمُ. وأمَّا قولُهُ: "فما أبقتِ الفرائضُ، فلأوْلى رَجُلٍ ذكر". فقد قيل: إنَّ المرادَ به العَصَبةُ البعيدُ خاصَّةً، كبني الإخوةِ والأعمامِ وبنيهم، دون العصبةِ القريبِ، بدليلِ أنَّ الباقي بعدَ الفروضِ يشتركُ فيه الذكرُ والأنثى إذا كانَ العصبةُ قريبًا، كالأولادِ والإخوةِ بالاتفاقِ، فكذلك الأختُ مع البنتِ بالنصِّ الدالِّ عليهِ. وأيضًا فإنه يُخَصُّ منه هذه الصورُ بالاتفاقِ، وكذلك يُخصُّ منه المُعْتَقةُ مولاة النعمة بالاتفاقِ، فتخصُّ صورةُ الأختِ مع البنتِ بالنصِّ. وقالتْ طائفة آخرونَ: المرادُ بقولِهِ: "ألحقُوا الفرائضَ بأهلِهَا": ما يستحقُّه ذوو الفروضِ في الجملةِ، سواء أخذُوه بفرضٍ أو بتعصيبٍ طرأ لهُم، والمرادُ بقولِهِ: "فما بَقِيَ، فلأوْلى رجلٍ ذكر" العصبةُ الذي ليس له فَرْضٌ بحالٍ. ويدلُّ عليه أنه قد رُوي الحديثُ بلفظ آخرَ، وهو: "اقسِموا المالَ بينَ أهلِ الفرائضِ على كتابِ اللَّهِ "

، فدخلَ في ذلكَ كلُّ من كل مَن مِنْ أهلِ الفروضِ بوجه من الوجوهِ. وعلى هذا، فما تأخذُهُ الأختُ مع أخيها، أو ابنِ عمِّها إذا عصبَهَا هو داخل في هذه القسمةِ، لأنها منْ أهلِ الفرائضِ في الجملةِ، فكذلكَ ما تأخذُه الأختُ مع البنتِ. وقالتْ فرقة أخرى: المرادُ بأهلِ الفرائضِ في قولِهِ: "ألحقُوا الفرائضَ بأهلها"، وقولُهُ: "اقسموا المالَ بين أهلِ الفرائضِ "، جملةُ من سمَّاه اللهُ في كتابِهِ من أهلِ المواريثِ من ذوي الفروضِ والعصباتِ كلّهم، فإنَّ كلَّ ما يأخذهُ الورثةُ، فهو فرض فرضَهُ اللَّهُ لهُم، سواء كان مقدَّرًا أو غيرَ مقدر، كما قالَ بعدَ ذكرِ ميراثِ الوالدينِ والأرلادِ: (فَرِيضَةً منَ اللَّهِ) ، وفيهم ذو فرضٍ وعصبةٍ، وكما قال: (لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا (7) . وهذا يشملُ العَصَباتِ وذوي الفروضِ، فكذلكَ قولُهُ: "اقسِمُوا الفرائضَ بين أهلها على كتابِ اللَّهِ ". يشملُ قسمتَهُ بينَ ذوي الفروضِ والعصباتِ على ما في كتابِ اللَّهِ، فإنْ قَسَمَ على ذلكَ ثمَّ فضَلَ منه شيء، فيختصُّ بالفاضلِ أقربُ الذكورِ من الورثةِ. وكذلكَ إن لم يُوجدَ في كتابِ اللَّهِ تصريح بقسمته بين من سمَّاه اللَّهُ من الورثةِ، فيكونُ حينئذٍ المالُ لأوْلى رجلٍ ذَكَر منهم. * * *

سورة المائدة

سُورَةُ المَائِدَةِ قوله تعالى: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (2) إن البرَّ يطلقُ باعتبار معنيينِ: أحدُهُما: باعتبارِ معاملةِ الخلقِ بالإحسانِ إليهِم، وربَّما خصَّ بالإحسانِ إلى الوالدينِ، فيقالُ: برُّ الوالدينِ، ويطلقُ كثيرًا على الإحسانِ إلى الخلقِ عمومًا، وقد صنفَ ابنُ المباركِ كتابًا سماه: "كتاب البرِّ والصلةِ"، وكذلكَ في "صحيح البخاريِّ "، و"جامع الترمذيِّ ": "كتاب البرِّ والصِّلة"، ويتضمن هذا الكتاب الإحسانَ إلى الخلقِ عمومًا، ويقدَّم فيه برُّ الوالدينِ على غيرِهِمَا. وفي حديثِ بهزِ بنِ حكيم، عن أبيه، عن جدِّهِ، أنه قالَ: يا رسولَ اللَّهِ مَنْ أبرُّ؛ قالَ: "أمُّك "، قال: ثم مَن؟ قال: "ثمَّ أباك "، قال: ثم مَنْ؟ قالَ: "ثم الأقربُ فالأقربُ ". ومن هذا المعنى: قولُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: "الحجُّ المبرورِ ليسَ له جزاءٌ إلا الجنَّة". وفي "المسندِ" أنه - صلى الله عليه وسلم - سُئلَ عن برِّ الحجِّ، فقالَ: "إطعامُ الطَّعام، وإفشاءُ السَّلام". وفي روايةٍ أخرى: "وطيبُ الكلام".

وكان ابنُ عمرَ رضيَ اللَّه عنهما يقولُ: البرّ شيء هيِّنٌ: وجهٌ طليق وكلامٌ وإذا قرنَ البر بالتَّقوى، كما في قولِهِ عزَّ وجل: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى) ، فقدْ يكونُ المرادُ بالبرِّ: معاملةَ الخلقِ بالإحسانِ، وبالتَقوى: معاملةَ الحقّ بفعلِ طاعتِهِ، واجتنابِ محرماتِه، وقد يكونُ أُريدَ بالبرّ: فعلُ الواجباتِ، وبالتقوى: اجتنابُ المحرماتِ، وقولُهُ: (وَلا تَعَاوَنوا عَلَى الإِثْم والْعُدْوَانِ) ، قد يُرادُ با لإثم: المعاصِي، وبالعدوان: ظلمُ الخلقِ، وقد يُرادُ بالإثم: ما هو مَحرَّمٌ في نفسِهِ كالزِّنى، والسرقةِ، وشربِ الخمرِ. وبالعُدوانِ: تجاوزُ ما أذنَ فيه إلى ما نُهِيَ عنهُ ممَّا جنسُهُ مأذونٌ فيه، كقتلِ مَنْ أُبيح قتلُهُ لقِصاصٍ، ومن لا يُباحُ، وأخذُ زيادة على الواجبِ من الناسِ في الزكاةِ ونحوِها، ومجاوزةِ الجلدِ الذي أمرَ به في الحدودِ ونحوِ ذلك. والمعنى الثاني من معنى البر: أن يُرادَ به فعلُ جميع الطاعاتِ الظاهرةِ والباطنةِ. كقولِهِ عزَّ وجلَّ: (وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (177) . وقد رُويَ أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - سُئلَ عن الإيمانِ، فتلا هذه الآية. فالبر بهذا المعنى يدخلُ فيه جميعُ الطاعاتِ الباطنةِ كالإخانِ باللهِ وملائكتِهِ

قوله تعالى: (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا)

وكتبِهِ ورسلِهِ، والطاعاتِ الظاهرةِ كإنفاقِ الأموالِ فيما يحبُّه اللَّهُ، وإقامِ الصلاةِ، وإيتاءِ الزكاةِ، والوفاءِ بالعهدِ، والصَّبر على الأقدارِ، كالمرضِ والفقرِ، وعلى الطَّاعاتِ، كالصَّبرِ عند لقاءِ العدو. * * * قوله تعالى: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا) في "الصحيحينِ " عن عمرَ بنِ الخطابِ - رضي الله عنه -، أنَّ رجلاً من اليهود قال له: يا أميرَ المؤمنينَ، آيةٌ في كتابِكُم لو علينا مَعْشَرَ اليهودِ نزلت، لاتًّخذنا ذلك اليومَ عيدًا. فقالَ: أيُّ آيةٍ؟ قالَ: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا) . فقال عمرُ: إنِّي لأعلمُ اليومَ الذي نزلَتْ فيه، والمكانَ الذي نزلتْ فيه، نزَلَتْ ورسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - قائِمٌ بعَرَفَةَ يوم جُمعة. وخرَّج الترمذيُّ عن ابنِ عباسٍ نحوَه، وقالَ فيهِ: نزلتْ في يوم عيدٍ من يومِ جمعةٍ ويومِ عرفةَ. العيدُ هو موسمُ الفرح والسرورِ، وأفراحُ المؤمنينَ وسرورُهم في الدنيا إنما هوَ: بمولاهُم، إذا فازُوا بإكمالِ طاعتِهِ، وحازوا ثوابَ أعمالِهِم بوثوقِهم بوعدِهِ لهم عليها بفضلِهِ ومغفرتِهِ، كما قال تعالى: (قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ ممَّا يَجْمَعُونَ) .

*** وقد يجتمعُ في يوم واحدٍ عيدانِ، كما إذا اجتمعَ يومُ الجمعةِ مع يومِ عرفةَ أو يومِ النَّحْر، فيزدادُ ذلك اليومُ حُرْمةً وفضلاً، لاجتماع عيدينِ فيه. وقد كانَ ذلك؛ اجتمعَ للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في حجتِهِ يومَ عرفةَ، فكانَ يومَ جمعةٍ، وفيه نزلتْ هذه الآية ُ: (الْيَوْمَ أَكمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي ورَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا) ، وإكمالُ الدِّينِ في ذلك اليومِ حصلَ من وجوهٍ: منها: أنَّ المسلمينَ لم يكونُوا حجُّوا حجَّة الإسلامِ بعدِ فرضِ الحجِّ قبل ذلكَ، ولا أحد منهم، هذا قولُ أكثرِ العلماءِ أو كثير منهم، فكمُل بذلك دينُهم لاستكمالهِم عملَ أركانِ الإسلامِ كلِّها. ومنها: أنَّ اللَهَ تعالى أعادَ الحجَّ على قواعدِ إبراهيمَ عليه السلامُ، ونفَى الشرك وأهلَه، فلم يختلطْ بالمسلمينَ في ذلكَ الموقفِ منهم أحد. قال الشعبيُّ: نزلتْ هذه الآية ُ على النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وهو واقف بعرفةَ حين وقفَ موقِفَ إبراهيمَ، واضمحلَّ الشِّرْكُ، وهُدِّمتْ منارُ الجاهليةِ، ولم يَطُف بالبيتِ عُريانِ. وكذا قالَ قتادةُ وغيرُه. وقد قيل: إنه لم ينزلْ بعدَها تحليل ولا تحريم، قاله أبو بكر بنُ عياشٍ. وأمَّا إتمامُ النِّعمةِ فإنَّما حصلَ بالمغفرةِ، فلا تَتمُّ النِّعْمةُ بدونها، كما قالَ لنبيه - صلى الله عليه وسلم -: (لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (2) .

وقالَ تعالى في آيةِ الوضوءِ: (وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ) ، ومن هنا استنبط محمدُ بنُ كعبٍ القرظيُّ بأنَّ الوضوءَ يكفر الذنوبَ، كما وردتْ السّنَةُ بذلك صريحًا، ويشهَدُ له أيضًا أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - سمعَ رجلاً يدعُو ويقولُ: اللَّهُمَّ إني أسالُك تمامَ النعْمةِ. فقال له: "تمامُ النعْمةِ: النَّجاةُ من النَّارِ، ودخولُ الجنَّة ". فهذه الآية ُ تشهدُ لما رُوِي في يومِ عرفةَ اْنه يومُ المغفرةِ والعتقِ من النارِ. * * * [قال البخاريُّ] : "بابُ: زيادةِ الإيمانِ ونُقْصَانِهِ ": وقولِ اللَّهِ تعالى: (وَزِدْنَاهُمْ هُدًى) ، (وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا) . وقال: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكمْ) ، فإذا تركَ شيئا من الكمالِ فهوَ ناقِصٌ. استدل البخاريُّ على زيادةِ الإيمانِ ونقصانهِ بقولِ اللَّه عزَّ وجلَّ: (وَزِدْنَاهُمْ هُدًى) ، وفي زيادةِ الهدَى إيمان آخرُ، كقوله تعالى: (وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى) . ويُفسَّر هذا الهدَى بما في القلوبِ منَ الإيمانِ باللَّهِ وملائكتِهِ وكتبِهِ ورسلِهِ واليومِ الآخرِ، وتفاصيلِ ذلك. ويفسَّر بزيادةِ ما يترتبُ على ذلكَ منَ الأعمالِ الصالحةِ: إمَّا القائمةُ

بالقلوبِ، كالخشيةِ للهِ ومحبتِهِ ورجائه والرضا بقضائِهِ والتوكلِ عليه، ونحوِ ذلك. أو المفعولةِ بالجوارح كالصلاةِ والصيامِ والصدقةِ والحجِّ والجهادِ والذكرِ والأمرِ بالمعروف والنهي عن المنكرِ ونحوِ ذلك. وكلُّ ذلك داخل في مسمَّى الإيمانِ عندَ السلفِ وأهلِ الحديثِ ومَنْ وافقَهم، كما سبقَ ذكرُهُ. واستدلَّ - أيضًا - بقولِهِ تعالى: (وَيَزْدَادَ الَذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا) . وفي معنى هذه الآيةِ: قولُهُ تعالى: (وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادتْهمْ إِيمَانًا) ، وقولُهُ: (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا) . ويفسَّر الإيمانُ في هذهِ الآياتِ بمثلِ ما فُسَر به الهدَى في الآياتِ المتقدمةِ. واستدلَّ - أيضًا - بقولِ اللَّهِ عزَّ وجلَّ: (اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكمْ دِينَكُمْ) ، فدلَّ على أنَّ الدِّينَ ذو أجزاءِ، يكملُ بكمالِها، وينقصُ بفواتِ بعضِها. وهذه الآيةُ نزلتْ في آخرِ حياةِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في حجةِ الوداع، وقد قيلَ: إنه لم ينزلْ بعدَها حلالٌ ولا حرام، كما قالَهُ السديُّ وغيرُه. وكذا قالَ علي بنُ أبي طلحةَ عنِ ابنِ عباسِ: قال: بعثَ اللَهُ نبيَّه بشهادةِ أن لا إله إلا اللَهُ، فلما صدَّق بها الؤمنون زادَهم الصلاةَ، فلما صدَّقوا بها زادَهُم الصيامَ، فلما صدَّقوا به زادهم الزكاةَ، فلما صدَّقوا بها زادَهم الحجَّ، فلمَّا صدَّقوا به زادَهم الجهادَ، ثم أكملَ اللَهُ لهم دينَهم، فقال: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي) . ومعلوم أنَّ النبىَّ - صلى الله عليه وسلم - وأصحابَهُ لم يحجوا حجةَ الفرضِ إلا ذلك العامَ،

فلما حجُّوا حجةَ الإسلامِ كملَ لهمُ الدينُ بتكميلِهِم أركانَ الإسلامِ حينئذٍ. ولم يكنِ الدّينُ قبلَ ذلكَ ناقصًا، كنقصِ مَنْ تركَ شيئًا من واجباتِ دِينه، بل كانَ الدِّينُ في كلّ زمانٍ كاملاً بالنسبةِ إلى ذلكَ الزمانِ بما فيه من الشرائع والأحكام، وإنَّما هو ناقصٌ بالنسبةِ إلى زمانِ الذي بعدَه الذي تجدَّد فيه من الشرائع والأحكامِ ما لم يكنْ قبلَ ذلك. كما يقالُ: إنَّ شريعةَ الإسلامِ أكملُ من شريعةِ موسى وعيسَى، وإنَّ القرآنَ أكملُ من التوراةِ والإنجيلِ. وهذا كما سمَّى النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - النساءَ ناقصاتِ دينٍ، وفَسَّر نقصانَ دينهنَّ بتركِ الصلاةِ والصيامِ في زمنِ حيضِهِنَّ، مع أنها قائمةٌ في تلكِ الحال بما وجبَ عليها من غيرِ الصلاةِ، ولكنَّ نقصانَ دينِها بالنسبةِ إلى مَن هي طاهرةٌ تصلِّي وتصومُ. وهذا مبنيٌّ على أنَّ الدِّين هو الإسلامُ بكمالِهِ، كما تقدَّمَ ذكرُهُ، والبخاريُّ عنده أنَّ الإسلامَ والإيمانَ واحدٌ، كما تقدَّم ذكرُهُ. وقد احتجَّ سفيانُ بنُ عيينةَ وأبو عبيدٍ وغيرُهم بهذه الآيةِ على تفاضلِ الإيمانِ. قال أبو عبيدٍ: قد أخبرَ اللَّهُ أنَّه أكملَ الدِّينَ في حجةِ الوداع في آخرِ الإسلامِ، وزعم هؤلاءِ أنَّه كان كاملاً قبل ذلك بعشرينَ سنةً في أولِ ما نزلَ الوحيُ. قال: وقد اضطَّر بعضُهم حين أدخلتُ عليه هذه الحجةَ إلى أن قالَ: الإيمانُ ليسَ هو مجموعَ الدِّين، ولكنَّ الدِّين ثلاثةُ أجزاءٍ، فالإيمانُ جزءٌ، والفرائضُ

جزء، والنوافلُ جزء. قال أبو عبيدٍ: وهذا غيرُ ما نطقَ به الكتابُ، فإنَّ اللَّهَ أخبرَ أن الإسلامَ هو الدِّينُ برمَّته، وزعمَ هؤلاءِ أنَّه ثلثُ الدِّينِ. انتهى. فالمرجئةُ، عندهم: الإيمانُ التصديقُ، ولا يدخلُ فيه الأعمالُ، وأمَّا الدِّينُ فأكثرُهم أدخلَ الأعمالَ في مسمَّاه، وبعضُهم خالفَ في ذلك - أيضًا، والآيةُ نصّ في ردِّ ذلكَ. واللَّهُ أعلمُ. ثمَّ خرَّج البخاريُّ في هذا البابِ حديثينِ: أحدُهما: حديثُ ة هشامٍ الدسْتوائيِّ: ثنا قتادةُ عنْ أنسٍ عنِ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "يخرجٌ منَ النارِ من قالَ: لا إله إلا اللَّهُ وفي قلبه وزْنُ شعيرة من خير، ويخرجٌ من النارِ منْ قال: لا إله إلا اللَهُ وفي قلبهِ وزنُ بُرَّةٍ منْ خير، ويخرجٌ من النارِ من قال: لا إله إلا اللهُ وفي قلبِهِ وزْنُ ذَرة من خيْر". خرَّجه عن مسلمٍ بنِ إبراهيمَ، عن هشامٍ، به. ثمَّ قال: وقال أبانُ: ثنا قتادةُ ثنا أنس، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: "من إيمانٍ "، مكانَ: "منْ خَيْر". ففي هذه الروايةِ التي ذكرَها تعليقًا: التصريحُ بتفاوتِ الإيمانِ الذي في القلوبِ. وأيضًا؛ فيها: التصريحُ بسماع قتادة له من أنسٍ، فزالَ ما كان يتوهَّم من تدليسِ قتادةَ.

وقد خرَّج البخاريُّ هذه اللفظةَ في حديثِ أنسٍ في أواخرِ كتابِهِ مسندةً. من روايةِ معبدِ بنِ هلالٍ العنزيِّ، عن أنسٍ. وخرَّج حديثَ أبي سعيدٍ الخدريِّ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في هذا المعنى فيما تقدَّم من "كتابِهِ " باختلافِ لفظِ الخيرِ والإيمانِ، كاختلافِ حديثِ أنسٍ. والحديثُ نصّ في تفاوتِ الإيمانِ الذي في القلوبِ، وقد سبقَ القولُ في تفاوتِ المعرفةِ وتفاضلِها فيما تقدَّم. الحديثُ الثاني الذي خرَّجه في هذا البابِ: حديثُ: طارقِ بنِ شهابٍ، عنْ عمرَ بنِ الخطابِ، أنَّ رجلاً منَ اليهودِ. قالَ لهُ: يا أميرَ المؤمنينَ، آية في كتابِكُم تقرءونها لو علينا معْشرَ اليهودِ نزلتْ لاتَّخذنا ذلك اليوم عيدًا، قال: أيُّ آيةٍ؟ قال: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ) ، فقال عمرُ. قدْ عرفْنا ذلك اليومَ، والمكانَ الذي نزلَتْ فيه على النبي - صلى الله عليه وسلم -، نزَلَتْ على النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وهوَ واقِف بعرفَةَ يومَ الجُمُعةِ. وقد خرَّجه ابنُ جريرٍ الطبريُ في "تفسيره" من وجهٍ آخرَ عن عمرَ. وزاد فيه: أنَّه قال: وكلاهُما بحمدِ اللَّهِ لنا عيدٌ. وخرَّج الترمذيُ، عن ابنِ عباسٍ، أنَّه قرأ هذه الآيةَ، وعندَه يهوديّ. فقال: لو أُنزلتْ هذه الآية ُ علينَا لاتخذنا يومَها عيدًا، فقال ابنُ عباسٍ: فإنَّها .

نزلتْ في يوم عيدينِ: في يومِ جُمعةٍ، ويومِ عرفةَ. فهذا قد يُؤخذُ منه أنَّ الأعيادَ لا تكونُ بالرأي والاختراع كما يفعلُه أهلُ الكتابيْنِ من قبلنا، وإنَّما تكونُ بالشرع والاتباع. فهذه الآية ُ لما تضمنتْ إكمالَ الدِّين وإتمامَ النِّعمة، أنزلَها اللَّهُ في يومٍ شرعَه عيدًا لهذه الأمة من وجهينِ: أحدهما: أنه يوم عيدِ الأسبوع، وهو يومُ الجمعةِ. والثاني: أنَّه يومُ عيدِ أهلِ الموسم، وهوَ يومُ مجمَعِهم الأكبرِ وموقفهم الأعظم. وقد قيل: إنَّه يومُ الحجِّ الاكبرِ. وقد جاء تسميتُه عيدًا في حديثٍ مرفوع خرَّجه أهلُ "السنن" من حديثِ عقبةَ بن عامرٍ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "يومُ عرفةَ، ويومُ النَّحْرِ، وأيامُ التشريقِ، عيدُنا أهلَ الإسلامِ، وهي أيامُ أكلٍ وشرب ". وقد أُشكلَ وجهُهُ على كثيرٍ من العلماءِ، لأنَّه يدلُّ على أنَّ يومَ عرفةَ يومُ عيدٍ لا يصامُ، كما رُوي ذلك عن بعضِ المتقدِّمينَ. وحملَهُ بعضُهم على أهلِ الموقفِ. وهو الأصحُ، لأنَّه اليومُ الذي فيه أعظمُ مجامِعِهم، ومواقفِهم، بخلافِ أهلِ الأمصارِ فإنَّ يومَ اجتماعهم يوم النحرِ، وأمَّا أيامُ التشريقِ فيشاركُ أهلُ الأمصارِ أهلَ الموسم فيها؛ لأنها أيامُ ضحاياهم وأكلهم من نسكِهِم، هذا قولُ جمهورِ العلماءِ.

وقال عطاءٌ: إنَّما هي أعيادٌ لأهلِ الموسم، فلا يُنْهى أهل الأمصارِ عن صيامِها. وقولُ الجمهورِ أصحُ. ولكنَّ الأيامَ التي تحدثُ فيها حوادثُ من نعم اللَّه على عبادِهِ، لوْ صامَها بعضُ الناسِ شكرًا، من غيرِ اتخاذِها عيدًا، كان حسنًا، استدلالاً لصيامِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - عاشوراءَ، لما أخبرَه اليهودُ بصيامِ موسى له شكراً، وبقولِ النبي - صلى الله عليه وسلم - لمَّا سُئلَ عن صيامِ يومِ الاثنين. قال: "ذلك يومٌ وُلدتُ فيه، وأُنزلَ عليَّ فيه". فأمَّا الأعيادُ التي يجتمعُ عليها الناسُ، فلا يُتجاوزُ بها ما شرعَهَ اللَّهُ لرسولِهِ، وشرعَه الرسولُ لأُمَّتِهِ. والأعيادُ هي مواسمُ الفرح والسرورِ، وإنَّما شرعَ اللَّهُ لهذهِ الأمَّة الفرحَ والسرورَ بتمامِ نعمته وكمالِ رحمتِهِ، كما قال تعالى: (قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا) ، فشرعَ لهم عيدينِ في سنةٍ، وعيدًا في كلِّ أسبوعٍ. فأمَّا عيدا السنةِ: فأحدُهُما: تمامُ صيامهم الذي افترضه عليهم كلَّ عامٍ، فإذا أتمُّوا صيامَهم أعتقهم من النارِ، فشرعَ لهم عيدًا بعدَ إكمالِ صيامِهم، وجعله يومَ الجوائِزِ. يرجعونَ فيه من خروجِهِم إلى صلاتِهِم وصدقتِهم بالمغفرةِ، وتكونُ صدقةُ الفطرِ وصلاةُ العيدِ شكرًا لذلكَ.

والعيدُ الثاني: أكبرُ العيدينِ، عندَ تمامِ حجِّهم، بإدراكِ حجِّهم بالوقوفِ بعرفةَ، وهو يومُ العتقِ منَ النارِ، ولا يحصل العتقُ من النارِ والمغفرةُ للذنوبِ والأوزارِ في يومٍ من أيامِ السنةِ أكثرَ منه، فجعلَ اللَّهُ عقبَ ذلك عيدًا. بل هو العيدُ الأكبرُ، فيكملُ أهلُ الموسم فيه مناسكَهم، ويقضُون فيه تفثَهم، ويوفونَ نذورَهم، ويطوفونَ بالبيتِ العتيقِ. ويشاركُهُم أهلُ الأمصارِ في هذا العيدِ؛ فإنَّه يشاركونَهم في يومِ عرفةَ في العتقِ والمغفرة، وإنْ لم يشاركوهم في الوقوفِ بعرفةَ، لأنَّ الحجَّ فريضةُ العمرِ لا فريضةَ كلًّ عامٍ، بخلافِ الصيامِ. ويكون شكرُ عيدِ أهلِ الأمصارِ: الصلاةُ والنحرُ، والنحرُ أفضلُ من الصدقةِ التي في يومِ الفطرِ، ولهذا أمرَ اللَّهُ نبيَّه - صلى الله عليه وسلم - أن يشكر نعمته عليه بإعطائهِ الكوثَرَ بالصلاةِ له والنَّحْرِ، كما شرع ذلك لإبراهيمَ خليلِهِ - عليه السلامُ - عند أمرِه بذبح ولدِه وافتدائِهِ بذبْح عظيم. وأمَّا عيدُ الأسبوع، فهو يومُ الجمعةِ، وهو متعلقٌ بإكمالِ فريضة الصلاةِ. فإنَّ اللَّهَ فرضَ على عبادِهِ المسلمينَ الصلاةَ كلَّ يومٍ وليلةٍ خمسَ مرَّاتٍ، فإذا كمُلَتْ أيامُ الأسبوع التي تدورُ الدنيا عليهَا، وأكملُوا صلاتَهم عليها، شرعَ لهم يومَ إكمالِهَا - وهوَ اليومُ الذي انتهى فيه الخلقُ، وفيه خُلِقَ آدمُ، وأُدخلَ الجنَّةَ - عيدًا، يجتمعونَ فيه على صلاةِ الجمعةِ. وشرع لهم الخطبة تذكيرًا بنعم اللَّهِ عليهم، وحثّا لهم على شكرها، وجعلَ

شهودَ الجمعةِ بأدائها كفارةً لذنوب الجمعة كلِّها وزيادة ثلاثةِ أيامٍ. وقد رُوي أن يومَ الجمعةِ أفضلُ من يومِ الفطرِ ويومِ النحر. خرَّجه الإمامُ أحمدُ في "مسندهِ ". وقاله مجاهدٌ وغيرُه. ورُوي أنه حجُّ المساكين. ورُوي عن عليٍّ، أنَّه يومُ نسكِ المسلمينَ. وقال ابن المسيبِ: الجمعةُ أحبُّ إليَّ من حجِّ التطوع. وجعلَ اللَّهُ التبكيرَ إلى الجمعةِ كالهدي، فالمبكِّرُ في أول ساعةٍ كالمهدي بدنة، ثم كالمهدي بقرةً، ثم كالمهديِ كبشًا، ثم كالمهدي دجاجةً، ثم كالمهدي بيضه. ويوم الجمعةِ يومُ المزيدِ في الجنة، الذي يزورُ أهلُ الجنةِ فيه ربَّهم، يتجلَّى لهم في قدرِ صلاةِ الجمعة. وكذلك رُوي في يومِ العيدينِ أنَّ أهلَ الجنةِ يزورون ربهم فيها، وأنَه يتجلَّى بها لأهلِ الجنَةِ عمومًا، يشاركُ الرجالَ فيها النساءُ. فهذه الأيامُ أعياد للمؤمنينَ في الدنيا، وفي الآخرةِ عمومًا. وأمَّا خواصُ المؤمنينَ، فكل يوم لهم عيدٌ، كما قالَ بعضُ العارفينَ.

ورُوي عن الحرمِ: كلُّ يومٍ لا يُعصَى اللَهُ فيه فهو عيدٌ. ولهذا رُوي أنَّ خواصَّ أهلِ الجنة يزورون ربَّهم، وينظرونَ إليه كلَّ يومٍ مرتينِ بُكرةً وعشيًا. وقد خرَّجه الترمذيُّ من حديث ابنِ عمرَ - مرفوعًا، وموقوفًا. ولهذا المعنى - واللَّهُ أعلمُ - لما ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - الرؤيةَ في حديثِ جريرِ بنِ عبدِ اللَّهِ البجلي، أمرَ عقبَ ذلك بالمحافظة على الصلاةِ قبل طلوع الشمسِ وقبلَ غروبِها، فإنَّ هذينِ الوقتينِ وقتٌ لرؤيةِ خواصِّ أهلِ الجنةِ ربَّهم، فمن حافظَ على هاتينِ الصلاتينِ على مواقيتهما، وأدائهما. وخشوعهما، وحضورِ القلبِ فيهما، رُجي له أن يكون ممن ينظرُ إلى اللَّهِ في الجنةِ في وقتهما. فتبين بهذا: أن الأعيادَ تتعلقُ بإكمال أركانِ الإسلامِ، فالأعيادُ الثلاثةُ المجتمَعُ عليها تتعلقُ بإكمال الصلاةِ والصيامِ والحج. فأمَّا الزكاة، فليس لها زمانٌ معينٌ تكملُ فيه. وأما الشهادتانِ، فإكمالُهما هو الاجتهادُ في الصدق فيهما، وتحقيقِهما والقيامِ بحقوقِهما. وخواصُّ المؤمنينَ يجتهدون على ذلكَ كلَّ يومٍ ووقتٍ، فلهذَا كانتْ أيامُهُم كلُّها أعيادًا، ولذلكَ كانتْ أعيادُهم في الجنةِ مستمرةً. واللَّهُ أعلم. * * *

قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برءوسكم وأرجلكم إلى الكعبين

قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (6) [قالَ البخاريُّ] : ثنا عبدُ اللَّهِ بنُ يوسفَ: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ حَتَّى إِذَا كُنَّا بِالْبَيْدَاءِ أَوْ بِذَاتِ الْجَيْشِ انْقَطَعَ عِقْدٌ لِي فَأَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْتِمَاسِهِ وَأَقَامَ النَّاسُ مَعَهُ وَلَيْسُوا عَلَى مَاءٍ فَأَتَى النَّاسُ إِلَى أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ فَقَالُوا أَلَا تَرَى مَا صَنَعَتْ عَائِشَةُ أَقَامَتْ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالنَّاسِ وَلَيْسُوا عَلَى مَاءٍ وَلَيْسَ مَعَهُمْ مَاءٌ فَجَاءَ أَبُو بَكْرٍ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاضِعٌ رَأْسَهُ عَلَى فَخِذِي قَدْ نَامَ فَقَالَ حَبَسْتِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالنَّاسَ وَلَيْسُوا عَلَى مَاءٍ وَلَيْسَ مَعَهُمْ مَاءٌ فَقَالَتْ عَائِشَةُ فَعَاتَبَنِي أَبُو بَكْرٍ وَقَالَ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَقُولَ وَجَعَلَ يَطْعُنُنِي بِيَدِهِ فِي خَاصِرَتِي فَلَا يَمْنَعُنِي مِنْ التَّحَرُّكِ إِلَّا مَكَانُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى فَخِذِي فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ أَصْبَحَ عَلَى غَيْرِ مَاءٍ فَأَنْزَلَ اللَّهُ آيَةَ التَّيَمُّمِ فَتَيَمَّمُوا فَقَالَ أُسَيْدُ بْنُ الْحُضَيْرِ مَا هِيَ بِأَوَّلِ بَرَكَتِكُمْ يَا آلَ أَبِي بَكْرٍ قَالَتْ فَبَعَثْنَا الْبَعِيرَ الَّذِي كُنْتُ عَلَيْهِ

فَأَصَبْنَا الْعِقْدَ تَحْتَهُ. قيل: إن الرواية هنا: "فقامَ حتَّى أصبح " ورواه في "التفسيرِ" بلفظ: "فنام حتى أصبح " وهو لفظُ مسلم، وكذا في "الموطأ". هذا السياقُ سياقُ عبدِ الرحمنِ بنِ القاسم لهذا الحديثِ عن أبيه، عن عائشة. وقد رواه هشامُ بنُ عُرْوةَ عن أبيه، عن عائشةَ فخالَفَ في بعضِ ألفاظِه ومعانِيه مما لا يَضُرُّ. وقد خرَّجه البخاريّ في موضع آخرَ، وفي بعضِ ألفاظِهِ اختلافٌ على عروة - أيضًا. ومما خالفَ فيه: أنه ذكر أن عائشة استعارتْ قلادةً من أسماءَ فسقطتْ. وأنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أرسلَ رَجُليْنِ في طلَبِها وليس معهما ماءٌ فنزلتْ آيةُ التيمم. وفي روايةٍ: أنَّهُما صلَّيا بغيرِ وضوءِ. وهذا يمكنُ الجمعُ بينه وبين حديثِ القاسم، عن عائشة بأن القلادة لمَّا سقطتْ ظنُّوا أنها سقطتْ في المنزلِ الماضى، فأرسلُوا في طلبِها وأقامُوا في منزلهِم وباتُوا فيه، وفقد الجميعُ الماءَ حتى تعذَّر عليهم الوضوء. وفي حديثِ هشامٍ: أنَّ ذلك كان ليْلَةَ الأبواءِ. وفي روايةٍ عنه: أنَّ ذلك المكانَ كان يُقال له: الصلصل. وروى ابنُ إسحاقَ: حدثني يحيى بن عبَّادِ بنِ عبدِ اللَّهِ بنِ الزُّبيرِ، عن أبيه، عن عائشة، قالتْ: أقبلْنا مع رسولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - في بعضِ أسفاره، حتى إذا كنَّا بِتُرْبانَ - بلدٌ بينه وبين المدينةِ بَرِيدٌ وأميالٌ، وهو بلدٌ لا ماءَ به - وذلك من

السَّحَر، انْسَلَّتْ قلادة لي من عُنُقِي فوقَعتْ - وذكر بقيةَ الحديثِ. خرَّجه الإمامُ أحمد. وقد رُوِي هذا الحديثُ من حديثِ عمَّارِ بن ياسرٍ - أيضًا - أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - عَرَّسَ بأولاتِ الجيشِ ومعه عائشةُ، فانقطعَ عِقْد لها من جزع ظَفَاهـ، فحُبِس الناسُ ابتغاءَ عِقْدها ذلك حتى أضاءَ الفجرُ، وليس مع الناسِ ماء، فتغَيَّظ عليها أبو بكرٍ وقال: حبَسْتِ الناسَ وليس معهم ماء؟ فأنزلَ اللَّهُ على رسوله - صلى الله عليه وسلم - رُخصةَ التطهر بالصعيدِ الطيب، فتيمم المسلمون مع رسولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وذكر الحديثَ. خرَّجه الإمامُ أحمدُ وأبو داود - وهذا لفظُهُ - والنسائي وابنُ ماجةَ. وفي إسنادِهِ اختلافٌ. والآية التي نزلتْ بسببِ هذه القصةِ كانتْ آيةَ المائدة، فإنَّ البخاريَّ خرَّج هذا الحديثَ في "التفسيرِ" من كتابِهِ هذا من حديثِ ابنِ وهبٍ، عن عمرٍو عن عبدِ الرحمنِ بنِ القاسم، وقال في حديثِهِ: فنزلتْ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ) هذه الآية ُ. وهذا السفرُ الذي سَقَط فيه قلادة عائشة أو عِقْدُها كان لغزوة المرَيْسِيع إلى بني المُصْطَلِق من خُزاعةَ سنةَ ستٍّ، وقيلَ: سنة خمسٍ، وهو الذي ذكره ابنُ سعدٍ عن جماعةٍ من العلماءِ، قالُوا: وفي هذه الغزوةِ كان حديثُ الإفْكِ. وقد ذكر الشافعيُّ: أنَّ قصة التيمم كانتْ في غزوةِ بني المُصْطَلِق، وقال:

أخبرَني بذلك عددٌ من قريشٍ منْ أهلِ العلم بالمغازِي وغيرِهم. فإن قيلَ: فقد ذكر غيرُ واحدٍ، منهُم: ابنُ عبدِ البر: أنه يُحتملُ أنْ يكون الذي نزلَ بسببِ قصة عائشةَ الآيةُ التي في سورةِ النساءِ، فإنها نزلتْ قبلَ سورةِ المائدة بيقين، وسورةُ المائدةِ من أواخِر ما نزل من القرآنِ، حتى قيلَ: إنها نزلتْ كلُّها أو غالبُها في حَجَّةِ الوداع، وآيةُ النساءِ نزولها متقدِّم. وفي "صحيح مسلم " من حديثِ سعدِ بنِ أبي وقَّاصٍ أنها نزلتْ فيه لمَّا ضَرَبَه رجلٌ قد سكِر بِلَحْي بعير، ففزَرَ أنْفَه. وفي "سن أبي داودَ" والنسائيِّ وابنِ ماجةَ، عن عليٍّ، أنَّ رجلاً صلَّى وقد شربَ الخمرَ، فخَلَّطَ في قراءتِهِ، فنزلتْ آيةُ النساءِ. فقد تبيَّن بهذَا: أنَّ الآيةَ التي في سورةِ النساءِ نزلتْ قبلَ تحريمِ الخمرِ. والخمرُ حُرِّمتْ بعد غزوةِ أُحُدٍ، ويقال: إنها حرمتْ في محاصرةِ بني النضيرِ بعدَ أُحُدٍ بيسيرٍ، وآيةُ النساءِ فيها ذكر التيمم، فلو كانتْ قد نزلتْ قبل قصةِ عائشةَ لما توقفوا حينئذٍ في التيممِ، ولا انتظرُوا نزولَ آية أخرى فيه. قيلَ: هذا لا يصح؛ لوجوهٍ: أحدها: أنَّ سببَ نزولِ آيةِ النساءِ قد صحَّ أنه كانَ ما ينشأُ من شربِ الخمرِ من المفاسدِ في الصلاةِ وغيرِها، وهذا غيرُ السببِ الذي اتَّفَقَتِ الرواياتُ عليه في قصةِ عائشةَ، فدل على أنَّ قصةَ عائشةَ نزلَ بسببِها آيةٌ غيرُ آيةِ النساءِ. وليسَ سوى آيةِ المائدةِ.

والثاني: أنَّ آيةَ النساءِ لم تُحَرِّم الخمرَ مطلقًا بل عند حضورِ الصلاةِ، وهذا كان قبلَ أحد، وقصة عائشةَ كانتْ بعد غزوةِ أُحُدٍ بغيرِ خلافٍ، وليسَ في قصَّتِها ما يناسبُ النهي عن قربانِ الصلاةِ مع السُّكْرِ حتى تُصَدَّر به الآيةُ. وأمَّا تصديرُ الآيةِ بذكرِ الوضوءِ فلم يكنْ لأصلِ مشروعيتِهِ، فإنَّ الوضوءَ كان شُرع قبلَ ذلك بكثيرٍ، كما سبقَ تقريرُه في أولِ "كتابِ الوضوءِ"، وإنَّما كان تمهيدًا للانتقالِ عنه إلى التيمم عندَ العجزِ عنه. ولهذا قالتْ عائشةُ: فنزلتْ آيةُ التيمم، ولم تقل: آيةُ الوضوءِ. والثالث: أنه قد ورد التصريحُ بذلكَ في "صحيح البخاريِّ " كما ذكرناه. وأمَّا توقُّفهم في التيممِ حتَّى نزلتْ آيةُ المائدةِ مع سبْقِ نزولِ التيممِ في سورة النساءِ، فالظاهرُ - واللَّهُ أعلمُ - أنَّهم توقَّفوا في جوازِ التيممِ في مثلِ هذه الواقعةِ، لأنَّ فَقْدَهم للماءِ إنما كانَ بسببِ إقامتِهِم لطلبِ عقْدٍ أو قلادة، وإرسالِهم في طلبِها من لا ماءَ معه مع إمكانِ سيرِهم جميعًا إلى مكانٍ فيه ماءٌ، فاعتقدُوا أنَّ في ذلك تقصيرًا في طلبِ الماءِ، فلا يُباحُ معه التيممُ. فنزلتْ آيةُ المائدةِ مُبَيِّنةً جوازَ التيمم في مثلِ هذه الحالِ، وأنَّ هذه الصورةَ داخلةٌ في عمومِ آيةِ النساءِ. ولا يُستبعدُ هذا، فقد كان طائفةٌ من الصحابةِ يعتقدونَ أنَّه لا يجوزُ استباحةُ رُخَصِ السَّفرِ من الفطرِ والقَصْرِ إلا في سفرِ طاعةٍ دونَ الأسفارِ المُباحةِ، ومنهم من خَصَّ ذلك بالسفرِ الواجبِ كالحجِّ والجهادِ، فلذلكَ توقَّفوا في جوازِ التيمم للاحتباسِ عن الماءِ لطلب شيءٍ من الدنيا حتى بيَّن لهم جوازَهُ ودخولَهُ في عمومِ قولهِ: (فَلَمْ تَجِدوا مَاءً) ، ويدل ذلك على

جوازِ التيمم في سفرِ التجارةِ وما أشبهه من الأسفارِ المباحةِ، وهذا مما يَستأنس به من يقول: إنَّ الرُّخَصَ لا تُستباح في سفرِ المعصية. وأمَّا دعوى نزول سورةِ المائدةِ كلِّها في حجِّةِ الوداع فلا تَصحُّ، فإن فيها آيات نزلتْ قبلَ ذلكَ بكثيرٍ، وقد صحَّ أن المقْدادَ قال للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم - يومَ بدرٍ: لا نقول لكَ كما قال بنو إسرائيل لموسى: اذهبْ أنتَ وربُّك فقاتِلا إنَّا هَا هُنا قاعدُون، فدل هذا على أنَّ هذه الآية نزلتْ قبل غزوةِ بدر. واللَّهُ أعلمُ. وقد ذكرَ اللَّهُ تعالى التيممَ في الآيتينِ بلفظ واحد، فقال فيهما: (وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ) . فقولُهُ تعالى: (وَإِن كنتُم مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ) ، ذكر شيئين مبيحين للتيمم: أحدهما: المرضُ، والمرادُ به عندَ جمهورِ العلماءِ: ما كانَ استعمال الماءِ معه يُخشى منه الضررُ. والثاني: السفرُ، واختلفُوا: هل هوَ شرطٌ للتيمم مع عدمِ الماءِ، أم وقعَ ذكرُه لكونِهِ مظنَّة عدمِ الماءِ غالبًا، فإن عدمَ الماء في الحضرِ قليل أو نادرٌ، كما قال الجمهورُ في ذكرِ السفرِ في آيةِ الرَّهْنِ، أنَّهَ إنما ذُكِر السَّفرُ لأنه مظنَّةُ عدمِ الكاتب، وليس بشرط للرَّهنِ. والجمهورُ: على أنَّ السفر ليس بشرط للرهنِ ولا للتيمم مع عدمِ الماءِ. وأنَه يجوزُ الرهنُ في الحضرِ، والتيمم مع عدمِ الماءِ في الحضرِ. وقالت الظاهريةُ: السفر شرطٌ في الرهنِ والتيمم.

وعن أحمدَ روايةٌ باشتراطِ السفرِ للتيمم خاصةً، وحُكي روايةً عن أبي حنيفة وعن طائفة من أصحابِ مالكٍ. وعلى هذا: فلا فرق بين السفرِ الطويلِ والقصيرِ على الأصح عندهم. وقولُهُ: (أَوْ جَاءَ أَحَدٌ منكُم منَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتمُ النِّسَاءَ) . قد قيل: إنَّ "أو" هنا بمعنى الواو، كما يقولُ الكوفيونَ ومنْ وَافَقَهُم، فإنه لما ذَكَر السببينِ المبيحينِ للتيمم، وهما التضررُ باستعمالِهِ بالمرضِ ومظنةُ فقْدِهِ بالسفرِ ذكر ما يُستباحُ منه الصلاةُ بالتيمم وهو الحدثُ، فإنَّ التيمم يُبيحُ الصلاةَ من الحدثِ الموجودِ ولا يرفعُه عند كثيرٍ من العُلماءِ، وهو مذهبُ الشافعيِّ، وظاهرُ مذهبِ أحمدَ وأصحابِه، ولهذا قالُوا: يجب عليه أن ينوي ما يستبيحُه من العباداتِ وما يَستبيح فعلَ العباداتِ منه من الأحداثِ. وقالتْ طائفةٌ: بل التيمم يرفع الحدثَ رفْعًا مؤقتًا بعدمِ القدرةِ على استعمالِ الماءِ، ورُبَّما استدل بعضُهم بهذه الآيةِ، وقالُوا: إنَّما أمرَ اللَّهُ بالتيمم مع وجودِ الحدثِ، ولو كانَ التيممُ واجبًا لكلِّ صلاةٍ أو لوقتِ كل صلاةٍ - كما يقولُهُ من يقول: إنَّ التيممَ لا يرفعَ الحدثَ، على اختلافٍ بينهم في ذلك - لما كان لذكرِ الحدثِ معنًى. والأظهرُ - واللهُ أعلمُ -: أنَّ "أو" ها هُنا ليست بمعنى الواو، بل هي على بابها، وأُرِيدَ بها: التقسيم والتنويع، وأنَّ التيممَ يُباح في هذه الحالاتِ الثلاثِ، واثنتان منهما مَظِنَّتان، وهُما: المرضُ والسفرُ، فالمرضُ مظنَّة التضررِ باستعمالِ الماء، والسفر مظنة عدم الماءِ، فإن وُجدتْ الحقيقةُ في هاتينِ المظنتينِ جازَ التيممُ، وإلا فلا.

ثمَّ ذكرَ قسمًا ثالثًا، وهو وجودُ الحقيقةِ نفسِها، فذكر أنَّ من كانَ مُحْدِثًا ولم يجدْ ماءً فلْيَتَيمَّم، وهذا يشملُ المسافرَ وغيرَه، ففي هذا دليلّ على أنَّ التيممَ يجوز لمن لم يجدِ الماءَ، مسافرًا كان أو غيرَ مسافرٍ، واللَّهُ أعلمُ. وقد ذكر سبحانَهُ حدثَين: أحدهما: الحدثُ الأصغرُ، وهو المجيء من الغائطِ، وهو كناية عن قضاء الحاجةِ والتَّخَلِي، ويلتحقُ به كلُّ ما كانَ في معناهُ، كخروج الريح أو النجاساتِ من البدَنِ عندَ من يرى ذلكَ. والثاني: ملامسةُ النساءِ، واختلفُوا: هل المرادُ بها الجماعُ خاصةً، فيكونُ حينئذٍ قد أمَرَ بالتيمم من الحدثِ الأصغرِ والأكبرِ، وفي ذلكَ رد على من خالفَ في التيمم للجنابةِ كما سيأتي ذكْرُهُ - إن شاءَ اللَّهُ تعالى - أو المرادُ بالملامسةِ مقدِّماتُ الجِماع من القُبْلةِ والمباشرةِ لشهوة، أو مطلقُ التقاء البَشْرَتين، وعلى هذين القولينِ فلم يذكر في الآيةِ غير التيمم من الحدث الأصغر. وقولُه تعالى: (فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً) ، متعلِّق بمن أحدثَ، سواء كان على سفر أو لم يكنْ، كما سبق تقريرُه، دون المريضِ، لأنَّ المريضَ لا يُشترط لتيممه فقْدُ الماءِ، هذا هو الذي عملَ به الأُمة سلفًا وخلفًا. وحُكِيَ عن عطاءٍ والحسنِ: أنَّ فقْدَ الماء شرط للتيمم مع المرض - أيضًا - فلا يُباحُ للمريض أن يتيممَ مع وجودِ الماءِ وإن خشي التلفَ. وهذا بعيدُ الصحةِ عنهما، فإنه لو لم يَجُزِ التيممُ إلا لفقدِ الماء لكان ذِكْرُ المرضِ لا فائدةَ له.

وقولُهُ: (فَتَيَمَّمُوا) ، أصلُ التيمم في اللغةِ القصدُ، ثم صارَ علمًا على هذه الطهارةِ المخصوصةِ. وقولُهُ: (صَعِيدًا) ، اختلَفُوا في المرادِ بالصعيدِ، فمنهُم من فَسَّره بما تصاعدَ على وجهِ الأرضِ من أجزائها، ومنهم: من فسره بالتراب خاصةً. وقولُهُ: (طَيِّبًا) ، فسره من قال: الصعيدُ: ما تصاعدَ على وجهِ الأرضِ " بالطاهرِ، ومن فسره بالترابِ، قال: المرادُ بالصعيدِ التراب المُنْبِت، كقوله تعالى: (وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُج نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ) ، وهذا مذهبُ الشافعيِّ وأحمدَ في المشهورِ عنه. وقال ابنُ عباسٍ: الصعيدُ الطيبُ ترابُ الحَرْثِ. وقولُهُ: (فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مِّنْهُ) ، كقولِهِ في الوضوءِ: (وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ) . وقد ذكرنا فيما سبَقَ في "أبوابِ الوضوءِ" أنَّ كثيرًا من العلماءِ أوجبوا استيعاب مسح الرأسِ بالماءِ، وخالفَ فيه آخرونَ، وأكثرُهم وافقُوا هاهُنا. وقالُوا: يجبُ استيعابُ الوجهِ والكفينِ بالتيمم، ومنهُم من قال: يُجْزِئُ أكثرُهما، ومنهم من قال: يجزئُ مسحُ بعضِهما كالرأسِ - أيضًا. وقولِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - لعمَّار: "إنَّما يكفيك أن تضرب بيديك الأرضَ، ثم تمسحُ بهما وجهك وكفَّيْك "يردُّ ذلك ويبينُ أنَّ المأمورَ به مسحُ جميعهما. وسيأتِي الكلامُ على حدِّ اليدينِ الأمورِ بمسحِهِما في التيممِ - إن شاءَ تعالى. وقولُهُ تعالى: (مِّنْهُ) يستدل به منْ قال: لا تيمم إلا بترابٍ لَهُ

غبارٌ يعلق باليدِ، فإن قوله: (مِّنْهُ) ، يقتضي أن يكونَ الممسوحُ به الوجهُ واليدان بعض الصعيدِ، ولا يمكنُ ذلك إلا فيما له غبارٌ يَعْلَق باليد حتى يقع المسح به، ومَنْ خالَفَ في ذلك، جعَل "مِن" هاهُنا لأبعد الغاية، لا للتبعيض، وهو بعيد يأباه سياق الكلامِ، واللَّهُ تعالى أعلم. * * * وقد أجمع العلماءُ على أنَّ مسح الوجهِ واليدينِ بالترابِ في التيمم فرضٌ لا بدَّ منه في الجملةِ، فإنَّ اللهَ تعالى يقولُ: (فَامْسَحوا بِوجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مِّنْهُ) . ولكن اختلفوا في قَدْر الفَرْضِ من ذلك: فأمَّا " الوجهُ ": فمذهبُ مالكٍ والشافعيَ وأحمدَ وجمهورِ العلماءِ: أنه يجب استيعابُ بشرتِهِ بالمسح بالترابِ، ومسْحُ ظاهرِ الشعرِ الذي عليه، وسواءٌ كان ذلك الشعر يجب إيصالُ الماءِ إلى ما تحتَه كالشعرِ الخفيفِ الذي يَصِفُ البشرةَ، أم لا، هذا هو الصحيحُ. وفي مذهبِنَا ومذهبِ الشافعيِّ وجهٌ آخرُ: أنه يجب إيصالُ الترابِ إلى ما تحتَ الشعورِ التي يجبُ إيصالُ الماءِ إلى ما تحتها، ولا يجبُ عند أصحابِنَا إيصالُ الماءِ إلى باطنِ الفم والأنفِ، وإن وجبَ عندهم المضمضةُ والاستنشاقُ في الوضوءِ. وعن أبي حنيفةَ روايات، إحدَاهَا: كقولِ الشافعيِّ وأحمدَ.

والثانية: إن ترك قدرَ درْهم لم يُجزئْه، وإن تركَ دونَهُ أجْزأه. والثالئةُ: إن تركَ دون ربع الوجهِ أجَزأه، وإلا فلا. والرابعةُ: إن مسح أكثره وترك الأقل منه أو من الذراع أجزأه، وإلا فلا، وحكاهُ الطحاويُّ عن أبي حنيفةَ وأبي يوسفَ وزُفَرَ. وحكى ابنُ المنذرِ، عن سُليْمان بن داودَ الهاشميِّ: أن مسحَ التيمم حُكْمُه حكْمُ مسح الرأس في الوضوءِ، يجزئُ فيه البعضُ. وكلامُ الإمامِ أحمدَ يدلُّ على حكايةِ الإجماع على خلافِ ذلك. قال الجوزجانيُّ: ثنا إسماعيلُ بنُ سعيدِ الشالنجيُّ، قال: سألتُ أحمدَ بن حنبلٍ عمن ترك مسحَ بعضِ وجههِ في التيمم؟ قال: يُعيدُ الصلاةَ. فقلتُ له: فما بالُ الرأسِ يجزئُ في المسح ولم يَجُز أن يتركَ ذلكَ من الوجهِ في التيمم؟ فقال: لم يبلغْنا أن أحدًا تركَ ذلك من تيممه. قال الشَّالنجي: وقال أبو أيُّوبَ - يعني: سليمانَ بنَ داودَ الهاشميَّ يجزئه في التيمم إن لم يُصب بعضَ وجهه أو بعضَ كفَّيه، لأنه بمنزلةِ المسح على الرأس؛ إذا تركَ منه بعضًا أجزأه. قال الجوزجانيُّ: فذكرتُ ذلك ليحى بنِ يحيى - يعني: النَّيْسابوريَّ فقال: المسحُ في التيمم كما يَمْسَحُ الرأسَ، لا يتعمَّد لتركِ شيء من ذلكَ، فإنْ بَقِيَ شيء منه لم يُعِدْ، وليسَ هو عندي بمنزلةِ الوضوءِ. قال الجوزجانيُّ: لم نسمعْ أحدًا يتَّبِعُ ذلكَ من رأسِهِ في المسح، ولا بينَ أصابِعِه في التيممِ كما يتَّبِعُوا في الوضوءِ بالتخليلِ، فأحسن الأقاويل منها ما ذكَرَه يحيى بن يحيى: أن لا يتعمَّد تركَ شيء من ذلك، فإن بقي شيءٌ لم يُعِد. انتهى.

وظاهرُ هذا: يدلُّ على أنَّ مذهبَ سليمانَ بنِ داودَ ويحيى بن يحيى والجوزجانيَّ: أنه إذا ترك شيئًا من وجهه ويديه في التيمم لم يُعِد الصلاةَ. ونقل حرْب، عن إسحاقَ، أنه قال: تضربُ بكفَّيْك على الأرضِ، ثم تمْسح بهما وجهَك، وتَمُرُّ بيديك على جميع الوجه واللِّحْية، أصابَ ما أصابَ وأخطأ ما أخطأ، ثم تضرب مرة أخرى بكفَّيْك. ومُرادُ إسحاقَ: أنه لا يشترط وصولُ الترابِ إلى جميع أجزاءِ الوجهِ كما يقولُهُ من يقولُهُ من الشافعيَّةِ وغيرِهم، حتى نص الشافعي: أنه لو بَقَيَ من مَحِلِّ الفرض شيء لا يدركه الطَّرْفُ لم يصحَّ التيممُ. واستشكل أبو المعالِي الجُوَيْنىُّ تحقُّق وصولِ الترابِ إلى اليدينِ إلى المرفقينِ بضربةٍ واحده، وقالَ: الذي يجبُ اعتقادُه أنَّ الواجبَ استيعابُ الَمَحِلِّ بالمسح باليدِ المغبَّرةِ من غير ربطِ الفكر بانبساطِ الغبارِ على جميع المحل. قال: وهذا شيء أظهر به، ولم أرَ منه بُدًّا. وحكى ابنُ عطية في "تفسيرِهِ " عن محمدِ بنِ مسلمةَ من المالكية: أنه لا يجبُ أن يُتْبَعَ الوجهُ بالترابِ كما يُتْبعُ بالماءِ، وجعله كالخُفِّ وما بين الأصابع في اليدينِ - يعني: في التيمم. وحكى في وجوبِ تخليلِ الأصابع وتحريكِ الخاتَم قولينِ لأصحابِهِم: بالوجوبِ، والاستحبابِ. وحكَى ابنُ حزمٍ في وجوبِ تخليلِ اللحيةِ بالترابِ اختلافًا. وأما " اليدانِ ": فأكثرُ العلماءِ على وجوبِ مسح الكفين: ظاهرهما وباطنهما بالترابِ إلى

الكُوعين، وقد ذكرنا أن بعض العلماء لم يوجب استيعابِ ذلك بالمسح. وحكى ابنُ عطية عن الشَّعْبيِّ: أنه يمسح الكفينِ فقطِ، لحديثِ عمَّارٍ، وأنَّه لم يُوجبْ إيصال الترابِ إلى الكُوعين، وهذا لا يصحُّ. واللَّهُ أعلم. وإنَّما المرادُ بحديثِ عمَّارٍ، وبما قالُه الشعبيُّ وغيرُه من مسح الكفينِ: مسحُهما إلى الكُوعين، وقد جاء ذلك مقيَّداً، رواه أبو داود الطيالسيُّ. عن شعبةَ، عن الحكَم: سمعَ ذَرَّ بن عبدِ اللَّهِ، عن ابنِ عبدِ الرحمنِ بنِ أبْزَى، عن أبيه، عن عمَّارٍ، أنَ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ لهُ: "إنَّما كان يُجزئك " وضربَ رسول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بيدهِ الأرضَ إلى الترابِ، ثم قال: "هكذا"، فنفخَ فيها. ومسَحَ وجهه ويديهِ إلى المفْصَلِ، وليسَ فيه الذراعانِ. ورَوى إبراهيمُ بنُ طهْمان، عن حُصينٍ، عن أبي مالكٍ، عن عمَّارٍ بنِ ياسرٍ، أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال له: "إنَّما كان يكفيك أنْ تضْرِبَ بكفيك في الترابِ، ثم تنْفُخ فيهما، ثم تمسحُ بهما وجهك وكفيك إلى الرُّسْغَيْنِ ". خرَّجه الدارقطنيُّ وقال: لم يَروه عن حُصَين مرفوعًا غيرُ إبراهيمَ بنِ طهمانَ، ووقفه شعبةُ وزائدةُ وغيرُهما. يعني: أنهم رَوَوْه عن حُصينٍ، عن أبي مالكٍ، عن عمَّارٍ موقوفًا. والموقوفُ أصحُّ -: قاله أبو حمادتمٍ الرَّازيُّ. وأبو مالكٍ، قال الدارقطنيُّ: في سماعِه من عمَّارٍ نظرٌ، فإن سلمةَ بنَ

كُهَيلٍ رواه عن أبي مالكٍ، عن ابنِ أبْزَى، عن عمَّارٍ. وقال أبو حاتمٍ: يُحتمل أنه سمع منه. وأبو مالكٍ، هو: الغِفاريُّ، سُئل أبو زرعةَ: ما اسمه؟ فقال: لا يُسمى. وقال السهيليُّ: اسمُهُ حبيبُ بنُ صُهْبانَ. وفيما قاله نظرٌ؛ فإن حبيبَ بنَ صهبانَ هو: أبو مالكٍ الكاهليّ الأسديُّ. وأما الغفاريُّ فاسمه: غزوانُ -: قالهُ ابنُ معينٍ. وقد فرَّق بينهما ابنُ أبي حاتمٍ، ووقع في بعضِ نُسخ البخاريِّ، غير أنَّ البخاريَّ متوقفٌ غيرُ جازمٍ بأنَّ حبيبَ بنَ صُهبانَ يكنى: أبا حاتمٍ، ولا أنَّ أبا مالكٍ الغِفاريَ اسمُه: غزوانُ. ورُوِيَ حديثُ عمَّارٍ على وجهٍ آخرَ: فروى الأعْمشُ، عن سلمةَ بنِ كُهَيلٍ، عن عبدِ الرحمن بن أبْزَى، عن عمَّار، أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال له: "إنما كان يكفيك هكذا" ثم ضرب بيديه الأرض، ثم ضرب إحداهما على الأخرَى، ثم مسح وجهه، والذراعينِ إلى نصفِ الساعدينِ، ولم يبلغ المرفقينِ، ضربةً واحدةً. خرَّجه أبو داود. وخرَّجه - أيضًا - من طريقِ سفيانَ الثوريِّ، عن سلمةَ بن كُهَيْلٍ، عن أبي مالك، عن عبدِ الرحمن بن أبزى، قالَ: كنتُ عند عمرَ، فقال عمَّار: قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "إنما كان يكفيك أن تقول هكذا" وضربَ بيديه إلى الأرضِ، ثم نفخهما، ثم مسح بهما وجهه ويديه إلى نصفِ الذراع.

وخرَّجه النسائيُّ من طريقِ سفيانَ، عن سلمةَ، عن أبي مالكٍ - وعن عبدِ اللَّهِ بنِ عبدِ الرحمنِ بنِ أبْزى، عن عبدِ الرحمنِ بنِ أبْزى، قال: كنَّا عند عمر - فذكر الحديثَ، وفيه: ثم مسح وجهه وبعضَ ذراعيهِ. وقد رواه عن سلمةَ بنِ كُهَيْل: شعبةُ، وسفيانُ، والأعْمش، واختُلِفَ عنهم في إسنادِهِ. وقد تقدَّمَ: أن في رواية شعبةَ أن سلمةَ شكَّ: هل ذكر فيه الذراعين، أو الكفين خاصةً، وهذا يدل على أن ذكْرَ الذراعينِ أو بعضهِمَا لم يحفظه سلمةُ، إنَّما شكَّ فيه، لكنَّه حفظ الكفينِ وتيقنَهُما، كما حفظه غيره. وعلى تقديرِ أن يكون ذكرُ بعضِ الذراعينِ محفوظا فقد يحملُ على الاحتياطِ لدخولِ الكوعينِ، أو يكونُ من بابِ المبالغةِ وإطالةِ التَّحجيلِ، كما فعلَهُ أبو هريرةَ في الوضوءِ، وقد صرَّح الشافعيةُ باستحبابِهِ في التيمم - أيضًا. وقد رُويَ عن قتادةَ، قال: حدَّثني محدِّثٌ عن الشعبيِّ، عن عبدِ الرحمنِ بن أبْزى، عن عمَّارِ بن ياسرٍ، أنَّ رسولَ اللَهِ - صلى الله عليه وسلم - قال: "إلى المرفقين ". خرَّجه أبو داود. وهذا الإسنادُ مجهولٌ لا يَثْبُت. والصحيحُ: عن قتادةَ، عن عزرةَ، عن سعيدِ بنِ عبدِ الرحمنِ، عن أبيهِ. عن عمَّارٍ، أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أمرَهُ بالتيمم للوجه والكفينِ.

خرَّجه الترمذيُّ وصححه. وخرَّجه أبو داود، ولفظُه: أنَ النبي - صلى الله عليه وسلم - أمرَه في التيمم: ضربةً واحدةً للوجه والكفينِ. وقد روي عن عمَّارٍ، أنَهم تيمَّموا مع النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - إلى المناكب والآباطِ: من روايةِ الزهريِّ، عن عُبيد اللَّهِ بنِ عبدِ اللَّهِ بنِ عُتْبةَ، عن ابنِ عباسٍ، عن عمَّارٍ، قال: نزلتْ رخصةُ التطهر بالصَّعيد الطيب، فقام المسلمون مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، فضربوا بأيديهم الأرضَ، ثم رفعوا أيديَهم ولم يَقبضوا من الترابِ شيئًا، فمسحوا بها وجوهَهم وأيديَهم إلى المناكبِ، ومن بُطُون أيديهم إلى الآباط. خرَّجه الإمامُ أحمدُ وأبو داودَ والنسائيُّ. وقد اختُلِفُ في إسنادِهِ على الزهري: فقيل: عنه، كما ذكرنا. وقيل: عنه، عن عُبَيْدِ اللَّهِ بنِ عبدِ اللَّه بنِ عُتْبةَ، عن أبيهِ، عن عمَّارٍ. كذا رواه عنه: مالكٌ وابنُ عُيْينةَ، وصحَّحَ قولهما أبو زُرعةَ وأبو حازمٍ الرَازِيَانِ. وقيل: عن الزِّهريِّ، عن عُبيدِ اللَّهِ بنِ عبدِ اللَّهِ، عن عمَّارٍ - مرسلاً. وهذا حديث منكر جدًّا، لم يزلِ العلماءُ يُنكرونه، وقد أنكَرَهُ الزهريُّ راويه، وقال: هو لا يعتبر به الناسُ -: ذكره الإمامُ أحمد وأبو داود

وروي عن الزهريِّ، أنه امتنع أن يُحَدِّث به، وقال: لم أسمعْه إلا من عُبَيْدِ اللَّهِ، ورويَ عنه، أنه قالَ: لا أدْري ما هو؟!. وروي عن مكحولٍ، أنه كان يغضبُ إذا حدَّث الزهريُّ بهذا الحديثِ. وعن ابنِ عُيَيْنة، أنه امتنع أن يُحدِّث به، وقال: ليسَ العملُ عليه. وسئل الإمامُ أحمدُ عنه، فقالَ: ليسَ بشيء - وقال - أيضًا -: اختلفُوا في إسنادِهِ، وكانَ الزهريُّ يهابُه، وقال: ما أرى العملَ عليه. وعلى تقديرِ صحَّتِه، ففي الجوابِ عنه وجهانِ: أحدهما: أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - لم يُعلِّمْ أصحابَهُ التيممَ على هذهِ الصفَةِ، وإنَّما فعلوه عند نزولِ الآيةِ، لظنِّهم أن اليدَ المطلقةَ تشملُ الكفينِ والذراعينِ والمَنْكبَيْن والعضدين، ففعلُوا ذلكَ احتياطا كما تمعَّك عمَّار بالأرض للجنابةِ، وظنًّ أنَّ تيمُّمَ الجُنُبِ يعُمُّ البدنَ كلَّه كالغُسلِ، ثم بيَّن النبي - صلى الله عليه وسلم - التيممَ بفعلِهِ. وقولِه: "التيمم للوجه والكفين " فرجَعَ الصحابةُ كلُّهم إلى بيانِهِ - صلى الله عليه وسلم -، ومنهم عمَّار راوِي الحديثِ، فإنه أفتى أن التيممَ ضربة للوجهِ والكفينِ، كما رواه حُصينٌ، عن أبي مالكٍ، عنه، كما سبق. وهذا الجوابُ ذكره إسحاقُ بنُ راهويه وغيره من الأئمةِ. والثاني: ما قالهُ الشافعيُّ، وأنّه إن كان ذلكَ بأمْرِ رسولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، فهو منسوخ، لأنَّ عمَّارًا أخْبر أن هذا أولُ تيمُّم كان حينَ نزلتْ آيةُ التيمم، فكلُّ تيمَّم كان للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم - بعدَهُ مخالفٌ له، فهو له ناسح. وكذا ذكر أبو بكر الأثرم وغيرُه من العلماءِ. وقد حكى غيرُ واحدٍ من العلماءِ عن الزهري، أنَّه كان يذهبُ إلى هذا

الحديثِ الذي رواه. ورُوي عن عبدِ الوهَّابِ بنِ عطاءٍ، عن سعيدٍ، عن قتادةَ، أن الزُّهريَّ قال: التيمم إلى الآباط، قال سعيد: ولا يُعجبنا هذا.. قلت: قد سبقَ عن الزهري أنه أنكر هذا القول، وأخبر أن الناس لا يعتبرونَ به، فالظاهرُ أنه رجع عنه لما علم إجماع العلماءِ على مخالفتِهِ. واللَّهُ أعلمُ. وذهبَ كثيرٌ من العلماءِ إلى أنه ينتهي المسحُ لليدين بالترابِ إلى المرفقينِ. هذا مروي عن ابنِ عمرَ وجابرٍ - وروي - أيضًا - عن سالم بنِ عبدِ اللَّه، والشَّعْبيِّ، والحسنِ، والنخَعِيَّ، وقتادةَ، وسفْيانَ، وابن المباركِ. واللَّيْثِ، ومالكٍ، والشافعيِّ، وأبي حنيفةَ وأصحابِهِ. واستدلَّ بعضُهم: بالأحاديثِ المرفوعةِ المروية في ذلكَ، ولا يثبت منها شيء، كما سبق الإشارةُ إلى ذلك. واستدلُّوا - أيضًا -: بأنَّ اللَّه تعالى أمرَ بغسلِ اليدينِ في الوضوءِ إلى المرفقين، ثم ذكر في التيمم مسحَ الوجهِ واليدينِ، فينصرفُ إطلاقهما في التيمم إلى تقييدِهِما في الوضوءِ، لا سيَّما وذلكَ في آيةٍ واحده. فهُوَ أولى منْ حَمْلِ المُطْلَقِ علي المُقَيَّدِ في آيتينِ. وأجابَ من خالفَهُم: بأن المطلق إنما يحملَ على المقيدِ في قضيةٍ واحدة. والوضوءُ والتيممُ طهارتانِ مختلفتان، فلا يصحُّ حمْلُ مطلقِ أحدِهما علَّىَ مقيدِ الآخرِ. ويدلُّ على ذلك: أن أصحابَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - عند نزولِ آيةِ التيمم لم يَفهموا

حملَ المطلقِ على المقيدِ فيها، بل تيمَّمُوا إلى المناكبِ والآباطِ، وهم أعلمُ الناسِ بلُغةِ العربِ، ثم بيَّن النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أن التيممَ للوجهِ والكفينِ، وهو - أيضًا - يُنافي حمْلَ المطلقِ على المقيدِ فيها. وذهب آخرونَ: إلى أن التيممَ يمسح فيه الكفان خاصةً. وقد حكى ابنُ المنذرِ لأهلِ هذه المقالةِ قولينِ: أحدهما: يمسحُ الكفين إلى الرسغينِ، وحكاه عن عليٍّ، والثاني: يمسحُ الكفين مطلقًا، قال: هو قولُ عطاءٍ، ومكحولٍ، والشعبي، والأوزا عيِّ، وأحمدَ، وإسحاقَ. قال: وبهذا نقولُ للثابتِ عن نبيِّ الله - صلى الله عليه وسلم -، أنَّه قال: "التيممُ ضربة للوجهِ والكفينِ ". قلتُ: هذا يُوهم أن من قالَ بمسح الوجهِ والكفين، أنه لا ينتهي مسحُهُما إلى الكوعين، وهذا كما حكاهُ ابنُ عطيّة عن الضعبيِّ، كما سبق عنه، وليس هذا قولُ الأئمةِ المشهورينَ. وقد روى داودُ بنُ الحُصَيْنِ، عن عكرمة، عن ابنِ عباسٍ، أنه سُئل عن التيمم، فقال: إنَّ اللَّهَ قال في كتابِهِ حينَ ذكر الوضوءَ: (فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُم وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ) ، وقال في التيممِ: (فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكمْ وَأَيدِيكُم منه) ، وقال: (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا) ، فكانتِ السُّنةُ في القطع الكفين، إنما هو: الوجهُ والكفينِ - يعني: التيمم. خرَّجه الترمذيُّ، وقال: حسنٌ صحيحٌ غريب. وروى الحكمُ بنُ أبانِ، عن عكرمةَ هذا المعنى - أيضًا.

وكذلك استدلَّ بهذا الدليلِ مكْحُولٌ وأحمدُ وغيرُهما من الأئمةِ، وقالُوا: إنَّ القطعَ يكونُ من الرُّسْغ، فكذلك التيممُ. والرسغُ: هو مَفْصل الكفِّ، وله طرفانِ هما عظمانِ، فالذي يلِي الإبهامَ كوعٌ، والذي يلي الخِنْصرَ كُرسُوعٌ. ومضمون هذا الاستدلال: أن اليدَ إذا أُطلقتْ انصرفتْ إلى الرُّ سغْ، وإن قيّدت بموْضِع تقيدتْ به، فلما قيدتْ بالمرفقين في الوضوءِ وجبَ غَسْلُ الذراعينِ إلى المرفقين، ولما أُطلقتْ في التيمم وجبَ إيصالُ الترابِ إلى الرسغ، كما تُقطع يدُ السارقِ ويدُ المحاربِ منه. وكذا قالَ الأوزاعيُّ: التيممُ ضربةٌ للوجهِ والكفينِ إلى الكُوعينِ. وكذلك نص إسحاقُ على أنَّ التيممَ يبلغ إلى الرسغ، وخطَّأ من قال: لا يُجزئ ذلك. وقال: الصحيحُ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - المعروفُ المشهورُ الذي يرويه الثقة عن الثقة بالأخبارِ الصحيحةِ: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - علَّم عمَّارَ بنَ ياسرٍ التيممَ للوجهِ والكفينِ، قال: وعلى ذلكَ كان عليٌّ بنُ أبي طالبٍ، وعبدُ اللَّهِ بن عباسٍ، والشعبيُّ، وعطاءٌ، ومجاهدٌ، ومكحُولٌ وغيرُهم، فلا يجوزُ لأحد أن يدَّعي على هؤلاء أنهم لم يعرِفُوا التيممَ. قال: ولو قالُوا: الذراعين أحبُّ إلينا اختيارًا لكان أشْبَهُ. وروى حرْبٌ بإسنادِهِ، عن زائدة، عن حُصينِ بنِ عبدِ الرحمنِ، عن أبي مالكٍ، عن عمَّارٍ، أنه غَمَس باطنَ كفَّيْه بالترابِ، ثم نفخ يدَه، ثم مسح وجهَهُ ويديه إلى المفْصلِ. وبإسنادِهِ: عن عبدِ العزيزِ بن أبي رَوَّادٍ، عن نافع، عن ابنِ عمرَ، قالَ:

التيممُ ضَرْبَتَانِ: ضربةٌ للوجهِ، وضربةٌ للكفَّيْنِ. قال: وثنا أحمدُ بنُ حنبل: ثنا سليمانُ بنُ حيَّانَ: أبنا حجَّاج، عن عطاءٍ والحَكَم، عن إبراهيمَ، قال: التيممُ ضربتانِ للكفين والوجهِ. قال: وثنا محمودُ بنُ خالدٍ: ثنا الوليدُ بنُ مسلمٍ، عن حامدٍ وسعيدِ بنِ بشيرٍ، عن قتادةَ، عن سعيدِ بنِ المسيبِ، قال: التيممُ ضربة واحدةٌ للوجهِ والكفين. قال الوليدُ: وأبنا الأوزاعيُّ، عن عطاءٍ، أنه كان يقولُ في التيمم: مسحة واحدة للوجهِ، ثم ضربة أخرى لكفَّيْه، وبه يأخذُ الأوزاعيُّ. وروى حرْبٌ بإسنادِهِ عن إسماعيلَ بنَ أبي خالدٍ، قال: سألتُ الشَّعْبيَّ عن التيممَ؛ فضربَ بيديه الأرضَ، ثم قرن إحداهما بالأخرى، ثم مسح وجهه وكفيه. قال حرْبٌ: سمعتُ أبا عبدِ اللَّهِ أحمدَ بنِ حنْبَل، يقول: والتيممُ ضربةٌ واحدة للوجهِ والكفينِ، يبدأُ بوجههِ، ثم يمسحُ كفَّيهِ إحداهُما بالأخرَى، قيل له: صحَّ حديثُ عمَّارٍ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في ذلك، قال: نعَمْ، قد صح. والقول بأنَّ الواجبَ في التيمم مسحُ الكفينِ فقط: رواية عن مالكٍ، وقول قديم للشافعيِّ، قال في القديمِ - فيما حكاه البيهقيُّ في "كتابِ المعرفةِ" -: قد رُوي عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في الوجهِ والكفينِ، ولو أعلمُه ثابتًا لم أعدهُ، قال: فإنه ثبت عن عمَّارٍ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - الوجه والكفين، ولم يثبت إلى المرفقينِ، فما يثبت عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أولى، وبهذا كان يُفتي سعيدُ بنُ سالمٍ، انتهى. ومن العلماءِ من قال: الواجبُ مسحُ اليدينِ إلى الكُوعَيْنِ، ويُستحبُّ

مسحُهما إلى المرفقينِ، ولعله مرادُ كثيرٍ من السَّلَفِ - أيضًا - فإنَّ منهم من رُوي عنه: إلى الكُوعين، وروي عنه: إلى المرفقينِ، كالشعبيِّ وغيرِه، فدل على أن الكُلَّ عندَهُم جائز. وهو - أيضًا - رواية عن مالكٍ، وقول وكيع، وإسحاقَ، وطائفةٌ من أصحابِنا، وحكَوْه روايةً عن أحمدَ، والمنصوصُ عنه يدلُّ على أن ذلك جائزٌ. لا أنه أفضلُ. وسيأتي ذكْرُ الضربةِ الواحدةِ، والضربتين فيما بعد - إن شاء اللَّه تعالى. فإن البخاريَّ أفْرَدَ لذلك بابًا. * * * وقد صحَّ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أمْرُ الجنبِ إذا لم يجدِ الماءَ بأن يتيمَّمَ ويصلِّي، في حديث عمرانَ بنِ حُصينٍ المتقدمِ، وحديثِ عمَّارٍ، ورويَ - أيضًا - من حديثِ أبي ذرٍّ وغيرِه. وشُبهةُ المانعينَ: أن اللهَ تعالى قال: (وَلا جُنُبًا إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَى تغْتَسِلُوا) ، وقال: (وَإِن كُنتُمْ جُنُبًا فَاطَهَّرُوا) - يعني به: الغُسْلَ - ثم ذكرالتيممَ عند فقْدِ الماءِ بعد ذكره الأحداثَ الناقضةَ للوضُوءِ، فدل على أنَّه إنَما رخَّصَ في التيمم عثدَ عدمِ الماءِ لمن وُجدتْ منه هذه الأحداثُ، وبقِيَ الجُنُبُ مأمورًا بالغسلِ بكلِّ حالٍ. وهذا مردودٌ؛ لوجهينِ: أحدهما: أنَّ آيةَ الوضوءِ افتتحتْ بذكر الوضوءِ، ثم بغسلِ الجنابةِ، ثم أمرَ

بعد ذلك بالتيمم عند عدمِ الماءِ، فعادَ إلى الحدثينِ معًا. وإن قيلَ: إنه يعود إلى أحدهما، فعودُه إلى غسلِ الجنابةِ أولى، لأنه أقربُهُما، فأما عودُه إلى أبعدِهِم وهو - وضوءُ الصلاةِ - فممتنعٌ. وأمَّا آيةُ سورةِ النساءِ، فليسَ بها سوى ذكرِ الجنابةِ، وليسَ للوضوءِ فيها ذكرٌ، فكيفَ يعودُ التيممُ إلى غيرِ مذكورِ فيها، ولا يعودُ إلى المذكورِ. والثاني: أنَّ كلتا الآيتينِ: أمر اللَّهُ بالتيمم من جاء من الغائط، ولمَسَ النساءَ أو لم يجد الماءَ، ولَمْسُ النِّساءِ إما أن يراد به الجِماعُ خاصةً، كما قاله ابنُ عباسٍ وغيرُه، أو أنه يدخل فيه الجماعُ وما دونه من الملامسةِ لشهوةٍ كما يقولُه غيرُهُ، فأما أن يُخَصَّ به ما دون الجماع ففيه بُعْدٌ. ولمَّا أوردَ أبو موسى على ابنِ مسعودٍ الآيةَ تحيَّر ولم يْدرِ ما يقول، وهذا يدلُّ على أنه رأى أن الآية يدخل فيها الجنب كما قاله أبو موسى. وفي أمْرِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - الجنبَ العادِمَ للماءِ أن يتيمَّمَ ويصلِّي دليلٌ على أنه - صلى الله عليه وسلم - فهِمَ دخولَ الجنبِ في الآيةِ، وليس بعد هذا شيء. ورَدُّ ابنِ مسعودٍ تيممَ الجنبِ، لأنه ذريعةٌ إلى التَّيَمُّم عندَ البردِ؛ لم يوافقْ عليه، لأنَّ النصوصَ لا تُرَدُّ بسدِّ الذرائع، وأيضًا، فيقالُ: إن كان البردُ يخشى معه التلف أو الضرر فإنه يجوز التيمم معه كما سبق. وقد روى شُعْبةُ، أنَّ مُخارِقًا حدثهم، عن طارق، أنَّ رجلاً أجنبَ فلم يصلِّ، فأتى النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فذكر ذلك له، فقالَ لهُ: "أصَبْتَ "، وأجنب رجل آخرُ فتيمم وصلَّى، فأتاه - صلى الله عليه وسلم -، فقال له نحوًا مما قال للآخرِ - يعني: "أصَبْتَ ".

قوله تعالى: (فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية يحرفون الكلم عن مواضعه ونسوا حظا مما ذكروا به ولا تزال تطلع على خائنة منهم إلا قليلا منهم

خرَّجه النسائيُّ وهو مرسل. وقد يُحملُ هذا على أنَ الأولَ سأله قبل نزول آيةِ التيمم، والآخرَ سأله بعد نزولها. وروى أبو داود الطيالسيُّ، عن شعبةَ، عن الحكم، عن ذَرٍّ، عن ابنِ أبْزى، عن أبيه أنَّ عمَّارًا قال لعمرَ: أما تذْكُر يا أمير المؤمنين أني كنتُ أنا وأنت في سَرِيَةٍ فأجنبنا ولم نجدِ الماءَ، فأما أنت فلم تصلِّ، وأما أنا فتمعكتُ بالترابِ وصليتُ، فلما قدِمنا على رسولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ذكرنا ذلكَ لهُ، فقالَ: "أما أنت فلم يكن ينبغي لك أن تدع الصلاة، وأما أنت يا عمَّارُ فلم يكنْ لكَ أن تتمعك كما تتمعكُ الدابةُ، إنما كان يُجزيك " - وضربَ رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بيدِهِ إلى الأرضِ إلى الترابِ، ثم قال: "هكذا"، ونفخ فيها ومسح وجهه ويديه إلى المفْصل. وليس فيه الذراعان * * * قوله تعالى: (فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (13) ليُتدبرْ ما ذمَّ اللَّهُ به أهلَ الكتابِ من قسوةِ القلوبِ بعد إيتائِهم الكتابَ ومشاهدتِهِم الآياتِ كإحياءِ القتيلِ المضروبِ ببعضِ البقرةِ، ثم نهينا عن التشبيهِ بهم في ذلك، فقيل لنا: (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (16) .

وبيَّنَ في موضع آخرَ سببَ قسوةِ قلوبِهِم، فقال: سبحانه: (فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قلُوبَهُمْ قَاسِيَةً) ، فأخبرَ أنَّ قسوةَ قلوبِهِم كانَ عقوبةً لهُم على نقضِهم مواثيقَ اللَّهِ وعهودِهِ أنْ لا تفعلُوا ذلك. ثمَّ قال تعالى: (يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِّمَّا ذُكروا بِهِ) . فذكرَ أنَّ قسوةَ قلوبِهم أوجبتْ لهم خصلتينِ مذمومتينِ: إحداهما: تحريف الكلم من بعدِ مواضِعِهِ. والثانية: نسيانُهم حظا ممَّا ذكِّرُوا به، والمرادُ تركُهُم وإهمالُهُم نصيبًا ممَّا ذُكَرُوا به من الحكمةِ والموعظةِ الحسنةِ، فنسوا ذلكَ وتركُوا العملَ به وأهملوه. وهذانِ الأمرانِ موجودانِ في الذين فسدُوا من علمائِنا لمشابهتِهِم لأهلِ الكتاب: أحدهما: تحريفُ الكلم، فإنَّ من تفقَّه لغير العملِ يقسُو قلبُه فلا يشتغلُ بالعملِ، بل بتحريفِ الكلم، وصرفِ ألفاظِ الكتابِ والسنةِ عن مواضِعِها. والتلطفِ في ذلكَ بأنواع الحيلِ اللطيفةِ، من حمْلِهَا على مجازاتِ اللغةِ المستبعدَةِ ونحوِ ذلك، والطعنُ في ألفاظِ السنن حيثُ لم يمكنْهم الطعنُ في ألفاظِ الكتابِ، ويذمُّونَ من تمسَّكَ بالنصوصِ وأجْرَاها على ما يُفهمُ منها ويسمونه جاهلاً أو حسودًا. وهذا يوجدُ في المتكلمينَ في أصولِ الدياناتِ، وفي فقهاءِ الرأي، وفي صوفيةِ الفلاسفةِ والمتكلمينَ. والثاني: نسيانُ حظ مما ذُكِّرُوا به من العلم النافع فلا تتعظُ به قلوبُهم، بل

يذمُّون من تعلَّمَ ما يبُكيه ويرِّقُ به قلبُه ويسمونَهُ قاصا. ونقلَ أهلُ الرأي في كتبِهِم عن بعضِ شيوخِهِم أنَّ ثمراتِ العلومِ تدلُّ على شرفِهَا، فمن اشتغلَ بالتفسيرِ فغايتُه أن يقصَّ على الناسِ ويذكرَهم. ومن اشتغلَ برأيهم وعلمِهِم فإنَّه يفتي ويقضِي ويحكمُ ويدرِّسُ، وهؤلاء لهُم نصيبٌ من الذين: (يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مَنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخرَةِ هُم غَافِلُونَ) . والحاملُ لهم على هذا شدَّةُ محبَّتِهم للدنيا وعلوّها ولو أنهم زهِدُوا في الدنيا ورغِبُوا في الآخرةِ، ونصحُوا أنفسَهُم وعبادَ اللَّهِ لتمسَّكُوا بما أنزلَ اللَّهُ على رسولِهِ، وألزمُوا الناسَ بذلك، فكان الناسُ حينئذٍ أكثرُهُم لا يخرجونَ عن التقوى. فكان يكفِيهم ما في نصوصِ الكتابِ والسنةِ، ومن خرج منهُم عنها كانَ قليلاً، فكانَ اللَّهُ يقيضُ من يفهمُ من معاني النصوص ما يردُّ به الخارجُ عنْهَا إلى الرجوع إليهَا ويستغنِي بذلكَ عمَّا ولَّدوه من الفروع الباطنةِ والحيلِ المحرّمةِ التي بسببهَا انفتحتْ أبوابُ الرياءِ وغيرِه من المحرَّمات. واستُحِلَّتْ محارمُ اللِّهِ بأدنى الحيل، كما فعلَ أهلُ الكتابِ: (فَهَدَى اللَّه الَّذِينَ آمَنوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّه يَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ) . * * *

قوله تعالى: (يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب ويعفو عن كثير قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين (15)

قوله تعالى: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15) أما زِنى الثيبِ فأجمع المسلمونَ على أنَّ حَدَّه الرجمُ حتى يموتَ، وقد رجمَ رسول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ماعزًا والغامديّة، وكان في القرآن الذي نُسخَ لفظُهُ: "والشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتة نكالاً من الله والله عزيز حكيم ". وقد استنبطَ ابنُ عباس الرجمَ من القرآنِ من قولِهِ تعالى: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ) . قال: فمن كفرَ بالرَّجم، فقد كفرَ بالقرآن من حيثُ لا يحتسب. ثم تلا هذه الآيةَ وقال: كان الرجمُ مما أخفوا، خرَّجه النسائي، والحاكمُ. وقال: صحيحُ الإسنادِ. ويُستنبط - أيضًا - من قولِهِ تعالى: (إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النبِيونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا) إلى قولهِ تعالى: (وَأَنِ احْكُم بَيْنَهم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ) . وقال الزهري: بلغنا أنها نزلتْ في اليهوديَّيْنِ اللَّذيْنِ رجمهما النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنِّي أحكمُ بما في النوراةِ" وأمر بهما فرُجِما. وخرَّج مسلمٌ في "صحيحِهِ " من حديثِ البراءِ بن عازبٍ قصةَ رجمِ اليهوديينِ، وقال في حديثِهِ: فأنزل اللَّهُ: (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحزُنك الذِين يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ)

وأنزل: (وَمَن لَّمْ يَحْكم بِمَا أَنزَلَ اللَّه فَأولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ) ، في الكفارِ كلِّها. وخرَّجه الإمامُ أحمد وعندَهُ: فأنزلَ اللَّهُ: (لا يَحْزنكَ الَّذِينَ يسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ) إلى قولِه: (إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ) ، يقولونَ: ائتوا محمدًا. فإن أفتاكُم بالتًّحميمِ والجلدِ، فخُذوه، وإن أفتاكُم بالرَّجم، فاحذَرُوا، إلى قولِهِ: (وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرونَ) . قال: في اليهودِ. ورُوي من حديثِ جابرٍ قصةُ رجم اليهوديينِ، وفي حديثِهِ قالَ: فأنزلَ اللَّهُ: (فَإِن جَاءوكَ فَاحْكُم بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ) إلى قوله: (وَإِنْ حَكمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ) . وكانَ اللَّهُ تعالى قد أمر أوَّلاً بحبسِ النِّساءِ الزَّواني إلى أن يتوفاهنَّ الموتُ أويجعلَ اللَّهُ لهن السبيلَ ثم جعلَ اللُّه لهنَّ سبيلاً. ففي "صحيح مسلمٍ " عن عبادةَ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "خُذوا عنِّي خُذوا عنِّي قد جعلَ اللَّهُ لهنَّ سبيلاً: البكرُ بالبكرِ جلدُ مائةٍ وتغريبُ عامٍ، والثيبُ بالثيبِ جلدُ مائة والرَّجْمُ ". وقد أخذَ بظاهرِ هذا الحديثِ جماعة من العلماءِ، وأوجبوا جلدَ الثيبِ مائة، ثم رجمه كما فعل عليّ بشُراحة الهَمْدَانيِّة، وقال: جلدتُها بكتاب اللَّه. ورجمتُها بسنّة رسولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -.

قوله تعالى: (إنما يتقبل الله من المتقين)

قوله تعالى: (إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) كانتْ هذه الآية ُ يشتدُّ منها خوفُ السلفِ على نفوسِهِم فخافُوا أن لا يكونُوا من المتَّقينَ الذين يُتقبلُ منهم. وسُئلَ الإمامُ أحمدُ عن معنى "المتقينَ " فيها، فقالَ: يتقي الأشياءَ، فلا يقعُ فيما لا يحِلُّ له. * * * وكان السلفُ يوصونَ بإتقانِ العملِ وتحسينِهِ دون مجردِ الإكثار منه، فإنّ العملَ القليلَ مع التحسينِ والإتقانِ أفضلُ من الكثيرِ مع عدمِ الإتقانِ. قالَ بعضُ السلفِ: "إن الرجلينِ ليقومانِ في الصفِّ وبينَ صلاتيهِما كما بينَ السماءِ والأرضِ، كم بينَ من تصعدُ صلاتُه لها نور وبرهان كبرهان الشمسِ. وتقولُ: حفظك اللَهُ كما حفظتني، وبينَ من تُلَفّ صلاتُهُ كما يلَفّ الثوبُ الخَلِق ويضربُ بها وجهُ صاحبِها، وتقولُ: ضيعكَ اللَّهُ كما ضيعتَنِي ". ولهذا قالَ ابنُ عباسٍ وغيرُهُ: "صلاةُ ركعتين في تفكر خير من قيامٍ ليلةٍ والقلبُ ساهٍ ". قال بعضُ السلفِ: "لا يقلُّ عمل مع تقوى، وكيف يقِل ما يُتقبلُ؟ " يشيرُ إلى قولِهِ تعالى: (إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) ، ولهذا قال من قالَ من الصحابة: لو علمتُ بأنَّ اللَّهَ قبلَ منَي ركعتينِ كانَ أحبَّ إليَّ من كذا وكذا، فمن اتًّقى اللَّهَ في العملِ قَبِلهُ منه، ومن لم يتَّقِهِ لم يقبلْهُ منه. والتقوى في العملِ: أنْ يأتي به على وجهِ إكمالِ واجباتِهِ الظاهرةِ والباطنةِ،

وإن ارتقى إلى الإتيانِ بآدابِهِ وفضائِلِهِ كانَ أكملَ، في الملأ الأعْلَى، ومباهاة الملائكةِ، وقد يراد بالقبولِ: الثوابُ على العملِ، وإن لم يرضَ به والقبولُ هنا يُراد به: الرضا بالعملِ، والمدحُ لعاملِهِ، والثناءُ عليه، في الملأ الأعلى. ومباهاة الملائكةِ. وقد يُرادُ بالقبول: الثوابُ على العملِ، وإن لم يرضَ به ولم يمدحْ عاملُهُ. فيجازى عليه بأنواع من الجزاءِ، فضلاً من اللهِ وإحسانًا، وإن لم يرضَ عن عاملِهِ كما رُؤيَ بعضُ المفرطينَ في النومِ فسُئِلَ عن حالِهِ فقالَ: غَفرَ لي وأعرض عني، وعن جماعة من العلماءِ لم يعملُوا بعلمِهِم. ويطلقُ القبولُ على إسقاطِ الفرضِ بالعملِ، وإن لم يُثَبْ عليه بثوابٍ غيرِ سقوطِ العقوبةِ والمطالبةِ بأداءِ الفرضِ بهِ، والعارفون كلهم إنَما يطلبون القبولَ بالوجهِ الأولِ، وهو الرضا، ويخافون من فواتِهِ أشدَّ الخوفِ. قالَ مالكُ بنُ دينارٍ: "ودِدتُ أنَّ اللَّهَ إذا جمعَ الخلائقَ يقولُ لي: يا مالكُ، فأقولُ: لبيَّكَ، فيأذنُ لي أن أسجدَ بينَ يديهِ سجدةً فأعرفُ أنه قد رضيَ عني، ثم يقولُ: يا مالكُ، كنْ ترابًا اليومَ، فأكونُ ترابًا". وكان بعضُهم يقولُ في سجودِهِ: متى ألقاكَ وأنتَ عنَي راضِ. . . وعذبتني بكثرةِ الإعراضِ وأعتاضُ ولستُ عنه بالمعتاضِ. . . يا من بوصالِهِ شفى أمراضي هل أنتَ عليَّ ساخطٌ أم راضِ رضاه أكبرُ من الجنةِ ونعيمِهَا فليسَ للعارفينَ همٌّ سواهُ. لعلك غضبان وقلبِي غافلٌ. . . سلامٌ على الدارينِ إن كنتَ راضِيًا

قوله تعالى: (من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا)

قوله تعالى: (مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا) قول اللَّه عز وجل: (مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا) يدلُّ على أنّه إنما يباحُ قتلُ النفسِ بشيئينِ: أحدهما: بالنفسِ، والثانِي: بالفسادِ في الأرض. ويدخلُ في الفسادِ في الأرضِ: الحرابُ والرِّدَّةُ والزنى، فإنَّ ذلكَ كلَّه فسادٌ في الأرضِ، وكذلكَ تكرر شربِ الخمرِ والإصرارِ عليه هو مظنةُ سفكِ الدماءِ المحرمةِ. وقد اجتمعَ الصحابة في عهدِ عمرَ على حدِّه ثمانينَ، وجعلُوا السكرَ مَظِنَّة الافتراءِ والقذفِ الموجبِ لجلد الثمانين. ولمَّا قدِمَ وفدُ عبدِ القيسِ على النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، ونهاهُم عن الأشربةِ والانتباذِ في الظُّروفِ قال: "إن أحدكم ليقومُ إلى ابنِ عمِّه - يعني: إذا شربَ - فيضربه بالسَّيْفِ ". وكان فيهم رجلٌ قد أصابته جراحةٌ من ذلك، فكانَ يخبؤها حياءً من النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -. فهذا كلُّه يرجِعُ إلى إباحةِ الدَّمِ بالقتلِ إقامةً لمظان القتلِ مقامَ حقيقته، لكنْ هلْ نُسِخَ ذلكَ أم حكْمُهُ باقٍ؟ هذا هو محلُ النزاع. * * * قوله تعالى: (وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ) خرَّج البخاريُّ ومسلمٌ: من حديثِ: مالكٍ، عن زيدِ بنِ أسلمَ، عن

عطاءِ بنِ يسارٍ، عن ابنِ عباسٍ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قالَ: "أُرِيتُ النَّارَ، فرأيتُ أكثرَ أهلها النساءَ، بِكُفْرِهِنَّ "، قيل: أيكفرن؟ قال: "يكفرنَ العشيرَ، ويكفُرْنَ الإحسانَ، لو أحسنْتَ إلى إحداهن الدهر، ثم رأتْ منك شيثًا، قالتْ: ما رأيتُ منكَ خيرًا قطّ ". وقال البخاريّ: كُفْر دونَ كُفْرٍ. والكفرُ، قد يطلق ويرادُ به الكفرُ الذي لا ينقلُ عن الملةِ، مثلُ كفرانِ العشيرِ ونحوِه. وهذا عندَ إطلاقِ الكفر، فأمَّا إن وردَ الكفرُ مقيدًا بشيء، فلا إشكالَ في ذلكَ، كقولِهِ تعالى: (فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ) . وإنَّما المرادُ هاهُنا: أنه قد يَرِدُ إطلاقُ الكفرِ، ثم يفسَّر بكفرٍ غير ناقلٍ عن الملة. وهذا كما قالَ ابنُ عباسٍ، في قولِهِ تعالى: (وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافرُونَ) ، قال: ليسَ بالكفرِ الذي يذهبونَ إليه، إنه ليس بكفرٍ ينقلُ عن الملةِ، (وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأولَئِكَ هُمُ الكَافِرُونَ) ، كفر دونَ كفرٍ. خرَّجه الحاكم. وقال: صحيحُ الإسنادِ. وعنه في هذه الآيةِ، قال: هو به كُفْرٌ، وليس كَمَنْ كَفَرَ باللَّه وملائكتِهِ وكتبِهِ ورسلِهِ واليومِ الآخرِ.

وكذا قال عطاءٌ وغيرُه: كفرٌ دونَ كفر. وقال النخعيُّ: الكفر كفرانِ: كفرٌ باللهِ، وكفرٌ بالمُنْعِم. واستدلَّ البخاريُّ لذلكَ بحديثِ ابنِ عباسٍ الذي خرَّجه هاهُنا، وهو قطعةٌ من حديثٍ طويلٍ، خرَّجه في "أبواب الكسوفِ "، فإنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أطلقَ على النِّساءِ الكفرَ، فسئلَ عنه، ففسَّرَه بكفرِ العشيرِ. وحديثُ أبي سعيدٍ في هذا المعنى يشبه حديثَ ابنِ عباسٍ. وقد خرَّج هذا المعنى من حديثِ ابنِ عمرَ، وأبي هريرةَ - أيضًا. وفي المعنى - أيضًا -: حديثُ ابنِ مسعودٍ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: "سبابُ المسلم فسوق وقتالُهُ كفرٌ". وقد خرَّجه البخاريُّ في موضعِ آخرَ. وكذلكَ قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا ترجعُوا بعدي كفَّارًا يضربُ بعضُكم رقابَ بعضٍ ". وقولُهُ: "من قالَ لأخيهِ: يا كافرُ، فقدْ باءَ بها أحدُهُما". وللعلماء في هذه الأحاديثِ - وما أشبهها - مسالك متعددةٌ: منهم: من حَمَلَها على من فعلَ ذلكَ مستحلاً لذلكَ. وقد حملَ مالكٌ حديثَ: "من قال لأخيه: يا كافرُ" على الحَرُوريَّةِ، المعتقدينَ لكفر المسلمينَ بالذنوبِ - نقلَهُ عنه أشهبُ.

وكذلك حملَ إسحاقُ بنُ راهويه حديثَ: "من أتى حائضًا - أو امرأةً - في دُبُرها فقد كفر" على المستحل لذلكَ: نقله عنه حربٌ وإسحاقُ الكوسجُ. ومنهم: من يحملُها على التغليظِ والكفر الذي لا ينقلُ عن الملةِ، كما تقدَّمَ عن ابنِ عباس وعطاءٍ. ونقلَ إسماعيلُ الشالنجي عن أحمدَ، وذُكِرَ له قولُ ابنِ عباسٍ المتقدمُ. وسأله: ما هذا الكفرُ؟ قال أحمدُ: هو كفر لا ينقلُ عن الملةِ، مثلُ الإيمانِ بعضُه دونَ بعضٍ، فكذلك الكفرُ، حتى يجيءَ من ذلكَ أمرٌ لا يختلفُ فيه. قال محمدُ بنُ نصرٍ المروزيُّ: واختلفَ من قالَ من أهلِ الحديثِ: إن مرتكبَ الكبائرِ مسلم وليسَ بمؤمنٍ: هل يسمَّى كافرًا كفرًا لا ينقلَ عن الملةِ؟ كما قال عطاءٌ: كفر دون كفرٍ، وقالَ ابنُ عباس وطاووسُ: كفرٌ لا ينقلُ عن الملةِ؛ على قولينِ لهم. قالَ: وهما مذهبانِ في الجملةِ محكيانِ عن أحمدَ بنِ حنبلِ، في موافقيه من أهلِ الحديثِ. قلتُ: قد أنكرَ أحمدُ - في روايةِ المرُّوذيِّ - ما رُوي عن عبدِ اللَّهِ بنِ عمرٍو أنَّ شاربَ الخمرِ يسمَّى كافرًا، ولم يُثْبِتْه عنه، مع أنَّه قد رُوي عنه من وجوهٍ كثيرةٍ، وبعضُها إسنادُهُ حسن. ورُوي عنه مرفوعًا. وكذلك أنكر القاضي أبو يعلى جوازَ إطلاقِ كفرِ النعمةِ على أهلِ الكبائرِ. ونصبَ الخلافَ في ذلك معَ الزيديةِ من الشيعةِ والإباضيةِ من الخوارج.

وروايةُ إسماعيلَ الشالنجيِّ عن أحمدَ قد توافقُ ذلك، فمن هنا حكى محمدُ بنُ نصر عن أحمدَ في ذلك مذهبينِ. والذي ذكرهُ القاضي أبو عبد اللَّهِ بنُ حامدٍ شيخُ القاضي أبي يعلى، عن أحمدَ: جوازُ إطلاقِ الكفرِ والشركِ على بعضِ الذنوبِ التي لا تخرجُ عن الملةِ، وقد حكاهُ عن أحمدَ. وقد رُوي عن جريرِ بنِ عبدِ اللَّهِ، أنه سئلَ: هل كنتُم تسمونَ شيئًا منَ الذنوبِ الكفر أو الشركَ؟ قال: معاذَ اللَّهِ، ولكنَّا نقولُ: مؤمنينَ مذنبينَ. خرَّجه محمدُ بنُ نصر وغيرُهُ. وكان عمَّارٌ ينهى أن يقال لأهلِ الشامِ الذين قاتلوهم بصفِّينْ كفروا. وقال: قولُوا: فسقُوا، قولُوا: ظلموا. وهذا قولُ ابنِ المباركِ، وغيرِه من الأئمةِ. وقد ذكرَ بعضُ الناسِ أن الإيمانَ قسمانِ: أحدُهما: إيمانٌ باللَّهِ، وهو الإقرارُ والتصديقُ به. والثاني: إيمانٌ للَّه، فنقيضُ الإيمانِ الأولِ الكفرُ، ونقيضُ الإيمانِ الثاني: الفسقُ، وقد يسمَّى كفرًا، ولكن لا ينقلُ عن الملةِ. وقد وردتْ نصوصٌ، اختلفَ العلماءُ في حملِهَا على الكفرِ الناقلِ عن الملةِ، أو على غيره، مثلُ الأحاديثِ الواردةِ في كفرِ تاركِ الصلاةِ. وتردَّدَ إسحاقُ بنُ راهويهِ فيما وردَ في إتيانِ المرأةِ في دُبُرها، أنه كفرٌ: هلْ هو مُخرِجٌ عن الدِّينِ بالكليَّة ِ، أم لا؟

ومن العلماءِ: من يتوقَّى الكلامَ في هذه النصوصِ تورعًا، ويمرُّها كما جاءتْ من غيرِ تفسيرٍ، مع اعتقادِهِم أنَّ المعاصي لا تخرجُ عن الملةِ. وحكاه ابنُ حامدٍ روايةً عن أحمدَ. ذكرَ صالحُ بنُ أحمدَ وأبو الحارثِ: أنَّ أحمدَ سُئل عن حديثِ أبي بكرٍ الصديقِ: كفر باللَّه تبرِّي من نسبٍ وإنْ دق، وكفر باللَّهِ ادعاء إلى نسبٍ لا يُعلَمُ. قالَ أحدُهما: قالَ أحمدُ: قد رُوي هذا عن أبي بكرٍ، واللَّهُ أعلمُ، وقال الآخرُ: قالَ: ما أعلمُ، قد كتبنَاها هكذَا. قالَ أبو الحارثِ: قيل لأحمدَ: حديثُ أبي هريرةَ: "من أتى النساءَ في أعجازِهِنَّ فقد كفر" فقال: قد رُوي هذا، ولم يزِدْ على هذا الكلامِ. وكذا قالَ الزهريُّ، لمَّا سُئلَ عن قولِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: "ليس منَّا من لطمَ الخدودَ" وما أشبهه من الحديثِ - فقالَ: من اللَّه العلمُ، وعلى الرسولِ البلاغُ، وعلينا التسليمُ. ونقلَ عبدوسُ بنُ مالكٍ العطارُ، عن أحمدَ، أنه ذكر هذه الأحاديثَ التي وردَ فيها لفظُ الكفرِ، فقال: نسلِّمُها، وإن لم نعرفْ تفسيرَها، ولا نتكلَّمُ فيه، ولا نفسرُها إلا بما جاءتْ. ومنهم: من فرَّقَ بين إطلاقِ لفظِ الكفرِ، فجوَّزه في جميع أنواع الكفرِ. سواء كان ناقلاً عن الملةِ أو لم يكنْ، وبين إطلاقِ اسم الكافرِ، فمنعَهُ، إلا

قوله تعالى: (وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص فمن تصدق به فهو كفارة له

في الكفرِ الناقلِ عن الملةِ، لأنَّ اسمَ الفاعلِ لا يُشتقُّ إلا من الفعلِ الكاملِ. ولذلكَ قالَ في اسم المؤمنِ: لا يقالُ إلا للكاملِ الإيمانِ، فلا يستحقُّه من كان مرتكبًا للكبائرِ حال ارتكابِهِ، وإن كان يقالُ: قد آمنَ، ومعه إيمان. وهذا اختيارُ ابنِ قتيبةَ. وقريبٌ منه: قولُ من قالَ: إنَّ أهل الكتابِ، يقالُ: إنهم أشركوا، وفيهم شِرْكٌ، كما قال تعالى: (سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) ، ولا يدخلون في اسم المشركينَ عند الإطلاقِ، بل يفرَّقُ بينهم وبينَ المشركينِ، كما في قولِهِ تعالى: (لَمْ يَكنِ الَّذِينَ كفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكتَابِ وَالْمُشْرِكينَ) ، فلا تدخلُ الكتابيّةُ في قولِهِ تعالى: (وَلا تَنكِحوا الْمشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ) . وقد نصَّ على ذلك الإمامُ أحمدُ وغيرُهُ. وكذلك كرِه أكثرُ السلفِ، أن يقولَ الإنسانُ: أنا مؤمنٌ، حتى يقولَ: إن شاءَ اللَّهُ، وأباحُوا أن يقولَ: آمنتُ باللَّهِ. وهذا القول حسنٌ، لولا ما تأوَّله ابنُ عباسٍ وغير في قولِهِ تعالى: (وَمَن لَّمْ يَحْكم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرونَ) ، واللَّهُ أعلم. * * * قوله تعالى: (وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (45) وأما النَفْسُ بالنفسِ، فمعناه: أن المكلَّف إذا قتل نفسًا بغيرِ حقٍّ عمدًا، فإنه

يُقْتَلُ بها، وقد دلَّ القرآنُ على ذلكَ بقولِهِ تعالى: (وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ) ، وقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى) . ويُستثنى من عُمومِ قولِهِ تعالى: (النَّفْسَ بِالنَّفْسِ) ، صُور: منها: أن يقتلَ الوالدُ ولدَه، فالجمهورُ على أنّه لا يُقْتَلُ به. وصحَّ ذلك عن عُمرَ. وروي عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - من وجوهٍ متعدِّدةٍ. وقد تُكُلِّمَ في أسانيدِها. وقال مالكٌ: إنْ تعمَّدَ قتله تعمدًا لا يشكُّ فيه، مثل أن يذبَحَهُ، فإنه يُقتلُ به، وإن حذفَهُ بسيفٍ أو عصا، لم يقتلَ، وقال البتِّي: يقتلُ بقتلِهِ بجميع وجوهِ العمدِ للعموماتِ. ومنها: أن يقتلَ الحرُّ عبدًا فالأكثرون على أنَّه لا يُقتل به، وقد وردتْ في ذلك أحاديثُ في أسانيدها مقالٌ. وقيل: يقتلُ بعبدِ غيرِهِ دون عبدِهِ، وهو قولُ أبي حنيفةَ وأصحابِهِ. وقيل: يقتلُ بعبده وعبدِ غيره، وهو رواية عن الثوري. وقولُ طائفةٍ من أهلِ الحديثِ، لحديث سمرةَ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: "من قَتَلَ عبدَهُ، قتلناهُ، ومن جَدَعَهُ جدَعْناهُ " وقد طعن فيه الإمامُ أحمدُ وغيرُهُ. وقد أجمعُوا على أنَّه لا قصاصَ بين العبيدِ والأحرارِ في الأطرافِ، وهذا يدلُّ على أنَّ هذا الحديثَ مطرحٌ لا يُعمل به، وهذا مما يُستدلُّ به على أنَّ المرادَ بقولِهِ تعالى: (النَّفْسَ بِالنفْسِ) ، الأحرار، لأنه ذكرَ بعدَهُ القصاصَ في الأطرافِ وهو يختصّ بالأحرارِ.

ومنها: أن يَقتُلَ المسلمُ كافرًا، فإن كان حربيًّا لم يقتلْ به بغير خلافِ، لأنَّ قتل الحربيِّ مباحٌ بلا ريب، وإن كان ذميًّا أو معاهدًا، فالجمهورُ على أنَّه لا يقتلُ بهِ - أيضًا، وفي "صحيح البخاريِّ " عن علي عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يقتلُ مسلمٌ بكافرٍ". وقال أبو حنيفةَ وجماعةٌ من فقهاءِ الكوفيين: يُقتلُ به، وقد روى ربيعةُ عن ابن البيلماني عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنه قتلَ رجلاً من أهلِ القبلةِ برجلٍ من أهلِ الذمَّة، وقال: "أنا أحقّ من وفَّى بذمَّته " وهذا مرسل ضعيف قد ضعَّفه الإمامُ أحمدُ، وأبو عبيد، وإبراهيمُ الحربيُّ، والجوزجانيُّ، وابنُ المنذرِ والدارقطنيُّ. وقال: ابن البيلمانيّ: ضعيف لا تقومُ به حجة إذا وصلَ الحديثَ، فكيف بما يرسلُه؛ وقال الجوزجاني: إنَّما أخذه ربيعةُ عن إبراهيمَ بن أبي يحيى عن ابنِ المنكدرِ عن ابن البيلمانيِّ، وابنِ أبي يحيى متروك الحديثِ. وفي "مراسيلِ أبي داودَ" حديثٌ آخرُ مرسلٌ أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قتلَ يومَ خيبر مسلمًا بكافرٍ قتله غيلةً، وقال: "أنا أوْلى وأحقّ من وفَّي بذمَّتِهِ ". وهذا مذهبُ مالكٍ وأهلِ المدينةِ أن القتلَ غيلة لا تُشرط له المكافأة، فيُقْتَلُ فيه المسلمُ بالكافرِ، وعلى هذا حملُوا حديثَ ابنِ البيلمانيِّ أيضًا على تقدير صحَّته. ومنها: أن يقتلَ الرجلُ امرأةً فيُقتل بها بغيرِ خلاف، وفي كتابِ عمرِو بنِ حزمٍ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّ الرجُلَ يقتلُ بالمرأةِ. وصحَّ أنَّه - صلى الله عليه وسلم - قتل يهوديًا قتلَ جارية ".

قوله تعالى: (لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا)

وأكثرُ العلماءِ على أنَّه لا يُدفع إلى أولياءِ الرجلِ شيءٌ. وروي عن عليٍّ أنَّه يدفع إليهم نصف الدِّيَة، لأنَّ دية المرأة نصفُ دية الرجل وهو قولُ طائفةٍ من السلفِ وأحمدَ في رواية عنه. * * * قوله تعالى: (لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا) [قالَ البخاريُّ] : وقال ابنُ عباسٍ: (شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا) ، سبيلاً وسُنَّة. هذا، من روايةِ أبي إسحاقَ، عن التميمي، عن ابنِ عباسٍ، قال: (شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا) ، سبيلاً وسُنَّة. ومعنى قولِ ابنِ عباسٍ: أنَّ المنهاجَ هو السُّنَّة، وهو الطريقُ الواسعةُ المسلوكةُ، المداوَمُ عليها. والشِّرْعةُ، هي السبيلُ والطريقُ المُوصلُ إليها، فهي كالمدخلِ إليها. كمشْرَعةِ الماءِ، وهي المكانُ الذي يُورَدُ الماءُ منه. ويقالُ: شَرعَ فلان في كذا، إذا ابتدأ فيه، وأنْهَجَ البِلى في الثوبِ، إذا اتَّسع فيه. وبذلكَ فرَّق طائفة من المفسرينَ وأهلِ اللُّغة بين الشِّرعة والمنهاج، منهم: الزجاجُ وغيرُه. * * *

قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه

قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (54) علامات المحبة الصادقة: التزامُ طاعةِ اللَّهِ تعالى، والجهادُ في سبيله. واستحلاءُ الملامةِ في ذلك، واتباعُ رسولِهِ. قال اللَّهُ جل وعلا: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (54) . وقال تعالى: (قُلْ إِن كُنتمْ تًحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعونِي يُحْبِبْكمْ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكمْ ذنُوبَكُمْ وَاللَّه غَفُورٌ رَّحِيمٌ) . فوصفَ اللَهُ سبحانه المحبينَ له بخمسةِ أوصافٍ: أحدها: الذِّلةُ على المؤمنين، والمرادُ لِينُ الجانبِ وخفضِ الجناح والرأفةِ والرحمةِ للمؤمنينَ، كما قال تعالى لرسولِهِ: (وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) ، ووصفَ أصحابَه بمثلِ ذلك في قولِهِ: (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ) ، وهذا يرجعُ إلى أن المحبينَ للَّهِ يحبونَ أحباءَهُ ويعودونَ عليهم بالعطفِ والرأفةِ والرحمةِ، وقد سبقَ في البابِ الأولِ بيانُ ذلكَ. الثاني: العزةُ على الكافرينَ، والمرادُ الشّدَةُ والغلظةُ عليهم، كما قالَ تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ) ، وهذا يرجعُ إلى أنَّ المحبينَ لهُ يبغضونَ أعداءَه، وذلك من لوازِمِ المحبةِ الصادقةِ، كما سبقَ

تقريرُه أيضًا. الثالث: الجهادُ في سبيلِ اللَّه، وهو مجاهدةُ أعدائِهِ باليدِ واللسانِ، وذلك أيضًا من تمامِ معاداةِ أعداءِ اللَّه الذي تستلزمُه المحبةُ، وأيضًا فالجهادُ في سبيلِ اللَّه فيه دعاءُ الخلقِ إلى اللَّهِ وردُّهم إلى بابِه بالقهرِ لهم والغلبة، كما قال تعالى: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ) . قال مجاهدٌ وغيرُهُ: يعني كنتُم خيرَ الناسِ للناسِ، فخيرُ الناس للناسِ أنفعُهُم لهم، ولا نفعَ أعظمُ من الدعاءِ إلى التوحيد والطاعةِ والنهي عن الشركِ والمعصيةِ، وسُئلَ الحسنُ البصريُّ عن رجلٍ له أمٌّ فاجرةٌ فقال: "يقيَدُها فما وصلَها بشيء أعظم من أن يكفَّها عن معاصي اللَّهِ تعالى". قال إبراهيمُ بنُ أدهمَ: سمعتُ رجلينِ من الزُّهادِ يقول أحدُهها للآخرِ: "يا أخي، ما ورثَ أهلَ المحبةِ محبّتهُم؟ " قال: فأجابه الآخرُ: "ورِثُوا النظرَ بنورِ اللَّهِ والعطفَ على أهلِ معاصِي اللَّهِ " قال: فقلتُ له: "كيفَ يعطفُ على قويم قد خالَفوا أمرَ محبوبِهِم؟ " فقال: "مقتَ أعمالَهم وعطَفَ عليهم ليزيلَهم بالمواعظِ عن فِعالِهِم وأشْفقَ على أبدانِهِم من النارِ، لا يكونُ المؤمنُ مؤمنًا حقًّا حتى يَرضى للناسِ ما يرضاهُ لنفْسِهِ ". الرابع: أنهم لا يخافون لومةَ لائم، والمرادُ أنهم يجتهدونَ فيما يرضى به من الأعمالِ ولا يبالونَ بلومةِ من لامَهُم في شيءٍ منه إذا كان فيه رِضا ربِّهم. وهذا من علاماتِ المحبةِ الصادقةِ، إنَّ المحبَّ يشتغلُ بما يرضى به حبيبُه ومولاه، ويستوِي عنده مَنْ حَمَدهُ في ذلكَ أو لامَهُ، وفي هذا المعنى يقولُ بعضُهم:

وقفَ الهوى بي حيثُ أنتِ. . . فليسَ لي متأخرٌ عنه ولا متقدَّمُ أجدُ الملامةَ في هواكِ لذيذةً. . . حبًّا لذكرِكِ فلْيلُمْني اللُّوَمُ الخامس: متابعةُ الرسولِ - صلى الله عليه وسلم - وهو طاعتُه واتباعُه في أمر ونهيهِ. قال مباركُ بنُ فضالةَ عن الحسنِ: كان ناسٌ على عهدِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - يقولونَ: "يا رسولَ اللَّه، إنَّا نحبُّ ربَّنا حبًا شديدًا" فأحبَّ اللَّه أن يجعلَ لحبِّه عَلَمًا، فأنزلَ اللَّهُ تباركَ وتعالى: (قُلْ إِن كُنتمْ تُحِبُونَ اللَّهَ فَاتَّبِعونِي يحْبِبْكمُ اللَّه وَيَغْفِرْ لكمْ ذنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رحِيمٌ) . وقد قرنَ اللَّهُ بين محبَّته ومحبة رسولِهِ في قولِهِ: (أَحَبَّ إِلَيكُم مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَى يَأتِيَ اللَّهُ بِأمْرِهِ) ، وكذلك وردَ في السّنَّة في أحاديثَ كثير جدًّا، سبقَ ذكرُ بعضِهَا والمرادُ أنَّ اللَّه تعالى لا توصلُ إليه إلا من طريقِ رسولِهِ - صلى الله عليه وسلم - باتباعِهِ وطاعتِهِ. كما قال الجنيدُ وغيرُه من العارفين: "الطرقُ إلى اللَّهِ مسدودةٌ إلا من اقتفى أثرَ الرسولِ - صلى الله عليه وسلم -. وكلامُ أئمة العارفين في هذا البابِ كثيرٌ جدًّا. قال إبراهيمُ بنُ الجنيدِ: يقالُ: علامةُ المحبِّ على صدقِ الحبِّ ستُّ خصال: أحدها: دوامُ الذكر بقلبِهِ بالسرورِ بمولاه. والثانيةُ: إيثارُه محبةَ سيدهِ على محبةِ نفسِهِ ومحبةِ الخلائقِ، يبدأُ بمحبةِ مولاهُ قبل محبةِ نفسه ومحبةِ الخلائقِ.

والثالثةُ: الأُنسُ به والاستثقالُ لكلِّ قاطع يقطعُ عنه، أو شاغلٍ يشغلُهُ عنه. والرابعةُ: الشوقُ إلى لقائهِ والنظرُ إلى وجهِهِ. الخامسةُ. الرِّضا عنه في كلِّ شديده وضر ينزلُ به. والسادسةُ: اتباعُ رسولِهِ - صلى الله عليه وسلم -. ومحبةُ الرسولِ - صلى الله عليه وسلم - على درجتينِ: إحداهما فرضٌ: وهي المحبةُ التي تقتِضي قبولَ ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - من عندِ اللَّهِ وتلقِّيه بالمحبةِ والرِّضا والتعظيم والتسليم وعدمِ طلبِ الهدى من غيرِ طريقِهِ بالكليَّة ِ، ثم حسنُ الاتباع له فيما بلَّغه عن ربِّه من تصديقِهِ في كلِّ ما أخبر به، وطاعتِهِ فيما أمر به من الواجباتِ، والانتهاءِ عمَّا نهى عنه من المحرَّماتِ، ونصرةِ دِينِهِ والجهادِ لمن خالفَهُ بحسبِ القدرةِ، فهذا القدرُ لا بدَّ منه ولا يتمُّ الإيمانُ بدونِهِ. والدرجة الثانية فضل: وهي المحبةُ التي تقتضي حسنَ التَّأسِّي بهِ وتحقيقَ الاقتداءِ بسنتِهِ في أخلاقِهِ وآدابِهِ ونوافلِهِ وتطوعاتِهِ وأكلِهِ وشربِهِ ولباسِهِ وحسنِ معاشرتِهِ لأزواجِهِ وغيرِ ذلك من آدابِهِ الكاملةِ وأخلاقِهِ الطاهرةِ، والاعتناءَ بمعرفةِ سيرتِهِ وأيامه، واهتزازَ القلبِ عند ذكره، وكثرةَ الصلاةِ عليه لما سكنَ في القلبِ من محَبَّتَه وتعظيمِهِ وتوقيره، ومحبةَ استماع كلامِهِ، وإيثارَهُ على كلامِ غيرِه من المخلوقينَ. ومن أعظم ذلكَ الاقتداءُ به في زهدِهِ في الدُّنيا والاجتزاءِ باليسيرِ منها ورغبتِهِ في الآخرةِ. قال سهل التستريُّ: من علاماتِ حبِّ اللَّهِ حبُّ القرآن، وعلامة حبِّ اللَّه

وحبِّ القرآنِ حبُّ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وعلامةُ حبِّ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - حبُّ السنَّةِ، وعلامةُ حبِّ السنةِ حبُّ الآخرةِ، ومن علامةِ حبِّ الآخرة بغضُ الدنيا، وعلامةُ بغضِ الدنيا أن لا يأخذَ منها إلا زادًا يبلِّغُه إلى الآخرةَ. * * * قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (54) ففي هذه الآيةِ إشارة إلى أنَّ منْ أعرض عن حبِّنا، وتولَّى عن قربِنا، لم نبالِ بهِ، واستبدلْنَا به من هوَ أوْلَى بهذهِ المنحةِ منه وأحقُّ، فمن أعْرَضَ عنِ اللَّهِ، فما له منَ اللَّهِ بدَلاً، وللَّهِ منه أبدالٌ. ما لي شُغل سواه ما لي شُغلُ. . . ما يَصرِفُ عن هواه قلبِي عذلُ ما أصنعُ إن جَفا وخابَ الأملُ. . . منِّي بدل ومنه ما لي بدَلُ وفي بعضِ الآثارِ: "يقولُ اللَّهُ عزَّ وجلًّ: ابنَ آدمَ، اطلبنِي تجدْنِي، فإنْ وجدتَّني، وجدتَ كُلَّ شيء، وإن فُتُّكَ، فاتَكَ كلُّ شيء، وأنا أَحبُّ إليك من كلِّ شيء". كان ذو النونِ يردِّدُ هذه الأبياتِ بالليلِ كثيرًا: اطلبوا لأنفسِكُم. . . مثلَ ما وجدتُ أنا قد وجدتُ لي سكنًا. . . ليس في هواه عَنَا إنْ بَعدْتُ قَربنِي. . . أو قَرُبْتُ مِنْهُ دَنَا

من فاتَهُ اللَّهُ، فلو حصلتْ له الجنَّةُ بحذافِيرِهَا، لكان مغبونًا، فكيفَ إذا لم يحصلْ له إلا نزْر يسير حقيرٌ من دارٍ كلِّها لا تَعدِلُ جناحَ بعوضةٍ: مَنْ فاتَهُ أنْ يَراكَ يَومًا. . . فكل أوقاتِهِ فواتُ وحَيثُما كنتُ من بلادٍ. . . فَلِي إلى وجْهِكَ التِفَاتُ ثم ذكرَ أوصافَ الذين يُحبُّهم ويحبُّونه، فقال: (أَذِلَّةٍ عَلَى المؤْمِنِينَ) ، يعني: أنهم يعامِلونَ المؤمنينَ بالذِّلَّة واللِّينِ، وخَفْضِ الجناح. (أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ) يعني: أنهم يعامِلُونَ الكافرينِ بالعزَّة والشدَّةِ عليهم. والإغلاظِ لهم، فلما أحبُّوا اللَّهَ، أحبُّوا أولياءَه الذين يُحبونَهُ، فعامَلُوهُم بالمحبِّةِ، والرَّأفةِ، والرحمةِ، وأبغضُوا أعداءَه الذين يُعادونه، فعاملُوهُم بالشِّدَّةِ والغلظةِ، كما قال تعالى: (أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ) . (يجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِم) . فإنَّ من تمامِ المحبةِ مجاهدةَ أعداءِ المحبوبِ - وأيضًا - فالجهادُ في سبيلِ اللَّهِ دعاءٌ للمعرضِينَ عن اللَّهِ إلى الرجوع إليه بالسِّيفِ والسنانِ، بعد دعائِهم إليه بالحجَّةِ والبُرْهانِ، فالمحبُّ للَّهِ يحبُّ اجتلابِ الخلقِ كلِّهم إلى بابِهِ، فمنْ لم يُجبِ الدعوةَ إليه باللينِ والرِّفقِ، احتاجَ إلى الدعوة بالشدَّةِ والعنفِ: "عجِبَ ربُّك من قوم يُقادون إلى الجنَّةِ بالسَّلاسلِ ". (وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ) ، لا هَمَّ للمحبِّ غيرُ ما يُرضِي حبيبَهُ. رضِيَ من رَضِيَ وسخطَ من سخِطَ، من خافَ الملامةَ في هوى من يُحبُ. فليس بصادقٍ في المحبًّةِ.

قوله تعالى: (وإذا ناديتم إلى الصلاة اتخذوها هزوا ولعبا ذلك بأنهم قوم لا يعقلون (58)

وقفَ الهوى بي حيثُ أنتَ. . . فليسَ لي مُتأخَّر عنه ولا مُتقدَّمُ أجِدُ الملامةَ في هواكَ لذيذةً. . . حبِّا لِذكْرِكِ فلْيَلُمْنِىِ اللُّوَّمُ قوله: (ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ) ، يعني: درجةَ الذين يُحبهم ويحبونَهُ بأوصافِهِم المذكورةِ (وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) : واسعُ العطاء. عليم بمن يستحقُّ الفضل، فيمنَحُهُ، ومن لا يستحقُّ، فيمنعُه. * * * وعن أبي صخرٍ عن محمدِ بنِ كعبٍ القرظيِّ أنَّ عمرَ بنَ عبدِ العزيزِ أرسلَ يومًا إليه، وعمرُ أمير المدينة يومئذٍ، فقال: يا أبا حمزةَ، إنَّه أسهرتني البارحةَ آية. قال محمد: وما هي أيها الأمير؟ فقالَ: قولُ اللَّهِ عزَّ وجلَّ: (يَا أَيهَا الَّذِينَ آمَنوا مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأتِي اللَّه بِقَوْمٍ يحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ) إلى قوله: (لَوْمَةَ لائِمٍ) . قال محمد: إنَّما عنى اللَّهُ عزَّ وجلَّ: (يا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) الولاةَ من قريشٍ: (مَن يَرْتَدَّ مِنكمْ عَن دِينِهِ) عن الحق (فَسَوْفَ يَأتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبّونَهُ) . وهم أهلُ اليمنِ. قال عمرُ: يا ليتَني وإيَّاكَ منهم قال: آمين. * * * قوله تعالى: (وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ (58) [قالَ البخاريُّ] ؛ وقول اللَّهِ عزَّ وجلَّ: (وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ (58) .

وقوله تعالى: (إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ) . يشيرُ إلى أنَّ الأذَانَ مذكورٌ في القرآنِ في هاتينِ الآيتينِ: الأُولى منهما: تشْتمل النداءَ إلى جميع الصلوات؛ فإنَّ الأفعال نكراتٌ. والنكرة في سياقِ الشَّرْطِ تعُمُّ كلَّ صلاةٍ. والثانية منهما: تخْتصُ بالنداءِ إلى صلاةِ الجمعة. وقد رَوَى عبدُ العزيزِ بنُ عِمرانَ، عن إبراهيمَ بنِ أبي حبيبةَ، عن داودَ بنِ الحُصينِ، عن عكْرمةَ، عن ابن عباس، قال: الأذان نزل على رسول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مع فرضِ الصلاةِ: (إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكرِ اللهِ) . هذا إسنادٌ ساقطٌ لا يصح. وهذه الآية ُ مدنيةٌ، والصلاةُ فرضتْ بمكةَ، ولم يصحَّ أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - صلَّى بمكةَ جُمُعة، وقوله: (وَإِذَا نَادَيْتُم إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا) مدنية - أيضًا - ولم يُؤذنْ للصلاةِ بمكةَ. والحديثُ الذي رُوي أنَّ جبريلَ لمَّا أمَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أولَ ما فُرضتِ الصلاةُ أمَرَه أن يُؤذَنَ بالصلاةِ، قد جاء مفسرًا في رواية أخرى، أنَّه يؤذن: الصلاةُ جامعة. وقد سبقَ ذكرُهُ في أولِ كتابِ الصلاةِ. وقد رُوي أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - ليلةَ أُسْرِي خرجَ ملكٌ من وراء الحجابِ فأذَّن، فحدَّثه ربُّه عزَّ وجلَّ والنبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يسمعُ ذلكَ، ثم أخذَ المَلَكُ بيدِ محمدٍ فقدَّمه

فأمَّ أهلَ السماءِ، منهم آدمُ ونوح. قال أبو جعفرِ محمدُ بنُ علي: فيومئذِ أكملَ اللَهُ لمحمدٍ - صلى الله عليه وسلم - الشَّرف - على أهلِ السماءِ وأهلِ الأرضِ. وقد خرَّجه البزار والهيثمُ بنُ كليبِ في "مسنديهما" بسياق مُطوَّلٍ من طريقِ زيادِ بنِ المنذرِ أبي الجارود، عن محمدِ بنِ علي بن الحسينِ، عن أبيه. عن جدِّه، عن على. وهو حديث لا يصحُّ. وزيادُ بنُ المنذرِ أبو الجارودِ الكوفي، قال فيه الإمامُ أحمدُ: متروكٌ. وقال ابنُ معينٍ: كذَّاب عدو اللَّهِ، لا يساوي فِلْسًا، وقال ابنُ حبانَ: كان رافضيًا يضعُ الحديثَ. وروى طلحة بن زيدِ الرقي، عن يونسَ، عن الزُّهريّ، عن سالمِ، عن أبيه، أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - لما أُسْرِي به إلى السماءِ أوحى اللَّهُ إليه الأذانَ، فنزلَ بهِ، فعلَّمه جبريلَ. خرَّجه الطبراني. وهو موضوع بهذا الإسنادِ بغيرِ شكٍّ. وطلحةُ هذا، كذَّاب مشهور. ونبهنا على ذلكَ لئلا يُغْتَّر بشيءٍ منه. وإنَّما شُرع الأذانُ بعد هجرةِ النبىِّ - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينةِ، والأحاديث الصحيحةُ كلُّها تدلُّ على ذلكَ.

والأذانُ له فوائدُ: منها: أنه إعلامٌ بوَقْتِ الصلاةِ أو فعلِها. ومن هذا الوجهِ هو إخبارٌ بالوقتِ أو الفعلِ، ولهذا كان المؤذِّنُ مؤتمنًا. ومنها: أنه إعلامٌ للغائبينَ عن المسجدِ، فلهذا شُرِع فيه رفعُ الصوتِ، وسُمِّي نداءً، فإنَّ النِّداءَ هو الصوتُ الرفيعُ. ولهذا المعنى قالَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - لعبد الله بنِ زيد: "قم فألقه على بلال، فإنه أندى صوتًا منك ". ًً ومنها: أنه دعاءٌ إلى الصلاةِ، فإنه معنى قولِهِ: "حيَّ على الصلاةِ، حيَّ على الفلاح ". وقد قيل: إنَّ قولَهُ تعالى: (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلُ صَالِحًا) ، الآية: نزلتْ في المؤذنينَ، رُوي عن طائفة من الصحابةِ. وقيلَ في قولهِ تعالى: (وَقَدْ كَانوا يُدْعَوْنَ إِلَى السّجودِ وَهُمْ سَالِمُونَ) . إنها الصلواتُ الخمسُ حين يُنادى بها. ومنها: أنه إعلانٌ بشرائع الإسلامِ من التوحيدِ والتكبيرِ والتهليلِ والشهادةِ بالوحدانيةِ والرسالةِ. * * *

قوله تعالى: (إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون (90)

قوله تعالى: (إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (91) وقد ذكرَ اللَّهُ - في كتابِهِ - العلَّةَ المقتضيةَ لتحريمِ المسكراتِ، وكان أوَّل ما حُرّمتِ الخمرُ عند حضورِ وقتِ الصلاةِ لمَّا صلَّى بعضُ المهاجرينَ، وقرأ في صلاتِهِ، فخَلط في قراءتِهِ، فنزلَ قولُهُ تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنتمْ سكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ) ، فكانَ مُنَادي رسولِ اللَّه - صلى الله عليه وسلم -ينادِي: لا يَقْربِ الصلاةَ سكران. ثم إنَّ اللَّهَ حرَّمها على الإطلاقِ بقولِهِ تعالى: (إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) . ْفذكرَ سبحانَهُ علَّةَ تحريمِ الخمرِ والميسرِ - وهو القِمارُ - وهو أن الشيطانَ يُوقِعُ بهما العداوةَ والبغضاءَ، فإنَّ منْ سكرَ، اختلَّ عقلُه، فربما تسلَّط على أذى الناس في أنفسِهِم وأموالهم، وربما بلغ إلى القتلِ، وهي أمُّ الخبائثِ. فمنْ شربها قتلَ النفسَ وزنى، وربما كفرَ. وقد رُوي هذا المعنى عن عثمانَ وغيرِه، ورُوي مرفوعًا أيضًا.

ومن قامَرَ، فربما قُهِرَ وأُخذَ مالُه منه قهرًا، فلم يبقَ له شيء فيشتدُّ حِقدُهُ على من أخذ مالَهُ. وكلُّ ما أدَّى إلى إيقاع العداوةِ والبغضاءِ كان حرامًا. وأخبر سبحانه أنَّ الشيطانَ يصدُّ بالخمرِ والميسرِ عن ذكرِ اللَّهِ وعن الصلاةِ. فإنَّ السكرانَ يزولُ عقلُهُ، أو يختل، فلا يستطيعُ أن يذكرَ اللَهَ، ولا أن يُصلِّي، ولهذا قال طائفة من السلفِ: إن شارب الخمرِ تمر عليه ساعة لا يعرفُ فيها ربَّه، واللَّهُ سبحانه إنما خلقَ الخلقَ ليعرِفُوه، ويذكرُوه، ويعبدُوه، ويُطيعوه، فما أدَّى إلى الامتناع من ذلك، وحالَ بين العبدِ وبين معرفةِ ربَه وذكرهِ ومناجاتِهِ، كان محرَّمًا، وهو السُّكْرُ، وهذا بخلافِ النَّومِ، فإنَّ اللَّهَ عزَّ وجل جَبَلَ العبادَ عليه، واضطرهُم إليه، ولا قِوامَ لأبدانِهِم إلا به، إذ هو راحة لهم من السعي والنَّصَبِ، فهو من أعظم نعم اللَّهِ على عبادِهِ، فإذا نامَ المؤمنُ بقدرِ الحاجةِ، ثم استيقظَ إلى ذكرِ اللهِ ومناجاتِهِ ودعائِهِ، كان نومُه عونًا له على الصلاةِ والذكرِ، ولهذا قالَ من قالَ من الصحابةِ: إني أحتسبُ نَوْمَتِي كما أحتسبُ قَوْمَتِي. وكذلك الميْسرُ: يصُدُّ عن ذكرِ اللهِ وعنِ الصلاةِ، فإنَّ صاحبَه يعكفُ بقلبِهِ عليه، ويشتغلُ به عن جميع مصالحِهِ ومهماتِهِ حتى لا يكادُ يذكرُها لاستغراقِهِ فيه، ولهذا قالَ عليّ لما مرَّ على قومٍ يلعبون بالشطرنج: ما هذهِ التماثيلُ التي أنتُم لها عاكفونَ؛ فشبَّههم بالعاكفينَ على التماثيلِ. وجاءَ في الحديثِ: "إنَ مُدْمِنَ الخمْرِ كعابدِ وثنٍ " فإنه يتعلَّقُ قلبُه بها، فلا يكادُ يُمكِّنه أن يدعَها كما

قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم وإن تسألوا عنها حين ينزل القرآن تبد لكم عفا الله عنها والله غفور حليم (101)

لا يدعُ عابدُ الوثنِ عبادَتَهُ. وهذا كلُّه مضادٌّ لما خلَقَ اللَّهُ العبادَ لأجلِهِ مِنْ تفريغ قلوبِهِم لمعرفته. ومحبَّتِه، وخشيتِه، وذكره ومناجاتِهِ، ودعائِهِ، والابتهالِ إليه، فما حالَ بين العبدِ وبين ذلكَ، ولم يكنْ بالعبدِ إليه ضرورةٌ، بل كان ضررًا محضًا عليه. كان محرَّمًا. وقد رُوي عن عليٍّ أنه قالَ لمن رآهم يلعبونَ بالشِّطرئج: ما لهذا خُلقتم. ومن هنا يعلمُ أن الميسرَ محرَّمٌ سواءٌ كان بعوضٍ أو بغيرِ عِوضٍ، وأنَّ الشطرنج كالنَّرْدِ أو شرٌّ منه، لأنَّها تشغلُ أصحابَها عن ذكرِ اللهِ، وعن الصلاة أكثر من النَّرْدِ. والمقصودُ: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "كل مسكر حرامٌ "، وكلُّ ما أسكر عن الصلاة فهو حرام. * * * قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (101) عن أبي هريرةَ - رضي الله عنه -، قال: سمعتُ رسولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: "ما نهَيْتُكُم عنه فاجْتنبُوه، وما أمرتُكُم به، فأتُوا منه ما استطعتُم، فإنما أهلَكَ الَّذين من قبلِكُم كثْرةُ مسائِلِهِم واختلافُهم على أنبيائهم ". رواه البخاريُّ ومسلمٌ. هذا الحديثُ بهذا اللفظِ: خرَّجه مسلمٌ وحْدَه من روايةِ الزهريِّ، عن

سعيدِ بنِ المسيَّبِ وأبي سلمةَ - كلاهُما - عن أبي هريرةَ، وخرَّجاهُ من روايةِ أبي الزنادِ، عن الأعرج، عن أبي هريرةَ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: "دعونِي ما تركتُكُم، إنَّما أهْلَكَ منْ كانَ قبلَكُم سؤالُهم واختلافُهم على أنبيائِهِم، فإذا نهيتُكُم عن شيء، فاجتنبُوه، وإذا أمرتُكُم بأمر فأتُوا منه ما استطعتُم " وخرَّجه مسلمٌ من طريقينِ آخرينِ عن أبي هريرةَ بمعناه. وفي رواية له ذكرُ سببِ هذا الحديثِ من روايةِ محمدِ بنِ زيادٍ، عن أبي هريرةَ، قالَ: خطبنا رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فقالَ: "يا أيها الناسُ قد فرضَ اللَهُ عليكم الحجَّ فحجوا" فقال رجلٌ: أكُلَّ عامٍ يا رسولَ اللهِ؟ فسكتَ حتَّى قالَها ثلاثاً. فقال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "لو قلتُ: نعم، لوجبتْ ولما استطعتُم"، ثمَّ قال: "ذَرُوني ما تركْتُكُم، فإنما هلَكَ من كان قبلكم بسؤالِهِم واختلافِهم على أنبيائِهم، فإذا أمرتُكُم بشيء، فأتُوا منه ما استطعتُم، وإذا نهيتُكُم عن شيء، فدعُوه ". وخرَّجَه الدارقطنيُّ من وجهٍ آخرَ مختصرا. وقال فيه: فنزل قولُهُ تعالى: (يَا أَيهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْاَلُوا عَنْ أَشيَاءَ إِن تبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكمْ) . وقد رُوي من غيرِ وجه أن هذه الآيةَ نزلتْ لمَّا سالوا النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - عن الحجِّ، وقالُوا: أفي كل عامٍ؟ وفي "الصحيحينِ " عن أنسٍ قالَ: خطبنا رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، فقال رجلٌ: مَن أبي؟ فقالَ: "فلانَ "، فنزلتْ هذه الآيةُ: (لا تَسْاَلُوا عَنْ أَشيَاءَ) . وفيهما - أيضًا - عن قتادةَ، عن أنسٍ قالَ: سألُوا رسولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - حتى

أحْفَوهُ في المسألةِ، فغضبَ فصَعِدَ المنبرَ، فقالَ: "لا تسألُوني اليومَ عن شيء إلا بينتُه" فقامَ رجل - كان إذا لاحى الرجالَ دُعِيَ إلى غيرِ أبيه - فقالَ: يا رسولَ اللَّهِ من أبي؛ قالَ: " أبوك حُذافة"، ثمَّ أنشأ عمرُ، فقال: رضينا باللَّه ربًّا وبالإسلامِ دينًا وبمحمدٍ رسولاً، نعوذُ باللَّه من الفتنِ، وكانَ قتادة يذكرُ عندَ هذا الحديثِ هذه الآيةَ (يَا أَيهَا الَّذِينَ آمَنوا لا تَسْاَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ) . وفي "صحيح البخاريِّ " عن ابنِ عباسٍ، قالَ: كان قومٌ يسألونَ رسولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - استهزاء، فيقولُ الرجلُ: مَنْ أبي؟ ويقولُ الرجلُ تَضِلُّ ناقته: أين ناقَتِي؟ فأنزلَ اللَّهُ هذه الآيةَ: (يَا أَيهَا الذِينَ آمنُوا لا تَسْاَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ) . وخرَّج ابنُ جريرٍ الطبري في "تفسيرِ" من حديثِ أبي هريرةَ، قالْ خرجَ رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وهو غضبانُ مُحمارٌّ وجهه، حتى جلسَ على المنبرِ، فقامَ إليه رجلٌ فقالَ: أين أنا؟ فقال: "في النارِ" فقامَ إليه آخرُ، فقالَ: من أبي؟ قال: "أبوكَ حُذافةُ"، فقامَ عمرُ فقالَ: رضينا بالله ربًّا وبالإسلام دينًا، وبمحمدٍ نبيًّا، وبالقرآنِ إمامًا، إنَّا يا رسولَ اللَّه حديثُو عهدٍ بجاهليةٍ وشركٍ، واللَّهُ أعلمُ من آباؤنا، قال: فسكنَ غضبُه، ونزلتْ هذه الآية ُ: (يَا أَيهَا الذِينَ آمنوا لا تَسْألوا عَنْ أَشْيَاءَ) . وروى - أيضًا - من طريقِ العَوْفيِّ عن ابنِ عباسٍ في قولهِ: (يا أيهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْألُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِن تبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ) . قال: إنًّ رسولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أذَّن في الناسِ، فقالَ: "يا قوم كُتِبَ عليكم الحح؟ "، فقامَ رجل، فقالَ: يا رسولَ اللَّهِ، أفي كلِّ عامٍ؛ فأُغْضِبَ رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - غضبًا شديدًا، فقالَ:

"والذي نفسي بيدِهِ، لو قلتُ: نعم، لوجَبَتْ ولو وجبتْ ما استطعتُم، وإذن لكفرتُم، فاتركُوني ما تركتُكُم، فإذا أمرتُكُم بشيء فافعلُوا، وإذا نهيتُكم عن شيء فانتهَوا عنه " فأنزل اللَّهُ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ) . نهاهُم أن يسألوا مثلَ الذي سألتِ النَصارى في المائدةِ، فأصبَحُوا بها كافرين، فنهى اللَّهُ تعالى عن ذلكَ، وقال: لا تسألوا عن أشياء، إن نزلَ القرآنُ فيها بتغليظٍ ساءَكُم، ولكن انتظرُوا، فإذا نزلَ القرآنُ فإنَّكم لا تسألون عن شيءٍ إلا وجدتُم تبيانَهُ. فدلَّت هذه الأحاديثُ على النهي عن السُّؤالِ عمَّا لا يُحتاجُ إليه مما يسوءُ السائلَ جوابُهُ مثلَ سؤالِ السائلِ، هل هو في النارِ أو في الجنةِ، وهل أبوه من ينتسبُ إليهِ أو غيرِه، وعلى النهي عن السؤالِ على وجهِ التعنتِ والعبثِ والاستهزاءِ، كما كانَ يفعلُه كثيرٌ من المنافقينَ وغيرُهم. وقريبٌ من ذلكَ سؤالُ الآياتِ واقتراحُها على وجهِ التعنت، كما كانَ يسألُه المشركُون وأهلُ الكتابِ، وقد قالَ عكرمةُ وغيرُه: إنَّ الآيةَ نزلتْ في ذلك. ويقربُ من ذلكَ السؤالُ عما أخفاه اللَّهُ عن عبادِهِ، ولم يُطلعهم عليهِ. كالسؤالِ عن وقتِ الساعةِ، وعن الروح. ودلَّت - أيضًا - على نهي المسلمينَ عن السؤالِ عن كثيرٍ من الحلالِ والحرامِ مما يُخشى أن يكونَ السؤالُ سببًا لنزولِ التشديدِ فيهِ، كالسّؤالِ عن الحجِّ: هل يجبُ كلَّ عامٍ أم لا؟ وفي "الصحيح " عن سعدٍ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قالَ: "إنَّ أعظمَ المسلمينَ

في المسلمينَ جُرْمًا منْ سألَ عن شيء لم يحرم، فحُرِّم من أجْلِ مسألتِهِ ". ولما سُئلَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - عن اللِّعان كره المسائلَ وعابَهَا حتى ابتُلي السائلُ عنه قبلَ وقوعِهِ بذلكَ في أهلِهِ وكان النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - ينهَي عن قيلَ وقالَ، وكثرةِ السؤالِ، وإضاعةِ المالِ. ولم يكنِ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يُرخِّصُ في المسائِل إلا للأعرابِ ونحوِهم من الوُفودِ القادمينَ عليه، يتألَّفهم بذلكَ، فأمَّا المهاجرونَ والأنصارُ المقيمونَ بالمدينة الذين رَسَخَ الإيمانُ في قلوبِهِم، فنُهوا عن المسألةِ، كما في "صحيح مسلمٍ " عن النَّوَّاسِ بن سِمعانَ، قال: أقمتُ مع رسولِ اللَهِ - صلى الله عليه وسلم - بالمدينةِ سنةً ما يمنعُني من الهجرةِ إلا المسألةُ، كانَ أحدُنا إذا هاجرَ لم يسألِ النبي - صلى الله عليه وسلم -. وفيه أيضًا عن أنسٍ، قال: نُهينا أن نسأل رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عن شيءٍ، فكان يُعجِبُنا أن يجيءَ الرجلُ من أهلِ الباديةِ العاقلُ، فيسألُهُ ونحنَ نسْمعُ. وفي "المسندِ" عن أبي أُمامةَ، قالَ: كانَ اللَّهُ قد أنزلَ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ) ، قالَ: فكُنَّا قد كرهنا كثيرًا من مسألتِهِ، واتَّقيْنَا ذلك حين أنزلَ اللَّهُ على نبيِّهِ - صلى الله عليه وسلم - قال: فأتينا أعرابيا، فرشوناه بُردًا، ثمَّ قلنا له: سلِ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - وذكرَ حديثًا. وفي "مسندِ أبي يعْلى الموصليِّ " عن البراءِ بن عازبٍ قال: إنْ كان لتأتِي

عليَّ السنةُ أريدُ أن أسألَ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عن شيء، فأتهيبُ منه، وإن كنَّا لنتمنَّى الأعرابَ. وفي "مسند البزارِ" عن ابنِ عباسٍ، قال: ما رأيتُ قومًا خيرًا من أصحابِ محمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - ما سألوه إلا عن اثنتي عشرةَ مسألةً، كلُّها في القرآنِ: (يَسْاَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ) ، (يَسْاَلُونَكَ عَنِ الشَّهرِ الْحَرَامِ) ، (وَيَسْاَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى) ، وذكر الحديثَ. وقد كانَ أصحابُ النبيّ - صلى الله عليه وسلم - أحيانًا يسألونَهُ عن حكم حوادثَ قبلَ وقوعِهَا، لكن للحملِ بِهَا عند وقوعِها، كما قالُوا لهُ: إنَّا لاقُو العدوِّ غدًا، وليسَ معنا مُدًى، أفنذبحُ بالقصَبِ؛ وسألُوه عن الأُمراءِ الذين أخبر عنهم بعدَه، وعن طاعتِهِم وقتالِهِم، وسألهُ حذيفةُ عن الفتن، وما يصنعُ فيها. فهذا الحديثُ، وهو قولُهُ - صلى الله عليه وسلم -: "ذَرُوني ما تركْتُكُم، فإنَّما هلَكَ من كان قبلَكُم بكثرةِ سُؤالِهِم واختلافِهِم على أنبيائِهِم " يدلُّ على كراهةِ المسائلِ وذمِّها، ولكن بعضَ الناسِ يزعمُ أنَّ ذلكَ كان مختصًا بزمنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - لما يخشى حينئذٍ من تحريمِ ما لم يُحرَّم، أو إيجابِ ما يشقُّ القيامُ به، وهذا قد أُمِنَ بعد وفاتِهِ - صلى الله عليه وسلم -. ولكن ليسَ هذا وحده هو سببَ كراهةِ المسائلِ، بل له سببٌ آخرُ، وهو الذي أشارَ إليه ابنُ عباسٍ في كلامِهِ الذي ذكرنا بقوله: ولكن انتظرُوا، فإذا نزلَ القرآنُ، فإنكم لا تسألون عن شيءٍ إلا وجدتم تبيانَهُ. ومعنى هذا: أنَّ جميعَ ما يحتاجُ إليه المسلمونَ في دينهم لا بدَّ أن يُبينه اللَّهُ في كتابِهِ العزيزِ،

ويبلِّغُ ذلكَ رسولُهُ عنه، فلا حاجةَ بعد هذا لأحدٍ في السؤال، فإنَّ اللَّهَ تعالى أعلمُ بمصالح عبادِهِ منهم، فما كانَ فيه هدايتُهم ونفعُهُم فإنَّ اللَه لا بدَّ أن يُبيَّنه لهُم ابتداءً من غيرِ سؤالٍ، كما قالَ: (يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا) . وحينئذٍ، فلا حاجةَ إلى السُّؤال عن شيءٍ، ولا سيما قبلَ وقوعِهِ والحاجة إليه، وإنَّما الحاجةُ المهمةُ إلى فَهْم ما أخبرَ اللَّهُ به ورسولُه، ثمَّ اتباعُ ذلكَ والعملُ به، وقد كان النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يُسأل عن المسائلِ، فيُحيلُ على القرآنِ، كما سألَهُ عمرُ عنِ الكلالةِ فقال: "يَكفيك آيةُ الصيف ". وأشارَ رسول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديثِ إلى أنَّ في الاشتغال بامتثال أمرِه، واجتنابِ نهيه شغلاً عن المسائلِ، فقال: "إذا نهيتُكُم عن شيءٍ فاجتنبوه، وإذا أمرتُكُم بأمر، فأتوا منه ما استطعتُم ". فالذي يتعيَّنُ على المسلم الاعتناءُ به والاهتمامُ أن يبحثْ عمَّا جاء عن اللَّهِ ورسولِهِ - صلى الله عليه وسلم -، ثم يجتهدُ في فهم ذلك، والوقوفِ على معانيهِ، ثم يشتغلُ بالتصديقِ بذلكَ إنْ كان من الأمورِ العلميَّةِ، وإن كان من الأمور العمليّة، بذل وسْعهُ في الاجتهادِ في فعلِ ما يستطيعُهُ من الأوامرِ، واجتنابِ ما يُنْهى عنهُ، وتكونُ همَّتُهُ مصروفةً بالكليَّة إلى ذلكَ، لا إلى غيرِه. وهكذا كانَ حال أصحابِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - والتابعينَ لهم بإحسانٍ في طلبِ العلمِ النافع منَ الكتابِ والسنةِ. فأمَّا إنْ كانتْ همةُ السامِع مصروفةً عند سماع الأمرِ والنهي الى فرضِ أمورٍ قد تقعُ، وقد لا تقعُ، فإن هذا مما يدخلُ في النَّهي ويثبِّطُ عن الجِدِّ في

متابعةِ الأمرِ. وقد سألَ رجلٌ ابنَ عمرَ عن استلامِ الحجرِ، فقال له: رأيتُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يستلمه ويقبِّلُهُ، فقال له الرجلُ: أرأيتَ إنْ غُلِبْتُ عليه؟ أرأيت إن زُوحِمْتُ؟ فقال له ابنُ عمرَ: اجعلْ "أرأيتَ" باليمنِ، رأيتُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يستلمه ويقبِّلُهُ. خرَّجه الترمذيُّ. ومرادُ ابنِ عمرَ: أن لا يكونَ لكَ همٌّ إلا في الاقتداءِ بالنبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، ولا حاجةَ إلى فرضِ العجزِ عنْ ذلكَ أو تعسرِه قبلَ وقوعِهِ، فإنَّه قد يفتُرُ العزمُ عن التَّصميمِ على المتابعةِ، فإنَّ التَّفْقُّهَ في الدِّين، والسُّؤالَ عن العِلْم إنَّما يُحمَدُ إذا كانَ للعملِ، لا للمراءِ والجدالِ. وقد رُوي عن على - رضي الله عنه -، أنه ذكرَ فتنًا تكونُ في آخرِ الزمان، فقال له عمرُ: متى ذلك يا علي؟ قال: إذا تُفُقِّه لغير الدين، وتَعُلِّم لغيرِ العملِ، والتُمِسَتِ الدنيا بعملِ الآخرةِ. وعن ابنِ مسعود أنه قال: كيف بكُم إذا لبِستكم فتنةٌ يربُو فيها الصغيرُ. ويهْرَمُ فيها الكبيرُّ، وتُتَّخَذُ سُنَّةً، فإن غُيرَتْ يومًا قيل: هذا منكرٌ؟ قالُوا: ومتى ذلك؟ قالَ: إذا قلَّتْ أمناؤُكُم، وكثرتْ أمراؤكم، وقلَّت فقهاؤُكُم، وكثر قُرَّاؤُكُم، وتُفُقّهَ لغير الدين، والتُمِسَتِ الدنيا بعملِ الآخرةِ. خرَّجهما عبدُ الرزاقِ في كتابِهِ. ولهذا المعنى كان كثيرٌ من الصحابةِ والتابعينَ يكرهونَ السؤالَ عن الحوادثِ قبلَ وقوعِها، ولا يُجيبونَ عن ذلكَ، قالَ عمرُو بنُ مُرَّةَ: خرج عمرُ على

الناسِ، فقال: أُحرِّجُ عليكُم أن تسألونا عن ما لم يكنْ، فإنَّ لنا فيما كان شغلاً. وعن ابنِ عمرَ، قالَ: لا تسألوا عما لم يكنْ، فإنِّي سمعتُ عمرَ لعنَ السَّائلَ عمَّا لم يكنْ. وكان زيدُ بنُ ثابت إذا سُئلَ عن الشَّيْء يقولُ: كانَ هذا؛ فإن قالُوا: لا. قالَ: دعُوه حتى يكونَ. وقال مسروقٌ: سألتُ أُبيَّ بنَ كعبٍ عن شيءٍ، فقالَ: أكانَ بعدُ؟ فقلتُ: لا، فقال: أجِمَّنا - يعني: أرِحْنا - حتى يكونَ فإذا كان اجتهدْنا لك رأيَنا. وقال الشعبيُّ: سئلَ عمَّارٌ عن مسألةٍ فقال: هل كان هذا بعدُ؟ قالُوا: لا، قال: فدعُونا حتى يكونَ، فإذا كان تجَشَّمْنَاهُ لكم. وعن الصَّلتِ بنِ راشدٍ، قال: سألتُ طاووسًا عن شيءٍ، فانتهرني. وقالَ: أكان هذا؟ قلتُ: نعم، قال: آللَّه؟ قلتُ: آللَّه. قال: إنَّ أصحابنا أخبرُونا عن معاذِ بنِ جبلٍ أنه قالَ: أيها النَّاسُ، لا تعجلُوا بالبلاء قبْلَ نزولِه فيذهبُ بكُم هَاهُنا وهَاهُنا، فإنَّكم إنْ لم تعجلُوا بالبلاء قبلَ نزولِه لم ينفكًّ المسلمونَ أن يكونَ فيهم مَنْ إذا سُئِلَ سُدِّدَ، أو قال وُفِّق. وقد خرَّجه أبو داودَ في كتابِ: "المراسيلِ " مرفوعًا من طريقِ

ابنِ عجلانَ عن طاووسٍ عن معاذٍ، قال: قال رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: "لا تعجَلُوا بالبليَّةِ قبل نزولِهَا فإنَّكم إن لم تفعلُوا لم ينفكَّ المسلمونَ منهم من إذا قال سُدِّدَ أو وقق، وإنَّكم إن عجِلتُم، تشَّتتْ بكمُ السّبلُ هاهُنا وهَاهُنا". ومعنى إرساله أن طاووسًا لم يسمعْ من معاذ. وخرَّجه - أيضًا - من روايةِ يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمةَ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - بمعناه مرسلاً. وروى الحجاجُ بنُ منهال حدثنا جريرُ بنُ حازمٍ سمعتُ الزبيرَ بنَ سعيدٍ - رجلاً من بني هاشم - قال. سمعتُ أشياخَنا يحدثون: أنَّ رسولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يزالُ في أُمَّتِي مَن إذا سُئلَ سُدِّد وأُرْشِدَ حتى يتساءلوا عن ما لم ينزلْ تبيينُهُ، فإذا فعلوا ذلك، ذُهِبَ بهم هاهُنا وهاهُنا". وقد رُوي عن الصَّنابحيِّ عن معاويةَ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - إنه نهى عن الأغْلُوطاتِ، خرَّجه الإمامُ أحمد، وفسَّرها الأوزاعيُّ، قال: هي شدادُ المسائِلِ. وقالَ عيسى بنُ يونسَ: هي ما لا يُحتاجُ إليه من كيفَ وكيفَ. ويُروى من حديثِ ثوبانَ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "سيكونُ أقوامٌ من أمتي يُغَلِّطُون فقهاءَهُم بِعُضَلِ المسائِلِ، أولئك شرارُ أُمَّتِي ". وقال الحسنُ: شرارُ عبادِ اللَّهِ الذين يتبعونَ شرارَ المسائلِ يَغُمُّون بها عبادَ اللَّه.

وقال الأوزاعيُّ: إنَّ اللَّهَ إذا أراد أن يحرِمَ عبدَه بركةَ العلم، ألقى على لسانِهِ المغاليطَ، فلقد رأيتُهم أقلَّ الناسِ علمًا. وقال ابنُ وهب عن مالكٍ: أدركتُ هذه البلدةَ، وإنَّهم ليكرهُون هذا الإكثارَ الذي فيه الناسُ اليومَ، يريدُ المسائلَ. وقال أيضًا: سمعتُ مالكًا وهو يعيبُ كثرةَ الكلامِ وكثرةَ الفتيا، ثم قالَ: يتكلَّمُ كأنه جملٌ مُغْتَلِمٌ يقولُ: هو كذا، هو كذا يَهْدِرُ في كلامِهِ. وقال: وسمعتُ مالكًا يكرهُ الجوابَ في كثرةِ المسائلِ، وقال: قال اللَّهُ عزَّ وجلَّ: (وَيَسْأَئونَكَ عَنِ الروحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي) ، فلم يأتِهِ في ذلكَ جوابٌ. وكان مالكٌ يكرهُ المجادلةَ عن السُّنن أيضًا. قال الهيثمُ بنُ جميلٍ: قلتُ لمالكٍ: يا أبا عبدِ اللَّهِ، الرجلُ يكونُ عالمًا بالسُّن يُجادِلُ عنها؟ قالَ: لا، ولكن يخبر بالسُّنَّةِ، فإن قُبِلَ منه، وإلا سكتَ. وقال إسحاقُ بنُ عيسى: كان مالكٌ يقولُ: المِراءُ والجِدالُ في العلم يذهبُ بنورِ العلم من قلبِ الرجلِ. وقال ابنُ وهبٍ: سمعتُ مالكًا يقولُ: المراءُ في العلم يُقسَي القلوبَ ويورِّث الضغنَ. وكان أبو شريح الإسكندرانيُّ يومًا في مجلسِهِ، فكثُرَتِ المسائلُ، فقال: قد دَرِنَتْ قلوبُكم منذُ اليوم، فقومُوا إلى أبي حُميدٍ خالد بن حميد اصقُلوا قلوبكم، وتعلَّموا هذه الرغائبَ، فإنَها تُجَدِّدُ العبادةَ، وتُورثُ الزهادةَ، وتجرُّ الصداقةَ، وأقلُّوا المسائلَ إلا ما نزلَ، فإنها تقسِّي القلوبَ، وتورثُ العداوةَ.

وقال الميمونيُّ: سمعتُ أبا عبدِ اللَهِ - يعني أحمدَ - يُسأل عن مسألةٍ. فقال: وقعَتْ هذه المسألةُ؟ بُليتم بها بعدُ. وقد انقسمَ الناسُ في هذا البابِ أقسامًا: فمن أتباع أهلِ الحديثِ منْ سدَّ بابَ المسائلِ حتَى قل فقهُهُ وعلمه بحدودِ ما أنزلَ اللَّهُ على رسولِهِ، وصارَ حامِلَ فقهٍ غيرَ فقيه. ومن فقهاءِ أهلِ الرأي من توسَّع في توليدِ المسائلِ قبلَ وقوعِها، ما يقعُ في العادةِ منها وما لا يقعُ، واشتغلُوا بتكلُّفِ الجوابِ عن ذلكَ، وكثرة الخصوماتِ فيه، والجدالِ عليه حتَى يتولدَ منْ ذلكَ افتراقُ القلوبِ، ويستقرًّ فيها بسببهِ الأهواءُ والشحناءُ والعداوةُ والبغضاءُ، ويقترنُ ذلكَ كثيرًا بنيّةِ الغالبةِ، وطلبِ العلوِّ والمباهاةِ، وصرفِ وجوهِ الناسِ، وهذا ممَّا ذمَّه العلماءُ الربانيونَ، ودلَّتِ السّنَةُ على قبحِهِ وتحريمِهِ. وأما فقهاءُ أهلِ الحديثِ العاملُون به، فإنَّ معظمَ همِّهمُ البحثُ عن معاني كتابِ اللَّهِ عزَّ وجلَّ، وما يُفسِّره من السننِ الصحيحةِ، وكلام الصحابةِ والتابعينَ لهم بإحسانٍ، وعن سُنَةِ رسولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، ومعرفةِ صحيحِهَا وسقيمِهَا، ثم التفقهُ فيها وتفهمُها، والوقوفُ على معانِيها، ثم معرفةُ كلامِ الصحابةِ والتابعينَ لهم بإحسانٍ في أنواع العلومِ من التفسيرِ والحديثِ، ومسائلِ الحلالِ والحرامِ، وأصولِ السنةِ والزهدِ والرقائقِ، وغير ذلك، وهذا هو طريقةُ الإمامِ أحمدَ ومَنْ وافقه من علماءِ الحديث الرّبَانيينَ، وفي معرفةِ هذا شغل شاغلٌ عن التشاغُلِ بما أُحدثَ من الرأي ممَّا لا يُنتفع به ولا يقعُ، وإنما يُورثُ التجادلُ فيه كثرةَ الخصوماتِ والجدالَ وكثرةَ القيلِ والقالَ.

وكان الإمامُ أحمدُ كثيرًا إذا سُئلَ عن شيءٍ من المسائلِ المولداتِ التي لا تقعُ يقولُ: دعونا منْ هذه المسائلِ المحدثةِ. وما أحسن ما قالَهُ يونسُ بنُ سليمانَ السَّقَطِيُّ: نظرتُ في الأمر، فإذا هو الحديثُ والرأيُ، فوجدتُ في الحديثِ ذكرَ الربِّ عزَّ وجلَّ، وربوبيتَه وإجلاله وعظمته، وذكرَ العرشِ وصفةَ الجنةِ والنارِ، وذكرَ النبيينَ والمرسلين، والحلالِ والحرامِ، والحثَّ على صلةِ الأرحامِ، وجماعَ الخيرِ فيه، ونظرتُ في الرأي، فإذا فيه المكرُ والغدرُ، والحيلُ، وقطيعةُ الأرحامِ، وجماعُ الشَّرِّ فيه. وقال أحمدُ بن شبويه: من أرادَ علمَ القبرِ فعليه بالآثارِ، ومن أراد علم الخُبْزِ فعليه بالرأي. ومن سلكَ طريقَه لطلبِ العلم على ما ذكرناه، تمكَّن من فهمِ جوابِ الحوادثِ الواقعةِ غالبًا، لأن أصولَها تُوجدُ في تلكَ الأصولِ المشارِ إليها. ولابدَّ أن يكونَ سلوكُ هذا الطريقِ خلفَ أئمةِ أهلِهِ المجمَع على هدايتهِم ودرايتِهِم كالشافعيِّ وأحمدَ وإسحاقَ وأبي عُبيدٍ ومن سلكَ مسلكَهم، فإنًّ مَنِ ادَّعى سلوكَ هذا الطريقِ على غيرِ طريقِهِم، وقعَ في مفاوزَ ومهالكَ، وأخذَ بما لا يجوزُ الأخذُ به، وتركَ ما يجبُ العملُ به. ومِلاكُ الأمرِ كلِّه أن يقصِدَ بذلكَ وجهَ اللَّهِ، والتقرُّبَ إليه، بمعرفةِ ما أنزلَهُ على رسولِهِ، وسلوكِ طريقه، والعملِ بذلكَ، ودعاءِ الخلقِ إليه، ومَنْ كان كذلكَ، وفَّقه اللَّهُ وسدَّده، وألهمَهُ رشدَهُ، وعلَّمه ما لم يكنْ يعلمُ، وكان من العلماءِ الممدوحينَ في قولِهِ تعالى: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادهِ الْعُلَمَاءُ) ، ومن الراسخينَ في العلم.

فقد خرَّج ابنُ أبي حاتم في "تفسيره" من حديثِ أبي الدرداءِ أنَ رسولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - سُئلَ عن الرَّاسخينَ في العلم، فقالَ: "من برَّت يمينُه، وصدقَ لسانُه، واستقامَ قلبُه، ومَنْ عفَّ بطنُه وفرجُه، فذلكَ منَ الرَّاسخينَ في العلم". قال نافعُ بنُ يزيدَ: يقالُ: الرَّاسخون في العلم: المتواضعونَ للَّهِ، المتذلِّلون للَّهِ في مرضاتِهِ، لا يتعاطُون من فوقَهُم، ولا يحقرونَ من دونَهُم. ويشهدُ لهذا قولُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: "أتاكُم أهلُ اليمنِ، هُمْ أبرُّ قلوبًا، وأرقُّ أفئدةً. الإيمانُ يمانٍ، والفقهُ يمانٍ، والحكمةُ يمانيَّة". وهذا إشارةٌ منه إلى أبي موسى الأشعريِّ، ومن كان على طريقِهِ من عُلَماءِ أهلِ اليمنِ، ثمَّ إلى أبي مسلم الخولانيِّ، وأُويسٍ القرَنيِّ، وطاووس. ووهبِ بنِ منبهٍ، وغيرِهم من علماءِ أهلِ اليمن، وكل هؤلاءِ من العلماء الرَّبانيينَ الخائفينَ للَّه، وكلُّهم علماءُ باللَّهِ يخشونَه ويخافونَه، وبعضهم أوسعُ علمًا بأحكامِ اللَّه وشرائع دينِه من بعضٍ، ولم يكنْ تميّزهم عن الناسِ بكثرةِ قيل وقال، ولا بحثٍ ولا جدالٍ. وكذلك معاذُ بنُ جبلٍ - رضي الله عنه -، أعلمُ الناسِ بالحلالِ والحرامِ، وهو الذي يُحشر يومَ القيامةِ أمامَ العلماءِ برَتْوةٍ، ولم يكنْ علمهُ بتوسعةِ المسائلِ وتكثيرِها، بل قد سبقَ عنه كراهةُ الكلامِ فيما لم يقعْ، وإنما كان عالما باللَّهِ وعالمًا بأصولِ دينِهِ. وقد قيلَ للإمامِ أحمدَ: منْ نسألُ بعدَك؟ قال: عبدُ الوهَّابِ الورَّاق. قيلَ له: إنه ليس له اتِّساعٌ في العلم، قال: إنه رجلٌ صالح، مثلُه يوفَّقُ

قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم تعملون (105)

لإصابةِ الحقِّ. وسئل عن معروفٍ الكرخيِّ، فقال: كان معه أصلُ العلم: خشيةُ اللَّهِ. وهذا يرجعُ إلى قولِ بعضِ السلفِ: كفى بخشية اللَّه علمًا، وكفى بالاغترارِ باللَّه جهلاً. وهذا بابٌ واسعٌ يطولُ استقصاؤه. * * * قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105) وقد حكى القاضي أبو يعْلى روايتينِ عن أحمدَ في وجوبِ إنكارِ المنكرِ على من يعلمُ أنَّه لا يقبلُ منه، وصححَ القولَ بوجوبِهِ، وهو قولُ أكثرِ العلماء. وقد قيلَ لبعضِ السلفِ في هذا، فقالَ: يكونُ لكَ معذرة، وهذا كما أخبرَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ عن الذينَ أنكرُوا على المعتدينَ في السَّبتِ أنَّهم قانَوا لمن قالَ لهم: (لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَو معَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) ، وقد وردَ ما يستدلُّ به على سقوطِ الأمرِ والنهي عندَ عدمِ القبولِ والانتفاع به، ففي "سننِ أبي داودَ" وابنِ ماجةَ والترمذي عن أبي ثعلبةَ الخُشنيِّ أنه قيلَ له: كيفَ تقولُ في هدْه الآيةِ: (عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ) ، فقالَ: أما واللَّهِ لقد سألتُ عنها رسولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -،

فقالَ: "بل ائتمِروا بالمعروفِ، وانتهُوا عن المنكرِ حتى إذا رأيتَ شُحًا مُطاعًا، وهوى مُتّبعًا، ودُنيا مُؤئَرَةً، وإعجابَ كلِّ ذي رأيٍ برأيه فعليكَ بنفْسِكَ، ودعْ عنكَ أمرَ العوامِّ ". وفي "سننِ أبي داودَ" عن عبدِ اللَّهِ بنِ عمرٍو، قال: بينما نحن حولَ رسولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، إذْ ذكر الفتنة، فقالَ: "إذا رأيتُمَ الناسَ مرجَتْ عهودهم، وخفَّت أماناتهم، وكانُوا هكذا" وشبَّك بين أصابعِهِ، فقمتُ إليه، فقلتُ: كيف أفعلُ عندَ ذلك، جعلني اللَّهُ فداكَ؟ قال: "الزمْ بيتَك، واملِكْ عليكَ لسانَكَ، وخُذْ بما تعْرِفُ، ودع ما تُنكرُ، وعليكَ بأمر خاصَّةِ نفسِكَ، ودع عنك أمرَ العامَّة". وكذلك رُويَ عن طائفةٍ من الصحابةِ فىِ قولِهِ تعالى: (عَلَيْكُم أَنفُسَكُمْ لا يَضُرُّكم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ) ، قالُوا: لم يأتِ تأويلُها بعدُ، إنَّما تأويلُها في آخرِ الزمانِ. وعن ابنِ مسعودٍ، قال: إذا اختلفتِ القلوبُ والأهواءُ، وأُلبِستم شِيَعًا. وذاق بعضُكم بأسَ بعض، فيأمرُ الإنسانُ حينئذٍ نفسَهُ، حينئذٍ تأويل هذه الآية. وعن ابنِ عمرَ، قال: هذه الآيةُ لأقوامٍ يجيئونُ من بعدِنا، إن قالُوا لم يُقبَلْ منهم. وقال جُبيرُ بنُ نفيرٍ عن جماعةٍ من الصحابةِ، قالُوا. إذا رأيتَ شحًا مُطاعًا وهوًى متبعًا، وإعجابَ كلِّ ذي رأي برأيه، فعليك بنفسِكَ، لا يضرُّكَ من ضلَّ إذا اهتديت. وعن مَكْحُولٍ، قال: لم يأتِ تأويلها بعدُ، إذا هابَ الواعظُ، وأنكرَ

قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم أو آخران من غيركم إن أنتم ضربتم في الأرض فأصابتكم مصيبة الم

الموعوظُ فعليكَ حينئذٍ بنفسِكَ لا يضرُّك من ضل إذا اهتديتَ. وعن الحسنِ: أنه كان إذا تلا هذه الآيةَ، قال: يا لها من ثقةٍ ما أوثقها! ومن سعةٍ ما أوسَعها!. وهذا كلُّه قد يُحملُ على أنَّ من عجزَ عن الأمرِ بالمعروفِ، أوخافَ الضَّررَ، سقطَ عنه، وكلامُ ابنِ عمر يدلُّ على أنَّ من عَلِمَ أنَّه لا يُقبل منه، لم يجبْ عليه، كما حُكِي روايةً عن أحمدَ، وكذا قالَ الأوزاعيُّ: " مَنْ ترى أن يقبل منك. * * * قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الْآثِمِينَ (106) فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (107) ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (108) وقد دلَّ القرآنُ على استحلافِ الشهودِ عندَ الارتيابِ بشهادتِهِم في الوصيَّةِ في السفرِ في قولِهِ تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضرَ أَحَدَكُمُ

الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ أَوْآخَرَانِ مِنْ غَيْرِكمْ) إلى قوله: (فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلا نَكتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ) . وهذه الآية ُ لم يُنسخ العملُ بها عندَ جمهورِ السلفِ، وقد عَمِلَ بها أبو موسى، وابن مسعودٍ، وأفتى بها علي، وابنُ عباسٍ، وهو مذهبُ شُريح والنخعيِّ، وابنِ أبي ليلَى، وسفيانَ والأوزاعي وأحمدَ وأبي عُبيدٍ وغيرِهم. قالُوا: تُقبل شهادةُ الكفار في وصيَّةِ المسلمينَ في السَّفرِ، ويُستحلفانِ مع شهادتِهِما. وهل يمينُهُما من بابِ تكميلِ الشهادةِ، فلا يُحكمُ بشهادتِهِما بدونِ يمينٍ، أم من بابِ الاستظهارِ عند الريبة؟ وهذا محتملٌ، وأصحابُنا جعلُوها شرطَا، وهو ظاهرُ ما رُويَ عن أبي موسى وغيرِه. وقد ذهبَ طائفةٌ من السلفِ إلى أنَّ اليمينَ مع الشاهدِ الواحدِ هو من بابِ الاستظهارِ، فإنْ رأى الحاكمُ الاكتفاءَ بالشَّاهدِ الواحدِ، لبُروزِ عدالتِهِ، وظُهورِ صِدْقه اكتفَى بشهادتِهِ بدون يمينِ الطالبِ. وقولُهُ تعالى: (فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا) ، يدلُّ على أنَّه إذا ظهر خلَلٌ في شهادةِ الكفارِ، حَلَفَ أولياءُ الميتِ على خيانتِهِمَا وكذبِهِما، واستحقُّوا ما حلَفُوا عليه. وهذا قولُ مُجاهد وغيرُه من السلفِ. ووَجْه ذلكَ: أن اليمينَ في جانبِ أقوى المتداعيينِ، وقد قَوِيَتْ هاهنا دَعْوى الورثةِ بظهورِ كذبِ الشُّهودِ الكفارِ، فتُردُّ اليمينُ على المُدَّعينَ. ويحلفونَ مع اللَّوْثِ ويستحقُون ما ادَّعَوْهُ، كما يحلفُ الأولياءُ في القَسامةِ مع اللَّوْثِ، ويستحقّون بذلك الدِّيَةَ والدَّم - أيضًا - عندَ مالكٌ وأحمدَ وغيرِهما.

وقضى ابنُ مسعودٍ في رجلٍ مسلم حضرَهُ الموتُ فأوصَى إلى رجلين مسلمين معه، وسلَّمهما ما معه مِنَ المالِ، وأشهدَ على وصيَّته كفَّارًا، ثم قدِمَ الوصيَّانِ، فدفعا بعضَ المالِ إلى الورثةِ، وكتما بعضه، ثمَّ قدِمَ الكفَارُ فشهدُوا عليهم بما كتمُوه منَ المالِ، فدعا الوصيَّينِ المسلمينِ، فاستحلفهُما: ما دفعَ إليهما أكثر ممَّا دفعاهُ، ثم دعا الكفارَ، فشهدُوا وحَلَفوا على شهادتِهِم، ثم أمرَ أولياءَ الميتِ أن يحلفُوا أنَّ ما شهدتْ به اليهودُ والنصارى حقٌّ فحلفوا، فقضى على الوصِيَّينِ بما حلفوا عليه، وكانَ ذلكَ في خلافةِ عثمانَ، وتأوَلَ ابنُ مسعودٍ الآيةَ على ذلكَ، فكأنَّه قابلَ بين يمينِ الأوصياءِ والشُّهود الكفارِ فأسقطَهُما، وبقي مع الورثةِ شهادةُ الكفار، فحلفُوا معها، واستحقُّوا، لأنَّ جانبَهم ترجَّحَ بشهادةِ الكفارِ لهم، فجعلَ اليمينَ مع أقوى المتداعيينِ، وقضَى بها. * * *

سورة الأنعام

سُورَةُ الأنْعَامِ قوله تعالى: (وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (59) [قالَ البخاريُّ] : "باب لا يَدْرِي متَى يجِيءُ المطرُ إلا اللهُ ": وقال أبو هريرةَ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: "خمسٌ لا يعْلَمُهُن إلا اللَّهُ ". حديثُ أبي هريرةَ هذا، قد خرَّجه في كتابِ الإيمانِ في حديثِ سؤالِ جبريلَ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - عن الإسلامِ والإيمانِ والإحسانِ، وأنّه تلا عند ذلك هذه الآيةَ: (إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ) . وقد تقدم ذكرُه والكلامُ عليه. حدَّثنا محمدُ بنُ يوسفُ: نا سفيانُ، عن عبدِ اللَّهِ بنِ دينارٍ، عن ابنِ عمرَ، قال: قالَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "مفتاحُ الغيْبِ خمْسٌ لا يعلَمُهُا إلاَّ اللَّهُ، لا يعلم أحد ما يكون في غَد إلاَّ اللَّهُ، ولا يعْلَمُ أحدٌ ما يكون في الأرحام إلاَّ اللَّهُ، ولاتَعْلَمُ نفْس ما تكسبُ غَدًا، وما تَدْرِي نفْسٌ بأيِّ أرضٍ تموتُ، وما يدْرِي أحدٌ متَى يجيءُ المطرُ". قد سبقَ في البابِ المشارِ إليه: الإشارةُ إلى اختصاصِ اللَّهِ بعلم هذه

الخمسِ، التي هي مفاتحُ الغيبِ، التي قال فيها: (وَعِندَهُ مَفَاتِح الْغَيبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ) . وهذه الخمسُ المذكورةُ في حديثِ ابنِ عمرَ، ليسَ فيها علمُ الساعةِ، بل فيها ذكرُ متى يجيءُ المطرُ بدلَ الساعةِ. وهذا مما يدلُّ على أن علمَ اللَّهِ الذي استأثر به دونَ خلْقِهِ لم ينحصرْ في خمسٍ، بلْ هو أكثرُ من ذلكَ، مثلُ علمِهِ بعددِ خلقِهِ، كما قال: (وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ) . ومثلُ استئثاره بعلمِهِ بذاتِهِ وصفاتِهِ وأسمائِهِ، كما قال: (وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا) . وفي حديثِ ابنِ مسعودٍ - في ذكرِ أسمائِهِ -: "أو استأثرتَ به في علم الغيْبِ عندك ". وإنَّما ذُكرَتْ هذه الخمسُ لحاجةِ الناسِ إلى معرفةِ اختصاصِ اللَّهِ بعلمِها. والعلم بمجموعِها مما اختصَّ اللَّهُ بعلمِهِ، وكذلكَ العلمُ القاطعُ بكلِّ فردٍ فردٍ من أفرادِها. وأمَّا الاطّلاع على شيءٍ يسيرٍ من أفرادِها بطريقٍ غيرِ قاطع، بل يحتملُ الخطأ والإصابةَ هو غيرُ منفيٍّ، لأنه لا يدخلُ في العلم الذي اختصَّ اللَّهُ به. ونفاهُ عن غير. وتقدَّمَ - أيضًا - أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أوتيَ علمَ كلِّ شيءٍ، إلا هذه الخمسَ. فأمَّا إطْلاع اللَّهِ سبحانه له على شيءٍ من أفْرادِها، فإنه غيرُ منفي - أيضًا -

وهو داخلٌ في قولِهِ تعالى: (عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ) الآية. ولكنَّ علمَ الساعةِ مما اختصَّ اللَّهُ به، ولم يطلعْ عليه غيرَه، كما تقدَّمَ في حديثِ سؤالِ جبريلَ للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم -. وكذلك جملةُ العلم بما في غَد. وقد قالتْ جاريةٌ بحضرتِهِ - صلى الله عليه وسلم -: وفينا نبيٌّ يعلمُ في ما غَدِ، فنهاها النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - عن قولِ ذلك. وقد خرَّجه البخاريُّ في "النكاح ". وأما العلمُ بما في الأرحامِ، فينفردُ اللَّهُ تعالى بعلمِهِ، قبلَ أن يأمرَ ملكَ الأرحامِ بتخليقِه وكتابتِهِ، ثم بعد ذلك قد يُطلعُ اللَهُ عليه من يشاءُ من خلقِهِ، كما أطلَعَ عليه ملكَ الأرحامِ. فإن كان من الرسلِ فإنَه يطلعُ عليه علمًا يقينًا، وإن كان من غيرِهم مِنَ الصدِّيقينَ والصالحينَ، فقد يطلعُه اللَّهُ تعالى عليه ظاهرًا. كما روى الزهريُّ، عن عروةَ، عن عائشةَ، أنَّ أبا بكرٍ لما حضرتُه الوفاةُ قال لها - في كلامٍ ذكرَهُ -: إنما هو أخواكِ وأختاكِ. قالتْ: فقلتُ هذا أخواي، فمن أختاي؟ قال: ذو بطنٍ ابنةُ خارجة، فإني أظنُّها جارية. ورواه هشامٌ، عن أبيه، عن عائشة، أنها قالتْ له عند ذلك: إنما هي أسماءُ؟ فقالَ: وذاتُ بطنٍ بنتُ خارجةَ، أظنُّها جاريةً. ورواه هشامٌ، عن أبيه: قد أُلْقِيَ في رُوعِي أنَّها جاريةٌ، فاستوصي بها خيرًا، فولدتْ أمَ كُلثومٍ.

وأما علمُ النفس بما تكسبُه غدًا، وبأيِّ أرضِ تموتُ، ومتى يجيءُ المطرُ. فهذا على عمومه لا يعلَمُه إلا اللَّهُ. وأمَّا الاطلاع على بعضِ أفرادهِ، فإنْ كانَ بإطْلاع مِنَ اللَّهِ لبعضِ رسلِهِ. كان مخصوصًا من هذا العمومِ، كما أُطلِعَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - على كثيرٍ من الغيوبِ المستقبلةِ، وكان يخبرُ بها. فبعضُها يتعلقُ بكسبِهِ، مثلُ إخبارِه أنه يَقْتلُ أميَّةَ بنَ خلفٍ، وأخبر سعدُ ابنُ معاذ بذلك أميةَ بمكةَ، وقال أميَّةُ: واللهِ، ما يكذبُ محمدٌ. وأكثرُه لا يتعلقُ بكسبِهِ، مثلُ إخباره عن الصورِ المستقبلةِ في أمَّتِهِ وغيرِهِم. وهو كثير جدا. وقد أخبرَ بتبوكٍ، أنه "تهبُّ الليلةَ ريح شديدةٌ، فلا يقومَن أحدٌ"، وكان كذلك. والاطلاع على هبوبِ بعضِ الرياح نظيرُ الاطلاع على نزولِ بعضِ الأمطارِ في وقتٍ معينٍ. وكذلك إخبارُهُ - صلى الله عليه وسلم - ابنته فاطمةَ في مرضِهِ، أنه مقبوضٌ من مرضِهِ. وقد رُوي عنه - صلى الله عليه وسلم -، أنَّه قال: "ما بين قبرِي ومنبرى روضة من رياضِ الجنة". خرَّجه الإمامُ أحمد من حديثِ أبي سعيد الخدريِّ، والنسائيُّ حديثِ أمَ سلمةَ عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم -.

قوله تعالى: (الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون (82)

وهو دليلٌ على أنَّه علمَ موضعَ موتِهِ ودفنِهِ. وقد رُوي عنه، أنه قال: "لم يقبضْ بنبيٌّ إلا دُفنَ حيثُ يُقبضُ ". خرَّجه ابنُ ماجة وغيرُه. وأما إطلاع غيرِ الأنبياءِ على بعضِ أفرادِ ذلك فهو - كما تقدَّمَ - لا يحتاجُ إلى استثنائه؛ لأنه لا يكونُ علمًا يقينًا، بل ظنًا غالبًا، وبعضُه وهمٌ، وبعضُه حدسٌ وتخمينٌ، وكلُّ هذا ليس بعلم، فلا يحتاجُ إلى استثنائه مما انفردَ اللَّهُ سبحانه وتعالى بعلمِهِ، كما تقدَّمَ، واللَّهُ سبحانَهُ وتعالى أعلم. * * * قوله تعالى: (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (82) خرَّج البخاريُّ ومسلمٌ: من حديثِ: ابنِ مسعودٍ، قالَ: لمَّا نزلتْ: (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ) ، قال أصحابُ رسولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: أيُّنا لم يظلِمْ نفْسَهُ؟ فأنزلَ اللَّهُ: (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) . معنى هذا: أنَّ الظلم يختلفُ: فيه ظلمٌ ينقل عن الملةِ، كقوله تعالى: (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) . وقولِهِ تعالى: (وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ) ، فإن الظلمَ وضعُ الشيءِ في غيرِ موضعه، وأعظمُ ذلك أن يوضعَ المخلوقُ في مقامِ الخالقِ، ويجعلَ

شريكًا له في الربوبيةِ وفي الإلهيّة، سُبْحانه وتعالى عمَّا يشركونَ. وأكثرُ ما يردُ في القرآنِ وعيدُ الظالمينَ، يرادُ به الكفارُ، كقوله تعالى: (وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ) . وقوله: (وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِّن سَبِيلٍ) . ومثلُ هذا كثير. ويرادُ بالظلم ما لا ينقلُ عن الملةِ، كقولِهِ تعالى: (فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخيْرَاتِ) ، وقولِهِ: (وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) . وحديثُ ابنِ مسعودٍ هذا: صريحٌ في أنَّ المرادَ بقولِهِ تعالى: (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ) ، أن الظلمَ هو الشركُ. وجاء في بعضِ رواياته: زيادةٌ: قال: "إنَّما هو الشركُ!. وروى حمادُ بن سلمةَ، عن عليِّ بنِ زيدٍ، عن يوسفَ بنِ مهرانَ، عن ابنِ عباسٍ، أنَّ عمرَ بنَ الخطابِ كانَ إذا دخلَ بيتَه نشرَ المصحفَ فقرأَ، فدخل ذاتِ يومٍ فقرأ، فأتى على هذه الآيةِ: (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ) ، إلى آخر الآيةِ، فانتعلَ وأخذَ رداءَه، ثم أتى أُبيَّ بنَ كعبٍ. فقال: يا أبا المنذرِ، أتيتُ قبلُ على هذهِ الآيةِ: (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ) ، وقد تَرى أنَّا نظلِمُ ونفعلُ؟ فقال: يا أمير المؤمنينَ، إنَّ هذا ليسَ بذلكَ، يقولُ اللَّه تعالى: (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) ، إنَّما ذلك الشركُ. وخرَّجه محمدُ بنُ نصرٍ المروذيُّ.

وخرَّجه - أيضًا - من طريقِ حمادِ بنِ زيدٍ، عن عليِّ بنِ زيدٍ، عن سعيدِ ابنِ المسيّبِ، أنَّ عمرَ أتى على هذه الآيةِ - فذكره. وحمادُ بنُ سلمةَ، مقدَّم على حمادِ بن زيدٍ في علي بنِ زيدٍ خاصةً. وروى - أيضًا - بإسنادِهِ، عن سفيانَ، عن ابن جريج، عن عطاءٍ، قال: كفر دونَ كفرٍ، وظلم دونَ ظلم، وفسق دون فسقٍ. يعني: أن الفسقَ قد يكونُ ناقلاً عن الملةِ، كما قال في حقِّ إبليسَ: (فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ) ، وقال: (وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (20) . وقدْ لا يكونُ الفسقُ ناقِلاً عن الملة، كقولِهِ تعالى: (وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ وَإِن تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ) ، وقوله في الذين يرمونَ المحصناتِ: (وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) . وقوله: (فَلا رَفثَ وَلا فسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ) . وفسَّرتِ الصحابةُ الفسوقَ في الحجِّ بالمعاصِي كلّها، ومنهُم من خصَّها بما يُنهى عنه في الإحرامِ خاصةً. وكذلكَ الشركُ، منه ما ينقلُ عن الملةِ، واستعمالُهُ في ذلكَ كثير في الكتابِ والسُّنَّةِ، ومنه ما لا ينقلُ، كما جاء في الحديثِ: "من حلفَ بغيرِ اللهِ فقدْ أشرْكَ ". وفي الحديثِ: "الشركُ في هذه الأمَة أخفَى من دبيبِ النملِ "،

قوله تعالى: (قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم

وسمَّى الرِّياءَ شركًا. وتأوَّل ابنُ عباسٍ على ذلكَ قولَه تعالى: (وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ) ، قال: إنَّ أحدَهُم يشركُ حتَّى يشرك بكلبِهِ: لولا الكلبُ لسُرِقْنا الليلةَ. قال تعالى: (فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا (110) . وقد رُوي أنها نزلتْ في الرِّياء في العملِ. وقيل للحسنِ: يشركُ بالله؟ قال: لا، ولكن أشركَ بذلكَ العملِ عملاً يريدُ به اللَّهَ والناسَ، فذلك يُردُّ عليه. * * * قوله تعالى: (قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (151) وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (152) وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153) .

قوله تعالى: (من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها وهم لا يظلمون (160)

قال ابنُ الجوزيِّ في "المقتبسِ ": سمعتُ الوزير يقولُ: الآياتُ اللواتي في الأنعامِ: (قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكمْ) ، محكمات، وقد اتفقتْ عليها الشرائعُ، وإنما قالَ في الآيةِ الأولى: (لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) وفي الثانية: (لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرونَ) ، وفي الثالثة: (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) ؛ لأنَّ كلَّ آيةٍ يليقُ بها ذلكَ، فإنَّه قالَ في الأولى: (أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا) والعقلُ يشهدُ أنَّ الخالقَ لا شريكَ له، ويدعُو العقلُ إلى برِّ الوالدينِ، ونهى عن قتل الولدِ. وإتيانِ الفواحشِ؛ لأن الإنسانَ يغارُ من الفاحشةِ على ابنتِهِ وأختِهِ، فكذلكَ هو، ينبغي أنْ يجتنبَها، وكذلك قتلُ النفسِ، فلما لاقتْ هذه الأمورُ بالعقلِ. قالَ: (لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) ولما قالَ في الآيةِ الثانيةِ: (وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ) والمعنى: اذكُرْ لو هلكتَ فصارَ ولدُك يتيمًا، واذكُرْ عند ورثتِكَ، لو كنتَ الموروثَ لهُ، واذكُرْ كيفَ تحبُّ العدلَ لكَ في القولِ؛ فاعدِلْ في حقِّ غيرِكَ. وكما لا تؤثرُ أن يخانَ عهدُك فلا تخن، فلاقَ بهذهِ الأشياءٍ التذكرُ فقالَ: (لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) وقالَ في الثالثةِ: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمَا) . فلاقَ بذلكَ اتقاءُ الزللِ، فلذلك قال: (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) . * * * قوله تعالى: (مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (160) وقد دلَّ حديثُ أبي سعيدٍ وحديثُ أبي هريرةَ المذكورانِ على أنَّ مضاعفةَ حسناتِ المسلم بحسبِ حسنِ إسلامِهِ.

وخرَّج ابنُ أبي حازم، من روايةِ عطيةَ العوفيِّ، عن ابنِ عمر، قال: نزلتْ: (مَن جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا) ، في الأعراب، فقال له رجل: يا أبا عبدِ الرحمنِ، فما للمهاجرينَ؟ قال: ما هو أكثرُ، ثم تلا قولَه: (وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا) . ويشهدُ لهذا المعنى: ما ذكره اللَّهُ عزَّ وجل في حقِّ أزواج نبيَه - صلى الله عليه وسلم -، فقال: (يَا نِسَاءَ النَّبِي مَن يَأتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مبَيِّنَةٍ) إلى قوله: (وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا (31) يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ) . فدلَّ على أنَّ من عظُمَتْ منزلَتُه عندَ اللَّهِ، فإن عملَه يضاعفُ له أجرةُ. وقد تأولَ بعضُ السلفِ من بني هاشم دخولَ آلِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في هذا المعنى، لدخولِ أزواجِهِ، فكذلك من حَسُن إسلامُهُ بتحقيقِ إيمانِهِ وعملِهِ الصالح، فإنه يضاعفُ له أجرُ عملِهِ بحسبِ حسنِ إسلامه، وتحقيقِ إيمانه وتقواه. واللَّه أعلمُ. ًً ويشهدُ لذلك: أنَّ اللهَ ضاعفَ لهذه الأمة، لكونها خيرَ أمة أخرجتْ للناسِ أجرَها مرتينِ، قال اللَّهُ تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ) . وفي الحديثِ الصحيح: "إنَّ أهلَ التوراةِ عمِلُوا إلى نصفِ النهارِ على قيراط قيراط، وعملَ أهلُ الإنجيلِ إلى العصرِ على قيراط قيراط، وعمِلتُم أنتم من العصرِ إلى

غروبِ الشمسِ على قيراطينِ، فغضبتِ اليهودُ والنصارى، وقالوا: ما لنا أكثرُ عملاً وأقلُّ أجراً؟ فقال اللَهُ: هل ظلمتُكُمْ من أجورِكُم شيئا؟ قالوا: لا، قال: فذلك فضْلِي أوتيه من أشاءُ". وأمَّا من أحسنَ عملَه وأتقنَهُ وعمِلَهُ على الحضورِ والمراقبةِ، فلا ريبَ أنه يتضاعفُ بذلك أجرُه وثوابُهُ في هذا العملِ بخصوصِه على من عمِل ذلك العملَ بعينِه على وجهِ السهوِ والغفلةِ. ولهذا؛ رُوي في حديثِ عمَّارٍ المرفوع: "إن الرجل ينصرفُ من صلاِتهِ، وما كُتبَ له إلا نصفُها، إلا ثلثُها، إلا ربُعُها" حتى بلغَ العُشْر. فليس ثوابُ من كتبَ له عشرُ عمله كثواب من كتب له نصفُه، ولا ثوابُ من كُتبَ له نصفُ عمِلِهِ كثوابِ من كتبَ له عملُهُ كلُّه. واللَّهُ أعلم. * * *

سورة الأعراف

سُورَةُ الأعْرَاف قوله تعالى: (يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (31) قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (32) أما قوله تعالى: (خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كلِّ مَسْجِدٍ) ، فإنها نزلتْ بسببِ طوافِ المشركينَ بالبيتِ عُراةً، وقد صحَّ هذا عن ابنِ عباسٍ، وأجمعَ عليه المفسرونَ من السلفِ بعدَهُ. وقد ذكرَ اللَّهُ هذه الآيةَ عقِبَ ذكْر قصةَ آدمَ عليه السلامُ، وما جرَى له ولزوجِهِ مع الشيطانِ حتى أخْرجَهُما من الجنةِ، ونزع عنهما لباسهما حتى بدَتْ عوارتُهما، فقالَ تعالى: (يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (27) . ثم قالَ: (وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (28) . والمرادُ بالفاحشةِ هنا: نزع ثيابِهِم عند الطوافِ بالبيتِ، وطوافُهم عراةً كما

كان عادةَ أهلِ الجاهليةِ. ثم قالَ بعدَ ذلكَ: (يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ) . والمرادُ بذلكَ: أن يسترُوا عوراتِهِم عندَ المساجدِ، فدخلَ في ذلك الطوافُ والصلاةُ والاعتكافُ وغيرُ ذلك. وقال طائفة من العلماءِ: إنَّ الآيةَ تدلُّ على أخذِ الزينةِ عندَ المساجدِ. وذلك قدرٌ زائدٌ على سترِ العورةِ، وإنْ كان سترُ العورةِ داخلاً فيه وهو سببُ نزولِ الآياتِ، فإنَّ كشْفَ العورةِ فاحشة من الفواحشِ، وسترَها من الزينةِ، ولكنه يشملُ مع ذلكَ لبْسَ ما يُتَجَمَّل به ويُتزيَّن به عند مناجاةِ اللَّهِ وذكرِهِ ودعائِهِ والطوافِ ببيته، ولهذا قال تعالى عقِبَ ذلك: (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زينةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيبَاتِ مِنَ الرزقِ قلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الذُنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ) . وروى موسى بنُ عُقْبةَ، عن نافع، عن ابنِ عمرَ، عنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قالَ: "إذا صلى أحدُكُم فليَلبَسْ ثوبَيْه، فإنَّ اللَّهَ أحق من تُزُيِّنَ له ". خرَّجه الطبرانيُّ وغيرُه. وقد روى جماعةٌ هذا الحديثَ عن ابنِ عمرَ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أو عن عمرَ بالشك في ذلك. خرَّجه البزَّارُ وغيرُه. وخرَّجه أبو داود كذلك بالشكِّ، ولم يذكر فيه: "فإنَّ اللَهَ أحقُّ من تُزيِّنَ له".

وروي ذِكْرُ التزين من قولِ ابنِ عمرَ، فروي عن أيوبَ، عن نافعِ، قال: رآني ابنُ عمرَ أُصلي في ثوبٍ واحدٍ، قال: ألم أكْسُكَ ثوبين؟ قلتُ: نعمْ، قال: فلو أرسلتُك في حاجةِ كنتَ تذهب هكذا؟ قلتُ: لا، قال: فاللَّهُ أحقُّ أن تَزَيَّن له. أخرَّجَه الحاكمُ وغيرُه. والمحفوظُ في هذأ الحديثِ: روايةُ من رواه بالشكِّ في رفْعه - قاله الدارقطنيُّ. وممن أمر بالصلاةِ في ثوبينِ: عمرُ، وابنُ مسعودٍ، وقال ابنُ مسعودٍ: إذْ وسَّع الله فهو أزكى. واستدلَّ من قالَ: إنَّ المأمورَ به من الزينةِ أكثرُ من ستْرِ العورةِ التي يجب سترُها عن الأبصارِ، بأنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - نهى أنْ يصلِّي الرجلُ في ثوبٍ واحد ليس على عاتقهِ منه شيءٍ، وبأنَّ من صلَّى عاريًا خاليًا لا تصحّ صلاتُهُ، وبأنًّ المرأة الحرَّة لا تصحّ صلاتُها بدونِ خمارٍ، مع أنه يُباح لها وضعُ خمارِها عند محارمها، فدلَّ على أنَّ الواجبَ في الصلاة أمر زائد على سترِ العورة التي يجبُ سترُها عن النظرِ. * * *

واعلم، أنَّ الصلاةَ في الثوبِ الحسنِ غير مكروه، إلا أن يُخشى منه الالتهاءُ عن الصلاةِ أو حدوثُ الكِبْرِ، وقد كان لتميم الداريَ حُلَّةٌ اشتراها بألف درهم، يقومُ بها الليلَ، وقد كان النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أحيانا يلبس حُللاً من حُللِ اليمنِ، وبُرودًا حسنةً، ولم ينقلْ عنه أنه كانَ يتجنَّب الصلاةَ فيها، وإنَّما ترك هذه الخميصةَ لما وقع له من تلك النظرةِ إلى عَلَمِها، وقد قالَ اللُّهُ عزَّ وجلَّ: (خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِد) ، وسبق قول ابنِ عمرَ: اللَّهُ أحقُ أن يُتزيَّن له. وخرَّج أبو داودَ في "مراسيله " من حديثِ عبيدِ اللَهِ بنِ عبدِ اللَّهِ بنِ عتبةَ، قال: كانَ رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إذا قامَ إلى الصلاةِ - مما تعجبُهُ: الثيابُ النقيةُ والريحُ الطيبةُ. ولم يزلْ علماءُ السلفِ يلبسونَ الثيابَ الحسنةَ، ولا يعدونَ ذلك كِبرًا. وقد صحَّ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنه سُئلَ عن الرجلِ يحبُّ أن يكونَ ثوبه حسنًا ونعلُهُ حسنًا؟ فقال: "ليس ذلك من الكبرِ، إنَّ اللَّهَ جميل يحب الجمالَ ". وقال جريرُْ بنُ حازمٍ: رأيتُ على الحسنِ طَيْلَسَانًا كُرْدِيًّا حسنا، وخَمِيصَةً أصبهانيّة جيدة، ذاتَ أعلامٍ خُضر وحُمرٍ، أزرَّتها من إبْرِيسَمُ، وان يرتدي ببردٍ له يمانٍ أسودٍ مُصَلَّب، وبرد عدني وقباء من برد حَبِرَة، وعمامة سوداء. وقال حرب: سألت إسحاقَ عن الصلاة في المنديلِ، وأريتُه مِنديلاً له أعلام خُضْر وخُطُوط؟ فقال: جَائِزٌ. * * *

قوله تعالى: (لهم من جهنم مهاد ومن فوقهم غواش وكذلك نجزي الظالمين (41)

وفي "صحيح مسلم" عن ابنِ عباسٍ، قال: كانتِ المرأةُ تطوفُ بالبيتِ وهي عُريانةٌ، وتقولُ: اليومَ يبْدُو بعضُهُ أو كلُّه. . . فمَا بَدَا منهُ فَلا أحِلُّهُ قال: فنزلتِ: (يَا يَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كُل مَسْجِدٍ) . * * * قوله تعالى: (لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (41) قال اللَّهُ تعالى: (لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ) قال محمدُ بنُ كعبٍ والضحاكُ والسدِّيُّ وغيرُهم: المهادُ: الفراشُ، والغواشُ: اللحفُ. وقال الحسنُ في قولهِ تعالى: (وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا) قال: فِراشًا ومِهادًا. وقال قتادةُ: محبسًا حُصروا فيها. وروى مسكين عن حوشبٍ عن الحسنِ أنه كان إذا ذُكِرَ أهلُ النارِ قال في وصفِهم: قد حذيت لهم نعالٌ من نارٍ وسرابيلُ من قطرانٍ، وطعامُهُم من نارٍ، وشرابُهُم من نارٍ وفرشٌ من نارٍ ولُحُف من نارٍ ومساكنُ من نارٍ، في شرِّ دارٍ وأسوأ عذابٍ في الأجسادِ أكلاً أكلاً، وصهْرًا صهْرًا، وحطْمًا حطْمًا. وروى داودُ بنُ المحبرِ عن الحسنِ بنِ واصلٍ، وعبدِ الواحدِ بنِ زيدٍ عن

الحسنِ، قال: إنَّ رجلاً من صدرِ هذهِ الأمةِ كانَ إذا دخلَ المقابرَ نادَى: يا أهلَ القبورِ بعد الرفاهيةِ والنعيم معالجة الأغلالِ في النارِ، وبعد القطنِ والكتانِ لباسُ القطرانِ، ومقطعات للنيرانِ، وبعدَ تلطفِ الخدمِ والحشم، ومعانقة الأزواج، مقارنةُ الشيطانِ في نارِ جهنَم مقرنين في الأصفادِ. وروى ابنُ أبي الدنيا بإسنادِهِ عن وهبِ بنِ منبهٍ، قال: أما أهلُ النارِ الذينَ هم أهلُها فهم في النارِ لا يهدؤون ولا ينامونَ ولا يموتونَ، ويمشونَ على النارِ، ويجلسونَ على النارِ، ويشربونَ من صديدِ أهلِ النارِ، ويأكلونَ من زقومِ النارِ، فرشُهم ولحفهم نار، وقمصُهُم نار وقطران، وتغشى وجوهَهُمُ النارُ، وجميعُ أهلِ النارِ في سلاسلَ بأيدي الخزنةِ أطرافُها يجذبونَ مقبلينَ ومدبرينَ، فيسيلُ صديدُهم إلى حفرٍ في النارِ، فذلكَ شرابُهُم، قالَ: ثم بَكَى وهب حتى سقطَ مغشيًا عليهِ. وغلبَ بكرُ بنُ خنيسٍ عندَ روايتِهِ هذا الحديثِ البكاءُ حتى قامَ فلم يقدرْ أن يتكلمَ، وبكى محمدُ بنُ جعفرٍ بكاءًا شديدًا. وبإسنادِهِ عن هدابٍ، قال: أقبلتْ أمُّ يحيى بن زكريا على يحيى في ثوبٍ تعالجه لَهُ ليلبسه، فقال لها: أفعل، فقالتْ: من أيِّ شيءٍ؟ قالَ من شعرٍ. قالتْ: يا بنيَّ إذًا يأكلُ لحمَكَ، قال: يا أمَّه، إذا ذكرتُ مقطعاتِ أهلِ النارِ لانَ عليَّ جِلْدي. وكان عطاء الخراسانيُّ ينادِي أصحابهُ في السفرِ: يا فلانُ ويا فلانُ قيامُ هذا الليلِ وصيامُ هذا النهارِ أيسرُ من شراب الصديد ومقطعات الحديد ألواحًا ثم ألواحًا ثم ألواحًا، ثم يقبلُ على صلاتِهِ. * * *

قوله تعالى: (ونادى أصحاب الجنة أصحاب النار أن قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا قالوا نعم فأذن مؤذن بينهم أن لعنة الله على الظالمين (44

قوله تعالى: (وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (44) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كَافِرُونَ (45) وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ (46) وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ قَالُوا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (47) وَنَادَى أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ رِجَالًا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُوا مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ (48) أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لَا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (49) وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ (50) وقال سفيانُ بنُ عيينةَ عن عثمانَ الثقفيِّ عن سعيدِ بنِ جبيرٍ، عن ابنِ عباسٍ في هذهِ الآيةِ، قالَ: ينادِى الرجلُ أخاه إني قد احترقتُ فأفض عليَّ من الماءِ، فيقال: أجبْهُ، فيقول: (إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ) . وقال سنيد في "تفسيرِهِ ": حدثنا حجاجُ عن أبي بكر بنِ عبدِ اللَّهِ، قال: ينادُون أهلَ النارِ: يا أهلَ الجنةِ فلا يُجِيبونَهُم ما شاءَ اللَّه ثم يقالُ: أجيبوهم وقد قطعَ الرحمُ والرحمةُ، فيقولُ أهلُ الجنةِ: يا أهلَ النارِ عليكم لعنة اللَّهِ، يا أهلَ النارِ عليكُم غضبُ اللَّهِ، يا أهلَ النارِ لا لبَّيكُم ولا سعديكُم، ماذا تقولون؟ فيقولونَ: ألم نكنْ في الدنيا آباؤكم وأبناؤكم وإخوانُكم وعشيرتُكم؟ فيقولونَ: بلى، فيقولون: (أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ) .

قال اللَّهُ عزَّ وجلَّ: (فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (50) قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ (51) يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ (52) الآيات قال خليدٌ المصريُّ في قولِهِ تعالى: (فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ (55"، قالَ: في وسطِهَا ورأى جماجمَ تغْلِي فقال: فلانٌ؛ واللَّه لولا أنَّ اللَّهَ عزَّ وجلَّ عرفَهُ إيَّاهُ لما عرفَهُ لقد تغير حبره وسبره فعندَ ذلك يقولُْ (تَاللهِ إِن كِدتَّ لَتُرْدِينِ) ، وقال تعالى: (كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38) إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ (39) فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ (40) عَنِ الْمُجْرِمِينَ (41) مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) ، الآيات. روى أبو الزعراء عن ابنِ مسعودٍ أنه لا يتركُ في النارِ غير هؤلاءِ الأربعةِ قال: وليسَ فيهم من خيرٍ. وفي حديثِ مسكينِ أبي فاطمة عن اليمان بنِ يزيدَ، عن محمدِ بنِ حميرٍ. عن محمدِ بنِ علي، عن أبيه، عن جده عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في خروج أهلِ التوحيدِ من النارِ، قالَ: "ثم يقولُ اللَهُ لأهلِ الجنةِ: اطلعوا إلى من بقيَ في النارِ، فيطلعونَ إليهم فيقولون: (مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) . أي: إنَّا لم نكن منهم لو كنا لخرجْنَا معهم "، خرَّجه الإسماعيليُّ وغيرُهُ، وهو منكر كما سبقَ ذكرُهُ. قال الإمامُ أحمدُ: حدثنا علي بنُ حفصٍ، حدثنا الثوريُّ، عن أبي خالدٍ. عن الشعبيِّ، قال: يشرفُ قوم في الجنة على قومٍ في النارِ فيقولونَ: ما لكم في النارِ، وإنَّما كنا نعملُ بما كنتم تعلًّمون؟ فيقولونَ: إنا كُنَّا نعلِّمُكم ولا نعملُ به.

وقال سعيدُ بنُ بشيرٍ، عن قتادةَ: إن في الجنةِ كوى إلى النارِ فيطلعُ أهلُ الجنةِ من تلكَ الكُوى إلى النارِ، فيقولونَ: ما بالُ الأشقياءِ، وإنما دخلنا الجنةَ بفضلِ تأديبِكُم؛ فقالُوا: إنا كنَّا نأمرُكُم ولا نأتمرُ، وننهاكُم ولا ننتَهِي. وقال معمرٌ عن قتادةَ: قالَ كعبٌ: إنَّ بينَ أهلِ النارِ وأهلِ الجنةِ كُوى لا يشاءُ رجلٌ من أهلِ الجنةِ أن ينظرَ إلى عدوّه من أهلِ النارِ إلا فَعَلَ. وقال أحمدُ بنُ أبي الحواري: حدثنا عبدُ اللَّهِ بن غياث عن الفزاريِّ، قالَ: لكلِّ مؤمنٍ في الجنةِ أربعةُ أبوابٍ باب يدخلُ عليه زوَّارر من الملائكةِ، وبابٌ يدخلُ عليه أزواجُهُ من الحورِ العين، وباب مقفل فيما بينه وبينَ أهلِ النارِ يفتحُهُ إذا شاءَ أن ينظر إليهم لتعظم النِّعمةُ عليه، وباب فيما بينه وبين دارِ السلامِ يدخلُ فيه على ربِّه إذا شاء. وخرَّج ابنُ أبي حاتم بإسنادِهِ عن الضحاكِ في قولِهِ تعالى: (فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (34) عَلَى الأَرَائِكِ) من الدر والياقوتِ (يَنظُرُون) ، يعني: على السررِ ينظرونَ، كان ابنُ عباسٍ يقولُ: السررُ بين الجنةِ والنارِ، فيفتحُ أهلُ الجنةِ الأبوابَ فينظرونَ على السررِ إلى أهلِ النارِ كيفَ يعذبونَ ويضحكونَ منهم، ويكون ذلك مما يقر اللَّهُ به أعينَهُم أن ينظروا إلى عدوِّهم كيفَ ينتقمُ اللَهُ منهُ. وخرَّج البيهقيُّ وغيرُه من حديثِ عليِّ بنِ أبي سارةَ عن ثابتٍ، عن أنسٍ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: "أن رجلاً من أهل الجنةِ يشرفُ يومَ القيامةِ على أهلِ النارِ، فيناديه رجلٌ من أهلِ النارِ: يا فلانُ هل تعرفُني؛ فيقولُ: لا، واللهِ لا أعرفُك من أنتَ؟ فيقولُ: أنا الذي مررتَ بي في دارِ الدنيا فاستسقيتني شربةَ ماء فأسقيتُك، قال: قد عرفتُ،

قوله تعالى: (قد افترينا على الله كذبا إن عدنا في ملتكم بعد إذ نجانا الله منها)

فَاشْفَعْ لي بها عندَ ربِّك، قال: فيسأل اللَّهَ - عزَّ وجلَّ -، فيقولُ: يا ربِّ شفَعْني فيه، فيؤمرُ به فيخرجُ من النارِ". * * * قوله تعالى: (قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا) قالَ شعيبٌ - عليه السلامُ -: (قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا) . وقال تعالى: (وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا) . وقال تعالى: (اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ) . والمرادُ: أنه ينجيهم من الشركِ، ويدخلُهم في الإيمانِ، وكثيرٌ منهم لم يكن داخلاً في الشركِ قطُّ. * * * قوله تعالى: (وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً) قالَ ليثٌ عنْ مُجاهدٍ في قولهِ تعالى: (وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً) ، قال ذو القَعْدَة (وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ) . قال: عشْرُ ذي الحجَّةِ. * * *

سورة الأنفال

سُورَةُ الأنْفَالِ قوله تعالى: (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24) وسمع عُمرُ رجلاً يقولُ: اللَّهُمَّ إنك تحولُ بين المرءِ وقلبِهِ، فحُل بيني وبينَ معاصيك. فأعجبَ عُمرَ ودعا له بخيرٍ. وروى ابنُ عباسٍ - رضي الله عنهما -، في قوله تعالى: (يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ) ، قال: يحول بين المؤمن وبين المعصيةِ التي تجرُّهُ إلى النارِ. * * * قوله تعالى: (وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (35) استماعُ الغناءِ بآلاتِ اللهوِ أو بدونِها على وجهِ التقرُّبِ إلى اللَهِ تعالى. وتحريكُ القلوبِ إلى محبتِهِ، والأُنسُ به والشَّوقُ إلى لقائِهِ، وهذا هو الَّذي يدَّعِيه كثيرٌ من أهلِ السلوكِ، ومَن يتشبَّهُ بهم، ممن ليسَ منهُم، وإنما يتسترُ بهم، ويتوصَّلُ بذلك إلى بُلوغ غرضِ نفسِهِ، من نيلِ لذَّتِهِ. فهذا المتشبِّه بهم مخادِعٌ مُلَبِّسٌ. وفسادُ حالِهِ أظهرُ من أنْ يخفى على أحدٍ. وأمَّا الصادقونَ في دعواهُم ذلك وقليلٌ ما هم، فإنَّه ملبوسٌ عليهم؛ حيثُ تقرّبوا إلى اللَّهِ عزَّ وجلَّ، بما لم يشرعْهُ اللَّهُ تعالى،

واتخذُوا دِينًا لم يأذن اللَّهُ فيه. فلهُم نصيب ممن قالَ اللَّهُ تعالى فيه: (وَمَا كَانَ صَلاتُهُمْ عِندَ الْبَيتِ إِلاَّ مُكَاءً وَتَصْدِيَةً) ، والمُكاءُ: الصَّفيرُ، والتَصْديةُ: التصفيق باليدِ. كذلك قالهُ عْيرُ واحدٍ من السلفِ. وقال تعالى: (أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ) . فإنه إنما يتقرَّبُ إلى اللَّهِ عزَّ وجلَّ، بما يُشرعُ التقربُ به إليه على لسانِ رسولِهِ - صلى الله عليه وسلم -. فأمَّا ما نهى عنه، فالتقربُ به إليهِ مُضادَّةٌ للَّهِ عزَّ وجلَّ في أمره. قال القاضي أبو الطيِّبِ الطبريُّ رحمه اللَّهُ في كتابِهِ في السماع: اعتقادُ هذه الطائفةِ، مخالف لإجماع المسلمينَ، فإنه ليسَ فيهم منْ جعل السماعَ دِينًا وطاعةً، ولا رأى إعلانَهُ في المساجدِ والجوامع، وحيثُ كانَ من البقاع الشريفةِ، والمشاهدِ الكريمةِ. وكان مذهبُ هذه الطائفةِ، مخالفًا لما اجتمعتْ عليه العُلماءُ، ونعوذُ باللَّهِ من سوءِ التوفيقِ. انتهى ما ذكره. ولا ريب أن التقربَ إلى اللَّهِ تعالى بسماع الغناءِ المُلَحَّنِ، لا سيَّما مع آلاتِ اللهوِ، مما يُعْلمُ بالضرورةِ من دِينِ الإسلامِ، بلْ ومنْ سائرِ شرائع المسلمينَ. أنه ليسَ مما يُتقرَّبُ به إلى اللَّهِ، ولا مما تُزكَّى به النفوسُ وتُطهَّرُ به. فإنَّ اللَّهَ تعالى شرعً على ألْسِنَةِ الرسلِ كل ما تَزْكُو به النفوسُ، وتطهُرُ به من أدناسها، وأوضارِها، ولم يشرعْ على لسانِ أحد من الرسلِ، في ملَّةٍ من المللِ، شيئًا من ذلك. وإنما يأمرُ بتزكيةِ النفوسِ بذلكَ، من لا يتقيدُ بمتابعةِ

الرُّسُلِ: من أتباع الفلاسفةِ. كما يأمرونَ بعشقِ الصورِ، وذلك كلُه ما تحيا به النفوسُ بالسُّوءِ، ولما لها فيه من الحظِّ، ويَقْوى به الهوَى، وتموت به القلوبُ المتصلةُ بعلاَّمِ الغيوبِ، وتَبْعُدُ به عنه. فَغَلِطَ هؤلاءِ واشتبَهَ عليهِم حظوظُ النفوسِ وشهواتُها بأقواتِ القلوبِ الطاهرةِ والأرواح الزكيةِ المعلَّقةِ بالمحلِّ الأعْلَى، واشتبَهَ الأمر في ذلكَ أيْضًا على طوائفَ من المسلمينَ ممَّن ينتسبُ إلى السلوكِ. * * *

سورة التوبة

سُورَةُ التَّوْبَة قوله تعالى: (مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ (17) إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (18) عمارةُ المساجدِ تكونُ بمعنيين: أحدُهما: عمارتُها الحسِّيَّة ببنائِها وإصلاحِها وترميمِها، وما أشْبَه ذلك. والثاني: عمارتُها المعنويّة بالصلاةِ فيها، وذكْرِ اللَّهِ وتلاوةِ كتابِهِ، ونشرِ العلم الذي أنزلَهُ على رسولِهِ، ونحو ذلك. وقد فُسِّرت الآيةُ بكلِّ واحدٍ من المعنيين، وفُسِّرتْ بهما جميعاً، والمعنى الثاني أخصُّ بها. وقد خرَّج الإمامُ أحمدُ والترمذيُّ وابنُ ماجةَ من حديث درَّاج، عن أبي الهيثم، عن أبي سعيدٍ، عنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: "إذا رأيتم الرجلَ يعتاد المسجدَ فاشهدُوا له بالإيمان "، ثم تلا: (إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) الآية. ولكنْ قال الإمامُ أحمدُ: هو منكرٌ.

وقوله: (مَا كانَ لِلْمُشْرِكينَ أَن يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللهِ) ، وقُرِئ: "مسْجدَ اللهِ ". فَقيل: إنَّ المرادَ به جميعُ المساجد على كِلا القراءتينِ، فإنَّ المفردَ المضافَ يعمُّ، كقوله: (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ) . وقيلَ: المرادُ بالمسجدِ المسجدُ الحرامُ خاصة، كما قال: (وَمَا كانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلاَّ الْمُتَقُونَ) . وقيلَ: إنه المرادُ بالمساجدِ على القراءةِ الأخرى، وأنه جَمَعَه لتعددِ بِقَاع المناسكِ هناك، وكلُّ واحد منها في معنى مسجد. رُوي ذلك عن عكرمة. واللَّهُ أعلمُ. فمَنْ قالَ: إنَّ المرادَ به المسجدُ الحرامُ خاصَّة، قال: لا يُمكَّن الكفارُ من دخولِ الحرمِ كله، بدليل قوله تعالى: (إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا) . وجمهورُ أهلِ العلم على أنَّ الكفارَ يُمْنَعُون من سُكْنى الحرم، ودخولِهِ بالكليّة، وعمارته بالطواف وغيرِه، كما أمرَ النبي - صلى الله عليه وسلم - منْ يُنادي: "لا يحج بعد العام مشركٌ ". ً ورَخَّصَ أبو حنيفة لهم في دخولِهِ دونَ الإقامةِ به. ومنْ قال: المرادُ جميعُ المساجدِ، فاختلفُوا: فمنهم: مَنْ قال: لا يُمكنُ الكفارُ من قُربان مسجد من المساجد، ودخوله بالكليّة.

ومنهم: من رَخَّص لهم في دخولِ مساجدِ الحِلِّ في الجملةِ. ومنهم: من فرَّق بين أهلِ الكتابِ والمشركينَ، فرَخَّصَ فيه لأهلِ الكتابِ دونَ المشركينَ. وقد أفردَ البخاريُ بابًا لدخولِ المشركِ المسجدَ، ويأتي الكلام على هذه المسألة هناك مستوفى - إنْ شاء اللَّه تعالى. واتفقُوا على مَنْع الكفارِ منْ إظْهَارِ دِينِهِم في مساجدِ المسلمين، لا نعلم في ذلك خلافًا. وهذا مما يدلُّ على اتفاقِ الناسِ على أنَّ العمارةَ المعنوية مرادةٌ من الآيةِ. واختلفُوا في تمكينِهم من عمارةِ المساجدِ بالبُنْيانِ والترميم ونحوه على قولين: أحدهما: المنع منْ ذلك، لدخولِه في العمارةِ المذكورةِ في الآيةِ، ذكرَ ذلك كثيرٌ من المفسرينَ كالواحدي وأبي الفرج ابنِ الجوزيِّ، وكلام القاضي أبي يعْلى في كتابِ "أحكام القرآنِ " يوافقُ ذلك وكذلك كِيَا الهراسي - من الشافعيةِ -، وذكره البغويُّ منهم احتمالاً. والثاني: يجوزُ ذلك، ولا يُمنعونَ منه، وصرَّح به طائفةٌ من فقهاءِ أصحابِنا والبغويّ من الشافعية وغيرهم. وهؤلاءِ، منهم مَنْ حملَ العمارةَ على العمارةِ المعنويةِ خاصة، ومنهم منْ قالَ: الآية ُ إنما أُريد بها المسجد الحرامُ، والكفارُ ممنوعونَ من دخولِ الحرمِ على كل وَجْهٍ، بخلاف بقيةِ المساجدِ، وهذا جوابُ ابنِ عقيل من أصحابِنا. وقد رُوي عن عُمَرَ بن عبدِ العزيزِ، أنه استعملَ طائفةً من النصارى في

عمارةِ مسجدِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - لما عمَّره في خلافةِ الوليدِ بنِ عبدِ المَلكِ. ويتوجه قولٌ ثالثٌ، وهو: أنَّ الكافرَ إن بنى مسجدًا للمسلمينَ من مَالِهِ لم يمكَّن من ذلكَ. ولو لم يُبَاشِره بنفسه، وإنْ باشَرَ بناءه بنفسِهِ باستئجارِ المسلمينَ له جازَ، فإن في قبولِ المسلمينَ منَّةَ الكفارِ ذُلًّا للمسلمينَ، بخلافِ استئجارِ الكفار للعملِ للمسلمينَ، فإن فيه ذُلًّا للكفارِ. وقد اختلفَ الناسُ في هذا - أيضًا - على قولينِ: أحدُهما: أنه لو وصَّى الكافرُ بمالٍ للمسجدِ أو بمالٍ يعمر به مسجد أو يُوقَدُ به، فإنه تُقْبَلُ وصيّتُه، وصرَّح به القاضي أبو يعلى في "تعليقه " في مسألةِ الوقيد، وكلامُه يدلُّ على أنه محلُ وفاقٍ، وليس كذلك. والثاني: المنعُ من ذلك، وأنه لا تُقبلُ الوصيةُ بذلكَ، وصرَّح به الواحديُّ في "تفسيره" وذكره ابنُ مزين في كتابِ "سيرِ الفقهاءِ" عن يحيى بن يحيى. قال: سمعتُ مالكًا، وسُئلَ عن نصراني أوْصَى بمالٍ تُكْسى به الكعبةُ؛ فأنكر ذلكَ، وقال: الكعبةُ منزهةٌ عن ذلكَ. وكذلك المساجدُ لا تجري عليها وصايَا أهل الكفرِ. وكذلك قال محمدُ بنُ عبدِ اللَّهِ الأنصاري قاضي البصرةِ: لا يصحُّ وقفُ النصرانيِّ على المسلمينَ عُمومًا، بخلافِ المسلم المعينِ، والمساجدُ من الوَقْفِ على عمومِ المسلمين: ذكرَه حرْبٌ، عنه بإسنادِهِ. وقال عبدُ اللَّهِ بنُ أحمد: سألتُ أبي عن المرأةِ الفقيرةِ تجيءُ إلى اليهوديِّ أو النصرانيِّ فتصدق منه؟ قال: أخْشى أنَّ ذلك ذِلَّة.

قال الله تعالى: (أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله لا يستوون عند الله والله لا يهدي القوم الظالمين (19)

وقال مُهنَّا: قلتُ لأحمدَ: يأخذُ المسلمُ من النصرانيِّ من صدقتِهِ شيئًا. قال: نعم، إذا كان مُحتاجًا. فقد يكونُ عن أحمدَ روايتان في كراهةِ أخذِ المسلم المعينِ من صدقةِ الذِّميِّ، وقد يكونُ كرِهَ السؤالَ، ورَخَّصَ في الأخذِ منه بغيرِ سؤالِ، واللَّهُ أعلمُ. وأمَّا وقْفُهم على عمومِ المسلمينَ كالمساجدِ، فيتوجهُ كراهتُه بكلِّ حالٍ، كما قالهُ الأنصاريّ. وقد ذكَرَ أهلُ السيرِ كالواقديِّ ومحمدِ بنِ سعدٍ أنَّ رجلاً من أحبار اليهودِ. يقال له: مُخيْريق، خرجَ يومَ أُحدٍ يقاتل مع النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وقال: إنْ أصبتُ في وجهي هذا فمالي لمحمدٍ يضعه حيثُ شاء، فقُتل يومئذ، فقبضَ رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أموالَه، فقيل: إنَّه فرَّقها وتصدَّق به، وقيل: إنَّه حبسها ووقفَها. وروى ابنُ سعدٍ ذلك بأسانيد متعددة، وفيها ضعف. واللَّه أعلم. * * * قال الله تعالى: (أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (19) الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (20) وفي "صحيح مسلم" عن النُّعمانِ بنِ بشيرٍ، قال: كنتُ عند مِنبَرِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -

قوله تعالى: (قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها

فقال رجلٌ: ما أبالِي أن لا أعملَ عملاً بعد الإسلامِ إلا أنْ أسقِيَ الحاجَّ. وقال آخرُ: ما أبالِي أنْ لا أعملَ عملاً بعد الإسلامِ، إلا أنَّ أعْمُرَ المسجدَ الحرامَ. وقالَ آخرُ: الجهاد في ممبيلِ اللهِ أفضلُ ممَّا قُلتم، فزجرَهُم عُمَرُ، وقال: لا ترفعُوا أصواتكم عندَ منبرِ رسولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وهو يوم الجمعةِ -، ولكن إذا صليتُ الجمعة دخلْتُ فاسْتفْتيتُهُ فيما اختلفتُم فيه، فأنزلَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ: (أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) ، إلى آخرِ الآيةِ. فهذا الحديثُ الذي فيه ذِكْرُ سببِ نُزولِ هذه الآيةِ يبيِّنُ أن المرادَ أفضلُ ما يُتقرَّبُ به إلى اللَّهِ تعالى من أعمالِ النوافلِ والتطوع. وأنَّ الآيةَ تدلُّ على أنَّ أفضلَ ذلكَ الجهادُ مع الإيمانِ. فدل على أنَّ التطوعُ بالجهادِ أفضلُ من التطوعُّ بعمارةِ المسجد الحرامِ وسقاية الحاجِّ. وعلى مثلِ هذا يحملُ حديثُ أبي هريرةَ - رضي الله عنه -. * * * قوله تعالى: (قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (24) خرَّجَ البخاريُّ ومسلم: من حديثِ: أبي هريرةَ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: "والذي نفسِي بيدِهِ، لا يُؤمنُ

أحدُكُم حتَّى كُونَ أحبَّ اليه منْ والدِهِ وولدِهِ ". وخرَّج البخاريُّ ومسلم - أيضًا: من حديث: أنسٍ، قال: قال رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: "لا يؤمنُ أحدُكُم حتَّى أكُونَ أحبَّ إليه من والدِهِ وولدِهِ والناسِ أجمعينَ ". محبةُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - من أصولِ الإيمانِ، وهي مقارِنة لمحبةِ اللَّه عز وجلَّ. وقد قرنها اللَّهُ بها وتوعَّد من قدَّم عليهما محبةَ شيءٍ من الأمورِ المحبوبةِ طبعًا، من الأقاربِ والأموالِ والأوطانِ وغير ذلك. فقال تعالى: (قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ) . ولما قال عمرُ للنبيّ - صلى الله عليه وسلم -: أنتَ أحبُّ إليَّ من كلِّ شيءٍ إلا من نفْسِي. فقال: "لا يا عُمَرُ حتَّى "أكُونَ أحبَّ إليك من نفسكَ "، فقال عمرُ: واللَّه، أنتَ الآنَ أحبُّ إليَّ من نفْسِي. قال: "الآن يا عُمَرُ" َ. فيجبُ تقديم محبةِ الرسولِ - صلى الله عليه وسلم - على النفوسِ والأولادِ والأقاربِ والأهلينَ والأموالِ والمساكنِ، وغيرِ ذلكَ مما يحبُّه الناسُ غايةَ المحبةِ. وإنما تتمُّ المحبةُ بالطَّاعةِ، كما قال تعالى: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ) . وسئلَ بعضُهم عن المحبةِ، فقالَ: الموافقةُ في جميع الأحوالِ.

فعلامةُ تقديمِ محبةِ الرسولِ على محبةِ كلِّ مخلوقٍ أنَّه إذا تعارضَ طاعةُ الرسولِ - صلى الله عليه وسلم - في أوامر، وداع آخر يدعو إلى غيْرِها من هذه الأشياء المحبوبة، فإنْ قدَّم المرءُ طاعةَ الرسول، وامتثالَ أوامر على ذلكَ الداعِي، كان دليلاً على صحَّةِ محبتِهِ للرسولِ، وتقديمِها على كلِّ شيءٍ، وإن قدَّم على طاعتِهِ وامتثالِ أوامر شيئًا من هذه الأشياءِ المحبوبةِ طبعًا، دلَّ ذلك على عدمِ إتيانِهِ بالإيمانِ التامِّ الواجبِ عليه. وكذلك القولُ في تعارضِ محبةِ اللَّهِ ومحبةِ داعِي الهوى والنفس، فإن محبةَ الرسولِ تبعٌ لمحبةِ مرسلِهِ عزَّ وجلَّ. هذا كلُّه في امتثال الواجباتِ، وتركِ المحرَّماتِ، فإن تعارضَ داعِي النفسِ. ومندوباتِ الشريعةِ، فإنْ بلغتِ المحبةُ إلى تقديمِ المندوباتِ على دواعِي النفسِ، كان ذلكَ علامةُ كمالِ الإيمانِ، وبلوغِهِ إلى درجةِ المقربينَ المحبوبين. المتقربينَ بالنوافلِ بعد الفرائضِ. وإنْ لم تبلغْ هذه المحبةُ هذه الدرجةِ، فهي درجةُ المقتصدينَ، أصحابِ اليمينِ، الذين كملتْ محبتُهم الواجبةُ، ولم يزيدوا عليها. * * * وأما محبةُ الرسولِ، فتنشأ عن معرفتِهِ ومعرفةِ كمالِهِ وأوصافِهِ وعظم ما جاءَ به، وينشأُ ذلكَ من معرفةِ مرسلِهِ وعظمتِهِ، كما سبقَ، فإنَّ محبةَ اللَّهِ لا تتمُّ إلا بطاعتِه، ولا سبيلَ إلى طاعتِهِ إلا بمتابعةِ رسولِهِ، كما قال تعالى: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ) .

ومحبةُ الرسولِ على درجتينِ - أيضًا: إحداهُما: فرضٌ، وهي ما اقتضى طاعتَه في امتثالِ ما أمرَ به من الواجباتِ. والانتهاءِ عمَّا نهى عنه من المحرَّماتِ، وتصديقِهِ فيما أخبرَ به من المخبراتِ. والرضا بذلك، وأن لا يجدَ في نفسِهِ حرجًا مما جاءَ بهِ، ويسلِّمَ له تسليمًا. وأن لا يتلقَّى الهُدى من غيرِ مشكاتِهِ، ولا يطلبُ شيئا من الخيرِ إلا ما جاء الدرجة الثانية: فضل مندوب إليه، وهي ما ارتقى بعدَ ذلكَ إلى اتَباع سنتِهِ وآدابِهِ وأخْلاقِهِ، والاقتداءِ به في هديه وسمتِهِ، وحسنِ معاشرتِهِ لأهلِهِ وإخوانِهِ، وفي التخلقِ بأخلاقِهِ الظاهرةِ في الزهد في الدنيا، والرغبةِ في الآخرةِ، وفي جُودِهِ وإيثاره وصفْحِهِ وحِلْمِهِ واحتمالِهِ وتواضعهِ. وفي أخلاقِهِ الباطنةِ، من كمالِ خشيتِهِ للَّهِ، ومحبتِهِ له، وشوقِهِ إلى لقائهِ. ورضاه بقضائِهِ، وتعلقِ قلبه به دائمًا، وصدقِ الالتجاءِ إليه، والتوكلِ والاعتمادِ عليه، وقطع تعلُّقِ القلبِ بالأسبابِ كلِّها، ودوامِ لَهَج القلبِ واللسانِ بذكره، والأنس به، والتنعم بالخَلْوةِ بمُناجاتِهِ ودعائِهِ، وتلاوةِ كتابِهِ بالتدبرِ والتفكرِ. وفي الجملةِ، فكان خلقه - صلى الله عليه وسلم - القرآنُ، يرضى لرضاه ويسخط لسخطه، فأكملُ الخلقِ من حقَّقَ متابعتَهُ وتصديقَه قولاً وعملاً وحالاً، وهم الصدِّيقونَ من أُمَّتِهِ، الذين رَأسُهم أبو بكرٍ خليفتُهُ من بعدِهِ. * * *

قال الله عز وجل: (قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (24) . قال أبو عبدِ اللَّهِ محمدُ بنُ خفيفٍ الصوفيُّ: سألنا أبو العباس أبن سريجِ بشيراز فقالَ لنا: "محبةُ اللَّهِ فرضٌ أمْ غيرُ فرضٍ؟ قلنا: فرضٌ قال: ما الدلالةُ على فرضِهَا؟ فما منا من أتى بشيءٍ يُقبلُ فرجَعْنا إليه وسألناه: ما الدليلُ على فرضِ محبةِ اللَّهِ عزَّ وجلَّ؟ فقالَ: قولُه تعالى: (قُلْ إِن كانَ آبَاؤُكمْ) إلى قوله: (أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ) ، قال: فتوعدَّهم اللَّهُ عزَّ وجلَّ على تفضيلِ محبتهِم لغيرِه على محبَّتِهِ ومحبةِ رسولِهِ، والوعيدُ لا يقعُ إلا فرضٍ لازم وحتم واجبٍ ". وفي "الصحيحينِ " عن أنس عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدُكُم حتَى أكُونَ أحبَّ إليهِ من والدِهِ وولدِهِ والناسِ أجمعينَ ". وفي "الصحيحينِ " أيضًا أنَّ عمرَ بنِ الخطابِ - رضي الله عنه - قال: يا رسولَ اللَّه، واللَّهِ لأنتَ أحبُّ إليَّ من كُلِّ شيءٍ إلا من نفسِي، فقال: "لا يا عمر، حتَّى أكُونَ أحبَّ إليْكَ من نفْسِك " فقال: واللَّهِ لأنتَ أحبُّ إليَّ من نفسِي. فقال: "الآن يا عُمَرُ". ومعلوم أنَّ محبةَ الرسولِ إنما هي تابعةٌ لمحبةِ اللَّه جل وعلا، فإنَّ الرسولَ إنما يُحَبُّ موافقةً لمحبةِ اللَّه له ولأمرِ اللَّهِ بمحبته وطاعته واتباعِهِ، فإذا كان

لا يحصلُ الإيمانُ إلا بتقديمِ محبتهِ على الأنفسِ والأولادِ والآباء والخلقِ كلِّهم. فما الظنُّ بمحبةِ اللَّهِ عزَّ وجلَّ، وذكرَ ابنُ إسحاقَ عن المغيرةِ بنِ عثمانَ بنِ الأخنسِ عن أبي سلمةَ بنِ عبدِ الرحمنِ أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - خطبَ لما قدمَ المدينةَ، فقالَ في خطبتهِ: "أحِبُّوا منْ أحَبَّ اللهَ وأحِبُّوا اللَّهَ من كلِّ قلوبِكُم ". وقد جعلَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - تقديمَ محبةِ اللَّهِ ورسولِهِ على محبَّةِ غيرِهما من خصالِ الإيمانِ ومن علاماتِ وجودِ حلاوةِ الإيمانِ في القلوبِ: ففي "الصحيحينِ " عن أنسٍ - رضي الله عنه - عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: " ثلاثٌ منْ كُنَّ فيه وجدَ بهنَّ حلاوةَ الإيمانِ: أن يكونَ اللَّهُ ورسولُهُ أحب إليْه مما سواهُما، وأنْ يحبَّ المرْءَ لا يحبُّهُ إلا للَّهِ، وأنْ يكْرَه أنْ يعودَ في الكفر بعدَ إذ أنقذَهُ اللَهُ منه، كما يكرهُ أن يُلقى في النارِ". وفي روايةِ النسائي: "ثلاث من كُن فيه وجدَ حلاوةَ الإيمانِ وطعْمَهْ أن يكونَ اللهُ ورسولُهُ أحبَّ إليه مما سواهُما، وأنْ يُحِبَّ في اللَّهِ ويبغِضَ في اللهِ، وأن تُوقَدَ نارٌ فيقعَ فيها أحب إليه من أنْ يُشْرِكَ باللَّهِ شيئًا". وفي "مسند الإمامِ أحمدَ" عن أبي رزين العقيلي قالَ: قلتُ يا رسولَ اللَّهِ، ما الإيمانُ؟ قال: "أن تشهدَ أن لا إله إلا اللَّهُ، وحده لا شريكَ له، وأنَّ محمدًا عبده ورسولُهُ، وأنْ يكونَ اللَّهُ ورسولُهُ أحبَّ إليْكَ ممَّا سواهُما، وأن تُحْرَقَ في النَّارِ أحبَّ إليكَ من أنْ تُشْرِكَ باللهِ، وأنْ تحِبَّ غيرَ ذي نَسَب لا تُحبُّهُ إلا للهِ، فإذا كُنتَ كذلك فقدْ دخلَ حبُّ الإيمانِ في قلبِكَ كما دخلَ حُبُّ الماءِ للظَّمآنِ في اليومِ القائِظِ ". وروي من حديثِ المقدادِ بنِ الأسودِ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من أحبَّ اللَهَ ورسولَهَ

صادقًا من قلبِهِ، ولقيَ المؤمنينَ فأحبَّهم، ومن كان أمرُ الجاهليةِ عندَهُ كنارٍ أُجِّجَتْ فأُلقيَ فيها فقد فقدْ طعِمَ طَعْمَ الإيمانِ " أو قال: "بلغ ذُرْوةَ الإيمانِ ". ومن هذا المعنى أن اللَّه تعالى قال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ) ، فأمرَ بامتحانِهنَّ ليعْلمَ إيمانَهنَّ، فكانَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يحلفهنَّ أنهنُّ ما خرجْنَ إلا حبًّا لله ورسولِهِ، لم يخرجْنَ رغبةً في غيرِ ذلكَ، فيكونُ ذلك عِلمًا بإيمانهنَّ. قال ابنُ عباسٍ في هذهِ الآيةِ: "كانتِ المرأةُ إذا أتْتِ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - لِتُسْلِمَ حَلَّفها بالله ما خَرَجْتِي منْ بُغْضِ زوْج إلا حبًّا للَّه ورسولهِ " وهو موجود في بعضِ نسخ الترمذي كذلك. وخرَّجه البزَّارُ في "مسندِهِ "، وابنُ جريرٍ وابنُ أبي حاتم، ولفظُه: "حلَّفها باللَّهِ ما خرجْتِي منْ بُغْضِ زوْج، وباللَّهِ ما خرجْتِي إلا حبًّا للَّه ورسولِهِ ". وخرَّج إبراهيم بنُ الجنيدِ الختليُّ في كتابِ "المحبةِ" بإسنادٍ ضعيفٍ عن أبي هريرةَ مرفوعًا قال: "الإيمانُ في قلبِ الرَّجُلِ أنْ يُحِبَّ اللَّه عزَّ وجلَّ "، ومن مراسيل الزهريِّ أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "رأسُ الإيمانِ المحبةُ لله عزَّ وجل، وطابِعُ الإيمانِ البِرُّ والعَدْلُ، وتحقيقُ الإيمانِ بإكرام ذي الدِّين وذي الشيْبَةِ".

ومحبةُ اللَّهِ سبحانه وتعالى على درجتينِ: إحداهُما: فرضٌ لازِم: وهي أنْ يحبَّ اللَّه سبحانَهُ محبةً توجب لَهُ، محبةَ ما فرضَهُ اللَّهُ عليه، وبغضَ ما حرَّمه عليه، ومحبةً لرسولِهِ المبلغ عنه أمرَهُ ونهيَهُ، وتقديمَ محبتِهِ على النفوسِ والأهلينَ أيضًا كما سبقَ، والرِّضا بما بلَّغَهُ عن اللَّهِ من الدّينِ وتلقِّي ذلك بالرضا والتسليم، ومحبةَ الأنبياءِ والرسل والمتبعينَ لهم بإحسانٍ جملةً وعمومًا للَّه عزَّ وجلَّ، وبغضَ الكفارِ الفجارِ جملةً وعمومًا للَّه عزَّ وجلَّ، وهذا القدرُ لابُدَّ منه في تمامِ الإيمان الواجبِ. ومن أخَلَّ بشيءٍ منه فقدْ نقَصَ من إيمانِهِ الواجبِ بحسبِ ذلك. قال اللَّهُ عزَّ وجلَّ: (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) ، وكذلك ينقُصُ من محبتِهِ الواجبةِ بحسبِ ما أخَلَّ به من ذلكَ، فإنَّ المحبةَ الواجبةَ تقتضِي فِعلَ الواجباتِ وتركَ المحرَّماتِ. وخرَّج أبو نُعيمٍ من حديثِ عمرَ بنِ الخطابِ - رضي الله عنه - قال: سمعتُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: "إنَّ سالمًا" - يعني موْلَى أبي حذيفةَ - "شَدِيدَ الحبِّ للَّه لوْ كان لا يخافُ اللَّهَ ما عصاهُ " يُشيرُ إلى أنَّ محبَّةَ اللَّه تمْنَعُهُ منْ أن يعصِيهُ، وذكرَ أبو عبيدٍ في "غريبِهِ " أنَّ عمرَ قال: "نعمَ العبدُ صهيبٍ لو لم يخَفِ اللَّهَ لم يعْصِهِ ". قال الحسنُ بنُ آدمَ: "أحبَّ اللَّهَ يحبَّك اللَّهُ، واعلمْ أنك لن تحبَّ اللَّه حتى تحبَّ طاعتَهَ ". وقال عبدُ اللَّهِ بنُ حنيفٍ: قال رجلٌ لرابعةَ: إني أحبُّك في الله، قالتْ:

"فلا تَعْصِي الذي أحببْتَنِي له ". وسئلَ ذو النونِ: متى أحبُّ ربي؟ قال: "إذا كان ما يبغِضُهُ عندك أمَرَّ من الصَّبر". وقال بشر بن السري: " ليس من أعلامِ الحبِّ أن تحبَّ ما يبغِضُ". وقال أبو يعقوب النهرجوري: "كلُّ من ادَّعى محبةَ اللَّهِ جلَّ جلالُهُ ولم يوافقِ اللَّهَ في أمره، فدعواهُ باطلةٌ، وكلُّ محبٍّ ليسَ يخافُ اللَّهَ فهو مغرورٌ". وقال يحيى بن معاذٍ: "ليس بصادقٍ من ادَّعى محبةَ اللَّهِ ولم يحفظْ حدودَه". وقال رويمٌ: "المحبةُ الموافقةُ في جميع الأحوالِ " وأنشد: ولو قُلتَ لي مِتْ مِتُّ سمعًا وطاعةً. . . وقلتُ لداعِي الحقِّ أهلاً ومرحبًا وقد تقدَّم أنَّ العبدَ لا يجدُ حلاوةَ الإيمانِ حتَّى يحبَّ المرءَ لا يحبه إلا للَّه. وحتى يكره أن يرجعَ إلى الكفرِ، كما يكرَهُ أن يُلقى في النَّارِ، ولهذا المعنى كان الحبُّ في اللَّهِ والبغضُ في اللَّهِ من أصولِ الإيمانِ. وخرَّج الترمذي من حديثِ معاذِ بنِ أنسٍ الجهنيِّ عنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "منْ أعْطى للَّه ومنَعَ للَّهِ، وأحبَّ للَّهِ، وأبْغَضَ للَّهِ، فقدْ استكْمَلَ إيمانَهُ "، وخرَّجه الإمامُ أحمد وزادَ فيه: "وأنكَحَ للَّهِ ". وفي لفظٍ له أيضًا أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - سُئِلَ عن

أفضلِ الإيمانِ قال: "أنْ تحبَّ للَّهِ وتبغِضَ للَّه وتعمَلَ لِسانَك في ذِكرِ اللَّه " وخرَّج أبو داود من حديثِ أبي أمامةَ عنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "منْ أحبَّ للَّه وأبغضَ للهِ، وأعْطَى للَّه، ومنَعَ للَّهِ، فقدْ استكْمَلَ الإيمانَ ". ومن حديثِ أبي ذَرٍّ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "أفضَلُ الإيمانِ الحُبُّ في الله، والبُغْضُ في اللَّهِ ". وخرَّج الإمامُ أحمد من حديثِ البراءِ بنِ عازبٍ عنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنَّ أوثقَ عُرى الإيمانِ أنْ تُحِبَّ في اللهِ وتبغضَ في اللَهِ "، ومن حديثِ عمرِو بنِ الجموح عنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يجِدُ العبْدُ حقَّ صرِيح الإيمانِ حتَّى يُحبَّ للَّهِ ويبْغِضَ للَّه، فإذا أحدث للهِ، وأبْغَضَ للَّهِ فقدْ استحقَّ الولايَةَ منَ اللَّه وإن أوْليائِي منْ عبادي وأحبَّائِي منْ خلقِي يُذْكَرُون بذِكرِي وأُذكرُ بذكرِهِم". وفي هذا المعنى أحاديثُ كثيرة. وروى ليثٌ عن مجاهدٍ عن ابنِ عباسٍ قال: "منْ أحبَّ في اللَّهِ وأبغَضَ في اللَّهِ ووالَى في اللَّهِ وعادَى في اللَّه. فإنَّما تنال ولايةُ اللَّهِ بذلك، ولن يجدَ عبد طعْمَ الإيمانِ وإنْ كثُرَتْ صلاتُهُ وصومُهُ حتى يكون كذلك، وقد صارَتْ عامَّةُ مُؤاخاةِ النَّاسِ على أمْرِ الدنيا وذلك لا يُجْدِي على أهلِهِ شيئًا". خرَّجه ابنُ جريرٍ الطبريُّ. وخرَّج أيضًا بإسنادِهِ عن ابنِ مسعودٍ، قال: "من أحب للهِ وأبغضَ للَّه وأعْطى للَّه ومنعَ للَّهِ؛ فقدْ توسَّطَ الإيمان ". وخرَّج الحاكم من حديثِ عائشةَ - رضي الله عنها - عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "الشرْكُ أخْفى من دبيبِ النَّملِ على الصَّفَا في الليْلَةِ الظَّلمَاءِ، وأدْناهُ أن

تحِبَّ على شيء من الجُورِ وتبغِضَ على شيء من العدْلِ، وهلِ الدِّينُ إلا الحبُّ في اللهِ والبُغْضُ في اللَّهِ " قال تعالى: (قُلْ إِن كُنتمْ تحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ) ، وقال: صحيحُ الإسنادِ وفيما قاله نظر. ففي هذا الحديثِ أنَّ محبةَ ما يبغضهُ اللَّه وبغضَ ما يحبُّه اللَّه من الشرْكِ الخفيِّ، وروينا من طريقِ الأصمعيِّ عن سفيانَ عن ليثٍ عن مجاهدٍ أنه قال في قوله تعالى: (يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكونَ بِي شَيْئًا) قال: "لا يحبُّون غيْرِي " وحينئذٍ فلا يكملُ التوحيدُ الواجبُ إلا بمحبةِ ما يحبُّه اللَّه وبغضِ ما يبغضه اللَّهُ، وكذلك لا يتمُّ الإيمانُ الواجبُ إلا بذلك. ومن هنا يُعلمُ أنَّ الإخلال ببعضِ الواجباتِ وارتكابِ بعضِ المحرَّماتِ ينقصُ به الإيمانُ الواجبُ بحسبِ ذلك، كما قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "لا يزنِي الزَّانِي حين يزنِي وهو مؤْمِنٌ " الحديث. وروى الإمامُ أحمدُ مِنْ طريقِ الربيع بنِ أنسٍ عن أبي العاليةَ عن أبيِّ بنِ كعبٍ، قال: "منْ أصبَحَ وأكْبرُ همَه غيرُ اللَّه فليسَ منَ اللَّهِ " وقد رُوي هذا مرفوعًا من حديثِ أنسٍ بأسانيدَ ضعيفةٍ. فهذه الدرجةُ من محبةِ اللَّهِ فرضٌ واجبٌ على كلِّ مسلم وهي درجةُ المقتصدينَ أصحابِ اليمينِ. الدرجة الثانية: درجةُ السابقينَ المقربين، وهي أن ترتقي المحبةُ إلى ما يحبُّه اللَّهُ من نوافلِ الطاعاتِ، وكراهةُ ما يكرهُه من دقائقِ المكروهاتِ، وإلى

الرِّضا بما يقدِّره ويقضِيه مما يؤلمُ النفوسَ من المصائبِ، وهذا فضلٌ مستحبٌّ مندوبٌ إليه. وفي "صحيح البخاريِّ " عن أبي هريرةَ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "يقولُ اللَّهُ عزَّ وجلَّ: منْ عَادَى لي وليًّا فقدْ آذنْتُهُ بالحربِ، ما تقرَّبَ إليَّ عبْدِي بشيءٍ أحبَّ إليَّ مما افْترضتُ عليه، ولا يزالُ عبدِي يتقرَّبُ إليَّ بالنوافلِ حتى أحبَّهُ، فإذا أحببْتُه كنْتُ سمْعَهُ الذي يسمعُ به، وبصرَه الذي يبصرُ به، ويدَه التي يبطشُ بها، ورِجْلَهُ التي يمشي بها، ولئن سألنِي لأعْطينَّهُ، ولئن استعاذنِي لأعيذته، وما تردَّدْتُ عن شيءٍ أنا فاعلُهُ تردّدِي عن قبْضِ نفْسِ عبدِي المؤمنِ يكْرَهُ الموْتَ وأنا اكرَهُ مُساءَتَهُ ". وقد روي هذا المعنى عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - من حديثِ عليِّ بنِ أبي طالبٍ - رضي الله عنه - وابنِ عباسٍ - رضي الله عنهما -، وأبي أمامةَ وعائشةَ - رضي الله عنها -، بأسانيدَ فيها نظرٌ. وذكر ابنُ أبي الدنيا بإسنادِهِ عن سُهيلٍ أخي حزمٍ قال: بلَغَنِي عن عامرِ بنِ عبدِ قيسٍ أنه كانَ يقول: "أحببتُ اللَّهَ عزَّ وجلَّ حبًا سهَّلَ علي كلَّ مصيبة ورضَّاني بكلٍ قضية، فما أُبالي مع حُبِّي إيَّاهُ ما أصبحتُ عليه وما أمسيتُ ". وقال إبراهيمُ بنُ الجنيدِ: حدثنا محمدُ بنُ الحسنِ حدثني عبيدُ اللَّهِ بنُ محمدٍ التميمي أن رجلاً قال لعابدٍ: أوصِنِي، أوعظْنِي، فقال: "أىُّ الأعمالِ أغلبُ على قلبِكَ؟ فقال الرجلُ: واللَّهِ ما أجدُ شيئًا أنفع للمحبِّ عند حبيبِهِ من المبالغةِ في محبَّتِهِ، وهلْ تَدْرِي ما ذلك؟ أن لا يعلمَ شيئًا فيه رضاهُ إلا أتاهُ. ولا يعلمُ شيئًا فيه سخطُهُ إلا اجتَنَبَهُ، فعند ذلك ينزل المحبونَ من اللَّهِ منازلَ المحبةِ، قال: فصرخَ العابدُ والسائلُ وسقطا".

وقد تبيَّنَ بما ذكرْنا أنَّ محبةَ اللَّهِ إذأ صدقتْ أوجبتْ محبةَ طاعتِهِ وامتثالَها. وبغضَهُ معصيتَهُ واجتنابَها، وقد يقعُ المحمث أحيانًا في تفريطٍ في بعضِ المأموراتِ وارتكابٍ لبعضِ المحظوراتِ، ثمَّ يرجعُ على نفسِهِ بالملامةِ، وينزعُ عن ذلكَ ويتداركُه بالتوبةِ. وفي "صحيح البخاريّ " أنَّ رجلاً كان يُؤتى به إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قد شربَ الخمرَ، فقال رجل: اللَّهُتمَ العَنْهُ، ما أكثرَ ما يؤتَى به، فقال رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: "لا تَلعَنْهُ؛ فإنَّه يحبُّ اللَّهَ ورسولَهُ ". وقد رُوي عن الشعبيِّ في قولِهِ عزَّ وجلَّ: (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَوَّابِينَ) قال: "التَّائِبُ من الذنبِ كمنْ لا ذنْبَ له، وإذا أحبَّ اللَّهُ عبدًا لم يضرَّه ذنْبُهُ ". وعن عبدِ الرحمنِ بنِ زيدِ بنِ أسلمَ قال: إنَّ اللَّه تعالى ليحبُّ العبدَ حتى يبلغَ من حبِّهِ إذا أحبَّهُ أن يقولَ له: "اذْهَبْ فاعْمَل ما شئْتَ فقدْ غفرْتُ لك ". والمرادُ من هذا أنَّ اللَّهَ تعالى إذا أحبَّ عبدًا وقدَّر عليه بعضَ الذنوبِ فإنَّه يُقدِّر له الخلاصَ منها بما يمحوها من توبةٍ أو عملٍ صالح أو مصائبَ مكفرةٍ. كما في الحديثِ عنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "أذنَبَ عبدٌ ذنبًا فقال: أيْ ربِّي عمِلتُ ذنبًا فاغْفِرْ لي " فذكر الحديث إلى أن قال: "فليَعْمَلْ ما شاءَ". والمرادُ ما دامَ على هذا، كلما عمِلَ ذنبًا اعترفَ به وندمَ عليه واستغفرَ منه، فأمَّا مع الإصرارِ عليه فلا، وكذلك المحبةُ الصادقةُ الصحيحةُ تمنعُ من الإصرارِ على الذنوبِ،

قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله إن شاء إن الله عليم حكيم (2

وعدمِ الاستحياءِ من علاَّمِ الغيوبِ. وما أحسنَ قولَ بعضِهِم: تعصي الإلهَ وأنتَ تزعُمُ حُبَّه. . . هذا لَعمري في القياسِ شنيعُ لو كان حُبُّكَ صادقًا لأطعتَهُ. . . إنَّ المحبَّ لمن يُحِبُّ مطيعُ * * * قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (28) [قالَ البخاريُّ] : "بابُ: دخولِ المشْرِكِ المسْجِدَ": حدثنا كَتيبةُ: ثنا الليثُ، عن سعيدِ بنِ أبي سعيدٍ، أنَّه سمعَ أبا هريرةَ يقولُ: بعثَ رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بخيْلٍ قِبَلَ نَجْدٍ، فجاءتْ برجُل من بني حنيفةَ، يُقالُ له؛ ثُمامَة بنُ أُثالٍ، فربطوه بسارية من سوارِي المسجدِ. قد سبقَ هذا الحديثُ بأتمَّ من هذا السياقِ في "بابِ: الأسير يُربطُ في المسجدِ"، وفيه: أنَّ ثمامةَ حين رُبط كان مشركًا، وأنه إنما أسلمَ بعد إطلاقهِ. وفي هذا دليل على جوازِ إدخالِ المشركِ إلى المسجدِ، لكن بإذنِ المسلمينَ. وقد أنزلَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - وفدَ ثقيفٍ في المسجدِ، ليكونَ أرقَّ لقلوبِهم. خرَّجه أبو داود من روايةِ الحسنِ، عن عثمانَ بنِ أبي العاصِ.

وروى وَكِيعٌ، عن سفيانَ، عن يونسَ، عن الحسنِ، قالَ: إنَّ وفدًا قدِمُوا على النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - منْ ثقيفٍ، فدخلُوا عليه المسجدَ، فقيلَ له: إنَّهم مُشْركون؟ قالَ: "الأرضُ لا ينجسها شيءٌ". وخرَّجه أبو داودَ في "المراسيلِ " من روايةِ أشْعَث، عن الحسن، أنَّ وفْدَ ثقيفٍ قدِمُوا على رسولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فضرَبَ لهم قُبَّةً في مُؤخَّرِ المسجدِ، لينظرُوا إلى صلاةِ المسلمينَ، إلى ركُوعِهِم، وسجودِهِم، فقيلَ: يا رسولَ اللَّهِ، أتنزِلُهُمُ المسجدَ وهم مُشرِكُون؟ قالَ: "إنَّ الأرضَ لا تنْجُسُ، إنَّما ينجُسُ ابنُ آدمَ ". وكذلك سائر وفودِ العربِ ونصارى نجرانِ، كلُّهم كانُوا يدخلونَ المسجدَ إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ويجلسونَ فيه عندَه. ولما قدِمَ مشركُو قريشٍ في فداءِ أُسارى بدرٍ كانوا يبيتون في المسجدِ وقد روى ذلك الشافعيُّ بإسنادٍ له. وقد خرَّج البخاريُّ حديثَ جبيرِ بنِ مُطْعِمٍ - وكان ممن قدِمَ في فداءِ الأسارى - أنه سمعَ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يقرأُ في المغربِ بـ: "الطُّورِ"؛ قالَ: وكان ذلك أولَ ما وقرَ الإيمانُ في قلبِي. وخرَّج البخاريُّ فيما سبقَ في "كتابِ: العلم " حديثَ دخول ضِمامِ بنِ ثعلبةَ المسجدَ، وعقلِهِ بعيرَهُ فيه، وسؤالِهِ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - عن الإسلامِ، ثم أسلْمَ عقبَ ذلكَ.

وروى أبو داود في "المراسيلِ " بإسنادِهِ عن الزهريِّ، قالَ: أخبرني سعيدُ ابنُ المسيَّبِ، أنَّ أبا سفيانَ كان يدْخُلُ المسجدَ بالمدينةِ وهو كافر، غيرَ أنَّ ذلك لا يصلُحُ في المسجدِ الحرامِ، لما قال اللَّهُ عزَّ وجلَّ: (إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا) . وقد اختلفَ أهلُ العلم في ذلكَ: فرَخَّصَ طائفةٌ منهم في دخولِ الكافرِ المسجد، وهو قولُ أبي حنيفةَ والشافعيِّ، وحُكيَ روايةً عن أحمدَ، رجَّحها طائفة من أصحابِنا. قال أصحابُ الشافعيِّ: وليسَ له أن يدخلَ المسجدَ إلا بإذنِ المسلمِ ووافقَهُم طائفة من أصحابِنا على ذلكَ. وقال بعضُهم: لا يجوزُ للمسلم أن يأذنَ فيه إلا لمصلحةٍ من سماع قرآنٍ. أو رجاء إسلامٍ، أو إصلاح شيءٍ ونحوِ ذلك، فأمَّا لمجردِ الأكلِ واللُّبْثِ والاستراحةِ فلا. ومن أصحابِنا: من أطلقَ الجوازَ، ولم يقيدْهُ بإذنِ المسلم. وهذا كلُّه في مساجدِ الحلِّ، فأمَّا المسجدُ الحرامُ فلا يجوزُ للمسلمينَ الإذنَ في دخولِهِ للكافرِ، بل لا يمكَّنُ الكافرُ من دخولِ الحرمِ بالكليَّة عند الشافعيِّ وأحمدَ وأصحابِهِما. واستدلُّوا بقولِ اللَّه تعالى: (إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا) ، وكانَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أمرَ منادِيًا يُنادِي: "لا يحُجُ بعْدَ العام مُشْرِك".

وأجازَه أبو حنيفةَ وأصحابُهُ. فأمَّا مسجدُ المدينةِ، فالمشهورُ عندنا وعند الشافعية أن حُكْمَهُ حكم مساجد الحِلِّ. ولأصحابِنا وَجْه: أنه مُلْحَقٌ بالمسجدِ الحرامِ؛ لأنَّ المدينةَ حَرَم، وحُكي عن ابنِ حامدٍ، وقاله القاضي أبو يعْلى في بعضِ كتبِهِ. وهذا بعيدٌ، فإنَّ الأحاديث الدالةُ على الجوازِ إنما وردت في مسجدِ المدينةِ بخصوصِهِ، فكيفَ يمنع منه ويخصُّ الجوازُ بغيره؟ وقالتْ طائفةٌ: لا يجوزُ تمكينُ الكافرِ من دخولِ المساجدِ بحالٍ، وهذا هو المرويُّ عن الصحابةِ، منهم: عمرُ، وعليٌّ، وأبو موسى الأشعريُّ، وعن عمرَ ابنِ عبدِ العزيزِ، وهو قولُ مالكٍ، والمنصوصُ عن أحمدَ، قال: لا يدخلونَ المسجدَ ولا ينبغي لهم أن يدخلُوهُم. واستدلُّوا بقولِ اللَّهِ تعالى: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَن يُذْكرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُوْلَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ) . وظاهرُهُ: يدلُّ على أنَّ الكفارَ لا يُمكنونَ من دخولِ المساجدِ، فإنْ دخلوا أُخيفُوا وعُوقِبوا، فيكونونَ في حالِ دخولِهِم خائفينَ من عقوبةِ المسلمينَ لَهُم. وقد رُوي عن عليٍّ، أنَه كان على المنبرِ فبَصُرَ بمجوسي، فنزل وضربَه وأخرَّجَه. خرَّجه الأثْرَمُ. وعلى هذا القولِ، فأحاديثُ الرخصةِ قد تُحمَلُ على أنَّ ذلك قبلَ النهي عنه، أو أنَّ ذلك كانَ جائزًا حيث كان يحتاجُ إلى تألفِ قلوبِهِم،

وقد زالَ ذلكَ. وفرَّقتْ طائفةٌ بين أهلِ الذِّمةِ وأهلِ الحربِ، فقالُوا: يجوزُ إدخالُ أهلِ الذِّمَّةِ دونَ أهلِ الحربِ، ورُوي عن جابرِ بنِ عبدِ اللَّهِ وقتادةَ. وروى عبدُ الرزاقِ، عن ابنِ جُريج: أخبرني أبو الزبير، أنه سمع جابرَ بنَ عبدِ اللَّه يقولُ في قولِه تعالى: (إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْربوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا) ، قال: إلا أن يكون عبْدًا أو أحدًا من أهلِ الذَّمَّة. وقَد رُويَ مرفوعًا من روايةِ شريكٍ: ثنا أشعثُ بن سوَّار، عن الحسن، عن جابرٍ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "لا يدخلْ مسجدَنا هذا مشركٌ بعدَّ عَامِنَا هذا، غَّيَر أهلِ الكتابِ وخدمِهِم ". خرَّجه الإمامُ أحمد. وفي روايةٍ له: "غيرَ أهلِ العهدِ وخدمِهِم ". وأشعثُ بنُ سوَّار، ضعيفُ الحديثِ. وقد خصَّ بعضُ أصحابِنا حكايةَ الخلافِ المحكي عن أحمدَ فى المسألة بأهلِ الذِّمَّةِ. * * *

قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إن كثيرا من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله

قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (34) يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ (35) وفي الحديثِ المشهورِ عن ثوبانَ أنَّه قال: لمَّا نزلتْ هذه الآية ُ: (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ) ، فقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "تبًّا للذهبِ والفضةِ". قالُوا: يا رسول اللَّهِ، فما نتخذُ؟ قال: "ليتخذْ أحدُكم قلبًا شاكرًا، ولسانِا ذاكرًا. وزوجة صالحةً تُعين أحدَكُم على إيمانِهِ ". قالَ بعضُهم: إئما سُمِّيَ الذهبُ ذهبًا، لأنه يذهبُ، وسمِّيت الفضةُ فضةً لأنها تنفضُّ، يعني تنفضُّ بسرعةٍ، فلا بقاءَ لهُمَا، فمن كنزَهُما فقد أرأدَ بقاءَ ما لا بقاءَ له، فإن نفعَهُما ما هو إلا بإنفاقهما في وجوهِ البِر وسبلِ الخيرِ. وقال الحسنُ: بئسَ الرفيقُ الدرهمُ والدينارُ؛ لا ينفعانِكَ حتَّى يفارقانِكَ. فما داما مكنوزينِ فما يضرانِ ولا ينفعانِ، وإنَّما نفعُهُما بإنفاقِهِما في الطاعاتِ، قال اللَّهُ تعالى: (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ) ، والآيةُ ذمٌّ ووعيدٌ لمنْ يمنعُ حقوقَ مالِهِ الواجبةِ من الزكاةِ وصلةِ الرَّحم وقِرى الضيفِ والإنفاقِ في النوائبِ. وفي "صحيح مسلم" عن أبي هريرةَ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال:

"ما من صَاحِبِ ذهبٍ ولا فضةٍ لا يؤدِّى مِنْها حقَّها إلا إذا كان يومُ القيامة صُفِّحت له صفائحُ من نارٍ فأحمي عليها في نارِ جهنَّم، فيكوى بها جنبُه وجبينُهُ وظهرُه، كلما برَدَتْ أعيدت له، في يومٍ كان مقدارُهُ خمسين ألف سنةٍ، حتى يقضى بين العبادِ، فيرى سبيلَهُ إمَّا إلى الجنةِ وإمَّا إلى النارِ". وفي "صحيح البخاريِّ " عن أبي هريرة عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "من آتاهُ اللهُ مالاً فلم يُؤدِّ زكاتَهُ مُثلَ له يومَ القيامةِ شجاعًا أقرعَ له زبيبتان يُطوَّقه يومَ القيامة ثم يأخذُ بلهزمتيه، يعني شدقيه، ثم يقول: أنا مالُكَ، أنا كنزك " ثم تلا: (وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) . وفيه أيضًا عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "يكون كنزُ أحدكم يومَ القيامة شجاعًا أقرع يفرُّ منه يومَ القيامةِ، ويطلبُهُ، ويقول: أنا كنزُكَ، فلا يزالُ يطلبُة حتى يبسطَ يدَهُ فيُلقمها فاه ". وفي "صحيح مسلم " عن جابرٍ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما من صاحبِ كنز لا يفعلُ فيه حقَّهُ إلا جاءَ كنزهُ يومَ القيامةِ شجاعًا أقرعَ يتبعُهُ فاتحاً فاهُ، فإذا أتاهُ فرَّ منهَ، فيناديِه: خُذْ كنزَكَ الذي خبَّأتَهُ فأنا عنه غني، فإذا رأى أن لا بدَّ له منه سلكَ يدَهُ في فيه فيقضمها قضمَ الفحْلِ ". والشجاعُ: الحيَّةُ الذكرُ، والأقرعُ: الذي قد تمعَّطَ شعر فروةِ رأسِهِ لكثرةِ سمِّهِ. فلهذا وردَ الشرعُ باكتنازِ ما يبقى نفعُهُ بعد الموتِ من الإيمانِ والأعمالِ

قال تعالى: (إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض منها أربعة حرم ذلك الدين القيم فلا تظلموا فيهن أنفسكم)

الصالحةِ والكلماتِ الطيبةِ، فإنَّ نفعَ ذلك يبقَى وبه يحصلُ الغنى الأكبرُ، قال ابنُ مسعودٍ: نعمَ كنزُ الصعلوكِ سورةُ آل عمرانَ يقومُ بها من آخرِ الليلِ. وآخرُ سورةِ البقرةِ من كنزٍ تحتَ العرشِ أعطيتْه هذه الأمَّةُ مع سورة الفاتحةِ. ولا حول ولا قوَّة إلا باللَّه كنزٌ من كنوزِ الجنةِ. وفي بعضِ الآثارِ الإسرائيليةِ: كنزُ المؤمنِ ربُه، يعني أنه لا يكنزُ سوى طاعتِهِ وخشيتِهِ ومحبتِهِ والتقربِ إليهِ، فمن كانَ كنزُهُ ربَّه وجدَهُ وقتَ حاجتِهِ إليه، كما في وصيةِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - لابنِ عباسٍ: "احفظ اللَّهَ يحفَظك، احفظِ اللهَ تجدْهُ أمامَك، تعرَّف إلى اللهِ في الرَّخاء يعرفكَ في الشِّدةِ". أنت كنزي، أنت ذخري، أنت عزِّي، كيف أخشى الفقرَ إذا كنتَ أمني عند فقرِي، من كانَ اللَّهُ كنزَه فقد ظفرَ بالغنِى الأكبرِ. قال بعضُ العارفينَ: من استغْنَى باللَّهِ أمِنَ من العدمِ. . . ومن لَزِمَ البابَ أُثْبِتَ في الخَدَمِ ومن أكثرَ ذكر الموتِ أكثرَ من الندمِ. . . تنقَضِي الدُّنيا والفتى فيها معنَّا ليسَ في الدنيا نعيمٌ ولا عيشٌ مهنَّا. . . يا غنيًّا بالدنانيرِ فحبُّ اللَّهِ أغنى * * * قال تعالى: (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ) قال عليٌّ بنُ أبي طلحة عن ابنِ عباسٍ في هذهِ الآيةِ: (فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ)

في كلِّهنَّ، ثم اختصَّ مِنْ ذلك أربعةَ أشهُر، فجعلهنَّ حرمًا، وعظَّمَ حُرماتهن، وجعل الذنبَ فيهنَّ أعظمَ، والعملَ الصالحَ والأجرَ أعظم. وقال قتادةُ في هذه الآية: اعلمُوا أن الظلمَ في الأشهرِ الحُرُم أعظمُ خطيئةً ووزرًا فيما سوى ذلك، وإن كان الظلمُ في كلّ حال غيرَ طائل، ولكنَّ اللَّهَ تعالى يُعظِّم من أمرِهِ، ما يشاءُ ربُّنا تعالى. وقد رُوي في حديثينِ مرفوعينِ أن السيئات تُضاعفُ في رمضانَ، ولكن إسنادهُما لا يصحُّ. * * * خرَّجا في "الصحيحينِ " من حديث أبي بكرةَ أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - خطبَ في حجَّةِ الوداع، فقالَ في خطبته: "إن الزمانَ قد اسْتَدارَ كهيئتِهِ يومَ خلقَ اللَّه السماواتِ والأرضِ، السنةُ اثنا عشرَ شهرًا، منها أربعة حرمٌ: ثلاثةٌ متوالياتٌ: ذو القعْدةِ وذو الحجَّةِ، والمحرَّمُ، ورجَبُ مُضَرَ الذي بين جُمادى وشعبانَ " وذكر الحديثَ. قال اللَّهُ عزَّ وجلَّ: (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ) . فأخبر سبحانه أنَّه مُنذُ خلقَ السماواتِ والأرضَ وخلقَ الليلَ والنَّهارَ يدُورانِ في الفلكَ وخلقَ ما في السماءِ من الشَّمسِ والقمرِ والنُّجومِ، وجعلَ

الشَّمسَ والقمر يسبحان في الفلك، فينشأ منهما ظلمةُ اللَّيلِ وبياضُ النهارِ. فمن حينئذٍ جعلَ السَّنة اثنى عشر شهراً بحسبِ الهلالِ. فالسنةُ في الشرع مُقدَّرةٌ بسيرِ القمرِ وطلوعِهِ، لا بسيرِ الشمسِ وانتقالها. كما يفعلُه أهلُ الكتابِ. وجعلَ اللَّهُ تعالى من هذهِ الأشهرِ أربعةَ أشهرٍ حُرُمًا، وقد فسَّرَها النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث، وذكرَ أنَّها ثلاثة متوالياتٌ، ذو القعدةِ، وذو الحجَّةِ، والمُحرَّمُ، وواحد فرد، وهو شهرُ رجبٍ. وهذا قد يستدلُّ به من يقولُ: إنها من سنتين، وقد رُوي من حديثِ ابنِ عمرَ مرفوعًا: "أولُهُن رجبٌ "، وفي إسنادِهِ موسى بن عُبيدةَ، وفيه ضعفٌ شديد من قِبلِ حفْظِهِ، وقد حكيَ عن أهلِ المدينةِ أنهم جعلوها من سنتين. وأن أوَّلها ذو القعدةِ، ثم ذو الحجَّةِ، ثم المحرَّمُ، ثم رجب، فيكونُ رجب آخرَها. وعن بعضِ المدنيينَ أنَّ أوَّلها رجب، ثم ذو القعدةِ، ثم ذو الحجَّةِ ثم المُحرَّمُ. وعن بعضِ أهلِ الكوفةِ أنها من سنةٍ واحدة، أولها المحرَّمُ، ثم رجبٌ، ثم ذو القعدة، ثم ذو الحِجَّةِ. واختُلِفَ في أيِّ هذه الأشهر الحرُم أفضلُ، فقيل: رجب، قاله بعض الشافعيةِ، وضعَّفَه النوويُّ وغيره. وقيل: المُحَرَّمُ، قاله الحسنُ، ورجَّحَه النوويُّ. وقيل: ذو الحِجَّة، رُوي عن سعيدِ بنِ جبيرٍ وغيره، وهو أظهرُ، واللَّهُ أعلمُ. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ الزَّمان استدَارَ كهيئِتِه يوم خلقَ اللَّه السمواتِ والأرضَ، السَّنةُ اثنا عشرَ شهرًا" مُرادُهُ بذلك إبطالُ ما كانتِ الجاهليةُ تفعلُه من النَّسيء، كما قال

تعالى: (إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ) . وقد اختُلِفَ في تفسيرِ النَّسيء، فقالت طائفة: كانوا يُبدلُون بعضَ الأشهرِ الحُرُم بغيرِها من الأشهرِ، فيحرِّمُونها بدلها، ويحلُّون ما أرادوا تحليلَه من الأشهرِ الحُرُم إذا احْتاجُوا إلى ذلك، ولكن لا يزيدونَ في عددِ الأشهر الهلالية شيئًا. ثم من أهلِ هذه المقالةِ من قال: كانوا يُحلُّون المُحرَّمَ فيستحلون القتالَ فيه؛ لطول مدَّة التَّحريم عليهم بتوالي ثلاثةِ أشهرٍ مُحرَّمةٍ، ثم يحرِّمونَ صفَرًا مكانَهُ، فكأنَهم يقترضونَه ثم يوفونَه، ومنهم من قال: كانوا يحلُّون المُحرَّمَ مع صَفَرٍ من عامٍ ويُسمُّونَهما صفَرينِ، ثم يحرِّمُونهما مم عام قابل ويسمُّونهما محرَّمين قاله ابن زيدِ بنِ أسلمَ. وقيل: بل كانوا رُبَّما احْتاجُوا إلى صفَرَ أيضًا فأحلُّوه وجعَلُوا مكانَه ربيعًا. ثم يدورُ كذلك التَّحريمُ والتَّحليلُ والتأخيرُ، إلى أن جاء الإسلامُ ووافَقَ حجَّةَ الوداع، صارَ رجوعُ التَّحريمِ إلى مُحرَّم الحقيقيّ، وهذا هو الذي رجَّحه أبو عُبيد، وعلى هذا فالتَّغييرُ إنَّما وقع في عيْنِ الأشهُر الحُرُمِ خاصةً. وقالت طائفةٌ أخرى: بلْ كانوا يزيدونَ في عددِ شهورِ السنة، وظاهرُ الآية يُشعر بذلك، حيث قال اللَّه تعالى: (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا) ، فذكرَ هذا توطئةً لهَدْمِ النَّسيءِ وإبطالهِ. ثم مِنْ هؤلاءِ من قال: كانوا يجعلُون السنة ثلاثةَ عشرَ شهرًا، قاله مجاهدٌ وأبو مالكٍ، قال أبو مالكٍ: كانوا يجعلون السنةَ ثلاثةَ عشرَ شهرًا، ويجعلونَ

المُحرَّمَ صَفَرًا. وقال مجاهدٌ: كانوا يُسقطون المُحرَّمَ، ثم يقولون: صَفَرينِ. لصفرَ وربيع الأوَّلِ وربيع الآخر، ثم يقولونَ: شهرا ربيع، ثم يقولون: لرمضان: شعبانُ، ولشوال: رمضانُ، ولذي القعْدةِ: شوالٌ، ولذيَ الحجَّةِ: ذو القعْدة، على وجهِ ما ابتدأوا وللمحرَّمِ: ذو الحجَّةِ، فيعدونَ ما ناسؤوا على مستقبلهِ، على وجه ما ابتدأوا. وعنه، قال: كانتِ الجاهليةُ يحجُّون في كلِّ شهرٍ من شهورِ السنةِ عامينِ. فوافَقَ حِجُّ رسولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - في ذي الحِجَّةِ، فقال: "هذا يومٌ اسْتدارَ الزَّمانُ كهيئِتِه يومَ خلقَ اللَّهُ السماواتِ والأرص ". ومن هؤلاء من قالَ: كانتِ الجاهليةُ يجعلونَ الشهورَ اثنى عشر شهرًا وخمسةَ أيامٍ، قالهُ إياسُ بنُ معاويةَ، وهذا العددُ قريبٌ من عددِ السنةِ الرومية" ولهذا جاء في مراسيلِ عكرمة بنِ خالدِ أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال في خُطبتِهِ يومَ النحر: "والشهر هكذا، وهكذا، وهكذا، وخنَسَ إبهامَه في الثالثةِ، وهكذا وهكذا، وهكذا" يعني: ثلاثينَ، فأشارَ إلى أن الشَّهرَ هلاليٌّ. ثم تارةً ينقُصُ وتارةً يتمُّ، ولعلَّ أهلَ النَّسِيء كانُوا يُتِمُّونَ الشهورَ كلَّها. ويزيدونَ عليْهَا، واللَّه أعلم. وقد قيل: إنَّ ربيعةَ ومضَرَ كانوا يُحرِّمون أربعة أشهرٍ من السنةِ مع اختلافِهِم في تعيينِ رجبٍ منها، كما سنذكرُهُ إن شاء اللَّهُ تعالى. وكانت بنُو عوْفِ بنِ لُؤيٍّ يحرِّمون من السنةِ ثمانيةَ أشهرٍ، وهذا مبالغة في الزيادة على ما حرَّمه اللَّهُ. واختلفُوا في أيِّ عامٍ عاد الحجُّ إلى ذي الحجةِ على وجهِهِ، واستدارَ الزَّمانُ

فيه كهيئتِهِ، فقالت طائفة: إنَّما عادَ على وجهه في حجَّةِ الوداع، وأما حجةُ أبي بكر الصديقِ - رضي الله عنه -، فكانت قد وقعت في ذي القعدةِ. هذا قولُ مجاهدٍ وعكرمةَ بن خالد وغيرهِما. وقيل: إنَّه اجْتَمَعَ في ذلك العامِ حجُّ الأممِ كلِّها في وقتٍ واحدٍ، فلذلك سُمِّيَ يومَ الحجِّ الأكبرِ. وقالتْ طائفةٌ: بل وقعَتْ حجَّةُ الصِّدِّيقِ في ذي الحجةِ، قالهُ الإمامُ أحمدُ. وأنكرَ قولَ مجاهدٍ، واستدلَّ بأنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أمرَ عليًّا فنادى يوم النَّحْرِ: "لا يحجّ بعد العامِ مشرِك" وفي روايةٍ: "واليومُ يومُ الحَجِّ الأكبرِ" وقد قالَ اللَّهُ تعالى: (وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ) ، فسمَّاهُ يومَ الحجِّ الأكبرِ، وهذا يدُلُّ على أنَّ النِّداءَ وقَعَ في ذي الحجَةِ. وخرَّج الطبراني في "أوسطِه " من حديثِ عمرِو بنِ شعيبٍ، عن أبيه. عن جدِّه قال: كان العربُ يُحِلُّون عامًا شهرًا، وعامًا شهرين، ولا يُصيبون الحجَّ إلا في كلِّ ستةٍ وعشرين سنة مرةً واحدةً، وهو النَّسيءُ الذي ذكرَهُ اللَّهُ في كتابه، فلما كان عام حَجَّ أبو بكر الصديقُ بالناس، وافَقَ في ذلك العامِ الحجَّ، فسمَّاه اللَّهُ يوم الحج الأكبر. ثم حجَّ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في العامِ المُقْبلِ، فاستقبَلَ النَّاسُ الأهلَّةَ، فقال رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ الزمانَ قد اسْتدارَ كهيئتِهِ يومَ خلقَ الله السماوات والأرضَ " وقيل: بل اسْتدارَةُ الزَّمانِ كهيئتِهِ كانَ من عام الفتح. وخرَّج البزارُ في "مسندهِ " من حديث سُمرةَ بن جُنْدَب أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -

قال: لهم يومَ الفتح: "إنَّ هذا العامَ الحجُّ الأكبرُ، قد اجتمعَ حجُّ المسلمينَ وحجُّ المشركينَ في ثلاثةِ أيامٍ متتابعاب، واجتمَعَ حجُّ اليهودِ والنَّصارى في ستَّةِ أيام متتابعاتٍ. ولم يجتمع منذُ خلقَ اللَّه السماواتِ والأرضَ، ولا يجتمعُ بعدَ العامِ حتَّى تقومَ السَّاعة ". وفَي إسنادِهِ يوسف السَّمْتِي، وهو ضعيف جدًّا، واختلفُوا لم سُميتْ هذه الأشهر الأربعةُ حُرُمًا؟. فقيل: لعظم حُرمتِها وحُرمة الذَّنْبِ فيها. قال عليٌّ بنُ أبي طلحةَ، عن ابنِ عباس: اختصَّ اللَّهُ أربعةَ أشهر جعلهُنَّ حُرمًا، وعظَّمَ حُرماتهنَّ، وجعل الذَّنْبَ فيهن أعظمَ، وجعلَ العملَ الصالحَ والأجر أعظم. قال كعبٌ: اختارَ اللَّهُ الزمان، فأحبُّهُ إلى اللَّه الأشهر الحُرُمُ. وقد رُوي مرفوعًا، ولا يصحُّ رفعُهُ. وقد قيلَ في قولِهِ تعالى: (فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنفسَكمْ) : إنَّ المرادَ في الأشهرِ الحُرمِ، وقيل: بل في جميع شُهورِ السنةِ. وقيل: إنَّما سُمِّيتْ حُرُمًا لتحريمِ القتالِ فيها. وكان ذلك معروفًا في الجاهليةِ. وقيلَ: إنَّه كان في عهدِ إبراهيمَ - عليه السلامُ -، وقيلَ: إنَّ سبب تحريمِ هذه الأشهرِ الأربعةِ بينَ العربِ لأجلِ التمكُّن منَ الحجِّ والعُمْرةِ، فحُرِّمَ شهرُ ذي الحجَّةِ، لوقوع الحجِّ فيه، وحُرِّم معه شهرُ ذي القعدة، للسَّيْرِ فيه إلى الحجِّ. وشهر المحرم، للرجوع فيه من الحجِّ، حتى يأمَنَ الحاجُّ على نفسِهِ من حين يخرجُ من بيتِهِ إلى أن يرجعَ إليه. وحُرِّمَ شهرُ رجب، للاعتمارِ فيه في وسطِ السًّنةِ، فيعتمِرُ فيه مَنْ كان قريبًا من مكّةَ. وقد شرع اللهُ في أولِ الإسلامِ تحريمَ القتالِ في الشهرِ الحرام، قالَ تعالَى:

(لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرَامَ) . وقال تعالى: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ) . وخرَّجَ ابنُ أبي حاتمٍ بإسنادِهِ عن جُنْدُبِ بنِ عبدِ اللَّهِ أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - بعثَ رهطَا وبعثَ عليهم عبدَ اللَّهِ بنَ جَحْشٍ، فلقوا ابنَ الحضْرمِيِّ فقتلوه، ولم يدْرُوا أنَّ ذلك من رجبٍ أو من جُمادى، فقال المشركونَ للمسلمينَ. قتلتُم في الشهرِ الحرامِ، فأنزلَ اللَّهُ عزَ وجل: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كبِيرٌ) الآية. وروى السُّدِّيُّ عن أبي مالكٍ، وعن أبي صالح، عن ابنِ عباسٍ، وعن مُرَّةَ، عن ابنِ مسعودٍ في هذه الآيةِ، فذكروا هذه القصةَ مبسوطةً، وقالُوا فيها: فقال المشركونَ: يزعمُ محمدٌ يتبعُ طاعةَ اللَّهِ وهو أوَّلُ مَن استحلَّ الشهرَ الحرامَ، فقال المسلمونَ: إنَّما قتلناه في جُمَادى. وقيلَ: في أولِ رجبٍ وآخِرِ ليلةٍ من جُمَادى، وغَمَدَ المسلمونَ سيوفَهم حين دخل شهرُ رجبٍ، وأنزلَ اللَّهُ تعالى تعييرًا لأهلِ مكَّةَ: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ) لا يحلُّ، وما صنعتم أنتم يا معشرَ المشركينَ أكبرُ من القتْلِ في الشَّهرِ الحرامِ، حين كفرتم باللَّه، وصددْتُم عن محمَّدٍ وأصحابِهِ، وإخراج أهلِ المسجدِ الحرامِ حينَ أخْرَجُوا منه محمدًا - صلى الله عليه وسلم - أكبرُ منَ القتلِ عندَ اللهِ. وقد رُوي عن ابنِ عباسٍ هذا المعنى من روايةِ العوفيِّ عنه، ومن روايةِ أبي سعد البقالِ، عن عكرمةَ، عنه.

ومن روايةِ الكلبيِّ، عن أبي صالح، عنه. وذكر ابنُ إسحاقَ أنَّ ذلك كان في آخر يوم من رجبٍ، وأنَّهم خافوا إنْ أخَّرُوا القتالَ أن يسبقَهم المشركونَ فيدخلوا الحرَمَ فيأمَنُوا. وأنَّهم لمَّا قدِمُوا على النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال لهم: "ما أمرتُكُم بالقتالِ في الشهرِ الحرامِ، ولم يأخذْ من غنيمتهم شيئًا" وقالتْ قريشٌ: قد استحلَّ محمدٌ وأصحابُهُ الشهرَ الحرامَ، فقال مَنْ بمكَّةَ من المسلمينَ: إنَما قتلُوهم في شعبانَ. فلمَّا أكثرَ الناسُ في ذلك نزلَ قولُهُ تعالى: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ) الآية. ورُوي نحوُ هذا السياقِ عن عروةَ، والزُّهري وغيرِهما. وقيلَ: إنَّها كانت أولَ غنيمةٍ غممَها المسلمونَ، وقال عبدُ اللَّهِ بن جحشٍ في ذلك، وقيل: إنَّها لأبي بكرٍ الصِّدِّيقِ - رضي الله عنه -. تعُدُّونَ قتلاً في الحرامِ عظيمةً. . . وأعْظمُ منه لو يَرى الرشُدَ راشِدُ صدودُكُمُ عمَّا يقولُ محمدٌ. . . وكُفْرٌ به واللَّه راءٍ وشاهدُ وإخْراجُكُم من مسجدِ اللَّهِ أهلَهُ. . . لِئلاَّ يُرَى للَّهِ في البيْتِ ساجِدُ في أبياتٍ أخرَ. وقد اختلفَ العلماء في حكم القتالِ في الأشهرِ الحُرُمِ، هل تحريمُهُ باقٍ أمْ نُسِخَ؟ فالجمهورُ على أنَّه نُسِخَ تحريمُهُ، ونصَّ على نسخِهِ الإمامُ أحمدُ وغيرُهُ من الأئمةِ. وذهب طائفةٌ من السَّلَفِ، منهم عطاءٌ، إلى بقاءِ تحريمِهِ، ورجَّحه بعضُ المتأخرين واستدلُّوا بآية المائدةِ. والمائدةُ من آخرِ ما نزلَ من القرآنِ،

وقد رُوِي: "أحِلُّوا حلاَلَها وحرِّمُوا حرامَهَا ". وقيل: ليس فيها منسوخ. وفي "المسندِ" أنَّ عائشةَ - رضي الله عنها -، قالتْ: "هي آخرُ سورةٍ نزلتْ، فما وجدتُم فيها من حلالٍ فاسْتحِلُّوه، وما وجدتم فيها من حرامٍ فحرمُوه " وروى الإمامُ أحمدُ في "مسندهِ ": حدثنا إسحاقُ بن عيسى. حدثنا ليثُ بنُ سعدٍ، عن أبي الزُّبير، عن جابرٍ، قال: لم يكن رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَغْزُو في الشَّهرِ الحرامِ إلا أنْ يُغْزَى ويَغزو فإذا حضرَهُ أقامَ حتَّى ينسلخَ. وذكر بعضُهم أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - حاصرَ الطائفَ في شوَّالٍ، فلمَّا دخلَ ذو القعدةِ لم يُقاتِلْ، بل صابرَهُم، ثم رجعَ. وكذلك في عمرةِ الحديبية لم يُقاتِلْ، حتّى بلغه أنَّ عثمانَ قُتِلَ، فبايَعَ على القتالِ، ثم لمَّا بلغَه أنَّ ذلك لا حقيقةَ له كفَّ. واستدلَّ الجمهورُ بأن الصحابةَ اشتغلُوا بعدَ النبي - صلى الله عليه وسلم - بفتح البلادِ، ومواصلةِ القتالِ والجهادِ، ولم يُنقل عن أحدٍ منهم أنَّه توقَّف عن القتالِ، وهو طالبٌ له في شيءٍ من الأشهرِ الحُرُم، وهذا يدُلُّ على اجتماعهم على نسخ ذلك، واللَّهُ أعلمُ. ومن عجائب الأشهرِ الحُرُمِ ما رُوي عن عبدِ اللَّهِ بن عمرِو بن العاصِ: أنَّه ذكر عجائبَ الدنيا، فعدَّ منها بأرضِ عادٍ عمودَ نُحاسٍ، عليه شجرةٌ من نحاسٍ، فإذا كان في الأشهرِ الحُرُم قطرَ منها الماءُ، فملؤوا منه حياضَهم. وسَقَوْا مواشيهم وزروعَهم، فإذا ذهب الأشهرُ الحرمُ انقطَعَ الماءُ. وقولُهُ - صلى الله عليه وسلم -: "ورجبُ مُضَر" سُمِّي رجبٌ رجبًا، لأنه كان يُرجَّبُ، أي يُعظَّمُ، كذا قال الأصمعي، والمفضَّلُ، والفرَّاءُ، وقيلَ: لأنَّ الملائكةَ تترجَّب

قوله تعالى: (قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا هو مولانا وعلى الله فليتوكل المؤمنون (51)

للتسبيح والتَّحميدِ فيه، وفي ذلك حديثٌ مرفوعٌ إلا أنه موضوع. وأما إضافتُه إلى "مُضَر"، فقيل: لأنَّ مُضَرَ كانت تزيدُ في تعظيمِهِ واحترامِهِ، فنُسبَ إليهم لذلك. وقيل: بل كانت ربيعةُ تُحرِّمُ رمضانَ، وتُحرِّمُ مُضَرُ رجبًا، فلذلك سمَّاه رجبَ مُضَرَ، وحقَّق ذلك بقوله: "الذي بين جُمادى وشعبان ". وذكر بعضُهم أنَّ لشهر رجبٍ أربعةَ عشرَ اسمًا: شهرُ اللَّهِ، ورجبٌ. ورجبُ مُضَر، ومُنْصِلُ الأسِنَّةِ، والأصمُّ، والأصبُّ، ومُنَفّسٌ، ومُطَهِّرٌ. ومُعَلَّى، ومقيمٌ، وهرم، ومُقشقشٌ، ومُبرّئٌ، وفرْدٌ، وذكر غيرُه أنَّ له سبعة عشر اسمًا، فزادَ "رجم " بالميم، ومُنْصِل الألَّة، وهي الحربة، ومنزعُ الأسنَّة. * * * قوله تعالى: (قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (51) قال ابن الجوزي في "المقتبس ": سمعت الوزير يقول في قوله تعالى: (قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا) ، قال: إنَّما لمْ يقُل: ما كتِبَ علَيْنا" لأنَّه أمرٌ يتعلقُ بالمؤمنِ، ولا يصيبُ المؤمنُ شيءٌ إلا وهو له، إن كانَ خيرًا فهو له في العاجلِ، وإن كانَ شرًا فهو ثواب في الآجل. * * *

قوله تعالى: (وقالوا لا تنفروا في الحر قل نار جهنم أشد حرا لو كانوا يفقهون (81)

قوله تعالى: (وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ (81) قال اللَّهُ تعالى: (وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ (81) . وفي "الصحيحينِ " عن أبي هريرةَ عنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "اشتكتِ النارُ إلى ربِّها، فَقَالَتْ يَا رَبِّ أَكَلَ بَعْضِي بَعْضًا فَأَذِنَ لَهَا بِنَفَسَيْنِ نَفَسٍ فِي الشِّتَاءِ وَنَفَسٍ فِي الصَّيْفِ فَهُوَ أَشَدُّ مَا تَجِدُونَ مِنْ الْحَرِّ سمومُها، وأَشَدُّ ما تجدونَ من البردِ زمهريرُهَا ". وفي "الصحيحينِ " أيضًا عن أبي هريرةَ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: "نارُكم هذه التي يوقدُ بنوآدمَ جزء واحدٌ من سبعينَ جزءًا من نارِ جهنَّمَ "، قالوا: والله إن كانتْ لكافيةً، قال: "إنها فُضِّلتْ عليها، بتسعة وستينَ جزءًا، كلِّهنَّ مثلُ حرِّهَا" وخرَّجه الإمامُ أحمدُ وزادَ فيه: "ضربت بالبحرِ مرتينِ، ولولا ذاك ما جعل اللَّهُ فيها منفعة لأحدٍ"، وقد سبقَ من حديثِ أنسٍ نحوُهُ. وعن عطيةَ العوفيِّ عن أبي سعيدٍ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "نارُكم هذه جزء من سبعينَ جزءا من نارِ جهنَّم لكلِّ جزء منها مثل حرِّها". خرَّجه الترمذيُّ. وقال الإمامُ أحمدُ: حدثنا قتيبةُ، حدثنا عبدُ العزيزِ - هو الدراورديُّ - عن سهيلٍ، عن أبيه، عن أبي هريرةَ أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "إنَّ هذه النارَ جزء من مائةِ جزءٍ من جهنَّمَ ". وقال ابنُ مسعود: "إنَّ نارَكم هذه ضُرِبَ بها البحرُ ففترتْ، ولولا ذلكَ ما

انتفعتم بها، وهي جزء من سبعينَ جزءًا من نارِ جهنَّمَ " وخرَّجه البزَّارُ مرفوعًا والموقوفُ أصحُّ. وخرَّج الطبرانيُّ من طريقِ تمامِ بنِ نجيحِ عن الحسنِ، عن أنسٍ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "لو أن غربًا من جهنَّم، جعلَ في وسطِ الأرض لآذى نتنُ ريحِهِ وشدةُ حرِّه ما بينَ المشرقِ والمغرب، ولو أنَّ شرارَةً من شرارِ جهنَّم بالمشرقِ لوجدَ حرَّها مَن بالمغربِ " وتمامُ بنُ نجيع تكُلًّمَ فيه. وخرَّج أيضًا من طريقِ عديِّ بن عدي الكندي عن عمرَ أن جبريلَ قال للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: والذي بعثكَ بالحقِّ لو أنَّ قدرَ ثقبِ إبرة فُتحَ من جهنَّمَ لمات من في الأرضِ كلُّهم جميعًا من حرِّه. وقد سبقَ الكلامُ على إسنادِهِ. ورُوي من وجهٍ ضعيفٍ عن الحسنِ مرسلاً نحوُهُ أيضًا. وخرَّج أبو يعلى الموصلي من حديثِ أبي هريرةَ عنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "لوكان في هذا المسجدِ مائةُ ألف أو يزيدونَ، وفيهم رجل من أهلِ النارِ فتنفسَ فأصابَهُم نفسُهُ لأحرقَ من في المسجدِ أو يزيدونَ ". لكن قالَ الإمامُ أحمدُ: هو حديث منكر. وقال كعبٌ لعمرَ بنِ الخطابِ: لو فُتحَ من جهنَّم قدرُ منخرِ ثورٍ بالمشرقِ ورجلٌ بِالمغربِ لغلى دماغُهُ حتى يسيلَ من حرِّهِ. وقال عبدُ الملكِ بن عميرٍ: لو أنَّ أهل النارِ كانُوا في نارِ الدنيا لقَالُوا فيها. وقال عبدُ اللَّهِ بن أحمدَ: أُخبرتُ عن سيَّارٍ عن ابنِ المعزى - وكان من خيارِ الناسِ - قال: بلغني أنَّ رجلاً لو خرجَ منها إلى نارِ الدنيا لنام

قوله تعالى: (ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا لله ورسوله ما على المحسنين من سبيل والله غفور رحيم (91)

فيها ألفي سنة. وقال معاويةُ بنُ صالحٍ عن عبدِ الملكِ بن أبي بشيرِ - يرفعُ الحديثَ: "ما من يومٍ إلا والنارُ تقولُ: اشتدَّ حرِّي، وبعدَ قعري، وعظُم جمرِي، عَجِّلْ إلهي إليَّ بأهلي ". وقال ابنُ عيينةَ عن بشيرِ بنِ منصور، قلتُ لعطاء السلميِّ: لو أنَّ إنسانًا أوقدتْ له نار فقيلَ لهُ: من دخلَ هذه النارَ نجا من النارِ، فقال: عطاءٌ: لو قيلَ لي ذلك لخشيتُ أن تخرجَ نفسِي فرحًا قبل أن أقعَ فيها. * * * قوله تعالى: (لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (91) وقد ذكر اللَّهُ في كتابِهِ عن الأنبياءِ - عليهمُ السَّلامُ - أنهم نصحُوا لأممِهِم كما أخبرَ اللَّه بذلكَ عن نوح، وعن صالح، وقال: (لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ) . يعني: أنَّ منْ تخلَّفَ عن الجهاد لِعذرٍ، فلا حرجَ عليه بشرطِ أن يكونَ ناصِحًا للَّهِ ورسولِهِ في تخلُّفِهِ، فإنًّ المنافقينَ كانُوا يُظهرُون الأعذارَ كاذبين. ويتخلَّفونَ عن الجهادِ من غيرِ نصح للَّه ورسولهِ) . * * *

قوله تعالى (والذين اتخذوا مسجدا ضرارا وكفرا وتفريقا بين المؤمنين وإرصادا لمن حارب الله ورسوله من قبل وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى

قوله تعالى (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (107) ومنْ أعظم خصالِ النفاقِ العمليِّ: أن يعملَ الإنسانُ عملاً، ويُظهِرُ أنّه قصدَ به الخيرَ، وإنَّما عملهُ ليتوصَّل به إلى غرضِ له سيِّئ فيتمَّ له ذلك. ويتوصَّلُ بهذه الخديعة إلى غرضِهِ، ويفرحُ بمكى وخِداعِهِ وحَمدِ النَّاسِ له على ما أظهرَهُ، وتوصًّل به إلى غرضِهِ السيِّئ الذي أبطنه، وهذا قد حكاهُ اللَّهُ في القرآنِ عن المنافقينَ واليهودِ، فحكى عن المنافقينَ أنَّهُم: (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ) . وأنزلَ في اليهودِ: (لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (188) . وهذه الآية نزلتْ في اليهودِ، سألهم النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - عن شيءٍ فكتمُوه، وأخبرُوه بغيره، فخرجُوا وقد أرَوْه أنهم قد أخبرُوه بما سألَهُم عنه، واستحمدوا بذلكَ، وفرحُوا بما أُوتوا من كتمانِهِم وما سُئِلُوا عنه. قال ذلك ابنُ عباسِ، وحديثُه مخرَّج في "الصحيحينِ ". وفيهما - أيضًا -: عن أبي سعيدٍ أنها نزلت في رجالٍ من المنافقينَ كانُوا إذا خرجَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - إلى الغزوِ تخلَّفوا عنه وفرِحُوا بمقعدِهِم خِلافَهُ، فإذا قدِمَ رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - من الغزوِ اعتذرُوا إليه، وحلفُوا، وأحبُّوا أن يُحمدُوا بما لم يفعلُوا. * * *

سورة يونس

سُورَةُ يُونُسَ قوله تعالى: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (5) قالَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ: (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ) وقال اللَّهُ تعالى: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ) . فأخبر سبحانه وتعالى أنَّه علق معرفةَ السنينَ والحسابِ على تقديرِ القمرِ منازلَ. وقيلَ: بل على جعلِ الشمسِ ضياءً والقمرِ نورًا، لأنَّ حسابَ السنةِ والشهرِ يُعرَفُ بالقمر، واليومُ والأسبوعُ يُعرفُ بالشمس، وبهما يتمُّ الحسابُ. وقوله تعالى: (لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ) لمَّا كان الشهرُ الهلاليُّ لا يحتاجُ إلى عَدٍّ لتوفِيَتِهِ بما بين الهلالينِ، لم يقُلْ: لتعلمُوا عددَ الشهورِ. فإنَّ الشهر لا يحتاجُ إلى عَدِّه إلا إذا غُمَّ آخرُهُ، فيُكَمَّلُ عددُه بالاتفاقِ، إلا في شهرِ شعبانَ إذا غُمَّ آخِرُهُ بالنسبة إلى صومِ رمضانَ خاصَّة، فإنَّ فيه اختلافًا مشهورًا، وأما السَّنةُ فلا بُدَّ من عددِها، إذْ ليس لها حدٌّ ظاهرٌ في السَّماء فيُحتاجُ إلى عددِها بالشهورِ، ولا سيَّما مع تطاولِ السنينِ وتعدُّدِها.

وجعل اللَّه السنة اثني عشر شهرًا، كما قال تعالى: (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كتَابِ اللَّهِ) ، وذلكَ بعددِ البُروج التي تكمُلُ بدورِ الشمسِ فيها السنةُ الشمسيَّةُ، فإذا دارَ القمر فيها كلِّها كمُلَتْ دورتُهُ السنويةُ، وإنما جعلَ اللَّهُ الاعتبارَ بدورِ القمرِ، لأنَّ ظهورَهُ في السماءِ لا بحتاجُ إلى حسابٍ ولا كتاب، بل هو أمرٌ ظاهرٌ يُشاهدُ بالبصرِ، بخلافِ سيرِ الشمس؛ فإنه تحتاجُ معرفته إلى حساب وكتابٍ، فلم يُحوِجْنا إلى ذلكَ، كما قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّا أمَّةٌ أمِّيَّةٌ لا نكتبُ وَّلَا نحسُبُ، الشهرُ هكذا وهكذا وهكذا" وأشارَ بأصابعِهِ العشْرِ، وخنَسَ إبهامَهُ في الثالثةِ. "صُومُوا لرؤيتِهِ وأفطِرُوا لرؤيته، فإنْ غُمَّ عليكم فأكمِلُوا العدَّة" وإنما علَّق اللَهُ تعالى على الشمس أحكامَ اليومِ من الصَّلاةِ والصِّيام، حيثُ كان ذلك أيضًا مشاهدًا بالبصرِ لا يحتاجُ إلى حسابٍ ولا كتابٍ، فالصلاةُ تتعلَّقُ بطلوع الفجر، وطلوع الشمسِ، وزوالها وغروبِها، ومصيرِ ظلِّ الشيء مثله. وغروبِ الشفقِ، والصيامُ يتوقَّتُ بمدة النهارِ من طلوع الفجرِ إلى غروبِ الشمسِ. وقوله تعالى: (وَالْحِسَابَ) ، يعني بالحسابِ: حسابَ ما يحتاج إليه النَّاسُ من مصالح دينهم ودنياهم، كصيامِهِم، وفطرِهِم، وحجِّهم، وزكاتِهِم. ونذورِهِم، وكفَّاراتِهِم، وعِددِ نسائِهم، ومُدَد إيلائِهم، ومُدَدِ إجاراتِهِم. وحُلول آجال دُيونهم، وغير ذلك ممَّا يتوقَّتُ بالشهورِ والسنينَ. وقد قال اللَّهُ عزَّ وجلَّ: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ) ، فأخبر أنَّ الأهلَّةَ مواقيتُ للناسِ عمومًا، وخصَّ الحجَّ من بينِ ما

يُوقَّتُ به، للاهتمامِ به، وجعلَ اللَّهُ سبحانه وتعالى في كلِّ يومٍ وليلةٍ لعباده المؤمنينَ وظائفَ مُوظَّفةً عليهم من وظائفِ طاعتِهِ، فمنها ما هو مفترضٌ كالصلواتِ الخمسِ. ومنها ما يُنْدَبون إليهِ من غير افتراضٍ، كنوافلِ الصلاةِ والذكر وغير ذلك. وجعلَ في شهورِ الأهلَّةِ وظائفَ مُوَظَّفةً أيضًا على عبادِهِ كالصّيامِ. والزَّكاةِ، والحجِّ، ومنه فرْضٌ مفروضٌ عليهم، كصيام رمضان، وحجَّةِ الإسلامِ، ومنه ما هوَ مندوبٌ، كصيامِ شعبانَ، وشوالٍ، والأشهرِ الحُرُمِ. وجعلَ اللَهُ سبحانه لبعضِ الشهورِ فضلاً على بعض، كما قال تعالى: (مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ) . وقال اللَّهُ تعالى: (الْحَجُّ أَشْهُرٌ معْلومَاتٌ) . وقال اللَهُ تعالى: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ) . كما جعلَ بعضَ الأيام والليالي أفضلَ من بعض، وجعلَ ليلةَ القدْرِ خيرًا من ألفِ شهرٍ، وأقسَمَ بالعشْرِ، وهو عشْرُ ذي الحجَّةِ على الصحيح، كما سنذكرُهُ في موضعهِ إن شاء اللَّهُ تعالى. وما من هذه المواسم الفاضلةُ موسمٌ إلا وللَّهِ تعالى فيه وظيفةٌ من وظائفِ طاعاتِهِ، يتقرَّبُ بها إليه، وللَّهِ فيه لطيفةٌ من لطائفِ نفحاتِهِ، يُصيبُ بها من يعودُ بفضلِهِ ورحمتِهِ عليه، فالسعيدُ من اغتنمَ مواسمَ الشهورِ والأيامِ والسَّاعاتِ، وتقرَّبَ فيها إلى مولاهُ بما فيها من وظائفِ الطَّاعاتِ، فعسى أن تصيبَهُ نفْحةٌ من تلكَ النَّفحاتِ، فيسعدُ بها سعادةً يأمَنُ بعدَها من النَّارِ وما فيه من اللَّفَحَاتِ. وقد خرَّج ابنُ أبي الدنيا والطَّبرانيُّ وغيرُهما، من حديثِ أبي هريرةَ - رضي الله عنه -

مرفوعًا: "اطلبُوا الخيرَ دَهْرَكُم كُلَّهُ، وتعرَّضُوا لنَفَحاتِ رحمةِ ربّكم، فإنَّ للَّه نفحاتٍ من رحمته يصيبُ به من يشاءُ من عبادِهِ، وسلُوا اللَّهَ أنْ يستُرَ عوراتِكُم ويُؤمِّنَ روعاتِكُم ". وفي روايةٍ للطبرانيِّ من حديثِ محمدِ بنِ مسلمةَ مرفوعًا: "إنَّ للَّهِ في أيام الدَّهر نفحات فتعرَّضُوا لها، فلعلَّ أحدَكُم أن تصيبَه نفحة فلا يَشْقى بعدها أبدًا" وفي "مسندِ الإمامِ أحمدَ" عن عقبةَ بنِ عامرٍ، عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: "ليس من عملِ يومِ إلا يُختمُ عليه " وروى ابنُ أبي الدنيا بإسنادِهِ، عن مجاهدٍ. قال: ما من يومٍ إلا يقولُ: ابنَ آدم، قد دخلْتُ عليك اليومَ ولن أرجِعَ إليك بعد اليوم، فانظر ماذا تعمل فيَّ؛ فإذا انقضى طواهُ، ثم يُختم عليه فلا يفك حتى يكون اللَّه هو الذي يفُضُّ ذلك الخاتمَ يومَ القيامة، ويقول اليومُ حينِ ينقضي: الحمدُ للَّهِ الذي أراحني من الدنيا وأهلِها، ولا ليلةً تدخلُ على الناسِ إلا قالتْ كذلكَ. وبإسنادِهِ عن مالكِ بنِ دينارٍ، قالَ: كان عيسى - عليه السلامُ -، يقولُ: إنَّ هذا الليلَ والنَّهارَ خِزانتان، فانظرُوا ما تضعونَ فيهما، وكان يقولُ: اعملُوا اللَّيلَ لما خُلِقَ له، واعْملُوا النهَّارَ لما خُلِقَ له. وعن الحسنِ، قال: ليس يومٌ يأتي من أيامِ الدنيا إلا يتكلَّم، يقولُ: يا أيها الناسُ، إنِّي يومٌ جديدٌ، وإني على ما يعمل فيَّ شهيدٌ، وإني لو قد غربَتِ الشمسُ، لم أرجع إليكم إلى يوم القيامةِ. وعنه أنه كانَ يقولُ: يا ابنَ آدم، اليومُ ضيفُك، والضيفُ مرتحلٌ، يحمدُك أو يذمُّكَ، وكذلك ليلتُك. وبإسنادِهِ عن بكرٍ المزنيِّ، أنه قالَ: ما من

يومٍ أخرَّجَه اللَّهُ إلى أهلِ الدنيا إلا يُنادِي: ابنَ آدمَ، اغتنمني، لعلَّه لا يومَ لك بعدِي، ولا ليلةَ إلا تنادي: ابنَ آدمَ، اغتنمنِي، لعلَّه لا ليلةَ لك بعدِي، وعن عُمر بنِ ذَرٍّ أنه كانَ يقول: اعملوا لأنفسكم رحمكمُ الله في هذا الليلِ وسوادِهِ، فإنَّ المغبُونَ منْ غُبِنَ خيرَ اللَّيلِ والنَّهارِ، والمحرومَ منْ حُرمَ خيرَهما. إنَّما جُعِلا سبيلاً للمؤمنينَ إلى طاعةِ ربِّهم، ووبالاً على الآخرين للغَفْلة عن أنفسِهِم، فأحيُوا للَّهِ أنفسكُم بذكر، فإنَّما تحيا القلوبُ بذكرِ اللَّه عزَّ وجلَّ. عن أبي موسى - رضي الله عنه -، قال: قالَ رسولُ اللَّه - صلى الله عليه وسلم -: "مثلُ الذي يذكرُ ربَّهُ والذي لا يذكرُ ربَّه، مثلُ الحيِّ والميِّتِ ". كم من قائم للَّه في هذا الليل قد اغْتبَطَ بقيامِهِ في ظُلمة حُفرتِهِ، وكم من نائم في هذا الليلِ قد ندِم عَلى طُول نومِهِ، عندما يرى من كرامةِ اللَّه عزَّ وجلَّ للعابدينَ غدًا. فاغتنمُوا ممرَّ السَّاعاتِ والليالي والأيامِ، رحمكم اللَّهُ. وعن داودَ الطائيِّ أنَّه قال: إنَّما اللَّيلُ والنَّهارُ مراحلُ، ينزلُها الناسُ مرْحلةً مرْحلةً، حتى ينتهي بهم ذلك إلى آخر سفرهم، فإن استطعتَ أن تُقدِّمَ في كلِّ مرْحلةٍ زادًا لما بين يديْها فافْعَلْ، فإنَّ انقطاعَ السفرِ عن قريبٍ ما هو. والأمرُ أعجلُ من ذلكَ. فتزوَّدْ لسفرِكَ واقضِ ما أنتَ قاضٍ من أمركَ فكأنَّك بالأمرِ قد بغَتَكَ. قال ابنُ أبي الدنيا: وأنشدنا محمودُ بن الحسين: مضى أمسُك الماضِي شهيدًا مُعدَّلاً. . . وأعقبَهُ يومٌ عليك جديدُ فيومُك إن أغنيتَهُ عادَ نفعُهُ. . . عليكَ وماضي الأمسِ ليس يعودُ

فإنْ كُنت بالأمسِ اقْترفْتَ إساءةً. . . فثن بإحْسان وأنت حميدُ فلا تُرْج فعلَ الخيرِ يومًا إلى غد. . . لعل غدًا يأتي وأنتَ فقيدُ وفي "تفسيرِ عبدِ بنِ حُميدٍ" وغيرِه من التفاسيرِ المسندةِ عن الحسنِ في قولِ اللَّهِ عزَّ وجلَّ: (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا (62) . قال: منْ عجزَ بالليل كان له في أولِ النهارِ مُسْتَعْتبٌ. ومنْ عجزَ عن النَهارِ، كان له في الليل مستعتبٌ. وعن قتادةَ قال: إنَّ المؤمن قد ينسى بالليل ويذكُرُ بالنهارِ، وينسى النهار ويذكرُ بالليلِ. قال: وجاء رجلٌ إلى سلْمان الفارسي، قال: إني لا أستطيع قيامَ الليل. قال له: فلا تعجِزْ بالنَهارِ. قال قتادةُ: فأدُّوا إلى اللَّه من أعمالِكُم خيرًا في هذا الليلِ والنَّهارِ. فإنَّهما مطيَّتانِ تُقْحمانِ الناسَ إلى آجالِهِم، يقرِّبان كلَّ بعيد، ويُبْليان كُلَّ جديدٍ، ويجيئانِ بكلِّ موعودٍ، إلى يومِ القيامةِ. َ * * * وأمَّا الصبرُ، فإنه ضياءٌ، والضياءُ: هو النورُ الذي يحصلُ فيه نوعُ حرارةٍ وإشراقٍ كضياءِ الشمسِ بخلافِ القمرِ، فإنَه نور محضٌ، فيه إشراقٌ بغيرِ إحراقٍ، قال اللَّهُ عزَّ وجلَّ: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا) . ومن هنا وصفَ اللَهُ شريعة موسى بأنها ضياءٌ، كما قال: (وَلَقَد آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِّلْمُتَقِينَ) ، وإن كان قد ذكرَ أن في التوراةِ نورًا، كما قال: (إِنَا أَنزَلْنَا التَوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ) . لكن الغالبَ على شريعتِهِم الضياءُ لما فيه منَ الآصارِ والأغلالِ والأثقالِ.

قوله تعالى: (إن الذين لا يرجون لقاءنا ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها والذين هم عن آياتنا غافلون (7)

ووصفَ شريعةَ محمَدٍ - صلى الله عليه وسلم - بأنها نور لما فيها من الحنيفيَّةِ السمحةِ، قال تعالى: (قَدْ جَاءَكم مِّنَ اللهِ نور وَكتَابٌ مُبِينٌ) . وقال: (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (157) . ولما كان الصبرُ شاقًا على النفوسِ، يحتاجُ إلى مجاهدةِ النفسِ، وحبسِها. وكفِّها عمَّا تهواهُ، كان ضِياءً، فإنَّ معنى الصَّبرِ في اللغةِ: الحبسُ، ومنه: قتْلُ الصبرِ؛ وهو أن يُحبَسَ الرَّجلُ حتى يقتل. * * * قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ (7) أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (8) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (9) دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (10) وانقسم بنو آدمَ في الدنيا إلى قسمينِ: أحدهما: من أنكرَ أن يكونَ للعبادِ بعدَ الدَّنيا دار للثوابِ والعقابِ، وهؤلاءِ هم الذين قال اللَّهُ فيهم: (إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ (7) أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (8) .

وهؤلاءِ همُّهمُ التمتُع بالدنيا، واغتنامُ لذاتها قبلَ الموتِ، كما قال اللَّهُ تعالى: (وَالَّذِينَ كَفَروا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأكُلُونَ كَمَا تَاْكلُ الأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثوًى لَّهمْ) . ومن هؤلاءِ منْ كانَ يأمرُ بالزُّهد في الدنيا، لأنَّه يرى أنَّ الاستكثارَ منها يُوجِبُ الهمَّ والغمَّ، ويقولُ: كلَّما كثُرَ التعلُّقُ بها تألَّمتِ النَّفسُ بمفارقتِها عندَ الموتِ، فكان هذا غايةَ زُهدهم في الدنيا. والقسم الثاني: من يُقِرُّ بدارٍ بعد الموتِ للثوابِ والعقابِ، وهم المنتسبونَ إلى شرائع المرسلينَ، وهم منقسمونَ إلى ثلاثةِ أقسامٍ: ظالمٌ لنفسِهِ، ومقتصدٌ. وسابق بالخيراتِ بإذنِ اللهِ. فالظالم لنفسهِ: هم الأكثرونَ منهُم، وأكثرُهم وقفَ مع زهرةِ الدنيا وزينتِها، فأخذَها من غيرِ وجهِها، واستعمَلَها في غيرِ وجهِهَا، وصارتِ الدنيا أكبرَ همِّه، لها يغضبُ، وبها يرضَى، ولها يُوالي، وعليها يُعادِي، وهؤلاءِ هم أهلُ اللَّهوِ واللَّعبِ والزِّينةِ والتَّفاخرِ والتَّكاثرِ، وكلُّهم لم يعرفِ المقصودَ من الدنيا ولا أنها منزلُ سفرٍ يتزوَّدُ منها لما بعدَها منْ دارِ الإقامةِ، وإن كانَ أحدُهم يؤمن بذلك إيمانًا مجمَلاً فهُوَ لا يعرفُه مفصَّلاً، ولا ذاقَ ما ذاقَهُ أهلُ المعرفة باللَّهِ في الدَّنيا ممَّا هو أنموذجُ ما ادَّخرَ لهم في الآخرة. والمقتصدُ منهم: أخذَ الدنيا منْ وجوهِهَا المباحةِ، وأدَّى واجباتِهَا، وأمسَكَ لنفسِهِ الزَّائدَ على الواجبِ يتوسَّعُ به في التمتع بشهواتِ الدنيا، وهؤلاءِ قد اختُلفَ في دخولِهِم في اسم الزهادة في الدنيا كما سبق ذكرُهُ، ولا عقابَ عليهم في ذلكَ، إلا أنه ينقصُ من درجاتِهِم من الآخرةِ بقدرِ توسُّعهم في الدنيا.

قال ابنُ عمرَ: لا يصيبُ عبدٌ من الدنيا شيئًا إلا نقصَ من درجاتِهِ عندَ اللهِ، وإن كان عليه كريمًا. خرَّجه ابنُ أبي الدنيا بإسنادٍ جيدٍ. وروي مرفوعًا من حديثِ عائشةَ بإسنادٍ فيه نظر. وروى الإمامُ أحمدُ في كتابِ "الزهدِ" بإسنادِهِ: أنَّ رجلاً دخل عَلى معاويةَ فكساهُ، فخرجَ فمر على أبي مسعود الأنصاريَ ورجلٍ آخرَ من الصَّحابةِ. فقالَ أحدُهُما له: خذها منْ حسناتِك، وقال الآخرُ: من طيِّباتِك. وبإسنادِهِ عن عمرَ قال: لولا أن تنقصَ حسناتِي لخالطتكم في لِين عَيْشِكُم، ولكنِّي سمعتُ اللَّهَ عيَرَ قومًا فقال: (أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُم الدُّنْيَا) . وقال الفُضيلُ بنُ عياضٍ: إن شئتَ استقلَّ من الدُّنيا، وإن شئتَ استكثرْ منها، فإنَّما تأخُذُ من كِيسكَ. ويشهد لهذا أنَّ اللَّهَ عزَّ وجلَّ حرَّم عَلى عبادِهِ أشياءَ من فضولِ شهواتِ الدنيا وزينتِهَا وبهجتِهَا، حيثُ لم يكونُوا محتاجينَ إليه، وادَّخره لهم عندَهُ في الآخرةِ، وقد وقعتِ الإشارةُ إلى هذا بقولِهِ عزَّ وجلًّ: (وَلَوْلا أَن يَكونَ النَّاس أُمَّةً وَاحِدَةً لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِن فِضَّةٍ) إلى قولِهِْ (وإِن كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالآخِرَةُ عِندَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ) . وصحَّ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال: "منْ لَبِسَ الحريرَ في الدُّنيا لم يلبسْه في الآخرةِ". ومن شرِبَ الخمرَ في الدنيا لم يشربْها في الآخرةِ"،

وقال: " لا تلبَسوا الحريرَ ولا الدِّيباجَ، ولا تشربوا في آنية الذهب والفضَّةِ، ولا تأكلُوا في صحافِها، فإنَّها لهم في الدنيا، ولكم في الآخرةِ". وقال وهبٌ: إنَّ اللَّهَ عزَّ وجلَّ قال لموسى - عليه السلامُ -: إنِّي لأذودُ أوليائِي عن نعيم الدُّنيا ورخائِها كما يذودُ الرَّاعِي الشفيقُ إبِلَه عن مباركِ العُرَّةِ، وما ذلكَ لهوانِهِم عليَّ، ولكن ليستكملُوا نصيبَهُم من كرامتِي سالمًا موفرًا لم تكْلَمْهُ الدنيا. ويشهد لهذا ما خرَّجه الترمذيُّ عن قتادةَ بنِ النُّعمانِ، عنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن اللَّهَ إذا أحبَّ عبدًا حماهُ الدَّنيا، كما يَظَلُّ أحدُكُم يحمي سقيمَه الماءَ". وخرَّجه الحاكمُ، ولفظُهُ: "إنَّ الله ليحمي عبدَهُ الدُّنيا وهو يحبُّه، كما تحمُونَ مريضَكم الطعامَ والشرابَ، تخافونَ عليه ". وفي "صحيح مسلم " عن عبدِ اللَّهِ بنِ عمرٍو عنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: "الدنيا سجنُ المؤمنِ وجنَّةُ الكافرِ". وأمَّا السَّابقُ بالخيراتِ بإذنِ اللَّهِ: فهم الذين فهِمُوا المرادَ من الدنيا، وعمِلُوا بمقتضى ذلكَ، فعلِمُوا أنَّ اللَّهَ إنَّما أسكَنَ عبادَهُ في هذه الدَّارِ، ليبلُوهم أيُّهم أحسنُ عملاً، كما قال: (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا) ،

قوله تعالى: (للذين أحسنوا الحسنى وزيادة)

وقال: (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا) . قال بعضُ السلفِ: أيهم أزهدُ في الدنيا، وأرغبُ في الآخرةِ، وجعل ما في الدنيا من البهجةِ والنُضرةِ محنةً لينظر من يقفُ منهم معه، ويرْكَنُ إليه. ومن ليسَ كذلك، كما قال تعالى: (إِئا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لنَبْلُوَهُمْ أَيّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) ، ثمَّ بيّن انقطاعَهُ ونفادَهُ، فقال: (وَإِنَّا لَجَاعِلونَ مَا عَلَيهَا صَعِيدًا جُرُزًا) ، فلمَّا فهِمُوا أنَّ هذا هو المقصودُ من الدنيا، جعلُوا همَّهم التزودَ منها للآخرةِ التي هي دارُ القرارِ، واكتفُوا منَ الدنيا بما يكتفِي به المسافرُ في سفر، كما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: "ما لي وللدنيا، إنما مثلي ومثلُ الدُّنيا كرَاكبٍ قالَ في ظِلِّ شجرةٍ، ثم راحَ وترَكها". ووصَّى - صلى الله عليه وسلم - جماعةً من الصحابةِ أن يكونَ بلاغُ أحدِهم من الدنيا كزادِ الراكبِ، منهم: سلمانُ، وأبو عُبيدةَ بنُ الجراح، وأبو ذرٍّ، وعائشةُ، ووصَّى ابنَ عمرَ أن يكون في الدنيا كأنه غريب أو عابر سبيل، وأن يعُدَ نفسَهُ من أهلِ القبورِ. * * * قوله تعالى: (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ) قوله - صلى الله عليه وسلم - بعد هذا: "وأسألُك لذة النظرِ إلى وجهِكَ والشوقَ إلى لقاتِكَ من غيرِ ضراءَ مضرة ولا فتنة مضلة".

فهذا يشتملُ على أعْلَى نعيم المؤمنِ في الدنيا والآخرةِ، وأطيبِ عيشٍ لهم في الدارين. فأمَّا لذَّةُ النظرِ إلى وجهِ اللَّهِ عزَّ وجلَّ: فإنَّه أعْلَى نعيم أهلِ الجنةِ، وأعظمُ لذَّة لهم، كما في "صحيح مسلم " عن صُهيبٍ، عنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا دخلَ أهلُ الجنةِ الجنةَ نادى المُنادي: يا أهلَ الجنةِ إنَّ لكم عندَ اللَّهِ موعدًا يُريد أن يُنجزَهُ، فيقولونَ: ما هو؟ ألم يبيِّض وجوهَنا ألمْ يثقلْ موازيننَا ألم يُدخِلنا الجنةَ ألم يُجِرْنَا من النارِ؟ قال: فيكشفُ الحجابَ فينظرونَ إليه، فوالله ما أعطاهُم شيئا هو أحبُّ إليهِم من النظرِ إليه، وهو الزيادةُ"، ثم تلا رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - هذه الآية: (لِّلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ) . وفي رواية لابن ماجة وغيرِه، في هذا الحديث: "فوالله ما أعطاهُم شيئًا هو أحبُّ إليهِم ولا أقر لأعينِهِم من النظرِ إليهِ ". وخرَّج عثمانُ الدارمي، من حديثِ ابنِ عمرَ، مرفوعًا: "إنَّ أهلَ الجنةِ إذا بلغَ بهم النَّعيمُ كلَّ مبلغٍ فظنوا أنَّه لا نعيمَ أفضلَ منه، تجلَّى الربُّ تباركَ وتعالى عليهم، فينظرونَ إلى وجهِ الرحمن، فنسُوا كلَّ نعيم عاينُوه حين نظرُوا إلى وجهِ الرحمن ". وخرَّجه الدارقطنيُّ بنقصان منه وزيادة، وفيه: "فيقولُ: "يا أهل الجنةِ هلِّلوني وكبِّرونِي وسبِّحُوني، كما كنتُم تُهلِّلُوني وتكبرونِي وتسبِّحُوني في دارِ الدنيا، فيتجاوبونَ بتهليلِ الرحمنِ، فيقولُ اللَهُ تبارك وتعالى لداودَ عليه السلامُ: يا داودُ مجّدْني فيقومُ داودُ فيمجدُ ربَّه عزَّ وجلَّ ".

وفي "سننِ ابنِ ماجةَ " عن جابرٍ، مرفوعًا: "بينا أهلُ الجنةِ في نعيمِهِم إذْ سطَعَ لهم نور فإذا الربُّ جلَّ جلالُه قدْ أشرفَ عليهم، فقالَ: السلامُ عليكُم يا أهلَ الجنةِ، وهو قولُهُ تعالى: (سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ (58) . فلا يلتفتونَ إلى شيءٍ مما هُم فيه من النعيم ما دامُوا ينظرونَ إليه ". وخرَّج البيهقيُّ من حديثِ جابرٍ، مرفوعًا: "إنَ أهلَ الجنةِ يزورونَ - ربَّهم تعالى على نجائبَ من ياقوت أحمرَ أزمَّتها منْ زُمُردٍ أخضرَ، فيأمرُ اللَّهُ بكُثبانٍ من مسكٍ أذفرَ أبيضَ فتُثيرُ عليها ريحًا يقال لها: المثيرةُ، حتى تنتهِي بهِم إلى جنةِ عدنٍ وهي قصبة الجنةِ، فتقولُ الملائكةُ: ربَّنا جاء القومُ، فيقولُ: مرحبًا بالصادقينَ مرحبًا بالطائعينَ، قال: فيكشفُ لهم الحجابُ، فنيظرونَ إليه ويتمتَّعونَ بنورِهِ حتَى لا يُبصرُ بعضُهم بعضًا ثم يقولُ: ارجعُوا إلى القُصورِ بالتحفِ، فيرجعونَ وقد أبصرَ بعضُهم بعضًا، فذلكَ قولُهُ تعالى: (نُزُلاً مِّنْ غَفُورٍ رحِيمٍ) ". وفي "مسندِ البزارِ" من حديثِ حذيفةَ مرفُوعًا في حديثِ يومِ المزيدِ: "أنَّ اللهَ يكشفُ تلكَ الحُجُبَ ويتجلَّى لهُم، فيغشَاهُم من نورِه ما لولا أنَ اللَّه تَعالى قضى أنْ لا يحترقوا لاحترقُوا، ومِمَّا غشيَهُم من نور، فيرجعونَ إلى منازِلِهم وقد خفوا على أزواجِهِم ما غشيَهُم من نورِهِ، فإذا صارُوا إلى منازِلهِم تراد النورُ وأمكن وتراد وأمكن، حتى يرجعوا إلى صُورِهِم التي كانُوا عليْهَا". ويُروى من حديثِ أنسٍ، مرفوعًا: "إنَّ اللَّهَ يقولُ لأهلِ الجنةِ إذا استزارهم وتجلَّى لهُم: سلامٌ عليكُم يا عبادِي، انظرُوا إليَّ فقدْ رضيتُ عنكُم، فيقولونَ: سبحانَك

سبحانَك، فتتصدعُ له مدائنُ الجنةِ وقصورُها ويتجاوبُ فصولُ شجرِها، وأنهارِها وجميع ما فيها: سبحانك سبحانك، فاحتقرُوا الجنَّةَ وجميعَ ما فيها، حين نظرُوا إلى وجهِ اللَّهِ تعالى". ويُروى من حديثِ عليٍّ، مرفوعًا: "إنَّ اللَّهَ يتجلَّى لأهلِ الجنةِ عن وجهِهِ. فكأنَّهُم لم يروا نعمةً قبلَ ذلك، وهو قولُه: (وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ) ". ويُروى من حديثِ أبي جعفرٍ مُرسلاً: "إنَّ أهلَ الجنةِ إذا زارُوا ربَّهم تعالى وكشفَ لهم عن وجهِهِ، قالُوا: ربَّنا أنتَ السلامُ ومنكَ السلامُ وبكَ حقُّ الجلالِ والإكرام، فيقولُ تعالى: مرحبًا بعبادِي الذين حفظوا وصيَّثتي ورَاعُوا عهدِي وخافُوني بالغيبِ، وكانُوا منِّي على كلِّ حال مُشفقينَ. فقالُوا: وعزَّتِكَ، وعظمتِكَ وجلالِكَ ما قدرْنَاكَ حقَّ قدرِكَ، وما أدَّيْنا إليكَ كلَّ حقِّكَ، فأذنْ لنا بالسجودِ لك، فيقول لهُم عزَّ وجلَّ: إنِّي قد وضعتُ عنكُم مؤنةَ العبادةِ، وأرحتُ لكُم أبدانَكُم، فطالمَا أنصبتُم لي الأبدانَ، وأعنيتم الوجوهَ، فالآنَ أفضيتُم إلى رَوحِي ورحمتِي وكرامتِي، فسلُونِي ما شئتُم وتمنَّوا عليَّ أُعطِكُم أمانيكُم، فإني لم أجزْكُمُ اليومَ بقدرِ أعمالِكُم، ولكن بقدرِ رحمتِي وكرامتِي، فما يزالونَ في الأمانيِّ والعطايا والمواهبِ، حتى إنَّ المقصّرَ منهم في أُمْنِيَّتِهِ ليتمنَّى مثلَ جميع الدنيا منذ خَلقَهَا اللَّهُ إلى أنْ أفناها، فيقولُ لهم الربُّ تباركَ وتعالى: لقد قصَّرتم في أمانيِّكُم ورضيتُم بدونِ ما يحقُّ لكُم، فقد أوجبتُ لكم ما سألتُم وتمنيتُم، وألحقتُ بكم ذريتَكُم وزِدتُكُم ما قصرَتْ عنه أمانيُّكُم ". قال عبدُ الرحمنِ بنُ أبي ليلى: إذا تجلَّى لهم ربُّهم لا يكونُ ما أعطوا عند ذلك بشيءٍ.

قال الحسنُ: إذا تجلَّى لأهلِ الجنةِ نسوا كلَّ نعيم الجنَّةِ. وكان يقولُ: لو علمَ العابدونَ أنَّهم لا يرونَ ربَّهم في الآخرةِ لماتَوا. وقال: إنَّ أحباءَ اللَّهِ هم الذينَ ورِثُوا طيبَ الحياةِ وذاقُوا نعيمَها بما وصلُوا إليه من مُناجاةِ حبيبِهِم، وبما وجدُوا من حلاوةِ حبّه في قلوبِهِم، لا سيما إذا خطر على بالِهِم ذكرُ مشافهتِهِ، وكشفُ ستورِ الحُجُبِ عنه في المقامِ الأمينِ والسرورِ، وأراهُم جلالَهُ وأسمعَهُم لذَّةَ كلامِهِ ورد جواب ما ناجوه به أيامَ حياتِهِم: أملِي أن أراك يومًا من الدهرِ. . . فأشكُو لكَ الهوى والغلِيلا وأناجيكَ من قربٍ وأُبْدِي. . . هذا الجَوى وهذا النُّحُولا قال وهبٌ: لو خُيِّرتُ بين الرؤيةِ والجنةِ لاخترتُ الرؤيةَ. رؤي بِشرٌ في المنامِ، فسُئلَ عن حالِهِ وحالِ إخوانِهِ، فقالَ: تركتُ فلانًا وفلانًا ما بين يدي اللَّه يأكلانِ ويشربانِ ويتنعَّمانِ، قيل له: فأنتَ. قال: علِمَ قلَّةَ رغبتِي في الطعامِ وأباحَنِي النظرَ إليه. يا حبيبَ القلوبِ ما لي سواكَ ارحم اليومَ مذنبًا قد أتاكَا أنتَ سُؤْلِي ومنيتِي وسُرورِي. . . طالَ شوقِي متى يكونُ لقاكَا ليس سُؤْلِي من الجنانِ نعيمٌ. . . غيرَ أني أريدُهَا لأراكَا قال ذو النونِ: ما طابتِ الدنيا إلا بذكره، ولا طابتِ الآخرةُ إلا بعفوه. ولا طابتِ الجنةُ إلا برؤيتِهِ، ولو أنَّ اللَّه احتجبَ عن أهلِ الجنةِ لاستغاث أهلُ الجنةِ من الجنةِ كما يستغيثُ أهلُ النارِ من النارِ.

كان بعضُ الصالحينَ، يقولُ: ليت ربِّي جعلَ ثوابي من عمَلِي نظرةً إليه ثم يقولُ: كُنْ تُرابًا. كان عليٌّ بنُ الموفقِ، يقولُ: اللَّهُمَّ إنْ كُنتَ تعلمُ أنِّي أعبدُكَ خوفًا من نارِكَ فعذِّبْني بها، وإنْ كنتَ تعلمُ أنَي أعبدُكَ حبًّا لجنَّتِكَ فاحرمْنِيها، وإنْ كنتَ تعلمُ أنَّما عبدتُك حبًّا مِنِّي لكَ وشوقًا إلى وجهِكِ الكريمِ فأبحنيهِ واصنعْ بي ما شئتَ. سمعَ بعضُهم قائلاً يقولُ: كبُرت همة عبدٍ طمعتْ في أنْ تراكَا. . . أو ما حسبتَ أنْ ترى من رأكَا ثم شهق شهقةً فماتَ. لما غلبَ الشوقُ على قلوبِ المُحبِّينَ استروحُوا إلى مثل هذه الكلماتِ، وما تُخفِي صدُورُهم أكبرُ. تجاسرتُ فكاشفْتُكَ لمَّا غلبَ الصبرُ. . . فإنْ عنفني الناسُ ففي وجهِكَ لي عذرُ أبصارُ المُحبين قد غضَّت من الدنيا والآخرةِ، فلم تفتح إلا عند مشاهدةِ محبوبِهِم يومَ المزيدِ. أروحُ وقد ختمتَ على فؤادي. . . بحبِّك أنْ يحل به سواكَا فلو أنِّي استطعتُ غضضتُ طَرْفِي. . . فلم أنظرْ به حتَّى أراكَا أحبُّكَ لاببعضِي بلْ بكُلِّي. . . وإنْ لم يُبقِ حبُّكَ لي حِرَاكَا وفي الأحبابِ مخصوصٌ بوجدٍ. . . وآخرُ يدَّعِي معي اشترَاكَا إذا اشتبكتْ دموعِي في خدودِي. . . تبيَّن من بكَى ممَّن تباكَا فأمَّا من بكَى فيذوبَ وجْدًا. . . وينطقُ بالهوى من قد تشَاكَا

كان سُمنونُ المُحبُّ يُنشدُ: وكان فؤادِي خاليًا قبل حُبكُمُ. . . وكان بذكرِ الخلقِ يلهُو ويمرحُ فلمَّا دعَا قلبِي هواكَ أجابَهُ. . . فلستُ أراهُ عن فِنائِكَ يبرحُ رُميت ببعدٍ عنكَ إنْ كنتُ كاذبًا. . . وإن كنتُ في الدنيا بغيرِك أفرحُ وإنْ كان شيءٌ بالبلادِ بأسرِهَا. . . إذا غبتَ عن عينِي لعيني يملحُ فإنْ شئَتَ واصِلْني وإنْ شئت لا تصِل. . . فلستُ أرى قلبِي لغيرِكَ يصلُح * * *

سورة هود

سُورَةُ هُودٍ قوله تعالى: (أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلَا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (5) وخرَّج البخاريُّ في "تفسيره" عن ابنِ عباس: في قولِهِ تعالى. (أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ) : إنها نزلت فَي قومٍ كانُوا يجامعونَ نساءَهم، ويتخلون، فيستحيونَ من اللَّهِ، فنزلتِ الآيةُ. وكان الصِّدِّيقُ يقولُ: استحيُوا من اللَّهِ، فإني أذهبُ إلى الغائط فأظلُّ متقنعًا بثوبي حياءً من ربي عزَّ وجلَّ. وكان أبو موسى إذا اغتسلَ في بيتٍ مظلم، لا يقيمُ صُلْبَه، حياءً من اللَّهِ عزَّ وجل. قال بعضُ السلفِ: خَفِ اللهَ على قدرِ قدرتِهِ عليكَ، واسْتَح منه على قدر قُربه منك. وقد يتولدُ الحياءُ من اللَّهِ من مطالعةِ النِّعَم، فيستحيي العبدُ من اللَّهِ أنْ يستعينَ بنعمتِهِ على معاصِيه، فهذا كلُّه من أعْلى خصالِ الإيمانِ. * * *

قوله تعالى: (وهو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء ليبلوكم أيكم أحسن عملا)

قوله تعالى: (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا) وقولُهُ - صلى الله عليه وسلم - لأبي هريرةَ لمَّا سأله: ممَّ خُلِقَ الخَلْقُ؟ فقال لهُ: "من الماءِ"، يدُل على أن الماءَ أصلُ جميع المخلوقاتِ ومادّتها. وجميعُ المخلوقاتِ خُلِقَتْ منه. وفي "المسندِ" من وجهٍ آخرَ عن أبي هريرةَ رضي اللَّهُ عنه، قالَ: قلْتُ: يا رسول اللهِ، إذا رأيتُك طابَتْ نفسِي وقرت عيني، فأنبئني عن كل شيءٍ. فقال: "كُل شيء خُلِقَ من ماء". وقد حكى ابنُ جريرٍ وغيرُه، عن ابنِ مسعودٍ - رضي الله عنه -، وطائفةٍ من السَّلفِ: أنَّ أوَلَ المخلوقاتِ الماءُ. وروى الجُوزَجانيُّ بإسنادِهِ عن عبدِ اللَّهِ بنِ عمرٍو أنَه سئلَ عن بدءِ الخلْقِ. فقال: من ترابٍ، وماءٍ، وطينٍ، ومن نارٍ، وظلمةٍ. فقيل له: فما بدءُ الخلْقِ الذي ذكرْتَ؟ قال: مِن ماءٍ يَنْبُوع. وقد أخبرَ اللَّهُ تعالى في كتابِهِ أنَّ الماءَ كان موجودًا قبلَ خلْقِ السماواتِ والأرضِ، فقال تعالى: (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ) . وفي "صحيح البخاريِّ " عن عِمْرانَ بنِ حُصين، عنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "كانَ اللهُ ولم يكنْ شيء قبلَهُ - وفي رواية - "معه "، (وكان عرشُهُ على الماءِ، وكتبَ في الذكرِ كلَّ شيء ثم خلقَ السماواتِ والأرضَ ".

وفي "صحيح مسلم " عن عبدِ اللَّهِ بنِ عمرٍو، عنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "إنَّ اللَّه قدَّرَ مقاديرَ الخلاِئقِ قبْلَ أن يخلقَ السماوات والأرضَ بخمسينَ ألفَ سنة، وكان عرشُهُ على الماءِ". َ وروى ابنُ جريرٍ، وغيرُه عن ابنِ عباسٍ: إنَّ اللَّه عزَّ وجلَّ كان عرشُهُ على الماءِ ولم يخلقْ شيئًا غيرَ ما خلقَ قبلَ الماءِ، فلمَّا أرادَ أنْ يخلُقَ الخلْقَ أخرجَ من الماءِ دُخانًا فارتفعَ فوقَ الماءِ، فسمَا عليه فسُمِّيَ سماءً، ثمَّ أيبسَ الماءَ فجعلَهُ أرضًا واحدةً، ثم فتقَها فجعلهَا سبْعَ أرضينَ، ثم اسْتَوى إلى السَّماءِ وهي دُخانٌ، وكان ذلك الدُّخانُ من نفَسِ الماءِ حين تنفَّسَ، ثم جعلَها سماءً واحدةً، ثم فتقها فجعلَها سبع سماواتٍ. وعن وهْبٍ: إنَّ العرشَ كان قبل أن تُخلقَ السماواتُ والأرضُ على الماءِ. فلمَّا أراد اللَّهُ أن يخلُقَ السماواتِ والأرضَ قبضَ من صفاءِ الماء قبضةً، ثم فتح القبضةَ فارتفعَتْ دُخانًا، ثم قضاهُنَّ سبْعَ سمواتٍ في يومينِ، ثم أخذَ طينةً من الماءِ فوضعها في مكانِ البيت، ثم دحا الأرص منها. وقال بعضُهم: خلقَ اللَّهُ الأرضَ أولاً، ثم خلقَ السماءَ، ثم دحا الأرضَ بعدَ أن خلقَ السماءَ. وقيل: خلقَ اللَّهُ تعالى زمردةً خضراءَ كغلظِ السماواتِ والأرضِ، ثم نظرَ إليها نظرَ العظمةِ، فانْماعَتْ، يعني ذابتْ فصارتْ ماءً، فمن ثمَّ يُرى الماءُ دائمًا يتحرَّك من تلكَ الهيبةِ. ثم إنَّ اللَّهَ تعالى رفعَ من البحرِ بخارًا، وهو الدُّخانِ الذي ذكره في قولِهِ: (ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ) ، فخلقَ السماءَ من الدُّخان،

وخلقَ الأرضَ من الماءِ، والجبالَ من موج الماء، وقال وهْب: أوَّلُ ما خلقَ اللهُ تعالى مكانًا مظلِمًا، ثم خلقَ جوهرةً فأضاَءتْ ذلكَ المكانَ، ثم نظر إلى الجوهرةِ نظرةَ الهيبةِ فصارتْ ماءً، فارتفعَ بخارُها وزَبَدُها، فخلقَ من البخارِ السماواتِ، ومن الزبدِ الأرضينَ. وروى عبدُ اللَّهِ بنُ عمرٍو، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "إن اللَّهَ عزَّ وجلَّ خلقَ خلقَهُ من ظُلمَة، ثم ألقى عليهِم من نور، فمن أصابَهُ يومئذ من ذلكَ النُّورِ اهْتَدَى، ومن أخطأهُ ضلَّ ". وقال عمرُ بنُ الخطابِ - رضي الله عنه - لكعبِ الأحبارِ: ما أوَّلُ شيءٍ ابتدأَ تعالى من خلقِهِ؟ قال كعبٌ: كتبَ اللَّهُ كتابًا لم يكتبْه قلمٌ ولا دواة، أي مداد، كتابَهُ الزَّبرجدُ واللؤلؤ والياقوتُ: إنني أنا اللَّهُ لا إله إلا أن وحدِي لا شريكَ لِي. وأنَّ محمدًا عبدِي ورسولِي، سبقَتْ رحمتِي غضبِي، قال كعبٌ: فإذا كانَ يومُ القيامةِ أخرج ذلك الكتابَ، فيخرجُ من النارِ مثلي عددِ أهلِ الجنةِ فيدخلهُمُ الجنةَ. وقال سلمانُ وعبدُ اللَّهِ بن عمرٍو: إنَّ للَّه تعالى مائةَ رحمةٍ كما بين السماءِ والأرضِ، فأنزلَ منها رحمةً واحدةً إلى أهلِ الدنيا، فبها يتراحمُ الجن والإنسُ، وطيرُ السماء، وحيتانُ الماءِ، وما بين الهواء، ودوابُّ الأرضِ. وهوامُّها، وادَّخر عنده تسعًا وتسعينَ رحمةً، فإذا كان يومُ القيامةِ أنزلَ تلكَ الرحمةَ إلى ما عنده فيرحمُ عبادَهُ، والآثارُ في هذا البابِ كثيرةٌ، وهذا كلُّه يُبيِّنُ أنَّ السماواتِ والأرضَ خُلِقت من الماءِ، والخلافُ في أنَّ الماءَ هل هو أوَّلُ

المخلوقاتِ أم لا مشهورٌ، وحديثُ أبي هريرةَ يدُلُّ على أنَّ الماءَ مادَّةُ جميع المخلوقاتِ، وقد دلَّ القرآنُ على أنَّ الماءَ مادةُ جميع الحيواناتِ، قالَ اللَّهُ تعالى: (وَجَعَلْنَا مِنَ المَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ) . وقال تعالى: (واللَّه خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ من مَاءٍ) . وقولُ مَنْ قالَ: إنَّ المرادَ بالماءِ النُّطْفةُ التي يخلَقُ منها الحيواناتُ بعيدٌ لوجهينِ: أحدهما: أنَّ النُّطفَةَ لا تُسمّى ماءً مطلقًا بل مقيَّدًا، لقوله تعالى: (خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ (6) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ (7) . وقوله تعالى (أَلَمْ نَخلقكُم مِّن مَّاءٍ مَّهِينٍ) . والثاني: أن من الحيواناتِ ما يتولَّدُ من غيرِ نُطْفَةٍ، كدودِ الخلِّ، والفاكهةِ ونحوِ ذلك، فليس كل حيوانٍ مخلوقًا من نُطفةٍ، والقرآنُ دلَّ على خَلْقِ جميع ما يدِبُ وما فيه حياةٌ من ماءٍ، فعُلِمَ بذلك أن أصلَ جميعِها الماءُ المطلقُ. ولا ينافي هذا قولَهُ تعالى: (وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ) وقولَ النبي - صلى الله عليه وسلم -: "خُلِقَتِ الملائكةُ من نُور". فإنَّ حديثَ أبي هريرةَ - رضي الله عنه -، دل على أنَّ أصلَ النُّور والنَّارِ الماءُ، كما أن أصلَ التّرابِ الذي خُلِقَ منهُ آدمُ الماءُ، فإنَّ آدمَ خُلِقَ من طينٍ، والطينُ ترابٌ مختلطٌ بماءٍ، والترابُ خُلِقَ من الماءِ كما تقدَّمَ عن ابنِ عباسٍ، وغير، وزعمَ فقاتِلٌ: أنَّ الماءَ خُلِقَ من النُّور، وهو مردودٌ بحديثِ أبي هريرة هذا وغيرهِ، ولا يُستنكَرُ خَلْقُ النَّارِ من الماءِ، فإنَّ اللَّهَ عزَّ وجل جمعَ بقدرته بين الماءِ والنَّارِ في الشَّجرِ

قوله تعالى: (ألا يوم يأتيهم ليس مصروفا عنهم وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون (8)

الأخضَرِ، وجعلَ ذلك من أدلةِ القُدرةِ على البَعْثِ، وذكر الطبائعيونَ: أنَّ الماءَ بانحدارِه يصيرُ بُخارًا، والبخارُ ينقلبُ هواءً، والهواءُ ينقلبُ نارًا، والله أعلم. * * * قوله تعالى: (أَلَا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (8) قالَ تعالى: (أَلَا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ) ، والمرادُ: وقتُ مجيءِ العذابِ، وقد يكونُ ليلاً ويكونُ نهارًا، وقد يستمرُ وقد لا يستمرُ. ويقال: يومُ الجَمَلِ، ويوم صِفِّين، وكل منهما كان عدةَ أيامٍ. * * * قوله تعالى: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (16) وخرَّج مسلمٌ من حديثِ أبي هريرةَ - رضي الله عنه -، سمعتُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: "إنَّ أوَّلَ الناسِ يُقضى يومَ القيامةِ عليه رجل استُشْهِدَ، فأتِي به، فعرَّفه نِعَمَهُ، فعرفَهَا، قال: فما عمِلتَ فيها؟ قال: قاتلتُ فيكَ حتَى استُشْهِدتُ، قال: كذبتَ، ولكنَكَ قاتلتَ، لأنْ يُقالَ: جرِيء، فقد قيل، ثم أُمِرَ به، فسُحِبَ على وجهِهِ، حتى أُلقِيَ في النَّارِ، ورجل تعلَّمَ العلمَ وعلَمَهُ، وقرأ القُرآنَ، فأتِي به، فعرَّفَهُ نِعمَهُ فعرَفَها، قال: فما عملتَ فيها؟ قال: تعلَّمتُ العِلمَ وعلَّمتُه، وقرأتُ فيك القرآنَ، قال: كذبتَ، ولكنَك تعلَّمتَ العلمَ،

ليُقالَ: عالمٌ، وقرأتَ القرآنَ ليُقالَ: قارئ، فقدْ قيلَ، ثمَّ أُمِرَ به، فسُحِبَ على وجهِهِ حتى أُلقيَ في النارِ، ورجلٌ وسَّع اللَّهُ عليه، وأعطاهُ من أصنافِ المالِ كلِّه، فأُتِي به، فعرَّفهَ نِعَمَهُ، فعرَفَها، قالَ: فما عمِلتَ فيها؟ قال: ما تركتُ من سبيلٍ تحبُّ أن يُنفقَ فيها إلا أنفقتُ فِيهَا لك، قالَ: كذبتَ، ولكنَّكَ فعلتَ، ليُقالَ: هو جَواد، فقدْ قيل، ثمَّ أُمِرَ به. فسُحبِ على وجهِهِ حتَّى أُلقيَ في النَّارِ". وفي الحديثِ: أنَّ معاويةَ لما بَلَغَهُ هذا الحديثُ، بكَى حتى غُشي عليه. فلمَّا أفاقَ، قال: صدقَ اللَهُ ورسولُهُ، قال اللَّهُ عزَّ وجلَّ: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ) . وقد وردَ الوعيدُ على تعلُّم العلم لغيرِ وجهِ اللَّهِ، كما خرَّجه الإمامُ أحمدُ وأبو داودَ وابنُ ماجةَ، من حديثِ أبي هريرةَ - رضي الله عنه -، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "منْ تعلَّمَ عِلمًا ممَّا يُبتَغَى به وجْهُ اللَّهِ، لا يتعلَّمُه إلا ليُصيبَ به عرَضًا من الدنيا، لم يَجِدْ عَرْفَ الجنَّةِ يومَ القيامةِ" يعني: ريحَها َ. وخرَّج الترمذيُّ من حديثِ كعبِ بنِ مالكٍ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: "منْ طلَبَ العلمَ ليُمارِي به السُّفهاءَ، أو يُجارِي به العُلمَاءَ، أو يَصرِفَ به وجُوهَ الناسِ إليه، أدخلَهُ اللَّهُ النارَ". وخرَّجه ابنُ ماجهَ بمعناهُ من حديثِ ابنِ عمرَ، وحذيفةَ، وجابرٍ، عنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -

ولفظُ حديثِ جابرٍ: "لا تعلَّموا العِلمَ لتُباهُوا به العُلَماءَ، ولا لتُمارُوا به السُّفهاءَ، ولا تخيَّروا به المجالسَ، فمنْ فعلَ ذلك، فالنَّارَ النَّارَ". وقال ابنُ مسعودٍ: لا تعلَّموا العلمَ لثلاثٍ: لتمارُوا به السفهاءَ، أو لتُجادِلوا به الفُقهاءَ، أو لتصرفُوا له وجُوهَ الناس إليكم، وابتعوا بقولِكُم وفعلِكم ما عندَ اللهِ، فإنَّه يبقى ويذهبُ ما سواهُ. وقد وردَ الوعيدُ على العملِ لغيرِ اللَهِ عمومًا، كما خرَّج الإمام أحمدُ من حديثِ أُبيّ بنِ كعبٍ، عنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: "بَشِّرْ هذه الأمَّةَ بالسَّناءِ والرِّفْعَةِ والدِّينِ والتمكين في الأرض، فمن عمِلَ منهم عملَ الآخرةِ للدّنيا، لم يكنْ له في الآخرةِ من نصيب ". * * * قوله تعالى: (فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (106) قال اللَّهُ تعالى: (لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لا يَسْمَعُونَ) . وقال تعالى: (فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ) . قال الربيعُ بنُ أنسٍ: الزفيرُ في الحلقِ، والشهيقُ في الصدرِ، وقال معمر عن قتادةَ: صوتُ الكافرِ في النارِ مثل صوتِ الحمارِ، أوَلهُ زفير وآخرُهُ شهيقٌ، وقال تعالى: (وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا) .

وفي حديثِ حارثةَ: "وكأنِّي أنظر إلى أهلِ النَّارِ، يتعاوونَ فيها". وروى معاويةُ بنُ صالح عن سليم بنِ عامرِ عن أبي أمامةَ عنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: "رأيتُ رُؤْيا" فذكرَ حديثًا طويلاً وفيه قال: "ثم انطلقْنَا فإذا نحن نَرى دُخانًا ونسمعُ عواء، قلتُ: ما هذا؟ قال: هذه جهنَّمُ " خرَّجه الطبرانيُّ وغيرُه. وروى الأعمشُ عن يزيدَ الرقاشي، عن أنسٍس، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: "يُلقى البُكاءُ على أهلِ النارِ فيبكونَ حتى تنقطعَ الدموعُ، ثم يبكونَ الدمَ حتى يصيرَ في وجوهِهِم كهيئةِ الأخدودِ، ولو أرسلت فيه السفنُ لجرتْ " خرَّجه ابنُ ماجةَ. ورُويَ عن الأعْمش عن عمرِو بنِ مرَّةَ ويزيدَ الرقاشيِّ، عن أنسٍ موقوفًا من قولِهِ. ورواه سعيدُ بنُ سلمةَ عن يزيدَ الرقاشيِّ، قالَ: بلغَنا هذا الكلامُ ولم يسندْهُ ولم يرفعْهُ. وروى سلامُ بنُ مسكينٍ عن قتادةَ عن أبي بردةَ بنِ أبي مُوسى عن أبيه. قالَ: إنَّ أهلَ النَّارِ ليبكونَ الدموعَ في النَارِ حتَّى لو أجريتْ السفنُ في دموعِهِم لجرتْ، ثم إنهم ليبكون بالدمِ بعد الدموع ولمثلِ ما هُم فيه فليُبْكَ. وقال صالحُ المرِّيُّ: بلغنِي أْنهم يصرخونَ في النَّارِ حتى تنقطعَ أصواتُهم فلا يبقى منهم إلا كهيئة الأنينِْ من المدنفِ. وقال ابنُ أبي إسحاقَ عن محمد بنِ كعب: زفرُوا في جهنَّم فزفرتِ النارُ. وشهقوا فشهقتِ النارُ بما استحلوا من محارِمِ اللهِ. قال: والزفير من النفسِ والشهيقُ من البكاءِ. وقال عليٌّ بنُ أبي طلحةَ عن ابنِ عباسٍ في قولِهِ تعالى:

(لَهم فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ) قال: صوت شديد وصوت ضعيفٌ. وروى مالكٌ عن زيدِ بنِ أسلمَ في قولِهِ عزَّ وجلَّ: (سَوَاءٌ عَلَينَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا ما لَنَا مِن مَحِيصٍ) : قال زيد: صبرُوا مائة عامٍ ثم بكَوا مائة عام ثم قالُوا: (سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِن مَحِيصٍ) . وروى الوليدُ بنُ مسلم عن أبي سلمةَ الدوسي - واسمه ثابتُ بنُ شريح - عن سالم بنِ عبدِ اللَّهِ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يدعُو: "اللَّهُمَّ ارزْقني عينينِ هطالتينِ يشفيانِ القلبَ بذروفِ الدموع من خشيتِكَ قبلَ أن يكونَ الدمعُ دمًا والأضراسُ جمرا". سالم بن عبدِ اللهِ هو المحاربي وحديثه مرسل، وظن بعضهم أنه سالمُ بنُ عبد اللَّه بنِ عمرَ، وزادَ بعضُهم في الإسناد: عن أبيه، ولا يصحُّ ذلكَ كلُّه. وروى الوليدُ بنُ مسلم أيضًا عن عبدِ الرحمنِ بنِ يزيدَ بنِ جابرٍ، عن إسماعيلَ بنِ عبيدِ اللَّهِ، قال: إن داودَ - عليه السلامُ -، قالَ: ربِّ ارزقني عينين هطالتينِ يبكيانِ بذروفِ الدموع ويشفياني من خشيتِكَ قبلَ أن يعودَ الدمعُ دمًا والأضراسُ جمرًا، قال: وكان داودُ - عليه السلامُ - يعاتَبُ في كثرةِ البكاءِ، فيقولُ: دعُوني أبْكِي قبلَ يوم البكاءِ، قبل تحريقِ العظامِ واشتعالِ اللِّحى، وقبل أن يأمر بي ملائكةً غلاظا شدادًا لا يعصونَ اللَّهَ ما أمرَهُم ويفعلونَ ما يؤمرونَ. وروى يونسُ بنُ ميسرةَ عن أبي إدريس الخولانيِّ، قالَ: إنَّ داودَ - عليه السلامُ -،

قال: أبكي نفسي قبل يوم البكاءِ، أبكي نفسِي قبلَ أن لا ينفعَ البكاءُ، ثم دعا بجمرٍ فوضًع عليه حتى إذا حرَّهُ رفعها، وقال: أوه لعذابِ اللَّهِ، أوه أوه قبل أن لا ينفع أوه. وروى ثابتُ البناني عنْ صفوانَ بنِ محرزٍ قالَ: كان لداودَ - عليه السلامُ - يومٌ يتأؤَهُ فيه يقول: أوَّه أوَّه من عذابِ اللَّهِ - عزَّ وجلَّ - قبل أن لا ينفعَ أوَّه، قال: فذكرَها صفوانُ ذاتِ يومٍْ في جلسٍ فبكى حتى غلبَهُ البكاءُ، فقامَ. وقال عبدُ اللَّهِ بنُ رياح الأنصاريُّ، سمعتُ كعبًا، يقولُ: (إِنَّ إِبْرَاهيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ) ، قال: كان إذا ذكر النارَ قال: أوَّاه من النارِ أوَّاه من النارِ. وعن أبي الجوزاءِ وعبيدِ بن عميرٍ نحوُ ذلك. وروى ابنُ أبي الدنيا بإسنادٍ له عن رياح القيسى: أنه مرَّ بصبيٍّ يبكي فوقفَ عليه يسأله: ما يبكيك يا بني، وجعلَ الصبيُّ لا يحسنُ يجيبُهُ ولا يردّ عليه شيئًا، فبكى رياحٌ ثم قال ليس لأهلِ النارِ راحةً ولا معول إلا البكاءُ. وجعل يبكي. وبإسنادٍ له آخرَ: أنَّ رياحاً القيسي زارَ قومًا، فبكى صبيٌّ لهم من الليل. فبكى رياحٌ لبكائِهِ حتى أصبح، فسئلَ بعد ذلك عن بكائه، فقال: ذَكر ببكاءِ الصبي بكاءَ أهلِ النارِ في النارِ ليس لهم نصيرٌ، ثم بكى. * * *

قال تعالى: (وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين (114)

قال تعالى: (وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ (114) فإقامةُ الصلواتِ المفروضاتِ على وجهِها يوجبُ مباعدة الذنوبِ. ويوجبَ - أيضًا - إنقاءَها وتطهيرَها، فإنَّ مثل الصلواتِ الخمسِ كمثل نهرٍ جارٍ، يغتسلُ فيه كلَّ يومَ خمسَ مراتٍ، وقد تقدَّم الحديث في ذلكَ. ويوجبُ - أيضًا - تبريدَ الحريقِ الَّذى تكسبه الذنوبُ وإطفاءَه. وخرَّجَ الطبرانيُّ من حديثِ ابنِ مسعود - مرفوعًا: "تحترقون تحترقون حتى إذا صليتُمُ الفجرَ غسلتْهَا، ثم تحترقونَ تحترقون حتى إذا صَلَّيْتُم الظهرَ غسلتَها، ثم تحترقون تحترقونَ حتى إذا صليتُم العصرَ غسلتْها، ثم تحترقون تحترقون فإذا صليتُم المغربَ غسلتْها، ثم تحترقون تحترقون، فإذا صليتُمُ العشاءَ غسلتْها". وقد رُوي موقوفًا، وهو أشبُه. وخرَّج - أيضاً - من حديثِ أنسٍ - مرفوعًا: "إن للَّهِ ملكًا ينادي عندَ كلِّ صلاةٍ: يا بني آدمَ، قومُوا إلى نيرانِكُم التي أوقدتمُوها على أنفسِكُم فأطفئُوها". وخرَّجَ الإسماعيليُّ من حديثِ عمرَ بنِ الخطابِ - مرفوعًا: "يُحْرَقونَ، فإذا صلَّوا الصبحَ غَسلتِ الصلاةُ ما كان قبلها" حتى ذكرَ الصلواتِ الخمسِ. ولما كانتِ الصلاةُ صلةً بين العبدِ وربِّه، وكان المصلِّي يناجِي ربَّه، وربُّه يقرِّبه منه، لم يصلحْ للدخولِ في الصلاةِ إلا منْ كان طاهرًا في ظاهر وباطنِهِ، ولذلك شرعَ للمصلِّي أن يتطهر بالماءِ، فيكفرُ ذنوبَه بالوضوءِ، ثم

يمشي إلى المساجدِ فيكفر ذنوبَه بالمشي، فإنْ بقي من ذنوبِهِ شيءٌ كفرتْه الصلاة. قال سلمانُ الفارسيُّ: الوضوءُ يكفِّر الجراحاتِ الصغارِ، والمشيُ إلى المسجدِ يكفِّر أكثرَ من ذلك، والصلاةُ تكفّر أكثرَ من ذلكَ. خرَّجه محمدُ بنُ نصرُ المروزيُّ وغيرُهُ. فإذا قامَ المصلى بينَ يدي ربِّه في الصلاةِ وشرعَ في مناجاتِهِ له، شُرِعَ أولَ ما يناجي ربَّه أن يسأل ربَّه أن يباعدَ بينه وبين ما يوجِبُ له البعدَ من ربِّه. وهو الذنوبُ، وأن يطهرهَ منها، ليصلحَ حينئذٍ للتقريبِ والمناجاةِ، فيستكملُ فوائدَ الصلاةِ وثمراتِها من المعرفةِ والأنسِ والمحبة والخشيةِ، فتصيرُ صلاتُهُ ناهيةً له عن الفحشاء والمنكر، وهي الصلاةُ النافعة. * * * وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "وأتْبع السيًئةَ الحسنةَ تمْحُها" لما كانَ العبدُ مأمورا بالتقوى في السرِّ والعلانيةِ مع أنَّه لا بدَّ أن يقعَ منه أحيانًا تفريطٌ في التقوى، إما بتركِ بعضِ المأموراتِ، أو بارتكابِ بعضِ المحظوراتِ، فأمرَهُ أن يفعلَ ما يمحُو به هذه السيئةَ وهو أن يتبعَهَا بالحسنةِ، قال اللَّهُ عزَّ وجلَّ: (وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ) . وفي "الصحيحينِ " عن ابنِ مسعودٍ: أنَّ رجلاً أصابَ من امرأةٍ قُبلةً، ثم أتَى النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فذكرَ ذلكَ لهُ، فسكتَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - حتَّى نزلتْ هذه الآية ُ، فدعاهُ

فقرأها عليهِ، فقالَ رجلٌ: هذا له خاصةً؟ قال: "بل للناسِ عامَّة". وقد وصفَ اللَّهُ المتقينَ في كتابِهِ بمثلِ ما وصَّى به النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في هذه الوصيةِ في قولِهِ عزَّ وجلَّ: (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134) وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135) أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (136) . فوصفَ المتقينَ بمعاملةِ الخلقِ بالإحسانِ إليهم بالإنفاق، وكظم الغيظِ. والعفوِ عنهم، فجمعَ بين وصفِهِم ببذلِ النَّدى واحتمالِ الأذى، وهذا هو غايةُ حسنِ الخلقِ الذي وصَّى به النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - لمعاذٍ، ثم وصفَهُم بأنهم: (إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِم) ، ولم يصرُّوا عليها. فدلَّ على أن المتقينَ قد يقَعُ منهم أحيانًا كبائرُ وهي الفواحشُ وصغائرُ وهي ظلمُ النفس، لكنَّهم لا يصرون عليها، بل يذكرونَ اللَّهَ عقِبَ وقوعِهَا، ويستغفرونه ويتوبونَ إليه منها، والتوبةُ: هي تركُ الإصرارِ. ومعنى قولِهِ: (ذَكَرُوا اللَّهَ) ، أي: ذكرُوا عظمتَهُ وشدَّةَ بطشِهِ وانتقامِهِ، وما توعَّد به على المعصيةِ من العقابِ، فيوجبُ ذلك لهم الرجوعَ في الحالِ والاستغفارَ وتركَ الإصرارِ، وقالَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ: (إِنَّ الذِينَ اتَقَوْا إِذَا مَسَهُمْ طَائِفٌ منَ الشَّيْطَانِ تَذَكَرُوا فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ) .

وفي "الصحيحينِ " عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "أذْنبَ عبدٌ ذنبًا، فقالَ: ربَ إنّى عملتُ ذنباً فاغفِرْ لي، فقالَ اللَّهُ: علِمَ عبدِي أنَّ له ربًّا يغفر الذنبَ، ويأخذُ بالذنب، قد غفرتُ لعبدِي، ثم أذنبَ ذنبا آخرَ - إلى أن قال في الرابعةِ -: فليعملْ ما شاء". يعني: ما دامَ على هذه الحال كلَّما أذنبَ ذنبًا استغفر منه. وفي الترمذيِّ من حديث أبي بكرٍ الصدِّيقِ - رضي الله عنه -، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما أصرَ من استغْفَرَ ولو عادَ في اليوم سبعِينَ مرة". وخرَّج الحاكمُ من حديثِ عُقبةَ بن عامرٍ أنَّ رجلاً أتى النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله، أحدُنا يذنبُ، قال: "يُكتبُ عليه "، قال: ثم يستغفرُ منه، قال: "يغفرُ له، ويُتابُ عليه "، قال: فيعودُ فيذنبُ، قال: "يكتبُ عليه " قال: ثم يستغفرُ منه ويتوبُ، قال: "يغفرُ له، ويتاب عليه، ولا يمَلُّ اللَّهُ حنَّى تملُّوا". وخرَّج الطبرانيُّ بإسنادٍ ضعيف عن عائشةَ - رضي الله عنها -، قالتْ: جاء حبيبُ بنُ الحارثِ إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول اللَّهِ، إنِّي رجل مِقْرافٌ للذنوبِ، قال: "فتبْ إلى اللهِ - عزَّ وجلَّ "، قال: أتوبُ، ثم أعود، قال: "فكلما أذنبتَ، فتُبْ "، قال: يا رسول اللَّه إذًا تكثرُ ذنوبي، قال: "فعفو اللَّه أكثرُ من ذنوبكَ يا حبيبَ بنَ الحارثِ ". وخرَّجه بِمعناه من حديثِ أنسٍ مرفوعًا بإسنادٍ ضعيفٍ.

وبإسنادِهِ عن عبدِ اللَّهِ بنِ عمرٍو، قال: من ذكرَ خطيئةً عمِلَها، فوَجِلَ قلبُه منها، واستغفرَ اللَّهَ، لم يحبِسْها شيءٌ حتى يمحَاها. وروى ابنُ أبي الدنيا بإسنادٍ عن عليٍّ، قالَ: خيارُكم كل مُفتَنٍ توَّابٍ. قيلَ: فإن عادَ؟ قال: يستغفرُ اللَّهَ ويتوبُ، قيل: فإن عادَ؟ قال: يستغفرُ اللهَ ويتوبُ، قيل: حتى متى؟ قال: حتى يكونَ الشيطانُ هو المحسورُ. وخرَّج ابنُ ماجةَ من حديثِ ابنِ مسعودٍ مرفوعًا: "التائبُ من الذَّنْبِ كمَنْ لا ذَنبَ لهُ ". وقيلَ للحسنِ: ألا يستحيي أحدُنا من ربِّهِ يستغفرُ من ذنوبِهِ ثم يعودُ، ثم يستغفرُ، ثم يعودُ؟ فقال: ودَّ الشيطانُ لو ظَفِرَ منكُم بهذهِ، فلا تملُّوا من الاستغفارِ. وروي عنه أنه قال: ما أرى هذا إلا من أخلاقِ المؤمنينَ، يعني: أنَّ المؤمن كلَّما أذنبَ تابَ، وقد رُويَ "المؤمنُ مُفَتَّنٌ توَّاب". وروي من حديث جابر بإسناد ضعيف، مرفوعًا: "المؤمنُ واه راقعٌ، فسعيدٌ من هلكَ على رقعِهِ ". وقال عمرُ بنُ عبدِ العزيزِ في خطبتِهِ: من أحسنَ منكُم، فليَحْمَد اللَّهَ. ومن أساء، فليستغفرِ اللهَ، فإنَّه لا بد لأقوامٍ من أن يعملُوا أعمالاً وظَّفها اللَّهُ في رقابِهم، وكتبَها عليهم، وفي رواية أخرى عنه أنَه قال: أيها الناس من ألمَّ بذنبٍ، فليستغفرِ اللَهَ وليتبْ، فإن عَّاَدَ، فليستغفرِ اللَّهَ وليتبْ، فإن عاد،

فليستغفرِ اللَّه وَليتبْ، فإنَّما هي خطايا مطوَّقة في أعناقِ الرجالِ. وإن الهلاكَ كُلَّ الهلاكِ في الإصرارِ عليها. ومعنى هذا: أن العبدَ لا بُدَّ أن يفعلَ ما قُدِّرَ عليه من الذنوبِ كما قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "كُتِبَ على ابنِ آدمَ حظُّهُ من الزِّنى، فهُوَ مُدْركٌ ذلك لا محالة" ولكنَّ اللَّهَ جعلَ للعبدِ مخرجًا مما وقعَ فيه من الذنوبِ، بالتوبةِ والاستعفارِ، فإنْ فعلَ، فقدْ تخلَّصَ من شرِّ الذنوبِ، وإن أصرَّ على الذنوبِ، هلكَ. وفي "المسندِ" من حديثِ عبدِ اللَّهِ بنِ عمرٍو، عنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "ارحَمُوا تُرْحموا واغفِروا يُغْفَرْ لكم، ويل لأقْماع القولِ، ويل للمُصرِّين الذي يُصرون على ما فعلوا وهُم يعلمون ". وفُسِّر أقماعُ القولِ: بمن كانتْ أذناهُ كالقُمع لما يسمعُ من الحكمةِ والموعظةِ الحسنةِ، فإذا دخلَ شيء من ذلكَ في أذنه خرج من الأخرى ولم ينتفع بشيء مما سمعَ. وقولُهُ - صلى الله عليه وسلم -: "أتْبِع السيّئةَ الحسنةَ تمحُها" قد يُرادُ بالحسنة التوبةُ من تلكَ السيئةِ. وقد وردَ ذلك صريحًا في حديثٍ مرسلٍ، خرَّجه ابنُ أبي الدنيا من "مراسيلِ محمدِ بنِ جُبير" أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - لما بعثَ معاذًا إلى اليمن قالَ: "يامعاذُ، اتَقِ اللهَ ما استطعتَ، واعملْ بقوَّتِكَ للَّهِ عزَ وجلَّ ما أطقْتَ، واذكرِ اللَّهَ عزَّ وجلَّ عندَ كل شجرةٍ وحجرٍ، وإنْ أحدثت ذنبًا، فأحدِثْ عندهُ توبةً، إنْ سرًّا فسر وإن علانيةً فعلانية" وخرَّجه أبو نُعيمٍ بمعناهُ من وجه آخرَ ضعيفٍ عن معاذ.

وقال قتادةُ: قال سلمانُ: إذا أسأتَ سيئةً في سريرةٍ، فأحسِن حسنةً في سريرةٍ، وإذا أسأتَ سيئةً في علانيةٍ، فأحسنْ حسنةً في علانية، لكي تكون هذه بهذهِ، وهذا يحتملُ أنه أراد بالحسنة التوبةَ أو أعمَّ منها. وقد أخبر اللَّهُ تعالى في كتابِهِ أن من تابِ من ذنبهِ، فإنه يغفر له ذنبُه أو يتابُ عليه في مواضعَ كثيرةٍ، كقولِهِ تعالى: (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ) ، وقولِهِ: (ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (119) . وقولِهِ: (إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (70) . وقولِهِ: (وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى) . وقولِهِ: (إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا) ، وقولِهِ: (وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135) أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (136) . قال عبدُ الرزاقِ: أخبرنا جعفرُ بنُ سليمانَ، عن ثابتٍ، عن أنسٍ، قال: بلغني أن إبليسَ حينَ نزلتْ هذه الآيةُ: (وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ) الآية، بكَى. ويُروى عن ابنِ مسعودٍ، قالَ: هذه الآيةُ خيرٌ لأهلِ الذنوبِ من الدنيا وما فيها. وقال ابنُ سيرينَ: أعطانا اللَّهُ - عزَّ وجلَّ - هذه الآية مكانَ ما جعلَ لبني إسرائيل في كفاراتِ ذنوبِهِم.

وقال أبو جعفر الرازيُّ، عن الربيع بنِ أنسِ، عن أبي العاليةِ قال: قال رجل: يا رسولَ اللَّهِ، لو كانتْ كفاراتُنا ككفاراتِ بني إسرائيلَ، فقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "اللَّهُمَّ لا نبغيها - ثلاثاً - ما أعطاكُمُ اللَهُ خيرٌ مما أعطى بني إسرائيل، كانتْ بنو إسرائيل إذا أصاب أحدُهُم الخطيئةَ، وجدها مكتوبةَ على بابِهِ وكفارتَها، فإنْ كفرها كانتْ له خزيًا في الدنيا، وإن لم يكفرْها كانت له خزيًا في الآخرةِ، فما أعطاكُمُ اللَّهُ خيرٌ مما أعطى بني إسرائيل قال تعالى: (وَمَن يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثمَ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفورًا رَّحِيمًا) . وقال ابنُ عباس في قولِهِ تعالى: (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِن حَرَجٍ) قال: هو سعةُ الإسلامِ، وما جعلَ اللَّهُ لأمَّةِ محمدٍ من التوبةِ والكفَّارةِ. وظاهرُ هذه النصوصِ يدلُّ على أن من تابَ إلى اللَّه توبةً نصوحًا. واجتمعتْ شروطُ التوبةِ في حقِّه، فإنه يُقطعُ بقبولِ اللهِ توبته، كما يُقطع بقبولِ إسلام الكافرِ إذا أسلمَ إسلامًا صحيحا، وهذا قولُ الجمهورِ، وكلامُ ابنِ عبدِ البِرِّ يدلُّ على أنّه إجماع. ومن الناسِ من قال: لا يقطعُ بقبولِ التوبةِ، بل يُرجَى، وصاحبُها تحتَ المشيئةِ، وإن تابَ، واستدلوا بقولِهِ: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ) ، فجعلَ الذنوبَ كلَّها تحتَ مشيئته، وربما استدلَّ بمثلِ قولِهِ تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ) ، وبقولِهِ: (فَاَمَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَعَسَى أن يَكونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ) .

وقوله: (وَتُوبوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) . وقوله: (وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ) . والظاهرُ: أن هذا في حقِّ التائبِ، لأنَّ الاعترافَ يقتضي الندمَ، وفي حديث عائشةَ عن النبيئَ - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنَّ العبدَ إذا اعترفَ بذنبِهِ، ثم تابَ، تاب اللَّه عليه " والصحيحُ قول الأكثرينَ. وهذه الآياتُ لا تدلُّ على عدمِ القطع، فإنَّ الكريمَ إذا أطمعَ، لم يقطعْ من رجائِهِ المُطمَع، ومنْ هنا قال ابنُ عباسٍ: إنَّ "عسى" من اللَّهِ واجبة، نقله عنه عليٌّ بنُ أبي طلحة. وقد وردَ جزاءُ الإيمانِ والعملِ الصالح بلفظِ: "عسى" أيضًا، ولم يدل ذلك على أنه غير مقطوع به، كما في قولِهِ: (إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَن آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَاتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللَّهَ فَعَسَى أُوْلَئِكَ أَن يكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ) . وأما قولُهُ: (وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ) ، فإنَّ التائبَ ممن شاء أن يغفرَ له، كما أخبرَ بذلك في مواضعَ كثيرة من كتابِهِ. وقد يُراد بالحسنةِ في قولِ النبيّ - صلى الله عليه وسلم -: "أتبع السيئة الحسنة" ما هو أعمُّ من التوبة، كما في قولهِ تعالى: (وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَي النَّهَارِ وَزُلَفًا مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ) .

وقد رُوي من حديث معاذ أنَّ الرجلَ الذي نزلتْ بسببه هذه الآية ُ أَمَرَهُ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أن يتوضأ ويُصلِّيَ. وخرَّج الإمامُ أحمدُ، وأبو داودَ والترمذيُّ، والنسائيُّ، وابنُ ماجةَ من حديثِ أبي بكرٍ الصديقِ - رضي الله عنه -، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما من رجل يذنب ذنبًا ثم يقومُ فيتطهَّرُ ثم يُصلِّي ثم يستغفرُ اللَّهَ إلا غفرَ اللَّهُ له " ثم قرأ هذه الآيةَ: (وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ ذَكروا اللَّهَ فَاسْتَغْفَروا لِذنُوبِهِمْ) . وفي "الصحيحينِ " عن عثمانَ أنه توضأ، ثم قال: رأيتُ رسولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - توضَّأ نحوَ وضوئِي، هذا ثم قال: "من توضَّأ نحو وضوئي هذا ثم صلَّى ركعتينِ لا يُحدِّثُ فيهما نفسَهُ، غُفِرَ له ما تقدَّمَ من ذنبه ". وفي "مسند الإمامِ أحمدَ" عن أبي الدرداء قال: سمعتُ رسولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: "منْ توضَّأ فأحسنَ الوضوءَ، ثم قامَ فصلًّى ركعتينِ أو أربعًا، يُحسنُ فيهِمَا الركوعَ والخشوعَ، ثم استغفرَ اللَّهَ عزَّ وجلَّ غُفِرَ له ". وفي "الصحيحينِ " عن أنسٍ قال: كُنتُ عندَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فجاءه رجل، فقالَ: يا رسولَ اللَهِ إني أصبتُ حدًّا، فأقمْهُ عليَّ، قال: ولم يسألْه عنه، فحضرتِ الصلاةُ فصلَّى مع النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فلمَّا قضى النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - الصلاةَ قامَ إليه الرجلُ فقالَ: يا رسولَ اللَّهِ، إنِّي أصبتُ حدًّا، فأقم عليَّ كتابَ اللَّهِ. قالَ: "أليس قد صلَّيتَ معنا؟ " قالْ نعم، قالَ: "فإنَّ اللَّه قد غفر لك ذنبَك - أو قال -: حدَك ".

وخرَّجه مسلمٌ بمعناه من حديثِ أبي أمامةَ. وخرَّجه ابنُ جرير الطبريُ من وجهٍ آخر عن أبي أُمامة، وفي حديثِهِ قال: "فإنَّك منْ خطيئتك كما ولدتك أمُّك، فلا تعُدْ". وأنزل اللَّهُ: (وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَي النَّهَارِ وَزُلَفًا مِّنَ اللَّيْل) . وفي "الصحيحينِ " عن أبي هريرةَ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "أرأيتُم لو أنَّ نهرًا ببابِ أحدِكم يغْتسلُ فيه كلَّ يوم خمسَ مرَّاتٍ هل يبقى من درنه شيء " قالُوا: لا يبقى من درنه شيء، قال: "فذلكَ مثلُ الصَّلواتِ الخمسِ يمحُو اللَّه بهن الخطايا". وفي "صحيح مسلم" عن عثمانَ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "من توضَّأ فأحسنَ الوضوءَ، خرجتْ خطاياه من جسدهِ حتى تخرجَ من تحت أظفاره ". وفيه عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ألا أدلكم على ما يمحُو اللَّهُ به الخطايا، ويرفعُ به الدَّرجاتِ؟ " قالُوا: بلى يا رسول اللَّهِ، قال: "إسباغُ الوضوءِ على المكاره، وكثرةُ الخُطا إلى المساجد، وانتظارُ الصلاة بعد الصَّلاة، فذلكُم الرباطُ، فذلكُم الرباط ". وفي "الصحيحينِ " عن أبي هريرةَ عنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "منْ صامَ رمضانَ إيمانًا واحتسابًا، غُفِرَ له ما تقدَّم من ذنبِهِ، ومنْ قامَ رمضان إيمانًا واحتسابًا، غُفِرَ له ما تقدَّمَ مِنْ ذنبِهِ، ومن قامَ ليلةَ القدرِ إيمانًا واحتسابًا، غُفرَ له ما تقدَّم من ذنبِهِ ".

وفيهما عن أبي هريرةَ عنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "منْ حجَّ هذا البيتَ، فلم يرْفُثْ، ولم يَفسُقْ، خرج من ذنوبِهِ كيوم ولدتْه أمُّه ". وفي "صحيح مسلم " عن عمرِو بنِ العاصِ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن الإسلامَ يهدِمُ ما كانَ قبله، وإن الهجرةَ تهدِمُ ما كان قبلها، وإنَّ الحجَّ يهدِمُ ما كان قبلهَ ". وفيه من حديثِ أبي قتادةَ، عنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال في صومِ عاشوراء: "أحتسبُ على اللهِ أن يُكفِّرالسنةَ التي قبلَهُ ". وقال في صومِ يوم عرفةَ: "أحتسبُ على اللَّهِ أن يُكفِّر السنة التي قبله والتي بعده ". وخرَّج الإمامُ أحمدُ من حديثِ عقبةَ بنِ عامرٍ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "مثلُ الذي يعملُ السيئات، ثم يعملُ الحسناتِ، كمثلِ رجلٍ كانتْ عليه درعٌ ضيقة قد خنَقَتْه، ثم عمِلَ حسنةً فانفكتْ حلقة ثم عمِلَ حسنة أخرى، فانفكتْ أخرى حتى يخرجَ إلى الأرضِ ". ومما يكفر الخطايا ذكرُ اللَّهِ عزَّ وجلَّ، وقد ذكرنا فيما تقدَّم أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - سُئِلَ عن قول: "لا إله إلا اللَّهُ " أمِنَ الحسناتِ هي؟ قال: "هي أحسنُ الحسنات ". وفي "الصحيحينِ " عن أبي هريرةَ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "من قال. سبحانَ الله وبحمده في يومِهِ مائة مرة، حُطَّتْ خطاياه وإن كانتْ مثل زبدِ البحرِ".

وفيهما عنه، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "منْ قال: لا إله إلا اللَّهُ وحدَه لا شريكَ له، له الملكُ وله الحمدُ، يحيي ويميتُ، وهو على كل شيءٍ قدير في يومٍ مائةَ مرَةٍ، كانتْ له عِدْلَ عشرِ رقابٍ، وكتبتْ له مائةُ حسنةٍ، ومُحِيتْ عنه مائة سيئةٍ، وكانتْ له حِرزا من الشيطان يومَه ذلك حتى يُمسي، ولم يأتِ أحدٌ بأفضل مما جاء به إلا أحدٌ عمل أفضلَ من ذلك ". وفي "المسندِ" وكتابِ ابن ماجةَ عن أمِّ هانئ عن النبى - صلى الله عليه وسلم - قال. "لا إله إلا اللَّهُ لا تتركُ ذنبًا ولا يسبقها عملٌ ". وخرَّج الترمذيُّ عن أنس، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - إنه مرَّ بشجرة يابسةِ الورقِ، فضربَها بعصَاهُ، فتناثرَ الورقُ، فقال: "إنَّ الحمد للَّه وسبحان الله، ولا إله إلا اللَّهُ، واللَّهُ أكبرُ، لتساقط من ذنوبِ العبدِ كما يتساقطُ ورقُ هذه الشجرةِ". وخرَّجه الإمامُ أحمدُ بإسناد صحيح عن أنسٍ أنَّ رسول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنَّ سبحان اللَّهِ، والحمدُ للَّهِ، ولا إله إلا اللَّهُ، واللَّهُ أكبرُ، تنفُضُ الخطايا كما تنفُضُ الشجرةُ ورقها ". والأحاديثُ في هذا كثيرةٌ جدًّا يطول الكتابُ بذكرِهَا. وسئل الحسنُ عن رجلٍ لا يتحاشَى من معصية إلا أن لسانَهُ لا يفتر من ذكرِ اللَّهِ، فقال: إنَّ ذلك لعَوْنٌ حسنٌ. وسئل الإمامُ أحمدُ عن رجل. اكتسبَ مالاً من شبهة: صلاتُه وتسبيحُه

يحُطُّ عنه شيئًا من ذلك؟ فقال: إنْ صلَّى وسبَّح يريدُ به ذلك، فأرجو، قال اللَّه تعالى: (خَلَطوا عَمَلاً صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّه أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ) . وقال مالكُ بنُ دينارٍ: البكاءُ على الخطيئةِ يحطُّ الخطايا كما تحطُّ الريحُ الورقَ اليابسَ. وقال عطاء: من جلس مجلسًا من مجالسِ الذكرِ كفَّر به عشرة مجالسَ من مجالسِ الباطلِ. وقال شويسٌ العدويُّ - وكان من قدماءِ التابعينَ -: إنْ صاحبَ اليمينِ أمير - أو قالَ: أمين - على صاحبِ الشمالِ، فإذا عَمِلَ ابنُ آدمَ سيئةً، فأرادَ صاحبُ الشمالِ أن يكتبها، قالَ له صاحبُ اليمينِ: لا تعْجَلْ لعلَّه يعملُ حسنةً، فإن عمِلَ حسنةً، ألقى واحدةً بواحدة، وكتبَ له تسعَ حسناتٍ، فيقولُ الشَّيطانُ: يا وَيلَه، من يدركُ تضعيفَ ابنِ آدمَ. وخرَّج الطبرانيُّ - بإسنادٍ فيه نظر - عن أبي مالكٍ الأشعريِّ عنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "إذا نامَ ابنُ آدمَ، قال الملكُ للشيطانِ: أعطني صحيفتَك، فيعطيه إيَّاها، فما وجد في صحيفته من حسنةٍ، محى بها عشرَ سيئات من صحيفةِ الشيطانِ، وكتبهنَّ حسنات. فإذا أراد أن ينامَ أحدُكم، فليكبر ثلاثًا وثلاثين تكْبيرة، ويحمدُ اللَّهَ أربعًا وثلاثينَ تحميدةً، ويسبح اللَّهُ ثلاثًا وثلاثين تسبيحة، فتلك مائة". وهذا غريب ومنكر. وروى وكيع: حدَّثنا الأعمشُ، عن أبي إسحاقَ، عن أبي الأحوصِ. قالَ: قالَ عبدُ اللَّهِ، يعني ابنَ مسعودٍ: وددتُ أني صُولحت على أن أعملَ كُلَّ

قوله تعالى: (وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك وجاءك في هذه الحق وموعظة وذكرى للمؤمنين (120)

يومٍ تسعَ خطيئاتٍ وحسنةً. وهذا إشارةٌ منه إلى أن الحسنة يُمحى بها التسعُ خطيئاتِ، ويفضُلُ له ضعفٌ واحدٌ من ثوابِ الحسنة، فيكتفي به، واللَّهُ أعلم. * * * قوله تعالى: (وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (120) إن في سماع أخبارِ الأخيارِ مقويًّا للعزائم ومُعينًا على اتِّباع تلك الآثارِ. وقال بعضُ العارفينَ: الحكاياتُ جندٌ من جنودِ اللَّه، تقوى بها قلوبُ المريد. ثم تلا قول اللَّهِ عزَّ وجل لرسوله - صلى الله عليه وسلم -: (وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (120) * * *

سورة يوسف

سُورَةُ يُوسُفَ قوله تعالى: (تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (101) قوله - صلى الله عليه وسلم -: "أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ " دعاءِ يوسفَ عليه السلامُ حينَ قالَ: (فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) . واللَّهُ عزَّ وجلَّ وليُّ أوليائه في الدنيا والآخرةِ، يتولَّى حفظَهم وكلاءتهم وهدايتهم وحراستَهم في دِينِهم ودنياهُم ما دامُوا أحياءً، فإذا حضرَهُمُ الموتُ توفَّاهم على الإسلامِ وألحقهم بعدَ الموتِ بالصالحين. وهذا أجلُّ النعم وأتمُّها على الإطلاقِ، وقد قالَ رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عند وفاتِهِ: "مع الذين أنعم اللَّهُ عليهم من النبيينَ والصديقينَ والشهداءِ والصالحينَ ". وقولُ يوسفَ - عليه السلامُ -: (تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) . قيل: إنَّه دعا لنفسِهِ بالموتِ، وهو قولُ جماعة من السلفِ، منهم الإمامُ أحمدُ، فيُستدلُّ به على جوازِ الدعاءِ بالموتِ من غيرِ ضرٍّ نزلَ به. وقيل: إنَّه إنَّما دعا لنفسِهِ بالموتِ على الإسلامِ عند نزولِ الموتِ، وليسَ فيه دعاء بتعجيلِ الموتِ كما أخبرَ عن المؤمنينَ أنهم قالُوا في دُعائِهِم: (رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ) .

ويؤيِّدُ التفسيرَ الأولَ: أنَّه عقَّبه بالدعاءِ بالشوقِ إلى لقاءِ اللَّهِ، وهو يتضمَّن الدعاءَ بالموتِ. واستدل مَنْ جوَّز الدعاءَ بالموتِ وتمنِّيه: بقولِهِ تعالى: (قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (94) . ثم ذمَّهم على عدمِ تمنّيه بسببِ سيئاتِهِم، وعلى حرصِهِم على طولِ الحياةِ في الدُّنيا، وكذلك قولُهُ تعالى: (قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (6) وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (7) . وفي "المسندِ"، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: "لا يتمنينَ أحدٌ الموتَ إلا من وَثِقَ بعملِهِ ". فمن كان له عمل صالح فإنَّه يتمنَّى القدومَ عليه، وكذلك من غلبَ عليه الشوقُ إلى لقاءِ اللَّهِ عزَّ وجلَّ. وأمَّا من تمنَّى الموتَ خوفَ فتنتِهِ في الدِّينِ، فإنَّه يجوزُ بغيرِ خلاف، وقد بسطْنَا الكلامَ على هذهِ المسائلِ في غيرِ هذا الموضع. * * *

سورة الرعد

سُورَةُ الرَّعْدِ قوله تعالى: (لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ) قولُ اللَّه تعالى: (لَهُ معَقِّبَاتٌ منْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ) الآية. قال ابنُ عباسِ - رضي الله عنهما -: همُ الملائكةُ يحفظونه بأمرِ اللَّهِ فإذا جاء القدرُ خلَّوا عنه. وقال عليّ رضي اللَّهُ عنه: إنَّ معَ كل رجلِ ملكينِ يحفظانِه مما لم يقدَّرْ. فإذا جاءَ القدرُ خليَّا بينه وبينه، وإن الأجلَ جُنَّة حصينة. وقال مجاهدٌ: ما من عبدٍ إلا له ملكٌ يحفظُه في نومِهِ ويقظتِهِ من الجن والإنسِ والهوامِّ، فما منْ شيء يأتيه إلا قالَ: وراءَك، إلا شيئًا قد أذِنَ اللَّهُ فيه فيصيبُه. ومن حفظِ اللَّهِ للعبدِ: أن يحفظَهُ في صحةِ بدنِهِ وقوتِهِ وعقلِهِ ومالِهِ. قال بعضُ السلفِ: العالمُ لا يحزن. وقال بعضهمُ: من حفظَ القرآن متِّعَ بعقلِهِ. وتأوَّلَ ذلك بعضُهم على قولِهِ تعالى: (ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ) . وكان أبو الطيبِ الطبريُّ قد جاوزَ المائةَ سنة وهو ممتعٌ بعقلِهِ وقوتِهِ، فوثبَ يومًا من سفينة كان فيها إلى الأرضِ وثبةً شديدةً، فعوتبَ على ذلكَ، فقال:

هذه جوارحٌ حفظنَاها في الصغرِ، فحفظَها اللَّهُ علينا في الكِبَرِ. وعكسُ هذا أن الجنيدَ رأى شيخًا يسألُ الناسَ فقالَ: إنَّ هذا ضيع اللَّهَ في صغرِهِ، فضيعه اللَّهُ في كبره. وقد يحفظُ اللَّهُ العبدَ بصلاحِهِ في ولدِهِ وولدِ ولدهِ، كما قيلَ في قولهِ تعالى: (وَكَانَ أَبوهُمَا صَالِحًا) : إنَّهما حفظا بصلاح أبيهما. وقال محمدُ بنُ المنكدرِ: إنَّ اللَّهَ ليحفظ بالرجلِ الصالح ولدَه وولدَ ولدِهِ وقريتَهُ التي هو فيها، والدويراتِ التي حولها فما يزالونَ في حفظِ اللَّهِ وستره. وقال ابنُ المسيبِ لابنِهِ: يا بني، إني لأزيدُ في صلاتِي من أجلِكَ، رجاءَ أن أحفظَ فيكَ، وتلا هذه الآية: (وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا) . وقال عمرُ بنُ عبدِ العزيزِ رحمهُ اللَّهُ: ما منْ مؤمن يموتُ إلا حفظَهُ اللَّهُ تعالى في عقبِهِ وعقبِ عقبِهِ. وقال يحيى بن إسماعيلَ بنِ سلمةَ بنِ كُهيْلٍ: كان لي أختٌ أسنُّ منِّي. فاختلطتْ وذهب عقلُها وتوحشتْ، وكانت في غرفة في أقصى سطوحِنا فمكثتْ بذلك بضْعَ عشرة سنةً، فبينما أنا نائمٌ ذاتَ ليلةٍ إذا بابٌ يدقُّ نصفَ الليلِ، فقلتُ: من هذا؛ قالتْ: كجه، فقلتُ: أختِي؛ قالتْ أختُكَ، ففتحتُ البابَ فدخلتْ ولا عهدَ لها بالبيتِ أكثرَ من عشر سنين. فقالتْ: أتيتُ الليلةَ في منامِي فقيلَ لي: إنّ اللَّهَ حفظَ أباك إسماعيلَ لسلمةَ جدِّك، وحفظكِ لأبيكَ إسماعيلَ، فإن شئتِ دعوتُ اللَّهَ فذهبَ ما بِك، وإن شئت صبرتِ ولك الجنةُ، فإن أبا بكرٍ وعمرَ قد شفعا لكِ إلى اللَّهِ عزًّ وجلَّ بحبًّ

أبيك وجدِّكِ إياهُما، فقلتُ: فإذا كان لابدَّ من اختيارِ أحدهما فالصبر على ما أنا فيه والجنةُ، وإن اللَّهَ عزَّ وجلَّ لواسع بخلقِه لا يتعاظَمُهُ شيء، إن شاءَ أن يجمعَهُما لي فعلَ. قالتْ: فقيل: فإنَّ اللهَ قد جمعَهُمَا لكِ ورضِيَ عن أبيكِ وجدّكِ بحبهما أبا بكرٍ وعمرَ - رضي الله عنهما -، قومِي فأنزلِي، فأذهبَ اللَّهُ تعالى ما كانَ بها. ومتى كان العبدُ مشتغلاً بطاعةِ اللَّهِ فإنَّ اللَّهَ تعالى يحفظُه في تلكَ الحالِ كما في "مسندِ الإمامِ أحمدَ" عن حميدِ بنِ هلالٍ عن رجلٍ قالَ: أتيتُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فإذا هو يريني بيتًا، فقالَ: "إنَّ امرأةً كانتْ فيه فخرجتْ في سريةٍ من المسلمينَ وتركتْ ثنتي عشرةَ عنزًا وصيصيتها كانت تسبحُ بها، قال: ففقدَتْ عَنْزًا من غنمها وصيصيتها، فقالتْ: يا ربِّ إنَّك قد ضمنتَ لمن خرجَ في سبيلكَ أن تحفظ عليه. وإني قد فقدتُ عنزًا من غنمي وصيصيتي، وإني أنشدكُ عنزي وصِيصيتي " قال: فجعلَ رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يذكرُ شدةَ مناشدتِهَا ربَّها تباركَ وتعالى. قالَ رسولُ - صلى الله عليه وسلم -: "فأصبحتْ عنزُها ومثلُها وصيصيتُها ومثلُها. وهاتيكَ، فأتها" قال: فقلتُ: بل أصدِّقك ". وكان شيبان الراعِي يرعى غنمًا، فإذا جاءتِ الجمعةُ خطَّ عليها خطًا وذهبَ إلى الجمعةِ ثم يرجعُ وهي كما تركها. وكان بعضُ السلفِ بيدهِ الميزانُ يزنُ بها دراهِم فسمعَ الأذانَ فنهضَ ونفضَهَا على الأرضِ وذهبَ إلى الصلاةِ، فلما عادَ جمعها فلم يذهبْ منها شيء. ومن أنواع حفظِ اللَّهِ لمن حفظَهُ في دنياهُ: أن يحفظَهُ من شرِّ كل من يريدُه

بأذًى من الجنِّ والإنسِ، كما قالَ تعالى: (وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَهُ مَخرَجًا) . قالتْ عائشةُ - رضي الله عنها -: يكفيه غمَّ الدنيا وهمَّها. وقال الربيعُ بنُ خثيم: يجعلُ له مخرجًا من كل ما ضاقَ على الناسِ. وكتبتْ عائشةُ - رضي الله عنها - إلى معاويةَ: إن اتقيتَ اللَّه كفاكَ الناسَ، وإن اتقيتَ الناسَ لم يغنوا عنكَ من اللهِ شيئًا. وكتبَ بعضُ الخلفاءِ إلى الحكمِ بنِ عمرٍو الغفاريِّ كتابًا يأمره فيه بأمرٍ يخالفُ كتابَ اللَّهِ، فكتبَ إليه الحكمُ: إني نظرتُ في كتابِ اللَّهِ فوجدتُهُ قبلَ كتابِ أميرِ المؤمنينَ، وإن السماواتِ والأرضَ لو كانتا رتقًا على امرئٍ فاتَّقى اللَّهَ عزَّ وجلَّ، جعلَ لهُ منهما مخْرجًا. والسلامُ. وأنشدَ بعضُهُم: بتقوى الإلهِ نجا من نجَا. . . وفازَ وصارَ إلى ما رجَا ومن يتقِّ اللَّهِ يجعلْ له. . . كما قالَ من أمره مخرجَا كتبَ بعضُ السلفِ إلى أخيه: أما بعدُ، فإنه من اتَّقى اللَّهَ حفظَ نفسَهُ. ومن ضيعَ تقواه فقدْ ضيَّع نفسَهُ، واللَّهُ الغنيُّ عنه. ومن عجيبِ حفظِ اللَّهِ تعالى لمن حفظَهُ: أن يجعلَ الحيواناتِ المؤذيةَ بالطبع حافظةً له من الأذى وساعيةً في مصالحِهِ، كما جرى لسفينةَ مولى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - حيثُ كسرَ به المركبُ وخرجَ إلى جزيرةِ فرأى السبعَ، فقالَ: يا أبا الحارثِ أنا سفينةُ مولى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فجعلَ يمشي حوله ويدله على الطريقِ حتى أوقفَهُ عليها، ثم جعلَ يُهَمْهِم كأنَّه يودِّعُه وانصرفَ عنه.

وكان أبو إبراهيمَ السايحُ قد مرضَ في بريَّةٍ بقربِ دير، فقالَ: لو كنتُ عندَ بابِ الديرِ لنزلَ الرهبانُ فعالَجُوني، فجاء السبعُ فاحتمله على ظهرهِ حتى وضعَهُ على بابِ الديرِ فرآه الرهبانُ فأسلمُوا وكانُوا أربعمائة. وكان إبراهيمُ بنُ أدهمَ، نائمًا في بستانٍ وعنده حيَّة في فمِهَا طاقةُ نرجسٍ. فما زالتْ تذبُّ عنه حتى استيقظَ. فمن حفظَ اللَّهَ حفظَهُ من الحيواناتِ المؤذيةِ بالطبع، وجعلَ تلكَ الحيواناتِ حافظة له. ومن ضيعَ اللهَ ضيَّعَهُ اللَّهُ بين خلْقِهِ، حتى يدخلَ عليه الضررُ ممنْ كانَ يرجو أن ينفعَهُ، ويصيرَ أخصُّ أهلِه به وأرفقهُم به يؤذِيهِ. كما قال بعضُهم: إني لأعصِي اللَّهَ فأعرفُ ذلك في خلقِ خادِمي وحِمارِي، يعني: أن خادمه يسوءُ خلقُهُ عليه ولا يطيعُه، وحماره يستعصي عليه فلا يواتيه لركوبِهِ. فالخيرُ كلُّه مجموعٌ في طاعةِ اللَّهِ والإقبالِ عليه. والشر كلُّهُ مجموع في معصيةِ اللَّهِ والإعراضِ عنه. قال بعضُ العارفينَ: من فارق سُدَّةَ سيدِهِ لم يجْد لقدميه قرارًا أبدًا. واللهِ ما جئتُكم زائرًا. . . إلا وجدتُ الأرضَ تطوى لي ولا ثنيتُ العزمَ عن بابِكُمُ. . . إلا تعثرتُ بأذيالِي * * *

قوله تعالى: (أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها فاحتمل السيل زبدا رابيا ومما يوقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع زبد مثله كذلك يضرب الله الحق والب

قوله تعالى: (أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ (17) ولما كانتْ هذه الشريعةُ خاتمةَ الشرائع وعليها تقومُ الساعةُ، ولم يكنْ بعدَها شريعةٌ ولا رسالةٌ أخرى، تبيِّنُ ما تبدَّلَ منها وتجدِّدُ ما درسَ من آثارِهَا، كما كانتِ الشرائعُ المتقدمةُ تجدِّدُ بعضُها آثارَ بعضٍ، وتبينُ بعضُها ما تبدَّلُ من بعضٍ، تكفلَ اللَّهُ بحفظ هذه الشريعةِ ولم يجمعْ أهلَها على ضلالةٍ، وجعلَ منهم طائفةً قائمةً بالحقًّ لا تزالُ ظاهرةً على من خالفَها حتى تقومَ الساعةُ. وأقامَ لها من يحملُها ويذبُّ عنها بالسيفِ واللسانِ والحجةِ والبيانِ، فلهذا أقامَ اللَّهُ تعالى لهذه الأمَّةِ من خلفاءِ الرسلِ وحملةِ الحجةِ في كلِّ زمانٍ من يعتني بحفظِ ألفاظِ الشريعةِ وضبطِهَا وصيانتِهَا عن الزيادةِ والنقصانِ ومن يعتني بحفظ معانيها، ومدلولاتِ ألفاظِهَا وصيانتِهَا عن التحريفِ والبهتانِ. والأولونَ أهلُ الروايةِ، وهؤلاءِ أهلُ الدرايةِ والرعايةِ، وقد ضربِ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - مثل الطائفتينِ. كما ثبتَ في "الصحيحينِ " عن أبي موسى، قالَ: قال رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ مثلَ ما بعثني اللَّهُ به من الهدى والعلم، كمثلِ غيث أصابَ الأرضَ فكانتْ منها طائفة قبِلَتِ الماءَ فأنبتتِ الكلأ والعُشبَ الكثيرَ، وكانتْ منها أجادبُ أمسكتِ الماءَ فنفعَ اللَّهُ بها ناسًا فشربُوا ورعَوْا وسقَوْا وزرعُوا، وأصابت طائفة منها أخرى، إنما هي قيعانٌ لا تمسكُ ماءً ولا تُنبِتُ كلأ، فذلك مثل من فقهَ في دِين اللَّهِ ونفعَهُ اللَّه بما بعثَني به ونفعَ به فعَلِمَ وعلَّمَ، ومثلُ من لم يرفعْ بذلكَ رأسًا، ولم يقبلْ هدى اللَّهِ الذي أُرسلتُ به ".

فمثَّلَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - العلمَ والإيمانَ الذي جاء به بالغيثِ الذي يصيبُ الأرضَ، وهذا المثلُ كقوله تعالى: (أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا) . فمثَّلَ تعالى ما أنزلَهُ من العلم والإيمانِ إلى القلوبِ بالماءِ الذيَ أنزلَهُ من السماءِ إلى الأرضِ، وهو سبحانه وتعالى يمثلُ العلمَ والإيمانَ تارةً بالماءِ كما في هذه الآيةِ، وكما في المثل الثاني المذكورِ في أولِ سورةِ البقرةِ، وتارةً يمثله بالنورِ كما في المثلِ المذكورِ في سورةِ النورِ، والمثلُ الأولُ المذكورَ في سورةِ البقرةِ وكذلك في هذه الآيةِ التي في سورةِ الرعدِ، وذكر مثلاً ثانيًا يتعلقُ بالنارِ وهو قولُهُ: (وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ) فإن الماءَ والنورَ مادةُ حياةِ الأبدانِ، ولا يعيشُ حيوانٌ إلا حيثُ هما موجودانِ، كما أنَّ العلمَ والإيمانَ مادةُ حياةِ القلوبِ وهما للقلوبِ كالماءِ والنورِ، فإذا فقدهُما القلبُ فقد ماتَ. وقولُهُ تعالى: (فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا) ، شبَّه القلوبَ الحاملةَ للعلم والإيمانِ بالأوديةِ الحاملةِ للسيلِ، فقلبٌ كبير يسعُ علمًا عظيمًا، كوادٍ كبيرٍ يسع ماءً كثيرًا، وقلبٌ صغيرٍ يسعُ علمًا قليلاً، كوادٍ صغيرٍ يسعُ ماءً قليلاً. فحملتِ القلوبِ من هذا العلم بقدرِهَا، كما سالتِ الأوديةُ من الماءِ بقدرِهَا. فهذا تقسيم للقلوبِ بحسبِ ما يحملُهُ من العلم والإيمانِ إلى متسعِ وضيق. والًذي ذكره النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في حديثِ أبي موسى تقسيمٌ لها بحسبِ ما يرِدُ

عليها من العلم والإيمانِ إلى قابل لإنباتٍ الكلأ والعشبِ، وغيرِ قابلٍ لذلكَ وجعلها ثلاثةَ أقسامٍ: القسم الأول: قسم قَبِلَ الماءَ، فأنبتَ الكلأ والعشبَ الكثيرَ، وهؤلاءِ همُ الذين لهم قوةُ الحفظِ، والفهم والفقهِ في الدّينِ، والبصرِ بالتأويلِ، واستنباطِ أنواع المعارفِ والعلومِ من النصوص. وهؤلاءِ مثل: الخلفاءِ الأربعةِ، وأبيِّ بنِ كعبٍ، وأبي الدرداءِ، وابنِ مسعودٍ، ومعاذِ ابنِ جبلٍ، وابنِ عباس. ثم كـ الحسنِ، وسعيدِ بنِ المسيبِ. وعطاءٍ، ومجاهدٍ. ثم كـ مالكٍ، والليثِ، والثوريِّ، والأوزاعيِّ، وابنِ المباركِ، والشافعيِّ، وأحمدَ، وإسحاقَ، وأبي عبيدٍ، وأبي ثورٍ، ومحمدِ بنِ نصرٍ المروزيِّ. وأمثالِهِم من أهلِ العلم باللَّهِ وأحكامِهِ، وأوامرِهِ، ونواهيهِ. وكذلك مثل: أوسٍ، ومالكِ بنِ دينارٍ، وإبراهيم بنِ أدهمَ، والفضيلِ ابنِ عياضٍ، وأبي سليمانَ، وذي النُّونِ، ومعروف، والجنيدِ بنِ محمدٍ، وسهلِ ابنِ عبدِ اللهِ والحرِّ بن أسدٍ. وأمثالهم من أهل العلم باللَّه وأسمائهِ وصفاتِهِ وأيامِهِ وأفعالِهِ. القسم الثاني: وقسم حفظَ الماءَ، وأمسكَهُ حتى وردَ الناسُ فأخذُوه فانتفعُوا به وهؤلاءِ هم الذين لهم قوةُ الحفظِ، والضبطِ، والإتقانِ، دون الاستنباطِ. والاستخراج، وهؤلاءِ كسعيدِ بنِ أبي عروبةَ، والأعمشِ، ومحمدِ بنِ جعفرٍ غندر، وعبدِ الرزاقِ، وعمرو الناقدِ، ومحمدِ بنِ بشارٍ بندارٍ، ونحوِهم. القسم الثالث، وقسمٌ ثالث وهم شرُّ الخلقِ، ليس لهم قوةُ الحفظِ، ولا قوةُ الفهمِ، لا درايةٌ، ولا روايةٌ، وهؤلاءِ الذين لم يتقبلُوا هُدى اللَّهِ ولم يرفعُوا

به رأسًا. والمقصودُ هاهنا أن اللَّهَ تعالى حفظَ هذه الشريعةَ بما جعلَ لها من الحملةِ. أهلِ الدرايةِ، وأهلِ الروايةِ، فكان الطالبُ للعلم والإيمانِ يتلقَّى ذلكَ ممن يدركُهُ من شيوخ العلمِ والإيمانِ، فيتعلَّمُ الضابطُ القرآنَ والحديثَ، ممن يعلِّمُ ذلكَ، ويتعلَّمُ الفقهَ في الدِّينِ من شرائع الإسلامِ الظاهرةِ، وحقائقِ الإيمانِ الباطنةِ، ممن يعلِّمُ ذلكَ. وكان الأغلبُ على القرونِ الثلاثةِ المفضلةِ جمعُ ذلكَ كلَّه، فإنَّ الصحابةَ تلقَّوا عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - جميعَ ذلكَ، وتلقاهُ عنهم التابعونَ، وتلقَّى عن التابعينَ تابعوهُم، فكانَ الدِّينُ حينئذٍ مجتمعًا، ولم يكنْ قد ظهرَ الفرق بين مسمَّى الفقهاءِ، وأهلِ الحديثِ ولا بين علماءِ الأصولِ والفروع، ولا بينَ الصوفيِّ والفقيرِ والزاهدِ، وإنما انتشرتْ هذه الفروقُ بعد القرون الثلاثةِ. وإنَّما كانَ السلفُ يسمُّون أهلَ العلم والدِّينِ: القُرَّاءَ، ويقولونَ: يقرأُ الرجلُ إذا تنسَّك، وكانَ العالمُ منهُم يتكلمُ في جنسِ المسائلِ المأخوذةِ من الكتابِ والسنةِ، سواء كانتْ من المسائِلِ الخبريَّةِ العلميةِ، كمسائلِ التوحيد، والأسماءِ والصفاتِ، والقدرِ، والعرشِ، والكرسيِّ، والملائكةِ، والجنًّ. وقصص الأنبياءِ، ومسائلِ الأسماءِ، والأحكامِ، والوعدِ والوعيدِ، وأحوالِ البرزخ، وصفةِ البعثِ والمعادِ، والجنَّةِ، والنَّارِ، ونحوِ ذلكَ. أو من أعمالِ الجوارح، كالطهارةِ، والصلاةِ، والصيامِ، والزكاةِ، والحجِّ. والجهادِ، وأحكامِ المعاوضاتِ، والمناكحاتِ، والحدودِ، والأقضيةِ، والشهادةِ، ونحوِ ذلك.

أو من المسائلِ العلميةِ، سواء كانتْ من أعمالِ القلوبِ، كالمحبةِ. والخوفِ، وا لرجاءِ، والتوكلِّ، والزهدِ، والتوبةِ، والشكرِ، والصبرِ، ونحوِ ذلك، وإنْ كان يكون لبعضِهِم في نوع من هذه الأنواع من مزيدِ العلم، والمعرفةِ، والحالِ ما ليسَ له في غيرِه مثلُه. كما كانَ يُقالُ في أئمةِ التابعينَ الأربعةِ: سعيدُ بنُ المسيبِ: إمامُ أهل المدينةِ. وعطاءُ بنُ أبي رباح: إمامُ أهلِ مكةَ. وإبراهيمُ النخعيُّ: إمامُ أهلِ الكوفةِ. والحسنُ البصريُّ: إمامُ أهلِ البصرةِ. كان يقالُ أعلمُهُم بالحلالِ والحرامِ: سعيدُ بنُ المسيبِ، وأعلمُهُم بالمناسك: عطاء، وأعلمُهم بالصلاةِ: إبراهيمُ، وأجمعُهُم: الحسنُ. وكان أهلُ الدرايةِ والفهم من العلماءِ إذا اجتمعَ عندَ الواحدِ منهم من ألفاظِ الكتابِ والسنةِ، ومعانيها، وكلامِ الصحابةِ والتابعينَ مابَسَّره اللَّهُ له. جعلَ ذلك أصُولاً، وقواعدَ يبني عليها، ويستنبطُ منها، فإنَّ اللَّهَ تعالى أنزلَ الكتابَ بالحقِّ والميزانِ، والكتابُ فيه كلمات كبيرة، هي قواعدُ كليُّة وقضايا عامَّة، تشملُ أنواعًا عديدةً، وجزئياتٍ كثيرةٍ، ولا يهتدي كلُّ أحد إلى دخولِها تحتَ تلكَ الكلماتِ، بل ذلك من الفهم الذي يؤتيه اللَّهُ من يشاءُ في كتابِهِ. وأمَّا الميزانُ فهوَ الاعتبارُ الصحيحُ، وهو من العدلِ والقسطِ، الذي أمر اللَّهُ بالقيامِ بهِ كالجمع بين المتماثلينِ لاشتراكهمَا في الأوصافِ، الموجبةِ للجمع والتفريقِ بين المختلفينِ لاختلافِهِمَا في الأوصافِ الموجبةِ للفرقِ، وكثيرًا ما يخفى وجهُ الاجتماع والافتراقِ ويدقُ فهْمُهُ.

قوله تعالى: (يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب (39)

وأمَّا أهلُ الروايةِ إذا اجتمعَ عندَهُم من ألفاظِ الرسولِ، وكلامِ الصحابةِ والتابعينَ، وغيرِهم في التفسيرِ، والفقهِ، وأنواع العلومِ، لم يتصرفُوا في ذلكَ بل نقلُوه كما سمعُوه، وأدوه كما حفظُوه وربما كانَ لكثيرِ منهُم من التصرفِ والتميزِ في صحةِ الحديثِ وضعفهِ من جهةِ إسنادِهِ، وروايتِهِ ما ليسَ لغيرِهِم. * * * قوله تعالى: (يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ (39) وفُسِّر "أمُّ الكتابِ " باللَّوح المحفوظِ، وبالذكَر، في قولِهِ تعالى: (يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ (39) . وعن ابنِ عباسٍ - رضي الله عنهما -، أنه سألَ كعبًا، عن "أمّ الكتابِ " فقال: علِمَ اللَّه ما هو خالق، وما خلْقُه عامِلون، فقال لعلمِهِ: كُنْ كتابًا، فكان كتابًا. ولا ريبَ أنَّ علمَ اللَّهِ تعالى قديمٌ أزليٌّ لم يزلْ عالمًا بما يُحدِثُهُ من مخلوقاتٍ، ثم إنَّه تعالى كتبَ ذلك في كتابٍ عندهَ قبل خلْقِ السماواتِ والأرضِ، كما قال تعالى: (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22) . وفي "صحيح البخاريِّ " عن عمْرانَ بنِ حُصينٍ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "كانَ اللَهُ ولا شيءَ قبله، وكان عرشُهُ على الماءِ، وكتبَ في الذكرِ كل شيءٍ، ثم خلقَ السماواتِ والأرضَ ".

وفي "صحيح مسلم " عن عبدِ اللَّهِ بنِ عمرِو بنِ العاصِ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "إنَّ الله كتبَ مقاديرَ الخلائقِ قبلَ أن يخلقَ السماوات والأرضَ بخمسينَ ألفَ سنةٍ، وكان عرشُهُ على الماءِ". * * *

سورة إبراهيم

سُورَةُ إبْرَاهِيمَ قال الله تعالى: (وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ (17) وقال إبراهيمُ في قولهِ: (وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ) ، حتى من تحتِ كل شعرةٍ في جسدِهِ. وقال الضحاكُ: حتى من إبهامِ رجليِهِ. والمعنى: أنه يأتيهِ مثلُ شدةِ الموتِ وألمِهِ من كلِّ جزءٍ من أجزاءِ بدنِه حتى شعره وظفرهِ، وهو مع هذا لا تخرجُ نفسُهُ فيستريح. قالَ ابنُ جريجٍ: تعلقُ نفسُهُ عند حنجرتِهِ فلا تخرج من فيه فيستريح، ولا ترجعُ إلى مكانِها من جوفِهِ، وتأوَّلَ جماعةٌ من المفسرينَ على ذلك قولَهُ تعالى: (ثُمَّ لا يَمُوت فِيهَا وَلا يَحْيَى) . قالَ الأوزاعيُّ عن بلالِ بنِ سعدٍ: تنادي النارُ يومَ القيامةِ: يا نارُ أحرِقي. يا نارُ اشتفي، يا نارُ انضجي، كُلِي ولا تَقْتُلي. * * *

قوله تعالى: (ألم تر كيف ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء (24) تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها

قوله تعالى: (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (24) تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (25) وقد ضربَ الله ورسولُهُ مثلَ الإيمانِ والإسلامِ بالنخلةِ: قالَ اللَّهُ تعالى: (ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (24) تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا) . فالكلمةُ الطيبةُ، هي: كلمةُ التوحيدِ، وهي أساسُ الإسلامِ. وهي جاريةٌ على لسانِ المؤمنِ. وثبوتُ أصلِها، هو: ثبوتُ التصديقِ بها في قلبِ المؤمنِ. وارتفاعُ فرعِهَا في السماءِ، هو: عُلوُّ هذه الكلمةِ وبُسُوقُها. وأنها تخرقُ الحجبَ، ولا تتناهَى دون العرشِ. وإتيانُها أُكُلها كلَّ حينٍ، هو: مما يرفعُ بسببها للمؤمنِ كلَّ حينٍ من القولِ الطيبِ والعملِ الصالح، فهو ثمرتُها. وجعَلَ النبي - صلى الله عليه وسلم - مثلَ المؤمنِ - أو المسلم - كمثلِ النخلةِ. وقال طاوسٌ: مثلُ الإيمانِ كشجرةٍ، أصلها الشهادةُ، وساقُها كذا وكذا. وورقُها كذا وكذا، وثمرُها الورعُ، ولا خيرَ في شجر لا ثمرَ لهَا. ولا خيرَ في إنسانٍ لا ورعَ فيه.

ومعلومٌ أنَّ ما دخلَ في مسمَّي الشجرةِ والنخلةِ من فروعِهَا وأغصانِهَا. وورقِها وثمرِهَا، إذا ذهبَ شيءٌ منه لم يذهبْ عن الشجرةِ اسمُها، ولكن يقالُ: هي شجرةٌ ناقصةٌ، وغيرُها أكملُ منها، فإن قُطعَ أصلُها وسقطتْ لم تبقَ شجرةً، وإنما تصيرُ حطبًا. فكذلك الإيمانُ والإسلامُ، إذا زالَ منه بعضُ ما يدخلُ في مسماة - مع بقاءِ أركانِ بنيانِهِ - لا يزولُ به اسمُ الإسلامِ والإيمانِ بالكليةِ، وإن كان قد سُلِبَ الاسمُ عنه، لنقصِه، بخلافِ ما انهدمتْ أركانُهُ وبنيانُهُ، فإنَّه يزول مسماهُ بالكليةِ، واللَّهُ أعلم. * * * ضربَ العلماءُ مثلَ الإيمانِ بمثلِ شجرةٍ لها أصلٌ وفروعٌ وشُعَبٌ، فاسمُ الشجرةِ يشملُ ذلكَ كلَّه، ولو زالَ شيءٌ من شُعَبها وفروعِها، لم يزُلْ عنها اسمُ الشجرةِ، وإنَّما يُقال: هي شجرةٌ ناقصةٌ أو غيرُها أتمُّ منها. وقد ضربَ اللَّهُ مثلَ إلإيمانِ بذلكَ في قولِهِ تعالى: (ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (24) تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَ) . والمرادُ بالكلمةِ كلمةُ التَّوحيدِ، وبأصلها: التَّوحيدُ، الثَّابتُ في القلوبِ. وأُكُلُها: هو الأعمالُ الصالحةُ الناشئةُ منه. وضربَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - مثلَ المؤمنِ والمسلم بالنَّخلةِ ولو زالَ شيءٌ من فروع النخلةِ أو من ثمرِهَا، لم يزلْ بذلكَ عنها اسمُ النخلةِ بالكليةِ، وإن كانت ناقصةَ الفروع أو الثَّمرِ. * * *

قال الله عز وجل: (يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء (27)

قال الله عز وجل: (يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ (27) خرَّجَا في "الصحيحينِ " من حديثِ البراءِ بنِ عازبٍ - رضي الله عنه -، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: " (يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ) ، نزلتْ في عذابِ القبرِ". زاد مسلمٌ: "يقالُ له: من ربّك؛ فيقولُ: ربِّي اللَّهُ، ونَبيِّي محمدٌ، فذلكَ قولُهُ سبحانه وتعالى: " (يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ) ". وفي روايةٍ للبخاريِّ، قالَ: "إذا أُقْعِد العبدُ المؤمنُ في قبرِهِ أُتيَ. ثم شهدَ أن لا إله إلا اللَّهُ وأن محمدًا رسولُ اللَّهِ، فذلك قولُهُ: " (يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ". وخرَّج الطبرانيُّ من حديثِ البراءِ بنِ عازبٍ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "يقالُ للكافرِ: من ربُّك؛ فيقولُ: لا أدْرِي، فهوَ تلكَ الساعةِ أصمُّ أعْمى أبكمُ، فيُضْرَب بِمرزبةٍ لو ضُرِبَ بها جبلٌ صارَ ترابًا، فيسمعُها كل شيء إلا الثقلين " قال: وقرأ رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: (يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ) " الآية. وخرَّج أبو داود، من حديثِ المنهالِ بنِ عمرٍو، عن زاذان، عن البراءِ ابنِ عازبٍ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "إنه ليَسمعُ خفقَ نعالِهِم إذا ولَّوا مدبرينَ حينَ يقالُ له: من ربُّك؟ وما دينُك؟ ومن نبيُّك؟ ". وفي روايةٍ له: "قال: ويأتِيه ملكانِ فيجلسانِهِ فيقولانِ له: من ربُّك؟ فيقولُ: ربي اللَّهُ، فيقولانِ: ما دينُك؛ فيقولُ: ديني الإسلامُ، فيقولانِ له: ما هذا الرجلُ الذي

بُعث فيكُم؟ فيقولُ: هو رسولُ اللَهِ - صلى الله عليه وسلم -، فيقولانِ له: وما يُدريكَ؟ فيقولُ: قرأتُ كتابَ اللَّهِ فآمنتُ به وصدَّقتُ ". وفي روايةٍ له: "فذلك قولُهُ عزَّ وجلَّ: (يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَولِ الثَابِتِ) " الآية، قال: "فينادي منادٍ من السماءِ: أن صدقَ عبدي فأفرشُوه من الجنةِ، وافتحُوا له بابًا إلى الجنةِ وألبسُوه من الجنةِ، قال: فيأتِيه من رَوْحِهَا وطيبِها، قال: ويفسحُ له في قبر مدَّ بصرِهِ " قال: وذكر الكافرَ، قال: "وتعادُ روحُه إلى جسدِهِ ويأتِيه ملكانِ فيجلسانِهِ فيقولانِ له: من ربُّك؟ فيقولُ: هاه هاه لا أدري، فيقولانِ له: ما دينُك؟ فيقولُ: هاه هاه لا أدْرِي، فينادِي منادٍ من السماءِ: أن كذبَ عبدي فأفرشُوه من النارِ، وألبسُوه من النارِ، وافتحُوا له بابًا إلى النارِ". قال: "فيأتِيه من حرِّها وسمومِها" قال: "ويضيَّقُ عليه قبرُهُ حتَّى تختلفَ أضلاعُه ". وفي روايةٍ له: "ثم يقيّضُ له أعمى أبكمُ معه مرزبةٌ من حديدٍ لو ضُرِبَ بها جبلٌ لصارَ ترابًا" قال: "فيضربُهُ ضربة يسمعُها ما بين المشرقِ والمغربِ إلا الثقلينِ، فيصيرُ ترابًا" قال: "ثم تُعادُ فيه الرّوح ". وخرَّجه النسائيّ وابنُ ماجةَ مختصرًا، وخرَّجه الإمامُ أحمدُ بسياق مطوَّلٍ والحاكم، وقال: على شرط الشيخين. وفي روايةٍ للإمامِ أحمدَ: "ثم يقيّضُ له أعمى أبكمُ أصمُ في يدهِ مرزبة لو ضُرِبَ بها جبلٌ كان ترابًا فيضربُه ضربةً فيصير ترابًا، ثم يعيدُه اللَّهُ عزَّ وجل كما كان، فيضربُه ضربةً أخرى فيصيحُ صيحةً يسمعها كل شيءٍ إلا الثقلينِ ".

قالَ البراءُ بنُ عازب: "ثم يُفتح له بابٌ إلى النارِ ويمهد له من فرشِ النارِ". كذا خرَّجه من روايةِ يونسَ بنِ خبابٍ عن المنهالِ بنِ عمرٍو. وخرَّجه ابنُ منده من هذا الوجهِ أيضًا وزادَ في حديثِه: "لو اجتمعَ عليه الثقلانِ على أن يقلبوها لم يستطِيعوا، فيضربُه بها ضربةً يصيرُ ترابًا، وتعادُ فيه الروحُ فيضربُهُ بين عينيهِ ضربةً فيسمعُها من على الأرضِ ليس الثقلينِ - فينادِي منادٍ: أن افرشُوا له لوحينِ من نارٍ، وافتحُوا له بابًا إلى النارِ". وخرَّجه أيضًا من طريقِ عيسى بنِ المسيبِ، عن عدي بنِ ثابت، عن البراءِ ابنِ عازبٍ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وقال فيه في حقِّ المؤمنِ: "فيأتيه منكر ونكير يثيرانِ الأرضَ بأنيابِهِمَا ويفحصانِ الأرضَ بأشعارِهِمَا فيجلسانِهِ ". وذكر في الكافرِ مثلَ ذلك: وزاد فيه: "أصواتُهُما كالرَّعدِ القاصفِ، وأبصارُهُما كالبرقِ الخاطفِ "، وقال: "فيضربَانِهِ بمرزبة من حديد، لو اجتمعَ عليه من بين الخافقينِ لم تُقلَّ ". وخرَّجَا في "الصحيحينِ " من حديثِ قتادةَ، عنِ أنسٍ، أنَّ رسولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "إن العبدَ إذا وُضِعَ في قبرِهِ وتولَّى أصحابُهُ، إنه ليَسمعُ قرع نعالِهِم إذا انصرفُوا أتاهُ الملكان فيقعدانِهِ فيقولانِ: ما كنتَ تقولُ في هذا الرجلِ محمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم -؛ فأما المؤمنُ فيقولُ: أشهدُ أنه عبدُ اللَّهِ ورسولُهُ - صلى الله عليه وسلم -، فيقالُ له: انظرْ إلى مقعدِكَ من النارِ، قد أبدلكَ اللَهُ به مقعدًا من الجنةِ"، قالَ: "فيراهُما جميعًا". قالَ قتادةُ: وذُكر لنا أنه يُفسَّحُ له في قبره مدَّ بصره، ثم رجعَ إلى حديثِ أنسٍ - قالَ: "وأما المنافقُ والكافرُ فيقالُ له: ما كنتَ تقولُ في هذا الرجلِ؟

فيقولُ: لا أدري؛ كنتُ أقولُ ما يقولُ الناسُ، فيقالُ: لا دريتَ، ولا تليتَ، ويُضربُ بمطارقَ من حديدٍ ضربة فيصيحُ صيحة يسمعُها من يليه غيرَ الثقلين". وخرَّجه أبو داود بزياداتٍ أُخر منها: "إنَّ المؤمنَ يُقال له: ما كنتَ تعبدُ؟ فإن اللَّه هدَاه، قال: كنتُ أعبدُ اللَّهَ، فيقالُ له: ما كنتَ تقولُ في هذا الرجلِ؟ فيقولُ. هو عبدُ اللَّهِ ورسولُهُ، قال: فما يُسأل عن شيء غيرِها"، وزاد فيه أيضًا: "فيقولُ دعُوني حتى أذهبَ فأبشِّر أهلِي، فيقالُ له: اسكُن "، وذكر في الكافرِ: "أنه يسألُ عمَّا كانَ يعبدُ ثم عن هذا الرجلِ ". وخرَّجا في "الصحيحينِ " من حديثِ أسماءَ بنت أبي بكرٍ أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال في خطبتهِ يومَ كسفتِ الشمسُ: "ولقد أوحي إليًّ أنكم تفتنونَ في قبورِكم مثل أو قريبًا من فتنةِ المسيح الدجالِ يُؤتى أحدُكم، فيقالُ له: ما علمُكَ بهذا الرجلِ؟ فأمَّا المؤمنُ أو الموقنُ فيقولُ: محمد رسولُ اللهِ جاءنا بالبيَّناتِ والهُدَى، فأجبْنا وآمنَّا واتَّبعنا. فيقالُ له: نَمْ صالحًا، فقدْ علمنا إنْ كنتَ لموقِنَا، وأمَّا المنافقُ أو المرتابُ فيقولُ: لا أدْرِي سمعتُ الناسَ يقولونَ شيئًا فقلتُهُ ". وخرَّجَه الإمامُ أحمد، ولفظُهُ: "قد رأيتُكُم تفتنونَ في قبورِكُم ويُسألُ الرجلُ: ما كنتَ تقولُ؟ وما كنتَ تعبدُ؟ فإن قال: لا أدْرِي، سمعتُ الناسَ يقولونَ شيئًا فقلتُهُ ويصنعون شيئا فصنعتُه. قيل له: أجلْ على شَكٍّ عِشتَ، وعليه مِتَّ، هذا مقعدُكَ من النارِ، وإنْ قال: أشهدُ أنَّ لا إله إلا اللَهُ وأنَّ محمَّدًا رسولُ اللَّهِ. قيل لهْ على اليقينِ عشتَ وعليه مِتَّ، هذا مقعدُك من الجنَّةِ".

وخرَّج الترمذيُّ وابنُ حبانَ في "صحيحهِ " من حديثِ أبي هريرةَ عنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "إذا قُبِرَ الميتُ " - أو قال: أحدُكم - أتاه ملكانِ أسودانِ أزرقانِ، يُقالُ لأحدِهِما: المُنكرُ، والآخرُ: النَّكيرُ، فيقولانِ: ما كنتَ تقولُ في هذا الرجلِ؟ فيقولُ ما كان يقولُ: هو عبدُ اللَّهِ ورسولُهُ، أشهدُ أن لا إله إلا اللَّهُ وأنَّ محمَّدًا عبدُهُ ورسولُهُ. فيقولانِ: قد كُنَّا نعلمُ أنك تقولُ هذا، ثم يُفسحُ له في قبر سبعونَ ذراعًا في سبعينَ ذِراعًا، ثم ينوَّرُ له فيه، ثم يقالُ له: نمْ، فيقولُ: أرجعُ إلى أهلي فأخبرُهم، فيقولانِ: نمْ كنومةِ العروسِ الذي لا يوقظُه إلا أحبُّ أهلِهِ إليه، حتى يبعَثَهُ اللَّهُ من مضجِعِه ذلك. وإنْ كان منافقًا، قال: سمعتُ الناسَ يقولونَ قولاً فقلتُ مثلَهُ، لا أدري، فيقو لانِ: قد كُنَّا نعلمُ أنَّك تقولُ ذلك، فيقالُ للأرضِ: التئِمي عليهِ، فتلتئمُ عليه حتى تختلفَ أضلاعُه، فلا يزالُ فيها معذبا حتى يبعثَهُ اللَّهُ من مضجِعِه ". وخرَّج الإمامُ أحمدُ وابنُ ماجةَ من حديثِ أبي هريرةَ أيضًا عنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قالَ: "يُجْلَسُ الرجلُ الصالحُ في قبرِهِ غيرُ فزعٍ ولا مشغوفٍ، ثم يُقال له: فيم كنتَ؟ فيقولُ: كنتُ في الإسلامِ، فيقالُ له: ما هذا الرجلُ؟ فيقولُ: محمَّدٌ رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - جاءَنا بالبيِّناتِ من عندِ اللَّهِ فصدَّقناه، فيقالُ له: هل رأيتَ اللَّهَ؟ فيقولُ: ما ينبغِي لأحدٍ أن يرى اللَّهَ، فيفرجُ له فرجَةٌ قِبَلَ النارِ، فينظرُ إليها يحطمُ بعضُها بعضًا، فيقالُ له: انظرْ إلى ما وقاكَ اللَّهُ، ثم يفرجُ له فرجةٌ قِبَلَ الجنةِ فينظرُ إلى زهرتِها وما فيها، فيقالُ له: هذا مقعدُك، ويقالُ له: على اليقينِ كنتَ، وعلى اليقينِ مِتَّ، وعليه تبعثُ إن شاءَ اللَّهُ تعالى، ويُجَلسُ الرجلُ السّوءُ في قبر فزعًا مشغوفًا فيُقال له: فيمَ كنتَ؟ فيقولُ: لا أدري، فيقالُ له: ما هذا الرجلُ؟ فيقولُ: سمعتُ الناسَ يقولونَ قولاً فقلتُهُ، فيفرجُ له

فُرْجةً قِبَل الجنةِ فينظرُ إلى زهرتِها وما فيها، فيُقال له: انظرْ إلى ما صرفَ اللَّهُ عنكَ، ثم يفرجُ له فرجةً قِبَلَ النارِ فينظرُ إليها يحطِمُ بعضُها بعضًا، فيقالُ له: هذا مقعدُك، على الشكِّ كنتَ، وعليه مِتَّ، وعليه تبعثُ إن شاءَ اللَّهُ تعالى". وخرَّج الطبرانيُ من حديثِ أبي هريرةَ - رضي الله عنه -، قال: شهْدنا مع رسولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - جنازةً، ولمَّا فرغَ من دفنها وانصرفَ الناسُ، قال نبيُّ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّه الآنَ يسمعُ خفقَ نعالِهِم، أتاه منكر ونكير أعينُهُما مثلَ قدورِ النحاسِ، وأنيابُهُما مثلُ صياصي البقرِ، وأصواتُهُمَا مثلُ الرعدِ، فيجلسانِهِ فيسألانِهِ: ما كان يعبدُ؟ ومن كان نبيُّه؟ فإنْ كان ممن يعبدُ اللَّهَ، قال: كنتُ أعبدُ اللَّهَ، والنبيُّ محمَّدٌ - صلى الله عليه وسلم - جاءَنا بالبيِّناتِ والهُدَى فآمنَّا واتَّبعْنا، فذلك قولُ اللَّه عزَّ وجلَّ: (يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ) الآية. فيقالُ له: على اليقينِ حييتَ وعليه مِتَّ، وعليه تبعثُ ثم يُفتحُ له بابٌ إلى الجنةِ، ويوسعُ له في حفرتِهِ، وإن كان من أهلِ الشكِّ قال: لا أدْري، سمعتُ الناسَ يقولونَ شيئًا فقلتُهُ، فيقالُ له: على الشكِّ حييتَ، وعليه مِتَّ، وعليه تبعثُ، ثم يفتحُ له باب إلى النَّارِ ويسلَّطُ عليه عقاربُ وتنانين لو نفخَ أحدُهُم في الدنيا ما أنبتتْ شيئًا، تنهشُهُ، وتؤمرُ الأرضُ فتُضَمُّ حتى تختلفَ أضلاعُهُ ". وخرَّج الإمامُ أحمدُ من حديثِ جابرٍ عنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "إنَّ هذه الأمة تبتلى في قبورِها، فإذا دخلَ المؤمنُ قبرَهُ وتولَّى عنه أصحابُهُ جاءَهُ ملَك شديدُ الانتهارِ فيقولُ له: ما كنتَ تقولُ في هذا الرجل؟ فيقولُ المؤمنُ: إنَّه عبدُ اللَّهِ ورسولُهُ. فيقولُ له الملَكُ: انظرْ إلى مقعدك الذي كان لك في النارِ، قد أنجاكَ اللَّهُ منه، وأبدَلَكَ بمقعدِكَ الذي ترى من النارِ الذي ترى من الجنةِ، فيراهُمَا كليهِمَا فيقولُ المؤمنُ: دعوني أبشرُ أهلِي؟ "المسند" (346/3) .

فيقال له: اسكنْ. وأما المنافقُ فيقعدُ إذا تولَّى عنه أصحابُهُ وأهلُهُ، فيقالُ له: ما كنتَ تقولُ في هذا الرجلِ؟ قالَ: لا أدْري، أقولُ ما يقولُ الناسُ، فيقالُ: لا دريتَ، هذا مقعدُك الذي كان لك في الجنةِ، أبدَلَكَ الله به مقعدَك من النارِ". قال جابرٌ: سمعتُ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: "يُبعثُ كل عبد على ما ماتَ عليه، المؤمنُ على إيمانِهِ، والمنافقُ على نفاقِهِ ". وأخرج ابنُ ماجةَ من حديثِ جابرٍ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قالَ: "إذا دخلَ الميتُ القبرَ مثلتْ الشمسُ عندَ غروبِها فيجلسُ يمسحُ عينيه: ويقولُ: دعونِي أصلِّي ". وخرَّجَ الإمامُ أحمد أيضًا من حديثِ عائشةَ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "وأما فتنةُ القبرِ، فبي تُفْتنوْنَ وعنّي تُسْألونَ، فإذا كان الرجلَ الصالحَ أجْلِسَ في قبرِهِ غيرَ فزعٍ ولا مشغوف، ثم يقالُ له: فيم كنتَ؟ فيقول: في الإسلامِ. فيقالُ: ما هذا الرجلُ الذي كان فيكم؟ فيقولُ: محمارسولُ اللهِ، جاءَنا بالبيِّناتِ والهُدَى من عندِ اللَّهِ فصدَّقنَاه. فيفرجُ له فرجةٌ قِبلَ النارِ، فينظرُ إليه يحطمُ بعضُها بعضا. فيقالُ له: انظر إلى ما وقاكَ اللَّهُ منه ثم يفرجُ له فرجة قِبلَ الجنةِ، فينظرُ إلى زهرتِها وما فيها، فيقالُ: هذا مقعدُك منها. ويقالُ له: على اليقينِ كنتَ، وعليه مِتَّ، وعليه تبعثُ إن شاء اللَّه تعالى، وإن كان الرجلَ السوءَ أجْلِسَ في قبرِهِ فزعًا مشغوفًا، فيقالُ له: فيم كنتَ؟ فيقولُ: لا أدرِي، فيقال له: ما هذا الرجلُ الذي كان فيكم؟ فيقولُ: سمعتُ الناسَ يقولونَ قولاً فقلتُ كما قالُوا. فيفرجُ له فرجةٌ إلى الجنةِ فينظرُ إلى زهرتِها وما فيها، فيقالُ له: انظرْ إلى ما صرفَ اللَّهُ عنك، ثم يفرجُ له فرجةٌ قِبلَ النارِ فينظرُ إليها يحطمُ بعضُها بعضا، ويقالُ له: هذا

مقعدُك منها، على الشكِّ كنتَ، وعليه مِتَّ، وعليه تبعثُ إن شاء الله تعالى ثم يعذَّب ". وخرَّج الإمامُ أحمد أيضًا من حديث أبي سعيد الخدريِّ، قالَ: شهدَنا مع رسولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - جنازةً. فقال رسولُ الَلَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: "يا أيها الناسُ إنَّ هذه الأمَّة تبتلَى في قبورِها، فإذا الإنسانُ دفنَ فتفرق عنه أصحابُهُ جاءَهُ ملك في يدِه مطراق فأقعدَهُ، قال: ما تقولُ في هذا الرجلِ؟ فإن كانَ مؤمنًا، قالَ: أشهدُ أن لا إلهً إلا اللَّهُ وأنَّ محمدًا عبدُهُ ورسولُهُ. فيقولُ له: صدقتَ، ثم يفْتحُ له بابًا إلي النارِ، فيقولُ: هذا كان منزلُك لو كفرتَ بربِّك، فأمَّا إذا آمنتَ بربِّك فهذا منزلُك، فيُفتحُ له باب إلى الجنةِ، فيريدُ أن ينهضَ إليه، فيقولُ له: اسكنْ، ويُفسح له في قبرِهِ، وإنْ كان كافرًا أو منافقًا فيقولُ له: ما تقولُ في هذا الرجلِ؟ فيقولُ: لا أدْري، سمعتُ الناسَ يقولونَ شيئًا، فيقولُ. لا دريتَ ولا تليتَ ولا اهتديتَ، ثم يفتحُ له باب إلى الجنةِ، فيقولُ له: هذا منزلُك لو آمنتَ بربِّك، فأمَّا إذا كفرتَ به فإن اللَّهَ عزَّ وجل أبدَلَكَ به هذا، ويفتحُ له باب إلى النارِ، ثم يقمعه قمعةً بالمطراقِ، يسمعُها خلقُ اللَّه عزَّ وجلَّ كلُّهم غيرَ الثقلينِ ". فقالَ بعضُ القومِ: يا رسولَ اللَّه، ما أحدٌ يقومُ عليه ملك في يده مِطراقٌ إلا هيلَ عند ذلك. فقالَ رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: " (يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ) ". وخرَّج أبو بكرٍ في كتابِ "السنةِ" من حديثِ عمرَ بنِ الخطابِ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، أنَّه قال: "كيف أنتَ يا عمرُ إذا كنتَ من الأرضِ في أربعةِ أذرعٍ في ذراعينِ، فرأيتَ منكرًا ونكيرًا؟ " قلتُ: يا رسولَ اللَّهِ، وما منكرٌ ونكيرٌ؟ قال: "فتَانا القبرِ يبحثانِ الأرضَ بأنيابِهما، ويطآنِ في أشعارِهِما، أصواتُهما كالرعدِ القاصفِ، وأبصارُهما كالبرقِ الخاطفِ، ومعهُما مرزبةٌ لو اجتمعَ عليها أهلُ مِنى لم يطيقُوا رفعَها وهي أيسرُ عليهما من عصَاي هذه " قال: قلتُ: يا رسولَ اللَّهِ، وأنا على حالِي هذه؟

قال: "نعم " فقلتُ: إذًا أكفيكَهما. وفي روايةٍ أيضًا: "فامْتحناكَ فإن التويتَ ضرباكَ ضربةً صرتَ رمادًا". وفي إسنادِهِ ضعفٌ. وخرَّجه الإسماعيليُّ من وجهٍ آخرَ فيه ضعفٌ أيضًا عن عمرَ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - بنحوه وزاد فيه: "ياتيانِ الرجلَ في صورةٍ قبيحةٍ، يطآنِ على شعورِهما، ويحفرانِ الأرضَ بأنيابِهما" وزاد فيه: "يقولانِ له: من ربُّك؟ فإن كان مسلمًا يقولُ. ربِّي اللَّهُ. وإن كان فاجرًا فيقولُ: لا أدْري، فيضربانِهِ ضربةً لو كانَ جبلاً صارَ تُرابًا، فيصيحُ صيحةَّ مَا يبقَى شيءٌ إلا سمِعَها إلا الثقلينِ الجنَّ والإنسَ، فذلكَ قولُه سبحانه وتعالى: (وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ) ". وقد رُوي حديثُ عمرَ هذا من وجوهٍ أُخرَ مرسلةٍ. وخرَّج الإمامُ أحمدُ وابنُ حبانَ في "صحيحِهِ " من حديثِ عبدِ اللَّهِ بنِ عمرِو بنِ العاصِ، أنَّ رسولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ذكرَ فتَّانَيْ القبرِ، فقالَ عمرُ: أتُرَدُ إلينا عقولُنا يا رسولَ اللَّهِ؟ فقالَ رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: "نعم، كهيئتِكُم اليومَ ". فقالَ عمرُ: بفِيْهِ الحجر. وخرَّج أبو داود عن عثمانَ بنِ عفانَ - رضي الله عنه -، قالَ: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا فرغَ من دفنِ الميتِ وقفَ عليه، وقالَ: "استغفِرُوا لأخيكم، واسألُوا له التثبيتَ، فإنه الآن يُسألُ ". وفي حديثِ يونسَ بن خبابٍ، عن المنهالِ بنِ عمرٍو، عن زاذانَ، عن

البراءِ بنِ عازبِ، عن النبى - صلى الله عليه وسلم - أنه ذكر سؤالَ المؤمن في قبره، وأنَّ المَلَكَ ينتهرُهُ، قال: "وهي آخرُ فتنة تعرضُ على المؤمنِ فذلكَ، قولُهُ تعالى: (يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَابِتِ) . أخرَّجَه الإمامُ أحمدُ. وكذا رواه جريرٌ، عن الأعمشِ، عن المنهالِ، وفي حديثِه: "إن المؤمنَ يقولُ ذلكَ ثلاثَ مرات، ثم ينتهرانِهِ انتهارة شديدة، وهي آخرُ فتنة تعرضُ على المؤمنِ ". ورواه أبو عوانة، عن الأعمشِ، وفي حديثِهِ: "ويأتيه ملكانِ شديدا الانتهارِ" وذلك في حقِّ الكافرِ والمؤمنِ. وقد روي عن مجاهدِ: أنَّ الموتى كانُوا يفتنون في قبورِهِم سبعًا، فكانُوا يستحبُّون أنْ يُطعمَ عنهم تلك الأيامُ. وعن عبيدِ بنِ عمير، قال: المؤمنُ يُفتن سبعًا، والمنافقُ أربعينَ صباحًا. وقال الإمامُ أحمدُ: أخبرنا يزيدُ بنُ هارونَ، عن المسعودي، عن العلاءِ بن الشخيرِ، حدثنا بعضُ حفدةِ أبي موسى الأشعريِّ، أن أبا موسى الأشعريَّ أوصاهُم، قال: إذا حفرتُم فأعمِقُوا قعرَهُ، أما أني واللَّهِ لأقول لكُم ذلك وأني لأعلم إن كنتُ من أهلِ طاعةِ اللَهِ ليفسحنَّ لي في قبرِي ولينورُ لي فيه. ثم ليفتحنَّ لي بابُ مساكني في الجنةِ، فما أنا بمساكني من داري هذه بأعلم من مساكنِي منها، وليأتينَي من روحِها وريحتِها وريحانِها، ولئنْ كنتُ من أهلِ المنزلةِ الأُخرى ليضيقُ عليَّ قبرِي، وليهدمنَّ من عليَّ الأرضَ، فليفتحن اللَّهُ إليَّ بابَ مساكنِي من النارِ، فما أنا بمساكنِي من دارِي هذه بأعلمَ من مساكنِي منها، ثم ليأتينَي من شرِّها، وشرورِها، ودخانِها.

قال الله عز وجل: (وترى المجرمين يومئذ مقرنين في الأصفاد (49) سرابيلهم من قطران وتغشى وجوههم النار (50)

وروى المسعوديُّ، عن عبدِ اللَّهِ بن المخارقِ، عن أبيه قالَ: قال عبدُ اللَّهِ - يعني ابنَ مسعودٍ -: إنَّ المسلمَ إذا ماتَ أُجلسَ في قبر. فيقال له: من ربُّك؟ ما دينُك؟ من نبيُّك؟ قال: فيثبِّته اللَّهُ تعالى، فيقول: ربي اللَّهُ، وديني الإسلامُ، ونَبيِّي محمدٌ - صلى الله عليه وسلم -، فيوسَّعُ له في قبر ويفرجُ له فيه. ثم قرأ عبدُ الله: (يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ) الآية. وقال ابنُ أبي الدنيا: حدثنا أحمدُ بنُ بحيرٍ، حدثنا بعضُ أصحابِنا، قال: مات أخٌ لي فرأيتُه في النَّومِ، فقلتُ له: ما حالُك حينَ وضعْتَ في قبرِكَ؟ قال: أتانِي آتٍ بشهابٍ من نارٍ فلولا أنَّ داع دعا لي لرأيتُ أنه سيضْرِبُني بهِ. * * * قال الله عز وجل: (وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ (49) سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ (50) قال عليٌّ بن أبي طلحةَ عن ابنِ عباسٍ، في قولِهِ: (قَطِرَانٍ) قال: هو النحاسُ المذابُ. وروى حصينُ عن عكرمةَ، في قولِهِ: (سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ) قال: من صفرٍ يُحمى عليها. قال معمرٌ عن قتادةَ في قولِهِ: (سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ) قال: من النحاسِ. قال معمرٌ، وقال الحسنُ: قطرانُ الإبلِ.

وفي "صحيح مسلم" عن أبي مالكٍ الأشعريِّ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قالَ: "النَّائِحَةُ إِذَا لَمْ تَتُبْ قَبْلَ مَوْتِهَا تُقَامُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَعَلَيْهَا سِرْبَالٌ مِنْ قَطِرَانٍ وَدِرْعٌ مِنْ جَرَبٍ " وخرَّجه ابنُ ماجةَ ولفظُهُ: "النائحةُ إذا ماتتْ ولم تتبْ قطعَ اللَّهُ لها ثيابًا من قطرانٍ ودرعًا له النارِ". وخرَّج ابنُ ماجةَ أيضًا من حديثِ ابنِ عباسٍ، عنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: "النائحةُ إذا لم تتبْ قبلَ أن تموتَ فإنها تبعثُ يومَ القيامةِ وعليها سرابيلُ من قطرانٍ يغلي عليها بدروعٍ من لهبِ النارِ". * * *

سورة الحجر

سُورَةُ الحِجْرِ قوله تعالى: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9) بلغِني إنكارُ بعضِ الناسِ على إنكارِي على بعضِ من ينتسبُ إلى مذهبِ الإمامِ أحمدَ وغيرِه من مذاهبِ الأئمةِ المشهورينَ في هذا الزمانِ، الخروج عن مذاهبِهِم، في مسائلَ، وزعمَ أنَّ ذلكَ لا ينكر على مَنْ فعلَهُ، وأنَّ من فعلَهُ قد يكون مُجتهدًا مُتبعًا للحقِّ الذي ظهر له، أو مقلدًا لمجتهدٍ آخر، فلا يُنكر عليه. فأقولُ وباللَّهِ التوفيقِ، وهو المستعانُ وعليه التكلانُ، ولا حول ولا قوةَ إلا باللَّهِ: لا ريبَ أنَّ اللَّه تعالى حفظ لهذهِ الأُمَّةِ دينَها حفظًا لم يحفظْ مثلَه دِينًا غيرَ دينِ هذهِ الأمةِ، وذلك أنَّ هذه الأمةَ ليسَ بعدَها نبيٌّ يجدِّدُ ما دثرَ من دينِه كمِا كانَ دينُ مَنْ قبلَنا من الأنبياءِ، كلَّما دثرَ دينُ نبيٍّ جدَّده نبيٌ آخر يأتِي بعده. فتكفَّلَ اللَّهُ سبحانه بحفظِ هذا الدينِ، وأقامَ له في كل عصرٍ حملةً ينفونَ عنه تحريفَ الغالينَ، وانتحال المبطلينَ، وتأويلَ الجاهلينَ. وقال تعالى: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) ؛ فتكفَّل اللهُ سبحانه بحفظِ كتابِهِ، فلم يتمكَّنْ أحدٌ من الزيادةِ في ألفاظِهِ ولا مِنْ

النقصِ منها. وقد كانَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يُقرئُ أُمَّته القرآنَ في زمانِهِ على أحرفٍ مُتعددةٍ، تيسيرًا على الأمَّةِ لحفظِهِ، وتعلُّمِهِ، حيث كان فيهم العجوزُ والشيخُ الكبير، والغلامُ والجاريةُ، والرجلُ الذي لم يقرأ كتابًا قط. فطلب لهم الرخصةَ في حفظِهِم له أنْ يُقرئَهُم على سبعةِ أحرفٍ، كما وردَ ذلك في حديثِ أُبيّ بنِ كعبٍ وغيره. ثم لما انتشرتْ كلمةُ الإسلامِ في الأقطارِ، وتفرق المسلمونَ في البُلدانِ المتباعدةِ صارَ كلُّ فريقٍ منهُم يقرأ القرآن على الحرفِ الذي وصلَ إليه. فاختلفُوا حينئذٍ في حروفِ القرآنِ، فكانُوا إذا اجتمعُوا في الموسمِ أو غيرِه اختلَفُوا في القرآنِ اختلافًا كثيرًا. فأجمعَ أصحابُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في عهدِ عُثمانَ على جمع الأمَّة على حرفٍ واحدٍ، خشيةَ أنْ تختلفَ هذه الأُمَّةُ في كتابِها كما اختلفتْ الأمم قبلَهُم في كُتُبِهِم، ورأوا أنَّ المصلحةَ تقتضي ذلك. وحرقوا ما عدا هذا الحرفَ الواحدَ من المصاحفِ وكان هذا من محاسنِ أميرِ المؤمنين عثمان - رضي الله عنه - التي حمده عليها عليٌّ وحذيفةُ وأعيانُ الصحابةِ. وإذا كان عمرُ قد أنكرَ على هشامِ بنِ حكيم بنِ حزامٍ على عهدِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في آيةٍ أشدَّ الإنكارِ وأُبيُّ بنُ كعبٍ حصلَ له بسببِ اختلافِ القرآنِ ما أخبرَ به عن نفسِهِ من الشكِّ، وبعضُ مَنْ كان يكتبُ الوحي للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم -

ممن لم يرسخ الإيمانُ في قلبِهِ ارتدَّ بسببِ ذلك حتى ماتَ مُرتدا. هذا كلُّه في عهدِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فكيفَ الظنُّ بالأُمَّةِ بعده أنْ لو بقيَ الاختلافُ في ألفاظِ القرآنِ بينَهُم. فلهذا تركَ جمهورُ علماءِ الأمةِ القراءةَ بما عدا هذا الحرفِ الذي جمعَ عثمانُ عليه المسلمينَ، ونهَوا عن ذلك. ورخَّص فيه نفرٌ منهُم، وحُكيَ روايةً عن أحمدَ ومالكٍ مع اختلافٍ عنهُما على ذلكَ به في الصلاةِ وغيرِها أم خارج الصلاةِ فقط. وبكلِّ حالٍ: فلا تختلفُ الأمَّةُ أنَّه لو قرأَ أحد بقراءةِ ابنِ مسعودٍ، ونحوِها مما يخالفُ هذا المصحفُ المجتمعُ عليه، وادَّعى أنَّ ذلكَ الحرفَ الذي قرأ به هوَ حرفُ زيدِ بنِ ثابتٍ الذي جمعَ عليه عثمانُ الأُمَّةَ، أو أنَّه أولى بالقراءةِ من حرفِ زيدٍ: لكانَ ظالمًا مُتعديًا مُستحقا للعقوبةِ. وهذا لا يختلفُ فيه اثنانِ من المسلمينَ. إنَّما محلُّ الخلافِ: إذا قرأ بحرفِ ابنِ مسعودٍ ونحوِه مع اعترافِهِ أنَّه حرفُ ابنِ مسعودٍ المخالفُ لمصحفِ عثمانَ - رضي الله عنه -. وأما سنَّةُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: فإنّها كانتْ في الأمَّةِ تُحفظ في الصدورِ كما يُحفظ القرآنُ، وكان مِن العلماءِ من يكتُبها كالمصحفِ، ومنهُم من ينهى عن كتابتِها. ولا ريبَ أنَّ الناسَ يتفاوتونَ في الحفظِ والضبطِ تفاوتًا كثيرًا. ثمَّ حدثَ بعد عصرِ الصحابةِ قوم من أهلِ البدع والضلالِ، أدخلوا في الدِّينِ ما ليسَ منه وتعمَّدوا الكذبَ على النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -.

فأقامَ اللهُ تعالى لحفظِ السُّنَّةِ أقوامًا ميَّزوا ما دخلَ فيها من الكذبِ والوهم والغلطِ، وضبطُوا ذلكَ غايةَ الضبطِ وحفظوه أشدَّ الحفظِ. ثم صنَّف العلماءُ التصانيفَ في ذلكَ، وانتشرت الكتبُ المؤلفةُ في الحديثِ وعلومِهِ، وصارَ اعتمادُ الناسِ في الحديثِ الصحيح على كتابَي الإمامينِ أبي عبدِ اللَّهِ البخاريِّ، وأبي الحسينِ مُسلم بنِ الحجَّاج القُشيريِّ - رضي اللَّهُ عنهما. واعتمادُهم بعدَ كتابيهما على بقيّة الكُتب الستةِ خصوصًا "سُنن أبي داود". و"جامعُ أبي عيسى" و"كتابُ النسائيًّ " ثم كْتابُ ابنِ ماجةَ. وقد صنّفَ في الصحيح مصنفاتٌ أُخر بعد صحيحي الشيخينِ، لكن لا تبلغ كتابَي الشيخينِ. ولهذا أنكرَ العلماءُ على من استدرك عليهما الكتابَ الذي سمَّاه: " المُسْتدرك ". وبالغَ بعضُ الحفَّاظِ فزعمَ أنَّه ليسَ فيه حديثٌ واحدٌ على شرطِهِما. وخالفَهُ غيرُه، وقال: يصفو منه حديثٌ كثير صحيحٌ. والتحقيقُ: أنَّه يصفو منه صحيحٌ كثيرٌ على غيرِ شرطِهِما، بل على شرطِ أبي عيسى ونحوِه، وأما على شرطِهِما فلا. فقلَّ حديثٌ تركَاه إلا وله علةٌ خفيَّة، لكن لعزَّة من يعرفُ العللَ كمعرفتِهِما وينقده، وكونه لا يتهيأ الواحدُ منهم إلا في الأعصارِ المُتباعدةِ. صارَ الأمرُ في ذلك إلى الاعتمادِ على كتابيهما، والوثوقُ بهما والرجوعُ إليهما، ثم بعدَهُما إلى بقيّةِ الكتبِ المُشارِ إليها.

قال الله عز وجل: (وإن جهنم لموعدهم أجمعين (43) لها سبعة أبواب لكل باب منهم جزء مقسوم (44)

ولم يُقبلْ من أحدٍ بعد ذلك الصحيحُ والضعيفُ إلى عمَّن اشتُهرَ حذقه ومعرفتُه بهذا الفنِّ واطلاعُه عليه، وهم قليلٌ. وأمَّا سائرُ الناسِ، فإنَهم يعوِّلون على هذهِ الكُتبِ المشارِ إليها، ويكتفونَ بالعزوِ إليها. * * * قال الله عز وجل: (وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ (43) لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ (44) وخرَّج الإمامُ أحمدُ والترمذيُّ من حديثِ ابنِ عمرَ، عنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنَّ لجهنَّم سبعةَ أبواب، بابٍ منها لمنْ سل سَيفَهُ على أُمَّتِي ". وخرَّج الإمامُ أحمد من حديثِ عتبةَ بنِ عبدٍ السُّلميِّ عنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: "إن للجنةِ ثمانيةُ أبواب ولجهنَّم سبعةُ أبوابٍ وبعضُها أفضلُ من بعضٍ ". وفي حديثِ أبي رزينِ العقيليّ عنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: "لَعَمرُ إلهِكَ؛ إنَّ للنارِ سبعةُ أبوابٍ، ما منهنَّ بابانِ إلا ويسيرُ الراكبُ بينهما سبعينَ عامًا". خرَّجه عبدُ اللَّهِ بنُ الإمامِ أحمدَ، وابنُ أبي عاصم، والطبرانيُّ. والحاكم، وغيرُهم. وخرَّج البيهقيُّ من حديثِ أبي سعيد وأبي هريرةَ عنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، في

حديثِ المرورِ على الصراطِ، وقالَ فيه: "فناجٍ مسَّلمٍ، ومخدوشِ مرسلٍ، ومطروحٍ فيها، (لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ) ". وروى أبو إسحاقَ عن هبيرةَ ابنِ مريمَ عن عليٍّ قال: أبوابُ جهنمَ سبعة بعضُها فوقَ بعضٍ، وقالَ بإصبعِهِ: وعقدَ خمسينَ وأضجَعَ يدَه، ثم يمتلى الأولُ والثاني والثالثُ حتى عقدَهَا كلَّها، خرَّجه ابنُ أبي حاتمٍ، وغيرُه. ورواه بعضُهم عن أبي إسحاقَ عن عاصم بنِ ضمرةَ عن عليٍّ بمعناد. وخرَّج ابنُ أبي حاتمٍ من طريقِ حطانَ الرّقاشيِّ، قالَ: سمعتُ عليًّا يقولُ: هلْ تدرونَ كيفَ أبوابُ جهنمَ؟ قلنا: هي مثلُ أبوابِنا هذهِ، قال: لا، هي هكذا، بعضُها فوقَ بعضٍ. وفي روايةٍ له أيضًا: بعضُها أسفلَ من بعضٍ. وخرَّجه البيهقيُّ ولفظُه: أبوابُ جهمَ هكذا، ووضعَ يدَه اليُمنى على ظهرِ يدِهِ اليسرى. وعن ابن جريجِ في قولِهِ: (لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ) ، قال: أوَّلها جهنمُ. ثمَّ لظى، ثمَّ الحطمةُ، ثم السعيرُ، ثم سقرُ، ثم الجحيمُ، وفيها أبو جهل، ثم الهاويةُ، خرَّجه ابن أبي الدنيا وغيره. وقال جويبر عن الضحاكِ: سمَّى اللَّهُ أبوابَ جهنمَ لكلِّ بابٍ منهم جزء مقسوم، باب لليهودِ وباب للنصارى وبابٌ للمجوسِ وباب للصابئينَ وباب للمنافقينَ وباب للذين أشركُوا وهم كفارُ العربِ، وباب لأهل التوحيد، وأهلُ التوحيدِ يُرجَى لَهُم ولا يُرجى للآخرين. خرَّجه الخلالُ.

وقال آدمُ بنُ أبي إياس: حدثنا حمادُ بنُ سلمةَ عن عطاءِ بنِ السائبِ عن أبي ميسرة في قولهِ: (ادْخلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ) ، قال: لجهنمَ سبعةُ أبوابٍ بعضُها أسفلَ من بعضٍ. وقال عطاءُ الخراسانيُّ: إنَّ لجهنمَ سبعةَ أبوابٍ أشدُّها غمًّا وكربًا وحرًّا وأنتنها ريحًا، للزناةِ الذين ركبوه بعد العلم. خرَّجه أبو نُعيمٍ. وعن كعبٍ قالَ: لجهنمَ سبعةُ أبوابٍ بابٌ منها للحروريةِ. وهذا كلُّه من حديثِ ابنِ عمرَ المتقدمِ يدلُّ على أنَّ كلَّ بابٍ من الأبوابِ السبعةِ لعملٍ من الأعمالِ السيئةِ، كما أنَّ أبوابَ الجنةِ الثمانيةِ كل بابٍ منها لعملٍ من الأعمالِ الصالحةِ. وعن وهبِ بنِ منبه: بينَ كلِّ بابينِ مسيرةَ سبعينَ سنةً، كلُّ بابٍ أشدُّ حرًّا منْ الذي فوقَهُ. وخرَّج الثعلبيُّ في "تفسيرِهِ " بإسنادٍ مجهولٍ إلى منصور بنِ عبدِ الحميدِ بنِ أبي رباح، عن أنسٍ، عن بلالٍ أنَّ أعرابيّة صلَّتْ خلفَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فقرأ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - هذهِ الآيةَ: (لِّكُلِّ بَابٍ مِّنْهُمْ جُزْءٌ مقْسومٌ) ، فخرَّتْ مغشيًا عليها. فلما أفاقتْ قالتْ: يا رسولَ اللَّهِ كلُّ عضوٍ من أعضَائِي يعذَّبُ على كلِّ بابٍ منها، فقالَ رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: " (لِّكُلِّ بَابٍ مِّنْهُمْ جُزْءٌ مقْسُومٌ) ، يعذب على كلِّ بابٍ على قدرِ أعمالِهِم " فقالتْ: مالِي إلا سبعةُ أعبدٍ أُشهِدُكَ أنَّ كل عبدٍ منهم لكلِ بابٍ من أبوابِ جهنَّم، حُرٌّ لوجهِ اللَّهِ عزَّ وجلَّ، فجاء جبريلُ فقالَ: بشِّرْها أنَّ اللَّه قد حرَّمَها على أبوابِ جهنَّم، وهذا حديثٌ لا يصح مرفوعًا، ومنصورُ بنُ عبدِ الحميدِ، قالَ فيه ابنُ حبانَ: لا تحِلُّ الروايةُ عنه.

قوله تعالى: (فوربك لنسألنهم أجمعين (92) عما كانوا يعملون (93)

والصحيحُ ما رَوى مَخْلدُ بنُ الحسنِ عنِ هشامِ بنِ حسانَ، قالَ: خرجْنا حُجَّاجًا فنزلنا منزلاً في بعضِ الطريقِ، فقرأ رجلٌ كانَ معنا هذه الآيةَ: (لَهَا سَبعَةُ أَبوَابٍ) ، فسمعتْهُ امرأةٌ، فقالتْ: أعدْ رحمكَ اللَّهُ؛ فأعادَها. فقالتْ: خلَّفْتُ في البيتِ سبعةَ أعبدٍ أشهدكُم أنًّهم أحرارٌ لكلِّ بابٍ واحدٌ منهم، خرَّجه ابنُ أبي الدنيا. وخرَّج البيهقيّ من حديثِ الخليلِ بنِ مرةَ أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كانَ لا ينامُ حتى يقرأ: (تبارك) ، و (حم السجدة) وقال: "الحواميمُ سبعٌ وأبوابُ جهنمَ سبعٌ: جهنمُ والحطمةُ ولظَى والسعيرُ وسقرُ والهاويةُ والجحيمُ ". وقالَ: "تجيءُ كلُّ حم منها يومَ القيامةِ" أحسبُهُ قال: "تقفُ على باب من هذهِ الأبوابِ، فتقولُ: اللَّهُمَ لا تدخلْ هذا البابَ كل من يؤمن بي ويقرؤني"، وقالَ: هذا منقطعٌ، والخليلُ بنُ مرَّةَ فيه نظرٌ. وروى ابنُ أبي الدنيا من طريقِ عبدِ العزيزِ بنِ أبي روادٍ، قالَ: كان بالباديةِ رجل قد اتخذَ مسجدًا، فجعلَ في قبلتِهِ سبعةَ أحجارٍ، فكانَ إذا قَضى صلاتَهُ، قال: يا أحجارُ، أشهدُكُم أن لا إله إلا اللَّهُ، قال: فمرضَ الرجلُ فعرجَ بروحِه، قال: فرأيتُ في منامِي أنَّه أُمِرَ بي إلى النَّارِ، فرأيتُ حَجَرًا من تلكَ الأحجارِ أعرفه بعينه قد عظم، فسد عنِّي بابًا من أبواب جهنم، قال: حتى سدَّ عنِّي بقيةُ الأحجارِ أبوابَ جهنمَ السبعة. * * * قوله تعالى: (فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (93) وحكى البخاريُّ، عن عدة من أهلِ العلم، أنهم قالُوا - في قولِهِ تعالى:

قوله تعالى: (واعبد ربك حتى يأتيك اليقين (99)

(فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (93) عن قولِ: لا إله إلا اللَّهُ. ففسَّروا العملَ بقولِ كلمةِ التوحيدِ. وممْن رُوي عنه هذا التفسيرُ: ابنُ عمرَ ومجاهدٌ. ورواه ليثُ بنُ أبي سليم، عن بشيرِ بنِ نهيكٍ، عن أنسٍ - موقوفًا - ورُوي عنه - مرفوعًا - أيضًا. خرَّجه الترمذيُّ وغرَّبهُ. وقال الدارقطنيُّ: "ليثٌ " غيرُ قويًّ، ورفعُه غيرُ صحيح. وقد خالفَ في ذلك طوائفُ من العلماءِ، من أصحابِنا وغيرِهم، كأبي عبدِ اللَّه بن بطةَ، وحملُوا العملَ في هذه الآياتِ على أعمالِ الجوارح. واستدلُّوا بذلكَ على دخولِ الأعمالِ في الإيمانِ. * * * قوله تعالى: (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99) عملُ المؤمنِ لا ينقضِي حتى يأتيَه أجلُهُ. قال الحسنُ: إنَّ اللَّهَ لم يجعلْ لعملِ المؤمنِ أجلاً دونَ الموتِ، ثم قرأ: (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99) . هذه المشهورُ والأعوامُ والليالي والأيامُ كلُّها مقاديرُ للآجالِ، ومواقيتُ للأعمالِ، ثم تنقضِي سريعًا، وتمضِي جميعًا، والذي أوجدَها وابتدَعها وخصَّها بالفضائلِ وأودَعَها باقٍ لا يزولُ، ودائمٌ لا يحولُ، هو في جميع

الأوقاتِ إلهٌ واحدٌ، ولأعمالِ عبادِهِ رقيبٌ مشاهدٌ، فسبحانَ مَنْ قلَّبَ عبادَهُ في اختلافِ الأوقاتِ بينَ وظائف الخدمِ، ليسبغَ عليهم فيها فواضلَ النِّعم، ويعامِلَهُم بنهايةِ الجودِ والكرمِ، لمَّا انقضتِ الأشهرُ الثلاثةُ الكرامُ التي أولها الشهرُ الحرامُ، وآخرُها شهرُ الصِّيام، أقبلْت بعدها الأشهرُ الثلاثةُ، أشهر الحجِّ إلى البيت الحرامِ، فكما أنَّ مَنْ صامَ رمضانَ وقامَهُ غُفِرَ له ما تقدَّم من ذنبِهِ، فمنْ حجًّ البيتَ ولم يرفُثْ ولم يفسُقْ رجع من ذنوبِهِ كيومِ ولدتْهُ أمه، فما يمضِي من عمرِ المؤمنِ ساعةٌ من الساعاتِ إلا وللَّه فيها عليه وظيفةٌ من وظائفِ الطاعات، فالمؤمنُ يتقلَّبُ بين هذه الوظائفِ، ويتقرَّبُ بها إلى مولاه وهو راجِ خائفٌ. * * *

سورة النحل

سُورَةُ النَّحْلِ قوله تعالى: (وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (16) وأمَّا قولُ اللَّه عزَّ وجلَّ: (وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ) . وقولُ عمرَ: تعلَّموا من النجومِ ما تعرفونَ به القبلةَ والطريقَ. ورُوي عنه، أنَّه قال: تعلَّموا من النجومِ ما تهتدونَ به في بَرِّكم وبَحْرِكُم. ثم أمسكُوا. فمرادُه - واللَّهُ أعلمُ -: أنَّه يُتَعلَّم من النجومِ الشرقيةِ والغربيةِ والمتوسطةِ ما يُهْتدى به إلى جهةِ القبلةِ بعد غروبِ الشمسِ، وفي حالةِ غيبوبةِ القمرِ. فيُسْتدلُّ بذلكَ على الشرقِ والغربِ، كما يُسْتدل بالشمسِ والقمرِ عليهما. ولم يُرِدْ - واللَّهُ أعلمُ - تَعَلُّمَ ما زادَ على ذلكَ. ولهذا أمرَ بالإمساكِ " لمَا يُؤدي التوغلُ في ذلكَ إلى ما وقعَ فيه المتأخرونَ من إساءةِ الظنِّ بالسلفِ الصالح. وقد اخْتُلِفَ في تعلُّم منازلِ القمرِ وأسماءِ النجوم المهتدَى بها، فرخَّص فيه النخعيُّ ومجاهدٌ وأحمدُ، وكرِهَ قتادةُ وابنُ عيينةَ تعلمَ منازلِ القمرِ. وقال طاوس: رُبَّ ناظرٍ في النجومِ، ومتعلِّم حروفَ "أبي جاد" ليس له عند اللَّهَ خَلاَقٌ. ورُوي ذلك عنه، عن ابنِ عباسٍ. * * *

قال تعالى: (وما بكم من نعمة فمن الله)

قال تعالى: (وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ) وقال: (وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ) . فاللُّهُ تعالى هو المُبتدئ بالخيرِ، فمنه بدأَ ونشأ. والخيرُ به. يعني: أن دوامَهُ واستمرارَهُ وثبوتَهُ باللَّهِ، ولو شاءَ اللَّهُ لنزَعَهُ وسلبهُ صاحبَهُ، وقد قالَ تعالى لنبيِّه: (وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلًا (86) إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا (87) . يعني: أنَّ دوامَ هذه النعمةِ عليكَ من اللَّهِ كما أن ابتداءَها منه. * * * قوله تعالى: (الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ (88) روى الأعمشُ عن عبدِ اللَّهِ بنِ مرةَ، عن مسروقِ، عنِ ابنِ مسعودٍ، في قولهِ تعالى: (زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ) ، قال: عقارب لها أنيابٌ كالنخلِ الطوالِ، وخرَّجه الحاكم، وقال: صحيح على شرطِ الشيخينِ. وفي روايةٍ عنه، قالَ: زيدُوا عقاربَ من نارٍ كالبغالِ الدهم أنيابُها كالنخلِ. خرَّجه آدمُ بنُ أبي إياسِ في "تفسيره" عن المسعوديِّ عن الأعمشِ عن أبي وائلٍ عن ابنِ مسعودٍ، وقولِ من قالَ عن عبدِ اللَّهِ بنِ مرةَ عن مسروقٍ أصحُّ. وخرَّجَ ابنُ أبي حاتم من روايةِ سفيانَ عن رجلٍ عن مرةَ عن عبدِ اللَّهِ في قولِهِ: (عَذَابًا ضِعْفًا فِي النَّارِ) ، قالَ: حياتٌ وأفاعِي. وروى السُّدِّيُّ

عن مرةَ عن عبدِ اللَّهِ في هذه الآيةِ، قالَ: أفاعِي في النارِ. وروى ابنُ وهبٍ عن يحيى بنِ عبدِ اللَّهِ عن أبي عبدِ الرحمنِ الحبلى، عن عبدِ اللَّهِ بنِ عمرٍو، قالَ: إنَّ لجهنَّمَ لسواحلُ فيها حياتٌ وعقاربُ أعناقُها كأعناقِ البختِ. وخرَّج ابنُ أبي الدنيا وغيرُهُ من طريقِ مجاهدٍ عن يزيدَ بنِ شجرةَ، قالَ: إنَّ لجهنَّمَ جبابًا في سواحلَ كسواحلِ البحرِ، فيه هوامٌّ وحيَّاتٌ كالبخاتِيِّ وعقاربُ كالبغالِ الذلِّ، فإذا سألَ أهلُ النارِ التخفيف قيلَ لهُم: اخرجُوا إلى السواحلِ فتأخذُهُم تلك الهوامُّ بشفاهِم وجنوبِهِم وما شاءَ اللَهُ من ذلكَ فتكشُطُها، فيرجعونَ فيبادرونَ إلى معظم النيرانِ، ويسلطُ عليهم الجربُ حتى إنَّ أحدَهُم ليحكُّ جلدَهُ حتى يبدُوا العظمُ، فيقالُ: يا فلانُ هل يؤذيكَ هذا؟ فيقولُ: نعم، فيقالُ له: ذلك ما كنتَ تؤذي المؤمنينَ. وروى عبيدُ اللَّهِ بنُ موسى عن عثمانَ بنِ الأسودِ عن مجاهدٍ، قال: في جهنَّمَ عقاربُ كأمثالِ الدلم لها أنيابٌ كالرماح إذا ضربتْ إحداهُنَّ الكافرَ على رأسِهِ ضربةً تساقطَ لحمُهُ على قدميهِ. وروى حمادُ بنُ سلمةَ عن الجريري عن أبي عثمانَ، قال: على الصراطِ حيات يلسعْنَ أهلَ النارِ فيقولونَ: حسّ حسّ، فذلكَ قولُهُ تعالى (لا يَسْمَعُونَ حَسِيسها) . وكان إبراهيمُ العجليُّ - رحمَهُ اللَّه - يقعُ البعوضُ على كتفيهِ وظهره فيتأذَّى به، فيقولُ لنفسِهِ:

قوله تعالى: (ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين (89)

وأنت تأذَّى من حسيسِ بعوضةِ. . . فللنارِ أشقَى ساكنينَ وأوجعُ * * * قوله تعالى: (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (89) إنَّ اللَّه تعالى أنزلَ على نبيه الكتابَ، وبينَ فيه للأُمَّةِ ما يحتاجُ إليه من حلالِ وحرامِ، كما قالَ تعالى: (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لكُلِّ شَيْء) . قالَ مجاهد وغيرُه: لكل شيءِ أمِرُوا به ونُهوا عنه. وقال تعالى في آخرِ سورةِ النساءِ التي بيَّن فيها كثيرًا من أحكامِ الأموالِ والأبضاع: (يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (176) . وقال تعالى: (وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ) . وقال تعالى: (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ) ، ووكَل بيانَ ما أُشكلَ من التنزيلِ إلى الرسولِ - صلى الله عليه وسلم -، كما قالَ تعالى: (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) ، وما قُبِضَ - صلى الله عليه وسلم - حتى أكملَ له ولأُمَّتِهِ الدينَ، ولهذا أنزلَ عليه بعرفةَ قبْلَ موتِهِ بمدةِ يسيرةِ: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا) . وقالَ - صلى الله عليه وسلم -: "تركتُكُم على بيضاءَ نقيةِ، ليلُها كنهارِها، لا يزيغُ عنها إلا هالِكٌ ". وقال أبو ذَرٍّ: تُوفيَ رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وما طائرٌ يحرك جناحَيهِ في السَّماءِ إلا وقد ذكَّرنا منه عِلْمًا.

قوله تعالى: (إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون (90)

ولما شكَّ الناسُ في موتِهِ - صلى الله عليه وسلم -، قال عمُّه العباسُ - رضي الله عنه -: واللَّهِ ما ماتَ رسولُ اللَّه - صلى الله عليه وسلم - حتى ترك السبيلَ نهجًا واضحًا، وأحلَّ الحلالَ وحرَّم الحرامَ. ونكحَ وطلًّقَ، وحاربَ وسَالَمَ، وما كانَ راعِي غنم يتبعُ بها رءوس الجبالِ يخْبِطُ عليها العِضاهَ بمخْبطِهِ، ويَمْدُرُ حوضَها بيده بأنصبَ ولا أدأبَ من رسولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كان فيكُم. وفي الجملةِ فما تركَ اللَّهُ ورسولُهُ حلالاً إلا مُبيَّنًا ولا حرامًا إلا مُبيَّنًا، لكن بعضَه كان أظهرُ بيانًا من بعضٍ، فما ظهرَ بيانُه واشتهرَ، وعُلِمَ من الذَينِ بالضرورةِ من ذلكَ لم يبقَ فيه شكٌّ، ولا يُعذرُ أحدٌ بجهلهِ في بلدٍ يظهرُ فيها الإسلامُ، وما كان بيانُه دونَ ذلك، فمنه ما اشتهرَ بين حملةِ الشريعةِ خاصةً. فأجمعَ العلماءُ على حِلِّه أو حرمتِهِ، وقد يخفَى على بعضِ من ليس منهُم. ومنه ما لم يشتهرْ بين حملةِ الشريعةِ أيضًا، فاختلفُوا في تحليلِهِ وتحريمه. * * * قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90) وروى هشامُ بنُ عمَّار في كتاب "المبعثِ " بإسنادِهِ عن أبي سلاَّم الحبشيّ. قال: حُدِّثْتُ أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كان يقولُ: "فُضِّلتُ على مَنْ قَبْلي بستٍّ ولا فخرَ"،

فذكرَ منها، قال: "وأُعطيتُ جوامِعَ الكَلِم، وكانَ أهلُ الكتابِ يجعلونها جزءًا باللَّيلِ إلى الصباح، فجمعَهَا لي ربِّي في آيةِ واحدة: (سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ والأَرْضِ وَهًوَ الْعَزِير الحَكِيمُ) ". فجوامِعُ الكلِم التي خُصَّ بها النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - نوعانِ: أحدُهُما: ما هو في القرآنِ، كقولِهِ عزَّ وجلَّ: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90) . قال الحسنُ: لم تتركْ هذه الآيةُ خيرًا إلا أمرت به، ولا شرًّا إلا نهتْ عنه. والثاني: ما هو في كلامِهِ - صلى الله عليه وسلم -، وهو منتشرٌ موجودٌ في السُّنن المأثورةِ عنه - صلى الله عليه وسلم -. * * * فقولُهُ - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ اللَهَ كتبَ الإحسانَ على كُلِّ شيءِ"، وفي روايةٍ لأبي إسحاقَ الفزاريِّ في كتابِ: "السيرِ" عن خالدٍ، عن أبي قلابة، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ اللَّهَ كتبَ الإحسانَ على كلِّ شيء" أو قال: "على كُل خلقٍ". هكذا خرَّجَها مرسلةً، وبالشكِّ في "كلِّ شيءٍ" أو "كلِّ خلقٍ". وظاهرُهُ يقتضي أنه كتبَ على كلِّ مخلوقٍ الإحسانَ، فيكونُ كلُّ شيءِ أو كلُّ مخلوقٍ هو المكتوبَ عليه، والمكتوبُ هو الإحسانُ. وقيلَ: إنَّ المعنى: إنَّ اللَّهَ كتبَ الإحسانَ إلى كلِّ شيءِ، أو في كلِّ شيء،

أو كتبَ الإحسانَ في الولايةِ على كُلِّ شيءٍ، فيكونُ المكتوبُ عليه غيرَ مذكورٍ، وإنما المذكورُ المحسنُ إليه. ولفظُ: "الكتابةِ" يقتضِي الوجوبَ عندَ أكثر الفقهاءِ والأصوليين خلافًا لبعضِهِم، وإنَّما يعرفُ استعمال لفظةِ الكتابةِ في القرآنِ فيما هو واجبٌ حتمٌ، إمَّا شرعًا، كقولِهِ تعالى: (إِن الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابا مَّوْقُوتًا) ، وقولِهِ: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ) ، (كُتِبَ عَلَيكُمْ الْقِتَالُ) ، أو فيما هو واقعٌ قدرًا لا محالةَ، كقولِهِ: (كَتَبَ اللهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي) . وقولِهِ: (وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ (105) . وقولِهِ: (أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهم الإِيمَانَ) . وقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في قيامِ شهرِ رمضانَ: "إني خشيتُ أنْ يُكْتَبَ عليكُمْ " وقال: "أمرتُ بالسِّواكِ حتَّى خشيتُ أن يُكتبَ عليَّ ". وقال: "كُتِبَ على ابنِ آدمَ حظُّه من الزِّنى، وهو مدركٌ ذلكَ لا محالةَ". وحينئذٍ فهذا الحديثُ نصّ في وجوبِ الإحسانِ، وقد أمرَ اللَّه تعالى به. فقالَ: (إِنَّ اللَّهَ يَأمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ) ، وقال: (وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) . وهذا الأمرُ بالإحسانِ تارةً يكونُ للوجوبِ، كالإحسانِ إلى الوالدينِ والأرحامِ بمقدارِ ما يحصلُ به البرُّ والصِّلةُ، والإحسانُ إلى الضيف بقدرِ ما يحصلُ به قِراهُ على ما سبقَ ذكرُهُ.

وتارةً يكونُ للندبِ كصدقةِ التطوع ونحوِها. وهذا الحديثُ يدلُّ على وجوبِ الإحسانِ في كلِّ شيءٍ من الأعمالِ، لكن إحسانُ كُلِّ شيءٍ بحسبِهِ، فالإحسانُ في الإتيانِ بالواجباتِ الظاهرةِ والباطنة: الإتيانُ بها على وجهِ كمالِ واجباتِها، فهذا القدر من الإحسانِ فيها واجبٌ. وأمَّا الإحسانُ فيها بإكمالِ مستحبَّاتِهَا فليسَ بواجبٍ. والإحسانُ في تركِ المحرَّماتِ: الانتهاءُ عنهَا، وتركُ ظاهرِهَا وباطِنِهَا، كما قالَ تعالى: (وَذَرُوا ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ) ، فهذا القدرُ من الإحسانِ فيها واجبٌ. وأمَّا الإحسانُ في الصبرِ على المقدوراتِ، فأن يأتيَ بالصبرِ عليها على وجهِهِ من غيرِ سخَطٍ ولا جزعَ. والإحسانُ الواجبُ في معاملةِ الخلقِ ومعاشرتِهِم: القيامُ بما أوجبَ اللَّهُ من حقوقِ ذلك كلِّه، والإحسانُ الواجبُ في ولايةِ الخلقِ وسياستِهِم: القيامُ بواجباتِ الولايةِ كُلِّها، والقدرُ الزائدُ على الواجبِ في ذلك كلُّه إحسانٌ ليسَ بواجبٍ. والإحسانُ في قتلِ ما يجوزُ قتلُهُ من النّاسِ والدوابِّ: إزهاقُ نفسِهِ على أسرع الوجوهِ وأسهلِها وأوحاها من غيرِ زيادةٍ في التعذيبِ، فإنه إيلامٌ لا حاجةَ إليه. وهذا النوعُ هو الذي ذكرهُ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديثِ، ولعلَّه ذكرهُ على سبيلِ المثالِ، أو لحاجتِهِ إلى بيانِهِ في تلكَ الحالِ، فقالَ. "إدْا قتلتُم فأحسِنُوا القِتْلةَ، وإذا ذبحتُم فأحسِنُوا الذِّبحة" والقِتلةُ والذِّبحة بالكسرِ، أي: الهيئةُ. والمعنى: أحسنُوا هيئةَ الذبح، وهيئةَ القتلِ. وهذا يدلُّ على وجوبِ الإسراع

في إزهاقِ النفوسِ التي يُباحُ إزهاقُها على أسهلِ الوجوهِ. وقد حكى ابنُ حزمٍ الإجماعَ على وجوبِ الإحسانِ في الذبيحةِ، وأسهلُ وجوهِ قتلِ آدمي ضربُهُ بالسيفِ على العنقِ، قالَ اللَّهُ تعالى في حقِّ الكفارِ: (فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ) . وقال: (سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ) ، وقد قيلَ: إنَّه عينَ الموضعَ الذي يكون الضربُ فيه أسهلَ على المقتولِ وهو فوقَ العظامِ دونَ الدماغ، ووصَّى دريدُ ابن الصِّمة قاتلَهُ أن يَقتُلَهُ كذلكَ. وكان النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - إذا بعثَ سريةً تغزو في سبيلِ اللِّهِ قالَ لهُم: " لا تُمثِّلُوا ولا تقتلُوا وليدًا ". وخرَّج أبو داودَ، وابنُ ماجةَ من حديثِ ابنِ مسعودٍ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "أعَفُّ الناسِ قِتلة أهلُ الإيمانِ ". وخرَّج أحمدُ وأبو داود من حديثِ عمرانَ بنِ حصينٍ سمُرةَ بنِ جُندبٍ أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كان ينهى عن المُثْلةِ. وخرَّجه البخاريُّ من حديثِ عبدِ اللَّهِ بنِ يزيدَ عنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنه نهى عن المُثْلة. وخَرَّج الإمامُ أحمد من حديثِ يعلى بنِ مُرَّةَ عنِ النبي - صلى الله عليه وسلم -: "قال اللَّهُ تعالى: لا تمثِّلوا بعبادِي ".

قوله تعالى: (من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون (97)

وخرَّج - أيضًا - من حديثِ رجلٍ من الصحابة عنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "من مثل بذي رُوحٍ، ثم لم يَتُبْ مَثَّلَ اللَهُ به يومَ القيامةِ". * * * قوله تعالى: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (97) وقال بعضُهم في قولِهِ تعالى: (فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً) ، قال: الرِّضا والقناعة " * * * قوله تعالى: (فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (98) ومما يُستحبُّ الإتيانُ به قبلَ القراءةِ في الصلاةِ: التعوذُ، عند جمهورِ العلماء. واستَدلُّوا بقولِهِ تعالى: (فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ) والمعنى: إذا أردتَ القراءةَ، هكذا فسَّرَ الآيةَ الجمهورُ. وحُكي عن بعضِ المتقدمينَ، منهم: أبو هريرة وابنُ سيرينَ وعطاء: التعوذُ بعدَ القراءةِ. والمرويُّ عن ابنِ سيرينَ: قبل قراءة أمِّ القرآنِ وبعدَها، فلعله كان يستعيذ لقراءةِ السورةِ، كما يقرأ البسملةَ لها - أيضًا.

وقد جاءتِ الأحاديثُ بأنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كان يتعوذُ قبل القراءة في الصلاةِ: فروى عمرُو بنُ مُرَّةَ، عن عاصمٍ العنزيِّ، عن ابنِ جبيرِ بنِ مطعمٍ، عن أبيه، أنَّه رأى النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يصلِّي صلاةً، قال: "اللَّهُ أكبرُ كبيرًا، اللَّهُ أكبر كبيرًا، اللَّهُ أكبرُ كبيرًا، والحمدُ للَّهِ كثيرًا، سبحانَ اللَّهِ بكرةً وأصيلاً" ثلاثًا. "أعوذُ باللَّهِ من الشيطانِ الرجيم، من نفْخه ونفْثِهِ وهمْزِهِ " قال: نفثُه: الشعرُ، ونفخه: الكِبْر، وهمزُهُ: الموتة. خرَّجه الإمامُ أحمدُ وأبو داودَ وابنُ ماجةَ وابنُ حبانَ في "صحيحه " والحاكمُ وصححه. وابنُ جبيرٍ هو: نافعٌ، وقع مسمّى في روايةٍ كذلك. وعاصمٌ العنزيُّ، قال أحمد: لا يُعْرف، وقال غيرُهُ: روى عنه غيرُ واحدٍ. ذكره ابنُ حبانَ في "ثقاته". وروى عطاءُ بنُ السائبِ، عن أبي عبدِ الرحمنِ السلميِّ، عن ابنِ مسعودٍ. عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، أنه كان إذا دخل في الصلاةِ، يقول: "اللَّهُمَّ إنِّي أعوذُ بك من الشيطان وهمزِهِ ونفْخِهِ ونفْثِهِ ". حْرَّجه ابنُ ماجةَ والحاكم وهذا لفظُهُ. وقال: صحيحُ الإسنادِ، فقد استشهدَ البخاريُّ بعطاءِ بنِ السائبِ. وروى عليٌّ بنُ عليٍّ الرفاعيُّ، عن أبي المتوكِّلِ، عن أبي سعيدٍ الخدريِّ. قال: كان رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إذا قامَ إلى الصلاةِ بالليلِ كبَّر، ثم يقولُ:

"أعوذُ باللَّهِ السميع من الشيطانِ الرجيم، من همزِهِ ونفخِهِ ونفْثِهِ ". خرَّجه الإمامُ أحمدُ وأبو داودَ والترمذيُّ. وقال: كان يحيى بنُ سعيدٍ يتكلمُ في عليِّ بنِ عليِّ، وقال أحمدُ: لا يصحُّ هذا الحديثُ. كذا قالَ، وإنَّما تكلمَ فيه يحيى بنُ سعيد من جهةِ أنه رماه بالقدرِ، وقد وثقه وكيع ويحيى بن مَعين وأبو زرعة. وقال أحمدُ: لا بأس له، إلا أنه رفع أحاديثَ. وقال أبو حاتمٍ: ليس به بأسٌ، ولا يُحتجُّ بحديثِهِ. وإنَّما تكلمَ أحمدُ في هذا الحديثِ؛ لأنه رُوي عن عليِّ بن عليٍّ، عن الحسنِ - مرسلاً -، وبذلك أعلَّه أبو داودَ، وخرَّج في "مراسيلِهِ " من طريقِ عمرانَ بنِ مسلمٍ، عنِ الحسنِ، أنَّ رسولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كان إذا قامَ منَ الليلِ يريدُ أن يتهجد، يقولُ - قبل أن يكبِّر: "لا إله إلا اللَهُ، لا إله إلا اللَهُ، واللَّهُ أكبرُ كبيرًا، اللَّهُ أكبر كبيرًا، أعوذ باللهِ من الشيطانِ الرجيم، من همزِهِ ونفخِهِ ونفْثِهِ " ثم يقول: "اللَّهُ أكبرُ". وفي البابِ أحاديثُ أخرُ مرفوعةٌ، فيها ضعفٌ. واعتمادُ الإمامِ أحمدَ على المرويِّ عن الصحابةِ في ذلك؛ فإنه روى التعوذَ قبل القراءة في الصلاةِ عن عمرَ بنِ الخطابِ وابنِ مسعودٍ وابنِ عمرَ وأبي هريرةَ، وهو قولُ جمهورِ العلماءِ كما تقدم.

والجمهورُ على أنَّه غيرُ واجبٍ، وحُكيَ وجوبُهُ عن عطاءٍ والثوريِّ وبعضِ الظاهريةِ، وهو قولُ ابنِ بطةَ من أصحابِنا. والجمهورُ على أنه يسره في الصلاةِ الجهريةِ، وهو قولُ ابنِ عمرَ وابنِ مسعودٍ والأكثرينَ. ورُوي عن أبي هريرةَ الجهرُ به. وللشافعيِّ قولانِ. وعن ابنِ أبي ليلى: الإسرارُ والجهرُ سواء. واختلفُوا: هل يختصُّ التعوذُ بالركعةِ الأولَى، أمْ يستحبُّ في كل ركعةٍ؟ على قولينِ: أحدُهما: يستحبُّ في كلِّ ركعةٍ، وهو قولُ ابنِ سيرينَ، والحسنِ والشافعيِّ وأحمدَ - في رواية. والثاني: أنه يختصُّ بالركعةِ الأولى، وهو قولُ عطاءٍ والحسنِ والنخعيِّ والثوريِّ وأبي حنيفةَ وأحمدَ - في رواية عنه. وقال هشامُ بنُ حسانٍ: كان الحسنُ يتعوذُ في كل ركعةٍ، وكان ابنُ سيرينَ يتعوذُ في كل ركعتينِ. وذهبَ مالكٌ وأصحابُهُ إلى أنَّه لا يتُعوَّذُ في الصلاةِ المكتوبة، بل يفتتحُ بعدَ التكبيرِ بقراءةِ الفاتحة من غيرِ استعاذةٍ ولا بسملة، واستدلُّوَا بظاهرِ حديثِ أنسٍ: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يفتتحُ الصلاةَ بـ: (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) . وهو الحديثُ الذي خرَّجه البخاريُّ في أوَّل هذا البابِ. ويجاب عنه، بأنه إنَما أراد أنَّه يفتتح قراءةَ الصلاة بالتكبيرِ والقراءةِ بـ: (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) ، وافتتاح القراءة بـ: (الْحَمْدُ لِلَّهِ) إمَّا أن يرادُ به

افتتاحها بقراءةِ الفاتحةِ كما يقولُ الشافعيُّ، أو افتتاح قراءةِ الصلاةِ الجهريةِ بكلمةِ (الْحَمْدُ) من غير بسملةٍ كما يقولُهُ الآخرون. ودل عليه: حديثُ أنسٍ الذي خرَّجه مسلمٌ صريحًا. وعلى التقديرينِ، فلا ينفي ذلكَ أنْ يكون قبل القراءةِ ذكرًا، أو دعاءً، أو استفتاحًا، أو تعوذًا، أو بسملةً، فإنه لا يخرج بذلك عن أن يكون افتتح القراءةَ بالفاتحةِ، أو افتتح الجهرَ بالقراءةِ بكلمة (الْحَمْدُ) . ولا يمكنُ حملُ الحديثِ على أنَّه كانَ أولَ ما يفتتحُ به الصلاةَ قرأءةُ كلمةِ (الْحَمْدُ) ، فإنه لو كانَ كذلك لكانَ لا يفتتحُ الصلاةَ بالتكبيرِ، وهذا باطلٌ غيرُ مرادٍ قطعًا. واللَّهُ أعلم. * * *

سورة الإسراء

سُورَةُ الإسْرَاء قوله تعالى: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَا الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (1) فرَّقَ بعضُهم بين الإسراء والمعراج، فجعَلَ المعراجَ إلى السماواتِ كما ذكرَه اللَّهُ في سورةِ النَّجمِ، وجعلَ الإسراءَ إلى بيتِ المقدسِ خاصةً، كما ذكرَهُ اللَّهُ في سورةِ (سُبْحَانَ) وزعم أنهما كانَا في ليلتينِ مختلفتينِ، وأنَّ الصلواتِ فُرضتْ ليلةَ المعراج لا ليلةَ الإسراءِ. وهذا هو الذي ذكرَهُ محمدُ بنُ سعدٍ في "طبقاتهِ" عن الواقديَ بأسانيدَ له متعددةٍ، وذكرَ أنَّ المعراجَ إلى السماءِ كانَ ليلةَ السبتِ لسبعَ عشرةَ خلَتْ من شهرِ رمضانَ قبلَ الهجرةِ بثمانيةِ عشرَ شهرًا من المسجدِ الحرامِ، وتلكَ الليلةَ فُرضتِ الصلواتُ الخمسُ، ونزلَ جبريلُ فصلَّى برسولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - الصلواتِ في مواقيتِهَا، وأن الإسراءَ إلى بيت المقدس كان ليلةَ سبعَ عشرةَ من شهر ربيع الأولِ قبل الهجرةِ بسنةٍ، من شعب أبي طالب. وما بوَّبَ عليه البخاريُّ: أن الصلوات فرضتْ في الإسراءِ يدل على أنَّ الإسراءَ عنده والمعراج واحد. واللَّهُ أعلم. * * *

قوله تعالى: (ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا (29)

قوله تعالى: (وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا (29) القصدُ في الفقرِ والغِنَى عزيزٌ، وهو حالُ الرسولِ - صلى الله عليه وسلم - كانَ مقتصدًا في حالِ فقر وغناهُ، والقصدُ هو التوسطُ، فإنْ كان فقيرًا لم يُقتر خوفًا من نفادِ الرزقِ، ولم يسرفْ فيحملُ ما لا طاقةَ لهُ به، كما أدَّبَ اللَّهُ تعالى نبيَّه بذلكَ في قولهِ تعالى: (وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا) . وإنْ كان غنيًّا لم يحملْهُ على السرفِ والطغيانِ، بلْ يكون مقتصدًا أيضًا. قال اللَهُ تعالى (وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ دلِكَ قَوَامًا) . وإنْ كان المؤمنُ في حالِ غناهُ يزيدُ على نفقتِهِ في حالِ فقره، كما قالَ بعضُ السلفِ: إنَّ المؤمنَ يأخذُ عن اللَّهِ أدبًا حسنًا إذا وسع اللَّهُ عليه وسعَ على نفسِهِ وإذا ضيَّقَ عليه ضيَّقَ على نفسِهِ، ثم تلا قولَهُ تعالى: (لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ) ، لكن يكون في حالِ غناهُ مقتصدًا غيرَ مسرفٍ، كما يفعلُهُ أكثرُ أهلِ الغِنى الذين يخرجُهم الغنى إلى الطغيانِ، كما قالَ تعالى: (كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى (7) . كان عليٌّ - رضي الله عنه - يعاتَبُ على اقتصادِهِ في لباسِهِ في خلافتِهِ فيقول: هو أبعدُ عن الكِبْرِ وأجدرُ أن يقتديَ بي المسلمُ. وعوتبَ عمرُ بنُ عبدِ العزيزِ في خلافتِهِ على تضييقِهِ على نفسِهٍ فقالَ: إنَّ

أفضلَ القصدِ عند الجدة، وأفضلَ العفوِ عندَ المقدرة. يعني أفضلَ ما اقتصدَ الإنسانُ في عيشِهِ وهو واجدٌ قادر، وهذه حالُ النبي - صلى الله عليه وسلم - وخلفائهِ الراشدينَ، لم تغيرْهُم سعةُ الدنيا والملكُ ولم يتنعمُوا في الدنيا. وقد رُويَ عن سليمانَ عليه السلامُ، أنَّه كان ياكلُ خبزَ الشعيرِ ويلبسُ الصوفَ. وسئلَ الحسنُ - رضي الله عنه -، عن رجل آتاهُ اللَهُ مالاً، فهو يحجُّ منه ويتصدق، ألَهُ أن يتنعمَ فيه منه؟ قال: لا، لو كانتْ له الدنيا ما كان له إلا الكفافُ. ويقدِّمُ فضلَ ذلك ليومِ فقرِه وفاقتِهِ، إنَّما كان أصحابُ رسولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ومنْ أخذَ عنهم من التابعينَ، ما آتاهم اللَّهُ من رزدقٍ أخذُوا منه الكفافَ، وقدموا فضلَ ذلك ليومِ فقرِهم وفاقتِهِم. وقال ابنُ عمرَ لبعضِ ولده: لا تكن من الذين يجعلون ما أنعم الَلَّه عليهم في بطونِهِم وعلى ظهورهِم. إشارةً إلى أنَّ المالَ لا ينفقُ كلُّه في شهواتِ النفوسِ، وإنْ كانتْ مباحةً. بل يجعلُ صاحبُهُ منه نصيبًا لدارِه الباقيةَ، فإنه لا يبقَى له منه غيرُ ذلكَ. وفي الجملةِ فالاقتصادُ في كلِّ الأمورِ حسن حتى في العبادةِ، ولهذا نهي عن التشديدِ في العبادةِ على النفسِ، وأمر بالاقتصادِ فيها، وقالَ - صلى الله عليه وسلم -: "عليكم هديًا قاصدًا، فإنَّ اللَهَ لا يملُّ حتَّى تملُّوا". وفي "مسندِ البزَّارِ" عن حذيفةَ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما أحسنَ القصدَ في الغِنى، وما أحسنَ القصدَ في الفقرِ، وما أحسنَ القصدَ في العبادةِ". * * *

قوله تعالى: (وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم إنه كان حليما غفورا (44)

قوله تعالى: (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (44) قال إسحاقُ بنُ راهويه: لا يجوزُ التفكُّرُ في الخالقِ، ويجوزُ للعبادِ أن يتفكَروا في المخلوقينَ بما سمعُوا فِيهم، ولا يزيدونَ على ذلكَ، لأنَّهم إن فعلُوا، تاهُوا، قالَ: وقد قالَ اللَّهُ: (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ) . فلا يجوزُ أن يقالَ: كيفَ تُسبِّحُ القِصَاعُ، والأخْوِنَةُ، والخبزُ المخبوزُ، والثِّيابُ المنسوجةُ؟ وكلُّ هذا قد صحَّ العلمُ فيه أنَّهم يسبحونَ. فذلكَ إلى اللَّهِ أن يجعلَ تسبيحَهم كيفَ شاء وكما يشاءُ، وليسَ للناسِ أن يخوضُوا في ذلكَ إلا بما علمُوا، ولا يتكلَّموا في هذا وشِبْههِ إلا بما أخبرَ اللَّهُ، ولا يزيدُوا على ذلكَ، فاتَّقوا اللَّهَ، ولا تخوضُوا في هذه الأشياءِ المتشابهةِ، فإنَّه يُرْديكُم الخوْضُ فيه عن سننِ الحق. نقلَ ذلك كُلَّه حَرْبٌ عن إسحاقَ رحمهما اللَّهُ. * * * قوله تعالى: (وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا (45) قال ابن الجوزي في "المقتبس ": سمعت الوزير يقول في قوله تعالى: (وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا (45) . قال أهل التفسير: يقولون: ساترًا، والصواب: حمله على ظاهره، وأن يكون الحجاب مستورًا عن العيون فلا يرى، وذلك أبلغ. * * *

قوله تعالى: (يوم ندعو كل أناس بإمامهم فمن أوتي كتابه بيمينه فأولئك يقرءون كتابهم ولا يظلمون فتيلا (71)

قوله تعالى: (يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا (71) وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا (72) خرَّج الترمذيُّ من حديثِ السديِّ، عن أبيهِ، عن أبي هريرةَ - رضي الله عنه - عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في قولِهِ تعالى: (يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ) ، قال: "يدعى أحدُهُم فيعطى كتابَهُ بيمينه، ويمدُّ له في جسمِهِ ستونَ ذراعًا. ويبيضُّ وجهُهُ، ويجعلُ على رأسِهِ تاجٌ من نورٍ يتلألأَ، فينطلقُ إلى أصحابِهِ فيرونَهُ من بعيدٍ، فيقولونَْ اللَّهُمَّ آتنا بهذا وباركْ لنا في هذا، حتى يأتيهُم فيقولُ لهم: أبشروا، لكلِّ رجل منكم مثل هذا. قال: وأمَّا الكافرُ فيسودُّ وجهُهُ يُمَدُّ له في جسمِهِ ستونَ ذِراغا في صورةِ آدمَ، ويلبسُ تاجًا من نارٍ فيراهُ أصحابُهُ، فيقولونَ: نعوذُ باللَّهِ من شرِّ هذا، اللَهُمَّ لا تأتنا بهذا، فيأتيهم فيقولونَ: اللَّهُمَ أخره عنا، فيقولُ: أبعدكم اللَّهُ، فإنَّ لكلِّ رجلٍ منكُم مثلَ هذا" وقال: حسنٌ غريبٌ. وروى عطاءُ بنُ يسارٍ عن كعبٍ قالَ: يُؤتى بالرئيسِ في الشرِّ فيقالُ له: أجبْ ربَّكَ، فيُنطلقُ به إلى ربِّه، فيحتجبُ عنه ويؤمرُ به إلى النارِ، فيرى منزلَهُ ومنزلَ أصحابِهِ، فيقالُ: هذه منزلةُ فلانٍ، هذه منزلةُ فلانٍ، فيرى ما أعدَّ اللَّهُ لهم فيها من الهوانِ، ويرى منزلتَه أشرَّ من منازِلِهم، قال: فيسودُّ وجهُهُ وتزرقُّ عيناهُ ويوضعُ على رأسهِ قلنسوةٌ من نارٍ، فيخرجُ فلا يراهُ أهلُ ملإٍ إلا تعوَّذُوا باللَّهِ منه، فيأتي أصحابَهُ الذين كانُوا يجتمعونَ به على الشرِّ ويعينونَهُ عليه، فما يزالُ يخبرُهُم بما أعدَّ اللَّهُ لهم في النارِ حتى يعلو

قوله تعالى: (أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا (78)

وجوهَهُم من السوادِ مثل ما علا وجهَهُ، فيعرفُهُم الناسُ بسوادِ وجوهِهِم. فيقولونَ: هؤلاءِ أهلُ النارِ. خرَّجه أبو نُعيمٍ وغيرُه. وهذا إنَّما هو قبل دخولِهِم إلى النارِ، فإذا دخلوا النارَ عظُمَ خلقهُم على ما تقدَّمَ في الأحاديثِ السابقةِ. وأما سنهم فعلى سنِّ أهلِ الجنةِ لا يزادونَ عليه، وروى دراجٌ عن أبي الهيثم، عن أبي سعيدٍ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "من ماتَ وهوَ من أهلِ الجنةِ من صغيرٍ وكبيرٍ يردونَ بني ثلاثينَ في الجنةِ لا يزيدونَ عليها أبدًا، وكذلك أهلُ النارِ" خرَّجه الترمذيُّ، وفي روايةِ غيرِ الترمذيِّ: "بني ثلاثٍ وثلاثينَ ". وخرَّج الطبرانيُّ من طريقِ سليم بنِ عامرٍ عن القدَامِ بنِ معدِيَ كَرِبَ. عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما من أحدٍ يموتُ سقْطًا أو هرِمًا، وإنَّما الناسُ بينَ ذلك إلا بُعثَ ابنُ ثلاثينَ سنةً، فإن كانَ من أهلِ الجنةِ كانَ على مسحةِ آدمَ وصورةِ يوسفَ وقلبِ أيوبَ، ومن كانَ من أهلِ النارِ عظمُوا وفخمُوا كالجبالِ ". ورواه غير الطبرانيِّ. وقالَ: "أبناءُ ثلاثٍ وثلاثينَ سنةً". * * * قوله تعالى: (أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا (78) دلَّ القرآنُ في غيرِ موضع على مواقيتِ الصلواتِ الخمسِ، وجاءتِ السنةُ مفسرةً لذلكَ ومبيِّنة له:

فمن ذلك: قولُ اللَّهِ تعالى: (أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ) . وقد ذكرَ غيرُ واحدٍ من الأئمةِ كـ مالكٍ والشافعيِّ: أنَّ هذه الآيةَ تدلُّ على الصلواتِ الخمسِ، ورُوي معناه عن طائفةٍ من السلفِ: فقال ابنُ عمرَ: دُلوكُ الشمسِ: مَيْلُها - يُشيرُ إلى صلاةِ الظهرِ حينئذٍ. وعن ابنِ عباسٍ، قال: دُلوكُ الشمس: إذا جاءَ الليلُ. وغسق الليلِ: اجتماعُ الليلِ وظلمتِهِ. وقال قتادةُ: دُلوكُ الشمسِ: إذا زالتِ الشمسُ عن بطنِ السماءِ لصلاةِ الظهرِ، وغسقُ الليلِ: بدءُ الليلِ صلاةُ المغربِ. وقد قِيلَ: إنَّ اللَّهَ تعالى ذكرَ ثلاثةَ أوقاتٍ، لأن أصلَ الأوقاتِ ثلاثةً. ولهذا تكونُ في حالةِ جوازِ الجمع بين الصلاتينِ ثلاثةً فقط، فدلوك الشمسِ: وقتٌ لصلاةِ الظهر والعصر في الجملةِ، وغسقُ الليلِ: وقتٌ لصلاة المغربِ والعشاءِ في الجملةِ، ثم ذكرَ وقتَ الفجرِ بقولِهِ: (وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا) . وقد ثبتَ في "الصحيحينِ " عن أبي هريرةَ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قالَ: "يجتمعُ ملائكةُ الليلِ وملائكةُ النهارِ في صلاةِ الفجرِ" ثم يقولُ أبو هريرةَ: اقرءوا إن شئتُم: (وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا) . وكذلكَ قولُهُ تعالى: (وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَي النَّهَارِ وَزلَفًا مِنَ اللَّيْلِ) . فقولُهُ: (طَرَفَي النَّهَارِ) ، يدخلُ فيه صلاةُ الفجرِ وصلاةُ العصر.

وقد قيلَ: إنَّه يدخلُ فيه صلاةُ الظهرِ والعصرِ، لأنَّهما فى الطَرَفِ الأخيرِ. وزُلَفُ الليلِ يدخلُ فيه المغربُ والعشاءُ. وكذا قالَ قتادةُ: إنَّ زُلَفَ الليلِ يدخلُ فيه المغربُ والعشاءُ، وإنَّ طرفي النهارِ يدخلُ فيه الفجرُ والعصر. ورُويَ عن الحسنِ، أنه قال في قولِهِ: (طَرَفَىِ النَّهَارِ) ، قال: صلاةُ الفجرِ، والطرفُ الآخرِ الظهرُ والعصرُ (وَزُلَفًا مّنَ اللَّيْلِ) المغربُ والعشاء. وكذلك قولُهُ: (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ) . وفي الحديثِ الصحيح عن جريرٍ البجليّ حديثُ الرؤية: "فإنْ استطعتُم أن لا تُغْلَبُوا على صلاةٍ قبلَ طلوع الشمسِ وقبلِ غروبِها فافعلُوا"، ثم قرأ: (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا) . وقد أدرجَ أكثرُ الرواةِ القراءةَ في الحديثِ، وبيَّن بعضُهم: أنَ جريرًا هو الذي قرأ ذلك، فبَيَّن أن صلاةَ الصبح وصلاةَ العصرِ يدخلُ في التسبيح قبل طلوع الشمسِ وقبلَ غروبِها، وأمَّا التسبيحُ من آناءِ الليلِ فيدخلُ فيه صلاةُ المغربِ وصلاةُ العشاءِ. وقولُهُ: (وَأَطْرَافَ النَّهَارِ) يدخلُ فيه صلاةُ الفجر وصلاةُ العصرِ، وربما دخلتْ فيه صلاةُ الظهرِ، لأنها في أول طرفِ النهارِ الآخرِ. وقال تعالى: (فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ (39) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ (40) .

وقد قال ابنُ عباسٍ وأبو صالح: إنَّ التسبيحَ قبل طلوع الشمسِ وقبل الغروبِ: الصبحُ وصلاةُ العصرِ. وقولُهُ: (وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحهُ) ، قال مجاهد: الليلَ كلَّه. وهذا يدخلُ فيه صلاةُ الغربِ والعشاءِ، ويدخلُ فيه التهجدُ التنفلُ به - أيضًا. وقال خُصَيْف: المرادُ بتسبيحِهِ من الليلِ: صلاةُ الفجرِ المكتوبةُ، وفيه بُعْد. وأمَّا (وَأَدْبَارَ السُّجُودِ) ، فقالَ أكثرُ الصحابةِ، منهم: عُمر، وعليٌّ. والحسنُ بنُ عليٍّ، وأبو هريرةَ، وأبو أُمامةَ وغيرُهُم: إنَّهما ركعتانِ بعد المغربِ، وهو رواية عن ابنِ عباسٍ، ورويَ عنه مرفوعًا. خرَّجهُ الترمذيُّ بإسنادٍ فيه ضعفٌ. فاشتلمتِ الآية ُ على الصلواتِ الخمسِ مع ذكرِ بعضِ التطوع. وقال تعالى: (وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (48) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ (49) . فقولُهُ: (حِينَ تَقُومُ) ، قد فُسِّر بإرادةِ القيامِ إلى الصلاةِ، وهو قولُ زيدِ بنِ أسْلَم والضحاكِ، وفُسِّر بالقيامِ من النومِ، وهو قولُ أبي الجود. وفُسِّر بالقيامِ من المجالسِ.

وقولُهُ: (وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ) ، قال مجاهد: من الليلِ كلِّه، يدخلُ في ذلكَ صلاةُ المغربِ والعشاءِ وصلاةُ الليلِ المتطوع بها. وفسَّره خُصيف بصلاةِ الفجرِ، وفيه نظر. (وَإِدْبَارَ النُّجُومِ) : ركعتا الفجرِ كذا قالَهُ عليٌّ وابن عباسٍ في روايةٍ، ورويَ عن ابنِ عباسٍ مرفوعًا. خرَّجه الترمذيُّ وفيه ضعف. وقال تعالى: (فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (17) وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ (18) . قال الإمامُ أحمدُ: نا ابنُ مهدي: نا سفيان، عن عاصم، عن أبي رَزِين. قال: جاءَ نافعُ بنُ الأزرقِ إلى ابنِ عباسٍ، فقال: الصلواتُ الخمسُ في القرآنِ؟ فقال: نعم، فقرأ: (فَسُبْحَانَ اللهِ حِينَ تُمْسُونَ) ، قال: صلاةُ المغربِ (وَحِينَ تُصْبِحُونَ) ، صلاةُ الفجرِ (وَعَشِيًّا) ، صلاةُ العصرِ (وَحِينَ تُظْهِرُونَ) ، صلاةُ الظهرِ، وقرأ: (وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشَاءِ ثَلاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ) . ورواه آدمُ بنُ أبي إياسٍ في "تفسيره" عن حمَّادِ بنِ سلمةَ، عن عاصم. قال: جاءَ نافعٌ - ولم يذكرْ أبا رَزِين. وروى آدمُ - أيضًا -: نا شريك، عن ليثِ بنِ أبي سليم، عن الحَكَم بنِ عُتَيْبةَ، عن أبي البَخْتري، عن ابنِ عباسٍ، قال: جمعتْ هذه الآية ُالصلواتِ كلَّها - فذكره بمعناه، ولم يذكرْ فيه: صلاةَ العشاءِ.

رُوي عن الحسنِ وقتادةَ في قولِهِ تعالى: (فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ) . قال: صلاةُ المغربِ والعشاءِ، (وَحِينَ تُصْبِحُونَ) : صلاةُ الغداةِ. (وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا) ، قال: العصرُ. (وَحِينَ تُظْهِرُونَ) ، قال: الظهرُ. خرَّجه البيهقيُّ وغيرُهُ. * * * [قالَ البخاريُّ] : حدثنا عبدُ اللَّهِ بنُ يوسفَ: أبنا مالكٌ، عن أبي الزِّنادِ، عن الأعْرج، عن أبي هريرةَ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قالَ: "يتعاقبون فيكُم ملائكةٌ باللَّيلِ وملائكةٌ بالنهارِ، ويجْتمعُون في صلاةِ الفجرِ وصلاةِ العصرِ، ثمَّ يعْرُج الذين كانُوا فيكُمْ، فيسألهم - وهو أعلمُ بهم -: كيف تركتُم عبادِي؛ فيقولونَ: تركناهم وهم يصلُّون، وأتيناهُم وهم يُصلُّون ". قولُهُ: "يتعاقبون فيكم ملائكةٌ" جمع فيه الفعلَ مع إسناده إلى ظاهرٍ، وهو مخرجٌ على اللُّغةِ المعروفةِ بلغةِ "أكلونِي البراغيثُ "، وقد عرَّفها بعضُ متأخري النحاةِ بهذا الحديثِ، فقالَ: "هي لغةُ: يتعاقبونَ فيكُم ملائكة". والتعاقبُ: التناوبُ والتداولُ، والمعنى: أنَّ كل ملائكةٍ تأتِي تعقبُ الأخرى. وقد دلَّ الحديثُ على أن ملائكةَ الليلِ غيرُ ملائكةِ النَّهارِ. وقد خرَّجا في "الصحيحينِ " من حديثِ الزُّهْرِي، عن سعيدٍ

وأبي سَلَمَةَ، عن أبي هريرةَ، عنِ النبى - صلى الله عليه وسلم -، قالَ: "تجتمع ملانكةُ الليلِ، وملانكةُ النهارِ في صلاةِ الفجرِ". ثم يقولُ أبو هريرةَ: اقرءُوا إن شئتُم: (إِن قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا) . ففي هذه الروايةِ: ذكرُ اجتماعِهِم في صلاةِ الفجرِ، واستشهدَ أبو هريرةَ بقولِ اللهِ عزَّ وجل: (إِن قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا) . وقد رُوي في حديثٍ من روايةِ ابي الدرداءِ - مرفوعًا -: "أنه يشهدُهُ اللهُ وملائكتُهُ ". وفي روايةٍ: "ملائكةُ الليلِ وملائكةُ النهارِ،. خرَّجهُ الطبراني وابنُ منده وغيرُهُما. فقد يكون تخصيصُ صلاةِ الفجرِ لهذا، وصلاةُ العصرِ يجتمعُ - أيضًا - فيها ملائكةُ الليلِ والنَّهارِ، كما دل عليهِ حديثُ الأعْرج، عن أبي هريرةَ. وقد رُويَ نحوُه من حديثِ حُميدٍ الطويلِ، عن بكرٍ المزنى، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - مرسلاً. وهؤلاءِ الملائكةُ، يحتملُ أنَهم المعقباتُ، وهم الحَفَظَةُ، ويحتملُ أنَّهم كتبةُ الأعمال. وروى أبو عُبيدةَ، عن أبيه عبدِ اللهِ بنِ مسعودٍ، في قولِهِ: (إِنً قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا) ، قال: يعني صلاةَ الصبح، يتداركُ فيه الحرسانِ ملائكةُ الليلِ وملائكةُ النَّهارِ.

وقال إبراهيمُ، عن الأسودِ بنِ يزيدَ: يلتقِي الحارسانِ من ملائكةِ اللَّيلِ وملائكةِ النَّهارِ عندَ صلاةِ الصبح، فيسلِّم بعضُهم على بعضٍ، ويحيى بعضُهُم بعضًا، فتصعدُ ملائكةُ الليلِ وتبسطُ ملائكةُ النهارِ. قال ابنُ المباركِ: وُكِّل بابنِ آدمَ خمسةُ أملاكٍ: ملكا الليلِ، وملكا النهارِ. يجيئانِ ويذهبانِ، والخامسُ لا يفارقُهُ ليلاً ولا نهارًا. وممن قالَ: إن ملائكةَ الليلِ وملائكةَ النهارِ تجتمعُ في صلاةِ الفجرِ. وفسر بذلك قولَ اللَّه عزَّ وجلَّ: (وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كان مشْهُودًا) مجاهدٌ ومسروقٌ وغيرُهُما. قال ابنُ عبدِ البَرِّ: والأظهرُ أن ذلكَ في الجماعاتِ، قالَ: وقد يحتملُ الجماعاتِ وغيرَها. قلتُ: يشهدُ للأولِ قولُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: "إذا أمَّن الإمامُ فأمِّنوا، فمَنْ وافقَ تأمينُهُ تأمينَ الملائكةِ غُفِرَ له ما تقدَّم من ذنبهِ ". ونَهى النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - مَنْ أكلَ الثومَ أن يشهدَ المسجد، وتعليلُه: أنَّ الملائكةَ تتأذَّى مما يتأذَّى منه بنو آدمَ. وقد بوَّبَ البخاريُّ على اختصاصِهِ بالجماعاتِ في "أبوابِ صلاةِ الجماعةِ". كما سيأتي في موضعِهِ - إن شاءَ الله تعالى. ويشهدُ للثاني: أنَّ المصلِّي ينهى عن أن يبصقَ في صلاتِهِ عن يمينِهِ؛ لأنَّ

قوله تعالى: (وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا (82)

عن يمينِهِ ملكًا، ولا يفرقُ في هذا بين مصلي جماعةٍ وفُرَادى. * * * قوله تعالى: (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا (82) وقولُه - صلى الله عليه وسلم -: "والقرَآن حجةٌ لك أو عليكَ ". قال اللَّه عزَّ وجلَّ: (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا (82) قال بعضُ السلفِ: ما جالسَ أحدٌ القرآنَ، فقامَ عنه سالمًا؛ بل إمَّا أن يربحَ أو أن يخسرَ، ثمَّ تلا هذه الآية. * * * قال الله عز وجل: (وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا (97) قال ابنُ عباسٍ: كلما طفئتْ أوقدتْ، وقال ابنُ عباسٍ: خبتْ سكنتْ. وقالَ ابنُ قتيبةَ: خبتِ النارُ إذا سكنَ لهبُها، فاللهبُ يسكنُ والجمرُ يعملُ. وقال غيره من المفسرينَ: تأكلُهُم. فإذا صارُوا فحمًا ولم تجدِ النارُ شيئًا تأكلُهُ أعيد خلقُهم خلقًا جديدًا فتعودُ لأكِلهِم.

قوله تعالى: (ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها وابتغ بين ذلك سبيلا (110)

وقولهُ: (زِدْنَاهُم سَعِيرًا) أي: نارًا، تتسعرُ وتتلهبُ. وقد رُويَ عن عمرِو بنِ عبسةَ أن في جهنَّمَ بئرٌ يقال له: الفلقُ، منه تسعرُ جهنَّمُ إذا سعرتْ، وسنذكرُهُ فيما بعدُ إن شاءَ الله تعالى. والمعنى أنَّه يكشفُ ذلك البئرُ فيخرج منه نارٌ تلهب جهنَّم وتوقدُها. وقالَ اللَّه تعالى: (فَأَنذَرْتُكمْ نَارًا تَلَظَّى) ، قال مجاهدٌ وعْيرُهُ: توهجُ. قرأ عمرُ بنُ عبدِ العزيزِ ليلةً في صلاتِهِ سورةَ: (وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى) فلما بلغَ قولَهُ: (فَأَنذَرْتُكمْ نَارًا تَلَظَّى) ، بكى فلم يستطعْ أنْ يجاوزَهَا مرتينِ أو ثلاثًا، ثم قرأ سورةً أخرى غيرَها. * * * قوله تعالى: (وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا (110) وفي "الصحيحينِ " عن عائشةَ في قولِهِ تعالى: (وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا) أنها نزلت في الدعاءِ. وكذا رُوي عن ابنِ عباسٍ وأبي هريرةَ، وعن سعيدِ بنِ جبيرٍ وعطاءٍ وعكرمةَ وعروةَ ومجاهدٍ وإبراهيمَ وغيرِهم. وقال الإمامُ أحمدُ: ينبغي أن يسرَّ دعاءَه؛ لهذه الآيةِ. قال: وكان يكرَه أن يرفعُوا أصواتَهم بالدعاءِ. وقالَ الحسنُ: رفعُ الصوتِ بالدعاءِ بدعةٌ.

وقال سعيدُ بنُ المسيبِ: أحدثَ الناسُ الصوتَ عندَ الدعاءِ. وكرِهَه مجاهدٌ وغيرُهُ. وروى وكيعٌ، عن الربيع، عن الحسنِ - والربيع، عن يزيدَ بنِ أبانٍ، عن أنسٍ -: أنهما كرِها أن يُسمعَ الرجلُ جليسَهُ شيئًا من دعائِهِ. * * *

سورة الكهف

سُورَةُ الكَهْفِ قوله تعالى: (وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا (21) [قالَ البخاريُّ] : "بابُ: هل تُنْبَشُ قُبُورُ مُشركي الجاهليّة، ويُتخذُ مكانُها مساجدَ لقولِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: "لعن الله اليهودَ، اتَخذوا قبورَ أنبيائِهِم مساجدَ" وما يكرَهُ من الصلاةِ في القبُورِ": ورأى عمرُ أنسَ بنَ مالكٍ يُصلِّي عندَ قبرٍ، فقال: القبرَ القبرَ، ولم يأمرْهُ بالإعادةِ. مقصودُ البخاريّ بهذا البابِ: كراهةُ الصلاةِ بين القبورِ وإليها، واستدلَّ لذلكَ بأن اتَّخاذَ القبورِ مساجدَ ليسَ هو من شريعةِ الإسلامِ، بل من عملِ اليهودِ، وقد لعنَهُمُ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - على ذلكَ. وقد دلَّ القرآنُ على مثلِ ما دلَّ عليه هذا الحديثُ، وهو قولُ اللَّهِ عزَ وجلَّ في قصةِ أصحابِ الكهفِ: (قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهم مَسْجِدًا) ، فجعل اتخاذَ القبورِ على المساجدِ من فعلِ أهلِ الغلبةِ على الأمورِ، وذلك يشعرُ بأنَّ مستندَهُ القهرُ والغلبةُ واتباعُ الهوى، وأنَّه ليس من فعلِ أهلِ العلم والفضلِ المتبعينَ لما أنزلَ اللهُ على رسلِهِ من الهُدَى.

وإذا كرهتِ الصلاةُ إلى القبورِ وبينَها، فإن كانتِ القبورُ محترمةً اجْتُنِبَتِ الصلاةُ فيها، وإن كانتْ غيرَ محترمةٍ كقبورِ مشركي الجاهليةِ ونحوِهِم ممَّن لا عهدَ له ولا ذمَّة مع المسلمينَ، فإنه يجوزُ نبشُها ونقلُ ما يوجدُ فيها من عظامِهِم، والصلاةُ في موضعِها، فإنها لم تبقَ مقبرةٌ ولا بقيَ فيها قبورٌ، وقد نصَّ الإمامُ أحمدُ على ذلكَ في روايةِ المروزيِّ. وأمَّا ما ذكرَهُ عن عُمرَ - رضي الله عنه -، فمن روايةِ سفيانَ، عن حميدٍ، عن أنسٍ، قالَ: رآني عمرُ وأنا أصلِّي إلى قبرٍ، فجعلُ يشيرُ إليَّ: القبرَ القبرَ. ورواه إسماعيلُ بنُ جعفرٍ، عن حميدٍ، عن أنسٍ، حدَّثه أنه قامَ يصلِّي إلى قبرٍ لا يشعرُ به، فناداه عمرُ: القبرَ القبرَ، قالَ: ففطننتُ أنَّه يقولُ: القمرُ. فرفعتُ رأسي، فقال رجلٌ: إنَّه يقول: القبرُ، فتنحيتُ. وروي عن أنسٍ، عن عمرَ من وجوهٍ أُخر. وروى همامٌ: ثنا قتادةُ، أنَّ أنسًا مرَّ على مقبرةٍ وهم يبنون مسجدًا، فقالَ أنسٌ: كان يكرهُ أن يبنى مسجدٌ في وسطِ القبورِ. وقال أشعثُ: عن ابنِ سيرينَ: كانُوا يكرهونَ الصلاةَ بين ظهرانيِّ القبورِ. خرَّج ذلكَ كلَّه أبو بكرٍ الأثرمُ. وقال: سمعتُ أبا عبدِ اللَّهِ - يعني: أحمدَ - يُسألُ عن الصلاةِ في المقبرةِ؟ فكرَهَ الصلاةَ في المقبرةِ. فقيلَ له: المسجدُ يكونُ بين القبورِ، أيصلَّى فيه؟ فكره ذلك، قيل له: إنه مسجدٌ وبينه وبينَ القبورِ حاجزٌ؛ فكره أن يصلَّى فيه الفرضُ، ورخصَ أن يصلَّى فيه على الجنائزِ، وذكر حديثَ أبي مَرْثَدٍ الغَنويِّ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قالَ: "لا تصلُّوا إلى القبورِ". وقال: إسنادٌ جيد.

وحديثُ أبي مَرْثد هذا: خرَّجه مسلمٌ، ولفظُهُ: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، قالَ: "لا تجلسُوا على القبورِ، ولا تصلُّوا إليها". ورُويَ عن عمرِو بنِ يحيى المازنيِّ، عن أبيه، عن أبي سعيدٍ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "جعلتْ لي الأرضُ مسجدًا وطهورًا، إلا المقبرةُ والحمامُ ". خرَّجه الإمامُ أحمدُ وأبو داودَ وابنُ ماجةَ والترمذيُّ، وابنُ حبانَ والحاكمُ وصححَه. وقد اختلفَ في إرسالهِ ووصلِهِ بذكرِ "أبي سعيدٍ" فيه، ورجَّح كثيرٌ من الحفاظِ إرسالَهُ: عن عمرِو بنِ يحيى، عن أبيه، ومنهم: الترمذيّ والدارقطنيُّ. وفي البابِ أحاديثُ أُخرُ، قد استوفيناها في "كتابِ شرح الترمذيَ ". وأمَّا ما ذكره البخاريُّ: أن عمرَ لم يأمر أنسًا بالإعادةِ. فقد اختلفَ في الصلاةِ في المقبرةِ: هل تجبُ إعادتُها، أم لا؟ وأكثرُ العلماءِ على أنَّه لا تجبُ الإعادةُ بذلكَ، وهو قولُ مالكٍ. والشافعيِّ، وأحمدَ في روايةٍ عنه. والمشهورُ عن أحمدَ الذي عليه عامةُ أصحابِهِ: أنَّ عليه الإعادةَ " لارتكابِ النهي في الصلاةِ فيها. وهو قولُ أهلِ الظاهرِ - أو بعضِهِم - وجعلُوا النهيَ هاهنا لمعنى يختصُّ

بالصلاةِ من جهة مكانِها، فهو كالنهيِّ عن الصلاةِ المختصِّ بها لزمانِها كالصلاةِ في أوقاتِ النهي، وكالصيامِ المنهي عنه لأجلِ زمنِهِ المختصِّ به كصيامِ العيدين. حتى إن من أصحابِنا من قال: متى قُلنا: النهيُّ عن الصلاةِ في المقبرةِ والأعطانِ ونحوِها للتحريمِ، فلا ينبغي أن يكونَ في بطلان الصلاةِ فيها خلافٌ عن أحمدَ، وإنَّما الخلافُ عنه في عدمِ البطلانِ مبني على القول بأنه مكروهٌ كراهةُ تنزيهٍ. وأكثرُ العلماءِ على أن الكراهةَ في ذلكَ كراهةُ تنزيهٍ، ومنهُم من رخَّص فيه. قال ابنُ المنذرِ: اختلفُوا في الصلاةِ في المقبرةِ، فرُوِّينا عن عليٍّ وابنِ عباسٍ وعبدِ اللَّهِ بنِ عمرو وعطاء والنخعي أنهم كرهُوا الصلاةَ فيها، واختلفَ عن مالكٍ فيه، فحكى ابنُ القاسم عنه أنه قال: لا بأسَ به، وحكَى أبو مصعبٍ عنه أنه قال: لا أحبُّ ذلكَ. قال ابنُ المنذرِ: ونحنُ نكرهُ من ذلكَ ما كرههُ أهلُ العلم استدلالاً بالثابتِ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، أنّه قال: "اجعلُوا في بيوتِكُم من صلاتِكُم، ولاتتخذُوها قبورًا". ففي هذا دليلٌ على أنَّ المقبرةَ ليستَ بموضع للصلاةِ. قلتُ: قد استدل البخاريُّ بذلكَ - أيضًا - وعقدَ له بابًا مفردًا، وسيأتي في موضعِهِ - إن شاء اللَّه تعالى. قالَ ابنُ المنذرِ: وقد قال نافعٌ مولى ابنِ عمرَ: صلينا على عائشةَ وأمِّ سلمةَ

وسطَ البقيع، والإمامُ يومئذٍ أبو هريرةَ، وحضرَ ذلك ابنُ عمرَ. قلتُ: صلاةُ الجنازةِ مستثناةٌ من النهيِّ عندَ الإمامِ أحمدَ وغيره، وقد سبقَ قولُ أحمدَ في ذلكَ. وقالَ - أيضًا -: لا يصلَّى في مسجدٍ بين المقابرِ إلا الجنائزُ؛ لأنَّ الجنائزَ هذه سنتُها. يشيرُ إلى فعلِ الصحابةِ - رضي الله عنهم -. قال ابنُ المنذرِ: ورُوِّينا أنَّ وَاثِلةَ بن الأسْقَع كان يصلِّي في المقبرةِ، غيرَ أنه لايستترُ بقبرٍ. قلتُ: لأنه هو روى عن أبي مرثد حديثَ النهىِّ عن الصلاةِ إلى القبورِ. فكانَ يخصُّ النهي بحالةِ استقبالِ القبرَّ خَاصةً. قال ابنُ المنذرِ: وصلَّى الحسنُ البصريُّ في المقابر. قلتُ: لعلَّه صلَّى على جنازةٍ، فإنه روى عنه أنه أمرَ بهدمِ المساجدِ المبنيةِ في المقابرِ. قال: وكره عمرُ بنُ الخطابِ وأنسُ بنُ مالك الصلاةَ إلى المقابرِ. انتهى ما ذكره. واختلفَ القائلونَ بالكراهةِ في علَّةِ النهي: فقال الشافعيُّ: علةُ ذلكَ النجاسةُ، فإن ترابَ المقابرِ يختلطُ بصديدِ الموتى ولحومِهِم، فإن كانتْ طاهرةً صحت الصلاةُ فيها مع الكراهة. وقسم أصحابه المقبرة إلى ثلاثةِ أقسام: ما تكرَّر نبشُها، فلا تصحُّ الصلاةُ فيها، لاختلاطِ ترابها بالصَّديدِ. وجديدَّةَ لم تُنْبش، فتصحُّ الصلاةُ فيها مع

الكراهة؛ لأنها مدفن للنجاسة. وما شُكَّ في نبشِها، ففي صحة الصلاةِ فيها قولانِ. واختلفَ أصحابُنا في علةِ النهي عن الصلاةِ، فمنهم من قالَ: هو مظنةُ النجاسةِ، ومنهُم من قالَ: هو تعبُّد لا يُعْقلُ. وقالُوا مع هذا: لا فرقَ بين أن تكونَ قديمةً أو حديثةً، نُبِشَتْ أو لم تُنْبشُ. إذا تناولها اسمُ مقبرة. قالُوا: فإن كان في بقعةٍ قبرٌ أو قبرانِ فلا بأسَ بالصلاةِ فيه، ما لم يُصلِّ إلى القبرِ. وأنكرَ آخرونَ التعليلَ بالنجاسةِ، بناءً على طهارةِ ترابِ المقابرِ بالاستحالةِ. وعللوا: بأنَّ الصلاةَ في المقبرةِ وإلى القبور، إنَّما نَهَى عنه سدًّا لذريعةِ الشِّرْكِ، فإن أصلَ الشركِ وعبادة الأوثانِ كانتْ من تعظيمِ القبورِ. وقد ذكرَ البخاريُّ في "صحيحِهِ " في "تفسيرِ سورةِ نوح " عن ابنِ عباسٍ، معنى ذلك. وفي "صحيح مسلمٍ" عن جندب، سمعَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - قبلَ أن يموتَ بخمسٍ يقولُ: "إنَّ من كانَ قبلَكُم كانُوا يتخذونَ قبورَ أنبيائِهِم وصالحيهم مساجدَ، ألا فلا تتخِذُوا القبورَ مساجدَ، فإنِّي أنهاكم عن ذلك ". وهذا يعمُّ كلَّ القبورِ. وخرَّج الإمامُ أحمدُ وابنُ حبانَ في "صحيحِهِ " من حديثِ ابنِ مسعودٍ،

عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قالَ: "إنَّ من شرارِ الناسِ من تدركُهُم الساعةُ وهم أحياء، ومن يتخذُ القبورَ مساجدَ". وخرَّج الإمام أحمدُ وأبو داودَ والنسائيُّ من حديثِ أبي صالحِ، عن ابنِ عباسٍ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: "لعنَ اللَّهُ زائراتِ القبورِ، والمتخذينَ عليها المساجدَ والسُّرُج. وقال الترمذيُّ: حسنٌ - وفي بعضِ النُّسخ: صحيحٌ. وخرَّجهُ ابنُ حبانَ في "صحيحِهِ " والحاكمُ وصحَّحَه. واختلفَ في أبي صالح هذا، منْ هو؟ فقيلَ: إنه السمانُ - قاله الطبرانيُّ، وفيه بعدٌ، وقيلَ: إنه ميزانٌ البصريُّ. وهو ثقةٌ؛ قاله ابنُ حبانَ. وقيلَ: إنه باذَان مولى أمِّ هانئ؛ قاله الإمامُ أحمدُ والجمهورُ. وقد اختلفَ في أمره. فوثقه العجليُّ. وقالَ ابنُ معينٍ: ليس به بأسٌ، وقال أبو حاتمٍ: يُكْتَبُ حديثُهُ ولا يحتجُّ به. وقال النسائي: ليس بثقةٍ. وضعفه الإمامُ أحمدُ وقالَ: لم يصحَّ عندي حديثُهُ هذا. وقال مسلمٌ في "كتابِ التفصيلِ ": هذا الحديثُ ليسَ بثابتٍ، وأبو صالحٍ باذام قد اتقى الناسُ حديثَهُ، ولا يثبتُ له سماعٌ من ابنِ عباسٍ.

وروي عن زيدِ بنِ ثابتٍ، أنَّه نهى أن يُبْنَى عند قبرِ أبيه مسجدٌ. خرَّجه حربٌ الكرْمانيُّ. وقال أبو بكرٍ الأثرمُ في كتابِ "الناسخ والمنسوخ ": إنما كرهتِ الصلاةُ في المقبرةِ للتشبهِ بأهلِ الكتابِ؛ لأنهم يتخذونَ قبورَ أنبيائِهِم وصالحِيهم مساجدَ. ووجدنا في كتابٍ مصنفٍ على مذهبِ سفيان الثوريِّ: وإذا صلَّى الرجلُ وبين يديه ميتٌ تنحَّى عنه. إنما كره الصلاةَ إلى القبورِ من أجلِ الميتِ، فإنْ صلَّى إليها فلا بأسَ. وفيه - أيضًا -: قال سفيانُ: ويكرهُ أن يصلِّي الرجلُ إلى القبورِ أو ما بينَ القبورِ. ثم قالَ: ومن صلَّى إلى القبورِ فلا إعادةَ عليهِ. وفيه: قال: ولا تعجبني الصلاةُ على الجنازةِ في المقبرةِ. وهذا قولُ الشافعيِّ وإسحاقَ ورواية عن أحمدَ؛ لعمومِ النهيِّ عن الصلاةِ في المقبرةِ. واستدلَّ من رخَّصَ في صلاةِ الجنازةِ في المقبرةِ: بأنَّ الصلاةَ على القبرِ جائزةٌ بالسنة الصحيحةِ، فعلم أنَّ الصلاةَ على الميتِ في القبورِ غير منهيٍّ عنها. [قالَ البخاريُّ] : ثنا محمد بنُ المثنى: ثنا يحيى، عن هشام: أخبرني أبي، عن عائشة، أن أمَّ حبيبةَ وأم سلمةَ ذكرتا كنيسة رأينها بالحبشة فيها تصاويرُ، فذكرتا ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: "إن أولئك إذا كان فيهم الرجلُ الصالحُ فمات بنو على قبْر مسجدًا، وصوَّرُوا فيه تلك الصور، وأولئكِ شرارُ الخلقِ عندَ اللهِ يوم القيامةِ".

هذا الحديثُ يدلُّ على تحريمِ بناءِ المساجدِ على قبورِ الصالحينَ، وتصويرِ صورِهم فيها كما يفعلُهُ النصارَى، ولا ريبَ أنَّ كلَّ واحدٍ منهما محرم على انفراده: فتصويرُ صورِ الآدميينَ محرم، وبناءُ القبورِ على المساجدِ بانفرادِهِ محرم، كما دلتْ عليه نصوصٌ أُخرُ يأتِي ذكرُ بعضِها. وقد خرَّج البخاريُّ في "تفسيرِ سورةِ نوح " من "كتابِهِ " هذا من حديثِ ابنِ جريرٍ، فقالَ: عطاء، عن ابنِ عباسٍ: صارتِ الأوثانُ التي كانت في قومِ نوحٍ في العربِ تُعْبد، أما "ودّ": كانت لكلبٍ بدومَةِ الجندَلِ، وأمَّا، "سُواع": كانت لهذيلٍ، وأما "يَغُوثُ ": فكانت لمرادٍ، ثم لبني غُطيف بالجرفِ عند سبإٍ، وأمَّا "يعُوقُ ": فكانتْ لهمدانَ، وأمَّا "نسْر": فكانت لحِمْيَر لاآل ذي الكلاع: أسماء رجال صالحينَ من قومِ نوحٍ، فلما هلكُوا أوحى الشيطانُ إلى قومِهِم أن انصبُوا إلى مجالسِهِم التي كانُوا يجلسَون أنصابًا، وسمُّوها بأسمائِهِم، ففعلُوا، فلم تُعبد، حتى إذا هلكَ أولئك ونُسخَ العلمُ عُبِدتْ. وقد ذكرَ الإسماعيليُّ: أن عطاءً هذا هو الخراسانيُّ، الخراسانيُ لم يسمعْ من ابنِ عباسٍ. واللَّه أعلمُ. فإن اجتمعَ بناءُ المسجدِ على القبورِ ونحوِها من آثارِ الصالحينَ مع تصويرِ صورِهِم، فلا شكَّ في تحريمِهِ، سواءٌ كانتْ صورًا مجسدةً كالأصنامِ أو على حائطٍ ونحوِه، كما يفعلُه النصارى في كنائسهم، والتصاويرُ التي في الكنيسةِ التي ذكرتها أمُّ حبيبة وأمُّ سلمة أنهما رأتاها بالحبشة كانتْ على الحيطانِ

قوله عز وجل: (ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا (23) إلا أن يشاء الله واذكر ربك إذا نسيت وقل عسى أن يهدين ربي لأقرب من هذا رشدا (24)

ونحوِها، ولم يكنْ لها ظل، وكانتْ أمُّ سلمةَ وأمُّ حبيبة قد هاجرتا إلى الحبشةِ. فتصويرُ الصورِ على مثل صورِ الأنبياءِ والصالحينَ، للتبركِ بها والاستشفاع بها محرَّمٌ في دينِ الإسلامِ، وهو من جنسِ عبادةِ الأوثانِ، وهو الذي أخبر النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أن أهلَه شرارُ الخلقِ عندَ اللَّهِ يومَ القيامةِ. وتصوير الصورِ للتآنسِ برؤيتها أو للتنزهِ بذلك والتَّلهي محرَّم، وهو منَ الكبائرِ وفاعلُه من أشدِّ الناسِ عذابًا يومَ القيامةِ، فإنه ظالمٌ ممثِّلٌ بأفعالِ اللَّهِ التي لا يقدرُ على فعِلهَا غيرُه، واللَّهُ تعالى: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) ، لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله سبحانه وتعالى. * * * قوله عز وجل: (وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا (24) وسببُ نزولِهَا: أنّ قومًا سألُوا النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - عن قصةٍ، قال: غدًا أخبرُكم، ولمْ يقلُ إنْ شاء اللَّهُ. فاحتبس الوحيُ عنه مدةً، ثم نزلتْ هذه الآيةُ. وفي الحديثِ الصحيح: أنَّ سليمانَ - عليه السلامُ - قال: "لأطوفنَّ الليلةَ على مائةِ امرأةٍ" الحديث.

وفي الحديث: أنَّ بني إسرائيلَ، لو لمْ يقولُوا: "إنْ شاء اللَّه " ما اهتدُوا أبدًا يعني إلى البقرةِ التي أُمروا بذبحِهَا. وفي الحديثِ الذي في "المسندِ" و "السنن": أنَّ يأجوجَ ومأجوجَ يحفرونَ كلَّ يومٍ السدَّ حتى يكادُوا يروا منه شُعاعَ الشمسِ، ثم ينصرفونَ ويقولونَ غدًا نفتحُهُ فإذا رجعُوا من الغدِ وجدُوه كما كان أولاً حتى يأذنَ اللَّهُ في فتحِهِ، فيقولونَ: غدًا نفتحُهُ إنْ شاءَ اللَّهُ، فيرجعونَ فيجدونَهُ كما تركوه فيفتحونه. قال إبراهيمُ بنُ أدهمَ: قال بعضُهم: ما سألَ السائلونَ مسألةً هي أنجحُ من أن يقولَ العبدُ: ما شاء اللَّهُ قال: يعني بذلك: التفويضَ إلى اللَّهِ. وكان مالكُ بنُ أنسٍ كثيرًا يقولُ: ما شاءَ اللَّهُ ما شاءَ اللَّهُ. فعاتبه رجلٌ على ذلكَ. فرأى في منامِهِ قائلاً يقولُ: أنت المُعاتبُ لمالكٍ على قولِهِ ما شاء اللَّه، لو شاءَ مالكٌ أنْ يثقبَ الخردلَ بقولِه ما شاءَ اللَّهُ فعلَ. قال حمادُ بنُ زيدٍ: جعلَ رجلٌ لرجلٍ جُعلاً على أنْ يعبرَ نهرًا، فعبرَ حتى إذا قربَ من الشطِّ، قال: عبرتُ واللَّهِ، فقالَ له الرجلُ: قلْ إن شاء اللَّهُ. فقال: شاءَ اللَّهُ أو لم يشأ، قال: فأخذَتْهُ الأرضُ. فلا ينبغي لأحدٍ أن يُخبر بفعلٍ يفعله في المستقبلِ إلا أنْ يُلحقَهُ بمشيئةِ اللَّهِ. فإنَّه ما شاءَ اللَّهُ كان وما لم يشأ لم يكنْ. والعبدُ لا يشاءُ إلا أنْ يشاءَ اللهُ له. فإذا نسِيَ هذه المشيئةَ ثم تذكَّرها فقالَهَا عند ذكرها ولو بعدَ مدةٍ، فقد امتثلَ ما أُمِرَ به، وزالَ عنه الإثمُ، وإنْ كان لا يرفعُ ذلك عنه الكفارةَ،

ولا الحِنثَ في يمينِهِ، ولهذا في كلامِ أبي الدرداءِ: اللَّهُمَ اغفرْ لي وتجاوزْ عنِّي. فلم يسألْ إلا رفعَ الإثم دونَ رفع الكفارةِ. رُوي عن سعيدِ بنِ جبيرِ، في قولِهِ تعالي: (وَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ) . قال: يقولُ: إذا حلفتَ فنسيتَ الاستثناءَ فاستثنِ إذا ذكرتَ. ولو بعدَ خمسةِ أشهرٍ أو ستةَ أشهرٍ؛ فإنَّه يجزئك ما لم تحنثْ. خرَّجه آدمُ بنُ أبي إياسِ في "تفسيرِهِ ". وعلى هذا حَملَ قولَ ابنِ عباسٍ وأصحابهِ طائفةٌ من العلماءِ، منهُم: أبو مسعودٍ الأصبهانيُّ الحافظُ وابنُ جريرِ الطبريُّ. وكذا يُقال في هذا الحديثِ من تقدُّم الاستثناء؛ فإنَّ تقديمَه أبعدُ من تأخير عن اليمينِ، فإنَّ اليمينَ لم تُوجد بالكليَّة وفي تأخيره وجدتْ. وقد قالَ مالكٌ في الاستثناءِ في اليمينِ: إنْ ذكرَ المشيئةَ يريدُ بها الاسثتناءَ نفعَهُ ذلك في منع الحنثِ، وإنْ كان إنَما أراد امتثالَ قولِهِ تعالى: (وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ) ، ثم حنثَ، فإنَي أرى الكفارةَ نقلَهُ ابنُ المنذرِ وغيرُه وكذلك حكاهُ أبو عُبيد عن بعضِ العلماءِ. وترددَ بعضُ العلماء في وجوبِ الكفارةِ في هذا القسم؛ لترددِّ نظر بين اللفظِ والمعْنَى. فلفظُهُ معلَّق بالمشيئةِ، ومعناهُ الجزمُ بالفعلِ غير معلقٍ، وإنَّما ذكرَ الاستثناء تحقيقًا وتأكيدًا للفعلِ. وفي الجملةِ: فينبغي حملُ حديثِ زيدِ بنِ ثابتِ هذا على هذا المعنى. وأنْ تُقدَّم المشيئةُ على كل قولٍ يقولُه وحلفٍ يحلفُهُ ونذرٍ ينذرُهُ، ليخرجَ بذلكَ

من عُهدةِ استقلالِ العبدِ بفعلهِ، وليحققَ العبدُ أنَّه لا يكونُ مما يعزم عليه العبدُ ويقولُه من حل ونذرٍ وغيرِهِما إلا ما شاءَ اللَّهُ وأرادَهُ، ولهذا قالَ بعدَهُ: "ما شئتَ كان وما لم تشأ لم يكنْ، ولا حول ولا قوَّةَ إلا بكَ، إنَّك على كلِّ شيءٍ قدير". فتبرَّأ من حولِهِ وقوتِهِ ومشيئتِه بدون مشيئةِ اللَّهِ وحولِهِ وقوتِهِ، وأقرَّ لربِّه بقدرتِهِ على كلِّ شيءٍ وأنَّ العبدَ عاجز عن كلِّ شيءٍ إلا ما أقدرَهَ عليه ربّه. ففي هذا الكلامِ: إفرادُ الربِّ تعالى بالحولِ والقوةِ والقُدرةِ والمشيئةِ، وأنَّ العبدَ غيرُ قادرٍ من ذلكَ كلِّه إلا على ما يقدره مولاهُ، وهذا نهايةُ توحيدِ الربوبيةِ. وللشافعيِّ من أبياتٍ شعر: ما شئتَ كانَ وإنْ لم أشأْ. . . وما شئتُ إنْ لم تشأ لم يكنْ وقد حملَ طائفة منهُم الإمامُ أحمدُ كلامَ ابنِ عباسٍ في تأويلِ الآيةِ على وجهٍ آخرَ، وهو: أنَّ الرجلَ إذا قال: لا أفعلُ كذا وكذا، ثم أرادَ فعلَهُ فإنَّه يستثنِي، ويقولُ: إن شاءَ اللَّهُ، ثم يفعلُهُ ويتخلَّصُ بذلكَ من الكذبِ إذا لم يكنْ حلف على يمين. وكان يحيى بنُ سعيدٍ القطانُ، إذا قالَ: لا أفعلُ كذا. لا يفعلُه أبدًا، فإذا قيلَ له: لم تحلفْ؛ يقولُ: هذا أشدُّ - يعني الكذبَ - لو كنتُ حلفتُ كان أهونُ، كُنتُ أكفِّرُ يميني وأفعلُهُ. وسُئل الإمامُ أحمدُ عمَّن يقولُ: لا آكلُ ثم يأكلُ، قال: هو كذبٌ، لا ينبغي أنْ يفعلَ ذلك.

قال الله تعالى: (إنا أعتدنا للظالمين نارا أحاط بهم سرادقها وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه بئس الشراب وساءت مرتفقا (29)

ونقل الوليدُ بنُ مسلم - في "كتابِ الأيمان والنذورِ" عن الأوزاعيِّ، في رجلٍ كُلِّم في شيء فيقولُ: نعمْ، إن شاءَ اللَّهُ، ومن نيتِهِ أن لا يافعلَ. قالَ: هذا الكذبُ والخُلف. قالَ: إنَّما يجوزُ المُستثنى في اليمينِ، قيلَ لهُ: فإنَّه قالَ: نعم إنْ شاءَ اللَّهُ ومن نيتِهِ أنْ يفعلَ، ثم بدا لهُ أن لا يفعلَ. قالَ: له ثُنياه. وهذا يدلُّ على أنَّ الاستثناءَ بالمشيئةِ في غيرِ اليمينِ إنَّما ينفعُ لمن لم يكن مصممًا على مخالفةِ ما قالَهُ من أولِ كلامِهِ. * * * قال الله تعالى: (إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا (29) قالَ الزجاجُ: السرادقُ: كلُّ ما أحاطَ بشيءٍ نحو الشقة في المضربِ والحائطِ المشتملِ على الشيءِ. وقال ابنُ قتيبةَ: السرادقاتُ: الحرةُ التي تكونُ حولَ الفسطاطِ، قيلَ: هو الدهليزُ، معربٌ، وأصلُهُ بالفارسيةِ: سرادارُ. وقالَ ابنُ عباسٍ: هو سرادقُ من نارٍ. وروى ابنُ لهيعةَ عن دراج عن أبي الهيثمَ عن أبي سعيد الخدرىِّ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "سرادقُ أهلِ النارِ أربعةُ جدرٍ، كثفُ كلِّ جدارٍ مسيرةً أربعين سنةً" خرَّجه الترمذيُّ. وإحاطةُ السرادقِ بهم قريبٌ من المعنى المذكورِ في غلقِ الأبوابِ، وهو شبهُ

قولِ من قالَ: إنه حائط لا بابَ لهُ. ولما كانَ إحاطةُ السرادِق بهم موجب لهمّهِم وغمِّهِم وكربِهِم وعطشِهِم لشدةِ وهج النارِ عليهم، قال اللَّه تعالى: (وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا) . وقال تعالى: (وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (21) كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (22) . قال أبو معشرٍ: كنا في جنازة مع أبي جعفرٍ القاري فبكى أبو جعفرٍ، ثم قالَ: حدَّثني زيدُ بنُ أسلمَ، أنَّ أَّهَلَ النارِ لا يتنفسونَ، فذلك الذي أبكاني. خرَّجه الجوزجانيُ. وخرَّج ابنُ أبي حاتمن طريقِ إبراهيمَ بنِ الحكم بنِ أبانَ عن أبيهِ عن عكرمةَ، قال: على كلِّ بابٍ من أبوابِ النارِ سبعونَ ألفَ سرادقٍ من نارٍ، في كلِّ سرادقٍ منها سبعونَ ألفَ قبة من نارٍ، في كلِّ قبةٍ منها سبعونَ ألفَ تنورٍ من نارٍ، في كلِّ تنورٍ منها سبَّعَون ألفَ كوةٍ من نارٍ، في كلِّ كوةٍ منها من نار. على كلِّ صخرة سبعونَ ألفَ صخرةٍ منها سبعون ألفَ حجرٍ من نارٍ، على كلِّ حجرٍ منها سبعونَ ألفَ عقربٍ من نارٍ، لكلِّ عقربٍ منها سبعونَ ألفَ ذنبٍ من نارٍ، لكلِّ ذنبٍ منها سبعونَ ألفَ فقارةٍ من نارٍ، في كل فقارة منها سبعونَ ألفَ قلةٍ من سمٍّ وسبعونَ ألفَ موقد من نارٍ يوقدونَ تلك النارَ، وَذكر تمامَ الحديثِ، وسيأتِي فيما بعد إن شاء اللَّهُّ تَعالى؛ وفيه: "إنهم يهوونَ من بابٍ إلى بابٍ خمسمائةَ سنةٍ" وهو غريب ومنكرٌ، وإبراهيمُ بنُ الحكمِ بنِ أبانَ ضعيف تركه الأئمةُ.

وأبوابُ جهنَّم قبلَ دخولِ أهلِها إليها يومَ القيامةِ مغلقةٌ كما دلَّ عليه ظاهرُ قولِهِ تعالى: (وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا) وفي حديثِ أبي هارونَ العبدي وهو ضعيف جدًّا عن أبي سعيدٍ الخدريِّ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في قصة الإسراءِ، قال: "ثم عُرضتْ عليَّ النارُ، فإذا فيها غضبُ اللَّهِ وزجره ونقمتِه، لو طرحَ فيها الحجارةُ والحديدُ لأكلتْها، ثم أغلقتْ دونِي ". وقد رُويَ أن أبوابَها تفتحُ كل يوم نصفُ النهارِ، وسنذكرُهُ فيما بعدُ - إن شاء اللَّه تعالى. وروى الإمامُ أحمدُ عن إسحاقَ الأزرقيِّ عن شريكٍ عن الركينِ عن أبيه. قالَ: رأى خبابُ بنُ الأرتِّ رجلاً يصلِّي نصفَ النهارِ فنهاه، وقالَ: إنها ساعةٌ تفتحُ فيها أبوابُ جهنَّمَ فلا تصلّ فيها. وقد وردَ ما يستدلُّ به على أنها مفتحةٌ، ففي "الصحيحينِ " عن أبي هريرةَ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "إذا جاءَ رمضانُ فتحتْ أبوابُ الجنةِ وغلِّقَت أبوابُ النارِ وصفدتِ الشياطينُ ومردةُ الجنِّ ". وخرَّج الترمذيُّ من حديثِ أبي هريرةَ عنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا كان أولُ ليلة من شهر رمضانَ صفدتِ الشياطينُ ومردةُ الجنِّ وأغلقتْ أبوابُ النارِ، فلم يفتحْ منها بابٌ وفتحتْ أبوابُ الجنةِ فلم يغلقْ منها بابٌ". ولكنْ قد قيلَ: إن إغلاقَ أبوابِ النارِ إنَّما هو عن الصائمينَ خاصةً،

قوله تعالى: (ولولا إذ دخلت جنتك قلت ما شاء الله لا قوة إلا بالله إن ترن أنا أقل منك مالا وولدا (39)

وكذلك فتحُ أبوابِ الجنةِ هو لهم خاصةً. وفي حديثِ القاسم العرنيِّ عن الضحاكِ عن ابنِ عباسٍ عنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في فضلِ رمضانَ، قالَ فيه: "فيفتحُ فيها" أي في أولِ ليلةٍ منه: "أبوابُ الجنةِ للصائمينَ من أمةِ محمد - صلى الله عليه وسلم -، فيقولُ اللَّهُ: يا رضوانُ، افتحْ أبوابَ الجنانِ، ويا مالكُ، أغلِقْ أبوابَ الجحيم عن الصائمينَ من أمَّةِ محمد - صلى الله عليه وسلم - وهذا منقطعٌ. فإن الضحاكَ لم يسمعْ من ابنِ عباسٍ. * * * قوله تعالى: (وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا (39) قال ابن الجوزي في "المقتبس ": سمعت الوزير يقولُ: في قولِهِ تعالى: (وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ) ، قال: ما قالَ: ما شاءَ اللَّه كانَ ولا يكونُ، بلْ أطلقَ اللفظَ، ليعمَّ الماضي والمستقبلَ والراهنَ. وسمعته يقول: وتدبرتُ قولَه تعالى: (لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ) ، فرأيتُ لها ثلاثةَ أوجهٍ. أحدُها: أن قائلَها يتبرأُ من حولِهِ وقوتِهِ، ويسلِّمُ الأمرَ إلى مالِكِهٍ. والثاني: أنه يعلمُ أنْ لا قوةَ للمخلوقينَ إلا باللَّه، فلا يخافُ منهم؛ إذ قُواهُم لا تكونُ إلا باللَّهِ، وذلك يوجبُ الخوفَ من اللًّهِ وحدَهُ. والثالثُ: أنَّه ردَّ على الفلاسفةِ والطبائعيين الذين يدَّعونَ القُوى في الأشياءِ

قوله تعالى: (ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه ويقولون يا ويلتنا مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها)

بطبيعتها، فإنَّ هذه الكلمةَ بيَّنتْ أنَّ القَويَّ لا يكُونُ إلا باللَّه. * * * قوله تعالى: (وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا) وقولُهُ - صلى الله عليه وسلم -: "أتبع السَّيِّئةَ الحسنةَ تمحُها" ظاهرُه أنَّ الستيئاتِ تُمحَى بالحسناتِ. وقد تقدَّم ذكرُ الآثارِ التي فيها أنَّ السيئةَ تمحى من صُحفِ الملائكة بالحسنةِ إذا عُملتْ بعدَهَا، قال عطيّةُ العوفيُّ: بلغنِي أنَّه من بكى على خطيئتهِ مُحيتْ عنه، وكُتِبتْ له حسنة، وعن عبدِ اللَّهِ بنِ عمرو، قالَ: من ذكرَ خطيئةً عمِلهَا، فوَجِلَ قلبُهُ منها، فاستغفرَ اللَّهَ عزَّ وجلَّ لم يَحبسْها شيءٌ حتى يمحوها عنه الرَّحمنُ. وقال بِشْرُ بنُ الحارثِ: بلغني عن الفضيلِ بنِ عياضٍ. قالَ: بكاءُ النَّهارِ يمحُو ذنوبَ العلانيةِ: وبكاءُ الليلِ يمحُو ذنوبَ السِّرِّ، وقد ذكرَنا قولَ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -: "ألا أدلكم على ما يمحُو اللَّه به الخطايا ويرفعُ به الدرجاتِ " الحديث. وقال طائفة: لا تُمحَى الذنوبُ من صحائفِ الأعمالِ بتوبةٍ ولا غيرِها، بل لابُدَّ من أن يُوقفَ عليها صاحبُها ويقرأُها يومَ القيامةِ، واستدلُّوا بقولِهِ تعالى: (وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا) . وفي الاستدلالِ بهذهِ الآيةِ نظرٌ، لأنَّه إنَّما ذكرَ فيها حالَ المجرمينَ، وهم أهلُ الجرائم، والذنوبِ العظيمةِ، فلا يدخلُ فيهم المؤمنونَ التائبونَ من ذنوبِهِم، أو المغمورةِ ذنوبُهم بحسناتِهِم. وأظهرُ من هذا، الاستدلالُ بقولِهِ تعالى: (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8) .

وقد ذكر بعضُ المفسرينَ أنَّ هذا القولَ هو الصحيحُ عند المحققينَ. وقد رُوي هذا القولُ عن الحسنِ البصريِّ، وبلالِ بنِ سعدٍ الدمشقيِّ. قال: الحسنُ في العبدِ يذنبُ، ثم يتوبُ، ويستغفرُ: يُغفر له، ولكن لا يُمحاه من كتابِهِ دونَ أن يقِفَه عليه، ثم يسأله عنه، ثم بكى الحسنُ بكاءً شديدًا، وقال: لو لم نبكِ إلا للحياءِ من ذلك المقامِ، لكان ينبغي لنا أن نبكي. وقال بلالُ بنُ سعدٍ: إن اللَّهَ يغفرَ الذنوبَ، ولكن لا يمحُوها من الصحيفةِ حتى يُوقفه عليها يومَ القيامةِ وإن تابَ. وقال أبو هريرة: يُدني اللَهُ العبدَ يومَ القيامةِ، فيضعُ عليه كنَفَهُ، فيستُرُهُ من الخلائقِ كُلِّها، ويدفعُ إليه كتابَهُ في ذلكَ السترِ، فيقولُ: اقرأ يا ابنَ آدمَ كتابَك، فيقرأُ، فيمرُّ بالحسنةِ، فيبيضُّ لها وجهُه، ويُسرُّ بها قلبُه، فيقولُ اللَّهُ: أتعرفُ يا عبدِي؟ فيقولُ: نعم، فيقولُ: إنِّي قبلتُها منكَ، فيسجدُ، فيقولُ: ارفعْ رأسكَ وعُدْ في كتابِك، فيمرُّ بالسيِّئةِ، فيسودُّ لها وجههُ، ويُوْجَلُ منها قلبُه، وترتعدُ منها فرائصُهُ، ويأخذُه من الحياءِ من ربِّه ما لا يعلمُه غيرُهُ، فيقول: أتعرفُ يا عبدِي؟ فيقول: نعم يا ربِّ، فيقولُ: إنِّي قد غفرتُها لكَ، فيسجدُ، فلا يرى منه الخلائقُ إلا السُّجودَ حتى ينادِي بعضُهم بعضًا: طُوبى لهذا العبدِ الذي لم يَعصِ اللَّه قطُّ، ولا يدرونَ ما قد لقِيَ فيما بينه وبينَ ربِّه ممَّا قد وقفَهُ عليه. وقال أبو عثمانَ النَّهْديُّ عن سلمانَ: يُعطَى الرجلُ صحيفتَهُ يومَ القيامةِ. فيقرأ أعلاها، فإذا سيئاتُهُ، فإذا كادَ يسوءُ ظنُّه، نظرَ في أسفلِهَا، فإذا

قوله تعالى: (فما اسطاعوا أن يظهروه وما استطاعوا له نقبا (97)

حسناتُهُ، ثم نظرَ إلى أعلاها فإذا هي قد بُدلتْ حسناتٍ. ورُوي عن أبي عثمانَ، عن ابنِ مسعود، وعن أبي عثمانَ من قولِهِ وهو أصحُّ. وروى ابنُ أبي حاتم بإسنادِهِ عن بعضِ أصحابِ معاذِ بنِ جبلٍ، قالَ: يدخلُ أهلُ الجنةِ الجنةَ على أربعةِ أصنافٍ: المتقينَ، ثم الشاكرينَ، ثم الخائفينَ، ثم أصحابُ اليمينِ. قيلَ: لِمَ سُمُوا أصحابَ اليمينِ؟ قال: لأنَّهم عملُوا الحسناتِ والسيئاتِ، فأعطُوا كتبهم بإيمانهم، فقرءُوا سيئاتِهُم حرفًا حرفًا، قالُوا: يا ربَّنا هذه سيئاتُنا فأين حسناتُنا؟ فعندَ ذلك محا اللَّهُ السيئاتِ، وجعلَها حسناتٍ، فعند ذلك قالُوا: (هَاؤُمُ اقْرَءُوا كتَابِيَهْ) ، فهم أكثرُ أهلِ الجنةِ. وأهلُ هذا القول قد يحملونَ أحاديثَ محوِ السيئات بالحسنات على محوِ عقوبتها دون محوِ كتابتِها من الصحفِ، واللَّه أعلم. َ * * * قوله تعالى: (فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا (97) قال ابن الجوزي في "المقتبس ": سمعت الوزير يقول في قوله تعالى: (فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا) ، قال: "التاء" من حروف الشدَّة، تقول في الشيءِ القريبِ الأمر: ما اسطعتُه، وفي الشَّديدِ: ما استطعته، فالمعنى: ما أطاقوا ظهوره لضعفهم، وما قدروا على نقبه وشدَّتِهِ. * * *

سورة مريم

سُورَة مَرْيَمَ قوله تعالى: (وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (39) ولا يزالُ أهلُ جهنَّم في رجاء الفرج إلى أنْ يُذبحَ الموتُ، فحينئذ يقعُ منهم الإياسُ وتعظمُ عليهم الحسرة والحزنُ. وفي "الصحيحينِ " عن أبي سعيدٍ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "يجاء بالموتِ يومَ القيامةِ كأنه كبشٌ أملحُ، فيوقفُ بين الجنةِ والنارِ، فيقالُ: يا أهلَ الجنة هل تعرفونَ هذا؟ فيشرئبونَ، وينظرونَ، ويقولونَ: نعم، هذا الموتُ، ويقال: يا أهل النار، هل تعرفون هذا فيشرئبونَ وينظرونَ، فيقولون: نعم، هذا الموتُ، قال: فيؤمرُ به فيذبحُ، ثم يقالُ: يا أهل الجنةِ خلود فلا موت ويا أهل النارِ خلود فلا موت". ثم قرأ رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - (وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) . وخرَّجه الترمذيُّ بمعناه، وزادَ: "فلولا أنَّ اللَّهَ قضى لأهل الجنة بالحياةِ والبقاءِ لماتُوا فرحًا، ولولا أن اللَّه قضى لأهلِ النارِ بالحياةِ والبقاءِ لماتُوا ترَحًا". وخرَّج الإمامُ أحمدُ والترمذيُّ وابنُ ماجةَ معناه من حديثِ أبي هريرةَ

عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وقال فيه: "إنَّ أهلَ الجنةِ يطلعون خائفينَ وجلينَ أن يخرجُوا من مكانِهِم الذي هُم فيه، وإنَّ أهلَ النارِ يطلعُون مستبشرينَ فرحينَ أن يخرجُوا من مكانِهِم الذي هم فيه " وفي روايةِ الترمذيِّ: "مستبشرينَ يرجونَ الشفاعةَ". وخرَّجاه في "الصحيحينِ " من حديثِ ابنِ عمرَ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - بمعناه. وفي حديثِه "فيزدادُ أهل الجنةِ فرحًا إلى فرحِهِم، ويزدادُ أهلُ النارِ حزنًا إلى حزنهِم " وخرَّجه الترمذيُّ من حديثِ أبي سعيدٍ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - مختصرًا، وفيه: "فلو أنَّ أحدًا مات فرحًا لماتَ أهلُ الجنةِ، ولو أنَّ أحدًا ماتَ حزنًا لماتَ أهلُ النارِ". وخرَّج ابنُ أبي حاتمٍ بإسنادِهِ عن ابنِ مسعودٍ من قولِهِ نحوَ هذا المعنى غير مرفوع وزادَ: "أنه ينادَى أهلُ الجنةِ وأهلُ النارِ: هو الخلودُ أبدَ الآبدينَ ". قال: فيفرحُ أهلُ الجنةِ فرحةً لو كان أحد ميتًا من فرحه لماتُوا، ويشهقُ أهلُ النارِ شهقةً لو كان أحدٌ ميتًا من شهقِهِ لماتُوا، فذلك قولُه: (وأَنذِرْهُمْ يوْمَ الآزِفَةِ إِذِ الْقلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ) . وقولُه تعالى: (وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ) . ورَوى ابنُ أبي الدنيا بإسنادِهِ عن هشامِ بنِ حسانَ، قالَ: مرَ عمرُ بنُ الخطابِ بكثيبٍ من رملٍ فبكى، فقيلَ له: ما يبكيكَ يا أمير المؤمنينَ؟ قال: ذكرتُ أهلَ النارِ فلو كانُوا مخلدينَ في النارِ بعددِ هذا الرملِ كانَ لهم أمد يمدون إليه أعناقَهُم ولكنَّه الخلودُ أبدًا. وقد رُوي عن ابنِ مسعودٍ هذا المعنى أيضًا مرفوعًا، وموقوفًا، وسنذكره فيما بعدُ - إن شاءَ اللَّهُ تعالى.

وأمَّا عصاةُ الموحدينَ: فإنه ربما ينفعهم الدعاءُ في النارِ، خرَّج الإمامُ أحمدُ من حديثِ أبي ظلالٍ عن أنسِ بنِ مالكٍ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "إنَّ عبدًا في جهنَّم لينادِي ألفَ سنةٍ: يا حنانُ يا منانُ، فيقولُ اللَّهُ عزَّ وجلَّ لجبريلَ عليه السلامُ: اذهب فأتني بعبدِي هذا، فيذهبُ جبريلُ فيجدُ أهلَ النارِ منكبينَ يبكونَ، فيرجعُ إلى اللَّهِ عزَّ وجلَّ فيخبره، فيقولُ: ائتني به فإنَّه في مكانِ كذا وكذا، فيجيءُ به ويوقفُهُ على ربِّه، فيقولُ له: يا عبدي كيفَ وجدتَ مكانَكَ؟ فيقولُ: يا ربِّ شرُّ مكانٍ وشرُّ مقيلٍ، فيقولُ: ردُّوا عبدي. فيقولُ: يا ربِّ ما كنتُ أرجُو إذ أخرجْتَني منها أن تردَّني، فيقولُ: دعُوا عبدِي ". أبو ظلالٍ اسمُهُ هلالٌ؛ ضعفوه. خرَّج الترمذيُّ من طريق رشدين بنِ سعدٍ، حدثني ابنُ أنعمَ - هو الإفريقيُّ -، عن أبي عثمانَ أنه حدثه عن أبى هريرةَ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "إنَّ رجلينِ ممن دخلَ النارَ اشتدَ صياحُهما، فقالَ الربّ عزَّ وجلَّ: أخرجُوهما، فلما خرَجا، قال لهما: لأيِّ شيءٍ اشتدَّ صياحُكما، قالا: فعلنا ذلك لترحَمنا، قال: رحمتي لكُما أن تنطلقَا فتلقيا أنفسَكُما حيث كنتُما من النارِ، قال: فينطلقانِ فيلقي أحدُهُما نفسَه، فيقولُ له الربّ عزَّ وجلَّ: ما منعك أن تلقيَ نفسَكَ كما ألقى صاحبُك؟ قال: إني لأرجُو أن لا تعيدَني فيها بعدَما أخرجتني، فيقولُ له الربُّ عزَّ وجلَّ: لك رجاؤك، فيدخلا جميعًا الجنةَ برحمة اللَّه عزَّ وجلَّ ". قال الترمذيُّ: إسنادُ هذا الحديثُ ضعيفٌ. وفي "صحيح مسلم " عن أنسٍ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "يخرجُ من النارِ أربعةٌ فيعرضونَ على اللَّهِ عزَّ وجلَّ، فيلتفتُ أحدُهُم فيقولُ: أي ربِّ إذْ أخرجتني منها فلا تعدني فيها، قال: فينجيه منْهَا".

وخرَّجه ابنُ حبانَ في "صحيحِهِ " وعندَهُ: "فيلتفتُ فيقولُ: يا ربَ ما كانَ هذا رجائي فيكَ، فيقولُ: ما كان رجاؤك؟ قال: كانَ رجائِي إذ أخرجتني منها أن لا تعيدني فيها. فيرحمَهُ اللَّهُ فيدخلهُ الجنةَ". وخرَّجَ الإمامُ أحمد من روايةِ عليِّ بنِ زيدِ بنِ جدعانَ عن ابنِ المسيبِ عن أبي سعيدٍ وأبي هريرة عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "إن آخرَ رجلينِ يخرجانِ من النارِ فيقولُ اللَّهُ عزَّ وجلَّ لأحدِهِما: يا ابنَ آدمَ ماذا أعددتَ لهذا اليومِ؛ هل عملتَ خيرًا قط؟ هل رجوتني؟ فيقولُ: لا، أي ربِّ، فيؤمرُ به إلى النارِ. فهو أشدُّ أهلِ النار حسرةً، ويقولُ للآخرِ: ماذا أعددتَ لهذا اليوم؟ هل عملتَ خيرًا قط أو رجوتني؟ فيقولُ: لا، أي ربَ، إلا أني كنتُ أرجوك، قال: فيرفعُ له شجرةً"، وذكر الحديثَ في دخولِهِ الجنةِ وما يُعطَى فيها. وخرَّج هناد بنُ السري من طريقِ أبي هارونَ العبدي وفيه ضعفٌ شديد عن أبي سعيدٍ الخدريِّ عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أن رجالاً يدخلُهُم اللَّهُ النارَ فيحرقُهُم بها حتى يكونُوا فحمًا أسودَ، وهم أعلَى أهلِ النارِ، فيجأرونَ إلى اللَّهِ عزَّ وجلَّ يدعونَهُ، فيقولونَ: ربنا أخرجْنَا منها، فاجعلنا في أصلِ هذا الجدارِ، فإذا جعلَهُم في أصلِ الجدارِ رأوا أنه لا يُغني عنهم شيئًا، قالُوا: ربَّنا اجعلنا من وراءِ هذا السورِ، لا نسألُك شيئًا بعدَه، فيرفع لهم شجرةً حتى تذهب عنهم سخنةُ النارِ - أو: شحنة النارِ" وذكر الحديث. * * *

قوله تعالى: (وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتما مقضيا (71) ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثيا (72)

قوله تعالى: (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا (71) ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا (72) قال اللَّهُ تعالى: (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا (71) ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا (72) . روى إسماعيلُ بنُ أبي خالدٍ عن قيسِ بنِ أبي حازمٍ قالَ: بكَى عبدُ اللَّهِ بنُ رواحةَ فبكتِ امرأتُهُ، فقالَ لها: ما يبكيكِ؟ قالت: رأيتُك تبكي فبكيتُ. قال: إني ذكرتُ هذه الآيةَ: (وِإن مِّنكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا) وقد علمتُ أنِّي داخلُها، فلا أدري أناج منها أنا أم لا؟ وروى ابنُ المباركِ عن عبادِ المقبريِّ، عن بكرٍ المزنيِّ، قالَ: لما نزلتْ هذه الآيةُ (وِإن مِّنكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا) ذهبَ ابنُ رواحةَ إلى بيتِهِ فبكَى. وجاءتِ المرأةُ فبكتْ، وجاءتِ الخادمُ فبكتْ، ثم جاءَ أهلُ البيتِ فجعلُوا يبكونَ كلُّهم، فلما انقطعتْ عبرتُهُ قالَ: يا أهلاه ما يبكيكُم؟ قالُوا: لا ندري، ولكنَّا رأيناكَ تبكي فبكينَا. قالَ: آية نزلتْ على رسولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -. ينبئُني فيها ربِّي أني وارد النارَ ولم ينبئني أني صادِر عنها. وقال موسى بنُ عقبةَ في "مغازيه ": زعمُوا أنَّ ابنَ رواحةَ بكى حينَ أرادَ الخروجَ إلى موتِهِ، فبكَى أهلُه حينَ رأوه يبكي، فقالَ: واللَّهِ ما بكيتُ جزعًا من الموتِ ولا صبابةً لكُم، ولكنّي بكيتُ جزعًا من قولِ اللَّه عزَّ وجلَّ: (وِإن مِّنكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا) فأيقنتُ أني واردُها، فلا أدري أنجُو منها أم لا؟ وقال حفصُ بنُ حميدٍ عن شمرِ بنِ عطيةَ: كان عمرُ بنُ الخطابِ - رضي الله عنه - إذا قرأ هذه الآيةَ يبْكِي، ويقولُ: ربِّ أنا ممن تُنجي أم من تذرُ فيها جثيًّا.

ورَوى أبو إسحاقَ عن أبي ميسرةَ: أنه كان إذا أوى إلى فراشِهِ، قالَ: يا ليتَ أمي لم تلدْني، فقالتْ له امرأتُهُ: يا أبا ميسرةَ إنَّ اللَّهَ قد أحسنَ إليكَ هداكَ للإسلامِ، قالَ: أجل، إنَّ اللَّهَ يبيِّنُ لنا أنَّا واردُو النار ولم يبيِّنْ أنَا صادرونَ منها. وروينا من طريقِ سفيانَ بنِ حسينٍ عن الحسنِ، قال: كان أصحابُ رسولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إذا التقوْا يقولُ الرجلُ منهم لصاحبِهِ: هل أتاكَ أنَّكَ واردٌ النارَ؟ فيقولُ: نعم، فيقولُ: هل أتاكَ أنَّك خارجٌ منها؟ فيقولُ: لا، فيقولُ: ففيم الضحكُ إذًا؟! وقالَ ابنُ عيينةَ عن رجلٍ عن الحسنِ، قالَ رجلٌ لأخِيه: يا أخي هل أتاكَ أنَّكَ واردٌ النارَ؟ قال: نعم، قال: هل أتاكَ أنَّك خارج منها؟ قالَ: لا، قالَ: ففيم الضحكُ إذًا؟ قالَ: فما رُئي ضاحكًا حتى ماتَ. وقال الإمامُ أحمدُ: حدثنا هاشمُ بنُ القاسم، حدثنا المباركُ بنُ فضالةَ، عن الحسنِ في قولِهِ عزَ وجل: (وَإِن مِّنكُم إِلَّا وَارِدُهَا) قال: قالَ رجل لأخِيه: فقدْ جاءكَ عن اللَّه أنَّك واردٌ جهنم؟ قال: نعم، قالَ: فأيقنتَ بالورودِ؟ قال: نعم، قال: فأيقنتَ وصدَّقتَ بذلكَ؟ قال: نعم، وكيفَ لا أصدِّقُ وقد قال اللَّهُ عزَّ وجلَّ: (وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كانَ عَلَى رَبِّكَ حَتما مَّقْضِيًّا) قال: فأيقنتَ أنك صادرٌ عنها؟ قالَ: واللَّهِ ما أدري أأصدُر عنها أم لا؟ قالَ: ففيم التثاقُل؛، وفيم الضحكُ؟ ، وفيمَ اللعبُ؟ قال أحمدُ: وحدثنا خلفُ بنُ الوليدِ، حدثنا المباركُ، قال: سمعتُ الحسنَ يقولُ: لا - واللَّهِ - إنْ أصبحَ فيها مؤمن إلا حزينًا، وكيف لا يحزن المؤمنُ،

وقد جاءَهُ عن اللَّهِ أنه واردٌ جهنمَ ولم يأتِهِ أنه صادرٌ عنها. قال أحمدُ: وأنبأنا حسينُ بنُ محمدٍ، حدثنا ابنُ عياشٍ، عن عبدِ اللَّهِ بنِ دينارٍ أنَّ لقمانَ، قال لابنِهِ: يا بنيَّ كيف يأمنُ النارَ من هُو واردُها؟ وقد اختلفَ الصحابةُ ومن بعدهم في تفسيرِ الورودِ، فقالت طائفةٌ: الورودُ هو المرورُ على الصراطِ، وهذا قولُ ابنِ مسعود، وجابر، والحسنِ. وقتادةَ، وعبدِ الرحمنِ بنِ زيدِ بنِ أسلمَ، والكلبيِّ، وغيرِهم. وروى إسرائيلُ عن السديِّ: قالَ: سألتُ مرةَ الهمداني عن قزلِ اللَّهِ عزَّ وجلَّ: (وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا) ، فحدَّثني عن ابنِ مسعودٍ أنه حدثهم. قال: قالَ رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: "يرِدُ الناسُ النارَ ثم يصدرونَ عنها بأعمالهم، فأولُهم كلمحِ البرق، ثم كالريح، ثم كحضرِ الفرسِ، ثم كالراكبِ في رحلِهِ ثم كَسَيرِ الرجلِ ثم كمشيه " خرَّجه الترمذيُّ، وقال: حديثٌ حسنٌ، وخرَّج الإمامُ أحمدُ أوَّلَهُ. وخرَّجه الحاكمُ وقال: صحيحٌ، ورواه شعبةُ عن السديِّ عن مرَّةَ عن عبدِ اللَّهِ موقوفًا ولم يرفعْهُ شعبةُ، مع أنه قرأ بأنَّ السديَّ حدثه به مرفوعًا، قال الدارقطنيُّ: يحتملُ أن يكونَ مرفوعًا. قلتُ: ورواه أسباطٌ عن السديِّ عن مرَّةَ الهمدانيِّ عن عبدِ اللَهِ موقوفًا أيضًا، فقالَ: "يردُ الناسُ الصراطَ جميعًا، وورودُهُم: قيامُهُم حولَ النارِ، ثم يصدرونَ عن الصراطِ بأعمالهم، فمنهُم من يمرُّ كالبرقِ " فذكرَ الحديثَ بطولِهِ. وفي آخر: "حتى إن آخرَهُم مرًّا: رجلٌ نورُهُ على إبهامي قدميه، يتكفأ به الصراطُ دحضٌ مزلةٌ، عليه حسكٌ كحسكِ القتادِ، حافتاه ملائكةٌ معهم كلاليبُ من نارٍ يختطفونَ بها الناسَ " وذكر بقية الحديثِ. خرَّجه ابنُ أبي حاتمٍ.

ورواه الحكمُ بنُ ظهيرِ عن السدي عن مرة عن عبدِ اللهِ فرفعَ آخر الحديثِ، ولفظُ حديثِهِ: قالَ عبدُ اللَهِ: الورودُ ليسَ بالدخولِ فيها ولكنه حضورُها والوقوفُ عليها، مثلُ الدابةِ تردُ الماءَ ولا تدخلُهُ، ثم قالَ عبدُ اللَّهِ: قال رسولُ اللَهِ - صلى الله عليه وسلم -: "يضعُ اللَهُ الصراطَ على جهنَّمَ فيجوزُ العبادُ عليه " وذكرَ الحديثَ بطولهِ، وفي آخرِهِ: "ولو قيلَ لأهلِ النار: إنَّكم ماكثونَ في النارِ عددَ كلِّ حصاةِ في الدنيا سنةً لرجُوا، وقالُوا: إنَّا لابدَّ مخرجونَ، ولو قيلَ لأهلِ الجنةِ: إنَّكم ماكثونَ في الجنةِ عددَ كُلِّ حصاةِ في الدنيا سنةَ حزنُوا، وقالُوا: إنَّا لابدَّ مخرجونَ، ولكن اللهَ جعلَ لهما الأبدَ ولم يجعلْ لهما الأمدَ"، و "الحكمُ بنُ ظهيرِ" ضعيفٌ. ولعل هذا الكلام فَي آخرِ الحديث موقوف على ابن مسعودِ، فإنه رُوي عنه موقوفًا من وجهِ آخرَ بإسنادِ جيدِ، قال أبو الحسنِ بنُ البراءِ العبدي في كتابِ "الروضةِ" له: حدثنا أحمدُ بنُ خالدِ - هو: الخلالُ -، حدثنا عثمان بنُ عمرَ، حدثنا إسرائيلُ، عن أبي إسحاقَ عن عمرِو بنِ ميمون، عن عبدِ اللَّهِ قالَ: لو أن أهلَ جهنمَ وعدُوا يومًا من أبدِ أو عددِ أيام الدنيا لفرِحُوا بذلكَ اليومِ، لأنَّ كلَّ ما هُو آتِ قريب. وقد رُويَ أولُ الحديثِ من طريقِ أبي إسحاقَ موقوفا أيضًا، لكنْ بمخالفةٍ في الإسنادِ، فروى عمرُو بنُ طلحةَ القتادُ عن إسرائيلَ عن أبي إسحاقَ عن أبي الأحوصِ عن عبدِ اللهِ (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا) قال: الصراطُ على جهنَم مثلُ حدِّ السيفِ، فتمرُّ الطائفةُ الأولى كالبرقِ، والثانية كالريح. والثالثةُ كأجودِ الخيلِ، والرابعةُ كأجودِ الإبلِ والبهائِم، ثم يمرُّونَ والملائكةُ يقولونَ: رب سلِّم سلِّم. خرَّجه الحاكمُ وقالَ: صحيحٌ على شرط الشيخينِ. وكذا خرَّجه آدمُ بنُ أبي إياس في "تفسيره" عن إسرائيلَ.

وخرَّج مسلمٌ في "صحيحهِ " من حديثِ روح بنِ عبادةَ، أنبأنا ابنُ جريجٌ، أخبرني أبو الزبير أنه سمعَ جابرَ بنِ عبدِ اللَّهِ يُسألُ عن الورودِ. فقالَ: نحنُ يومَ القيامةِ على كذا وكذا، انظرْ أي ذلك فوقَ الناسِ، قالَ: فتُدْعى الأممُ بأوثانِها وما كانتْ تعبدُ: الأولُ فالأولُ، ثم يأتينا ربُّنا بعد ذلك، فيقولُ: من تنتظرونَ؟ فنقولُ: ننتظرُ ربنا، فيقولُ: أنا ربُّكم، فيقولونَ: حتى ننظرَ إليكَ، فيتجلَّى لهُم ويضحكُ، فينطلقُ بهم فيتبعونَه، ويُعطى كلُّ إنسانٍ منهم مؤمن أو منافق نورَهُ، ثم يتبعونَهُ وعلى جسرِ جهنَّم كلاليب وحسك تأخذُ من شاء اللَّهُ، ثم يطفأ نورُ المنافقينَ ثم ينجُو المؤمنون، فينجُو أول زمرة وجوهُهم كالقمرِ". وذكر بقية الحديثِ، كذا أخرَّجَه مسلم عن عبدِ اللَّهِ بنِ سعيدٍ - وهو الأشجُّ - وإسحاقَ بنِ منصورٍ، وكلاهما عن روحٍ به. وخرَّجه الإمامُ أحمد عن روحٍ به وزادَ فيه بعدَ قولِهِ: "فيتجلَّى لهم يضحك " قال: سمعتُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "فينطلقُ بهم فيتبعونَهُ "وساق الحديثَ فجعله من هذا الموضع مرفوعًا، وما قبلَهُ موقوفًا. وقد روى محمدُ بنُ شرحبيلَ الصنعانيُ عن ابنِ جريجِ هذا الحديثَ، فرفعَ أوله أيضًا وهو ذكرُ التجلِّي والضحكِ، ورواه عبدُ الرزاقِ عن رباح بنِ زيدٍ عن ابنِ جريجٍ عن زيادِ بنِ سعدٍ عن أبي الزبير، عن جابر عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فذكر التجلِّي، وروى عنه الحديثَ كلَّه أيضًا بهذا الإسنادِ، هذا يدلُّ على أنَّ أولَ الحديثِ لم يكنْ عند ابنِ جريجٍ عن أبي الزبيرٍ مرفوعًا، وإنْ كانَ عنده كلُّه مرفوعًا عن زيادِ بنِ سعدٍ عن أبي الزبير، وكذلكَ رواه أبو قرةَ عن مالكٍ

عن زيادِ بنِ سعد عن أبي الزبيرِ، عن جابرٍ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "إذا كانَ يومُ القيامةِ جُمعتِ الأممُ " فذكره كلَّه مرفوعًا، وكذلك رواه ابنُ لهيعة عن أبي الزبيرِ، قال: سمعتُ جابرًا يُسألُ عن الورودِ، فقالَ: سمعتُ رسولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: "نحنُ يومَ القيامة على كومٍ " وذكرَ الحديثَ كلَّه مرفوعًا، وفي حديثِه زيادةٌ بعدَ قولِهِ: "ويعطَى كلُّ إنسانٍ منهم - منافق أو مؤمنٌ - نورًا أو يغشَاه ظلمة". وقولُهُ في هذه الروايةِْ "ونحن يومَ القيامةِ على كومٍ" هذه الروايةُ الصحيحةُ. وأمَّا ما وردَ في روايةِ روحٍ عن ابنِ جريجٍ عن كذا وكذا، فإن أصلَهُ تصحيفٌ من الراوي للفظةِ "كومٍ "، فكتبَ عليه كذا وكذا لإشكالِ فهمه عليهِ، ثم كتبَ: انظر، أي: ذلكَ يأمرُ الناظرُ فيه بالتروي والفكرِ في صحة لفظِهِ، فأدخلَ ذلكَ كلَّه في الروايةِ قديمًا. ولم يقعْ ذلكَ في نسخ "صحيح مسلم " كما يظنُّه بعضُهم، فإن الحديثَ في "مسندِ الإمامِ أحمدَ"، و"كتابِ السنةِ" لابنه عبدِ اللَّهِ كذلكَ، وخرَّجه الطبرانيُّ في "كتابِ السنةِ" من طريقِ أبي عاصمٍ عن ابنِ جريجٍ، أخبرَنِي أبو الزبير أنه سمعَ جابرًا يُسألُ عن الورودِ فقالَ: "نحنُ يومَ القيامة على كومٍ فوقَ الناسِ، فتدعى الأمم بأوثانِها" وذكرَ الحديثَ إلى قولِهِ: "فيتجلَّى لهم يضحك " قالَ: فسمعتُ رسولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: "حتى يبدوُ كذا وكذا، فينطلقُ بهم فيتبعونَهُ " وذكرَ الحديثَ بتمامِهِ. وفي سياقِهِ أيضًا: "وتغشى المنافقينَ ظلمة". فظهرَ بهذه الروايةِ أن الشكَّ والتصحيف إنما جاء من جهةِ روحٍ بنِ عبادةِ، ولعله وقع في كتابِهِ كذلكَ فحدَّث به كما في كتابِهِ، واللَّهُ أعلمُ، لكنْ قد رواهُ محمدُ بنُ يحيى المازنيُ عن ابنِ جريج، كما رواهُ عنه روحٍ. خرَّجه من طريقِهِ الخلالُ.

ومما يستدلُّ به على أنَّ الورودَ ليسَ هو الدخولُ: ما خرَّجه مسلمٌ من حديثِ أبي الزبير عن جابرٍ، قال: أخبرتْنِي أمُّ بشرٍ أنها سمعتِ النبي - صلى الله عليه وسلم - يقولُ عند حفصةَ: "لا يدخلُ النارَ - إن شاءَ اللَهُ - من أصحابِ الشجرةِ أحدٌ من الذينَ بايعوا تحتَها" قالتْ: بلى يا رسولَ اللَّهِ، فانتهرها، فقالتْ حفصةُ: (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا) ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "قد قال اللَهُ عزَّ وجلة (ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا (72) . ورواه الأعمشُ عن أبي سفيانَ، عن جابرٍ، عن أمّ بشرٍ بنحوه، وفي بعضِ رواياتِ الأعمشِ فقال رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: "يرِدُونَها، ثم يصدرونَ عنها بالأعمالِ ". وقالتْ طائفةٌ: الورودُ هو الدخولُ، وهذا هو المعروفُ عن ابنِ عباسٍ. ورويَ عنه من غيرِ وجهٍ، وكان يستدلُّ لذلك بقولِ اللَّه تعالى في فرعون: (يَقْدُم قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النارَ) . وبقولِهِ: (وَنَسوق المُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا) . وكذلك قوله تعالى: (لَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا) . وقد سبق عن عبد اللَهِ بنِ رواحةَ نحو هذا إلا أنَّ الرواية عنه منقطعةٌ. وروى مسلمٌ الأعورُ عن مجاهدٍ: (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا) قال: داخلُها. وسئل كعبٌ عن الورودِ المذكورِ في الآيةِ، فقالَ: تمسكُ النارُ عن الناسِ

كأنها متن إهالةٍ، حتى تسوى عليها أقدام الخلق كلِّهم برِّهم وفاجرِهم، ثم يقول لها الربُّ عزَّ وجلَّ: خذي أصحابَك ودعي أصحابِي، فتخسفُ بكلِّ ولي لها، وينجي اللَّهُ المؤمنينَ نديةً ثيابُهم. قال كعبٌ: ألم ترَ إلى القدرِ الكثيرةِ الودك إذا بردتْ استوت بيضاء كالشحم، فإذا أوقدتِ النارُ تحتها انخسف الودكُ في القدرِ من هاهنا وهاهنا. وفي روايةٍ عنه قال: فهي أعرفُ بهم من الوالدِ بولدهِ. وقال ثورُ بنُ يزيدَ عن خالدِ بنِ معدانَ: إذا دخلَ أهلُ الجنةِ الجنةَ، قالُوا: ألم يعدْنَا ربُّنا أنا نرد النار؟ قال: بلى، ولكن مررتُم عليها وهي خامدةٌ. وفي روايةٍ عنه، قالَ: إذا جازَ المؤمنونَ الصراطَ نادَى بعضُهم بعضًا: ألم يعدْنا ربُّنا أنا نمرُّ على جسرِ جهنَّم؟ فيقولونَ: بلى، ولكنْ مررتُم عليها وهي خامدةٌ. وقال مسكينٌ: سمعتُ أشعثَ الحداني يقول: بلغني أن أهلَ الإيمانِ إذا مرُوا بصراطِ جهنمَ، قال: تقول لهم جهنمُ: جوزُوا عنِّي قد بردتُم وهجِي. ذرُوني وأهلي. ولكن هذا والذي قبلَهُ قد يدلانِ على أنَّ الورود هو المرورُ على الصراطِ كالقولِ الأولِ. وروى كثيرُ بنُ زيادٍ البرساني عن أبي سُميةَ، قال: اختلفنا في الورودِ. فقالَ بعضُنا: لا يدخلُها مؤمنٌ، وقال بعضُهم: يدخلُونها جميعًا ثم ينجي اللَّهُ الذين اتَّقوا، فلقيتُ جابرَ بنَ عبدِ اللَّهِ، فقلتُ: إنا اختلفْنَا في الورودِ. فقال: يردونها جميعًا، وقال سليمُ بنُ مرةَ: يدخلونَها، وقال: سمعتُ رسول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: "لا يبقَى برّ ولا فاجرٌ إلا دخلَها، فتكونُ على المؤمنينَ بردًا وسلامًا كما كانتْ على إبراهيم، حتَّى إنَّ للنارِ ضجيجًا من بردِهِم

(ثُمَّ ننَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَّنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا) ". حْرَّجه الإمامُ أحمد. و"أبو سميةَ" لا ندري من هُوَ. وفي "الصحيحينِ عن أبي هريرةَ ضى، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "لا يموتُ لأحدٍ من المسلمينَ ثلاثة من الولدِ فتمسهُ النارُ إلا تحلَّةَ القسم ". وقد فسر عبد الرزاقِ وغيرُه تحلّةَ القسم بالورودِ لقولِهِ: (وَإِن منكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا) وظاهرُ هذا يقتضي أن الورودَ هو مسُّ النارِ. وفي روايةٍ: "فيلجُ النارَ إلا تحلَّةَ القسم " فجعله مستثنى مِنْ وُلُوجِهَا. وروى عبدُ الملكِ بنُ عميرٍ، عن عبدِ الرحمنِ بنِ بشيرٍ الأنصاريِّ، قال: قال رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: "من ماتَ له ثلاثةُ أولادٍ لم يبلُغُوا الحنثَ لم يردِ النارَ إلا عابرَ سبيلٍ ". وخرَّج الإمامُ أحمد من حديثِ ابن لهيعةَ، ورشدينَ بنِ سعدٍ، كلاهُما عن زاذانَ بنِ نائلٍ، عن سهلِ بنِ معاذ بنِ أنسٍ، عن أبيه، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قالَ: "من حرسَ من وراءِ المسلمينَ في سبيلِ اللَّهَ متطوِّعًا لا يأخذُهُ سلطان لم يرد إلا تحلَّةَ القسم، فإنَّ اللَّه تعالى يقولُ: (وَإِن فمنكمْ إِلاَّ وَارِدُهَا) ". إسنادُهُ ضعيفٌ. وخرَّج الطبرانيُّ من حديثِ الواقديِّ، حدثنا شعيبُ بنُ طلحةَ بنِ عبدِ اللَّهِ بنِ عبدِ الرحمنِ بنِ أبي بكرٍ، حدثنا أبي، عن أبيه، عن جدِّه، عن أبي بكرٍ الصديقٍ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "إنَّما حرُّ جهنمَ على أمَّتي كحرِ الحمام". الواقديُّ متروكٌ.

وروى منصورُ بنُ عمارٍ، عن بشيرِ بنِ طلحةَ، عن خالدِ بنِ دُرَيكٍ، عن يعْلَى بنِ مُنْيةَ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: "تقولُ جهنمُ للمؤمن: جز يا مؤمنُ؛ فقد أطفأ نورُك لهبي " غريبٌ وفيه نكارةٌ. وقد فسر بعضُهم الورودَ بالحُمَّى في الدنيا، روى مجاهد وعثمان بنُ الأسودِ وفيه حديثٌ مرفوع: "الحُمَّى حظ المؤمن من النار" وإسنادُهُ ضعيفٌ. وقالت طائفةٌ: الورودُ: ليس عامًّا وإنَّما هو خاصّ بالمحضرين حول جهنَّمَ المذكورين في قولِهِ تعالى: (فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا) إلى قولهِ: (وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا) . كأنَّه يقالُ لهؤلاءِ الموصوفينَ: (وإن منكم إلا واردُها) . رُوِي هذا التأويلُ عن زيدِ بنِ أسلمَ، وهو بعيدٌ جدًّا. وقد أخبر النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: أنَّ العبدَ إذا وقفَ بينَ يدي ربِّه للحسابِ فإنه تستقبلُه النارُ تلقاءَ وجهِه. وأخبرَ أنَّ الصدقةَ تقي صاحبَها من النارِ. ففي "الصحيحينِ عن عدي بن حازمٍ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قالَ: "ما منكُم من أحدٍ إلا سيكلمُهُ ربُّه ليسَ بينه وبينه تُرْجمانُ، فينظرُ أيمنَ منْهُ فلا يَرى إلا ما قدَّم، وينظرُ أشأمَ منهُ فلا يَرى إلا ما قدَّم، وينظرُ بين يديهِ فلا يَرى إلا النارَ تلقاءَ وجهِهِ، فاتَّقوا النارَ ولو بشقِّ تمرةٍ". وفي "صحيح مسلم " عنه عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "من استطاعَ منكم أن يستترَ من النارِ ولو بشقِّ تمرة فليفعلْ ".

قوله تعالى: (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودا (96)

وفي "صحيح البخاريِّ " عنه، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "ليقفنَّ أحدُكم بين يدي اللَّه عزَّ وجلَّ ليسَ بينه وبينه حجابٌ ولا ترجمانُ يترجمُ له، ثم ليقولنَّ لهُ: ألم أوتكَ مالاً؛ فليقولنَّ بلى، ثم يقولُ: ألم أرسلْ إليك رسولاً؛ فليقولنَّ: بلى، فينظرُ عن يمينه فلا يرى إلا النارَ، ثم ينظرُ عن شمالِهِ فلا يَرى إلا النارَ، فليتقين أحدُكُم النارَ ولو بشقِّ تمرة، فإن لم يجدْ فبكلمةٍ طيبة". وفي حديث عبدِ الرحمنِ بن سمرةَ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنه خرج يومًا فقال: "رأيت الليلةَ عجبًا" فذكرَ حديثًا طويلاً، وفيه: "رأيتُ رجلاً من أُمَّتي يتقي وهجَ النارَ وشررَهَا بيديه من وجهِه، فجاءتْهُ صدقتُهُ فصارتْ سترًا على رأسه وظلاًّ على وجهِهِ ". * * * قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا (96) ومن اشتغلَ بتربيةِ منزلتِهِ عند اللَّه تعالى بما ذكرنا من العلم الباطن وصلَ إلى اللَهِ فاشتغلَ به عمَّا سواه، وكان له في ذلك شُغُلٌ عن طلبِ المنزلةِ عندَ الخلقِ، ومع هذا فإنَّ اللَّه يُعطيه المنزلةَ في قُلوبِ الخلقِ والشرفَ عندَهم، وإن كان لا يريدُ ذلك ولا يقفُ معه؛ بل يهرَبُ منه أشدَّ الهربِ ويفِرُّ أشدَّ الفِرارِ خشية أن يقطعع الخلقُ عن الحقِّ - جلَّ جلالُهُ. قال اللَّه تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا (96) .

أي: في قلوب عِبادِهِ. وفي حديثٍ: "إنَّ اللَّه إذا أحب عبدًا نادَى: يا جِبْريلُ: إني أحبُّ فُلانًا فيُحبُّه جبريلُ، ثم يحبه أهل السماءِ، ثم يوضَعُ له القبُولُ في الأرض ". والحديثُ معروفٌ، وهو مُخرَّجٌ في "الصحيح ". وبكلِّ حالٍ، فطلبُ شرفِ الآخرةِ يحصلُ معه شرفُ الدنيا وإن لم يرده صاحبه ولم يطلبْهُ، وطلبُ شرفِ الدنيا لا يجامع شرف الآخرةِ ولا يجتمعُ معه، والسعيدُ من آثَرَ الباقي على الفاني، كما في حديثِ أبي موسى - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قالَ: "من أحبَّ دنياه أضر بآخِرَتِهِ، ومن أحبَّ آخرتَهُ أضرَّ بدنياه. فآثِرُوا ما يبْقَى على ما يفْنَى". خرَّجه الإمامُ أحمد وغيرُه. وما أحسنَ ما قال الشيخ أبو الفتح البُسْتِيُّ: أمْرَانِ مُفْتَرقَانِ لسْتَ ترَاهُما. . . يتشوَّقانِ لخُلْطَةٍ وتلاقِي طلبُ المعَادِ مع الرِّيَاسةِ والعُلَى. . . فدعِ الذي يفْنَى لما هو باقِي * * *

سورة طه

سُورَةُ طَهَ قوله تعالى: (وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي) [قال البخاريّ - رحمه اللَّه -] : ثنا أبو نُعيمٍ وموسى بنُ إسماعيلَ، قالا: ثنا همَّامٌ، عن قتادةَ، عن أنسِ ابنِ مالكٍ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "من نسِي صلاةً فليُصلِّ إذا ذكَرَ، لا كفَّارة لها إلا ذلك، (وَأَقِم الصَّلاةَ لِذِكْرِي) ". قال موسى: قال همَّامٌ: سمعتُه يقولُ بعْدُ: " (وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي) ". وقال حبَّانُ: ثنا همَّامٌ: ثنا قتادةُ: ثنا أنسٌ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - نحوه. هذا الحديثُ قد رواه جماعةٌ عن همَّامٍ، وجماعةٌ عن قتادة. وقد خرَّجه مسلمٌ من طريقِ همَّامٍ وأبي عوانة وسعيدٍ والمثنى، كلِّهم عن قتادةَ، عن أنسٍ، وليسَ في روايةِ أحد منهم: التصريحُ بقولِ قتادةَ: "ثنا أنس "، كما ذكر البخاريُّ أنَّ حبَّانًا رواه عَّنَ همَّامٍ. وإنَّما احتاج إلى ذلك، لما عُرِفَ من تدليس قتادة. ولفظُ روايةِ سعيدٍ، عن قتادةَ التي خرَّجها مسلمٌ: "من نسي صلاةً أو نامَ عنها فكفَّارتُها أن يُصلِّيها إذا ذكَرَها".

ولفظُ حديثِ المثنى، عن قتادةَ، عنده: "إذا رقدَ أحدُكُم عن الصلاةِ أو نامَ عنها، فكفَّارتُها: أن يُصلِّيها إذا ذكَرَها". وقد دلَّ الحديثُ على وجوبِ القضاءِ على النائم إذا استيقظَ، والناسي إذا ذكر، وقد حكى الإجماعَ على ذلك غيرُ واحدٍ. وذكَرَ ابنُ عبدِ البرِّ: أنَّ محمدَ بنَ رُسْتُم روى عن محمدِ بنِ الحسن: أنَّ النائمَ إذا فاتَه في نوْمِهِ أكثرُ من خمْسِ صلواتٍ لا قضاء عليه، إلحاقًا للنومِ الطويلِ إذا زادَ على يومٍ وليلةٍ بالإغماء، والمُغْمَى عليه لا قضاء عليه عندَه. ويكونُ الأمرُ عندَهُ بالقضاءِ في النومِ المعتادِ، وهو ما تفوتُ فيه صلاة أو صلاتانِ أو دون خمسٍ أو أكثر. وأخذَ الجمهورُ بعمومِ الحديث. وقولُهُ: "فليصلِّ إذا ذَكَرَ": استدلَّ به من يقولُ بوجوبِ قضاءِ الصلواتِ على الفورِ، وهو قولُ أبي حنيفة ومالكٍ. وأحمدُ يوجبه بكلِّ حالٍ، قلَّتِ الصلواتُ أو كثُرَتْ. واستدلوا - أيضًا - بقولِهِ: " لا كفَّارةَ لها إذا ذلك ". وذهبَ الشافعيُّ إلى أنَّ القضاءَ على التراخي، كقضاءِ صيام رمضانَ. وليس الصومُ كالصلاةِ عندَهم، فإنَّ الصيامَ لا يجوزُ تأخيرُهُ حتَّى يدخل نظيرُه من العامِ القابل والصلاةُ عندَهُم بخلافِ ذلك. واستدلُّوا - أيضًا -: بتأخيرِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - الصلاةَ حتَّى خرج من الوادي. وفيه نظرٌ؛ فإنَّ ذاك تأخيرٌ يسيرٌ لمصلحةٍ تتعلَّقُ بالصلاةِ، وهو التباعُدُ عن موضع يُكْرَه الصلاةُ فيه.

وقد رُوي عن سمُرة بن جُنْدُب، فيمَنْ عليه صلوات فائتة: أنَه يُصلِّي مع كلِّ صلاةٍ صلاةً. وقد رُوي عنه - مرفوعًا. خرَّجه البزارُ بإسنادٍ ضعيفٍ. ولأصحابِ الشافعيِّ فيما إذا كان الفواتُ بغيرِ عُذْرٍ في وُجوبِ القضاءِ على الفورِ وجهانِ. وحمَل الخطابيُ قولَه: "لا كفَّارةَ لها إلا ذلك " على وجهْينِ: أحدُهُما: أنَّ المعنى أنَّه لا يجوزُ له تركُها إلى بدلٍ، ولا يُكفِّرها غيرُ قضائِها. والثاني: أنَّ المعنى أنَّه لا يلْزَمُهُ في نسيانها كفَّارةٌ ولا غرامة. قال إنَّما عليه أن يُصلِّي ما فاتَهُ. وقد رُوي عن أبي هريرة - مرفوعًا: "من نسي صلاةً فوقتُها إذا ذكرَهَا". خرَّجه الطبرانيُّ والدارقطني والبيهقيُّ من روايةِ حفْصِ بنِ أبي العطَّافِ. واختلف عليه في إسنادِهِ إلى أبي هريرةَ. وحفْصٌ هذا، قال البخاريُ وأبو حاتمٍ: منكرُ الحديث. وقال يحيى بن يَحْيى: كذَّاب. فلا يُلتفتُ إلى ما تفرَّد به. وأمَّا تلاوتُهُ قولُهُ تعالى: (وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي) .

وقد رواه قتادةُ - مرّةً -، فقال: "للذكرى"، ومرَّةً، قال: "لِذِكرِي" ، كما هو القراءة المتواترةُ. وكان الزهريُّ - أيضًا - يقرؤها: "للذكرى". وهذه القراءةُ أظهرُ في الدِّلال" على الفورِ؛ لأنَّ المعنى: أدِّ الصلاةَ حينَ الذِّكْرَى، والمعنى: أنَّه يصلِّي الصلاةَ إذا ذكرها. وبذلك فسَّرها أبو العالية والشعبيُّ والنخعيُّ. وقال مجاهد: (وَأَقِمِ الصَّلاةَ (ذِ@رِي @ أطه: 4 ا.،: أي تدْكُرُلْي. قال: فإذا صلَّى عبدٌ ذكَرَ رتَه. ومعنى قوله: أنَّ قولَهُ: (وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكرِي) : أي: لأجلِ ذكْرِي بها. والصلاةُ إنَّما فُرِضتْ ليُذكر اللَّه بها، كما في حديثِ عائشةَ المرفوع: "إنَّما جُعل الطوافُ بالبيتِ وبيْنَ الصَّفا والمرْوة ورمي الجمارِ لإقامةِ ذكرِ الله". خرَّجه الترمذيُّ وأبو داود. فأوجب اللَّهُ على خلْقِهِ كلَّ يومٍ وليلةٍ أنْ يذكُرُوه خمس مرارٍ بالصلاةِ المكتوبةِ، فمن تركَ شيئًا من ذكر اللَّه الواجبِ عليه سهْوًا فلْيعد إليه إذا ذكرَهَ، كما قال تعالى: (وَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسيتَ) ، فقد أمرَهُ إذا نسيَ ربَّه أنْ يذكُره بعد ذلك، فمنْ نسي الصلاة فقد نسي ذكْرَ ربِّه، فإذا ذكر أنَّه نسي فلْيَعُد إلى ذِكْرِ ربِّه بعد نسيانِهِ.

قوله تعالى: (إن الساعة آتية أكاد أخفيها لتجزى كل نفس بما تسعى (15)

قوله تعالى: (إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى (15) قال ابن الجوزي في "المقتبس ": سمعت الوزير يقول في قوله تعالى: (إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا) . قال: المعنى: أنِّي قد أظهرتُها حينَ أعلمت بكونها، لكنْ قاربتُ أنْ أخفيها بتكذيب المشركِ بها، وغفلة المؤمنِ عنها، فالمشركُ لا يُصدِّقُ كونَها، والمؤمنُ يهملُ الاستعدادَ لها. * * * قوله تعالى: (وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى (17) قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى (18) وذكر صاحب سيرة الوزير قال: سمعته يقول في قوله تعالى: (وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى (17) قَالَ هِيَ عَصَايَ) . قال: في حمل العصا عظة؛ لأنها من شيء قد كان ناميًا فقطع، فكلما رآها حاملها تذكَّر الموتَ. قال: ومن هذا قيل لابن سيرين - رحمه اللَّه -: رجل رأى في المنام أنه يضرب بطبل؟ فقال: هذه موعظة، لأن الطبل من خشب قد كان ناميًا فقطع. ومن أغشية كانت جلود حيوان قد ذبح. وهذا أثر الموعظة. * * * قوله تعالى: (قَالَ هُمْ أُولَاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى (84) قال ابن الجوزي في "المقتبس ": سمعت الوزير يقول: قرأ عندي قارئ،

قوله تعالى: (ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا)

قال: (هُمْ أولاءِ عَلَى أَثَرِي) ، فأفكرتُ في معنى اشتِقاقِها، فنظرتُ فإذا وضعها للتنبيه، واللَّه لا يجوزُ أن يخاطبَ بهذا، ولَم أر أحدًا خاطبَ اللَّه عز وجل بحرف التنبيه إلا الكفار، كما قال اللَّه عز وجل (قَالُوا رَبَّنَا هَؤُلاءِ شُرَكَاؤُنَا الَّذِينَ كنَّا نَدْعُو مِن دُونِكَ) ، (رَبَّنَا هَؤُلاءِ أَضَلّونَا) . وما رأيت أحدًا من الأنبياءِ خاطب، ربَّه بحرف التنبيه، والله أعلم. فأما قوله: (وَقِيلِهِ يَا رَبِّ إِنَّ هَؤلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنونَ) ، فإنه قد تقدَّم الخطاب بقوله: يا ربِّ، فبقيت "ها" للتمكين، ولما خاطب اللَّه عز وجل المنافقين، قال: (هَا أَنتُمْ هَؤُلاءِ جَادَلتُم عَنْهُمْ في الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) ، وكرَّم المؤمنين بإسقاط "ها" فقال: (هَا أَنتُمْ أُوْلاءِ تُحِبُونَهُمْ) . كان التنبيه للمؤمنين أخفَّ. * * * قوله تعالى: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا) روى حمَّادُ بنُ سلمةَ، عن محمدِ بنِ عمرِو بنِ علقمةَ، عن أبي سلمةَ عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "والَّذي نفسِي بيده؛ إنه ليَسْمَعُ خفقَ نعالِكُم حين تولُّون عنه، فإنْ كانَ مؤمنًا، كانتِ الصلاةُ عندَ رأسِهِ، والزكاةُ عن يمينِهِ، والصومُ عن شمالِهِ، وفعلُ الخيراتِ والمعروفِ والإحسانِ إلى الناسِ من قِبَلِ رِجْليْهِ، فيؤتى من قِبل رأسه، فتقولُ الصلاةُ: ليْس من قِبَلي مدخل ثم يؤتى عن يمينهِ فتقول الزكاة: ليس من قِبَلي مدخل، ثم يُؤتى عن شمالِهِ، فتقولُ الصومُ: ليس مِنْ قبلي مدْخل، تم يُؤتى قِبل رِجْليهِ، فيقولُ فعلُ الخيراتِ والمعروف والإحسانِ إلى الناسِ: ليس من قِبَلي مدخل.

فيقالُ له: اجلسْ، فيجلسُ، وقد مثلَت الشمسُ للغروبِ، فيقولُ له: ما تقولُ في هذا الرجلِ الذي كان بعثَ فيكم؟ " - يعني النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - - "فيقولُ: أشهد أنّه رسولُ اللَّهِ، جاءنا بالبيِّناتِ من عندِ ربِّنا فصدَّقْناه، واتَبعناه، فيقالُ له: صدقتَ، وعلى هذا حييتَ، وعلى هذا مِتَّ، وعليه تُبعثُ إن شاء اللَّهُ، فيفسحُ له في قبرِهِ مدَّ بصرِهِ، فذلكَ قولُهُ سبحانه: (يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ) . يقالُ: افتحُوا له بابًا إلى النارِ، فيُفتحُ له بابٌ إلى النارِ، فيقالُ: هذا منزلُكَ لو عصيتَ اللَّهَ، فيزدادُ غبطةً وسرورًا. ويُقال: افتحُوا له بابًا إلى الجنةِ، فيفْتح له، فيقالُ: هذا منزلُكَ وما أعدَّ اللَّه لك، فيزدادُ غبطة وسرورًا، ويعادُ الجسدُ إلى ما بدئ منه، وتجعلُ روحُه نسَمَ طيرٍ معلقٍ في شجرِ الجنة. وأمَّا الكافرُ فيُؤتى في قبر من قِبلِ رأسِهِ، فلا يُوجدُ شيءٌ، فيُؤتى من قِبلِ رجليهِ فلا يُوجد شيء، فيجلسُ خائفًا مرعوبًا، فيقالُ له: ما تقولُ في هذا الرجلِ الذي كان فيكم؟ وما تشهدُ به؟ فلا يهتدِي لاسمِهِ، فيقالُ: محمدٌ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فيقولُ: سمعتُ الناسَ يقولونَ شيئا، فقلتُ كما قالُوا، فيقالُ له: صدقتَ، على هذا حييتَ، وعليه متَّ، وعليه تبعثُ إن شاء اللَّهُ تعالى، فيُضيَّق عليه قبرُهُ حتى تختلفَ أضلاعُه، فذلك قولُهُ تعالى: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِن لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا) فيقال: افتحُوا له بابًا إلى الجنةِ، فيفتحُ له بابٌ إلى الجنةِ، فيُقال: هذا منزلُكَ وما أعدَّ اللَّه لكَ لو كنتَ أطعتَهُ، فيزدادُ حسرةً وثُبورًا، ثم يقالُ: افتحُوا له بابًا إلى النارِ، فيفتحُ له بابٌ إليها، فيُقالُ له: هذا منزلُكَ، وما أعدَّ الله لك، فيزدادُ حسرةً وثُبورًا ". قال أبو عمر الضريرُ: قلتُ لحمَّادِ بنِ سلمةَ: كان هذا من أهلِ القبلة؟ قال: نعم، قال أبو عمر: كأنَّه كان يشهدُ بهذه الشهادة على غيْرِ يقينٍ يرجعُ

إلى قلبه، كأن يسمعَ الناسَ يقولونَ شيئًا، فيقولُه. خرَّجه الطبرانيُّ. وخرَّجه الخلالُ في كتابِ "السنة"، وزادَ فيه بعد قولِهِ: "وقد مثلتِ الشمسُ له قد دنتْ للغروبِ، فيقال له: هذا الرجلُ الذي كانَ فيكُم ما تقولُ فيه؟ فيقولُ: دعونِي حتَّى أصلِّي، فيقولونَ: إنك ستفعلُ، أخبِرْنا عمَّا نسألك عنه "، وذكر الحديثَ. وخرَّجَه ابنُ حبان في "صحيحِهِ "، من طريقِ معتمر، عن محمَّدِ بنِ عمرو - به. ورواه جماعةٌ عن محمدِ بنِ عمرٍو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرةَ - موقوفًا. وقد رُوي من حديثِ أبي حازمٍ، عن أبي هريرةَ، نحوه ايضًا مع الاختلافِ في رفعِهِ ووقفِهِ. وخرَّجه ابنُ منده، من طريقِ محمدِ بنِ جُحادةَ، عن طلحةَ بن مُصَرِّف. عن أبي حازمٍ، عن أبي هريرةَ قال: "إذا وضُعَ المؤمنُ في قبره، أتاه شيطانٌ من قِبَلِ رأسِهِ، فيحولُ بيْنَه وبينه سجودُهُ، ثم يأتِيَه من قِبَلِ يديه، فيحول بينه وبينه صدقتُه، ثم يأتيه من قِبَلِ بطنهِ، فيحولُ بينه وبينه صومُه، تم يأتِيه من قِبلِ رِجْليه، فيحولُ بينه وبينه قيامُه عليها في الصلاةِ، ثم يُفتحُ له بابٌ من أبوابِ الجنةِ فيقول: ربي بلِّغْنِي منزلَتِي، فيقولُ: إن لكَ إخوةٌ وأخواتٌ لم يلحَقُوا، فنَمْ قريرَ العيْنِ لا تفزعْ بعدَها". وخرَّجه - أيضًا - من طريقِ محمدِ بن الصلْتِ، عن ابنِ عيينةَ، عن طلحةَ

ابنِ مُصرِّفٍ، عن أبي حازمٍ، عن أبي هريرةَ - يرفعُهُ قال: "يؤتَى الرجلُ من قِبلِ رأسِهِ في قبر، فإذا أُتِيَ دفعه تلاوةُ القرآنِ، فإذا أُتيَ من قِبلِ يديه دفعتْهُ الصدقةُ، فإذا أُتي من قِبلِ رجليه دفعَه مشيُه إلى المساجد"، فذكره نحوه، كذا في هذه الرواية السابقة، إنَّ الذي يأتيه في قبر شيطانٌ. وفي حديثِ الأعمشِ، عن المنهالِ، عن زاذان، قال: قلتُ للبراءِ: أمَلَكٌ هو أم شيطان؟ قال: فغضب غضبًا شديدًا، ثم قال: نحن كنَّا أشدَّ هيبةً لرسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - أن نسأله أملكٌ هو أم شيطانٌ؟ إنما نحدِّثكم ما سمعنَا. وخرَّج الإمامُ أحمد، من حديثِ محمدِ بنِ المنكدرِ، قال: كانتْ أسماءُ تحدِّثُ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا أدْخِلَ الإنسانُ في قبرِهِ فإن كانَ مؤمنًا أحفَّ به عملُهُ: الصلاةُ والصيامُ؟ قال: فيأتِيه الملكُ من نحوِ الصلاةِ فيردَّه ومن نحوِ الصيامِ فيردُّه، فيناديه اجلسْ، فيجلسُ، فيقولُ: ما تقولُ في هذا الرجل؟ - يعني النبي - صلى الله عليه وسلم -؟ "قال: منْ؟ قال: محمدٌ - صلى الله عليه وسلم -. قال: أشهدُ أنه رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قال: يقول له: وما يدريك، أدركتَهُ؟ قال: يقول: إنَّه رسولُ اللَّه - صلى الله عليه وسلم -، قال: يقولُ: على ذلك عشتَ، وعليه مِتَّ، وعليه تبعثُ. قال: إنْ كان فاجرًا أو كافِرًا قال: جاءهُ الملَكُ ليسَ بينه وبينه شيء يردُّه، فأجلسه قال: يقول: اجلسْ، ما تقولُ في هذا الرجلِ؟ قال: أي رجل؟ قال: محمد. قال: يقولُ: واللَّهِ ما أدري، سمعتُ الناسَ يقولونَ شيئًا فقلتُه، قال: فيقولُ له الملَكُ: على ذلكَ عشتَ، وعليه مِتَّ، وعليه تبعثُ. قال: يسلَّط عليه دابَّة في قبرِهِ، معها سوط ثمرتُهُ جمرة مثل غربِ البعيرِ، تضربُهُ ما شاء اللَّه، صمَّاء لا تسمعُ صوتَهُ فترحمُه ".

قلتُ: قولُه: "ويسلَّطُ عليه دابَّةٌ.. " إلى آخره. وقد رُوي من وجهٍ آخرَ عن ابن المنكدرِ، أنه بلغه ذلكَ، فلعلَّه مُدْرَجٌ في الحديثِ. وفي حديثِ زاذانَ، عن البراءِ بن عازبٍ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وقد سبق ذكرُ بعضِهُ، قال في المؤمن: "ويأتيه رجلٌ حسنُ الوجهِ، حسنُ الثيابِ، طيبُ الريحِ، فيقولُ: أبْشِرْ بالذي يسرُكَ، هذا يومُك الذي كنتَ تُوعدُ. فيقولُ له: من أنت؟ فوجْهُكَ الوجهُ الذي يجيءُ بالخيرِ، فيقولُ: أنا عملُكَ الصالحُ، فيقولُ: ربِّ أقم الساعةَ حتَّى أرجعَ إلى أهلِي ومالِي ". وقال في حقِّ الكافرِ: "ويأتيه رجلٌ قبيحُ الوجهِ، قبيحُ الثيابِ، منتنُ الريحِ، فيقولُ: أبْشِر بالذي يسوءُك، هذا يومُك الدْي كنتَ توعدُ، فيقولُ: ومن أنتَ؟ فوجهُك الوجهُ الذي يجيءُ بالشر، فيقولُ: أنا عملُكَ الخبيثُ، فيقولُ: ربِّ لا تقم الساعةَ" خرَّجه الإمامُ أحمدُ وغيرُه. وروى ابنُ أبي الدنيا، بإسنادِهِ عن أبي بكر بن عياشٍ، عن المقْبُريِّ، عن أبيه، عن عائشة - رضي الله عنها -، قالتْ: إذا خرج سريرُ المؤمنِ، نادى: أنشدكُم اللَّهَ لما أسرعتُم بي، فإذا أُدخلَ قبره حفَّه عملُه، فتجيءُ الصلاةُ فتكونَ عن يمينِه، ويجيءُ الصومُ فيكون عن يساره، ويجيء عملُهُ بالمعروفِ فيكونُ عند رجليْه، فتقولُ الصلاةُ: ليس لكم قبلي مدخلٌ، كان يُصلِّي، فيأتونَ من قبل يساره، فيقولُ الصومُ: إنه كان يصومُ ويعطشُ، فلا يجدونَ موضِعًا، فيأتونَهُ من رجلَيْه، فتخاصِمُ عنه أعمالُهُ فلا يجدونَ مسْلكًا. وبإسناده عن ثابت البُنانيِّ قالَ: إذا وُضِعَ الميتُ في قبرهِ احتوشَتْهُ أعمالُهُ

الصالحةُ، وجاء ملكُ العذابِ، فيقولُ له بعضُ أعمالِهِ: إليك عنه، فلو لم يكنْ إلا أنا لما وصلتَ إليه. وعنه أيضًا، قال: إذا وُضِعَ العبدُ الصالحُ في قبره، أُتِي بفراشٍ من الجنةِ، وقيلَ له: نَمْ هنيئًا لك قُرَّة العينِ، فرضي اللَّه عنك، قالَ: ويُفْسَحُ له في قبره مدَّ بصرِهِ، ويفتحُ له بابٌ إلى الجنةِ، فينظرُ إلى حسنِها، ويجدُ ريحَها، وتحتوشُه أعمالُهُ الصالحةُ: الصيامُ، والصلاةُ، والبرُّ، فتقول له: نحنُ أنصبْناكَ وأظمأناك وأسهرْناك فنحنُ لك اليومُ بحيث تحبُّ، نحنُ نؤنسُكَ حتى تصيرَ إلى منزلِكَ من الجنةِ. وبإسنادهِ عن كعبٍ، قالَ: إذا وُضِعَ العبدُ العمالحُ في قبر، احتوشتْه أعمالُهُ الصالحةُ: الصلاةُ والصيامُ والحجُّ والجهادُ والصدقةُ. قال: وتجيءُ ملائكةُ العذابِ من قبل رجليهِ، فتقولُ الصلاةُ: إليكُم عنه فلا سبيلَ لكُم، فقدْ أطال القيامَ للَّه عزَّ وجلَّ عليهما، قال: فيأتُونَهُ من قبلِ رأسِهِ، فيقولُ الصيامُ: لا سبيلَ لكم عليه، فقد أطال ظمأه للَّه تعالى في الدنيا؟ قال: فيأتونَهُ من قِبلِ جسدِهِ، فيقولُ الحجُّ والجهادُ: إليكم عنه، فقد أنصبَ نفسَهُ، وأتعبَ بدنَه، وحجَّ وجاهدَ للهِ - عزَ وجلَّ - لا سبيلَ لكُم عليه، قال: فيأتُونه من قِبلِ يدَيْه، فتقولُ الصدقةُ: كُفّوا عن صاحِبي، فكمْ من صدقَةٍ خرَجَتْ من هاتَيْنِ اليدينِ حتَى وقعتْ في يدِ اللَّهِ عزَّ وجلَّ ابتغاءَ وجهِهِ، فلا سبيلَ لكم عليه " قال: فيُقالُ له: هنيئًا طبتَ حيًّا وطبت ميتًا. قال: ويأتيه ملائكةُ الرحمةِ، فتفرشُه فِراشًا من الجنةِ، ودِثارًا من الجنةِ، ويفسحُ له في قبره مدَّ البصرِ، ويؤتَى بقنديلٍ من الجنةِ، فيستضِيءُ بنورِهِ إلى يومِ يبعثُهُ اللَّهُ من قبره.

وبإسنادِهِ عن يزيدَ الرَّقاشيِّ، قال: بلغني أنَّ الميتَ إذا وُضِعَ في قبره احتشوته أعمالُهُ، ثم أنطقَها اللَّهُ تعالى، فقالتْ: أيها العبدُ المفردُ في حفرتِهِ. انقطعَ عنك الأخلاءُ والأهلونَ، فلا أنيسَ لك اليومَ غيرَنا، قالَ: ثمَّ يبْكي ويقولُ: طوبى لمن كان أنيسُه صالِحًا، والويلُ لمن كان أنيسُه وبالاً. وبإسنادِهِ عن يزيدَ الرقاشيِّ - أيضًا - أنه كانَ يقولُ في كلامِهِ: أيها المنفردُ في حفرتِه، المُخَلَّى في القبرِ بوحدتِهِ، المستأنسُ في بطنِ الأرضِ بأعمالِهِ. ليتَ شِعْرِي بأيِّ أعمالِك استبشرتَ، وبأيِّ إخوانِك اغتبطتَ، قالَ: ثمَّ يَبْكي حتى يبلَ عمامَتَهُ، ويقول: استبشر واللَّهِ بأعمالِهِ الصالحةِ، واغتبطَ واللَّه بإخوانِهِ المتعاونينَ على طاعةِ اللَّهِ. وبإسنادِهِ عن الوليد بنِ عمرِو بنِ ساجٍ، قال: بلغني أن أولَ شيءٍ يجدُه الميتُ حولَهُ عندَ رجلَيْه، فيقولُ: ما أنتَ؟ فيقولُ: أنا عملُكَ. وقد ورد في شفاعةِ القرآن لقارئِه ودفعِهِ عندَ عذابِ القبرِ خصوصًا: سورةُ تبارك. وخرَّج النسائيُّ في "عمل اليومِ والليلةِ" بإسنادِهِ عن ابنِ مسعودٍ في. قالَ: من قرأ: "تباركَ الذي بيده الملكُ " كلَّ ليلةٍ منعهُ اللَّهُ بها من عذابِ القبرِ، وكنَّا في عهد رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - نسمِّيها المانِعةَ. وخرَّجه خلفُ بنُ هشامٍ في كتابِ "فضائل القرآنِ " عن ابنِ مسعودٍ، ولفظُهُ أنه ذكرَ "تباركَ "، فقال: هي المانعةُ، تمنعُ من عذابِ القبرِ، توفِّيَ رجلٌ فأُتِي

من قبل رجليه، فتقولُ رجلاه: لا سبيلَ لكُم على ما قِبَلي، إنه كان يقرأ عليَّ سورةَ تبارك، ويُؤتَى من قِبلِ بطنِهِ، فيقولُ بطنُه: لا سبيلَ لكُم على ما قِبلي، إنَّه كانَ أوعَى فيه سورةَ الملكِ، ويُؤتى من قِبلِ رأسِهِ فيقولُ رأسُهُ: لا سبيلَ لكم على ما قِبلي إنه كان يقرأ سورةَ الملكِ. وأخرجَ أبو عبيدٍ في كتابِ "فضائلِ القرآنِ " بإسنادِهِ عن ابنِ مسعود - رضي الله عنه -، قال: إنَّ الميّتَ إذا ماتَ أوقدتْ له نيران حولَهُ، فتأكلُ كلُّ نارٍ ما يليها إنْ لم يكنْ له عملٌ يحولُ بينه وبينَها، وإنَّ رَجُلاً ماتَ ولم يكن يقرأ من القرآنِ إلا سورةً، ثلاثينَ آيةٍ، فأتته من قِبَلِ رأسِه، فقالتْ: إنه كانَ يقرأ بي، فأتتْه من قِبلِ رجليهِ، فقالتْ: إنه يقومُ بي، فأتتْه من قبل جوفِهِ، فقالتْ: إنه كان وعائِي، قالَ: فأنجتْهُ. قال زِرٌّ: فنظرتُ أنا ومسروقٌ في المصحفِ فلم نجِد سورةً ثلاثينَ آيةً إلا تباركَ. وروى عبدُ بنُ حميدٍ في "مسندهِ " عن إبراهيمَ بنِ الحكمِ بنِ أبان، عن أبيه، عن عكرمةَ، عن ابنِ عباسٍ، قال: اقرأْ (تباركَ الَّذي بيده الملكُ) . احفظْها، وعلمْها أهلَك، وولدَك، وصبيانَ بيتِك، وجيرانَك، فإنها المُنجِّية والمجادلةُ، تجادلُ أو تخاصمُ عن صاحبِهَا عند الله لقارِئِهَا، وتطلبُ أن ينجيه من عذابِ النارِ إذا كانت، في جوفِهِ، وينجِّي اللَّهُ بها صاحبَها من عذابِ النارِ. وروى سوارُ بنُ مصعب - وهو ضعيفٌ جدا -، عن أبي إسحاقَ، عن

البراءِ، يرفعُه: "من قرأَ: الم السجدةَ، وتباركَ، قبلَ النوم، نجَا من عذابِ القبرِ، ووُقِيَ فتَّانا القبرِ". وسنذكرُ حديثَ عبادةَ في نزولِ القرآنِ مع الميتِ في قبره فيما بعدُ - إن شاء اللَّه تعالى. وروى هشامُ بنُ عمَّار، حدَّثنا عبدُ اللَّه بنُ عبدِ الرحمنِ بنِ يزيدَ بنِ جابرٍ. عن أبيه، عن عطاءِ بنِ يسارٍ، قال: إذا وُضِعَ الميتُ في لحدِهِ، فأولُ شيءٍ يأتيِه عملُهُ، فيضربُ فخذَه الشمالَ، فيقول: أنا عملُكَ، فيقولُ: أين أهلِي، وولدِي، وعشيرتِي، وما خوَّلني اللَّهُ تعالى؟ فيقولُ: تركتَ أهلَك، وولدَك، وعشيرتَك، وما خوَّلك اللَّه وراءَ ظهرِك، فلم يدخلْ قبرَك معكَ غيرِي، فيقولُ: يا ليْتني آثرتُك على أهلِي، وولدِي وعشيرتي، وما خوَّلني الله تعالى إذ لم يدخل معِي غيرُك. قال أحمدُ بنُ أبي الحواريِّ: حدثنا يحيى بنُ سليم، عن ابنِ أبي نجيحٍ. عن مجاهدٍ، في قولِه تعالى: (فَلأَنفسِهِمْ يَمْهَدُونَ) ، قال: في القبرِ. قال أحمد: فحدثتُ به يحيى بن معينٍ، فقال: طوبى لمن كان له عمل صالحٌ، يكون وطْأهُ في القبرِ. ويشهدُ لهذا كلِّه ما في "الصحيحينِ " عن أنسِ بنِ مالكٍ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "يتْبَعُ الميّتَ ثلاثة فيرجعُ اثنانِ ويبقَى واحدٌ يتبعه: أهلُه ومالُهُ وعملُهُ، فيرجِعُ أهلُهُ ومالُهُ، ويبقَى عملُهُ ".

وخرَّجه البزَّارُ والطبرانيُّ والحاكم بسياقٍ مطوَّلٍ، من حديثِ أنسٍ - أيضًا - عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "ما من عبد إلا له ثلاثةُ أخِلاء، وأما خليلٌ فيقول له: ما أنفقتَ فلكَ، وما أمسكت فليس لك، فذلك مالُهُ، وأما خليلٌ فيقول: أنا معك، فإذا أتيتَ بابَ الملكِ رجعتُ وتركتُكَ، فذلكَ أهلُهُ وحشَمُه، وأمَّا خليلٌ فيقولُْ أنا معكَ حيثُ دخلتَ، وحيثُ خرجتَ، فذلكَ عملُهُ، فيقولُ: إن كنتَ لأهونُ الثلاثةِ عليَّ ". وخرَّج البزَّارُ والحاكمُ أيضًا من حديثِ النعمانِ بن بشيرٍ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - معناه وقد اختلفَ في رفعِهِ ووقفِهِ. وقد رُوي هذا من حديثِ عائشةَ - رضي الله عنها - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بسياقٍ مبسوطِ، وأنَّ عبدَ اللَّهِ بنَ كرزٍ قالَ في هذا المعنى شعرًا، وأنشده للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ولكنْ إسنادُهُ ضعيفٌ جدا. وخرَّج البزَّارُ هذا المعنى - أيضًا - من حديثِ أبي هريرةَ، وسمُرَةَ بن جندبٍ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -. وخرَّجه الطبرانيُّ من حديثِ سمُرةَ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أيضًا. وروَى إبراهيمُ بنُ بشارٍ، عن إبراهيمَ بنِ أدْهَمَ، أنه كان ينشدُ شِعرًا: ما أحدٌ اكرَمُ من مُفْرَدٍ. . . في قبرِهِ أعمالُهُ تؤْنِسُه مُنَعَّمُ الجسْم وفي رَوْضَةٍ. . . زينها اللهُ فهِيَ مجْلِسُه

وأمَّا العارفون باللَّهِ، المحبُّونَ له، المنقطعونَ إليه في الدنيا، والمستأنسونَ به دونَ خلقِهِ: فإنَّ اللَّهَ بكرمِهِ وفضلِهِ لا يخذُلُهم في قبورِهِم، بل يتولاَّهم. ويؤنسُ وحشتَهُم فـ: (إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (128) . وقد جاء في بعضِ ألفاظِ حديثِ يومِ المزيدِ: أنهم يقولونَ لربِّهم في ذلك اليومِ: أنت الذي أنستَ منا الوحشةَ في القبورِ. وكتبَ محمدُ بنُ يوسفَ الأصبهانيُّ العابدُ إلى أخيه: إنّي محذِّرُكَ متحوَّلَك من دارِ مُهلتِكَ إلى دارِ إقامتِك وجزاءَ أعمالِك، فتصيرُ في قرارِ باطنِ الأرضِ بعدَ ظاهرِها، فيأتيكَ منكرٌ ونكير، فيقعدانِكَ وينتهرانِكَ، فإن يكنِ اللَّهُ معك فلا بأسَ عليكَ، ولا وحشةَ ولا فاقةَ، وإن يكنْ غيرُ ذلكَ فأعاذني اللَّهُ وإيَّاك من سوءِ مصرع، وضيقِ مضجع. ورُئِيَ ابنُ أبي عاصمٍ المنامِ فسُئِل عن حالِه فقالَ: يؤنسني ربِّي عزَّ وجلَ. وأمَّا من كانَ في الدنيا مشغولٌ عن اللَّهِ - عزَّ وجلَّ - وكان يخافُ غيرَهُ. فإنه يُعذبُ في قبرِهِ بذلكَ. قالَ أحمدُ بنُ أبي الحواريِّ: حدثنا إبراهيمُ بنُ الفضلِ، عن أبي المليح الرقي، قالَ: إذا دخلَ ابنُ آدمَ قبرَهُ لم يبقَ شيء كان يخافُه في الدنيا من دون اللَّهِ - عزَّ وجلَّ - إلا تمثَّل له يفزِّعه في قبرِهِ، لأنه في الدنيا كان يخافُه دون اللَّهِ تعالى. وروى عبدُ الرحمنِ بنُ زيدِ بنِ أسلمَ، عن أبيه، عن ابنِ عمر - رضي الله عنهما - عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "ليسَ على أهلِ لا إله إلا اللَهُ وحشةً في قبورِهِم، ولا يومَ نشورِهِم،

قوله تعالى: (ورزق ربك خير وأبقى)

وكأنِّي بأهلِ لا إله إلا اللَهُ ينفضونَ الترابَ عن رءوسهِم، يقولون: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ) ". * * * قوله تعالى: (وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى) قولُهُ: "وكان رزقُهُ كفَافًا فصبرَ على ذلك " هذا خيرُ الرزقِ كما سبقَ في حديثِ "خيرُ الرزقِ ما يكفِي ". وفي "الصحيح أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كان يقول: "اللهمَّ اجعلْ رزقَ آلِ محمدٍ قُوتًا". وقد فسَّر طائفةٌ من المفسرينَ قولَهُ تعالى: (وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى) . بهذا، وقالُوا: المرادُ: رزقُ يومِ بيومٍ. في "صحيح مسلم " عن عبدِ اللَّهِ بنِ عمرو عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "قد أفلحَ من هُديَ إلى الإسلامِ، وكان عيشُه كفافًا وقنَّعهُ اللَهُ به ". وخرَّج الترمذيُّ والنسائيُّ من حديث فضالةَ بنِ عبيدٍ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "طُوبى لمنْ هُديَ للإسلامِ وكانَ عيشُهُ كفافًا وقنِعَ ".

وفي "المسندِ" و"سننِ ابنِ ماجةَ " عن أنسٍ مرفوعًا: "ما منْ غني ولا فقيرٍ إلا ودَّ يومَ القيامةِ أنَّه أُوتِيَ قُوتًا". وفي الترمذي عن أبي أُمامةَ - مرفوعًا: "عرض علي ربي أن يجعلَ لي بطحاء مكة ذهبًا، فقلتُ: لا يا ربِّ، ولكن أجوعُ يومًا وأشبعُ يومًا، فإذا جعتُ تضرعتُ إليكَ ودعوتُكَ، وإذا شبعْتُ حمدتُكَ وشكرتُكَ ". وفي "سنن ابن ماجةَ " أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - بعثَ إلى رجلٍ يستمنحُهُ ناقةً فردَّهُ ثم بعث إلى آخرَ فبعثَ إليه بناقةٍ، فقالَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "اللهمَّ أكثرْ مالَ فلانٍ - للمانع الأولِ - واجعلْ رزقَ فلانٍ يومًا بيومٍ - للذي بعثَ بالناقةِ". وخرَّج ابنُ أبي الدنيا من حديثِ أبي هريرةَ - مرفوعًا: "اللَّهُمَّ منْ أحبَّني فارزقْهُ العفافَ والكفافَ، ومن أبغَضَنِي فأكثر مالَهُ وولدَهُ ". وفي الترمذيِّ وابنِ ماجةَ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "من أصبح منكُم آمنًا في سِرْبهِ معافًى في بدنِهِ عندَهُ قُوتُ يومِهِ؛ فكأنَّما حِيزتْ له الدنيا". وخرَّجه الطبرانيُّ وزادَ في أوَّلِهِ: "ابنَ آدمَ، جمعتُ عندَك ما يكفيكَ وأنتَ تطلبُ ما يطغيكَ، لا بقليلٍ تقنعُ ولا منْ كثيرٍ تشبعُ " وزادَ في آخر: "فعلَى الدُّنيا العفاءُ". وقال عمرُ: كونُوا أوعيةَ الكتابِ، ينابيعَ للعلم، وسلُوا اللَّهَ ش زقَ يومٍ

بيومٍ، وعدُّوا أنفسكُم في الموتى، ولا يضرُّكم أن لا يكثرَ لكُم. والكفافُ من الرزقِ؛ هو ما ليسَ فيه فضلٌ - بأن يكتَفي به صاحبُهُ من غيرِ فضْل. وجاء من حديثِ ابنِ عباسٍ - مرفوعًا: "إنَّما يكْفِي أحدُكُم ما قنعتْ به نفسُهُ " خرَّجه ابنُ أبي الدنيا. والمرادُ أن من اكتفى من الدنيا باليسيرِ وقنعتْ به نفسُهُ فقدْ كفاهُ ذلكَ واستغْنَى له وإنْ كان يسيرًا. قال أبو حازمٍ: إنْ كان يغنيكَ ما يكفيكَ فإن أدْنَى ما في الدنيا يكفيكَ - وإنْ كان لا يغنيكَ ما يكفيكَ فليسَ في الدنيا شيءٌ يكفيكَ. قال بكرٌ المزنيُّ: يكفيكَ من الدُّنيا ما قنعْتَ به ولو كفُّ تمرٍ وشربةُ ماءٍ. وقال الإمامُ أحمدُ: قليلُ الدنيا يكفِي وكثيرُ ما يكفِي يُغنِي، إنَّ من اكتفى من الدنيا كفاهُ منها القليلُ، ومن لم يكتفِ لم يكفِهِ الكثيرُ، كما قالَ بعضُهُم، شعر: حقيقٌ بالتواضع منْ يموتُ. . . ويكفِي المرءَ من دنْيَاه قوتٌ وقال آخرُ: يكفِي الفتى خلق وقوتُ. . . ما أكثرَ القوتَ لمن يموتُ وقد مدحَ في هذا الحديثِ من صبرَ على كفافِ عيشِهِ وقنعَ بهِ، فأما الراضِي بذلكَ: فهو أعْلَى منزلةً من الصابرِ القانِع. وقد قيلَ: إنَّ الفقيرَ الراضي أفضلُ من الفقيرِ الصابرِ والغنيَّ الشاكرِ بالاتفاقِ.

وفي الحديثِ أنه - عليه السلامُ - كان يقولُ في دعائِهِ: "رضِّنِي بما قسمتَ وفي حديب آخرَ. "إذا أرادَ بعبدِهِ خيرًا رضَّاهُ بما قسَمَ له، وبارَكَ لهُ فيه ". * * *

سورة الأنبياء

سُورَةُ الأنْبِيَاءِ [قالَ البخاريُّ] : قوله تعالى: (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً) حدثنا مُسدَّدٌ، ثنا يحيى، عن الأعمشِ، حدَّثني شقيقٌ، حدَّثني حذيفةُ. قال: كنَّا جُلُوسًا عند عُمرَ، فقال: أيكُم يحفظُ قولَ رسولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - في الفتْنَةِ؟ قلتُ: أنا كما قاله. قال: إنَّك عليهِ - أو عليها - لجريءٌ. قلتُ: "فتنةُ الرَّجل في أهلِه ومالِه وولده وجارِه، تُكفِّرُها الصلاةُ والصومُ والصدقةُ والأمرُ والنهْيُ. قال: ليس هذا أُرِيدُ، ولكن الفتْنةَ التي تمُوجُ كما يمُوجُ البحرُ، قال: ليس عليك منها بأسٌ يا أمير المؤمنين، إنَّ بينك وبينها بابا مُغْلقًا، قال: يُكْسَرُ أمْ يُفْتحُ؟ قال: يُكْسرُ. قال: إذن لا يُغْلقُ أبدًا. قُلنا: أكان عُمرُ يعلَمُ البابَ؟ قال: نعمْ، كما أنَّ دونَ غدٍ الليلةَ، إنِّي حدَّثتُهُ حديثًا ليس بالأغاليطِ، فَهِبْنَا أن نسْأل حذيفةَ، فأمرْنا مسروقًا فسألَهُ، فقال: البابُ عمرُ. أصلُ الفتنةِ: الابتلاءُ والامتحانُ والاختبارُ، ويكون تارةً بما يسوء، وتارةً بما يَسرُّ، كما قال تعالى: (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً) . وقال: (وَبَلَوْنَاهُم بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) .

وغلبَ في العُرفِ استعمالُ الفتنةِ في الوقوع فيما يسوءُ. والفتنةُ نوعانِ: أحدُهما: خاصة، تختص بالرجلِ في نفسِهِ، والثاني: عامَّة. تعمُ الناسَ. فالفتنة الخاصة: ابتلاءُ الرجلِ في خاصةِ نفسِهِ بأهلِه ومالهِ وولدِهِ وجاره. وقد قال تعالى: (إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ) ، فإنَّ ذلك غالبًا يُلهي عن طلبِ الآخرةِ، والاستعدادِ لها، ويشغل عن ذلك. ولمَّا كان النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يخطبُ على المنبرِ، ورأى الحسنَ والحسينَ يمشيانِ ويعثُرانِ وهما صغيرانِ، نزلَ فحملَهُمَا، ثمَّ قال: "صدق اللَّه ورسولُهُ: (إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكمْ فِتْنَةٌ) ، إني رأيتُ هذين الغُلامين يمشيان ويعْثران فلم أصبر". ً وقد ذمَّ اللَّهُ تعالى منْ ألهاهُ مالُهُ وولدُهُ عن ذكر، فقال: (لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (9) . فظهرَ بهذا: أنَّ الإنسانَ يُبتلَى بمالِهِ وولدِهِ وأهلِهِ وبجاور المجاورِ له، ويُفتتن بذلك، فتارةً يُلهيه الاشتغالُ به عمَّا ينفعه في آخرتِهِ، وتارةً تحملُهُ محبتُه على أنْ يفعلَ لأجله بعضَ ما لا يحبُه اللَّه، وتارةً يقصِّر في حقِّه الواجبِ عليه. وتارةً يظلمه ويأتي إليه ما يكرهُه اللَهُ من قولٍ أو فعلِ، فيسألُ عنه ويطالب فإذا حصل للإنسانِ شيء من هذه الفتن الخاصة، ثم صلَّى أو صامَ أو تصدَّقَ أو أمرَ بمعروفٍ أو نهى عن منكرٍ كان ذلك كفَّارة له، وإذا كان الإنسانُ

تسوؤه سيئتُه، ويعمل لأجلها عملاً صالحًا، كان ذلك دليلاً على إيمانِهِ. وفي "مسندِ بَقِيِّ بنِ مَخْلدٍ" عن رجلٍ سأل النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -: ما الإيمانُ يا رسولَ اللَّه؟ قال: "أن تؤمنَ باللهِ ورسولِهِ "، فأعادَهَا ثلاثًا، فقالَ له في الثالثةِ: "أتحبُّ أن أخبرَك ما صريحُ الإيمانِ؟ " فقالَ: ذلك الذي أردتُ، فقالَ: "إن صريحَ الإيمانِ إذا أسأت أو ظلمتَ أحدًا، عبْدَك أو أَمَتَكَ، أو واحدًا من الناسِ، صُمْتَ أو تصدَّقتَ وإذا أحسنتَ استبشرتَ ". وأمَّا الفتن العامةُ: فهي التي تموجُ موجَ البحر، وتضطربُ، ويتبع بعضُها بعضًا كأمواج البحرِ، فكانَ أوَّلُها فتنةَ قتلِ عثمانَ - رضي الله عنه - وما نشأ منها من افتراقِ قلوبِ المسلمينَ، وتشعبِّ أهوائِهم وتكفيرِ بعضِهم بعضًا، وسفكِ بعضِهم دماءَ بعضٍ، وكانَ البابَ المغلقَ الذي بين الناسِ وبين الفتن عُمَرُ - رضي الله عنه - وكان قتلُ عُمَرَ كسْرًا لذلكَ البابِ، فلذلكَ لم يُغْلَق ذلكَ البابُ بعدَه أبدًا. وكان حذيفةُ أكثرَ الناسِ سؤالا للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم - عن الفتنِ، وأكثرَ الناسِ علمًا بها، فكانَ عندَهُ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - علمٌ بالفتنِ العامةِ والخاصةِ، وهو حدَّث عُمَرَ تفاصيلَ الفتن العامَّة، وبالبابِ الذي بينَ الناسِ وبينَها، وأنه هو عمرُ، ولهذا قالَ: إنِّي حدثتُهُ حديثًا ليس بالأغاليطِ، والأغاليطُ: جمع أغْلُوطة، وهي التي يُغَالطُ بها. واحدها: "أُغْلُوطةٌ" و"مَغْلَطَةٌ"، والمعنى: أنه حدَّثه حديثًا حقًّا. ليس فيه مرْية، ولا إيْهَام. وهذا مما يُستدل به على أنَّ روايةَ مثلِ حذيفةَ يحصلُ بها لِمَنْ سمعَها العلمُ اليقينيُّ الذي لا شكَّ فيه، فإنَّ حذيفةَ ذكرَ أن عُمرَ علِمَ ذلك وتيقنه كما تيقنَ

قوله تعالى: (الذين يخشون ربهم بالغيب وهم من الساعة مشفقون (49)

أنَّ دونَ غدٍ الليلةَ لما حذَثه به من الحديثِ الذي لا يحتملُ غيرَ الحقِّ والصدقِ. وقد كانتِ الصحابةُ تعرفُ في زمانِ عُمَرَ أنَّ بقاءَ عُمَرَ أمانٌ للناسِ من الفتن. وفي "مسندِ الإمامِ أحمدَ" أنَّ خالدَ بنَ الوليدِ لمَّا عزَلَه عُمَرُ، قالَ لهُ رجل: اصبرْ أيها الأميرُ، فإنَّ الفتن قد ظهرتْ، فقال خالدٌ: وابن الخطَّابِ حيٌّ، إنَّما يكون بعدَهُ". وقد رُويَ من حديث عثمانَ بن مَظْعونٍ، أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - سمَّى عمر: غلق الفتنة وقال: "لا يزال بينكم وبينَ الفتنةِ باب شديدُ الغلقِ ما عاشَ هذا بين أظهركم ". خرَّجه البزار. ورُوي نحوه من حديثِ أبي ذرٍّ. ورَوَى كعبٌ، أنه قال لعمرَ: أجدُكَ مصْراعَ الفتنة، فإذا فُتحَ لم يغلق أبدًا. * * * قوله تعالى: (الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ (49) فأمَّا خشية اللَّهِ مي الغيب والشهادةِ فالمعنيُّ بهما: أن العبدَ يخْشَى اللَّه سرًّا وعلانيةً وظاهرًا وباطنًا، فإنًّ أكثر الناسِ يرى أنه يخشَى اللَّهَ في العلانيةِ وفي

الشهادةِ، ولكن الشأنَ في خشية اللَّه في الغيبِ إذا غابَ عن أعينِ الناسِ. وقد مدحَ اللَّه من يخافهُ بالغيبِ قالَ تعالى: (الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ) ، وقال: (مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ (33) . وقال تعالى: (لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ) . وقال: (إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كبِيرٌ) . وقد فُسِّر الغيبُ في هذه الآياتِ بالدنيا لأن أهلها في غيبٍ عمَّا وعِدُوا به في الآخرة، وأما في هذا الحديثِ فلا يتأتَّى ذلكَ، كما ترى لمقابلتِهِ بالشهادةِ، كان بعضُ السلفِ يقول لإخوانِهِ: زهَّدنا اللَّه وإياكُم في الحرامِ زهادةَ من قدرَ عليهِ في الخلوةِ فعلِمَ أنَّ اللَّه يراهُ فتركَهُ. ومن هذا قول بعضِهِم: ليسَ الخائفُ من بكى وعصر عينيه، إنَّما الخائفُ من تركَ ما اشتَهى من الحرامِ إذا قدرَ عليه، ومن هنا عَظُمَ ثواب من أطاعَ اللَّهَ، سرًّا بينه وبينه، ومن تركَ المحرماتِ التي يقدرُ عليها سرًّا. فأمَّا الأولُ فمثلُ قولِهِ تعالى: (تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ) إلى قولهِ: (فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ) . قال بعض السلفِ: أخفوا للَّهِ العملَ فأخفى لهم الأجر. وفي حديثِ السبعةِ الذين يظلهم اللَّه في ظلِّه يومَ لا ظلَّ إلا ظلُّه، "رجل ذكر اللَّهَ خاليًا ففاضتْ عيناه، ورجل تصدَّقَ بصدقة، حتى لا تعلمَ شمالُهُ ما تنفق يمينُه ". وفي الحديثِ: "إذا صلَّى العبدُ في العلانيةِ فأحسنَ وصلَّى في السرِّ فأحسنَ،

قال اللهُ: هذا عبدِي حقا". وفي حديثٍ آخرَ: "من أحسن صلاتَهُ حيثُ يراهُ الناسُ وأساءها حيث لا يراه أحدٌ فتلك استهانةٌ يستهينُ العبدُ بها ربَّه ". وأما الثاني: فمثلُ قولِهِ - صلى الله عليه وسلم - في السبعةِ الذينَ يظلُّهم اللَّهُ في ظلِّه يوم لا ظلَّ إلا ظلُّه "ورجلٌ دعَتْهُ امرأةٌ ذاتُ حسنٍ وجمال فقال: إنِّي أخافُ اللَهَ ربَّ العالمين ". ومثلُ الحديثِ الذي جاء فيمن أدَّى دَينًا خفيًا أنه يخيَّرُ في أي الحورِ العينِ شاء، والموجب لخشيةِ اللَّه في السر والعلانيةِ أمورٌ. منها: قوةُ الإيمانِ بوعدِهِ ووعيدِهِ على المعاصِي. ومنها: النظرُ في شدَّةِ بطشِهِ وانتقامِهِ وقوتِهِ وقهره، وذلك يوجبُ للعبدِ تركَ التعرضِ لمخالفتِهِ، كما قال الحسنُ: ابنَ آدمَ، هل لكَ طاقةً بمحاربةِ اللَّه، فإنَّ من عصَاهُ فقدْ حاربَهُ. وقال بعضُهم: عجِبْتُ من ضعيفٍ يعصِي قويًّا. ومنها: قوةُ المراقبةِ له، والعلمُ بأنَّه شاهدٌ ورقيبٌ على قلوبِ عبادِهِ وأعمالِهِم وأنَّه مع عباده حيثُ كانُوا، كما دل القرآنُ على ذلكَ في مواضعَ كقولِهِ تعالى: (إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كانُوا) . وقولُهُ تعالى: (وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ) الآية. وقولُهُ: (مَا يَكُونُ مِن نَّجوَى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رابِعُهُمْ) . وقولُهُ تعالى: (يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ) الآية. وكما في الحديثِ الذي خرَّجهُ الطبرانيُّ:

"أفضلُ الإيمانِ: أن يعلمَ العبدُ أنَّ الله معه حيثُ كان " فيوجبُ ذلكَ الحياءَ منه في السرِّ والعلانيةِ. قال بعضُهُم: خفِ اللَّهَ على قدرِ قدرتِهِ عليكَ. واستحِ منه على قدرِ قربِهِ منكَ. وقال بعضُهم لمن استوصَاهُ: اتَّقِ اللَّهَ أن يكونَ أهونَ الناظرينَ إليكَ. وفي هذا المعنى يقولُ بعضُهم: يا مدمنَ الذنبِ أما تستَحِي. . . واللَّهُ في الخلوةِ ثانيكَا غرَّك من ربِّكَ إمهالُهُ. . . وسترُهُ طولَ مساويكَا وفي حديثِ أبي ذرٍّ - رضي الله عنه - عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: "ثلانةٌ يحبُّهم اللَّهُ: رجل أتى قومًا فسألهم باللَّهِ ولم يسألهُم لقرابةٍ كانتْ بينه وبينَهُم، فتخلفَ رجلٌ فأعطاهُ سرًّا، لا يعلمُ بعطيتِهِ إلا اللَّهُ والذي أعطاهُ، وقومٌ سارُوا ليلَهُم حتى إذا كانَ النومُ أحبَّ إليهم مما يعدلُ به، فوضَعُوا رءوسهم فقامَ رجلٌ يتملقُنِي ويتْلُو كتابي، ورجلٌ كانَ في سرية فخلفُوا العدوَ، فهُزِمُوا، فأقبلَ بصدْرِهِ حتى يقتلَ أو يفتحَ له ". فهؤلاء الثلاثةِ قد اجتمعَ لهم معاملةُ اللَّهِ سرًّا بينَهُم وبينَهُ، حيثُ غَفَل الناسُ عنهُم، فهُوَ تعالى يحبُّ من يعامُلُهُ سرًّا بينه وبينَهُ، حيث لا يعامله حينئذٍ أحد، ولهذا فُضِّلَ قيامُ وسطِ الليلِ على ما سواه من أوقاتِ الليلِ. والمحبونَ يحبونَ ذلك أيضًا علمًا منهم باطلاعه عليهم ومشاهدته لهم، فهم يكتفون بذلك لأنهم عرفوه فاكتفوا به من بين خلقه، وعاملُوه فيما بينَهُ وبينَهُم

قوله تعالى: (لا يحزنهم الفزع الأكبر وتتلقاهم الملائكة هذا يومكم الذي كنتم توعدون (103)

معاملةَ الشاهدِ غيرَ الغائبِ، وهذا مقامُ الإحسانِ. قال بعض العارفين: من عرفَ اللَّهَ اكتفى به من خلقِهِ. وكان بعضُ المخلصينَ يقولُ: لا أعتدُّ بما ظهرَ من عملِي. اطلعَ على بعضِ أحوالِ بعضِهم، فدَعَى لنفسِهِ بالموتِ وقال: إنما كانتْ تطيبُ الحياةُ إذا كانتِ المعاملةُ بيني وبين اللَّه سرًّا. وقيلَ لبعضهم: ألا تستوحشُ وحدَكَ؟ قالَ: وكيفَ أستوحشُ وهو يقولُ: أنا جليسُ من ذكرَني. آنستني خلواتِي بكَ عن كلِّ أنيسي. . . وتفردتُ فعاينتُكَ في الغيبِ جليسِي * * * قوله تعالى: (لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (103) كَمْ بَيْنَ الذين: (لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ) ، وبينَ الذينَ: (يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا) . قال: عليٌّ - رضي الله عنه -: تتلقَّاهُم الملائكةُ على أبوابِ الجنة: (سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ) . ويلْقَى كُلُّ غِلمان صاحبَهم يُطيُفون به فِعْلَ الوِلْدان بالحميم جاء من الغيبةِ، ويقولون: أبشِرْ فقدْ أعدَّ اللَّهُ لك من الكرامةِ كذا وكذا، وينطلقُ غُلامٌ من غِلْمانِهِ إلى أزواجه من الحور العين، فيقولُ: هذا فلان - باسمه في الدنيا -، فيقلْنَ: أنتَ رأيتَه؟ فيقولُ: نعم، فيستخفُّهُنَّ الفرحُ حتى يخرُجْنَ إلى أُسْكُفَّةِ البابِ. * * *

قوله تعالى: (إنه يعلم الجهر من القول ويعلم ما تكتمون (110)

قوله تعالى: (إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ (110) قال ابن الجوزي في "المقتبس ": سمعت الوزير يقول في قوله تعالى: (إِنَّه يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ) المعنى: أنه إذا اشتدت الأصوات وتغالبت فإنها حالة لا يسمع فيها الإنسان. واللَّه عز وجل يسمع كلام كل شخص بعينه، ولا يشغله سَمع عن سَمْع. * * * قوله تعالى: (قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (112) قال ابن الجوزي في "المقتبس ": سمعت الوزير يقول في قوله تعالى: (رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ) : المراد منه: كن أنت أيها القائل على الحق. ليمكنك أن تقول: احكم بالحق، لأن المبطل لا يمكنه أن يقول: احكم بالحق. * * *

سورة الحج

سُورَةُ الحَجِّ قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى) وقولُه: "ثم يكونُ علقةً مثلَ ذلك " يعني: أربعين يومًا، والعلقةُ: قطعة من "ثم يكون مضعةً مثلَ ذلك " يعني: أربعين يومًا، والمضغةُ: قطعة من لحم. "ثمَّ يُرسلُ اللَهُ إليه الملك، فينفخ فيه الرُّوحَ، ويؤمرُ بأربع كلماتٍ: بكتبِ رزقِهِ وعملِهِ وأجلِهِ وشقى أو سعيدٌ". فهذا الحديثُ يدلُّ على أنه يتقلبُ في مائةٍ وعشرينَ يومًا، في ثلاثةِ أطوارٍ، في كلِّ أربعينَ منها يكونُ في طَوْرٍ، فيكونُ في الأربعينَ الأولى نطفةً، ثم في الأربعينَ الثانية علقةً، ثم في الأربعينَ الثالثةِ مضغةً، ثم بعدَ المائةِ وعشرينَ يومًا ينفخُ المَلَكُ فيه الرُّوحَ ويكتبُ لهُ هذه الأربعَ الكلماتِ. وقد ذكرَ اللَهُ في القرآن في مواضعَ كثيرةٍ تقلُّبَ الجنينِ في هذه الأطوارِ. كقولِهِ تعالى: ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى) .

وذكرَ هذه الأطوارَ الثلاثةَ: النُّطفةَ والعلقةَ والمضعةَ في مواضعَ متعددةٍ من القرآنِ، وفي موضع آخرَ ذكرَ زيادةً عليها، فقالَ في سورةِ المؤمنين (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (14) . فهذه سبعُ تاراتٍ ذكرَها اللَّهُ في هذه الآيةِ لخلقِ ابنِ آدمَ قبلَ نفخ الروح فيه. وكان ابنُ عباسٍ يقولُ: خُلِقَ ابنُ آدمَ منْ سبعٍ، ثم يتلُو هذه الآيةَ. وسئلَ عن العزلِ، فقرأ هذه الآيةَ ثمَّ قالَ: فهل يخلق أحدٌ حتى تجري فيه هذه الصفةُ؟ وفي روايةٍ عنه قال: فهلْ تموتُ نفسٌ حتى تمرَّ على هذا الخلقِ؟. ورُوي عن رفاعةَ بنِ رافع قالَ: جلسَ إلى عمرَ عليّ والزبيرُ وسعدٌ في نفرٍ منْ أصحاب رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فتذاكرُوا العزل، فقالُوا: لا بأس به، فقالَ رجلٌ: إنَّهم يزعمونَ أنَّها الموءودةُ الصُّغرى. فقالَ عليٌّ: لا تكون موءودةً حتى تمرَ على التَّاراتِ السَّبع: تكونُ سلالةً من طين، ثمَّ تكونُ نطفةً، ثم تكونُ علقةً، ثم تكونُ مضغةً، ثم تكونُ عظامًا، ثم تكونُ لحمًا، ثم تكونُ خلقًا آخرَ، فقال عمرُ: صدقتَ، أطال اللَّهُ بقاءَك. رواه الدارقطنيُّ في "المؤتلف والمختلف ". * * *

[قالَ البخاريُّ] : "بابُ: مُخَلَّقةٍ وغيرِ مُخَلَّقةٍ": حدثنا مسدد: ثنا حماد، عن عبيد الله بنِ أبي بكرٍ، عن أنس بنِ مالكٌ. عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "إنَّ اللهَ عزَّ وجل وكَلَ بالرَّحم ملَكًا، يقولُ: يا ربِّ نُطفة يا ربِّ علَقة، يا ربِّ مُضْغة، فإذا أراد أن يقْضِي اللَّهُ خلقَهُ قال: أذَكَر أم أنثى؟ أشقيٌّ أم سعيا؟ فما الرزقُ؟ فما الأجلُ؟ فيُكْتَبُ في بطنِ أمِّه ". اختلف السَّلفُ في تأويلِ قولِ اللَّه عزَّ وجلَّ: (ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ) . فقال مجاهد: هي المضغةُ التي تسقطُها المرأةُ، منها ما هو مُخَلَّقٌ فيه تصوير وتخطيطٌ، ومنها ما ليسَ بمخلَّقٍ ولا تصوير فيه، أرَى اللَهُ تعالى ذلك عبادَه ليُبَين لهم أصْلَ ما خُلِقُوا منه، والذي يُقِرّه في الأرحامِ هو الذي يتمُّ خلْقُهُ ولُولَدُ. وقالتْ طائفةٌ: المخلقةُ: هي التي يتمُّ خلْقُها، وغيرُ مخلقة: هي التي تَسقُطُ قبلَ أن تكونَ مضغةً. روى الشَّعْبيُّ، عن علْقَمَةَ، عن ابنِ مسعودٍ، قال: النطفةُ إذا استقرتْ في الرَّحم حَمَلَها ملَكٌ بكفِّه، وقال: أي ربِّ، مخلقة أم غيرُ مُخلقةٍ؟ فإنْ قيلَ: غير مخلقةٍ: لم تكنْ نسمة، وقذفَتْها الأرحامُ. وإن قيلَ: مخلقةٌ، قالَ: أي ربِّ، أذكرٌ أم أنثى؟ أشقيّ أم سعيدٌ؟ ما الأجلُ؟ ما الأثرُ؟ وبأيِّ أرضٍ تموتُ؟ قال: فيقالُ للنطفةِ: من ربّكِ؟ فتقولُ: اللَّهُ، فيقالُ: من رازقُكِ؟ فتقولُ: اللَّهَ. فيقولُ اللَّه عزَّ وجلَّ: اذهبْ إلى الكتابِ، فإنَّكَ ستجدُ فيه قصةَ هذه

النطفةِ، قالَ: فتُخلقُ، فتعيشُ في أجلِها، وتأكلُ رزقَها، وتطأُ في أثَرِها. حتى إذا جاء أجلُها ماتتْ، فدُفنتْ في ذلكَ، ثم تلا الشعبيُّ: (يَا أَيُّهَا الناسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ) إلى قولهِ: (مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ) ، فإذا بلغتْ مضغةً نُكِسَتْ في الخَلْقِ الرابع، فكانتْ نسمةً، فإنْ كانتْ غيرَ مخلقةٍ قذفَتْها الأرحامُ دمًا، وإن كانتْ مخلقةً نكِسَتْ نسمةً. خرَّجه ابنُ أبي حاتمٍ وغيرُه، وآخرُهُ هو من قولِ الشعبيِّ. وقد يستأنسُ بهذا من يقولُ: إنَّ الحاملَ لا تحيضُ ولا ترى دمَ الحيضِ في حالِ حَمْلِها، وأنَها لا ترَى إلا دمَ النِّفاسِ خاصةً، وفي ذلكَ نظرٌ. وقد قيلَ: إن هذا هو مرادُ البخاريِّ بتبويبِهِ هذا. وقد رُويَ عن الحسنِ في قولِ اللَّهِ عزَّ وجل: (إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجِ) ، أنَّ النطفةَ مُشجتْ - أي: خُلِطَتْ بدمِ الحيضِ -، فإذا حَمَلتِ المرأةُ ارتفعَ حيضُها. وحديثُ أنسٍ الذي خرَّجه البخاريُّ يدلُّ على أنَّه لا يُخلقُ إلا بعدَ أن يكونَ مضغةً، وليسَ فيه ذِكْرُ مدةِ ذلكَ. وذكرُ المدةِ في حديث ابنِ مسعودٍ - وقد خرَّجه البخاريُّ في مواضعَ أُخَرَ - قالَ: حدثنا رسولُ اللًّهِ - صلى الله عليه وسلم - وهو الصادقُ المصدوقُ -: "إنَّ خلقَ أحدِكُم يُجْمَع في بطنِ أمِّه أربعينَ يومًا نطفة، ثم يكون علقةً مثلَ ذلك، ثم يكونُ مضغةً مثلَ ذلك، ثم يُبعثُ إليه الملكُ، فيُؤمَرُ بأربع كلماتٍ: بكتْبِ رزِقه، وأجَلِهِ، وعمَلِهِ، وشقيٌّ أو سعيدٌ، ثم يُنفخُ فيه الرُّوح " - وذكر الحديثَ. وقد رُويَ هذا المعنى عن ابن مسعودٍ موقوفًا عليه، وعن ابنِ عباسٍ،

وغيرِهما من الصحابةِ. وقد أخذَ كثيرٌ من العلماءِ بظاهرِ حديثِ ابنِ مسعودٍ، وقالُوا. أقلُّ ما يتبيَنُ فيه خلْقُ الولدِ أحدٌ وثمانونَ يومًا؛ لأنه لا يكونُ مضغةً إلا فى الأربعينَ الثالثةِ، ولا يتخلَّقُ قبلَ أن يكونَ مضغةً. قال الإمامُ أحمدُ: ثنا هُشَيْمٌ: أنْبَأ داودُ، عن الشعبي، قال: إذا نُكِسَ السَّقْطُ الخلْقَ الرابعَ وكان مخلقًا عُتقَت به الأَمَةُ، وانقضتْ به العدَّة. قال أحمدُ: إذا تبيَّنَ الخلْقُ فهو نفاسٌ، وتُعْتَقُ به إذا تبيَّن. قال: ولا يُصَلَّى على السَّقْطِ إلا بعد أربعة أشهرٍ. قيلَ له: فإنْ كان أقلَّ من أربعةٍ؟ قالَ: لا، هو في الأربعةِ يتبيَّنُ خلقُه. وقال: العلقةُ: هي دمٌ لا يتبين فيها الخلقُ. وقال أصحابُنا وأصحابُ الشافعيّ - بناءً على أن الخلقَ لا يكونُ إلا في المضغةِ -: أقلّ ما يُتبيَّنُ فيه خلْقُ الولدِ أحدٌ وثمانون يومًا، في أولِ الأربعين الثالثةِ التي يكونُ فيها مضغةٌ، فإن أُسقطتْ مضغةً مخلقةً انقضتْ بها العدةُ وعُتِقَتْ بها أمُّ الولدِ، ولو كان التخليقُ خفِيًّا لا يَشهدُ به إلا من يعرفُهُ من النساء فكذلكَ. فإنْ كانتْ مضغةً لا تَخْليقَ فيها: ففي انقضاءِ العدةِ وعتقِ الأمَةِ به روايتانِ عن أحمدَ. وهل يعتبرُ للمضغةِ المخلقةِ أن يكونَ وضعُها بعدَ تمامِ أربعةِ أشهر؟ فيه قولانِ، أشهرُهُما: لا يُعتبرُ ذلكَ، وهو قولُ جمهورِ العلماءِ، وهو المشهورُ عن أحمدَ، حتى قالَ: إذا تبيَّنَ خلقُهُ: ليسَ فيه اختلافٌ، أنها تُعْتقَ بذلكَ.

ورويَ عنه ما يدل على اعتبارِ مُضِيِّ الأربعةِ أشهُرِ، وعنه روايةٌ أُخْرى في العلقةِ إذا تبيَّنَ أنها ولدٌ: أنَّ الأمَةَ تُعْتَقُ بها، ومن أصحابنا من طرد ذلك في انقضاءِ العدَّةِ بها - أيضًا - وهذه الروايةُ قول النَّخعِي، وحكيَ قولاً للشافعي. وهذا يدلُّ على أنَّه يمكنُ التخليقُ في العلقةِ، وقد رُويَ ما يدلُّ عليه. والأطباءُ تعترفُ بذلكَ. فأمَّا الصلاةُ على السقْطِ: فالمشهورُ عن أحمدَ أنه لا يُصلَّى عليهِ حتى يُنفخَ فيه الروحُ، ليكون ميْتًا بمفارقةِ الروح لهُ، وذلك بعد مُضِيِّ أربعةِ أشهرٍ، وهو قولُ ابنِ المسيبِ، وأحدُ أقوالِ الشافعيِّ، وإسحاقَ. وإذا ألْقَتْ ما يتبيَّن فيه خلْقُ الإنسانِ فهيَ نُفساءُ، ويلزمُها الغُسْلُ، فإنْ لم يتبيَّنْ فيه خلقُ الإنسانِ وكانَ مضغةً فلا نفاسَ لها، ولا غُسلَ عليها في المشهورِ عن أحمدَ، وعنه رواية: أنها نفساءُ -. نقلها عنه الحسنُ بنُ ثوابٍ. ولم يشترطْ شيئًا، لأن المضغة مظنَةُ تبيُّنِ التَخَلُّقِ والتصويرِ غالبًا. وإنْ ألقَتْ علقةً: فلا نفاسَ لها فيه، ولأصحابِنا وجهٌ ضعيفٌ: أنها نفساءُ. بناءً على القولِ بانقضاءِ العدَّةِ به. ومذهبُ الشافعيةِ والحنفيّةِ: أنَّ الاعتبارَ في النفاسِ بما تنقضِي به العدَّةُ. وتصيرُ به الأمَةُ أمَّ ولدٍ، فحيثُ وُجد ذلكَ فالنفاسُ موجودٌ، وإلا فلا. والاعتبارُ عندهُم في ذلكَ كلِّه بما يتَبيَّنُ فيه خلقُ الإنسانِ. وقال إسحاقُ: إذا استتمَّ الخلقُ فهو نفاسٌ -: نقلَهُ عنه حرْبٍ. * * *

قوله تعالى: (فالذين كفروا قطعت لهم ثياب من نار يصب من فوق رءوسهم الحميم (19) يصهر به ما في بطونهم والجلود (20) ولهم مقامع من حديد (21)

قوله تعالى: (فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ (19) يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (20) وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (21) كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (22) قال تعالى: (فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ) ، وكان إبراهيمُ التيميُّ إذا تلا هذه الآيةَ يقولُ: سبحانَ من خلَقَ من النارِ ثيابًا. وروينا من طريقِ يحيى بن معينٍ، حدثنا أبو عبيدةَ الحدادُ، حدثنا عبدُ اللَّهِ ابنُ بحيرٍ، عن عباسٍ الجريريَ - أحسبُهُ عن ابنِ عباس - قالَ: يُقطعُ للكافرِ ثيابٌ من نارٍ، حتى ذكرَ القباءَ والقميصَ والكمةَ. وخرَّج أبو داود وغيرُه من حديثِ المستوردِ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "من أكل برجل مسلمٍ أكلة في الدنيا أطعمَهُ اللَّهُ مثلها في جهنَّمَ، ومن كسَى أو اكتسَى برجل مسلمٍ ثوبًا كساهُ اللَّهُ مثلَهُ في جهنَّم ". وفي "مسندِ الإمامِ أحمدَ" عن هُبيبُ بن مُغْفِل، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "من وطِئَ إزارَهُ خيلاءَ وطئَهُ في النارِ" وهو يبينُ معنى ما في "صحيح البخاريِّ " عن أبي هريرة عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنه قالَ: "ما تحت الكعبين من الإزار ففي النارِ". أن المراد: ما تحتَ الكعبِ من البدنِ والثوبِ معًا، وأنه يسحبُ ثوبه في النارِ كما يسحبُهُ في الدنيا خيلاءَ. وسيأتي حديثُ: "أهونُ أهلِ النارِ عذابًا: مَن في قدميهِ نعلانِ من نار يغلي فيهما دماغُهُ " فيما بعدُ - إن شاءَ اللَّهُ تعالى.

وفي كتابِ أبي داودَ والنسائيِّ والترمذيِّ عن بريدةَ: أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى على رجلٍ خاتمًا من حديدٍ فقالَ: "ما لي أرَى عليكَ حليةَ أهلِ النارِ". وروى حمادُ بنُ سلمةَ عن عليِّ بنِ زيدٍ عن أنسٍ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - "أنَّ أولَ من يُكسى حلةً من النارِ. إبليسُ، يضعُها على حاجِبِه ويسحبُها من خلفِهُ ذريتُه وهو يقولُ: يا ثبورهُ، وهم ينادونَ: يا ثبورَهُم، حتى يقفُوا على النارِ، فيقولُ: يا ثبورهُ ويقولونَ: يا ثبورَهُم، فيقالَ: (لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا (14) ". خرَّجه الإمامُ أحمد. وفي حديثِ عديٍّ الكنديِّ عن عمرَ: "أنَّ جبريلَ قالَ للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: والذي بعثك بالحقِّ، لو أنَّ ثوبًا من ثيابِ النارِ عُلِّق بين السماء والأرضِ لماتَ من في الأرضِ جميعًا من حرِّهِ ". وخرَّجه الطبرانيُّ، وسبقَ ذكرُ إسنادِهِ. وفي "موعظةِ الأوزاعيِّ " للمنصورِ قالَ: بلغني أنَّ جبريل قالَ للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فذكر بنحوه. * * * ومن أنواع عذابِهم: الصَّهْرُ، قال اللَّهُ تعالى: (فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ (19) يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (20) وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (21) . قال مجاهد: (يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ) : يذابُ به إذابةً. وقال عطاءُ الخراسانيُّ: يذابُ به ما في بطونِهِم كما يذابُ الشحمُ.

وخرَّج الترمذيُّ من حديثِ أبي هريرة عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "إن الحميمَ ليصبُّ على رءوسهم، فينفذ الحميمُ حتى يخلصَ إلى جوفِهِ، فيسلتُ ما في جوفِهِ حتى يمرقَ من قدميهِ وهو الصهرُ، ثم يعودُ كما كانَ " وقال: حسنٌ غريبٌ صحيح. وقال اللَّهُ عزَّ وجلَّ: (خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ (47) ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ (48) ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (49) . قال كثيرٌ من السلفِ: نزلتْ هذه الآية ُ في أبي جهلٍ. قال الأوزاعيُّ: يؤخذ أبو جهل يوم القيامة فيخرق في رأسه خرق، ثم يؤتى بسجل من الحميمِ فيصب في ذلك الخرق، ثم يقال له: (ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ) . قال مجاهدٌ في قوله: (يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فَلَا تَنْتَصِرَانِ (35) . قال: النحاس: الصُّفْر، يذاب فيصب على رءوسهم يعذبون به. وقال عطاء الخراسانيُّ في قوله تعالى: (وَنُحَاسٌ) قال: الصُّفْر، يذاب فيصب على رءوسهم فيعذبون به. * * * قال اللَّهُ تعالى: (وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (21) كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا) . قال جويبر عن الضحاك: (مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ) : أي: مطارقُ.

وروى ابنُ لهيعةَ عن دراج عن أبي الهيثم عن أبي سعيدٍ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "لو أنَّ مقمعًا من حديدٍ وُضِعَ في الأرضِ فاجتمعَ له الثقلانِ لما أقلوه من الأرضِ " خرَّجه الإمامُ أحمدُ، وخرَّج أيضًا بهذا الإسنادِ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: "لو ضُرب بمقامع من حديدٍ لتفتت ثمَّ عاد". قال الإمامُ أحمدُ في كتابِ "الزهدِ": حدثنا سيارٌ، حدثنا جعفر، سمعت مالكَ بنَ دينار، قال: إذا أحسَّ أهلُ النارِ في النارِ بضربِ المقامع انغمسُوا في حياضِ الحمَّيَم فيذهبونَ سفالاً، كما يغرقُ الرجلُ في الماءِ في الدنيا. ويذهبُ سفالاً سفالاً. قال سعيدٌ عن قتادةَ: قالَ عمرُ بنُ الخطابِ: ذكِّروهم النارَ؛ لعلَّهم يفرقُونَ، فإن حرَّها شديدٌ، وقعرُها بعيدٌ، وشرابُها الصديدُ، ومقامعُها الحديدُ. وذكر ابنُ أبي الدنيا بإسنادِهِ عن صالح المريِّ أنه قرأ على بعضِ العبادِ: (إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ (71) فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ (72) . قالَ: فشهقَ الرجلُ شهقةً، فإذا هو قدْ يبسَ مغشيًا عليهِ، قالَ: فخرجْنَا من عندِهِ وتركْنَاهُ. وقرأ رجلٌ على يزيدَ الضبيِّ: (وَترَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُّقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ) ، فجعلَ يزيدُ يبكي حتى غشيَ عليه. خرَّجهُ عبدُ اللَّهِ ابنُ الإمامِ أحمدَ. وقد سبقَ عن مالكِ بنِ دينارٍ: أنه قامَ ليلةً في وسطِ الدارِ إلى الصباح،

قوله تعالى: (لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم)

فقالَ: ما زالَ أهلُ النارِ يعرضُونَ عليَّ في سلاسلهم وأغلالِهِم حتى الصباحِ. * * * قوله تعالى: (لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ) وقال تعالى: (لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ) والمعنى: أنه تعالى يحبُّ من عبادِهِ أنْ يتَّقُوه ويُطيعُوه، كما أنَّه يكره منهم أن يعْصُوه، ولهذا يفرحُ بتوبةِ التائبينَ إليه أشدَّ من فرح منْ ضلَّتْ راحلتُهُ التي عليْهَا طعامُهُ وشرابُهُ بفَلاةٍ من الأرضِ، وطلبَهَا حتَّى أعيا وأيسَ منهَا. واستسلَمَ للموتِ، وأيسَ من الحياةِ، ثم غلبتْهُ عينُه فنامَ فاستيقظَ وهي قائمةٌ عندَهُ، وهذا أعْلَى ما يتصورُهُ المخلوقُ من الفرح، هذا كلُّه مع غناهُ عن طاعاتِ عبادِهِ وتوباتِهِم إليه، وإنَّه إنَّما يعودُ نفعُها إليهِم دونَهُ، ولكن هذا من كمالِ جودِهِ وإحسانِهِ إلى عبادِهِ، ومحبتِهِ لنفعِهِم ودفع الضَّرَرِ عنهُم، فهو يُحِبُّ من عبادِهِ أن يعرفُوه ويحبُّوه ويخافُوه ويتَّقوه ويطيعُوه ويتقرَّبوا إليه. ويُحِبُّ أن يعلمُوا أنَّه لا يغفرُ الذنوبَ غيرُه، وأنَّه قادرٌ على مغفرةِ ذنوبِ عبادِهِ، كما في روايةِ عبد الرحمنِ بنِ غنْم عن أبي ذرٍّ لهذا الحديثِ: "من علمَ منكم أنِّي ذو قُدرةٍ على المغفرةِ، ثم استغفرني، غفرتُ له ولا أبالي ". وفي "الصحيح " عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ عبدًا أذنبَ ذنبًا، فقالَ: يا ربِّ، إنَي عملتُ

ذنبًا، فاغفر لي، فقالَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ: علمَ عبدِي أنَّ له ربًّا يغفرُ الذنب ويأخذُ بالذنبِ، قد غفرتُ لعبدِي ". وفي حديثِ عليِّ بنِ أبي طالبٍ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: أنَّه لما ركبَ دابَّته حمِدَ اللَّهَ ثلاثًا، وكبَّر ثلاثاً، وقالَ: "سبحانَك إنّي ظلمتُ نفسِي، فاغفرْ لِي، فإنَّه لا يغفرُ الذنوبَ إلا أنتَ " ثم ضحكَ، وقال: "إنَّ ربَّك ليعجَبُ من عبدٍ إذا قالَ: ربِّ اغفرْ لي ذنوبي، يعلمُ أنه لا يغفرُ الذُّنوبَ غيرِي ". خرَّجه الإمامُ أحمدُ والترمذيُّ وصححه. وفي "الصحيح " عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "واللهِ؛ للَّهُ أرحمُ بعباده من الوالدةِ بولدِها ". كان بعضُ أصحابِ ذي النونِ يطوفُ وينادي: آه، أين قلبِي؟ ، مَنْ وجَدَ قلبي؟ فدخلَ يومًا بعضَ السككِ، فوجدَ صبيًّا يبكي وأمُّه تضربُه، ثم أخرجتُه من الدارِ، وأغلقتِ البابَ دونه، فجعل الصبيُّ يتلفَّتُ يمينًا وشمالاً لا يدري أين يذهبُ ولا أين يقصِدُ، فرجعَ إلى بابِ الدارِ، فجعَلَ يبْكي ويقول: يا أمَّاه منْ يفْتَحُ لي البابَ إذا أغلقتِ عنِّي بابَك؛ ومن يُدنيني من نفسِهِ إذا طردتيني؟ ومن ذا الذي يُدنيني بعد أن غضبتِ عليَّ؛ فرحمتْهُ أمُّه، فقامتْ فنظرتْ من خَلَلِ البابِ، فوجدتْ ولدَهَا تجري الدموعُ على خدَّيهِ متمعِّكًا في الترابِ، ففتحتِ البابَ، وأخدْتْهُ حتى وصْعتْهُ في حَجْرِها، وجعلتْ تُقبِّله،

وتقولُ: يا قُرَّةَ عيني، ويا عزيزَ نفسِي، أنت الذي حملتني على نفسِكَ. وأنت الذي تعرَّضتَ لما حلَّ بك، لو كنتَ أطعتنِي لم تلقَ منِّي مكروهًا. فتواجدَ الفتى، ثم قام: فصاحَ، وقال: قد وجدتُ قلبِي، قد وجدتُ قلبِي. وتفكَّروا في قولهِ: (وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُم ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنوبَ إِلاَّ اللَّهُ) . فإنَّ فيه إشارةً إلى أن المذنبينَ ليسَ لهُم من يلجئونَ إليه ويُعوِّلونَ عليه في مغفرةِ ذنوبِهِم غيرُهُ. وكذلك قولُهُ في حقِّ الثلاثةِ الذين خُلِّفوا: (وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (118) . فرتَّبَ توبتَه عليهم على ظنِّهم أن لا ملجأ من اللَّهِ إلا إليه، فإنَّ العبدَ إذا خافَ من مخلوقٍ، هربَ منه، وفرَّ إلى غيرِهِ. وأمَّا من خافَ من اللَّهِ، فما لهُ منْ ملجأ يلجأُ إليه، ولا مهرَبٍ يهربُ إليه إلا هو، فيهربُ منه إليهِ، كما كان النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يقولُ في دعائِهِ: "لا ملجأ، ولا منْجَا منكَ إلا إليكَ "، وكان يقولُ: "أعوذُ برضاك من سَخَطك، وبعفوك من عقوبتكَ، وبك منك ". قال الفضيلُ بنُ عياضٍ - رحمه اللَّهُ -: ما مِنْ ليلةٍ اختلطَ ظلامُها، وأرْخى الليلُ سِرْبالَ ستْرها، إلا نادَى الجليلُ - جلَّ جلالُهُ -: منْ أعظمُ منِّي جودًا، والخلائقُ لي عاصونَ، وأنا لهُم مراقبٌ؟ ، أكلؤهُم في مضاجِعِهم، كأنهم لم يعصوني، وأتولَّي حفظَهم، كأنَّهم لم يُذنبوا فيما بيني وبينَهُم، أجود بالفضلِ على العاصِي، وأتفضَّلُ على المسيء، من ذا الذي دعاني فلم أُلبِّهْ؟ أم منْ ذا

الذي سألني فلم أعطِه؟ ، أم من ذا الذي أناخَ ببابي فنحَّيتُه؟ أنا الفضل، ومنِّي الفضلُ، أنا الجوادُ، ومنِّي الجودُ، أنا الكريمُ، ومنِّي الكرمُ، ومِن كرَمِي أن أغفرَ للعاصينَ بعدَ المعاصِي، ومن كرَمِي أن أُعطيَ العبدَ ما سألني، وأُعطيه ما لم يسألْني، ومن كرمِي أن أُعطيَ التَّائبَ كأنَّه لم يعصِني، فأين عنِّي يهربُ الخلائقُ؟ وأين عن بابي يتنحَّى العاصونَ؟. خرَّجه أبو نُعيمٍ. ولبعضِهِم في المعنى: أسأتُ ولم أُحْسِن وجئتُكَ تائبًا. . . وأنَّى لِعَبْدٍ عن مواليه مهْرَبُ يُؤَمِّلُ غُفْرَانًا فإنْ خابَ ظَنُّه. . . فما أحدٌ منه على الأرضِ أخيبُ * * *

الجزء الثاني

سورة المؤمنون

سُورَةُ المؤمِنُونَ قوله تعالى: (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2) قد مدح اللَّه الخاشعينَ في صلاتِهِم، فقال: (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2) . وقال: (وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ) . رُوي عن عليِّ بنِ أبي طالبٍ، قال: هو الخشوعُ في القلبِ، وأن تلينَ كنفكَ للمسلم، وأن لا تلتفتَ في صلاتِك. وعنه قال: الخشوعُ خُشُوعُ القلبِ، وأن لا تلتفتَ يمينًا ولا شمالا. وعن ابنِ عباسٍ قال: (خاشعون) : خائفونَ ساكنون. وعنِ الحسنِ قال: كان الخشوعُ في قلوبِهِم، فغضُّوا له البصرَ، وخفضُوا له الجناح. وعن مجاهدٍ قال: هو الخشوعُ في القلبِ، والسكونُ في الصلاةِ. وعنه قال: هو خفضُ الجناح وغضُّ البصرِ، وكان المسلمون إذا قامَ أحدُهُم في الصلاةِ خافَ ربَّه أن يلتفتَ عن يمينِهِ أو شمالِهِ.

وعنه قالَ: العلماءُ إذا قامَ أحدُهم في الصلاةِ هابَ الرحمنَ عزَّ وجلَّ أن يشذ نظرُهُ، أو يلتفتَ، أو يقلِّب الحصى، أو يعبثَ بشيء، أو يحدثَ نفسَهُ بشيءٍ من الدنيا، إلا ناسيًا، ما دامَ في صلاتِهِ. وعن الزهريِّ قال: هو سكونُ العبدِ في صلاتِهِ. وعن سعيدِ بن جبير، قال: يعني: متواضعينَ، لا يعرفُ مَن عن يمينِهِ. ولا مَن عنْ شمالِهِ ولا يلتفتُ من الخشوعُ للَّه عزَّ وجل. ورُوي عن حذيفةَ أنه رأى رجلاً يعبثُ في صلاتِهِ، فقالَ: لو خشعُ قلبُ هذا لخشعتْ جوارحُهُ. ورُوي عن ابنِ المسيبِ. ورُوي مرسلا. فأصلُ الخشوع: هو خشوعُ القلبِ، وهو انكسارُهُ للَّه، وخضوعة وسكونُهُ عن التفاتِهِ إلى غيرِ مَنْ هو بينَ يديهِ، فإذا خشعَ القلبُ خشعتِ الجوارحُ كلُّها تبعًا لخشوعِهِ، ولهذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقولُ في ركوعِهِ: "خشع لك سمعي، وبصري، ومخّي، وعظامي، وما استقل به قدَمِي ". ومن جملةِ خشوع الجوارح: خشوعُ البصرِ أن يلتفتَ عن يمينِهِ أو يسارِهِ.

وقال ابنُ سيرين: كان رسولُ اللَّه - صلى الله عليه وسلم - يلتفتُ في الصلاةِ عن يمينِهِ وعن يساره، فأنزلَ اللَّه تعالى: (الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ) ، فخشعَ رسولُ اللَّه - صلى الله عليه وسلم -، ولم يكنْ يلتفتْ يمنةً ولا يسرةً. وخرَّجهُ الطبرانيُّ من روايةِ ابنِ سيرينَ، عن أبي هريرة. والمرسلُ أصحُّ. * * * إنَّ اللَّه سبحانه وتعالى مدحَ في كتابِهِ المخبتينَ لَهُ، والمُنْكَسِرِينَ لَعظَمتِهِ. والخاضعينَ. فقالَ تعالى: (إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ (90) . وقالَ تعالى: (وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ) إلى قوله: (أَعَدَّ اللَهُ لَهُم مَغْفرَةً وَأَجرًا عَظِيمًا) . ووصفَ المؤمنينَ بالخشوع لهُ في أشرفِ عباداتهِم التَّي هُم علَيْهَا يحافظونَ. فقال تعالى: (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2) . ووصفَ الذين أُوتوا العلمَ بالخشوع، حيثُ يكونُ كلامُه لهم مسموعًا. فقال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا (107) وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا (108) وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا (109) .

وأصلُ الخشوع هو: لينُ القلبِ ورِقَتُه وسكونُه وخشوعُه وانكسارُه وحرقتُه، فإذا خشعَ القلبُ تبعهُ خشوعُ جميع الجوارح والأعضاءِ لأنَّها تابعة له، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: "ألا إنَّ في الجسد مُضْغَة، إذا صلحتْ صلحَ الجسدُ كلُّه، وإذا فسدتْ فسدَ الجسدُ كلّه، ألا وهي القلبُ ". فإذا خشعَ القلبُ، خشعَ السمعُ والبصرُ والرأسُ والوجهُ وسائرُ الأعضاءِ وما ينشأُ مِنْها حتى الكلامِ. ولهذا كانُ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يقولُ في ركوعِه في الصلاة: "خشعَ لك سمعِي وبصرِي ومُخي وعظامِي ". وفي روايةٍ: "وما استقل به قدَمي ". ورأى بعضُ السَّلَفِ رجلاً يعبثُ بيده في صلاتِه فقالَ: لو خشعَ قلبُ هذا لخشعتْ جوارِحُه. ورُويَ ذلك عن حُذيفة - رضي الله عنه - وسعيدِ بنِ المسيِّبِ. ويُروى مرفوعًا بإسنادٍ لا يصح. قال المسعوديُّ عن أبي سناد عمَّن حدَّثه عن علي بنِ أبي طالمب - رضي الله عنه - في قولِهِ تعالى: (الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ) . قال: هوَ الخشوعُ في القلبِ وأن تُلينَ كنفكَ للمرءِ المسلم وأن لا تلتفتَ في صلاتكِ.

وقال عطاءُ بنُ السائبِ عن رجلٍ عن عليٍّ - رضي الله عنه -: "الخشوع: خشوعُ القلبِ، وأن لا يلتفتَ يمينًا وشمالاً". وقال: عن علي بنِ أبي طلحةَ عن ابنِ عباسٍ - رضي الله عنهما - في قوله تعالى:: (الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشعُونَ) . قال: خائفونَ ساكِنون. وقال ابنُ شَوْذب عن الحسنِ - رحمه اللَّه تعالى -: "كان الخشوعُ في قلوبِهِم فغضوا له البصرَ وخفضوا له الجَناحَ ". وقال منصور عن مجاهدٍ: هو الخشوعُ في القلبِ، والسكونُ في الصلاة. وقال ليث عن مجاهدٍ: من ذلك: خفضُ الجناح، وغضُّ البصرِ، وكانَ المسلمونَ إذا قامَ أحدُهم إلى الصلاةِ خافَ ربه أن يلتفتَ عن يمينهِ أو شماله. وقال عطاءٌ الخراسانيُّ: الخشوعُ: خشوعُ القلبِ والطَّرْفِ. وقال الزهريُّ: هو سكونُ العبدِ في صلاتهِ. وعن قتادةَ قال: الخشوعُ في القلبِ هو الخوفُ وغضُّ البصرِ في الصلاةِ. وقال ابنُ أبي نَجيح عن مجاهدٍ - رحمه اللَّه تعالى - في قولهِ تعالى: (وَكانُوا لَنَا خَاشِعِينَ) قال: متواضِعينَ.

وقد وصَف اللَّهُ تعالى في كتابِهِ الأرضَ بالخشوع فقالَ: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ) ، فاهتزازُهَا وربوُّها - وهو ارتفاعُها - مُزيلٌ لخشوعِهَا، فدَلَّ على أنَّ الخشوعَ الذي كانتْ عليه هو سكونُها وانخفاضُها. وكذلك القلبُ إذا خَشَعَ فإنَّه يَسْكُنُ خواطرُهُ وإرادتُه الرديئةُ التي تنشأُ عن اتِّباع الهَوى، وينكسرُ ويخضعُ للَّه عز وجل، فيزول بذلك ما كانَ فيه من البَأْوِ والترفع والتعاظُم والتكبُّرِ، ومتى سكَنَ ذلكَ في القلبِ خشعتِ الأعضاءُ والجوارحُ والحركاتُ كلُّها حتى الصَّوتُ. وقد وصفَ اللَّهُ تعالَى الأصواتَ بالخشوع في قوله: (وَخَشَعَتِ الأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلا تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْسًا) ، فخشوعُ الأصواتِ هو سكونُها وانخفاضُها بعد ارتفاعِهَا. وكذلكَ وصفَ وجوهَ الكُفارِ وأبصارَهم في يومِ القيامةِ بالخشوع، فدل ذلك على دخولِ الخشوع في هذه الأعضاءِ كلِّها. ومتى تكلَّف الإنسانُ تعَاطي الخشوع في جوارحِهِ وأطرافِه مع فراغ قلبهِ من الخشوع وخُلوه منه كانَ ذلك خشوعَ نفاقٍ، وهو الذي كانَ السلف يستعيذونَ منه، كما قالَ بعضُهم: استعيذوا باللَّهِ من خشوع النفاقِ. قالوا: وما خشوعُ النفاقِ؟ قال: أن يُرى الجسَدُ خاشعًا والقلبُ ليس بخاشع. ونظر عمُر - رضي الله عنه - إلى شابٍّ قد نكسَ رأسَه، فقالَ له: يا هذا، ارفعْ

رأسكَ، فإنَّ الخشوعَ لا يزيدُ على ما في القلبِ. فمن أظهَر للناسِ خشوعًا فوقَ ما في قلبِهِ فإنَّما هو نفاقٌ على نفاقٍ. وأصلُ الخشوع الحاصلُ في القلبِ، إنَّما هوَ من معرفةِ اللَّه، ومعرفةِ عظمتِهِ وجلاِلهِ وكمالِهِ، فمن كانَ باللَّه أعرفَ كانَ له أخشعَ. وتتفاوتُ القلوبُ في الخشوع بحَسبِ تفاوُتِ معرفَتِهَا لمن خشعت. وبحسبِ تفاوتِ مشاهدةِ القلوبِ للصفاتِ المقتضيةِ للخشوع، فمِنْ خاشع لقوةِ مُطالعتهِ قُربَ اللَّهِ من عبدِهِ واطَلاعِهِ على سِرِّه وضميرِه المقتضي للاستحياءِ من اللَّهِ تعالى ومراقبتهِ في الحركاتِ والسكناتِ، ومن خاشع لمطالعتِه لجلالِ اللَّه وعظمتهِ وكبريائهِ المقتضي لهيبتهِ، ومن خاشعِ لمطالعتهِ لكمالهِ وجمالهِ المقتضِي للاستغراقِ في محبتهِ والشوقِ إلى لقائهِ ورويتهِ، ومن خاشع لمُطالعتهِ شدَّةَ بطشِه وانتقامِه وعقابِه المقتضِي للخوفِ منهُ. وهو سبحانه وتعالى جابِرُ القلوبِ المنكسرةِ لأجلِه فهو سبحانه وتعالى يتقرّبُ من القلوبِ الخاشعةِ له كما يتقربُ ممن يناجيهِ في الصلاةِ، وممَّن يعفِّرُ له وَجْهَهُ في الترابِ بالسجودِ. وكما يتقربُ من وفدِهِ وزوارِ بيتهِ الواقفينَ بين يديه المتضرعينَ إليه في الوقوفِ بعرفةَ ويدنُو ويباهِي بهم الملائكةَ. وكما يتقربُ من عبادِهِ الدائبينَ له، السائليَن له، المستغفريَن من ذنوبهِم بالأسحارِ، ويجيبُ دعاءَهم ويعطِيهم سؤالَهم. ولا جبَر لانكسارِ العبدِ أعظمُ من القربِ والإجابةِ.

روى الإمامُ أحمدُ - رحمه اللَّه تعالى - في كتابِ "الزهد" بإسنادِهِ عن عمرانَ القصير قال: "قال موسى بنُ عمرانَ - عليه السلام -: أي ربِّ أين أبغيكَ؟ قال: ابغِني عندَ المنكسرةِ قلوبُهم، إنَّي أدنو منهُم كل يومٍ باعًا، ولولا ذلكَ لانهدمُوا". وروى إبراهيمُ بن الجُنَيد - رحمه اللَّه تعالى - في كتابِ "المحبةِ": عن جعفر بنِ سليمانَ قال: سمعتُ مالكَ بنَ دينار يقول: "قال موسى - عليه السلام -: إلهي أين أبغيكَ؟ فأوحَى اللَّهُ عز وجلَّ إليه: أن يا موسى ابغني عند المنكسرةِ قلوبُهم، فإني أدنُو منهم في كلِّ يومٍ وليلةٍ باعًا ولولا ذلك لانهدمُوا، قال جعفر: فقلتُ لمالكِ بن دينار: كيف المنكسرةُ قلوبُهم؟ فقال: سألتُ الذي قرأ في الكتب فقال: سألتُ الذي سألَ عبد الله بن سلام فقال: سألت عبدَ اللَّهِ بنَ سلامِ عن المنكسرةِ قلوبُهم ما يعني؟ قال: المنكسرةُ قلوبُهم بحبِّ اللهِ عز وجل عن حبِّ غيرهِ ". وقد جاءَ في السنةِ الصحيحةِ ما يشهدُ لقربِ اللَّهِ من القلبِ المنكسرِ ببلائِهِ الصابِرِ على قضائِهِ أو الراضِي بذلكَ، كما في "صحيح مسلم " عن أبي هريرةَ - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "يقولُ اللَّه عز وجل يومَ القيامةِ: يا ابنَ آدمَ مرضتُ فلم تَعُدْني، قال: يا رب كيف أعودُك وأنتَ رب العالمينَ؟ قال: أمَا علمتَ أن عبدي فُلانًا مرضَ فلم تَعُدْه، أما عِلمْت أنَّكَ لو عُدتَهُ لوجَدْتني عندَهُ ". وروى - أبو نُعيمٍ من طريقِ ضمرةَ عن ابن شَوْذب قال: "أوحى اللَّهُ تعالى

إلى موسَى - عليه السلامُ -: أتدرِي لأيِّ شيءٍ اصطفيتُكَ على الناسِ برسالاتِي وبكلامِي؟ قال: لا يا ربِّ! قال: لأنه لم يتواضع لي أحد تواضُعَكَ ". وهذا الخشوعُ هو العلمُ النافعُ، وهو أولُ ما يُرفعُ من العلم. خرَّج النَّسائيُّ من حديثِ جُبَيرِ بن نفيرٍ - رضي الله عنه - عن عَوْفِ بن مالكٍ - رضي الله عنه - عن رسولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - نظرَ إلى السماءِ يومًا وقال: "هذا أوانُ يرفعُ العلمُ " فقال رجل من الأنصارِ - يُقالُ له: زيادُ بن لَبيد -: يا رسولَ اللَّه: ويُرْفَعُ العلم وقد أُثبتَ وَوَعَتْهُ القُلوبُ؟ فقال له رسولُ اللَّه - صلى الله عليه وسلم -: "إنْ كنتُ لأحسبكَ من أفقهِ أهلِ المدينةِ" وذكرَ ضلالةَ اليهودِ والنصارَى على ما في أيديهم من كتابِ اللَّهِ عزَ وجلَّ. قال: فلقيتُ شدَّاد بنَ أوسٍ فحدثتُه بحديثِ عوفِ بن مالكٍ، فقال: صدقَ عوف، ألا أخبرُكَ بأولِ ذلك يُرفع؟ قلتُ: بلى، قالَ: الخشوعُ، حتَّى لا ترى خاشعًا. وخَرَّجه الترمذيُّ من حديثِ جبيرِ بن نفيرٍ عن أبي الدرداءَ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بنحوِه، وفي آخره: قال جبير: فلقيتُ عبادةَ بنَ الصامتِ، فقلتُ: ألا تسمعُ ما يقولُ أخوك أبو الدرداء - فأخبرتُه بالذي قال؟ قال: صدقَ أبو الدرداء، لو شئتَ لحدثتك بأول علم يُرفع من الناسِ: الخشوعُ، يوشكُ أن تدخلَ مسجدَ الجامع فلا تَرى فيه رجُلاً خاشِعًا.

وقد قيل: إن روايةَ النسائيَ أرجحُ. وقد روى سعيدُ بنُ بشيرٍ عن قتادةَ عن الحسنِ - رحمه اللَّه تعالى - عن شدَّادِ بنِ أوسٍ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "أولُ ما يرفعُ من الناسِ الخشوعُ " فذكره. ورواه أبو بكرِ بنِ أبي مريمَ عن ضمرةَ بنِ حبيبٍ مُرسلاً. ورُوي نحوه عن حذيفةَ من قولهِ. فالعلمُ النافعُ هو ما باشرَ القلوبَ فأوجبَ لها السكينةَ والخشية والإخباتَ للَّه والتواضعَ والانكسارَ له، وإذا لم يباشر القلبَ ذلك من العلم؛ وإنما كانَ على اللسانِ فهو حُجَّةُ اللَّهِ على ابنِ آدمَ يقومُ على صاحبهِ وغيرهِ، كما قال ابنُ مسعود - رضي الله عنه -: "إنَّ أقوامًا يقرأونَ القرآنَ لا يُجاوزُ تراقيهِم، ولكن إذا وقعَ في القلبِ فَرَسَخ فيه نَفَع " خرَّجه مسلم. وقالَ الحسنُ - رحمه اللَّه تعالى -: العلمُ عِلمانِ: علمٌ باللسان وعلم بالقلبِ، فعلمُ القلبِ: هو العلمُ النافعُ، وعلمُ اللسانِ: هو حجة اللًّهِ على ابنِ آدمَ. ورُويَ عن الحسنِ - رحمه اللَّه تعالى - مرسلاً عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ورويَ عنه عن جابرٍ - رضي الله عنه - مرفوعًا، وعنه عن أنسٍ - رضي الله عنه - مرفوعًا، ولا يصحُّ وصلُه. فأخبر النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أن العلمَ عندَ أهلِ الكتابَينِ من قَبلنا موجودٌ بأيديهم ولا ينتفعونَ بشيءٍ منُه لمَّا فقدُوا المقصودَ منهُ، وهو وصولُه إلى قلوبهِم، حتى يجدُوا حلاوةَ الإيمانِ به ومنفعتَه بحصول الخشيةِ والإنابةِ لقلوبهِم، وإنما هُوَ علَى ألسنتهِم تقومُ به الحُجَّةُ عليهِم.

ولهَذا المعنى وَصَفَ اللَّهُ تعالَى في كتابِهِ العلماءَ بالخشيةِ كَمَا قالَ اللَّه تعالى: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ) . وقال تعالى: (أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ) . ووصفَ العُلماءَ من أهلِ الكتابِ قبلَنا بالخشوع؛ كَما قالَ اللَّهُ تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا (107) وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا (108) وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا (109) . فقولُهُ تباركَ وتعالَى في وصفِ هؤلاءِ الذينَ أوتُوا العلم: (وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا) . مدحٌ لمن أوجبَ له سماعُ كتابِ اللَّهِ الخُشُوعَ في قلبهِ، وقالَ تعالى: (فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (22) اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ) . ولينُ القلوبِ هو زوالُ قسوتِهَا بحدوثِ الخُشوع فيها والرقةِ. وقد وبَّخ اللَّهُ من لا يخشعُ قلبُه لسماع كلامِه وتدبُّرِه، قالَ سبحانه: (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (16) . قالَ ابنُ مسْعودٍ - رضي الله عنه -: "ما كانَ بين إسلامِنا وبينَ أنْ عوتبْنا بهذهِ الآيةِ إلا أربعَ سنينَ ". خرَّجه مسلم، وخرَّجه غيُره وزادَ فيه: "فجعلَ المسلمونَ يعاتبُ بعضُهم بعضًا".

وخرَّجَ ابنُ ماجةَ من حديثِ ابنِ الربيرِ - رضي الله عنه - قال: " لم يكنْ بينَ إسلامِهم وبينَ أن نزلَتْ هذه الآيُةُ يعاتبهُمُ اللَّهُ بها، إلا أربعَ سنينَ ". وقد سمعَ كثيرٌ من الصالحينَ هذه الآيةَ تُتلى، فأثَّرتْ فيهم آثارًا متعددةً فمنهُم من ماتَ عند ذلكَ لانصداع قلبهِ بها، ومنهُم من تابَ عند ذلكَ وخرجَ عما كانَ فيه. وقد ذكرنا أخبارَهم في كتابِ "الاستغناءِ بالقرآنِ ". وقال تعالى: (لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (21) . قال أبو عمرانَ الجونيّ: واللَّه؛ لقدْ صرفَ إلينا ربُّنا في هذا القرآن ما لو صرفَهُ إلى الجبال لحتَّها وجَبَاها َ. وكان مالكُ بنُ دينار - رحمه اللَّهُ - يقرأُ هذه الآيةَ ثمَّ يقول: أقسمُ لكم. لا يؤمنُ عبدٌ بهذا القرآنِ إلا صُدعِّ قلبُه. ورُويَ عن الحسنِ - رحمه اللَّه تعالى - قال: يا ابنَ آدمَ، إذا وسوسَ لك الشيطانُ بخطيئةٍ أو حدَّثت بها نفسَكَ، فاذكرْ عندَ ذلكَ ما حَملَكَ اللَّهُ من كتابِهِ مما لو حملتْهُ الجبال الرواسي لخشعتْ وتصدَّعتْ أمَا سمعتَه يقولُ: (لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (21) .

فإنما ضرب لكَ الأمثالَ لتتفكرَ فيها وتعتبرَ بِها وتزدجرَ عن معاصِي اللهِ عز وجل، وأنتَ يا ابنَ آدمَ أحقُّ أن تخشعَ لذكرِ اللَّهِ وما حَمَّلكَ من كتابِهِ وآتاكَ من حكمِهِ، لأنَّ عليكَ الحسابَ ولكَ الجنةُ أو النارُ. وقد كان النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يستعيذُ باللَّهِ من قلبٍ لا يخشعُ، كما في "صحيح مسلم " عن زيدِ بنِ أرقمَ: أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كانَ يقولُ: "اللهمَّ إني أعوذُ بكَ من علمٍ لا ينفعُ، ومن قلبٍ لا يخشعُ، ومن نفسٍ لا تشبعُ، ومن دعوة لا يُستجابُ لَها". وقد رُويَ نحوُه عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - من وجوهٍ متعددةٍ ويُروى عن كعبٍ الأحبار قالَ: مكتوبٌ في الإنجيلٍ: "يا عيسى، قلبٌ لا يخشعُ عملُه لا ينفعُ، وصوتُه لا يُسمعُ، ودعاؤُه لا يُرفعُ ". قال أسدُ بنُ موسى في كتابِ "الورع ": حدثنا مُباركُ بنُ فَضالةَ قالَ: كان الحسنُ - رحمه اللَّه تعالى - يقولُ: إن المؤمنينَ لَمَّا جاءتْهُم هذه الدعوةُ من اللَّه صدَّقوا بها وأفْضَى يقينُها إلى قلوبِهِم خشعتْ لذلكَ قلوبُهم وأبدانُهم وأبصارُهم، كنتَ واللَّهِ إذا رأيتَهم رأيتَ قومًا كأنَّهم رَأيُ عينٍ، فواللهِ؛ ما كانُوا بأهلِ جدلٍ ولا باطلٍ، ولا اطمأنُّوا إلا إلى كتابِ اللَّه، ولا أظهُروا ما ليسَ في قلوبِهم، ولكنْ جاءَهُم عن اللَّهِ أمرٌ فصدَّقوا به، فَنَعَتهُم اللَّهُ تعالى في القرآنِ أحسنَ نعتٍ فقال: (وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا) . قال الحسنُ: الهونُ في كلامِ العربِ، اللينُ والسكينةُ والوقارُ. قال: (وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا) . قال: حلماءُ لا يجهلونُ، وإذا جُهلَ عليهِم حَلموا، يُصاحبونَ عبادَ الله

نهارهم بما تسمعونَ، ثم ذكرَ ليلَهم خيرَ ليلٍ فقالَ: (وَالَّذِينَ يبيتونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا) . ينتصبون للَّهِ على أقدامِهم، ويفترشونَ وجوهَهُم لربِّهم سُجَّدًا، تجري دموعُهم على خُدودِهم فرقًا من ربِّهم لأمرٍ ما، أسْهَرُوا له ليلَهم، ولأمرٍ ما. خَشَعُوا له نهارَهُم، ثم قالَ: (وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كانَ غَرَامًا) . قال: وكلُّ شيءٍ يُصيبُ ابنَ آدمَ ثمَّ يزولُ عنه فليس بغرامٍ، إنما الغرامُ: اللازمُ له ما دامتِ السماواتُ والأرضُ، قالَ: صدقَ القومُ، واللَّهِ الذي لا إله إلا هوَ، فعمِلُوا ولم يتمنَوا، فإياكم - رحمكم اللَّهُ - وهذه الأماني، فإن اللَّهَ لم يُعطِ عبدًا بالأمنيةِ خيرًا قطُّ في الدنيا والآخرةِ، وكانَ يقولُ: يالَهَا موعظة لو وافقت من القُلوبِ حياةً. وقد شرعَ اللَّهُ لعبادِهِ من أنواع العباداتِ ما يظهُر فيه خشوع الأبدانِ الناشيءُ عن خشوع القلبِ وذلّه وانكسارِه، ومن أعظمِ ما يظهرُ فيه خشوعُ الأبدانِ للَّهِ تعالى مِنَ العباداتِ: الصلاةُ، وقد مدحَ اللَّهُ تعالى الخاشعينَ فيها بقولهِ عزَّ وجلَّ: (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2) . وقد سبقَ بعضُ ما قاله السلفُ في تفسيرِ الخشوع في الصلاةِ. وقال ابنُ لَهيعةَ عن عطاءِ بنِ دينارٍ رحمه اللَّه تعالى عن سعيدِ بن جُبيرٍ - رحمه اللَّه تعالى -: (الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ) يعني: متواضِعينَ لا يعرفُ مَنْ عنْ يمينِهِ ولا مَنْ عن شمالهِ، ولا يلتفتُ في الخشوع للَّه عزَّ وجلَّ.

وقال ابنُ المباركِ عن أبي جعفرٍ عن ليثٍ عن مجاهدٍ: (وَقوموا للَّهِ قَانِتِينَ) . قال: القنوتُ: الركونُ والخشوعُ وغضُّ البصرِ وخفض الجناح من رهبةِ اللَّه عز وجل. قال: وكانَ العلماءُ إذا قامَ أحدهُم في الصلاةِ هابَ الرحمنَ عزَ وجلَّ أن يشذ نظرُه أو يلتفتَ أو يُقلِّبَ الحصى أو يعبثَ بشيءٍ أو يُحدِّثَ - يعني: نفسهُ - بشيءٍ من الدنيا، إلا ناسِيًا، ما دامَ في صلاتهِ. وقال منصورٌ عن مجاهدٍ رحمه اللَّهُ تعالى في قولهِ تعالى: (سيمَاهُمْ فِي وجُوهِهِم) . قال: الخشوعُ في الصلاةِ. وخرَّجَ الإمامُ أحمدُ والنسائي والترمذيُّ من حديثِ الفضلِ بن عباسٍ - رضي الله عنهما - عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "الصلاةُ مثنى مثنى، تشهَّدُ في كلِّ ركعتينِ، وتخشَّعُ وتضَّرعُ، وتمسْكَنُ، وتُقنعُ يديك " يقول: "تَرْفعهُما إلى ربِّك عزَّ وجل وتقولُ: يا رب يا رب يا رب ثلاثًا فمنْ لم يفعلْ ذلكَ فهي خِدَاجٌ ". وفي "صحيح مسلم " عن عثمانَ - رضي الله عنه - عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما من امرئ مسلمٍ تحضرُه صلاةٌ مكتوبةٌ فيحسنُ وُضوءَها وخشوعَها وركوعَها إلا كانَت كفارةً لما

قبلَها من الذنوبِ، ما لم تُؤْتَ كبيرة وذلكَ الدهرَ كلَّه ". فممَّا يظهرُ فيه الخشوعُ والذلُّ والانكسارُ من أفعالِ الصلاةِ: وضعُ اليدين إحداهُما على الأخرى في حالِ القيامِ. وقد رُوي عن الإمام أحمدَ - رحمه اللَّه - أنه سُئلَ عن المرادِ بذلكَ، فقالَ: هو ذلٌّ بين يَدي عزيزٍ. قال عليٌّ بنُ محمد المصريُّ الواعظُ - رحمه اللَّه تعالى -: ما سمعتُ في العلم بأحسنَ من هذا. ورُوي عن بِشر الحافي - رحمه اللَّه تعالى - أنه قال: "أشتهي منذ أربعينَ سنةً أن أضعَ يدًا على يدٍ في الصلاةِ ما يمنعُني من ذلكَ إلا أن أكونَ قد أظهرتُ من الخشوع ما ليس في القلبِ مثلُه " وروى محمد بنُ نصرٍ المروزيُّ - رحمه اللَّه تعالى - بإسنادِهِ عن أبي هريرةَ - رضي الله عنه - قال: يُحشرُ الناسُ يومَ القيامةِ على قدرِ صنيعهم في الصلاةِ، وفسرهُ بعضُ رواتِهِ فقبضَ شمالَه بيمينهِ وانحنَى هكذا. وبإسنادِه عن أبي صالحٍ السمَّانِ - رحمه اللَّه تعالى - قال: يُبعثُ الناسُ يومَ القيامةِ هكذا، ووضَع إحْدى يديه على الأخرَى. وملاحظةُ هذا المعنى في الصلاةِ يُوجبُ للمصلِّي أن يتذكَّرَ وقوفه بين يدي اللَّه عزَّ وجلَّ للحسابِ.

كان ذو النونِ - رحمه اللَّهُ تعالى - يقولُ في وصفِ العُبَّادِ: لو رأيتَ أحدَهُم وقد قامَ إلى صلاتهِ فلمَّا وقفَ في محرابِهِ واستفتحَ كلامَ سيِّده، خطرَ على قلبهِ أنَّ ذلكَ المقامَ هو المقامُ الذي يقومُ الناسُ فيه لربِّ العالمين، فانخلعَ قلبه وذهلَ لبُّه. خرَّجه أبو نُعيمٍ - رحمه اللَّه تعالى. ومن ذلكَ: إقبالُه على اللَّهِ عز وجل، وعدمُ التفاتهِ إلى غيرهِ، وهو نوعانِ: أحدهما: عدمُ التفاتِ قلبهِ إلى غيرِ منْ هو مناج لهُ، وتفريغُ القلبِ للربِّ عزَ وجل. وفي "صحيح مسلم " عن عمرِو بن عبسةَ - رضي الله عنه - عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنه ذكر فضلَ الوضوءِ وثوابَه، ثم قالَ: "فإنْ هو قامَ فصلَّى فحمدَ اللَّهَ وأثنى عليهِ ومجدَه بالذي هو أهلُه، وفرَّغَ قلبَه للهِ، إلا انصرفَ من خطيئتِهِ كيوم ولدتْه أمُّه ". والثاني: عدمُ الالتفاتِ بالبصرِ يمينًا وشمالاً، وقَصرُ النظرِ على موضع السجودِ، وهو من لوازمِ الخشوع للقلبِ وعدمِ التفاتهِ، ولهذا رأى بعضُ السَّلفِ مصليًا يعبثُ في صلاتهِ فقالَ: لو خشعَ قلبُ هذا لخشعت جوارحُه. وقد سبقَ ذكرُه. وخرَّج الطبراني من حديثِ ابنِ سيرينَ عن أبي هُريرةَ - رضي الله عنه - قال: "كان النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -، يلتفتُ في الصلاةِ عن يمينهِ وعن يسارِه، ثمَّ أنزلَ اللَّهُ تعالى: (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2) . فخشعَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فلم يكن يلتفت يمنةً ولا يسرةً".

ورواه غيرُه عن ابِن سيرينَ - رحمه اللَّه تعالى - مرسلاً، وهو أصحّ. وخرَّجَ ابنُ ماجةَ من حديثِ أمِّ سلمةَ أمِّ المؤمنين - رضي الله عنها - قالتْ: كان الناسُ في عهدِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - إذا قامَ أحدُهم يصلِّي لم يعدُ بصرُه موضعَ قدميه، فتوفِّي النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -، فكانَ الناسُ إذا قامَ أحدُهم إلى الصلاةِ لم يعدُ بصرهُ موضعَ جبهتِهِ، فتوفي أبو بكرٍ، فكانَ عمرُ - رضي الله عنه -، فكانَ الناسُ إذا قام أحدهم يصلِّي لم يَعْدُ بَصَر أحدِهِم موضع القبْلةِ، وكان عثمانُ بنُ عفانَ - رضي الله عنه -، فكانتِ الفتنةُ، فتلفتَ الناسُ يمينًا وشمالاً". وفي "صحيح البخاري " عن عائشةَ - رضي الله عنها -: سألتُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - عنِ الالتفاتِ في الصلاةِ فقال: "هو اختلاسٌ يختلسُه الشيطانُ من صلاةِ العبدِ". وخرَّج الإمام أحمد - رحمه اللَّه تعالى - وأبو داودَ والنسائيُّ من حديث أبي ذرٍّ - رضي الله عنه - عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يزالُ اللَّهُ مقبلاً على العبدِ في صلاتهِ، ما لم يلتفتْ، فإذا التفتَ انصرفَ عنهُ ". وخرَّج الإمامُ أحمدُ والترمذيُّ من حديثِ الحارثِ الأشعري عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ اللَّهَ أمرَ يحيى بنَ زكريا بخمسِ كلماتٍ أن يعملَ بهنَّ، ويأمرَ بني إسرائيل أن يعملوا بهنَّ " فذكر منها: "وآمرُكم بالصلاةِ، فإنَّ اللَّه ينصبُ وجههُ لوجه عبدِهِ ما لم يلتفتْ، فإذا صليتُم فلا تلتفتُوا".

وفي المعنى أحاديثُ أُخَرُ متعدِّدةٌ. وقال عطاءٌ: سمعتُ أبا هُريرة يقول: "إذا صلَّى أحدكُم فلا يلتفتُ؛ فإنه يناجِي ربَّه، إنَّ ربَّه أمامه، وإنه يناجيهِ فلا يلتفتُ ". قال عطاءٌ - رحمه اللَّه تعالى -: وبلغنَا أن الربَّ عز وجل يقول: "يا ابنَ اَدمَ، إلى مَنْ تلتفت؟ أنا خير لكَ ممَّن تلتفتَ إليه ". وخرَّجه "البزَّار وغيرُه مرفوعًا، والموقوفُ أصحُّ. وقال أبو عمرانَ الجونيُّ - رحمه اللَّه تعالى -: أوحى اللَّهُ عز وجلَّ إلى موسى - عليه السلامُ - يا موسى، إذا قمتَ بين يديَّ فقمْ مقامَ العبدِ الحقيرِ الذليلِ، وذُمَّ نفسَكَ، فهي أَوْلَى بالذمِّ، وناجِني بقلب وجلٍ ولسانٍ صادقٍ. ومن ذلك: الركوعُ، وهو ذل بظاهرِ الجسدِ. ولهذا كانتِ العربُ تأنَفُ منهُ ولا تفعلهُ حتى بايعَ بعضُهم النبي - صلى الله عليه وسلم - على أن لا يخرَّ إلا قائمًا يعني: أن يسجدَ من غيرِ ركوع. كذا فسره الإمامُ أحمدُ - رحمه اللَّه تعالى - والمحققونَ من العلماءِ. وقال اللَّه تعالى: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكعُوا لا يَرْكعُونَ) . وتمامُ الخضوع في الركوع: أن يخضعَ القلبُ للَّهِ ويذلَ له، فيتمُّ بذلكَ خضوعُ العبدِ بباطنهِ وظاهرِه للَّه عزَّ وجلَّ.

ولهذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقولُ في ركوعِهِ: "خشع لك سمْعي وبصري ومُخِّي وعظامي وما استقلَّ به قدمِي ". إشارةً إلى: أن خشوعَهُ في ركوعِهِ قد حصلَ بجميع جوارحِهِ ومن أعظمها القلبُ الذي هو مَلِكُ الأعضاءِ والجوارح فإذا خشعَ خشعتِ الجوارحُ والأعضاءُ كلُّها تبعًا لخشوعِهِ. ومن ذلك: السجودُ وهو أعظمُ ما يظهَرُ فيه ذلُّ العبدِ لربِّه عزَّ وجلَّ حيثُ جعلَ العبدُ أشرفَ ما له من الأعضاء وأعزَّها عليه وأعلاها حقيقة؛ أوضعَ ما يُمكنه، فيضعُه في الترابِ مُتَعَفِّرًا، ويتبعُ ذلك انكسارُ القلب وتواضعُهُ وخشوعُه للَّه عز وجل. ولهذا كان جزاءُ المؤمنِ إذا فعلَ ذلك أن يُقَربه اللَّهُ عز وجل إليه فإن: "أقربَ ما يكونُ العبدُ من ربّه وهو ساجدٌ" كما صحَّ عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وقال اللَّه تعالى: (وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ) . "والسُّجودُ أيضًا مما كانَ يأنَفُ منه المشركونَ المستكبرونَ عَنْ عبادةِ اللَّهِ عز وجل. وكان بعضُهم يقولُ: أكرهُ أنْ أسجدَ فتعلُوني إسْتي، وكان بعضُهم يأخذُ كفًّا من حصى فيرفعُه إلى جبهتِهِ، ويكتفي بذلك عن السجود. وإبليسُ إنما طَردَهُ اللَّه لمَّا استكبرَ عن السجودِ لمن أمَرهُ اللَّهُ بالسجودِ له. ولهذا يبكي إذا سجدَ المؤمنُ ويقولُ: "أمِرَ ابنُ آدم بالسجود ففعل فله الجنة، وأمرتُ بالسُجود فِعصيتُ فليَ النارُ".

ومن تمامِ خشوع العبدِ للَّهِ عزَّ وجل وتواضعِه له في ركوعِهِ وسجودِهِ: أنه إذا ذلَّ لربه بالركوع والسجودِ وصفَ ربه حينئذٍ بصفاتِ العز والكبرياءِ والعظمةِ والعلوِّ، فكأنه يقولُ: الذل والتواضعُ وصفي، والعلو والعظمةُ والكبرياءُ وصفُكَ، فلهذا شرع للعبدِ في ركوعِهِ أن يقولَ: " سبحان ربي العظيم "، وفي سجودِهِ: " سبحان ربي الأعلي ". وكانَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أحيانًا يقولُ في سجودِهِ: "سُبحان ذي الملكوتِ والجبروتِ والكبرياءِ والعظمةِ". ورُوي عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قالَ ليلة في سجودِهِ: "أقولُ كما قالَ أخي داودُ - عليه السلامُ -: أعَفِّر وجهِي في الترابِ لسيِّدي، وحُقَ لسيدي أن تُعَفَّر الوجوهُ لوجهِهِ ". قال الحسنُ - رحمه اللَّه تعالى -: "إذا قُمتَ إلى الصلاةِ فقُم قانِتًا كما أمركَ الله، وإياكَ والسهرَ والالتفاتَ، أن ينظرَ اللَّهُ إليكَ وتنظرَ إلى غيرهِ. وتسأل اللهَ الجنةَ وتعوذَ به مِنَ النارِ وقلبُك ساه لا تدْري ما تقولُ بلسانِكَ ". خرَّجه محمدُ بنُ نصرٍ المَرْوزيُ - رحمه الله تعالى. وروى بإسنادِه عن عثمانَ بنِ أبي دَهْرَشٍ قالَ: بَلَغَني أنَّ رسولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -

صلَّى صلاةً جَهَر فيها بالقراءةِ فلما فرغ قال: "هل أسْقَطتُ من هذه السورة شيئا؟ ". قالوا: لا ندري، فقال أبيُّ بن كعبٍ: نعم آيةَ كذا وكذا، فقالَ رسولُ اللَّه - صلى الله عليه وسلم -: "ما بالُ أقوامٍ، يُتلَى عليهم كتابُ اللَّهِ عزَّ وجلَّ، فلا يدرونَ ما يُتلى منه ممَّا تُرِكَ، هكذا خرجتْ عظمةُ اللَّهِ من قلوبِ بني إسرائيلَ، شهدِتْ أبدانُهم وغابتْ قُلوبُهُم، ولا يقبلُ اللَهُ من عبدٍ عملاً حتى يشهدَ بقلبِهِ مع بدَنِهِ ". والآثارُ في هذا المعنى كثيرةٌ جدًّا. ومر عصامُ بن يوسفَ - رحمه الله تعالى - بحاتمٍ الأصمِّ وهو يتكلمُ في مجلسِهِ، فقالَ: يا حاتمُ، تحسنُ تصلِّي؟ قال: نعم! قال: كيفَ تصلي؟ قال حاتم: أقوم بالأمرِ، وأمشي بالخشيةِ، وأدخل بالنِّيَّةِ، وأُكبِّر بالعظمةِ، وأقرأُ بالترتيلِ والتفكرِ، وأركعُ بالخشوع، وأسجدُ بالتواضع، وأجلسُ للتشهدِ بالتمامِ وأسلِّمُ بالسبيلِ والسُّنةِ، أسلمها بالإخلاصِ إلى اللَّه عز وجل، وأرجعُ على نفسِي بالخوفِ، أخاف أن لا يُقبلَ منِّي، وأحفظُهُ بالجهدِ إلى الموت، قال: تكلَّم " فأنت تحسنُ تصلِّي. ومن أنواع العباداتِ التَّي يظهرُ فيها الذلُّ والخضوعُ للَّهِ عز وجل: الدعاءُ. قالَ اللَّهُ عز وجلَّ: (ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً) . وقالَ: (إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ (90) . فمما يظهر فيه الذلُّ من الدعاء رفعُ اليدينِ.

وقد صحَّ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنه رفعَ يديهِ في الدعاءِ في مواطنَ كثيرةٍ وأعظمُهَا: في الاستسقاءِ؛ فإنه كانَ يرفعُ فيه يديهِ حتَّى يُرى بياضُ إبطيهِ، وكذلك كان يجتهدُ في الرفع عشيةَ عرفةَ بعرفةَ. وخرَّج الطبرانيّ رحمه اللَّه تعالى - من حديثِ ابنِ عباسٍ - رضي الله عنهما - قالَ: "رأيتُ رسولَ اللَّه - صلى الله عليه وسلم - يدعُو بعرفةَ ويداهُ إلى صدره كاستطعامِ المسكين ". وقد كان بعضُ الخائفينَ يجلسُ بالليلِ ساكنًا مُطْرقًا برأسِهِ، ويمدُّ يديه كحالِ السائلِ، وهذا من أبلغ صفاتِ الذلِّ وإظهارِ المسكنةِ والافتقارِ. ومن ذلك أيضًا افتقارُ القلبِ في الدعاءِ وانكساره للَّه عز وجل واستشعارهِ شدةُ الفاقَةِ إليه والحاجةِ. وعلى قَدرِ هذه الحرقةِ والفَاقةِ تكونُ إجابة الدعاءِ. وفي "المسندِ" والترمذي عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن اللَّه لا يستجيبُ دُعاءً من قلبٍ غافلٍ لاهٍ ". ومن ذلكَ: إظهارُ الذلِّ باللسانِ في نفسِ السؤالِ والدعاءِ والإلحاح فيه. قال الأوزاعيُّ - رحمه اللَّه تعالى -: كان يُقال: "أفضلُ الدعاءِ الإلحاحُ على اللَّه والتضرعُ إليه ". وفي الطبراني عن ابنِ عباسٍ - رضي الله عنهما - أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - دعا يوْمَ عرفةَ فقالَ: "اللهمَّ إنَك ترى مكانِي وتسمعُ كلامِي ولا يخْفَى عليكَ شيءٌ من أمَرِي،

قوله تعالى: (يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة)

أنا البائسُ الفقيرُ المستغيثُ المستجيرُ الوجِلُ المُشْفقُ المُقِر المعترفُ بذنبهِ، أسألكَ مسألةَ المسكينِ وأبتهلُ إليكَ ابتهالَ المُذنبِ الذليل، وأدعوكَ دعاءَ الخائفِ الضرير، ومن خضعَتْ لك رقبتُه، وذلَّ لك جسدُه، ورغِمَ لك أنفُه، وفاضتْ لك عيناه. اللَّهمَّ لا تجعلني بدعائِكَ شقيًّا، وكنْ بي بارًّا رؤوفًا رحيمًا، يا خيرَ المسئولينَ، ويا خيرَ المُعطينَ ". وكان بعضُهم يقول في دعائِهِ: بعزِّك وذلِّي وغِناكَ وفَقْري. وقال طاوس - رحمه اللَّه تعالى -: دخلَ عليٌّ بنُ الحسينِ - رحمه اللَّه تعالى - ذاتَ ليلة الحجرَ يصلِّي، فسمعتُه يقول في سجودهِ: عُبيدُكَ بفنائكَ. مُسيكينُكَ بفنائِك، فقيرُكَ بفنائِك، سائلُك بفنائِك، قال طاوس: فحفظتُهنَّ، فما دعوتُ بهنَّ في كَرْبٍ إلا فُرِّجَ عنَي. خرَّجه ابنُ أبي الدُّنيا. وروى ابنُ باكَوَيْه الصوفيُّ - رحمه الله تعالى - بإسنادٍ له: أنَّ بعضَ العُبَّادِ حجَّ ثمانينَ حَجَّةً على قدَميهِ، فبينما هو في الطوافِ وهو يقول: يا حبيبي. وإذا بهاتفٍ يهتفُ به: ليس ترضى أن تكون مسكِينًا حتَّى تكونَ حبيبًا. قال: فغُشي عليَّ، ثم كنتُ بعد ذلك أقول: مسكينُكَ مسكينُكَ، وأنا تائبٌ عن قول: حبيبي. * * * قوله تعالى: (يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ) كان السلفُ الصَّالح يجتهدون في إتمام العمَل وإكماله وإتقانه، ثم يهتمُّون بعد ذلكَ بقبولهِ، ويخافونَ من رَدِّه، وهؤلاء الذينَ (يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ) . رُويَ عن عليٍّ نهى قال: كونُوا لقبول العمل أشدَّ اهتمامًا

منكمُ بالعمل، ألم تسمعُوا اللَّهَ عزَّ وجلَّ يقولُ: (إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّه من المُتَقِينَ) . وعن فضالةَ بنِ عبيدٍ قالَ: لأن أكونَ أعلمُ أنَّ اللَّهَ قد تقبلَ منَي مثقالَ حبة من خردلٍ أحبُّ إليَّ من الدنيا وما فيها؛ لأنَّ اللَّهَ يقول: (إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّه من المُتَقِينَ) . وقال ابنُ دينار: الخوفُ على العملِ أن لا يتقبَّلَ أشدّ من العمل. وقال عطاءٌ السُّليميُّ: الحذرُ: الاتقاءُ على العملِ أن لا يكونَ للهِ. وقالَ عبدُ العزيزِ بنُ أبي روَّاد: أدركتُهم يجتهدونَ في العملِ الصالح، فإذا فعلوه وقع عليهم الهمّ، أيقبلُ منهُم أم لا؟ قال بعضُ السَّلفِ: كانوا يدعُون اللَّهَ ستَّةَ أشهرٍ أن يبلِّغهم شهر رمضانَ. ثم يدعونَ اللَّهَ ستَّةَ أشهرٍ أن يتقبَّلَهُ منهُم. خرجَ عمرُ بنُ عبدِ العزيزِ - رحمهُ اللَّهُ - في يومِ عيدِ فطرٍ، فقالَ في خطبته: أيُّها الناسُ؛ إنَّكم صُمتم للَّهِ ثلاثين يومًا، وقُمتُم ثلاثين ليلةً. وخرجتُم اليومَ تطلبون من اللَّه أن يتقبَّل منكم. كانَ بعضُ السَّلف يظهرُ عليه الحزنُ يومَ عيدِ الفطر، فيقالُ له: إنَه يومُ فرحٍ وسرورٍ، فيقولُ: صدقتُم، ولكنِّي عبدٌ أمرنِي مولاي أن أعملَ له عملاً، فلا أدري أيقبلُه منِّي أم لا؟ رأى وُهيبُ بنُ الورد قومًا يضحكونَ في يومِ عيدٍ، فقالَ: إن كانَ هؤلاءِ تُقبِّلَ منهم صيامُهم فما هذا فعلُ الشاكرينَ، وإن كانُوا لم يُتقبَّلْ منهم صيامهُم فما هذا فعلُ الخائفينَ. وعن الحسنِ قالَ: إنَّ اللَّه جعلَ شهرَ رمضانَ مضمارًا لخلقه يَسْتَبِقُون فيه بطاعتهِ إلى مرضَاتهِ، فسبق قومٌ ففازُوا، وتخلَّف آخرونَ فخابُوا. فالعجَب من

قوله تعالى: (أم تسألهم خرجا فخراج ربك خير وهو خير الرازقين (72)

اللاعِبِ الضَّاحِكِ في اليومِ الذي يفوزُ فيه المحسنونَ ويخسرُ فيه المبطِلُونَ. لعلك غَضْبانُ وقلبي غافِلٌ. . . سلامٌ على الدَّارَينِ إن كنتَ راضيًا رُويَ عن عليٍّ - رضي الله عنه - أنَّه كانَ ينادي في آخرِ ليلةٍ من شهرِ رمضانَ: يا ليتَ شِعْرِي! مَن هذا المقبولُ فنهنِّيه؟ ومَن هذا المحرومُ فنُعَزِّيه؟ وعن ابنِ مسعودٍ أنَّه كانَ يقولُ: مَن هذا المقبُولُ منَّا فنُهنِّيه؟ ومَن هذا المحرومُ منَّا فنعزِّيه؟ أيُّها المقبولُ هنيئًا لكَ، أيها المردودُ جبرَ اللَّه مُصيبتك. ليتَ شِعْرِي مَنْ فيه يُقْبَلُ مِنَا. . . فيُهَنَّأ يا خيبةَ المَرْدُودِ مَنْ تولَّى عنة بغيْرِ قَبولٍ. . . أرْغَمَ اللَّه أنفَهُ بِخِزيٍ شَديدِ * * * قوله تعالى: (أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (72) في معنى الخراج قال بعضهم: هو المال الذي يجبى ويؤتى به لأوقات محدودة، ذكره ابن عطية قال: وقال الأصمعي: الخراج الجُعْل مرة واحدة. والخراج: ما ردد لأوقاتٍ ما. قال ابن عطية: هذا فرقٌ استعماليّ وإلا فَهُمَا في اللغة بمعنىً. وقد ورد في كتاب الله (أَمْ تَسْاَلُهُمْ خَرْجًا فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ) . هذه قراءة ابن كثير ونافع وأبي عمرو وعاصم، وقرأ حمزة والكسائي (أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرَاجًا فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ) وقرأ ابن عامر (خرجا) في الموضعين وقال تعالى في قصة ذي القرنين (فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا) . وقرئ (خراجا) أيضًا.

قوله تعالى: (ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون (100)

قال ابن عباس - رضي الله عنهما -: (خَرْجًا) يعني: أجرًا. وقال أبو. عبيد: الخراج في كلام العرب إنما هو الغلة، ألا تراهم يُسَمُّونَ غَلةَ الأرضِ والدارَ والملوكَ خراجًا؛ ومنه حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - "أنه قضي بالخراج بالضمان "، وحديث: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما حجمه أبو طيبة كلَّم أهله فوضعوا عنه من خراجه " فسمى الغلة: خراجًا. وقال الأزهري: الخراج: اسم لما يخرج من الفرائض في الأموال، ويقع على القرية وعلى مال الفيء، ويقع على الجزية وعلى الغلة، والخراج المصدر. انتهى. والجزية تسمى خراجًا. وقد كتب النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى قيصر كتابًا مع دِحْيَةَ يُخَيرَهُ بين إحدى ثلاث، منها: "أن يقرَّ له بخراج يجري عليه " والحديث في مسند الإمام أحمد وغيره. * * * قوله تعالى: (وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (100) قال اللَّه تعالى: (وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) . قال مجاهدٌ: البرزخُ: الحاجزُ بين الموتِ والرجوع إلى الدنيا. وعنه قالَ: هو ما بينَ الموتِ إلى البعثِ. قال الحسنُ: هي هذه القبورُ التي بينَكُم وبين الآخرةِ. وعنه قالَ: هي هذِهِ القبورُ التي تركضونَ عليها، لا يسمعونَ الصوتَ. وقال عطاءٌ الخراسانيّ: البرزخُ: مدةُ ما بينَ الدُّنيا والآخرةِ.

قوله تعالى: (تلفح وجوههم النار وهم فيها كالحون (104)

وصلَّى أبو أمامةَ الباهليُّ على جنازةٍ فلمَّا وُضِعتْ في لحدِها، قال أبو أمامةَ: هذا برزخٌ إلى يومِ يبعثونَ. وقيل للشعبيِّ: ماتَ فلان، قال: ليسَ هو في الدُّنيا ولا في الآخرةِ، هو في البرزخ. وسمعَ رجلاً يقولُ: ماتَ فلان أصبحَ من أهلِ الآخرةِ. قالَ: لا تقلْ: من أهلِ الآخرةِ، ولكنْ قل: من أهلِ القبورِ. * * * قوله تعالى: (تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ (104) قالَ اللَّهُ تعالى: (تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ) . روى دراجُ عن أبي الهيثمِ، عن أبي سعيدٍ عن النبيِّ صلى اللَّه عليه وآله وسلم قالَ: (وَهُمْ فِيهَا كَالِحُون) ، قالَ: "تَشْويهِ النارُ، فتقلصُ شفتُهُ العليا حتَّى تبلغَ وسطَ رأسه وتسترخي شفتُه السفلَى حتى تضربَ سرّتهُ ". خرَّجَه الإمام أحمدُ والترمذيُّ والحاكم وقالا: صحيح. وعن ابنِ مسعودٍ أنه قالَ في قولِه: (وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ) قالَ: ككلُوح الرأسِ النضيج، وعنه: ككلُوح الرأسِ المشيطِ بالنارِ - قد بدتْ أسنانهم وتقلصتْ شفاهُهُم. وعنه قالَ: ألم ترَ إلى الرأسِ المشيطِ بالنارِ وقد تقلصتْ شفتاهُ وبدتْ أسنانُه. وخرَّجَ الخلالُ في كتابِ "السنةِ" من حديثِ الحكم بنِ الأعرج عن

أبي هريرةَ قال: يعظمُ الرجلُ في النارِ حتى يكونَ مسيرةَ سبع ليال، ضرسُهُ مثلُ أحدٍ، شفاهُهُم على صدورِهِم، مقبوحينَ يتهافتونَ في النارِ. قال أبو بكرِ بنِ عياس عن محمدِ بنِ سويد، كانَ لطاوس طريقانِ إذا رجعَ من المسجدِ أحدُهُما فيها روَّاس، وكان يرجعُ إذا صلَّى المغربَ، فإذا أخذَ الطريقَ الذي فيه الروَّاس لم يستطعْ أن يتعشى، فقيلَ لهُ: فقالَ: إذا رأيتُ الرؤوسَ كالحةً لم أستطعْ آكلُ. قال أبو بكر: فذكرتُهُ لسريع المكيِّ، فقالَ: قد رأيتُهُ يقفُ عليهَا. وقالَ أبو غندرٍ الدمشقيُّ: كان أويس إذا نظرَ إلى الرؤوسِ المشويةِ يذكرُ هذه الآية: (تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ) ، فيقعُ مغشيًا عليه حتى يظنَّ الناظرون إليه أنه مجنونٌ. خرَّجهُما ابنُ أبي الدنيا وغيرُه. وقال الأصمعيُّ: حدثنا الصقرُ بنُ حبيب قالَ: مرَّ ابنُ سيرين بروَّاسٍ قد أخرجَ رأسًا فغشي عليهِ. * * *

سورة النور

سُورَةُ النُّورِ قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ) من كانَ مستورًا لا يُعرفُ بشيءٍ مِنَ المعاصِي، فإذَا وقعتْ منه هفوةٌ، أو زلَّةٌ، فإنَّه لا يجوزُ كشفُها ولا هتكُها، ولا التَّحدُثُ بها، لأنَّ ذلك غِيبةٌ محرَمةٌ، وهذا هو الذي وردتْ فيه هذه النُصوصُ، وفي ذلكَ قد قالَ اللَّهُ تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ) . والمرادُ: إشاعةُ الفاحشةِ على المؤمنِ المستترِ فيمَا وقعَ منه، أو اتهِمَ به وهو بريءٌ منهُ، كما في قصَّةِ الإفْكِ. قالَ بعضُ الوزراءِ الصالحينَ لبعضِ من يأمرُ بالمعروفِ: اجتهدْ أن تستُرَ العُصَاةَ، فإِنَ ظهورَ معاصِيهم عَيْبٌ في أهلِ الإسلامِ، وأوْلَى الأمورِ سترُ العيوبِ. ومثلُ هذا لو جاءَ تائبًا نادمًا، وأقرَّ بحَد لم يفسَّرْهُ، ولم يُستفسر، بل يُؤمَر بأنْ يرجعَ ويستُرَ نفسَهُ، كمَا أمر النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - ماعزًا والغامديةَ، وكما لم يستفسرِ الذي قال له: "أصبْتُ حدًّا فأقمه عليَّ ". ومثلُ هذا لو أُخذَ بجريمتِهِ، ولم يبلغ الإمامَ، فإنه يُشفع له حتَى لا يبلغَ الإمام. وفي مثلهِ جاءَ الحديثُ عَنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: "أَقِيلوا ذوي الهيئاتِ عَثَراتهم ".

قوله تعالى: (في بيوت أذن الله أن ترفع)

خرَّجه أبو داودَ والنسائيُّ من حديثِ عائشةَ - رضي الله عنها. * * * قوله تعالى: (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ) وقد أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - ببناءِ المساجدِ في الدُّورِ: أن تُنظَّفَ وتُطَيَّبَ، وسنذكرُهُ في موضع آخرَ - إن شاءَ اللَّهُ. وقد فُسِّر قولُ اللَّهِ عزَّ وجلَّ: (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ) . ببنيانهَا وتطهيرهَا وتنزيههَا عمَّا لا يليقُ بهَا. * * * قوله تعالى: (قُلْ لَا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (53) قال ابن الجوزي في "المقتبس ": سمعتُ الوزير يقول في قوله تعالى: (قُلْ لَا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ) ، قال: وقع لي فيها ثلاثةُ أوجهٍ: أحدُها: أن المعنى: لا تقسموا واخرجوا من غير قسم، فيكون المحرك لكم إلى الخروج الأمر لا القسم، فإن من خرج لأجل قسمه ليس كمن خرج لأمر ربه. والثاني: أنَّ المعنى: نحن نعلم ما في قلوبكم، وهل أنتم على عزم الموافقة

للرسول في الخروج؛ فالقسم هاهنا: إعلام منكم لنا بما في قلوبكم. وهذا يدل منكم على أنكم ما علمتم أن اللَّه يطلع على ما في القلوب. والثالث: أنكم ما أقسمتم إلا وأنتم تظنون أنا نتهمكم، ولولا أنكم في محل تهمة ما ظننتم ذلك فيكم. وبهذا المعنى وقع المتنبي فقال: وفي يمينك ما أنتَ وَاعِدُهُ. . . ما دَلَّ أنكَ في الميعادِ متهمُ. * * *

سورة الفرقان

سُورَةُ الفُرْقَانِ قوله تعالى: (أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا (8) قال ابن الجوزيِّ في "المقتبس ": سمعمتُ الوزير يقولُ في قولِهِ تعالى: (أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ) ، قال: العجبُ كلُّ العجبِ لجهلهِم حين أرادُوا أن يُلقى إليه كنزٌ أَوْ يكونَ لَهُ جنةٌ. ولو فهموا علموا أن كلَّ الكنوزَ له وجميعَ الدنيا مِلْكُهُ. أو ليس قد قهرَ أرباب الكنوز، وحكم في جميع الملوك؛ وكان من تمام معجزته أن الأموال لم تفتح عليه في زمنه؛ لئلا يقول قائلٌ: قد جرت العادة بأن إقامة الدول، وقهرَ الأعداءِ بِكَثرةِ الأَمْوَالِ. فتمت المعجزةُ بالغلبة والقهرِ مِنْ غَيْرِ مالٍ، ولا كَثْرةِ أَعوانٍ، ثم فتحت الدنيا على أصحابِهِ، ففرقُوا ما جمعهُ الملوكُ بالشَّرَهِ، فأخرجوه فيما خلق له، لم يمسكوه إمساك الكافرين، ليعلموا الناسَ بإخراج ذلك المالِ: أن لنا دارًا سوى هذه، ومقرًّا غير هذا. وكان من تمام المعجزات للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: أنه لما جاءهم بالهدى فَلَمْ يقبلْ، سلَّ السيفَ على الجاحدِ، ليعلمهُ أن الذي ابتعثني قاهرٌ بالسيفِ بعد القهر بِالحجج. ومما يقوي صدقَهُ أنَّ قيصرَ وكِبارَ الملوكِ لَم يوفقوا للإيمانِ به؛ لئلا

قوله تعالى: (وأعتدنا لمن كذب بالساعة سعيرا (11) إذا رأتهم من مكان بعيد سمعوا لها تغيظا وزفيرا (12)

يقولَ قائلٌ: إنما ظهرَ لأنَّ فلانًا الملكَ تعصبَ له فتقوَّى به، فبانَ أن أمرَهُ من السماءِ لا بنصرةِ أهلِ الأرضِ. * * * قوله تعالى: (وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا (11) إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا (12) قالَ اللَّهُ تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ (101) لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا) ، وقالَ تعالى: (وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا (11) إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا (12) . 12 وقال تعالى: (وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (6) إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ (7) تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ) . والشهيق الصوت الذي يخرج من الجوف بشدة كصوتِ الحمارِ. قالَ الربيعُ بنُ أنسٍ: الشهيقُ في الصدرِ. وقالَ مجاهدٌ في قولهِ: (وَهِيَ تَفورُ) قال: تغلي بهم كما يغلي القدرُ. وقالَ ابنُ عباسٍ: تميزُ: تفرقُ، وعنه قال: يكادُ يفارقُ بعضُها بعضًا وتتفطرُ. وعن الضحاكِ: تميزُ. وقال ابنُ زيد: التميزُ: التفرقُ من شدةِ الغيظِ على أهلِ معاصِي اللَهِ عزَّ وجلَّ، غضبًا له عزَّ وجل وانتقامًا له. وخرج ابنُ أبي حاتمٍ من حديثِ خالدِ بنِ دريك عن رجل من الصحابةِ قالَ: قالَ رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: "من تقوَّلُ عَليَّ ما لم أقل فليتبوء بين عيني جهنمَ مقعدًا" قيلَ: يا رسولَ اللَّهِ، وهل لها عينانِ؟ قال: "نعم، أو لم تسمعْ قول اللَّهِ عزَّ وجلَّ:

(إِذَا رَأَتْهم مِّن مَّكَان بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا) ". وروى أبو يحيى القتاتُ عن مجاهد عن ابنِ عباسٍ قالَ: إن العبدَ ليجرُّ إلى النارِ، فتشهقُ إليه شهقةَ البغلةِ إلى الشعير، ثم تزفرُ زفرةً لا يبقى أحدٌ إلا خافَ. خرَّجهُ ابنُ أبي حاتمٍ. وقال كعب: ما خلقَ اللَّهُ من شيءٍ، إلا وهوَ يسمعُ زفيرَ جهنم غدوةً وعشيةً، إلا الثقلينِ اللذينِ عليهما الحسابُ والعذابُ. خرَّجَه الجوزجانيّ. وفي "كتابِ الزهدِ" لهنادِ بنِ السريِّ عن مغيثِ بنِ سمي، قالَ: إنَّ لجهنمَ كلَّ يومٍ زفرتين يسمعُهما كلُّ شيءٍ، إلا الثقلينِ اللذينِ عليهما الحسابُ والعذابُ. وعن الضحاك قالَ: إن لجهنَّمَ زفرة يومَ القيامة لا يبقى ملكٌ مقرَّبٌ ولا نبيٌّ مرسلٌ إلا خرَّ ساجدًا يقولُ: رب نفسي نفسِي. وعن عبيدِ بنِ عميرٍ قالَ: تزفرُ جهنمُ زفرةً لا يبقى ملكٌ ولا نبيٌ إلا وقعَ لركبتيه، ترعدُ فرائسُهُ يقولُ: ربِّ نفسي نفسي. وروى ابنُ أبي الدُّنيا وغيرُه عن الضحاكِ قالَ: ينزلُ الملكُ الأعلَى في بهائه وملكِهِ، مجنبته اليسرى جهنمُ، فيسمعونَ شهيقها وزفيرهَا فيندُّون. وعن وهبِ بنِ مُنَبِّه قالَ: إذا سيرتِ الجبالُ فسمعتْ حسيسَ النارِ وتغيظَها وزفيرَها وشهيقَها، صرختِ الجبالُ كما تصرخُ النساءُ، ثم يرجعُ أوائلُها على أواخرِهَا، يدقُ بعضُها بعضًا. خرَّجهُ الإمامُ أحمد.

وفي "تفسيرِ آدمَ بنِ أبي إياس" عن محمدِ بنِ الفضلِ عن عليِّ بنِ زيدِ بن جدعان، عن أبي الضُّحى، عن ابنِ عباسٍ قالَ: تزفرُ جهنمُ زفرةً، لا يبْقَى ملكٌ ولا نبيٌّ مرسلٌ إلا جثا على ركبتيهِ حولَ جهنَّم، فتطيشُ عقولهُم فيقولُ اللَّهُ عز وجلَّ: ماذا أجبتُمُ المرسلينَ؟ قالُوا: لا علمَ لنا، ثم تُردُّ عليهم عقولُهم فينطقونَ بحجتِهِم وينطقونَ بعذرِهِم. محمدُ بنُ الفضلِ هو ابنُ عطيةَ متروكٌ. قال آدمُ: وحدثنا أبو صفوانَ عن عاصم بنِ سليمانَ الكوزيِّ عن ابنِ جريج عن عطاءٍ عن ابنِ عباسٍ (إِذَا رَأَتْهم مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا) المكان البعيدُ، مسيرة مائة عامٍ، وذلكَ أنه إذا أُتيَ بجهنمَ تقادُ بسبعينَ ألف زمام يشدُّ بكلِّ زمامٍ سبعونَ ألفَ ملكٍ، ولو تركتْ لأتتْ على كُلِّ برٍ وفاجر، ثمَّ تَزفرُ زفرة لا يبقى قطرةٌ من دمع إلا بدرت. ثم تزفرُ الثانيةُ فَتَتقَطِعُ القلوبُ من أماكنها تبلغُ اللهواتِ والحناجرَ وهو قولُه: (وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الحَنَاجِرَ) . وعاصم الكوزيُّ ضعيف جدًّا. وقال الليثُ بنُ سعد عن عبيدِ اللَّهِ بن أبي جعفر: إنَّ جهنَّم لتزفرُ زفرةً تنشقُّ منها قلوبُ الظلمةِ، ثم تزفرُ أخرى فيطيرونَ في الأرضِ حتى يقعُوا على رؤوسِهِم. خرَّجهُ عبدُ اللَّهِ ابنُ الإمامِ أحمدَ. ورَوى أسدُ بنُ موسى عن إبراهيمَ بنِ محمد عن صفوانَ بنِ سليم عن عطاءِ بنِ يسارِ عن عبدِ اللهِ بنِ عمرِو بن العاصِ - مثلَه. وخرجَ أبو نعيم وغير من روايةِ عبدِ الرحمنِ بنِ حاطبٍ، قالَ: قالَ عمرُ - رضي الله عنه - لكعبِ: خَوِّفْنَا، قالَ: والذي نفسِي بيده؛ إن النارَ لتقربُ يومَ القيامة لها زفيرٌ وشهيقٌ، حتى إذا دنتْ وقربتْ زفرت زفرةً، ما خلقَ اللَّهُ من نبي ولا شهيدٍ إلا وجبَ لركبتيهِ ساقطا،

حتى يقولَ كل نبي وكلُّ صدِّيق وكلُّ شهيدٍ: اللهمَّ لا أكلفُكَ اليومَ إلا نفسِي، ولو كانَ لكَ يا ابنَ الخطابِ عملُ سبعينَ نبيًا لظننتَ أن لا تنجُو، قالَ عمرُ: واللَّه، إن الأمرَ لشديد. ومن روايةِ شريح بنِ عبيدٍ قالَ: قالَ عمرُ لكعب: خَوِّفنا، قالَ: واللهِ لتزفرنَّ جهنمُ زفرةً، لا يبقَى ملك مقرَّب ولا غيرُهُ إلا خرَّ جاثيًا على ركبتيهِ، يقولُ: ربِّ نفسِي نفسِي، وحتى نبينا محمدٍ وإبراهيمَ وإسحاقَ - عليهمُ السلامُ -، قال: فأبكَى القومَ حتى نشجُوا. وفي رواية مطرفِ بن الشخيرِ عن كعبٍ، قالَ: كنتُ عندَ عمرَ، فقالَ: يا كعبُ خوِّفنا، فقلتُ: يا أميرَ المؤمنينَ، إنَّ جهنمَ لتزفرُ يومَ القيامة زفرةً لا يبقَى ملك مقرب ولا نبي مرسل إلا خرَ ساجِدًا على ركبتيهِ، حتى إنً إبراهيمَ خليله - عليه السلامُ - ليخرُّ جاثيًا ويقولُ: نفسِي نفسِي، لا أسألكُ اليومَ إلا نفسِي، قالَ: فأطرقَ عمرُ مليًّا، قالَ: قلتُ: يا أميرَ المؤمنينَ، أولستُم تجدونَ هذا في كتابِ اللَّهِ عزَّ وجل؟! قالَ عمرُ: كيفَ؛ قلتُ: يقولُ اللَه عزَّ وجل في هذه الآيةِ: (يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (111) . وكانَ سعيدُ الجرميُّ يقولُ في موعظتِهِ إذا وصفَ الخائفين: كأنَ زفيرَ النارِ في آذانِهِم. وعن الحسنِ أنه قالَ في وصفِهم: إذا مرُّوا بآية فيها ذكرُ الجنة بكوا شَوْقًا. وإذا مرُّوا بآيةٍ فيهَا ذكرُ النارِ ضجوا صُراخًا، كأنَّ زفيرَ جهنًّم عندَ أصولِ آذانِهِم.

وروى ابنُ أبي الدنيا وغيرُه عن أبي وائلٍ قالَ: خرجْنا معَ ابنِ مسعودٍ ومعنا الربيعُ بنُ خُثَيم، فأتينَا على تنورٍ على شاطئ الفراتِ، فلمَّا رآهُ عبدُ اللَّهِ والنارُ تلتهبُ في جوفهِ قرأَ هذه الآيةَ (إِذَا رَأَتْهُم مِّن مَّكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا) إلى قوله: (ثُبُورًا) ، فصعقَ الربيعُ بنُ خثَيمٍ فاحتملناه إلى أهلهِ، فرابطَهُ عبدُ اللَّهِ حتى صلَّى الناسُ الظهرَ فلم يُفقْ، ثم رابطَهُ إلى العصرِ فلم يُفِقْ، ثم رابطَهُ إلى المغربِ فأفاقَ، فرجعَ عبدُ اللَّهِ إلى أهلهِ. ومن روايةِ مسمع بنِ عاصم قالَ: بتُّ أنا وعبدُ العزيزِ بن سليمانَ وكلابُ ابنُ جريٍّ وسلمانُ الأعرجُ على ساحلٍ من بعضِ السواحلِ، فبكَى كلاب حتى خشيتُ أن يموتَ، ثم بكى عبدُ العزيزِ لبكائِهِ ثم بكَى سلمانُ لبكائهِمَا. وبكيتُ - واللَّهِ - لبكائِهم لا أدْرِي ما أبكَاهُم، فلما كانَ بعدُ سألتُ عبدَ العزيزِ فقلتُ: يا أبا محمدٍ ما الذي أبكاك ليلتئذٍ؟ قالَ: إنَي - واللَّهِ - نظرتُ إلى أمواج البحرِ تموجُ وتجيلُ، فذكرتُ أطباقَ النيرانِ وزفراتِها، فذلكَ الذي أبكاني. ثم سألتُ كلابًا أيضًا نحوًا مما سألتُ عبدَ العزيز، ِ فواللَّهِ؛ لكأنّما سمعَ قصتَهُ، فقال لي مثلَ ذلكَ، ثم سألتُ سلمانَ الأعرجَ نحوًا مما سألتُهما. فقالَ لي: ما كانَ في القومِ شرّ منّي، ما كانَ بُكائي إلا لبكائِهم رحمةً لهم مما كانُوا يصنعونَ بأنفسِهِم - رحمهُمُ اللَّهُ تعالى. * * *

قوله تعالى (فقد كذبوكم بما تقولون فما تستطيعون صرفا ولا نصرا ومن يظلم منكم نذقه عذابا كبيرا (19) وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام

قوله تعالى (فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا وَلَا نَصْرًا وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا (19) وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا (20) قال ابن الجوزي في "المقتبس ": سمعت الوزير يقول في قوله تعالى: (فَقَذ كَذَّبُوكُم بِمَا تَقُولُونَ) ، قال: المعنى: فقد كذبكم أصنامكم بقولكم؛ لأنكم ادعيتم أنها الآلهة وقد أقررتم أنها لا تنفع، فإقراركم يكذب دعواكم. في قوله تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الأَسْوَاقِ) ، قال هو يدل على فضل هداية الخلق بالعلم، ويبين شرف العالم على الزاهد المنقطع؛ فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - كالطبيب، والطبيب يكون عِنْدَ المرضى، فلو انقطع عنهم هلكوا. * * * قوله تعالى: (وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا (69) إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ) وخرَّج النسائيّ من حديثِ أبي سعيد، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "إذا أسلمَ العبدُ

فحَسُنَ إسلامُهُ، كتَبَ اللَّهُ له كُل حَسنة كانَ أزلفَها، ومحيت عنه كلُّ سيئة كان أزلفها، ثمَّ كانَ بعدَ ذلكَ القصاصُ، الحسنةُ بعشْر أمثالِها إلى سَبع مائةِ ضعف، والسيئةُ بمثلها إلا أن يتجاوزَ اللَّهُ ". وفي روايةٍ أخرى: "وقيلَ لهُ: ائْتَنِفِ الْعَمَلَ ". والمرادُ بالحسناتِ والسيئاتِ التي كانَ أزلَفَهَا: ما سبقَ منه قبلَ الإسلامِ. وهذا يدلُّ على أنه يُثابُ بحسناتهِ في الكفرِ إذا أسلمَ وتُمحى عنه سيئاتُه إذا أسلَمَ، لكن بشرطِ أن يحسُنَ إسلامُه، ويتقِي تلكَ السيئاتِ في حالِ إسلامِهِ. وقد نصَّ على ذلكَ الإمامُ أحمدُ. ويدلُّ على ذلكَ ما في "الصحيحينِ " عن ابنِ مسعودٍ قال: قلنا: يا رسولَ اللَّهِ، أنؤاخذُ بما عملْنا في الجاهليةِ؟ قالَ: "أما مَنْ أحسنَ منكُم في الإسلامِ فلا يُؤاخذُ بِهَا، ومن أساءَ أُخِذَ بعملِهِ في الجاهليةِ والإسلام". وفي "صحيح مسلم " عن عمرِو بنِ العاصِ قال للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم - لما أسلمَ: أريدُ أن أشترطَ، قالَ: "تشترطُ ماذَا؟ " قلتُ: أن يُغفرَ لِي. قالَ: "أما عَلمتَ أنَّ الإسلامَ يهدمُ ما كانَ قبلَهُ؟ ". وخرَّجَهُ الإمامُ أحمدُ ولفظُه: "إن الإسلامَ يجبُّ ما كانَ قبلَهُ منَ الذنوبِ " وهذا محمولٌ على الإسلامِ الكاملِ الحسنِ، جمعًا بينَهُ وبين حديثِ ابنِ مسعودٍ الذي قبلَهُ. وفي "صحيح مسلم " أيضًا عن حكيم بنِ حزام قالَ: قلتُ: يا رسولَ اللَّهِ أرأيتَ أمورًا كنتُ أصنعُها في الجاهليةِ من صدقةٍ أو عتاقةٍ أو صلة رحم، أفيها أجرٌ؟

فقالَ رسولُ اللَّه - صلى الله عليه وسلم -: " أسلمتَ على ما أسلفتَ من خيرٍ" وفي روايةٍ لهُ: قالُ: فقلتُ: واللَّهِ؛ لا أدعُ شيئًا صنعتُه في الجاهليةِ إلا صنعتُ في الإسلام مثلَهُ. وهذا يدلُّ على أنَّ حسناتِ الكافرِ إذا أسلمَ يُثابُ عليهَا كما دلَّ عليه حديثُ أبي سعيدٍ المتقدِّمُ. وقد قيلَ: إن سيئاتهِ في الشركِ تبدَّلُ حسناتٍ، ويُثابُ عليها، أخذًا من قولهِ تعالى: (وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا (69) إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ) . "وقد اختلفَ المفسرونَ في هذا التبديلِ على قولِين: فمنهُم مَنْ قالَ: هو في الدنيا، بمعنى: أنَّ اللَّه يُبَدِّلُ من أسلمَ وتابَ إليه بدلَ ما كان عليهِ من الكفرِ والمعاصِي: الإيمانَ والأعمالَ الصالحةَ. وحكَى هذا القولَ إبراهيمُ الحربيُّ في "غريب الحديثِ " عن أكثرِ المفسرينَ، وسمَّى منهم ابنَ عباسٍ، وعطاءً، وقتادةَ، والسُّديَّ، وعكرمةَ. قلتُ: وهو المشهورُ عن الحسنِ. قالَ: وقال الحسنُ وأبو مالكٌ وغيرُهما: هي في أهلِ الشركِ خاصةً، ليس هي في أهلِ الإسلامِ. قلتُ: إنما يصحُّ هذا القولُ على أنْ يكونَ التبديلُ في الآخرةِ كما سيأتِي. وأما إن قيلَ: إنه في الدنيا، فالكافرُ إذا أسلمَ والمسلمُ إذا تاب في ذلكَ سواءٌ، بل المسلمُ إذا تابَ فهو أحسنُ حالاً من الكافر إذا أسلمَ.

قالَ: وقال آخرونَ: التبديلُ في الآخرةِ: جعلت لهم مكانَ كلِّ سيئةٍ حسنةً منهم: عمرُو بنُ ميمون، ومكحولٌ، وابنُ المسيبِ، وعليٌّ بنُ الحسينِ، قالَ: وأنكرهُ أبو العاليةَ، ومجاهدٌ، وخالد سبلان، وفيه موضعُ إنكارٍ، ثم ذكرَ ما حاصلهُ: أنه يلزمُ من ذلكَ: أن يكونَ مَن كثرتْ سيئاتُهُ أحسن حالاً ممن قلَّتْ سيئاتُه، حيثُ يُعطى مكانَ كلِّ سيئةٍ حسنةً. ثم قالَ: ولو قال قائل: إنما ذكرَ اللَّهُ أن يُبدلَ السيئاتِ حسناتٍ ولم يذكرِ العددَ كيفَ تبدَّل فيجوزُ أن معنى تبدَّلُ: أن من عملَ سيئةً واحدةً وتابَ منها تبدَّلُ مائةَ ألفِ حسنةٍ، ومن عملَ ألفَ سيئة أن تبدَّل ألفَ حسنةٍ، فيكونُ حينئذٍ مَنْ قلَّت سيئاتُهُ أحسنُ حالاً. قلتُ: هذا القولُ - وهو التبديلُ في الآخرةِ - قد أنكرَهُ أبو العاليةَ، وتلا قولَهُ تعالَى: (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا) ، وردّه بعضُهم بقولِه تعالَى: (وَمَن يَعْمَلْ مِثقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) ، وقولهِ تعالَى: (وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا (49) . ولكن قد أُجيبَ عن هذا: بأنَّ التائبَ يُوقفُ على سيئاتهِ؛ ثمَّ تبدَّلُ حسناتٍ، قالَ أبو عثمانَ النهديُ: إن المؤمنَ يُؤتَى كتابهُ في سَتْرٍ من اللَّه عزّ وجلّ، فيقرأُ سيئاتهِ، فإذَا قرأَ تغيَّر لها لونُه حتَّى يمرَّ بحسناتِهِ، فيقرؤُها فيرجعُ إليه لونُه، ثم ينظرُ فإذا سيئاتُه قد بُدلمتْ حسناتٍ، فعندَ ذلكَ يقولُ: (هَاؤُمُ اقرَءُوا كتَابِيَهْ) . ورواهُ بعضُهم عن أبي عثمانَ عن ابنِ مسعودٍ، وقالَ بعضُهم: عن أبي عثمانَ عن سلمانَ.

وفي "صحيح مسلم " من حديثِ أبي ذرٍّ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "إني لأعلمُ آخرَ أهلِ الجنَّةِ دُخولاً الجنة، وآخرَ أهلِ النارِ خروجًا منها، رجلٌ يُؤتَى بهِ يومَ القيامةِ فيقالُ: اعرضُوا عليه صِغارَ ذنوبهِ وارفعُوا عنه كبارها، فيعرضُ اللَّهُ عليه صغارَ ذنوبهِ. فيقالُ له: عملتَ يومَ كذا وكذا، كذا وكذا؛ وعملتَ يومَ طذا وطذا، كذا وكذا؛ فيقولُ: نعم، لا يستطيعُ أن يُنكرَ وهو مشفقٌ من كبارِ ذنوبِهِ أن تُعرضَ عليه، فيقالُ لهُ: فإنَّ لكَ مكانَ كلِّ سيئةٍ حسنةً، فيقولُ: يا ربِّ قد عملتُ أشياءَ لا أراها ها هنا". قال: فلقد رأيتُ رسولَ اللَّه - صلى الله عليه وسلم - ضَحِكَ حتَّى بدتْ نواجذُه. فإذا بُدلت السيئاتُ بالحسناتِ في حقِّ من عوقِبَ على ذنوبهِ بالنارِ، ففي حق من مُحِيَ سيئاتُه بالإسلامِ والتوبةِ النصوح أوْلَى، لأنَّ محوَها بذلكَ أحبُّ إلى اللَّهِ من محوِها بالعقابِ. وخَرَّج الحاكم من طريقِ الفضلِ بنِ مُوسى، عن أبي العنبسِ عن أبيهِ. عن أبي هُريرةَ قالَ: قال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "ليتمنَّينَ أقوامٌ أنَّهم أكثرُوا من السيِّئاتِ ". قالوا: بِمَا يا رسولَ اللَّه؟ قال: "الذين بدَّلَ اللَهُ سيئاتهم حسناتٍ ". وخرَّجه ابنُ أبي حاتمٍ من طريقِ سليمانَ أبي داود الزهريِّ عن أبي العنبسِ عن أبيه عن أبي هريرةَ - موقوفًا، وهو أشبهُ مِن المرفوع. ويُروى مثلُ هذا عن الحسنِ البصريّ أيضًا، وهو يُخالف قولَه المشهور: إن التبديلَ في الدنيا. وأما ما ذكره الحربي في التبديلِ، وأنَّ من قلَّت سيئاتُهُ يُزاد في حسناتهِ،

ومن كثرتْ سيئاتُه يُقَلَّلُ من حسناتهِ، فحديثُ أبي ذرٍّ صريحٌ في ردِّ هذا، وأنه يُعطى مكانَ كلِّ سيئةٍ حسنةً. وأما قولُه: يلزمُ من ذلكَ أن يكونَ من كثرت سيئاتُه أحسنَ حالاً ممن قلَّت سيئاتُهُ، فيقالُ: إنما التبديلُ في حقِّ مَنْ ندمَ على سيئاته، وجعلَهَا نصبَ عينيهِ، فكلَّما ذكرَه ازدادَ خوفًا ووجلاً وحياءً من اللًّهِ، ومسارعةً إلى الأعمالِ الصالحةِ المكفرةِ كَمَا قالَ تعالى: (إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحًا) ، وما ذكرناهُ كله داخلٌ في العمل الصالح، ومن كانتْ هذه حالُهُ. فإنَّه يتجرعُّ من مرارةِ الندمِ والأسفِ على ذنوبِهِ أضعاف ما ذاق من حلاوتها عند فعلها، ويصير كل ذنبٍ من ذنوبه سببًا لأعمالٍ صالحةٍ ماحيةٍ له، فلا يُستنكرُ بعد هذا تبديلُ هذه الذنوبِ حسناتٍ. وقد وردت أحاديثُ صحيحةٌ صريحةٌ في: أن الكافرَ إذا أسلم وحَسُنَ إسلامُه تبدَّلت سيئاتُه في الشِّرك حسناتٍ، فخرَّج الطبراني من حديثِ عبدِ الرحمنِ بنِ جبيرِ بنِ نفيرٍ عن أبي فروةَ شطبٍ: أنه أتى النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فقالَ: أرأيتَ رجلاً عَمِلَ الذنوبَ كُلَّها، ولم يتركْ حاجةً ولا داجةً، فهل له مِنْ توبة؟ فقالَ: " أسلمتَ؟ " قال: نَعم، قال: "فافعل الخيراتِ، واتركِ السيئاتِ. فيجعلُها اللَهُ لك خيراتٍ كلَّها". قالَ: وغَدَرَاتي وفَجَراتي؛ قالَ: "نعم ". قال: فما زال يُكبِّرُ حتَّى توارَى. وخرَّجه من وجهٍ آخرَ بإسنادٍ ضعيف عن سلمةَ بنِ نفيل، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -. وخرَّج ابنُ أبي حاتمٍ نحوَهُ من حديثِ مكحولٍ مرسلاً، وخرَّجَ البزار

قوله تعالى: (قل ما يعبأ بكم ربي لولا دعاؤكم)

الحديثَ الأوَّل. وعندهُ: عن أبي طويلٍ شطبٍ الممدودِ: أنه أتى النبيَّ، فذكرَهُ وكذا خرَّجه أبو القاسم البغويُّ في "معجمِهِ "، وذكرَ: أن الصوابَ عن عبدِ الرحمنِ بن جُبيرِ بنِ نفيرٍ مرسلاً أنَّ رجلاً أتى النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، طويل شَطْب، والشطبُ في اللغةِ: الممدودُ، فصحفه بعضُ الرواةِ، وظنَّه اسمَ رجل. * * * قوله تعالى: (قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ) قالَ اللَّهُ تعالى: (قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ) . [قالَ البخاريُّ] : ومعنى الدعاء في اللغة: الإيمانُ. اعلم؛ أنَّ أصلَ الدعاءِ في اللغة: الطلبُ، فهو استدعاءٌ لما يطلبة الداعِي. ويُؤْثِرُ حصولَه. فتارةً يكونُ الدعاءُ بالسؤالِ من اللَّهِ عز وجل والابتهالِ إليه، كقول الداعِي: اللهمَّ اغفرْ لي، اللَّهمَّ ارحمْنِي. وتارةً يكونُ بالإِتيانِ بالأسبابِ التي تقتضي حصولَ المطالبِ، وهو الاشتغالُ بطاعةِ اللَّهِ وذكرهِ، وما يجب من عبدهِ أن يفعَله، وهذا هو حقيقةُ الإيمانِ. وفي "السنن الأربعةِ"، عن النعمانِ بنِ بشيرٍ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قالَ: "إنَّ الدُّعاءَ هو العبادة، ثم قرأ: (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ (60) ".

فما استجلبَ العبدُ من اللَّهِ ما يحبُ، واستدفعَ منه ما يكره، بأعظمَ من اشتغالِهِ بطاعةِ اللَّهِ وعبادتهِ وذكرِه، وهو حقيقةُ الإيمانِ، فإن اللَّهَ يدفع عنِ الذين آمنوا. وفي "الترمذيِّ "، عن أبي سعيدٍ، عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: "يقُولُ الربُّ عزَّ وجلَّ: مَن شغلَهُ القرآنُ وذكرِي عن مسألتِي أعطيتهُ أفضلَ ما أُعطِي السائِلِينَ ". وقال بعضُ التابعينَ: لو أطعتمُ اللَّهَ ما عصاكُم. يعني: ما منعكُم شيئًا تطلبونَهُ منه. وكان سفيانُ يقولُ: الدعاءُ تركُ الذنوبِ. يعني: الاشتغالَ بالطَّاعَةِ عن المعصية. وأما قولُه تعالى: (مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعَاؤُكمْ) ، فيه للمفسرينَ قولان: أحدهما: أن المرادَ: لولا دعاؤُكم إيَّاه. فيكونُ الدعاءُ بمعنى الطاعةِ، كما ذكرنَا. والثاني: لولا دعاؤُه إياكُم إلى طاعتِهِ، كمَا في قولهِ تعالَى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) ، أي: لأدعوهُم إلى عِبادَتي. وإنما اختلف الفسرون في ذلكَ لأنَّ المصدرَ يضافُ إلى الفاعلِ تارةً، وإلى المفعولِ أُخرى.

سورة الشعراء

سُورَةُ الشُّعَراء قوله تعالى: (أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (75) أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (76) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ (77) الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79) وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (81) وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (82) وقد استدلَّ إبراهيمُ الخليلُ - عليه السلامُ - بتفرُّدِ اللَّهِ بهذه الأمورِ على أنَّه لا إلهَ غيرُهُ، وأنَّ كُلَّ ما أشركَ معهُ باطل، فقالَ لقومِه: (أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (75) أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (76) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ (77) الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79) وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (81) وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (82) . فإنَّ من تفرَّد بخلقِ العبد وبهدايَته وبرزقِهِ وإحيائِهِ وإماتتِهِ في الدُّنيا، وبمغفرةِ ذنوبِهِ في الآخرةِ مستحقَّ أن يتفرًّ دَ بالإلهيةِ والعبادةِ والسؤالِ والتضرعُّ إليه والاستكانةِ لهُ. قالَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ: (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (40) . * * *

قوله تعالى: (يوم لا ينفع مال ولا بنون (88) إلا من أتى الله بقلب سليم (89)

قوله تعالى: (يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89) القلبُ واللسانُ همَا عبارةٌ عن الإنسانِ؛ كما يُقالُ: الإنسانُ بأصغريهِ. قلبهِ، ولسانهِ. وخرَّجَ ابنُ سعدٍ من روايةِ عروةَ بنِ الزبرِ مرسلاً أَنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - لما رأى أَشجَّ عبدَ القيسِ، وكانَ رجُلاً دميمًا، فقالَ للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: "إنه لا يُستقى في مُسُوكِ الرجال، إنما يُحتاجُ من الرجلِ إلى أصغريه؛ لسانه، وقلبه. وقال المتنبي: لسانُ الفتى نصفٌ ونصفٌ فؤادُهُ. . . ولم يبقَ إلا صورةَ اللحم والدمِ فمن استقامَ قلبُه ولسانُه استقامَ شأنُهُ كلُّه، فالقلبُ السليمُ هوَ الذي ليسَ فيه محبةُ شيءٍ مما يكرهُهُ اللَّهُ، فدخلَ في ذلكَ: سلامتُهُ من الشركِ الجليِّ. والخفي، ومن الأهواءِ والبدع، ومن الفسوقِ والمعاصِي؛ كبائرِهَا وصغائرِهَا الظاهرةِ والباطنةِ: كالرياءِ والعجبِ والغلِّ والغشِّ والحقدِ والحسدِ وغيرِ ذلكَ وهذا القلبُ السليمُ هو الذي لا ينفعُ يومَ القيامةِ سواهُ؛ قالَ تعالى: (يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89) . إذا سلمَ القلبُ لم يسكنْ فيه إلا الربُّ. في بعضِ الآثارِ، يقولُ اللُّه: "وما وسعنِي سمائِي ولا أَرضِي، ولكن وسعنِي قلبُ عبدِي المؤمنِ ". * * *

وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "ألا وإنَّ في الجسدِ مضغةً، إذا صَلَحت، صلحَ الجسدُ كلّه، وإذا فسدتْ فسدَ الجسدُ كلُّه، ألا وهي القلبُ ". فيه إشارةٌ إلى: أنَّ صلاحَ حركاتِ العبدِ بجوارِحِه، واجتنابِه للمحرَّماتِ واتِّقائِهِ للشُّبهاتِ بحسبِ صلاح حركةِ قلبهِ. فإنْ كانَ قلبُه سليمًا، ليسَ فيه إلا محبةُ اللَّهِ ومحبةُ ما يُحبُّه اللَّهِ، وخشيةُ اللَّهِ وخشيةُ الوقوع فيما يكرهُهُ، صلحَتْ حركاتُ الجوارح كلها، ونشأ عن ذلكَ اجتنابُ المحرَّماتِ كلِّها، وتوقِّي الشبهاتِ حذرًا مِنَ الوقوع في المحرَّماتِ. وإن كانَ القلبُ فاسِدًا، قدِ استولى عليه اتِّباعُ هواه، وطلبُ ما يحبُه، ولو كرهَهُ اللَّهُ، فسدتْ حركاتُ الجوارح كلِّها، وانبعثتْ إلى كل المعاصِي والمشتبهاتِ بحسبِ اتِّباع هوى القلبِ. ولهذا يقالُ: القلبُ ملكُ الأعضاء، وبقيَّةُ الأعضاءِ جنودُه، وهم مع هذا جنودٌ طائعونَ لهُ، منبعثونَ في طاعتِهِ، وتنفيذِ أوامر، لا يخالفونَهُ في شيءٍ من ذلكَ، فإنْ كانَ الملكُ صالحًا كانتْ هذه الجنودُ صالحةً، وإن كان فاسدًا كانت جنوده بهذه المثابةِ فاسدةً، ولا ينفع عندَ اللَّهِ إلا القلبُ السليمُ، كما قالَ تعالَى: (يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89) . وكان النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يقولُ في دعائِهِ: "أسألكَ قلبًا سليمًا". فالقلبُ السليمُ: هو السالمُ من الآفاتِ والمكروهاتِ كلِّها، وهوَ القلبُ

الذي ليسَ فيه سوى محبةِ اللَّهِ وما يحبُّهُ اللَّهُ وخشية اللَّهِ، وخشية ما يُباعدُ منه. وفي "مسندِ الإمامِ أحمدَ" عن أنس عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قالَ: "لا يستقيمُ إيمانُ عبدٍ حتى يستقيمَ قلبُه ". والمرادُ باستقامةِ إيمانِه: استقامةُ أعمالِ جوارِحِه، فإنَّ أعمالَ الجوارح لا تستقيمُ إلا باستقامةِ القلبِ، ومعنى استقامةِ القلبِ: أن يكونَ ممتلئًا مِنْ محبَّةِ اللَّهِ، ومحبَّةِ طاعتهِ، وكراهةِ معصيتهِ. قال الحسنُ لرجلٍ: داوِ قلبكَ " فإنَّ حاجةَ اللَّهِ إلى العبادِ صلاحُ قلوبِهم. يعني: أنَّ مرادَهُ منهُم ومطلوبَهُ صلاحُ قلوبِهِم، فلا صلاحَ للقلوبِ حتَّى تستقرَّ فيها معرفةُ اللَّهِ وعظمتُه ومحبّتهُ وخشيتُهُ ومهابتُه ورجاؤه والتوكلُ عليه، وتمتلئ مِنْ ذلك، وهذا هو حقيقةُ التوحيدِ، وهو معنى "لا إله إلا اللَّهُ "، فلا صلاحَ للقلوبِ حتَّى يكونَ إلهُها الذي تألهُه وتعرفُه وتحبه وتخشاه هو اللَّهُ وحدَهُ لا شريكَ لهُ، ولو كانَ في السماواتِ والأرضِ إلهٌ يُؤَله سِوى اللَّهِ، لفسدتْ بذلكَ السماواتُ والأرضُ، كما قالَ تعالَى: (لوْ كَان فيهِمَا آلِهَةٌ إِلأَ اللَّهُ لَفَسَدَتَا) . فعلم بذلكَ أنَّه لا صلاحَ للعالَمِ العُلويِّ والسُّفليِّ معًا حتى تكون حركاتُ أهلِهَا كلها للَّهِ، وحركاتُ الجسدِ تابعةً لحركةِ القلبِ وإرادته، فإن كانتْ حركتُه وإرادتُه للَّهِ وحدَه، فقدْ صَلحَ وصلحتْ حركاتُ الجسدِ كلها، وإنْ كانتْ حركةُ القلبِ وإرادتُهُ لغيرِ اللَّهِ تعالَى، فسدَ، وفسدتْ حركاتُ الجسدِ

بحسبِ فسادِ حركةِ القلبِ. وروى الليثُ عن مجاهدٍ في قولهِ تعالَى: (وَلا تُشْرِكوا بِهِ شَيْئًا) . قال: لا تحبُّوا غيرِي. وفي "صحيح الحاكم " عن عائشةَ - رضي الله عنها - عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "الشِّركُ أخفَى من دبيبِ الذرِّ على الصفا في الليلةِ الظَّلماءِ، وأدناهُ: أن تُحِبَّ على شيءٍ من الجورِ، وأن تُبغضَ على شيء من العدلِ، وهل الدِّينُ إلا الحبُّ والبغضُ؟ قال اللَهُ عز وجل: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ) ". فهذا يدل على أنَّ محبةَ ما يكرهُهُ اللَّهُ، وبغضَ ما يُحبه اللَّهُ متابعة للهوى، والموالاةُ على ذلك والمعاداةُ عليه من الشركِ الخفيِّ، ويدل على ذلكَ قولُه تعالَى: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ) ، فجعلَ علامةَ الصدقِ في محبته اتباعَ رسولِهِ، فدل على أن المحبةَ لا تتمُّ بدونِ الطاعةِ والموافقةِ. قال الحسنُ: قال أصحابُ رسول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: يا رسول اللَّهِ، إنَّا نُحِبُّ ربنا حبًّا شديدًا. فأحبَّ اللَّهُ أن يجعل لحبِّه علمًا، فأنزل اللَّهُ هذه الآيةَ: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ) . ومن هنا قال الحسنُ: اعْلم أنكَ لن تُحبَّ اللَّهَ حتى تُحبَّ طاعتَه. وسُئلَ ذو النونِ: متى أُحِبُ ربِّي؟ قال: إذا كانَ ما يُبغضُهُ عندكَ أمرَّ من الصبرِ. وقال بشرُ بن السَّري: ليسَ من أعلامِ الحبِّ أن تحبَّ ما يُبغضُه حبيبُك.

وقال أبو يعقوبَ النهرجوريُّ: كلُّ من ادَّعى محبةَ اللَّهِ عزَّ وجلَّ. ولم يُوافقِ اللَّهَ في أمر، فدعواهُ باطلٌ. وقالَ رُويمٌ: المحبةُ: - الموافقةُ في كل الأحوالِ. وقالَ يحيى بنُ معاذٍ: ليسَ بصادقٍ من ادَّعى محبةَ اللَّهِ ولم يحفظْ حدودَهُ. وعن بعضِ السلفِ قالَ: قرأتُ في بعضِ الكتبِ السالفةِ من أحبَّ اللَّهَ لم يكنْ عندهُ شيءٌ آثرَ من مرضاتِهِ، ومن أحبَّ الدنيا لم يكنْ عندَهُ شيءٌ آثرَ من هوى نفسهِ. وفي "السننِ " عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "مَنْ أعطَى للهِ، ومنعَ للهِ، وأحبَّ للَّهِ، وأبغضَ للهِ، فقد استكملَ الإيمانَ " ومعنى هذا أن حركاتِ القلبِ والجوارح إذا كانتْ كلُّها للَّهِ فقدْ كمُلَ إيمانُ العبدِ بذلكَ ظاهرًا وباطِنًا، ويلزمُ من صلاح حركاتِ القلبِ صلاحُ حركاتِ الجوارح، فإذا كانَ القلبُ صالحًا ليسَ فيه إلا إرادةُ اللَّهِ وإرادةُ ما يريدُه لم تنبعثِ الجوارحُ إلا فِيما يُريدُه اللَّهُ، فسارعتْ إلى ما فيه رضاهُ وكَفَّتْ عما يكرَهُهُ، وعمَّا يُخشى أن يكونَ مما يكرههُ وإن لم يتيقنْ ذلكَ. قال الحسنُ: ما نظرتُ ببصرِي، ولا نطقتُ بلسانِي، ولا بطشتُ بيدي. ولا نهضتُ على قدمِي، حتى أنظرَ على طاعةٍ أو على معصيةٍ؛ فإن كانتْ طاعةٌ تقدمتُ، وإن كانتْ معصيةٌ تأخَّرتُ. وقال محمدُ بنُ الفضلِ البَلخيُّ: ما خطوتُ منذ أربعينَ سنةً خطوةً لغيرِ اللهِ عزَّ وجل. وقيلَ لداودَ الطائىِّ: لو تنحيتَ من الظل إلى الشمسِ؟ فقالَ: هذه خُطًا لا أدرِي كيفَ تكتبُ.

قوله تعالى: (وتقلبك في الساجدين (219)

فهؤلاءِ القومُ لما صلحتْ قلوبُهم، فلم يبقَ فيها إرادةٌ لِغير اللَّهِ، صلحتْ جوارحُهم، فلم تتحرَكْ إلا للهِ عزَ وجلَّ، وبما فيهِ رضاهُ، واللَّهُ أعلم. * * * قوله تعالى: (وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (219) وقولُه: "إني لأرى منْ خلفي كما أرى منْ بين يدي ". هو فضيلة للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم - خصَّهُ اللَّهُ بها. فكانَ ينظرُ ببصيرتِهِ كما ينظرُ ببصر، فيرى من خلفَه كمَا يرَى من بينَ يديهِ. وقد فسَّرهُ الإمامُ أحمدُ بذلكَ في روايةِ ابنِ هانئ، وتأولَ عليه قولَهُ تعالَى: (وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ) . كما روى ابنُ أبي نجيح، عن مجاهدٍ في قوله: (الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ (218) وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (219) . أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كانَ يرى أصحابَهُ في صلاتهِ من خلفِهِ، كما يَرى من بين يديهِ. وتأويلُ الآيةِ على هذا القولِ: أن اللَّه تعالى يَرَى نبيَّه - صلى الله عليه وسلم - حين يقومُ إلى صلاتهِ. ويَرَى تقلبَ نظره إلى الساجدينَ معه في صلاتهِ. وقال الأثرمُ: قلتُ لأحمدَ: قولُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: "إني لأراكم من وراء ظهرِي "؟ قال: كانَ يرى من خلفَهُ كما يَرى من بينَ يديهِ. قلتُ: إن إنسانًا قالَ لي: هو

في ذلكَ مثل غيره، وإنما كانَ يراهُم كما ينظرُ الإمامُ عن يمينهِ وشمالهِ؛ فأنكرَ ذلكَ إنكارًا شديدًا. * * *

سورة النمل

سُورَةُ النَّمْلِ قوله تعالى: (وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ (19) قال ابن الجوزي في "المقتبس " سمعت الوزير يقول في قوله تعالى: (أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ) . قال: هذا من تمام برّ الوالدين. كأنَّ هَذا الوَلَدَ خَافَ أَنْ يكون وَالِدَاهُ قَصَّرا فِي شُكْرِ الرَّبِّ عز وجل، فسأل اللَّه أن يُلْهِمَهُ الشُّكْرَ على ما أنعم به عليه وعليهما؛ ليَقُوم بما وَجَبَ عَلَيْهِما من الشُّكر إن كانا قَصَّرا. *** قوله تعالى: (مَن جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْر مِّنْهَا) وقال ابنُ عيينةَ: "لا إله إلا اللَّهُ لأهلِ الجنةِ كالماءِ الباردِ لأهلِ الدُّنيا". وكذلكَ ترنُّمهم بالقرآنِ وسماعهُم لهُ، وأعلاه: سماعُه من اللَّهِ جلَّ جلالُه وتقدستْ أسماؤُه، فأينَ هذا من تلاوةِ أهلِ الدنيا وذكرِهم؛ وأمَّا سائرُ العباداتِ: فما كانَ منها فيه مشقةٌ على الأبدانِ فإنَّ أهلَ الجنةِ قد أُسقطَ ذلك عنْهم؛ وكذلكَ ما فيه نوعُ ذلٍّ وخضوع كالسجودِ ونحوهِ.

وأما ما في العباداتِ من النعيم الحاصلِ بها لأهلِ المعرفةِ في الدُّنيا، فإنَّه يحصلُ في الجنةِ أضعافًا مع راحةِ البدنِ من مشقةِ التكليفِ التي في الدُّنيا فتجتمعُ لهم راحةُ القلبِ والبدنِ على أكملِ الوجوهِ. وهذا مثلُ الصلاةِ، فإن العارفينَ في الدُّنيا إنما يتنعمونَ بما فِيهَا منَ الناجاةِ وآثارِ القربِ، وما يرِدُ عليهم من الوارداتِ في تلاوةِ الكتابِ ونحوِ ذلكَ من نعيم القلوبِ، وربما يستغرقونَ به عن الشعورِ بتعبِ الأبدانِ فهذا القدرُ الذي حصلَ لهم به التنعمُ في الدنيا يتزايدُ في الجنةِ بلا ريبٍ، لاسيَّما في أوقاتِ الصلواتِ، فإنَّ أكملَهُم من ينظرُ إلى وجهِ اللَّهِ عز وجل كلَّ يومٍ مرتينِ، بكرةً وعشيةً، في وقتِ صلاةِ الصبح وصلاةِ العصرِ، لمِا جاءَ في حديثِ ابنِ عمَر مرفوعا وموقوفًا، وإلى ذلك أشارَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بالمحافظة على هاتينِ الصلاتينِ عقيبَ ذكرِهِ رؤيةَ الربِّ سبحانَهُ في حديثِ جريرٍ البجلي. فالنعيمُ الحاصلُ لأهلِ الجنَّةِ بالرؤيةِ والمخاطبةِ في هذينِ الوقتينِ أكملُ مما كانَ حاصلاً في الدنيا، وكذلكَ صلاةُ الجمعةِ: فإنهم يجتمعونَ في وقتِها في يومِ المزيدِ ويتجلَّى لهم سبحانَهُ ويحاضرُهم محاضرةً، وكذلكَ في العيدينِ. فهذا؛ أكملُ مما كانَ يحصلُ لهم في الدنيا في صلاتِهِم من آثارِ القربِ وحلاوةِ مع راحةِ البدنِ ونعيمهِ أيضًا. فتبينَ بهذا أن نعيمَ الجنةِ أكملُ من نعيم

الدنيا مطلقًا، وسواءٌ في ذلكَ نعيمُ الأبدانِ بالأكلِ والشربِ والجماع، ونعيمُ القلوبِ والأرواح بالمعارفِ والعلومِ والقربِ والاتصالِ والأنسِ والمشاهدةِ. فظهرَ بهذا أن قولَهُ تعالى: (مَن جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ منْهَا) ، هو على ظاهره من غيرِ حاجةٍ إلى تأويلٍ ولا تكلُّفٍ فإنَّ كثيرًا من المفسرينَ فسروا الحسنةَ بكلمةِ التوحيدِ والجزاءَ عليهم بالجنةِ، ثم استشكلُوا تفضيلَ الجنَّةِ على التوحيدِ، وبما ذكرناه يزولُ الإشكالُ. ويتبين؛ أن التوحيدَ الذي في الجنةِ أكملُ من التوحيدِ الذي في الدنيا وهو جزاءٌ له، وكذلكَ المعرفةُ والمحبةُ والشوقُ أيضًا، فقد جاءَ في بعضِ أحاديثِ يومِ المزيدِ: أنَّهم ليسُوا إلى شيءٍ أشوقَ منهم إلى يومِ الجمعةِ، وسبب بهذا الغلطِ الذي أشرنَا إليه من قولِ من قالَ: إنَّ العارفينَ لا يشتاقونَ إلى اللَّهِ عز وجل في الدُّنيا لأنَّهم يشهدونهُ بقلوبِهِم حاضرًا، وتباشرُ قلوبَهُم أنوارُه ويتجلَّى لها فيستأنسونَ بِهِ ويطمئنونَ إليهِ. وهذا؛ وإنْ كانَ نُقِلً عن بعضِ السلفِ المتقدمينَ فهو أيضًا غلطٌ، ولعلَهُ صدرَ من قائِلهِ في حالِ استغراقهِ في مشاهدة ما شاهدَهُ فظنَّ أنه ليسَ وراءَ ذلك مطلبٌ، وهذا كما قالَ بعضُهم: "إنه تمرُّ بي أوقاتٌ أقولُ: إنْ كانَ أهلُ الجنةِ في مثلِ ما أنا فيه، إنَّهم لِفي عيشٍ طيب ". ومعلومٌ أنَّ أهلَ الجنةِ في أضعافِ أضعافِ ما هو فيه من النعيم واللذةِ. ولكنَّه لما استعظمَ ما حصلَ له من النعيم ظنَّ أنه ليس وراءَهُ شيءٌ، وعند التحقيقِ يتبينُ أنَّ ما حصلَ في الدنيا للقلوبِ من تجلِّي أنوارِ الإيمان يدلُّ على عظمةِ ما يحصلُ في الجنةِ، وليسَ بينهما نسبةٌ فيتزايدُ بذلكَ الشوقُ إلى ما وراءَه، ولهذا كان النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يسألُ ربه الشوقَ إلى لقائِهِ، مع أنَّه أَكملُ الخلقِ مشاهدةً ومعرفةً، وكانَ يقولُ في الوصالِ: "إني لستُ كهيئتكُمْ، إنِّي أظَل عِندَ ربِّي يُطعمُني ويسقِيني ".

ويشيرُ إلى ما تجلَّى لقلْبه من آثارِ القرب والأنسِ بما يقوِّيةِ ويغذِّيهِ ويُغْنِيهِ عنِ الطعامِ والشرابِ. ً * * * وإنَّما شرعَ اللَهُ إقامَ الصَّلاةِ لذكرِه، وكذلكَ الحجَّ والطَّوافَ. وأفضلُ أهلِ العباداتِ: أكثرهم للَّهِ ذكرًا فِيها، فهذا كلُّه ليسَ من الدنيا المذمومةِ، وهو المقصودُ من إيجادِ الدُّنيا، وأهلِها، كمَا قال تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ) . وقد ظنَّ طوائفُ مِنَ الفقهاءِ والصُّوفيَّةِ أنَّ ما يُوجدُ في الدنيا من هذه العباداتِ أفضلُ ممَّا يُوجدُ في الجنَّة مِنَ النَّعيم، قالُوا: لأنَّ نعيمَ الجنَّةِ حظُّ العبدِ، والعباداتُ في الدُّنيا حقُّ الربِّ، وحقُّ الربِّ أفضلُ من حظِّ العبد. وهذا غلطٌ، ويقوِّي غلطهم قولُ كثيرٍ منَ المفسِّرين في قوله تعالى: (مَن جَاءَ بِالحسَنَةِ فَلَهُ خَيْر مِّنْهَا) ، قالُوا: الحسنةُ: لا إله إلا اللَّه، وليس شيء خيرًا منها. ولكن الكلام على التَّقديم والتَّأخير. والمراد: فله منها خيرٌ، أي: له خيرٌ بسببها ولأجلها. والصَّوابُ: إطلاقُ ما جاءت به نصوصُ الكتابِ والسنةِ، أنَّ الآخرةَ خيرٌ منَ الأُولى مطلقًا. وفي "صحيح الحاكم " عن المُستوردِ بن شدَّادٍ، قالَ: كنَّا عندَ النبي - صلى الله عليه وسلم -، فتذاكرُوا الدُّنيا والآخرةَ، فقالَ بعضُهم: إنَّما الدنيا بلاغٌ للآخرةِ، -

وفيها العملُ، وفيها الصَّلاةُ، وفيها الزكَاةُ. وقالتْ طائفةٌ منهم: الآخرةُ فيها الجنَّةُ، وقالوا ما شاءَ اللَّهُ. فقالَ رسولُ اللَّه، - صلى الله عليه وسلم -: "ما الدُّنيا في الآخرةِ إلا كما يمشي أحدُكم إلى اليمِّ، فأدخلَ أصبعَهُ فيه، فما خرجَ منه فهو الدّنيا". فهذا نصٌّ بتفضيلِ الآخرةِ على الدُّنيا، وما فيها من الأعمالِ. ووجه ذلك: أنَّ كمالَ الدُّنيا إنما هو في العلم والعملِ، والعلمُ مقصودُ الأعمالِ، يتضاعفُ في الآخرةِ بما لا نسبةَ لما في الدّنيا إليه، فإنَّ العلمَ أصلُه العلمُ باللهِ وأسمائهِ وصفاتهِ، وفي الآخرةِ ينكشفُ الغطاءُ، ويصيرُ الخبرُ عيانًا، ويصيرُ علمُ اليقينِ عينَ اليقينِ، وتصيرُ المعرفةُ باللَّهِ رؤيةً له ومشاهدةً. فأينَ هذا مما في الدنيا؟ وأما الأعمالُ البدنيةِ، فإن لها في الدنيا مقصدينِ: أحدهما: اشتغالُ الجوارح بالطَّاعةِ، وكدُّها بالعبادةِ. والثاني: اتِّصالُ القلوبِ باللَّه وتنويرُها بذكرِه. فالأولُ؛ قد رُفعَ عن أهلِ الجنَّة، ولهذا رُوي أنَّهم إذا همّوا بالسجودِ للَّه عند تجلِّيه لهُم يقالُ لهم: ارفعوا رؤوسكُم فإنَّكم لسْتُم في دارِ مجاهدةٍ. وأما المقصودُ الثاني؛ فحاصل لأهلِ الجنَّةِ على أكملِ الوُجُوه وأتمِّها، ولا نسبةَ لما حصلَ لقلوبِهِم في الدُّنيا من لطائفِ القُرْبِ والأنسِ والاتًّصالِ إلى ما يُشاهدونه في الآخرةِ عيانًا، فتتنعَّمُ قلوبُهم وأبصارُهم وأسماعُهم بقرب اللَّهِ. ورؤيته " وسماع كلامهِ، لا سيَّما في أوقاتِ الصلوات في الدّنيا، كالجُمع والأعيادِ، والمقرَّبون منهم يحصُلُ ذلك لهم كلَّ يوم مرَّتينِ بكرةً وعشيًا في وقتِ صلاةِ الصبح وصلاةِ العصرِ.

ولهذا، لمَّا ذكَر النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّ أهلَ الجنةِ يرونَ ربَّهم، حضَّ عقيبَ ذلكَ على المحافظةِ على صلاةِ العصرِ وصلاة الفجرِ؛ لأنَّ وقتَ هاتين الصَّلاتينِ وقتٌ لرؤيةِ خواصِّ أهلِ الجنةَ ربَهم وزيارتهم لهُ، وكذلكَ نعيمُ الذِّكرِ وتلاوةُ القرآن لا ينقطعُ عنهُم أبدًا، فيُلهمونَ التَّسبيحَ كَما يُلهمونَ النَّفسَ. قال ابنُ عيينة: لا إله إلا اللَّه لأهلِ الجنَّةِ كالماءِ الباردِ لأهلِ الدُّنيا. فأينَ لذَّةُ الذكَرِ للعارفينَ في الدُّنيا مِنْ لذَّتهم بهِ في الجنَّةِ؟!. فتبيَّن بهذا أن قولَهُ تعالَى:: (مَن جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ منْهَا) . على ظاهرِه، فإنَّ ثوابَ كلمةِ التَوحيدِ في الدُّنيا أن يصِلَ صاحبُها إلى قولها في الجنَّةِ على الوجهِ الذي يختصُّ به أهلُ الجنَّةِ. وبكلِّ حال، فالذي يحصُلُ لأهلِ الجنة مِن تفاصيلِ العلم باللَّه وأسمائهِ وصفاتهِ وأفعالهِ، ومن قُربهِ ومشاهدتِهِ ولذةِ ذكرِه هو أمرٌ لا يمكنُ التَّعبيرُ عن كُنْهِهِ في الدُّنيا، لأنَّ أهلَها لم يُدركوه على وجهِهِ، بل هو ممَّا لا عينٌ رأتْ. ولا أُذنٌ سمعتْ، ولا خطرَ على قلبِ بشرٍ، واللَّهُ تعالى المسئول أن لا يحرمنا خير ما عنده بشر ما عندنا، بمنِّه وكرمِه ورحمته، آمين. * * *

سورة القصص

سُورَةُ القَصَصِ قوله تعالى: (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ (71) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (72) قال ابن الجوزي في "المقتبس ": سمعت الوزير يقول في قوله تعالى: (مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأتِيكُم بِضِيَاء أَفَلا تَسْمَعُونَ) ، وفي الآية التي تليها (أَفَلا تبْصِرُونَ) ، قال: إنما ذكر السماع عند ذكر الليل والإبصار عند ذكر النهار؛ لأن الإنسان يدرك سمعه في الليل أكثر من إدراكه بالنهار. ويرى بالنهار أكثر مما يرى بالليل. قال المبرد: سلطان السمع في الليل، وسلطان البصر في النهار. * * * قوله تعالى: (وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ) قال ابن الجوزي في "المقتبس ": سمعت الوزير يقول في قوله تعالى: (وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لمَنْ آمَنَ) : قال: إيثار

قوله تعالى: (تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين (83)

ثواب الآجل على العاجل حالة العلماء، فمن كان هكذا فهو عالم. ومن آثر العاجل على الآجل فليس بعالم. * * * قوله تعالى: (تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (83) مدحَ اللَّهُ تعالَى في كتابِه منْ لا يُريدُ العلوَّ في الأرضِ ولا الفسادَ، فقالَ: (تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا) . وروى ابنُ جريرٍ بإسنادٍ فيه نظر عن على - رضي الله عنه -، قالَ: إنَّ الرجلَ ليعجبهُ من شراكِ نعلهِ أن يكونَ أجودَ من شراكِ صاحبهِ، فيدخلَ في قولهِ: (تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (83) . وكذا رُويَ عن الفضيلِ بنِ عياضٍ في هذه الآيةِ. قالَ: لا يُحِبُّ أن يكونَ نعلُه أجودَ من نعلِ غيرِه، ولا شراكُهُ أجودَ مِنْ شراك غيره. وقد قيل: إن هذا محمولٌ على أنه أرادَ الفخرَ على غيرِه لا مجرَّدَ التجملِ، قال عكرمةُ وغيرُه من المفسرينَ في هذه الآيةِ: العلوُّ في الأرضِ: التكبُّر، وطلبُ الشرفِ والمنزلةِ عندَ ذي سلطانِها. والفسادُ: العملُ بالمعاصِي. وقد وردَ ما يَدُلُّ على أنه لا يأثمُ مَنْ كره أن يفوقَه أحد من الناس في الجمالِ، فخرَّج الإمامُ أحمدُ - رحمه اللَّه - والحاكم في "صحيحهِ " من

حديث ابنِ مسعودٍ - رضي الله عنه - قالَ: أتيتُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - وعندُه مالكُ بنُ مرارةَ الرَّهاويُّ، فأدركتُه وهو يقولُ: يا رسول اللَّه، قد قُسمَ لي من الجمالِ ما ترى، فما أحبُّ أحدًا من النَّاسِ فضلني بشِراكين فما فوقَهُما، أليسَ ذلكَ هو من البغي؟ فقالَ: "لا، ليسَ ذلك بالبغْي، ولكنَّ البغيَ مَنْ بطرَ - أو قال: سفه - الحقَّ وغمط الناسَ ". وخرَّج أبو داود من حديثِ أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - معناه، وفي حديثه: " الكبرُ " بدل " البغى ". فنفى أن تكونَ كراهتُه لأن يفوقَهُ في الجمالِ بغيًا أو كبرًا، وفسَّر الكبرَ والبغيَ ببطرِ الحقِّ، وهو التكبُّر عليه، والامتناعُ من قبوله كبرًا إذا خالفَ هواهُ. ومن هنا قالَ بعض - السلفِ: التواضعُ: أن تقبلَ الحقَّ من كلِّ من جاءَ به، وإن كانَ صغيرًا، فمن قبلَ الحقَّ ممَّن جاءَ به، سواءٌ كانَ صغيرا أو كبيرًا وسواءٌ كان يحبُّه أو لا يحبُّه، فهو متواضعٌ، ومن أبى قبُولَ الحقِّ تعاظُمًا عليه، فهو متكبِّرٌ. وغمصُ الناسِ: هو احتقارُهم وازدراؤُهم، وذلك يحصُلُ مِنَ النَّظرِ إلى النَّفسِ بعينِ الكمالِ، وإلى غيرهِ بعينِ النَّقصِ. * * *

سورة الروم

سُورَةُ الرُّومِ قوله تعالى: (وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) قالت بعضُ العارفاتِ من السلف: مَنْ عملَ للهِ على المُشاهدةِ، فهو عارفٌ، ومن عملَ على مشاهدةِ اللَّه إَيَّاه فهو مخلصٌ. فأشارتْ إلى المقامينَ اللذين تقدَّم ذكرهُما: أحدَهما: مقامُ الإخلاصِ، وهو: أن يعملَ العبدُ على استحضارِ مُشاهدةِ اللَّهِ إياهُ، واطّلاعِهِ عليهِ، وقربِهِ منهُ، فإذا استحضرَ العبدُ هذا في عملِهِ. وعَملَ عليه، فهو مخلص للَّه، لأنَّ استحضارَهُ ذلكَ في عملهِ يمنعُهُ من الالتفاتِ إلى غيرِ اللَّه وإرادتِهِ بالعملِ. والثاني: مقامُ المشاهدةِ، وهو: أن يعملَ العبدُ على مقتضى مشاهدتِهِ للَّهِ تعالى بقلبِهِ، وهو أن يتنوَّرَ القلبُ بالإيمانِ، وَتَنْفُذُ البصيرةُ في العرفان، حتَّى يصيرَ الغيبُ كالعيانِ. وهذا هو حقيقةُ مقامِ الإحسانِ المشارِ إليه في حديثِ جبريلَ عليه السلامُ. ويتفاوت أهلُ هذا المقامِ فيه بحسبِ قوةِ نفوذِ البصائرِ. وقد فسَّر طائفةٌ مِنَ العُلماءِ المثلَ الأعْلى المذكورَ في قولهِ عزَّ وجل: (وَلَهُ الْمَثَلُ الأَعْلَى فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ) ، بهذا المعنى، ومثلُه: قولُه تعالى: (اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ) ،

والمرادُ: مثلُ نورِه في قلبِ المؤمنِ، كذا قاله أُبيُّ بنُ كعبٍ وغيرُه منَ السَّلف. وقد سبقَ حديثُ: "أفضلُ الإيمانِ أن تعلمَ أنَّ اللَّه معكَ حيثُ كنت ". وحديثُ ما تزكيةُ المرءِ نفسه؛، قال: "أن يعلمَ أنَّ اللَّهَ معه حيثُ كانَ ". وخرَج الطبرانيُّ من حديثِ أبي أُمامةَ عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "ثلاثة في ظلِّ اللَّهِ يومَ لا ظِلَّ إلا ظِلُّه: رجل حيثُ توجَّه عَلِمَ أنَّ اللَّه معه "، وذكر الحديث. وقد دلَّ القرآنُ على هذا المعنى في مواضِعَ متعدده، كقوله تعالى: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ) . وقولِه تعالى: (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كنتُمْ) . وقولِه: (مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا) . وقولِه: (وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ) . وقولِه: (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16) . وقولِه: (وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ) . * * * وبهذا فُسِّر المثلُ الأعلَى المذكورُ في قولهِ تعالى: (وَلَهُ الْمَثَلُ الأَعْلَى فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ) .

ومثلُه: قولُه تعالى: ( اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (35) . قال أبيُّ بنُ كعبٍ وغيرُه من السلفِ: مَثَلُ نورِه في قلبِ المؤمنِ. فمن وصلَ إلى هذا المقامِ فقد وصلَ إلى نهايةِ الإحسانِ، وصارَ الإيمانُ لقلبهِ بمنزلةِ العيانِ، فعرفَ ربَّه، وأنسَ به في خلوتهِ، وتنعَّمَ بذكره ومناجاتهِ ودعائه، حتَّى ربَّما استوحشَ من خلقهِ. كما قالَ بعضُهم: عجبتُ للخليقة، كيفَ أنستْ بسواكَ؟! بل عجبتُ للخليقةِ كيف استنارت قلوبُها بذكرِ سواك؟!. وقيلَ لآخرَ: أما تستوحشُ؟ قال: كيفَ أستوحشُ، وهو يقولُ: أنا جليسُ من ذكرني؟!. وقيل لآخرَ: أما تستوحشُ وحدَك؟ قالَ: ويستوحشُ مع اللَّهِ أحدٌ؟! وكان حبيب أبو محمدٍ يخلُو في بيتِهِ، ويقولُ: من لم تقرَّ عينُه بكَ فلا قرَت عينُه، ومن لمْ يأنسْ بكَ فلا أنسَ. وقال الفضيلُ: طوبَى لمن استوحشَ من الناسِ وكان اللَّه جليسَه. " وقال معروفٌ لرجلٍ: توكلْ على اللَّهِ، حتَّى يكونَ جليسَك وأنيسَك وموضعَ شكواكَ.

وقال ذو النونِ: علامةُ المحبينَ للَّهِ: أن لا يأنسُوا بسواهُ، ولا يستوحشُوا معهُ، ثم قالَ: إذا سكنَ القلبَ حبُّ اللَّه أنسَ باللَّه؛ لأن اللَّهَ أجلُّ في صدورِ العارفينَ أن يحبُّوا غيرَه. * * * ثبتَ في "الصحيحينِ " و"السننِ " و"المسانيدِ" من غيرِ وجه أن جبريلَ - عليه السلامُ - سألَ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - عن الإحسانِ، فقالَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "الإحسانُ: أنْ تعبدَ اللَّهَ كأنكَ تراهُ، فإن لم تكنْ تراهُ فإنهُ يراكَ ". وقال بعضُ العارفينَ من السلف: "منْ عملَ للَّهِ على المشاهدةِ فهو عارف. ومنْ عملَ على مشاهدةِ اللَّهِ إياه فهو مخلِصٌ". فهذان مقامان: أحدهما: الإخلاصُ، وهو أن يعملَ العبدُ على استحضارِ مشاهدةِ اللَّهِ إياه، واطلاعِهِ عليه وقربِهِ منه، فإذا استحضَر العبدُ ذلكَ في عملِهِ، وعملَ على هذا المقامِ فهو مخلصٌ للَّه، لأنَّ استحضارَهُ ذلكَ يمنعُهُ من الالتفاتِ إلى غيرِ اللَّهِ وإرادتهِ بالعملِ. والثاني: المعرفةُ التي تستلزمُ المحبةَ الخاصةَ، وهو: أن يعملَ العبدُ على مشاهدةِ اللَّهِ بقلبهِ، وهو أنْ يتنورَ قلبُه بنورِ الإيمانِ وتنفذَ بصيرتُه في العرفانِ. حتَّى يصيرَ الغيبُ عنده كالعيانِ، وهذا هو مقامُ الإحسانِ المشارُ إليه في حديثِ جبريلَ - عليه السلامُ -، ويتفاوتُ أهلُ هذا المقامِ فيه بحسبِ قوةِ نفوذِ البصائرِ. وقدْ فسَّرَ طائفة من العلماءِ المثلَ الأعلى المذكورَ في قولِهِ تعالى:

(وَلَهُ الْمَثَلُ الأَعْلَى فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ) ، بهذا ومثلُه قولُه تعالى: (اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَل نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ) الآية، وقد فسَّرها أبيُّ ابنُ كعبٍ وغيرُه من السلفِ بأنَّ المرادَ: مثلُ نورِ اللَّهِ في قلبِ المؤمنِ. ومِن هذا حديثُ حارثةَ المشهورُ لما قالَ للنبي - صلى الله عليه وسلم -: "وكأنَّي أنظر إلى عرشِ ربِّي بارِزًا؛ وكأنِّي أنظرُ إلى أهلِ الجنةِ يتزاورونَ فيها، وإلى أهلِ النارِ يتعاوونَ فِيها" فقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "عرفتَ فالزمْ، عبدٌ نوَّرَ اللَهُ الإيمانَ في قلبهِ ". وهذا الحديثُ مروي مرسلاً، ورُويَ مسندًا متَّصِلاً لكن من وجوهٍ ضعيفةٍ. وخطبَ عروةُ إلى ابنِ عمرَ ابنتَهُ وهما في الطوافِ فلم يجبْهُ بشيءٍ، ثم رآهُ بعدَ ذلك فاعتذرَ إليه وقال: "كنَا فى الطوافِ نتخايلُ اللَّه بين أعينِنا". خرَّجَّهُ أبو نُعيمٍ وغيرُه. ويتولَّدَ من هذينِ المقامينِ للعارفينَ مقامُ الحياءِ من اللَّهِ - عز وجل -، وقد أشارَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - إلى ذلكَ في حديث بهزِ بنِ حكيم عن أبيه عن جده أنه سئلُ عن كشفِ العورةِ خاليًا؟ فقال: "اللهُ أحَقُّ أنْ يُستحيَا منهُ " وقد ندبَ النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى دوامِ استحضارِ معيةِ اللَّهِ وقربِهِ وإلى الحياء منه بذلكَ في غيرِ حديثٍ. كما دلَّ عليه قولُه تعالى: (وَهُوَ مَعَكمْ أَيْنَ مَا كَنتُمْ) الآية. وقوله تعالى: (وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ) . وخرَّج البزار من حديثِ عبدِ اللَّهِ بن معاويةَ الغاضريِّ أنَّ رجلاً قالَ:

قوله تعالى: (فأقم وجهك للدين حنيفا فطرت الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون (30) منيبين إليه واتقوه

يا رسولَ اللَّهِ، ما تزكيةُ المرءِ نفسَهُ؟ قالَ: "أن يعلمَ أنَّ اللَّه حيثُ كانَ معهُ ". وخرجَ الطبرانيُّ من حديثِ عبادةَ بنِ الصامتِ - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "أفضلُ الإيمانِ: أنْ تعلمَ أنَّ اللَّه معكَ حيثُ كنتَ". وبإسناد فيه نظرٌ من حديثِ أبي أمامةَ - رضي الله عنه - عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: "ثلاثةٌ فِي ظِلِّ اللَّهِ تعالى يوْم لا ظل إلا ظلُّهُ: رجُلٌ حيثُ توجَّهَ علمَ أنَّ اللَّه معهُ " إلخ. ومن حديثِ سعيدِ بنِ يزيدَ الأزدي أنه قال للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: أوصِني، قال: "أُوصِيكَ أنْ تستَحِي منَ اللَّه كمَا تستَحِي رَجُلاً صالحًا مِنْ صالحِي قومِكَ ". ورويناه بإسناد فيه ضعفٌ من حديثِ أبي أمامةَ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "اسْتَحِ مِنْ اللَّه استحياؤُكَ مِنْ رجُلينِ مِنْ صالحِي عشيرتكَ هُما معكَ لا يُفارقانِكَ ". * * * قوله تعالى: (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (30) مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31) [قال البخاري] : باب: (مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) . قال تعالى: (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (30) مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31)

فأمره بإقامةِ وجهِهِ، وهو إخلاصُ قصدِه وعزمِه وهمِّه للدينِ الحنيفِ، وهوَ الدينُ القيِّم، وهو فطرةُ اللَّهِ التي فطرَ العبادَ عليها، فإنَّ اللَّهَ ركَب في قلوبِ عبادِه كلِّهم قبولَ توحيدِه والإخلاصِ لَه، وإنَّما يغيرهم عن ذلك تعليمُ منْ علمهم الخروج عنه. ولمَّا كان الخطابُ له - صلى الله عليه وسلم - لم تدخل فيه أمتُهُ معه قالَ بعدَ ذلكَ: (مُنِيبِينَ إِلَيْهِ) ، فجعلَ ذلكَ حالاً له ولأمتِهِ، وهو إنابتُهُم إليه. ويعني به: رجوعَهم إليهِ، وأمرهم بتقواه، والتقوى تتضمنُ فعلَ جميع الطاعاتِ وتركَ المعاصِي والمخالفاتِ. وخصَّ من ذلكَ إقامَ الصلاةِ، فلم يذكرْ من أعمالِ الجوارح باسمِهِ الخاصِ سواها، والمرادُ بإقامتها: الإتيانُ بها قائمةً على وجهِها التامِّ، وفي ذلكَ دليلٌ على شرَفِ الصلاةِ وفضلها، وأنها أهمُّ أعمالِ الجوارح. ومن جملة إقامتِهَا المأمورِ به: المحافظةُ على مواقيتِهَا، فمن صَلَّى الصلاةَ لغير مواقيتِهَا التي وَقَّتها اللَهُ فلم يُقم الصلاةَ، بل ضيَّعها وفرَّط فيها وسَها عنها. قال ابنُ عبَّاسٍ في قوله تعالى: (الَّذِينَ يقِيمونَ الصَّلاةَ) . قال: يقيمون الصلاةَ بفرضِهَا. وقال قتادة: إقامةُ الصلاةِ؛ المحافظةُ على مواقيتها ووضوئِها،

ورُكُوعِها وسجُودِها. وقال مُقاتل بنُ حيَّان: إقامتُها: المحافظةُ على مواقيتِهَا، وإسباغُ الطهورِ فيها، وتمامُ ركوعِها وسجودِها، وتلاوةُ القرآنِ فيها، والتشهدُ، والصلاةُ على النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فهذا إقامتُها. خرَّجه كلَّه ابنُ أبي حاتمٍ. ولهذا مدَحَ سبحانهُ الذين هُم على صلاتِهم يحافظونَ والذينَ هم على صلاتِهم دائمونَ، وقد فسَّره ابنُ مسعودٍ وغيرُه بالمحافظةِ على مواقيتهَا، وفسَّره بذلك مسروق والنخعيُّ وغيرُهما. وقيل لابنِ مسعودٍ: إن اللَّهَ يكثر ذكرَ الصلاةِ في القرآنِ: (الَّذينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِم دَائِمونَ) ، و (وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ) ؟ قال: ذاكَ على مواقيتِها. قيل لهُ: ما كنَّا نرَى ذلكَ إلا على تركها؟ قال: تركُها الكفرُ. خرَّجه ابنُ أبي حاتم ومحمدُ بنُ نصرٍ المروزي وغيرُهما. وكذلك فسَّرَ سعدُ بنُ أبي وقاص ومسروق وغيرُهما السَّهوَ عن الصلاةِ بالسهوِ عن مواقيتها. ورُويَ عن سعدٍ مرفوعًا، والموقوفُ أصحُّ.

قوله تعالى: (من كفر فعليه كفره ومن عمل صالحا فلأنفسهم يمهدون (44)

قوله تعالى: (مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ (44) قال اللَّهُ تعالى: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا) . وقالَ تعالى: (مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ) . قال بعضُ السلفِ: في القبرِ، يعني: أن العملَ الصالحَ يكونُ مِهَادًا لصحابِه في القبرِ، حيث لا يكونُ للعبدِ من متاع الدنيا فراشٌ ولا وسادٌ ولا مهادٌ، بل كلُّ عاملٍ يفترشُ عملَهَ ويتوسَّده من خير أو شرٍّ. * * *

سورة لقمان

سُورَةُ لُقْمَانَ قوله تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ) فأمَّا تحريمُ الغناءِ: فقد استُنبطَ من القرآنِ من آياتِ متعدّدة. فمن ذلكَ: قولُ اللَّهِ عزَّ وجلَّ: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ) الآية. قالَ ابن مسعود - رضي الله عنه -: هوَ - واللَّهِ - الغناء. وقال ابنُ عباسِ: هو الغناءُ وأشباهُه، وفسَّره أيضًا بالغناءِ خَلقٌ من التابعينَ منهُم: مجاهد وعكرمةُ والحسنُ وسعيدُ بنُ جبير وقتادةُ والنَّخعيُ وغيرُهم، وقال مجاهد في قولِهِ تعالى: (وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُم بِصَوْتِكَ) : قالَ: الغناءُ والمزاميرُ. وقالَ ابنُ عباس - رضي الله عنهما - في قولِهِ تعالى: (وَأَنتُمْ سَامِدُونَ) قال: هو الغناءُ - بالحِمْيَريةِ. وقال بعضُ التابعينَ في قولِهِ تعالى: (وَإِذَا مَروا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا) قالَ: إن اللغوَ هنا: الغناءُ. وعن أبي أمامَة عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "لا تبيعُوا القَيْناتِ، ولا تشتروهُنَّ، ولا تُعلموهُنَّ، ولا خير في تجارة فيهنَّ، وثمنهُن حَرامٌ. في مثلِ هذا أنزلت هذه الآيةُ: (وَمِنَ الناسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيتِ) الآية".

خرَّجَه الإمامُ أحمدُ والترمذيُّ من روايةِ عبيْدِ اللَّهِ بن زحر عن عليِّ بن يزيد عن القاسم عن أبي أمامةَ، وقال: قد تكلمَ بعضُ أهلِ العلمِ في عليِّ بنِ يزيدَ وضعَّفهُ، وهوَ شاميّ. وذكرَ في كتابِ "العللِ " أنه سَأل البخاريَّ عن هذا الحديثِ فقالَ: عليٌّ بنُ يزيدَ ذاهبُ الحديثِ، ووثّقَ عبيدَ اللَّهِ بنَ زحرٍ والقاسمَ ابنَ عبدِ الرحمنِ، وخرَّجه محمدُ بنُ يحيى الهمذانيُّ الحافظُ الفقيهُ الشافعيّ في "صحيحِهِ "، وقالَ: عبيدُ اللَّهِ بن زحر: قال أبو زرعةَ: لا بأسَ به صَدوقٌ. قلتُ: عليٌّ بنُ يزيدَ لم يتفقوا علي ضَعْفِهِ. بل قالَ فيه أبو مُسْهرٍ - وهوَ من بلدِهِ وهو أعلمُ بأهلِ بلدِهِ من غيرِهِم - قالَ فيه: ما أعلمُ فيه إلا خيرًا. وقال ابنُ عديً: هو في نفسهِ صالحٌ، إلا أنْ يروي عنه ضعيفٌ فيُؤتَى من قبلِ ذلكَ الضعيفِ. وهذا الحديثُ قد رواه عنه غيرُ واحدٍ من الثقاتِ. وقد خرَّجَ الإمامُ أحمدُ من روايةِ فرج بنِ فضالةَ عن علي بنِ يزيدَ عن القاسم عن أبي أمامةَ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "إن اللَّه بعثَني رحمةً وهدًى للعالمينَ، وأمرَني أن أمحقَ المزاميرَ والبرابِطَ والمعازفَ والأوثانَ ": وذكرَ بقيةَ الحديثِ، وفي آخرِه: "ولا يحلُّ بيعُهُنَّ، ولا شراؤهن، ولا تعليمُهن، ولا تجارةٌ فيهنَّ، وثمنُهنَ حرامٌ". يعني: الضاربات. وفرجُ بنُ فضالةَ مختلفٌ فيه أيضًا. ووثقه الإمامُ أحمدُ وغيرُه. وخرَّجَ الإسماعيليُّ وغيرهُ، من حديث عمرَ بنِ الخطابِ - رضي الله عنه - عن النَّبي - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "ثمنُ المغنيةِ حرامٌ، وغناؤُها حرامٌ " َ. وإسنادُه كلُّهم ثقاتٌ متفقٌ عليهِم. سوى يزيدَ بنِ عبدِ الملكِ النوفليِّ. فإنه مُختلفٌ في أمرِه. وخرَّجَ حديثَه هذا محمدُ بنُ يحيى الهمذاني في صحيحهِ وقال: في النفسِ منْ يزيدَ بنِ عبدِ الملكِ.

مع أن ابن معين قالَ: ما كانَ به بأسٌ. وبوَبَ الهمذانيُ هذا في "صحيحِهِ " على: تحريمِ بيع المغنياتِ وشرائِهنَّ. وهو من أصحابِ ابنِ خزيمةَ وكانَ عالمًا بأنواع العلومِ. وهو أولُ منْ أظهرَ مذهبَ الشافعيِّ بهمذانَ واجتهدَ في ذلكَ بمالِهِ ونفسِهِ. وكانَ وفاتُه سنةَ سبع وأربعينَ وثلاثمائةٍ - رحمه اللَّه تعالى -. وخرَّجَ في بابِ تحريمِ ثمنِ المغنيةِ من روايةِ أبي نعيم الحلبيِّ عن ابنِ المباركِ عن مالكٍ عن ابنِ المنكدرِ عن أنسٍ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "من قعدَ إلى قينةٍ يستمعُ منها، صُبَّ في أذنيهِ الآنُكُ يومَ القيامةِ". وقال: أبو نُعيمٍ الحلبيُّ اسمه عبيدُ بنُ هشامٍ. قلتُ: قد وثقه أبو داودَ وقالَ: إنه تغيَّر بآخرةٍ. وقد أنكرَ عليه أحاديثَ تفردَ بها، منها هذا الحديثُ. وفي النهي عن بيع المغنياتِ أحاديثُ أُخرُ عن عليٍّ وعائشةَ - رضي الله عنهما - وغيرِهما، وفي أسانيدِهَا مقالٌ. وروى عامرُ بنُ سعدٍ البجليُّ قال: دخلتُ على قرظةَ بنِ كعبٍ وأبي مسعودٍ الأنصاريِّ في عُرْس، فإذا جواري يتغنينَ، فقلتُ: أنتم أصحابُ محمدٍ وأهلُ بدر، ويُفعلُ هذا عندكُم؟! قال: اجلسْ إن شئْتَ واسمعْ، وإن شئتَ فاذهبْ؛ فإنَّه قد رُخِّصَ لنا في اللهوِ عندَ العرسِ. خرَّجَه النسائيُّ والحاكم وقال: صحيح على شرطِهما. والرخصةُ في اللهوِ عند العرسِ تدلُّ على النهيِّ عنهُ في غيرِ العُرسِ، ويدل عليه قولُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في حديثِ عائشةَ - رضي الله عنها - المتفقِّ عليه في "الصحيحينِ: " لمَّا دخلَ عليها وعندَها جاريتانِ تغنيانِ وتدفانِ. فانتهرهُما أبو بكر الصِّديقُ - رضي الله عنه -،

وقالَ: مَزمورُ الشيطانِ عندَ رسولِ اللَّه - صلى الله عليه وسلم -؟! فقالَ رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: "دعهُما، فإنها أيامُ عيدٍ". فلم يُنكرْ قولَ أبي بكرٍ - رضي الله عنه -. وإنّما علَّل الرخصةَ بكونهِ في يومِ عيدٍ؛ فدلَّ على أنَّه يُباح في أيامِ السرورِ: كأيامِ العيدِ، وأيامِ الأفراح: كالأعراسِ وقدومِ الغُيَّابِ، ما لا يُباحُ في غيرِها من اللهوِ. وإنما كانتْ دفوفُهم نحوَ الغرابيلِ وغناؤُهم بإنشادِ أشعارِ الجاهليةِ في أيامِ حروبهِم وما أشبهَ ذلكَ. فمن قاسَ على ذلكَ سماعَ أشعارِ الغزلِ مع الدفوفِ المصلصلةِ، فقدْ أخطأ غايةَ الخطأ، وقاسَ مع ظهورِ الفرقِ بين الفرع والأصلِ. وقال ابنُ مسعودٍ - رضي الله عنه -: " الغناءُ يُنبتُ النفاقَ في القلبِ، كما ينبتُ الماءُ البقل ". وقد رُوي عنه مرفوعًا. خرَّجَه أبو داود في بعضِ نسخ السنن. وخرَّجَه ابنُ أبي الدنيا والبيهقيُّ وغيرُهما. وفي إسنادِ المرفوع من لا يُعرفُ، والموقوفُ أشبهُ. وأما تحريمُ آلاتِ الملاهِي: فقد تقدَّم عن مجاهدٍ أنَّه أدخلَها في صوتِ الشيطانِ المذكورِ في قولِ اللَّهِ تعالى: (وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهم بِصَوْتِكَ) . * * *

قوله تعالى: (إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت إن الله عليم خبير (34)

قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (34) وأما قول جبريلَ: "أخبرني عن الساعةِ؟ فقال: ما المسئولُ عنها بأعلمَ منَ السائلِ ". فمعناه: أن الناسَ كلَّهم في وقتِ الساعةِ سواءٌ، وكلّهم غيرُ عالمينَ به على الحقيقةِ. ولهذا قال: "خمسٌ لا يعلمُهنَّ إلا اللَهُ "، ثم تلا: (إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ) الآية. وهذه مفاتيحُ الغيبِ، الذي لا يعلمُها إلا اللَّهُ. وقد جاءَ عن ابنِ مسعود: "أن نبيَّنا أوتِيَ علمَ كلِّ شيءٍ سوى هذه الخمسِ". ورُوي ذلك مرفوعًا من حديثِ ابنِ عمرَ. وكلاهُما في "مسندِ الإمامِ أحمدَ". وذُكرَ عندَ عَمرِو بنِ العاصِ العلمُ بوقتِ الكسوفِ قبلَ ظهورهِ، فأنكرهُ بعضُ مَن حضرَه، فقال عَمرو: إنمَا الغيبُ خمسٌ، ثم تلا هذه الآيةَ. قال: وما سوى ذلك يعلمُه قومٌ ويجهلُه قومٌ. خرَّجَه حميدُ بنُ زنجويهِ. وقد زعمَ بعضُهم كالقرطبيِّ، أن هذه الخمسَ لا سبيلَ لمخلوقٍ إلى علم بها

قاطع، وأما الظنُّ بشيءٍ منها بأمارةٍ قد يخطئ ويصيبُ، فليسَ ذلكَ بممتنع. ولا نفيه مراد من هذه النصوص. * * *

سورة السجدة

سُورَةُ السَّجْدَة قوله تعالى: (وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ (7) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (8) ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ) وقولُه تعالى: (وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ (7) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (8) ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِهِ) . والمرادُ بالإنسانِ: آدمُ - عليه السلامُ -، ومعلوم أنَّ تسويتَهُ، ونفخَ الرُّوح فيهِ، كان قبلَ جعلِ نسلِهِ من سُلالة من ماء مهينٍ، لكنْ لما كانَ المقصودُ ذكرَ قدرةِ اللهِ عزَ وجلٌ في مبدأ خلقِ آدمَ وخلقِ نسلِهِ، عطفَ ذكرَ أحدِهِما على الآخرِ، وأخَّر ذكرَ تسويةِ آدمَ ونفخ الروح فيه، وإن كانَ ذلك متوسطا بين خلقِ آدمَ من طينٍ وبينَ خلقِ نسلِهِ. واللهُ أعلم. * * * قوله تعالى: (تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (16) فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17) عنْ مُعاذ - رضي الله عنه - قالَ: قلتُ: يا رسولَ اللَّه، أخبرنِي بعمل يُدخلُنِي الجنَّةَ ويُباعِدُنِي منَ النَّارِ.

قالَ: "لقدْ سألتَ عنْ عظيمٍ، وإنهُ ليسيرٌ على من يسرهُ اللَّه عليه: تعبدُ الله لا تُشركُ بهِ شيئًا، وتقيمُ الصلاةَ، وتؤتِي الزَّكاةَ، وتصومُ رمضانَ، وتحجُّ البيتَ ". ثُمَّ قالَ: "ألا أدُلكَ على أبوابِ الخيرِ؛ الصَّومُ جُنَّة والصدقةُ تُطفئُ الخطيئةَ كما يُطفِئُ الماءُ النَّارَ، وصلاةُ الرَّجُلِ مِنْ جوفِ الليلِ، ثُمَّ تَلا: (تَتَجَافَى جُنُوبهمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ) حتى بلغ: (يَعْمَلُونَ) ". ثم قالَ: "ألا أخبرُكَ برأسِ الأمرِ وعمودِه وذروةِ سنامِه؟ ". قُلتُ: بلى يا رسولَ الله. قال: " رأسُ الأمرِ: الإسلامُ، وعمودُهُ: الصلاةُ، وذروةُ سنامِهِ: الجهادُ ". ثُمَّ قالَ: "ألا أُخبركَ بملاكِ ذلكَ كلِّهِ؟ ". قُلتُ: بلى يا رسولَ اللَّه. فأخذَ بلسانهِ، قالَ: "كُفَّ عليكَ هذَا". قُلتُ: يا نَبِيَّ الله، وَإِنَّا لمؤُاخذُونَ بما نتكلَّمُ بهِ؟. فقال: "ثكلتْكَ أُمُّكَ، وهل يكُبُّ النَّاسَ فِي النَّارِ على وجوهِهِم، - أوْ على مناخرهِم - إلا حصائِدُ ألسنتهِم ". رواهُ الترمذيُّ وقالَ: حديثٌ حسن صحيحٌ. هذا الحديثُ، خرَّجَه: الإمامُ أحمدُ، والترمذيُّ، والنسائيُّ، وابنُ ماجةَ. من روايةِ معمرٍ، عن عاصم بنِ أبي النجودِ، عن أبي وائلٍ، عن مُعاذِ بنِ جبلٍ، وقالَ الترمذيُّ: "حسنٌ صحيح".

وفيما قالهُ - رحمه اللَّهُ - نظر من وجهينِ: أحدهما: أنَه لم يثبتْ سماعُ أبي وائل من معاذ، وإن كان قد أدركهُ بالسِّنِّ. وكانَ معاد بالشام، وأبو وائلٍ بالكوفةِ، وما زالَ الأئمةُ - كأحمدَ وغيرِه - يستدلُّون على انتفاءِ السّماع بمثلِ هذا، وقد قال أبو حاتمٍ الرازىُّ في سماع أبي وائل من أبي الدرداءِ: قد أدركهُ، وكان بالكُوفةِ، وأبو الدُّردَاءِ بالشامِ - يعني: أنه لم يصحَّ له سماع منهُ. وقد حكَى أبو زُرعةَ الدِّمشقيُّ عن قومٍ أنهم توقَّفُوا في سماع أبي وائل من عمرَ، أو نفوه، فسماعُه من معاذ أبعدُ. والثاني: أنَّه قد رواهُ حمَّادُ بنُ سلمةَ عن عاصمٍ بنِ أبي النَّجودِ عن شهرِ ابن حوشب عن معاذ، خرَّجه الإمامُ أحمدُ مختصرًا، قال الدارقطني: وهو أشبهُ بالصَّوابِ؛ لأنَّ الحديثَ معروف من رواية شهر على اختلافٍ عليه قلت: ورواية شهر عن معاذ مرسلة يقينا، وشهر مختلف في توثيقهِ وتضعيفه. وقد خرَّجه الإمامُ أحمدُ من روايةِ شهرٍ عن عبدِ الرحمنِ بن غنمٍ عن معاذ. وخرَّجه الإمامُ أحمدَ - أيضا - من روايةِ عُروة بن النزال - أو النزالِ ابنِ عروةَ -، وميمونِ بنِ أبي شبيب، كلاهما: عن معاذ. ولم يسمعْ عروةُ ولا ميمونُ من معاذٍ. وله طرق أخرى عن معاذٍ كلُّها ضعيفة. وقولُه: "ثم تلا: (تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (16) فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17) . يعني: أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - تلا هاتينِ الآيتينِ عندَ ذكرِه فضلَ صلاةِ الليلِ، ليبيِّنَ بذلكَ فضلَ صلاةِ الليلِ.

وقد رُويَ عن أنسٍ أن هذه الآيةَ نزلتْ في انتظارِ صلاةِ العشاءِ. خرَّجه الترمذيُّ وصححه. ورُويَ عنه أنه قالَ في هذه الآيةِ: كانُوا يتنفلونَ بينَ المغربِ والعشاءِ. خرَّجه أبو داود. ورويَ نحوُه عن بلالٍ، خرَّجه البزارُ بإسنادٍ ضعيف. وكلُّ هذا يًدخلُ في عمومِ لفظِ الآيةِ، فإنَّ اللَّهَ مدحَ الذين تتجافَى جنوبُهم عن المضاجع لدعائه، فيشملُ ذلكَ كل من تركَ النَّومَ بالليلِ لذكرِ اللَهِ ودُعائهِ، فيدخلُ فيه مَن صلًّى بينَ العشاءينِ، ومن انتظرَ صلاةَ العشاءِ فلم ينَمْ حتَّى يُصلِّيَهَا، لاسيَّما مع حاجتِهِ إلى النومِ ومجاهدةِ نفسهِ على تركهِ لأداءِ الفريضةِ، وقد قالَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - لمنِ انتظرَ صلاةَ العشاءِ: "إنَّكم لن تزالوا في صلاةٍ ما انتظرتُمُ الصَّلاةَ". ويدخلُ فيه من نامَ ثمَّ قامَ مِن نومه باللَّيلِ للتهجُّد، وهو أفضلُ أنواع التطوع بالصلاةِ مطلقًا. وربما دخلَ فيهِ من تركَ النوم عندَ طلوع الفجرِ، وقامَ إلى أداء صلاةِ الصُّبح، لاسيما مع غلبةِ النَّوم عليهِ، ولهذا يُشرعُ للمؤذِّن في أذانِ الفجرِ أن يقولَ في أذانهِ: الصلاةُ خيرٌ من النومِ. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "وصلاةُ الرَّجُلِ من جوفِ الليلِ " ذكرَ أفضلَ أوقاتِ التهجُّدِ بالليلِ، وهو جوفُ الليلِ. وخرَّج النسائيُّ والترمذيُّ من حديثِ أبي أمامةَ،

قالَ: قيلَ: يا رسولَ اللَّهِ، أيُّ الدُّعاءِ أسمعُ؟ قالَ: " جوفُ اللَّيلِ الآخرِ، ودُبرُ الصلواتِ المكتوباتِ ". وخرَّجه ابنُ أبي الدنيا، ولفظُه: جاءَ رجلٌ إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: أيُّ الصلاةِ أفضلُ؟ قالَ: "جوفُ اللَّيلِ الأوسطِ ". قالَ: أيُّ الدُّعاءِ أسمعُ؟ قالَ: "دُبرُ المكتوباتِ ". وخرَّج النسائيُّ من حديث أبي ذرٍّ قالَ: سألتُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -: أيُّ الليلِ خير؟ قالَ: "خيرُ الليلِ: جوفُه ". وخرَّج الإمامُ أحمدُ من حديثِ أبي مسلمٍ قالَ: قلتُ لأبي ذرٍّ: أيُّ قيامِ الليلِ أفضلُ؟ قالَ: سألتُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كما سألْتنَي، فقالَ: "جوفُ الليلِ الغابرِ أو نصفُ اللَّيلِ، وقليلٌ فاعلُه ". وخرَّجهُ البزارُ، والطبرانيُّ من حديثِ ابنِ عمرَ، قالَ: سُئلَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: أيُّ الليلِ أجوبُ دعوةً؟ قالَ: "جوفُ الليلِ، " زادَ البزارُ في روايتهِ: "الآخِرِ". وخرَّجَ الترمذيُّ من حديثِ عمرِو بنِ عبسةَ سمعَ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: "أقربُ ما يكونُ الرَّبُّ من العبدِ: في جوفِ الليلِ الآخِر. فإنْ استطعتَ أن تكونَ ممَّن يذكرُ اللَّهَ في تلكَ الساعةِ فكنْ ". وصححهُ. وخرَّجه الإمامُ أحمدُ، ولفظُه: قالَ: قلتُ: يا رسولَ اللَّهِ، أيُّ الساعاتِ أفضل؟

قالَ: "جوفُ الليلِ الآخِرِ" وفي روايةٍ لهُ - أيضًا -: قالَ: "جوفُ الليلِ الآخِرِ أجوبُه دعوة". وفي روايةٍ له: قلتُ: يا رسولَ اللَّهِ، هل مِنْ ساعةٍ أقربُ إلى اللَّهِ من أُخرى؟ قال: "جوفُ الليلِ الآخِرِ". وخرَّجه ابنُ ماجةَ، وعندَهُ: "جوفُ اللَّيلِ الأوسطِ ". وفي روايةٍ للإمامِ أحمدَ عن عمرِو بنِ عبسةَ، قالَ: قلتُ: يا رسولَ اللَّهِ، هل منْ ساعةٍ أفضلُ من ساعةٍ؟ قالَ: "إنَّ اللهَ ليتدلَّى في جوفِ الليلِ، فيغفرُ، إلا ما كانَ من الشركِ ". وقد قيلَ: إن جوفَ اللَّيلِ إذا أطلقَ فالمرادُ به: وسطُه. وإن قيلَ: جوفُ الليلِ الآخرِ، فالمرادُ وسطُ النِّصفِ الثانِي، وهو السُّدسُ الخامسُ من أسداسِ الليلِ، وهو الوقتُ الذي ورد فيه النُّزولُ الإلهي. * * * وروَى عطيةُ، عن أبي سعيد، قال: إنَّ اللَّهَ خَلق جنَّة عدنٍ من ياقوتةٍ حمراءَ، ثم قال لها: تزيَّني فتزينت، ثم قالَ لها: تكلَّمِي، فقالت: طُوبى لمن رضيتَ عنه، ثم أطبقها وعلَّقها بالعرشِ، فهي تُفتحُ في كلِّ سحرٍ، فذلك بردُ السحرِ. - وعن ابن عبَّاس، قال: كان عرشُ اللَّه على الماءِ، ثم اتخذَ لنفسِه جنَّةً، ثم اتخذَ دونها أخرى، وطبَّقهما بلؤلؤةٍ واحدةٍ لا يعلمُ الخلائقُ ما فيهما وهما اللتانِ: (فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17) . وذكرَ صفوانُ بنُ عمرٍو، عن بعضِ مشايخهِ، قال: الجنةُ مائةُ درجةٍ: أولها: درجةُ فِضةٍ، وأرضُها فِضةٌ، ومساكنُها فضةٌ، وترابها المسكُ.

والثانية: ذهبٌ، وأرضُها ذهبٌ، وآنيتها ذهبٌ، وترابُها المسكُ. والثالثة: لؤلؤ، وأرضُها لؤلؤ، وآنيتُها لؤلؤ، وترابُها المسكُ، وسبعٌ وتسعونَ بعد ذلك ما لا عينٌ رأتْ، ولا أُذُنٌ سمعت، ولا خطرَ على قلبِ بشرٍ، ثم تلا: (فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17) . وفي "الصحيحينِ " عن أبي هريرةَ - رضي الله عنه -، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قالَ: "يقولُ اللهُ عر وجلَّ: أعددتُ لعبادي الصَّالحينَ ما لا عين رأتْ، ولا أذنٌ سمعتْ، ولا خطرَ على قلبِ بشرٍ". ثم يقولُ أبو هريرةَ: اقرءُوا إن شئتم: (فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ) . وفي "صحيح مسلمٍ" عن المغيرةِ بنِ شعبة - يرفعه: "سألَ موسى ربَّه، قال: ياربّ، ما أدنى أهلِ الجنةِ منزلةً؟ قال: هو رجل يجيءُ بعدما أُدخلَ أهلُ الجنَّةِ الجنَّةَ. فيقالُ له: ادخُلِ الجنَّةَ، فيقولُ: ياربِّ، كيفَ وقد أخذَ الئاسُ منازلهم، وأخذوا أخذاتهم؟ فيقالُ له: أترضى أن يكون لكَ مثلُ مُلكِ ملكٍ من مُلُوكِ الدُّنيا؟ فيقولُ: رضيتُ يا ربِّ. فيقولُ: لك ذلك ومثلُهُ ومثلُهُ ومثلُهُ ومثلُهُ، فقال له في الخامسة: رضيتُ يا ربِّ، فيقالُ: هذا لكَ وعشرةُ أمثالهِ، ولكَ ما اشتهتْ نفسُك ولذَّت عينُك، فيقولُ: رضيتُ ربِّ. قال: فأعلاهُم منزلةً؟ قال: أولئك الذينَ أردتُ، غرستُ كرامتَهُم بيدِي، وختمتُ عليها، فلم ترَ عينٌ ولم تسمعْ أذنٌ ولم يخطرْ على قلبِ بشرٍ. قال: ومصداقُهُ في كتاب الله: (فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ) ". * * *

سورة الأحزاب

سُورَةُ الأحْزَاب قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (45) وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا (46) كانت مجالسُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - مع أصحابه عامتُها مجالسَ تذكيرٍ باللَّهِ وترغيبٍ وترهيبٍ، إمَّا بتلاوةِ القرآنِ، أو بما آتاهُ اللَّه من الحكمة والموعظة الحسنة، وتعليم ما ينفعُ في الدِّين، كما أمَرَه اللَّهُ تعالى في كتابه أن يذكِّرَ ويعِظَ ويقُصَّ، وأن يدعوَ إلى سبيل ربِّه بالحكمة والموعظة الحسنة، وأن يبشَر ويُنذرَ، وسمَّاه اللَّهُ: (وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (45) وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ) . والتبشير والإنذارُ هو الترغيبُ والترهيبُ، فلذلك كانتْ تلك المجالسُ توجبُ لأصحابِهِ رقَّةَ القلوبِ والزهُدَ في الدُّنيا والرَّغبةَ في الآخرةِ. * * * قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (59) و"الجِلْباب ": قال ابن مسعودٍ ومجاهدٌ وغيرُهما: هو الرِّداءُ، ومعنى ذلك: أنه للمرأة كالرداءِ للرجلِ، يسترُ أعلاها، إلا أنه يُقَنِّعُها فوقَ رأسِهَا، كما

(يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين آذوا موسى فبرأه الله مما قالوا وكان عند الله وجيها (69)

يضعُ الرجلُ رداءَه على منْكِبَيْه. وقد فسَّر عَبِيدةُ السَّلْمانيُّ قولَ اللَّهِ عزَّ وجلَّ: (يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلابِيبِهِنَّ) : بأنها تُدنيه من فوقِ رأسِهَا، فلا تُظْهِر إلا عَيْنَها، وهذا كانَ بعد نزولِ الحجابِ، وقد كُنَّ قبلَ الحجابِ يَظهرن بغيرِ جلبابٍ، ويُرى من المرأةِ وجهُها وكَفَّاها، وكان ذلك ما ظهرَ منها من الزينة في قولِهِ عزَّ وجلَّ: (وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا) . ثم أُمِرَتْ بستْرِ وجهِها وكفيها، وكان الأمْرُ بذلك مختصًا بالحرائرِ دونَ الإماءِ، ولهذا قال تعالى: (ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ) . يعني: حتى تُعرفَ الحرةُ فلا يتَعَرَّضُ لها الفُسَّاقُ، فصارتِ المرأةُ الحرةُ لا تخرج بين الناسِ إلا بالجلبابِ، فلهذا سُئل النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - لما أمَرَ النساءَ بالخروج في العيدين، وقيل له: المرأةُ منا ليسَ لها جلبابٌ؟ فقال: "لتُلبسْها صاحبتُها من جلبابها" يعني: تُعِيرُها جلبابًا تخرجُ فيه. * * * (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا (69) خرَّج البخاريُّ من حديثِ: مَعْمَر، عنْ همَّامِ بنِ مُنَبِّهٍ، عن أبي هريرة عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: "كان بنو إسرائيل يغْتَسِلُونَ عُرَاةً، ينظرُ بعضُهُم إلى بعضٍ، وكان مُوسى - عليه السلامُ - يَغْتسلُ وحْدَهُ، فقالوا: واللَّهِ، ما يمنع مُوسَى أنْ يغْتَسِلَ معنا، إلا أنَّهُ آدَرُ،

فذهبَ مرَّة" يغتسلُ، فوضعَ ثوبَهُ على حَجَرٍ، ففر الحجَرُ بثَوْبِهِ، فخَرَجَ مُوسَى في إثْرِه، يقولُ: ثَوْبَي يا حَجَرُ، ثَوْبِي يا حجرُ، حتَّى نظرتْ بَنُو إسرائيل إلى مُوسى، فقالوا: واللًّه، ما بمُوسَى بأسٌ، وأخَذَ ثوْبَهُ، فطَفِقَ بالحَجَرِ ضرْبًا". قالَ أبو هريرة: واللَّهِ، إنَّهُ لندَبٌ بالحَجَرِ - ستَّةٌ أوْ سبْعَةٌ - ضربًا بالحَجَرِ. وعن أبي هريرة، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قالَ: "بيْنَا أيُّوبُ - عليهِ السلامُ - يغْتَسِلُ عُرْيَانًا فخرَّ عليه جَرَادٌ من ذَهَبٍ، فجعل أيُّوبُ يَحْتَثِي في ثوبهِ، فناداهُ ربُّه: يا أيُّوبُ، ألم أكُنْ أغْنَيتُك عمَّا تَرى؟ قال: بلى وعِزتكَ، ولكنْ لا غِنَى بي عنْ بَرَكتِكَ". ورواه إبراهيمُ، عن موسى بن عُقْبةَ، عن صفْوَانَ بنِ سُلَيْم، عن عطاءِ بنِ يسارٍ، عن أبي هريرة، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: "بَيْنَا أيُّوبُ - عليه السلامُ - يغْتَسِلُ عُرْيَانًا ". وخرَّجَ البخاريُّ في "أخبار الأنبياءِ" من "صحيحِهِ " هذا قصةَ موسى - عليه السلامُ - من وجهٍ آخر، من روايةِ عوف، عن ابنِ سيرينَ والحسنِ وخلاسٍ، عن أبي هريرةَ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ موسى - عليه السلام - كان رجلاً حيِيًّا ستيرًا، لا يُرى من جلده شيء، استحياءً منه، فآذاه من آذَاه من بني إسرائيل، فقالوا: ما يستترُ هذا السترَ إلا من عيب بجلدِهِ، إما برصٌ وإما أدرةٌ وإما آفةٌ، وإن اللَّه أرادَ أن يُبرَئه، فخلا يومًا وحدَه، فوضعَ ثيابَه على الحَجَرِ، ثم اغتسلَ، فلما فرغَ أقبلَ إلى ثيابِهِ، ليأخذها، وإن الحجرَ عدا بثوبِهِ، فأخذَ موسى عصاهُ، وطلبَ الحجرَ، فجعلَ يقولُ: ثوبي حجرُ، ثوبي حجرُ، حتى انتهى إلى ملإِ بني إسرائيلَ، فرأوْهُ عُريانًا، أحسنَ ما خلَقَ اللهُ،

وأبرأهُ اللَّه مما يقولونَ، وقامَ الحجرُ، فأخذَ ثوبَهُ فلبسَهُ، وطفقَ بالحجر ضربًا - ثلاثًا أو أربعًا أو خمسًا -، فذلك قولُهُ تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا (69) . "الأدرةُ": انتفاخُ الخصيةِ. و"الندبُ ": الأثرُ الباقي في الحجرِ، من ضربِ موسى - عليه السلامُ - له. قال الخطابيُّ: وفيه من الفقهِ: جوازُ الاطلاع على عوراتِ البالغينَ، لإقامة حقًّ واجبٍ كالختانِ ونحوه. قلتُ: هذا فيه نظرٌ " فإن موسى - عليه السلامُ - لم يقصدِ التعرِّي عندَ بني إسرائيل " لينظرُوا إليه، وإنَّما قدَّر اللَّهُ له ذلك حتى يبرئَه عندهم مما آذوْه به. وقد يقالُ: إنَّ اللَّهَ لا يقدِّرُ لنبيِّه ما ليسَ بجائزٍ في شرعِهِ. وأما الاستدلالُ به على جوازِ الاغتسالِ في الخلوةِ عُريانًا، فهو مبنيٌّ على القولِ بأن شرعَ مَنْ قبلَنا شرعٌ لنا، ما لم يأتِ شرْعُنا بخلافِهِ. وقد استدلَّ بهذا على جوازِ الغسلِ في الخلوةِ عُريانًا: إسحاقُ بنُ راهويه - أيضًا -، وذكر أنه وإنْ كان شرعَ من قبلنا، إلا أنه لم يردْ شرعُنا بخلافِهِ. وقد يمنعُ هذا من يقولُ: قد ورد شرعُنا بالتسترِ في الخلوةِ - أيضًا -. وسيأتي بيانُ ذلك في البابِ الآتي - إن شاء اللَّه تعالى. وقد روى حمادُ بنُ سلمةَ، عن عليِّ بنِ زيدٍ، عن أنسٍ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -. قال: "إنَّ موسى بنَ عمران - عليه السلامُ - كان إذا أراد أن يدخلَ الماءَ لم يُلقِ ثوبَهُ، حتى يواريَ عورتَهُ في الماء".

سورة سبأ

خرَّجه الإمامُ أحمد. وعليٌّ بنُ زيد، هو: ابنُ جُدْعَانٍ، متكلَّمٌ فيه. وكذا القولُ في الاحتجاج بحديثِ أيوبَ - عليه السلامُ - عُريانًا. وأمَّا الطريق الذي ذكره البخاريُّ تعليقًا لحديثِ اغتسالِ أيوبَ - عليه السلامُ -؛ فخرَّجه الإمام (1) . * * * سُورَةُ سَبَأٍ قوله تعالى: (إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَة أَن تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى) قال ابن الجوزي في "المقتبس ": سمعت الوزير يقول: في قوله تعالى: (إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُوموا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى) . قال: المعنى: أن يكون قيامكم خالصًا للَّه عزَّ وجلّ، لا لغلبة خصومكم، فحينئذ تفوزون بالهدى. * * *

_ (1) "فتحِ الباري " (1/ 0 33 - 333) . وَهَاهُنا انتهى البابُ في الأصلِ، والظَّاهِرُ: أن سقطًا وقع يَطول أو يقصر. واللهُ أعلمُ. (1) في الكتاب المطبوع وضعت هذه الآية في آخر سورة فاطر صفحة 142، واللائق إلحاقها بسورتها، وهذا ما فعلناه. (مصحح النسخة الإلكترونية) .

سورة فاطر

سُورَةُ فَاطِرٍ قوله تعالى: (اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ) قال ابنُ الجَوزِي فِي "المُقتَبَسِ ": سَمِعتُ الوَزير يقولُ في قَولِهِ تَعالى (اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ) . قالَ: فَطَلَبتُ الفِكرَ في المُناسَبَةِ بَين ذكْرِ النِّعمَةِ وَبَين قوله تعالى: (هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ) ، فرأيت أنَّ كُلَّ نعمة ينالها العبدُ فاللًّه خالقُها، فقد أنعمَ بخلقه لتلك النعمة، وَبِسَوقِهَا إلى المُنعَم عليه. ً * * * قوله تعالى: (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ) وقولُهُ: "والطيباتُ "، فُسرتْ بالكلماتِ الطيباتِ، كما في قولِهِ تعالى: (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ) ، فالمعنى: إنَّ ما كان من الكلامِ فإنَّه للَّه. يُثنَى به عليه ويُمجَّدُ به. وفُسرتِ "الطيبات " بالأعمال الصالحة كلِّها، فإنها توصفُ بالطيّب. فتكونُ كلُّها للَّه، بمعنى: أنه يُعبدُ بها ويُتقرت بها إليه. * * *

قوله تعالى: (وما أنت بمسمع من في القبور (22)

قوله تعالى: (وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (22) أما سماعُ الموتى لكلامِ الأحياءِ: ففي "الصحيحينِ " عن أنسٍ، عن أبي طلحةَ، قال: لمَّا كانَ يومُ بدرٍ وظهرَ عليهم رسول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أمرَ ببضعةٍ وعشرينَ رجلاً، وفي رواية أربعةً وعشرينَ رجلاً من صناديدِ قريشٍ، فألقُوا في طوىً من أطواءِ بدرٍ، وإنَّ رسولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - نادَاهم قالَ: "يا أبا جهلِ بنَ هشامٍ، يا أميَّة بنَ خلفٍ، يا عتبةَ بنَ ربيعةَ، يا شيبةَ بنَ ربيعةَ، أليسَ قدْ وجدتُم ما وعدَ ربُّكم حقًّا؟ فإنِّي قد وجدتُ ما وعدنِي ربِّي حقَّا" فقال عمرُ: يا رسولَ اللَّه ما تُكلِّم من أجسادٍ لا أرواحَ فيها، فقال: "والذي نفسِي بيدِهِ ما أنتُم بأسمعَ لمَا أقولُ منهم ". وفي "صحيح مسلم" من حديث أنسٍ نحوُهُ من غيرِ ذكرِ أبي طلحةَ. وفي حديثِهِ قال: "والذي نفسِي بيدِهِ، ما أنتُم بأسمعَ لمَا أقولُ منهم، ولكنهم لا يقدرونَ أن يجيبُوا". وفيه - أيضًا - عن أنسٍ، عن عمرَ بنِ الخطابِ - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - هذه القصة بمعناها. وفي "الصحيحينِ " عن ابنِ عمرَ - رضي الله عنهما -، قال: اطَّلع رسولُ اللَّه - صلى الله عليه وسلم - على أهلِ القَليبِ، فقالَ: "وجدتُم ما وعدَكُم حقًّا؟ " فقيلَ له: أتدعُو أمواتًا؟ قال: "ما أنتُم بأسمعَ منهم، ولكنَّهم لا يجيبون " وفي روايةٍ قالَ: "إنهم الآنَ يسمعونَ ما أقولُ ". وقد أنكرتْ عائشةُ - رضي الله عنها - ذلك، كما في "الصحيحينِ "

عن عروةَ، عن عائشة - رضي الله عنها -، أنها قالتْ: ما قال رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: "إنهم ليسمعونَ الآنَ ما أقولُ ". وقد وهِمَ - يعني ابن عمرَ - إنما قال: "إنهم ليعلمونَ الآنَ ما كنتُ أقولُ لهُم إنه حقٌّ " ثم قرأت قولَه: (إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى) . (وَمَا أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَن فِي الْقُبورِ) . وقد وافقَ عائشةَ على نفي سماع الموتى كلامَ الأحياءِ طائفة من العلماءِ. ورجَّحَهُ القاضي أبو يعْلى من أصحابِنا، في كتابِ "الجامعِ الكبيرِ" له. واحتجّوا بما احتجتْ به عائشةُ - رضي الله عنها -، وأجابُوا عن حديثِ قليبِ بدرٍ بما أجابتْ به عائشة - رضي الله عنها - وبأنه يجوزُ أن يكونَ ذلك معجزةً مختصةً بالنبيِّ - صلى الله عليه وسلم - دون غيرِهِ، وهو سماعُ الموتى لكلامِهِ. وفي "صحيح البخاريِّ " عن قتادةَ قالَ: أحياهُم اللَّهُ تعالى يعني أهلَ القليبِ حتى أسمعَهُم قولَه، توبيخًا وتصغيرًا ونقمةً وحسرةً وندمًا. وذهب طوائفُ من أهلِ العلم إلى سماع الموتى في الجملةِ. قالَ ابنُ عبدِ البرِّ: ذهبَ إلى ذلكَ جماعة من أهلِ العلم - وهم الأكثرونَ - وهو اختيارُ الطبريِّ وغيره، ويعني بالطبريِّ: ابنَ جريرٍ، وكذلكَ ذكرَهُ ابنُ قتيبةَ وغيرُه من العلماءِ، وهؤلاءِ يحتجونَ بحديثِ القليبِ، كما سبق، وليسَ هو بوهم ممن رواه، فإن عمرَ وأبا طلحةَ وغيرَهما ممن شهدَ القصةَ حكاه عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -. وعائشةُ لم تشهدْ ذلك، وروايتُها عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - أنه قالَ: "إنهم ليعلمونَ الآنَ أن ما كنتُ أقولُ لهم حق" يؤيد روايةَ من رَوى: "إنهم ليسمعون "، ولا ينافيه، فإن الميتَ إذا جازَ أن يعلمَ جازَ أن يسمعَ، لأنَّ الموتَ ينافي العلمَ، كما ينافي

السمعَ والبصرَ، فلو كان مانِعًا من البعضِ لكانَ مانعًا من الجميع. وروى أبو الشيخ الأصبهانيُ بإسناده عن عبيدِ بنِ مرزوق، قالَ: كانتِ امرأة بالمدينةِ يقالُ لها: أمُّ محجنٍ، تقمُّ المسجدَ، فماتتْ، فلم يعلمْ بها النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - فمرَّ على قبرِها، فقال: "ما هذا القبرُ؟ " فقالوا: قبرُ أمِّ محجنٍ، فقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "التي كانتْ تقمُّ المسجدَ؟ " قالوا: نعم، فصفَّ الناسَ وصلَّى عليها، ثم قالَ: "أيَّ العملِ وجدتِ أفضل؟ " قالوا: يا رسولَ اللَّهَ أتسمع؟ قالَ: "ما أنتم بأسمعَ منها". فذكرَ أنها أجابتْهُ، قَمُّ المسجدِ، وهذا مرسل. وأمَّا أنَّ ذلك خاصّ بكلامِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فليسَ كذلكَ، وقد ثبت في الصحيحينِ عن أنسٍ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "إن العبدَ إذا وُضِعَ في قبر وتولَّى عنه أصحابُهُ، إنه ليسمعُ قَرْعَ نعالِهِم "، وقد سبقَ ذكرُهُ، وسنذكر الأحاديثَ الواردةَ بسماع الموتى سلامَ من يسلِّمُ عليهم فيما بعدُ إن شاء اللَّه تعالى. وأما قولُهُ تعالى: (إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى) . وقولُه: (وَمَا أَنتَ بِمسْمِعٍ من فِي الْقُبُورِ) فإنَّ السماعَ يطلقُ ويرادُ به إدراكُ الكلامِ وفهمُهُ، ويرادُ به أيضًا الانتفاعُ به، والاستجابة لهُ، والمرادُ بهذه الآية. نفيُ الثاني دون الأولِ، فإنَّها في سياقِ خطابِ الكفَّارِ الذينَ لا يستجيبونَ للهُدى ولا للإيمانِ إذا دُعوا إليه، كما قالَ اللَّهُ تعالى: (وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا) ، الآيةُ في نفي السماع والإبصارِ عنهم، لأنَّ الشيءَ قد ينفى لانتفاءِ فائدتِهِ وثمرتِهِ، فإذا لم ينتفع المرءُ بما سمعَهُ وأبصرَهُ،

فكأنَّه لم يسمعْ ولم يبصرْ، وسماعُ الموتى هو بهذه المثابةِ، وكذلكَ سماعُ الكفَّارِ لمن دعاهُم إلى الإيمانِ والهُدى. وقولُ قتادةَ في أهلِ القليبِ: أحياهُمُ اللَّهُ تعالى حتى أسمعَهُم. قولُهُ يدلُّ على أنَّ الميتَ لا يسمعُ القولَ إلا بعد إعادةِ الروح إلى جسده، كذلك قال طوائفُ من السلفِ كثيرةٌ أنه لا يُسأل في قبره إلا بعد إعادةِ الروح إلى جسدهِ، كما جاء ذلك مصرَّحًا به في حديثِ البراءِ بنِ عازبٍ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - الطويل، وقد سبقَ ذكرُ بعضِه، وفيه في حقِّ الكافرِ: "وتُعَاد روحُهُ إلى جسدِه". وفي "مسند الإمامِ أحمدَ" من حديث الأعمشِ عن المنهالِ، عن زاذانَ. عن البراءِ، فَي حقِّ المؤمنِ والكافرِ في كل منهما، قال: "وتُعاد روحُهُ إلى جسده". وكذلك عند ابنِ منده، إعادتُها إلى جسدِهِ عند ضربِ الملَكِ له، بعد أن يضربه فيصيرُ ترابًا، من روايةِ يونسَ بنِ خبابٍ، عن المنهالِ، وقد سبقَ ذلك كلُّه. وخرَّج ابنُ ماجةَ وغيرُه، من حديثِ أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في صفةِ قبضِ الروح والمسألةِ، وقال في روح الكافرِ: "فتصيرُ إلى القبرِ" وقد سبقَ أيضًا. وخرَّج ابنُ منده بإسنادٍ ضعيفٍ جدًّا - عن ابنِ عباسٍ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في

صفةِ قبضِ الروح، وفيه قالَ: "فيهبطونَ بها - يعني الروح - على قدرِ فراغِهم من غسلِهِ وأكفانِهِ، فيدخلونَ ذلك الروحَ بين جسده وأكفانِهِ " وهذا لا يثبتُ. وخرَّج الخلالُ في كتابِ "شرح السنة" من طريقِ أبي هاشمٍ، عن أبي إسحاقَ، عن أبي الأحوصِ، عن عبدِ اللَّهِ، قال: إنَّ المؤمنَ إذا نزلَ به الموتُ أتاهُ ملَكُ الموتِ ينادِيه: يا روح طيبة اخرجِي من الجسدِ الطيبِ، قال: فإذا خرجتْ روحُه لفّتْ في خرقةٍ حمراءَ، فإذا غسِّل وكفِّن، وحملَ على السريرِ وارتفعتِ الروحُ فوقَ السريرِ حيثُ تحولَ السريرُ، تحولتْ حتى يوضعَ في قبره، فإذا وُضِعَ في قبر أُجْلسَ، وجيءَ بالروح، فَجُعِلَتْ فيه، فقيل له: من ربُّك، وما دينُك، ومن نبيُّك؟ فيقولُ: ربي اللَّهُ، وديني الإسلامُ، ونبيي محمد - صلى الله عليه وسلم - فيقالُ له: صدقَتَ، فيوسَعُّ له في قبر مدَّ البصرِ، ثم ترفعُ روحُه، فتجعَلُ في أعْلَى عليينَ، ثم تلا عبدُ اللَّهِ هذه الآيةَ: (إِنَّ كِتَابَ الأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ) . وخرَّج ابنُ أبي الدنيا، من طريقِ سالم بنِ أبي الجعدِ، قال: قال حذيفةُ: الروحُ بيدِ ملَكٍ، وإن الجسدَ ليغسَّلَ، وإنَّ الملَكَ ليمشِي معه إلى القبرِ، فإذا سُوي عليه سلَكَ فيه، فذلكَ حين يخاطبُ. ومن طريقِ عبدِ الرحمنِ بنِ أبي الزنادِ، عن عبدِ الرحمنِ بنِ أبي ليلى. قال: الروحُ بيد ملَكٍ يمشي مع الجنازةِ، يقولُ: اسمعْ ما يقالُ لك، فإذا بلغ حفرتَهُ دفنَ معه. ومن طريقِ داودَ العطارِ، عن أبي نجيحِ، قإل: ما مِنْ ميِّت يموتُ إلا روحُهُ في يد مَلَكٍ ينظرُ إلى جسدِهِ، كيف يغسلُ ويكفَّنُ، وكيف يُمشَى به إلى قبر، ثم تُعاد إليه روحُه، فيجلسُ في قبره.

وكذا قال أبو صالح وغيرُه من السلفِ في قوله تعالى: (كَيفَ تَكْفرونَ بِاللَّهِ وَكنتُمْ أَمْوَاتًا فَأحْيَاكمْ ثمَّ يمِيتكمْ ثمَّ يحْيِيكمْ ثمَّ إِلَيْهِ ترْجَعونَ) ، فدلَّ على أنَّ الحياةَ الأولى هي القبرُ للسؤالِ، وإنْ كانَ الأكثرونَ خالفُوا في ذلك. فهؤلاء السلفُ كلُّهم صرَّحُوا بأن الروح تعادُ إلى البدنِ عند السؤالِ. وصرَّح بمثلِ ذلك طوائفُ من الفقهاءِ والمتكلمينَ من أصحابِنا وغيرِهِم. كالقاضي أبي يعْلى وأصحابِهِ، وأنكر ذلك طائفة منهم ابنُ حزمٍ وغيرُه. وذكرَ أن السؤال للروح خاصةً، وكذلك سماعُ الخطابِ، وأنكر أن تعادَ الروحُ إلى الجسدِ في القبرِ للعذابِ وغيرِه، وقالُوا: لو كان ذلك حقًّا للزمَ أن يموتَ الإنسانُ ثلاثَ مراتٍ ويحيى ثلاثَ مراتٍ، والقرآنُ دلَّ على أنَهما موتتانِ وحياتانِ فقط، وهذا ضعيف جدًّا، فإنَّ حياةَ البرزخ ليستْ حياةً تامةً مستقلة كحياةِ الدنيا وكالحياةِ الآخرةِ بعدَ البعثِ، وإنما فيها نوعُ اتصالِ الروح في البدنِ بحيثُ يحصلُ بذلكَ شعورُ البدنِ وإحساس بالنعيم والعذاب وغيرِهما، وليستْ هي حياةً تامةً حتى يكونَ انفصالُ الروح به موتًا تامًّا، وإنًّما هو شبيهٌ بانفصالِ روح النائم عنه، ورجوعِها إليه، فإنَّ ذلك يسمَّى موتًا وحياةً. كما كان النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يقولُ إذا استيقظَ من منامِهِ: "الحمدُ للهِ الذي أحيانَا بعد ما أماتنا، وإليه النشور" وسماه اللَّهُ تعالى وفاةً، لقوله تعالى: (اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى) ، مع هذا فلا ينافي ذلكَ أن يكونَ النائمُ حيًّا، وكذلك اتصالُ روح الميتِ ببدنه وانفصالها عنه لا يوجبُ أن يصيرَ للميتِ

حياةً مطلقةً. وممن رجَّح هذا القولَ - أعني السؤالَ والنعيمَ والعذابَ للروح خاصةً - من أصحابِنا ابنُ عقيلٍ وأبو الفرج ابن الجوزيِّ. في بعضِ تصانيفِهما. واستدلَّ ابنُ عقيلٍ بأنَّ أرواحَ المؤمنينَ تنعمُ في حواصلِ طيرٍ خضرٍ، وأرواح الكافرينَ تعذَّب في حواصلِ طيرٍ سودٍ، وهذه الأجسادُ تبْلَى فدلَّ ذلك على أنَّ الأرواحَ تعذبُ وتنعمُ في أجسادٍ أخرَ، وهذا لا حجةَ فيه لأنَّه لا ينافي اتصالَ الروح ببدنِها أحيانًا مع بقائِهِ واستحالتِهِ. واستدل طائفة ممن ذهبَ إلى هذا القول بما روى منصورُ بنُ عبدِ الرحمنِ. عن أبي أُمامة قال: دخلَ ابنُ عمرَ المسجدَ، وابنُ الزبيرِ قد قتلَ وصلبَ. فقيلَ له: هذه أسماءُ بنتُ أبي بكرٍ في المسجدِ، فقال لها: اصبري فإنًّ هذه الجثث ليستْ بشيءٍ، وإنَّما الأرواحُ عند اللَّهِ، فقالت: وما يمنعنِي من الصبرِ، وقد أُهدِيَ رأسُ يحيى بنِ زكريا إلى بغيٍّ من بَغايا بني إسرائيلَ. وروى ابنُ أبي الدنيا، من طريقِ ابنِ عمرَ - صاحبِ السقيا - قال: نزلَ ابنُ عمرَ إلى جانبِ قبورٍ قد درستْ، فنظرَ إلى قبر منها، فإذا بجمجمةٍ بادية. فأمرَ رجلاً فواراهَا، ثم قال: إنَّ هذه الأبدانَ ليست يضرُّها هذا الثرى شيئًا، وإنَّما الأرواح التي تُعاقَبُ وتثابُ إلى يوم القيامةِ. وروى محمدُ بنُ سعدٍ، عن الواقديِّ، حدثني ثورُ بنُ يزيدَ، عن خالدِ بنِ معدانَ قال: لما انهزمتِ الرومُ يومَ أجنادينَ، انتهَوا إلى موضع لا يعبرُه إلا إنسان، فجعلت الروم تقاتل عليه، فتقدَّم هشام بن العاصِ فقاتلهم حتى قُتِل، ووقع على تلك الثلمة فسدَّها، فلما انتهى المسلمون إليها، هابوا أن

يوطئه الخيل، فقال عمرو بنُ العاص: إنَّ اللَّهَ قد استشهدَهُ ورفعَ روحَهُ وإنما هو جثةٌ فأوطِئوهُ الخيلَ، ثم أوطأه وتبِعَهُ الناسُ حتى قَطَّعوهُ. وهذه الآثارُ لا تدلُّ على أنَّ الأرواح لا تتصلُ بالأبدانِ بعد الموتِ، وإنَّما تدلُّ على أنَّ الأجسادَ لا تتضررُ بما ينالها من عذابِ الناسِ لها ومن أكل الترابِ لها، وهذا حقٌّ، فإنَّ عذابَ القبرِ ليسَ من جنسِ عذابِ الدنيا، وإنَّما هو نوعٌ آخرُ يصلُ إلى الميتِ بمشيئةِ اللَّهِ وقدرتِهِ. وقولهم: إنَّ الأرواحَ عندَ اللَّهِ تعالى تعاقَبُ وتثابُ لا ينافي أنْ تتصلَ بالبدنِ أحيانًا، فيحصلُ بذلكَ إلى الجسدِ نعيمٌ أو عذابٌ، وقد تستقلُّ الروحُ أحيانًا بالنعيم والعذابِ، إما عند استحالةِ الجسدِ أو قبلَ ذلك. وقد أثبتَ طائفة أخرى النعيمَ والعذابَ للجسدِ بمجرَّدِهِ، من غيرِ اتصالِ الروح به، وممن ذكرَ ذلك من أصحابِنا: ابنُ عقيلٍ في كتابِ "الإرشادِ" له وابنُ الزاغوني، وحُكي عن ابنِ جريرٍ الطبريِّ - أيضًا - وذكرَ القاضي أبو يعْلى أنه ظاهرُ كلامِ الإمامِ أحمدَ، فإنه قال في روايةِ حنبلٍ: أرواحُ المؤمنينَ في الجنةِ، وأرواحُ الكفارِ في النارِ، والأبدانُ في الدنيا يعذَب اللَّهُ من يشاءُ، ويرحمُ من يشاءُ منها بعفوه. قال القاضي: ظاهرُ هذا أن الأرواحَ تعذَّبُ وتنعمُ على الانفرادِ وكذلكَ الأبدانُ إذا كانتْ باقيةً أدَّى إلى الأجزاءِ التي استحالتْ، قال: فلا يمتنعُ أن يُخلقَ في الأبدانِ إدراك تحسُّ به النعيمَ والعذابَ، كما خُلقَ في الجبلِ لما تجلَّى له ربُّه ثم جعلَهُ دكًّا. وقال ابنُه القاضي أبو الحسين: ولأنه لمَّا لم يستحِلْ نطقُ الذراع المسمومةِ،

قوله تعالى: (إنما يخشى الله من عباده العلماء)

لم يستحلْ عذابُ الجسدِ البالي وإيصالُ العذابِ إليه بقدرةِ اللَّهِ عزَّ وجل. وقد يستدلُّ لهذا أيضًا بأنَّ عمرَ بن الخطابِ قال للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم - يوم كلَّم أهلَ القليب: كيف تكلِّمُ أجسادًا لا أرواحَ فيها؟ فلم ينكر النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - ذلك، وإنَما قالَ: "ما أنتُم بأسمعَ لما أقولُ منهم " فدلَّ على أنَّ سماعَهُم حصل مع أجسامِهِم والأرواح فيها. وقد دلَّ القرآنُ على سجودِ الجماداتِ وعلى تسبيحها للَّهِ عزَّ وجل. وخشوعِها له، فدلَّ على أنَّ فيها حياةً وإدراكًا، فلا يمتنعُ مثلُ ذلك في جسدِ ابنِ آدمَ بعد مفارقة الروح له، واللَّهُ أعلم. ويدلُّ على ذلكَ: ما أخبرَ اللَّهُ عن شهاداتِ الجلودِ والأعضاءِ يومَ القيامةِ وما رُويَ عن ابن عباسٍ في اختصامِ الروح والجسدِ يومَ القيامةِ، فيدلُّ على أنَّ الجسدَ يخاصمُ الروحَ ويكلِّمها وتكلِّمُه، وممّا يدلُّ على وقوع العذابِ على الأجسادِ، الأحاديثُ الكثيرةُ في تضييقِ القبرِ على الميتِ، حتى تختلفَ أضلاعُهُ، ولا"نه لو كانَ العذابُ على الروح خاصّةً لم يختصَّ العذابُ بالقبرِ ولم يُنسبْ إليه. * * * قوله تعالى: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ) في قولِه تعالى: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ) . دلَّت هذه الآيةُ على إثباتِ الخشيةِ للعلماءِ بالاتفاقِ وعلى نفْيِها عنْ غيرِهم على أصح القولينِ، وعلى نفْي العِلْم عنْ غيرِ أهلِ الخشيةِ أيضًا.

أما الأول: فلا ريبَ فيه فإنَّ صيغة "إنما" تقتضِي تأكد ثبوتِ المذكورِ بالاتِّفاق؛ لأنَّ خصوصيةَ "إن" إفادةُ التأكيدِ وأمَّا "ما": فالجمهور على أنَّها كافةٌ، ثُمَّ قالَ جمهورُ النحاةِ: هيَ الزائدةُ التي تدخلُ على إنَّ، وأنَّ، وليتَ، ولعلَّ، وكأن، فتكفها عن العملِ لأنَّ الأصلَ في الحروفِ العاملة أن تكونَ محضةً فإذا اختصتْ بالاسم أو الفعلِ ولم يكنْ كالجزءِ منهُ عملت فيه، وإنَّ وأخواتُها مختصةٌ بالاسم فتعملُ فيه فإذا دخلتْ عليها "ما" زالتْ اختصاصُها فصارَتْ تدخلُ على الجملة الاسميةِ والفعليةِ فبَطلَ عملُها وإنَما عملتْ "ما" النافيةُ على اللغةِ التي نَزَلَ بها القرآنُ وهي لغةُ أهل الحجازِ استحْسانًا لمشَابَهتِها لـ "ليس " وذهبَ بعضُ الكوفيينَ، وابنُ درستويه إلى أنَّ "ما" مع هذهِ الحروفِ اسمٌ مبهمٌ بمنزلةِ ضميرِ الشأنِ في التفخيم والإبهامِ وفي أنَّ الجملةَ بعدَهُ مفسرةٌ له ومخبَرٌ بها عنْهُ، وذهبتْ طائفةٌ من الأصوليينَ وأهلِ البيانِ إلى أن "ما" هذه نافيةٌ واستدلُّوا بذلكَ على إفادتِها الحصرَ. وأنَّ "إن" أفادت الإثباتَ في المذكورِ، و"ما" النفيَ فيما عداهُ وهذا باطلٌ باتفاقِ أهلِ المعرفةِ باللسانِ فإنَّ "إن" إنما تفيدُ توكيدَ الكلامِ إثباتًا كان أو نفيًا لا يفيدُ الإثباتَ. و"ما" زائدةٌ كافة لا نافيةٌ وهي الداخلةُ على سائر أخواتِ إنَّ: لكنَّ وكأنَ وليتَ ولعلَّ، وليستْ في دخولها على هذه الحروفِ نافيةً بالاتفاقِ فكذلكَ الداخلةُ على إنَّ وأنَّ، وقد نُسِبَ القولُ بأنها نافيةٌ إلى أبي علي الفارسي لقولِهِ في كتابِ "الشيرازيات ": إنَّ العربَ عاملُوا "إنما" معاملةَ النفيِّ و"إلا" في فصلِ الضميرِ لقولِهِ: "وإنَّما يدافعُ عن أحسابِهِم أنا أوْ مِثْلِي ".

وهذا لا يدل على أنَّ "ما" نافيةٌ على ما لا يخفَى وإنَما مرادُه أنَّهم أجرَوا "إنما" مَجْرى النفي و"إلاَّ" في هذا الحكم لما فيها معنى النفى ولم يصرِّحْ بأنَّ النفيَ مستفادٌ منْ "ما" وحْدَهَا، وقيلَ: إنه لا يمتنعُ أنْ يكون "ما" في هذه الآيةِ بمعنى الذي والعلماءُ خبرٌ والعائدُ مستترٌ في يخشى. وأُطلقتْ "ما" على جماعةِ العقلاءِ كما في قولِهِ تعالى: (أَو ما مَلَكَت أَيْمَانُكُم) ، و (فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاءِ) . وأما دلالةُ إلا على التأكيد وهو نفيُ الخشيةِ عنْ غيرِ العلماءِ فمِنْ صيغةِ "إنَّما" أمَّا على قولِ الجمهورِ وأنَّ "ما" هي الكافةُ فيقولُ إذا دخلتْ "ما" الكافةُ على "إنَّ " أفادت الحصرَ هذا هو الصحيحُ، وقدْ حكاهُ بعضُ العلماءِ عن جمهورِ الناسِ وهو قولُ أصحابِنا كالقاضي، وابنِ عقيلٍ، والحلواني. والشيخ موفق الدين، وفخرِ الدِّين إسماعيلَ بنِ علي صاحبِ ابن المِنّي، وهوَ قولُ أكثرِ الشافعية كأبي حامدٍ وأبي الطيب، والغزالي والهرَّاسي، وقولُ طائفةٍ من الحنفيةِ كالجرجاني، وكثيرٌ من المتكلمينَ كالقاضي أبي بكرٍ، وغيرِهِ، وكثيرٌ من النحاةِ وغيرِهِم، بلْ قدْ حكاهُ أبو علي فيما ذكرَهُ الرازيُّ عن النحاةِ جملةً، ولكن اختلفُوا في دلالتها على النفي هلْ هُوَ بطريقِ المنطوقِ، أو بطريقِ المفهوم؟ فقال كثيرٌ من أصحابِنا، كالقاضي في أحدِ قوليه وصاحبُ ابنِ المنّي والشيخُ موفَّقُ الدِّين: إنَّ دلالَتَها على النفي بالمنطوقِ كالاستثناءِ سواء وهو قولُ أبي حامد، وأبي الطيب منَ الشافعية، والجرجاني من الحنفية. وذهبتْ طائفةٌ من أصحابِنا كالقاضِي في قولِهِ الآخرِ وابنِ عقيلٍ والحلواني. إلى أنَّ دلالتها على النفي بطريقِ المفهومِ وهُوَ قولُ كثيرٍ من الحنفيةِ،

والمتكلمينَ، واختلفُوا أيْضًا هلْ دلالتُها على النفي بطريقِ النَّصِ، أو الظاهر. فقالتْ طائفة: إنَّما تدلُّ على الحصرِ ظاهِرًا، أو يحتملُ التأكيد، وهذا الذي حكاهُ الآمديُّ عن القاضي أبي بكرٍ، والغزاليِّ، والهرَّاسيِّ، وغيرِهم من الفقهاء وهُوَ يشبهُ قولَ من يقولُ إنَّ دلالتَها بطريقِ المفهومِ فإنَّ أكثرَ دلالاتِ المفهومِ بطريقِ الظاهرِ لا النَّص، وظاهرُ كلامِ كثيرٍ من أصحابنا وغيرِهِم، أنَ دلالتَها على النَّفي والإثباتِ كليهما بطريقِ النَّصِ لأنَّهم جعلُوا "إنَّما" كالمسْتَثْنى والمستثنى منه سواء وعندهم أنَ الاستثناءَ منَ الإثباتِ نفْيٌ ومنَ النفي إثْباتٌ، نصًّا لا محلاً. وأمَّا من قالَ: إنَّ الاستثناءَ ليسَ لإثباتِ النقيضِ بَلْ لرفع الحكْمِ إما مطلقًا أوْ في الاستثناءِ منَ الإثباتِ وحده كما يُذكرُ عن الحنفيةِ وجعلُوه من بابِ المفهومِ الذي ينفونَهُ، فهُوَ يقولُ ذلكَ في "إنَّما" بطريقِ الأوْلَى فظَهَرَ بهذا أنَّ المخالف في إفادَتِهَا الحصرَ هوَ من القائلينَ بأنَّ دلالتَها على النفيِّ بالمفهومِ وهم قسمان: أحدهما: مَنْ لا يَرى كونَ المفهومِ حُجَّةً بالكليةِ كالحنفيةِ، ومَنْ وافقَهُم منَ المتكلمينَ. والثاني: مَنْ يراهُ حجةً من الجملةِ، ولكنْ ينفيه هَاهُنا لقيامِ الدليلِ عندَهُ على أنَّه لا مفهومَ لها، واختارَهُ بعضُ المتأخرينَ منْ أصحابِنا، وغيرِهم، وبيانُ ذلكَ أنَّ "إنَّما" مركبةٌ منْ "إنَّ " المؤكدةِ و"ما" الزائدةِ الكافةِ فيُستفادُ التوكيدُ منْ "إنَّ " والزائدُ لا معنى له نعم أكثرُ ما يُقالُ "إنَّ " تفيدُ تقويةَ التوكيدِ كما في الباءِ الزائدةِ ونحوها، فأمَّا أنْ يُحدِثَ معنًى آخرَ فلا، وقد يعدم بيان بطلانِ

قولِ منْ ادَّعى أنَّ "ما" نافية وأنَّ النفيَ فيمَا عدا المذكورِ مُستفادٌ منها. وأيضًا فورودُها لغيرِ الحصرِ كثيرٌ جدًّا كقولهِ تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) . وقولِ النبي - صلى الله عليه وسلم - "إنما الرِّبا في النسيئة" وقولِهِ: "إنَّما الشهرُ تِسعٌ وعشرونَ " وغيرِ ذلكَ منَ النصوصِ ويُقالُ: "إَنَّما العالِمُ زيد" ومثلُ هذا لو أُريدَ به الحصرُ لكانَ هذا. وقد يُقالُ: إن أغلبَ مواردِهَا لا تكونُ فيها للحصرِ فإنَّ قولَهَ تعالى: (إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ) لا تفيدُ الحصرَ مُطْلقًا فإنَّه سبحانَهُ وتعالَى لهُ أسماءٌ وصفاتٌ كثيرةٌ غيرَ توحُّدِهِ بالإلهيةِ، وكذلك قولُهُ: (قُل إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ) . فإنَّه لم ينحصر الوحيُ إليه في هذا وحده. وكذلكَ قوله: (إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ) ومثلُ هذا كثيرٌ جدًّا وممَّا يبيّنُ عدمَ إفادتِها للحصرِ قولُه - صلى الله عليه وسلم -: "ما مِنْ نبي من الأنبياءِ إلا قد أوتيَ منَ الآياتِ ما آمنَ على مثلِهِ البشرُ، وإنَّما كان الذي أوتيتُهُ وحيًا أوحاهُ اللَهُ إليَّ. فأرجُو أنْ أكونَ أكثرُهُم تابِعًا يومَ القيامةِ" فلَوْ كانتْ "إنَّما" للحصرِ لبَطَلَتْ أنْ تكونَ سائرُ آياتِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ومعجزاتِهِ سوى القرآنِ آياتٍ لهُ تدلُّ على صدقِهِ لاعْترافِهِ بنَفْي ذلكَ وهذا باطلٌ قطْعًا فدلَّ على أنَّ "إنَما" لا تفيدُ الحصرَ في مثلِ هذا الكلامِ وشبهِهِ. والصوابُ: أنَّها تدلُّ على الحصرِ، ودلالَتها عليه معلومٌ بالاضطرارِ منْ لغةِ العربِ، كما يُعلمُ منْ لغتِهِم بالاضطرارِ معانِي حروفِ الشرطِ والاسْتفهامِ

والنفىِ والنَّهْي وغيرِ ذلكَ ولهذا يَتواردُ "إنَّما" وحروفُ الشرطِ والاستفهامُ والنَّفْيُ الاستثناء كما في قولِهِ تعالى: (إِنَّمَا تجْزَوْنَ مَا كنتُمْ تَعْمَلُونَ) . وقوله: (إِنَّمَا إِلهكم إِلَهٌ وَاحِدٌ) . وقوله: (إِنَّمَا اللَّه إِلَهٌ وَاحِدٌ) (إِنَّمَا إِلَهكمْ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ) . فإنه كقولِهِ: (وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ اللَّهُ) . وقولِهِ: (مَا لَكُم مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ) ، ونحوِ ذلكَ. ولهذا كانتْ كُلُّها واردةً في سياقِ نفْي الشركِ وإبطالِ إلهيةِ سوى اللَّهِ سبحانَهُ، وأمَّا أنَّها مركبةٌ من "إنَّ " و"ما" الكافةِ فمُسلَّم، ولكنَّ قولَهُم إنَّ "ما" الكافةَ أكثرُ ما تفيدُهُ قوةُ التوكيدِ لا تُثْبتُ مَعْنى زائدًا، يجابُ عنهُ من وجوه: أحدها: أنَّ "ما" الكافةَ قدْ تُثبتُ بدخولِهَا على الحروفِ معْنىً زائِدًا، وقدْ ذكرَ ابنُ مالك أنَها إذا دَخَلتْ على الباءِ أحدَثَتْ معنى التقليلِ، كقولِ الشاعرِ: فالآن صِرْتَ لا تَحِيدُ جَوَابًا. . . بما قدْ يُرى وأنتَ حَطِيبُ قالَ: وكذلك تُحدِثُ في "الكافِ " معْنَى التعْليلِ، في نحوِ قولِهِ تعالى: (وَاذْكُرُوهُ كمَا هَدَاكمْ) ، ولكِنْ قد نُوزِعَ في ذلك وادَّعى أنَّ "الباءَ" و"الكافَ " للسببيةِ، وأنَّ "الكافَ " بمجردِهَا تفيدُ التعليلَ. والثاني: أن يُقالَ: لا ريبَ أنَّ "إنَّ " تفيدُ توكيدَ الكلامِ، و"ما" الزائِدةُ تُقوِّي هذا التوكيدَ وتثبتُ مَعْنى الكلامِ فتفيدُ ثبوتَ ذلكَ المعْنى المذكورِ في اللفظِ خاصةً ثبوتًا لا يشاركه فيه غيرُهُ واختصَاصُهُ به، وهَذا منْ نوع التوكيدِ والثبوتِ ليسَ معنىً آخرَ مغايرًا لهُ وهوَ الحصرُ المدَّعى ثبوتُهُ بدخولِ "ما" يخرجُ عنْ إفادةِ قوَّةِ معنى التوكيدِ وليسَ ذلكَ بمُنْكرٍ إذ المستنكرُ ثبوتُ مَعْنى آخرَ بدخولِ الحرفِ الزائدِ منْ غيرِ جنسِ ما يُفيدُهُ الحرفُ الأوَّلُ.

الوجه الثالث: أنَّ "إن" المكفوفةُ "بما" استُعْملتْ في الحصرِ فصارتْ حقيقةً عرفيَّةً فيه، واللفظُ يصيرُ لَهُ بالاسْتعمالِ مَعْنى غيرَ مَا كانَ يقْتضِيهِ أصلُ الوضع، وهكذا يُقالُ في الاستثناءِ فإنَه وإنْ كانَ في الأصلِ للإخراج منَ الحكْم لكنْ صارَ حقيقة عرفيةً في مناقضةِ المستَثْنى فيه، وهذا شبية بنقلِ اللفظِ عنِ المعنى الخاصِ إلى العامِ إذا صارَ حقيقة عرفيةً فيه لِقَوْلِهِم "لا أشربُ له شربةَ ماءٍ" ونحوِ ذلكَ، ولنقلِ الأمثالِ السائرةِ ونحوِهَا مما ليسَ هذا موضعُ بَسْطِهِ، وهذا الجوابُ ذكرَهُ أبو العباسِ ابنِ تيميةَ في بعضِ كلامِهِ القديمِ وهُوَ يقْتضِي أنَّ دلالةَ "إنَّما" على الحصرِ إنَّما هوَ بطريقِ العُرفِ والاستعمالِ لا بأصلِ وضعْ اللغةِ، وهو قولٌ حكاهُ غيرُهُ في المسألةِ. وأمَّا قولُه تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ) . وقولُهُ - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّما الربا في النسيئةِ"، و"إنَّما الشهرُ تِسع وعشرونَ " وقولُهُم: "إنَّما العالِمُ زيد" ونحوُ ذلك، فيُقالَ: معلومٌ منْ كلامِ العربِ أنَّهم ينفونَ الشيءَ في صِيغ الحصْرِ وغيرِهَا تارةً لانتفاءِ ذاتِهِ وتارةً لانتفاءِ فائدتِهِ ومقصودِهِ، ويحصرونَ الشيءَ في غيرِه تارةً لانحصارِ جميع الجنسِ فيه وتارةً لانحصارِ المفيدِ أو الكاملِ فيه، ثمَّ إنهم تارة يعيدونَ النفيَ إلى المسمَّى وتارةً إلى الاسم وإنْ كان ثابِتًا في اللغةِ إذا كان المقصودُ الحقيقيُّ بالاسْم منتَفِئا عنه ثابِتًا لغير لقولِهِ تعالى: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْء حَتَّى تُقِيمُوا التَوْرَاةَ وَالاٍنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبكمْ) ، فنَفَى عنهُم مسمَّى الشيءِ معَ أنَّه في الأصلِ شامل لكلِّ موجودٍ مِنْ حق وباطلٍ كما كانَ ما لا يفيدُ ولا منفعةَ فيه يَؤُولُ إلى الباطلِ الذي هو العدمُ فيصيرُ بمنزلةِ المعدومِ بلْ قدْ يكونُ أولَى بالعدمِ منْ المعدَمِ المستمرِ عدمُهُ لأنَه قدْ يكونُ فيه ضررٌ فجنْ قال الكذبَ فلم يَقُل شيئًا

ولم يعملْ ما ينفعُهُ بلْ ما يضرُّه، ولهذا لمَّا سُئِلَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - عن الكفارِ فقالَ: "ليسُوا بشيء". ويقولُ أهلُ الحديثِ عنْ بعض الرواةِ المجروحينِ والأحاديثِ الواهيةِ: "ليسَ بشيءٍ " إذا لم يكنْ مما يُنتفعُ بِهِ في الروايةِ لظهورِ كذبِهِ عمْدًا أوْ خطأ، ويقال أيضًا لمن خرجَ عنْ موجب الإنسانيةِ في الأخلاقِ ونحوِهَا: هذا ليسَ بآدميّ ولا إنسانٍ وما فيه إنسانية، ومنه قولُ النِّسوَةِ في يوسفَ عليه السلامُ: (مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ) . وكَذلكَ قولُ اللَّهِ تعالى: (فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) . وقولُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - "ليس المسكينُ بهذا الطوَّافُ الذي تردُّه اللقمةُ واللقْمتانِ والتمرةُ والتمرتانِ إنَّما المسكينُ الذي لا يجد ما يُغنيه ولا يُفْطَنُ له فيُتصدَّقُ عليه ولا يسْألُ الناسَ إلحافًا" وكذلك قال: "ما تعدُّونَ المفلِسَ فيكُم؟ " قالُوا: الذي لا دِرهَم له ولا دِينار قالَ: "ليس ذلكَ بالمفلِسِ، ولكنَّ المفلِسَ من يأتِي يومَ القيامةِ بحسناتٍ أمثالِ الجبالِ ويجيءُ وقد شتمَ هذا وضَرَبَ هذا وأخذَ مالَ هذا فيأخُذُ هذا منْ حسناتِهِ وهذا منْ حسَنَاتِهِ فإذا لم يتبقَّ لَهُ حسنةٌ أُخِذَ منْ سيئاتِهِم فَطُرِحَتْ عليه ثُمَّ ألقي في النارِ" وقالَ: "ما تعُدُّون الرقوبَ فيكُم؟ " قالُوا: الرقوبُ منْ لا يُولدُ لهُ. قال: "الرقوبُ منْ لم يُقدِّم منْ ولدِهِ شيئا". وكذلك قولُهُ - صلى الله عليه وسلم -: "ليسَ الشديد بالصُّرعةِ ولكنَّ الشديدَ الذي يملكُ نفسَهُ عندَ الغضبِ " وقولُهُ - صلى الله عليه وسلم -: "ليسَ الغِنَى عن كثْرةِ العَرَضِ وإنَّما الغِنَى غِنَى النفْسِ".

وأمثال ذلك، فهذا كلُّه نفيٌ لحقيقةِ الاسم منْ جهَةِ المُضِيِّ الذي يجب اعتبارُه، فإنَّ اسمَ الرقوبِ والمفلسِ والغني والشديد ونحوِ ذلك إنَّما يتعارفُه الناسُ فيمنْ عَدِمَ مالَهُ وولدَهُ أوْ حصلَ له مال أو قوَّةٌ في بدنِهِ، والنفوسُ تجزعُ من الأوَّلَيْن وترغب في الآخرَيْنِ، فيعتقدُ أنَّه هو المستحقُّ لهذا الاسم دونَ غير فبين - صلى الله عليه وسلم - أنَّ حقيقةَ ذلك المعْنَى ثابتةٌ لغير هذا المتوهمِ على وجْهٍ ينبغي بعلو الاعتقاد والقصدِ بذلكَ الغيرِ فإن مَنْ عدِمَ المال والولدَ يومَ القيامةِ حيثُ يضرُ عدمُهُ أحقُّ باسم المفلس والرقوبِ ممن يُعدمهُمَا حيثُ قدْ لا يتضرر بذلكَ تضررًا معتبرًا ولذلك وجودُ غِنى النفسِ وقوتِها أحقُّ بالمدح والطلبِ منْ قوَّةِ البدنِ وغِنَى المال وهكذا قولُه - صلى الله عليه وسلم -: " إنَّما الرِّبا في النسيئةِ" أوْ لا "رِبَا إلا في النسيئة". فإنَّ الرِّبا العام الشاملُ للجنسينِ، والجنسُ الواحدُ المتفقةُ صفاتُهُ إنَّما يكونُ في النسيئةِ وأمَّا رِبَا الفضلِ فلا يكونُ إلا في الجنسِ الواحدِ ولا يفعلُهُ أحدٌ إلا إذا اختلفت الصفاتُ، كالمضروب بالتِّبْرِ، والجيدِ بالرديءِ، فأمَّا مع استواءِ الصفاتِ فلا يبيعُ أحد دِرْهمًا بدرهمينِ، وأيضًا فرِبَا الفضلِ إنَّما حُرِّم لأنه ذريعةٌ إلى رِبا النسيئة كما في "المسند" عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "لاتبيعُوا الدرهمَ بالدرهمينِ، إنِّي أخافُ عليكُمُ الرِّبا". فالربا المقصود بالقصد الأول هُوَ رِبَا النسيئةِ، فإذا بِيعَ مائة بمائةٍ وعشرينَ مع اتَفاقِ الصفاتِ ظهرتْ أن الزيادةَ قابلتِ الأجلَ الذي لا منفعة فيه وإنَّما دخل فيه للحاجة، ولهذا لا يضمنُ الآجال باليد فلو بقيت العينُ في يَده، أو المال في ذمتِهِ مدةً لم يضمن الأجلَ بخلافِ زيادةِ الصفةِ، فإنَها مضمونةٌ في الإتلافِ والغصْبِ وفي المبيع إذا قابلتْ غيرَ الجنسِ، فلهذا قِيلَ: إنَّما الرِّبا في

النَّسيئةِ ولا رِبَا إلا في النسيئةِ، فإنَّ المستحقَّ لاسم الرِّبا في الحقيقةِ هو رِبَا النسيئةِ ولذلكَ نَفى الأسماءَ الشرعيةَ لانتفاءِ بعضِ واجباتِهَا لقولِهِ: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ..) إلى قوله: (أولَئِكَ هُمُ المؤْمِنُونَ حَقًّا) ، وهؤلاءِ همُ المستحقونَ لهذا الاسم على الحقيقةِ الواجبةِ دون منْ أخلَّ بشيءٍ من واجباتِ الإيمانِ والإسلامِ عمن انتفَى عنهُ بعض واجباتِهما لقولِهِ: "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن " الحديث. وقولِهِ: "المسلم منْ سلِم المسلمونَ من لسانِهِ ويدِهِ، والمهاجرُ من هَجَرَ ما نهى الله عنه" وقولِه: "المؤمن من أمنَهُ الناس على دمائهِم وأموالِهِم، والمجاهدُ من جاهدَ نفسَهُ في ذاتِ اللَّهِ ". ومثلُ هذا كثير، وكذلك قولُهُ - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّما الشهرُ تِسع وعشرون " فإنَّ هذا هو عددُ الشَّهرِ اللازمِ الدائم، واليومُ الزائدُ على ذلكَ أمر جائز يكون في بعضِ الشهورِ ولا يكونُ في بعضِها، بخلافِ التسعةِ والعشرين، فإنَّه يجبُ عددُها واعتبارُها بكلِّ حال، وهذا كما يُقال: الإسلامُ شهادةُ أن لا إله إلا اللَّهُ وأنَّ محمدًا رسولُ اللَّهِ. َ فهذا هو الذي لا بدَّ منه، وما زاد على ذلك فقدْ يجبُ على الإنسانِ، وقد يموتُ قبلَ التمكنِ، فلا يكونُ الإسلامُ في حقِّه إلا ما تكلَّمَ به، وحاصلُ الأمرِ أن الكلامَ الخبريَّ هو إمَّا إثباث أو نفيٌ فكما أنهم في الإثباتِ يثبتونَ - للشيءِ اسمَ الشيءِ إذا حصلَ فيه مقصودُ الاسم وإن انتفتْ صورةُ المسمَّى، فكذلكَ

في النَّفي، فإنَّ أدواتِ النَّفي تدل على انتفاءِ الاسمِ بانتفاءِ مسمَّاه فذلك، تارةً لأنه لم يُوجدْ أصلاً، وتارةً لأنه لم توجدِ الحقيقةُ المقصودةُ بالمسمَّى، وتارةً لأنه لم تكنْ تلكَ الحقيقةُ، وتارةً لأن ذلك المسمَّى مما لا ينبغي أنْ يكونَ مقصودًا بل المقصودُ غيرُه، وتارةً لأسبابٍ أُخرَ وهذا كلُّه إنَّما يظهرُ من سياقِ الكلامِ وما اقترنَ به من القرائنِ اللفظية التي لا تخرجُهُ عن كونِهِ حقيقةً عندَ الجمهورِ ولكونِ المركبِ قد صارَ موضوعًا لذلكَ المعْنى، أوْ مِنَ القرائنِ الحاليةِ التي تجعلُه مجازًا عند الجمهور، وأمَّا إذا أطلقَ الكلامُ مجرَّدًا عن القرينتينِ فمعناهُ السلبُ المطلقُ وهوَ أكثرُ الكلامِ وهذا الجوابُ ملَّخصٌ من كلامِ شيخ الإسلام أبي العباسِ ابن تيمية - رحمه اللَّه. وأما قولُهُ تعالى: (إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ) ، وقولُهُ: (إِنَّمَا أًنتَ مُنذِرٌ) . ونحو ذلك، فالجواب عنهُ أن يُقال: الحصر تارةً يكونُ عامًا كقولِهِ: (إِنَّمَا إِلَهُكمْ اللَّه الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ) ، ونحوِ ذلك. وتارةً يكونُ خاصًّا بما يدل عليه سياقُ الكلامِ فليسَ الحصرُ أن ينفيَ عن الأوَّل كل ما سوى الثاني مطلقًا، بلْ قد ينْفِي عنه ما يُتوهَمُ أنه ثابتٌ لهُ مِنْ ذلك النوع الذي أثبتَ له في الكلامِ. فقولُه: (إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ) ، فيه نفيُ تعددِ الإلهيّةِ في حقِّه سبحانَهُ وأنَّه لا إله غيره، ليسَ المرادُ أنه لا صفةَ له سوى وحدانيةِ الإلهيةِ. وكذلك قولُهُ: (إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ) . فإنَّ المراد به أنه لم يُوحَ إليَّ في أمرِ الإلهيةِ إلا التوحيدَ لا الإشراكَ. والعجبُ أن أبا حيَّان الأندلسيّ أنكر على الزمخشريّ ادعاءَه الحصرَ في هذه الآيةِ لاستلزامهِ عندَهُ أنَّه لم يوحَ إليه غيرَ التوحيدِ، قال: لأنَّ الحصرَ إنما

يلقى من جهة: "أنما" المفتوحةِ الهمزةِ، قالَ: ولا يُعرفُ القولُ بإفادتها الحصرَ إلا عندَ الزمخشريِّ وحده. وردَّ ذلك عليه شيخُنا أبو محمدٍ بنِ هشامٍ بناءً على أنَّ (أنَّ) المفتوحةَ فرع عن "إن " المكسورةِ على الصحيح، قال: ولهذا صحَّ للزمخشريِّ أن يدَّعي أنها تفيدُ الحصرَ "إنَّما" انتهى. وهذا كلُّه لا حاجةَ إليه في هذه الآيةِ فإنَّ الحصرَ مستفاد فيها مِنْ "إنما" المكسورةِ التي في أولِ الآيةِ فلو فرض أن "أنما" المفتوحةَ لا تفيد الحصرَ لم ينتفِ بذلكَ الحصرُ في الآيةِ على ما لا يخْفى، وكذلكَ قولُهُ تعالى: (إِنَّمَا أَنتَ مُنذِر) ، أي لستَ ربًّا لهم ولا مُجازِيًا ولا محاسِبًا، وليسَ عليكَ أن تجبرَهُم على الإيمانِ، ولا أن تتكلفَ لهم طلبَ الآياتِ التي يقترحونَها عليكَ (إِنَّمَا أَنتَ مُنذِر) ، فليسَ عليكَ إلا الإنذارُ، كما قال: (فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ) وقالَ: (فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (22) . ومنْ هَا هُنا يظهرُ الجوابُ عن قولِه: "إنما كان الذي أوتيتُه وحيًا أوحاهُ اللَّهُ إليَّ " فإنَّه قالَ: "ما مِنْ نبى إلا وقد أوتي من الَآياتِ ما آمنَ على مثلِهِ البشرُ، وإنَّما كانَ الذي أوتيتُه وحيًا أوحاهُ اللَهُ إليَّ، فأرجُو أنْ أكونَ أكثرُهم تابعًا يومَ القيامةِ" فالكلامُ إنما سِيقَ لبيانِ آياتِ الأنبياء العظامِ الذي آمن لهم بسببها الخَلْقُ الكثيرُ، ومعلومٌ أن أعظمَ آياتِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - التي آمن عليها أكثرُ أُمَّتِهِ هي الوحيُ وهوَ الذي كان يدعو به الخلقَ كلَّهم، ومنْ أسلمَ في حياتِهِ خوفًا فأكثرُهم دخلَ الإيمانُ في قلبهِ بعد ذلك بسببِ سماع الوحي لمسلمي الفتح وغيرِهِم، فالنفيُ توجه إلى

أنه لم تكنْ آياتُهُ التي أوجبتْ إسلامَ الخلقِ الكثيرِ من جنسِ ما كانِ لمن قبله مثلَ ناقةِ صالح وعصا موسى ويدِهِ وإبراءِ المسيح الأكمه والأبرصَ وإحياءِ الموتى ونحو ذلك، فإنَّ هذه أعظمَ آياتِ الأنبياءِ قبلَه وبها آمن البشرُ لهم. وأمَّا آيتُه هو - صلى الله عليه وسلم - التي آمنَ البشرُ عليها في حياتِهِ وبعدَ وفاتِهِ فهيَ الوحيُ التي أُوحِي إليه وهيَ التي توجبُ إيمانَ البشرِ إلى يومِ القيامةِ كما قال تعالى: (وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقرْآن لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ) . ولهذا قيل: إنَّ آياتِ الأنبياءِ انقطعتْ بموتِهِم وآياتِهِ - صلى الله عليه وسلم - باقيةً إلى يومِ القيامةِ، ومما يبيِّن أنَّ الحصرَ لم ينتفِ عنْ "إنَّما" في شيء من هذه الأنواع التي توهمُوها، أنَّ الحصرَ قد جاءَ فيها وفي مثلِها بِإلاَّ كما جاء بـ "إنَّما" فإنه جاء "لا ربا إلا في النسيئة" كما جاء "إنما الربا في النسيئة" وجاءَ في القرآن (وَمَا محَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُل) . كما جاء: (إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ) وكذلك قوله: (مَا الْمَسِيحُ ابْن مَرْيَمَ إِلاَّ رَسولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ) . ومثلُ ذلك كثير فهذا وجهُ إفادتِهَا الحصر في هذهِ الآيةِ على القولِ المشهور وهو "إنما" في قولِهِ: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ) ، هي الكافةُ. وأما على قولِ منْ جعلَهَا موصولةً فتفيدُ الحصرَ منْ جهةٍ أُخرى وهو أنَّها إذا كانتْ موصولةً فتقديرُ الكلامِ "إن الذين يخشون الله هم العلماء" وهذا أيضًا يفيدُ الحصرَ" فإنَّ الموصولَ يقتضي العمومَ لتعريفِهِ، وإذا كان عامًّا لزمَ أنْ يكونَ خبرُهُ عامًّا أيضًا لئلا يكونَ الخبرُ أخصَّ من المبتدأ، وهذا النوعُ من الحصرِ يسمَّى حصرَ المبتدأ في الخبرِ، ومتى كان المبتدأ عامًّا فلا ريبَ إفادتهُ الحصرَ، وأمَّا دلالة الآيةِ على الثالثِ، وهو نفي العلم من غيرِ أهلِ الخشيةِ. فمن جهةِ الحصرِ أيضا فإنَّ الحصرَ المعروفَ المطردَ فهو حصرُ الأولِ في الثاني،

وهو هَاهُنا حصرُ الخشيةِ في العلماءِ، وأما حصرُ الثاني في الأولِ فقد ذكره الشيخُ أبو العباسِ ابنِ تيمية - رحمه الله - وأنه قدْ يكونُ مرادًا أيضًا فيصيرُ الحصرُ من الطرفينِ ويكونانِ متلازمينِ، ومثلُ ذلك كقولِهِ: (إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتَبَعَ الذكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ) ، و (إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (15) تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ) . قالَ: وكذلك الحصرُ في هذه الآيةِ أعني قولِهِ: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ) فتقتضي أنَّ كلَّ من خشيَ اللَّهَ فهو عالِم، وتقتضي أيضًا أنَّ العالِمَ منْ يخشى اللَّهَ، وبيانُ الحصرِ الذي ذكره الشيخُ - رحمه اللَّه - في هذهِ الآياتِ أنَّ قولَه: (إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ) فيه الحصرُ من الطرفينِ، فإن اقتضى أن إنذارَهُ مختصٌّ بمن اتبع الذكر وخشيَ الرحمنَ بالغيبِ فإن هذا هو المختصُّ بقبولِ الإنذارِ، والانتفاع به فلذلك نفَى الإنذارَ عن غيرِهِ، والقرآنُ مملوء بأنَّ الإنذارَ إنما هو للعاقلِ له خاصةً، ويقتضي أنه لا يتبعُ الذكرَ ويخشى الرحمنَ بالغيبِ إلا منْ أنذره أيْ مَنْ قَبِلَ إنذارَهُ وانتفعَ به فإنَّ اتباعَ الذكرِ، وخشيةَ الرحمنِ بالغيبِ مختصة بمن قَبِلَ الإنذارَ كما يختصُ قبولُ الإنذارِ والانتفاعُ بأهلِ الخشيةِ واتباع الذكرِ. وكذلك قولُه: (إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَاهَا) . وقولُه: (إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا) الآية. فإن انحصارَ الإنذارِ في أهلِ الخشيةِ، كانحصارِ أهلِ الخشيةِ في أهلِ الإنذارِ، والذين خرُّوا سجدًا في أهل الإيمانِ ونحوِ ذلك فكذلكَ قولُه: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ) وقد فسَّرها السلفُ بذلك أيضًا كما سنذكرُهُ - إن شاءَ اللَّهُ تعالى - ونذكرُ شواهدَهُ.

وهَاهُنا نكتةٌ حسنةٌ، وهيَ أنَّ قولَهُ تعالى: (إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ) قد عُلِمَ أنه يقتضي ثبوتَ الخشيةِ للعلماءِ للرهطِ (1) يقتضِي ثبوتَها لجنسِ العلماءِ، كما يُقال: إنما يحج المسلمونَ، أو: لا يحج إلا مسلم. فيقتضي ثبوتَ الحجِّ لجنسِ المسلمينَ لا لكلِّ فرد فردٍْ منهم أو يقتضي ثبوتَ الخشيةِ لكلِّ واحدٍ من العلماءِ، هذا الثاني هو الصَّحَيحُ وتقريرُه من جهتين: الجهة الأولى: أن الحصرَ هَاهُنا من الطرفينِ، حصرُ الأول في الثاني وحصرُ الثاني في الأول، كما تقدَّم بيانُه، فحصْرُ الخشيةِ في العلماءِ يفيدُ أنَّ كلَّ من خشيَ اللَّهَ فهو عالِمٌ وإنْ لم يُفِدْ لمجردِهِ أنَّ كلَّ عالِم فهو يخشى اللَّهَ وتفيدُ أنَّ من لا يخشى فليسَ بعالم، وحصْرُ العلماءِ في أهلِ الخشيةِ يفيدُ أنَّ كلَّ عالِم فهو خاشٍ، فاجتمعَ من مجموع الحصرينِ ثبوتُ الخشيةِ لكلِّ فردٍ من أفرادِ العلماء. والجهة الثانية: أن المحصورَ هلْ هوَ مقتضٍ للمحصورِ فيه أوْ هوَ شرطٌ له؟ قال الشيخُ أبو العباس - رحمه اللَّه -: وفي هذه الآيةِ وأمثالها هو مقتضٍ فهو عامٌّ فإنَّ العلمَ بما أنذرتْ به الرسلُ يوجبُ الخوفَ، ومرادُه بالمقتَضي - العلة المقتضيةَ - وهي التي يتوقفُ تأثيرُها على وجودِ شروط وانتفاءِ موانعَ كأسبابِ الوعدِ والوعيدِ ونحوِهما فإنها مقتضياتٌ وهي عامةٌ، ومرادُهُ بالشرطِ ما يتوقفُ تأثيرُ السببِ عليه بعدَ وجودِ السببِ وهو الذي يلزمُ من عدمِهِ عدمُ المشروطِ ولا يلزمُ من وجودِهِ وجودُ المشروطِ، كالإسلامِ بالنسبةِ إلى الحجِّ. والمانعُ بخلافِ الشرطِ، وهوَ ما يلزمُ من وجودِهِ العدمُ ولا يلزمُ من عدمه الوجودُ وهذا الفرقُ بين السببِ والشرطِ وعدمِ المانِع إنَّما يتمُ على قولِ من

_ (1) في الأصل [للرهطِ] ولعل الصواب ما أثبتناه. (مصحح النسخة الألكترونية) قال محقق الكتاب: ولعل الصواب: "للرب فهل".

يُجوِّزُ تخصيصَ العلةِ وأما من لا يُسمِّي علةً إلا ما استلزمَ الحكمَ ولزمَ من وجودِها وجودُه على كلِّ حال، فهؤلاءِ عندهم الشرطُ وعدمُ المانع من جملةِ أجزاءِ العلةِ، والمقصودُ هنا أنَّ العلمَ إذا كان سببًا مقتضيًا للخشيةِ كان ثبوتُ الخشيةِ عامًا لجميع أفرادِ العلماءِ لا يتخلفُ إلا لوجودِ مانع ونحوهِ. وقد تقدَّم بيانُ دلالةِ الآية على أنَّ منْ خَشِي اللَّهَ وأطاعه وامتثل أوامره واجتنب نواهيه فهو عالِم لأنه لا يخشاه إلا عالِمٌ، وعلى نفي الخشيةِ عن غيرِ العلماءِ، ونفي العلْم عن غير أولي الخشيةِ أيضًا، وأنَّ من لم يخشَ اللَّهَ فليسَ بعالِم وبذلك فسَّرها السلفُ. فعنِ ابنِ عباس قال: "يريدُ: إنما يخافُني مِنْ خلقِي مَنْ عَلِمَ جبروتِي وعزَّتي وجَلالِي وسلْطَاني ". وعنْ مجاهدٍ والشعبيِّ: "العالِمُ من خافَ اللَّهَ ". وعن ابنِ مسعودٍ قال: "كفى بخشيةِ اللَّهِ علمًا وكفَى بالاغترارِ باللَّهِ جهلاً". وذكرَ ابنُ أبي الدنيا عن عطاءٍ الخراسانيِّ في هذه الآيةِ: "العلماءُ باللَّهِ الذين يخافونَهُ ". وعن الربيع بنِ أنسٍ في هذه الآيةِ قال: منْ لم يخشَ اللَّهَ فليسَ بعالمٍ. ألا ترى أنَّ داود قال: ذلكَ بأنَّك جعلتَ العلمَ خشيتَكَ، والحكمةَ والإيمانَ بك وما عَلِمَ منْ لم يخشَكَ وما حكم من لم يؤمنْ بك. وعن الربيع عن أبي العاليةِ في قولِهِ تعالى: (يؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ) . قال: "الحكمةُ الخشيةُ فإنَّ خشيةَ اللَّهِ رأسُ كلِّ حكمةٍ".

وروى الدارميُّ من طريقِ عكرمة عن ابنِ عباسٍ: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ) قال: "مَنْ خشيَ اللَّهَ فهو عالِمٌ ". وعن يحيى بن جعدةَ، عن عليٍّ قالَ: "يا حملةَ العلم، اعملوا به فإنَّما العالِمُ من عملَ بما علمَ فوافقَ علمُهُ عملَه، وسيكونُ أقوامٌ يحملونَ العلمَ ولا يجاوزُ تراقيهم، يخالفُ علمُهم عملَهم، وتخالفُ سريرتُهم علانيتَهم. يجلسونَ حِلَقًا فيُباهي بعضُهم بعضًا، حتَى إنَّ الرجلَ ليغضبُ على جليسِهِ أنْ يجلسَ إلى غير ويدعَهُ، أولئك لا تصعدُ أعمالُهم في مجالسِهِم تلكَ إلى اللَّه عزَّ وجلَّ ". وعن مسروقٍ قالَ: " كفى بالمرءِ علمًا أن يخشى اللَّهَ عزَّ وجل وكفى بالمرءِ جهْلاً أنْ يُعجبَ بعلمه ". وعن ابنِ عمرَ - رضي الله عنهما - قال: "لا يكونُ الرجلُ عالما حتَّى لا يحسدَ من فوقَهُ ولا يحقرَ من دونَهُ، ولا يبتغي بعلمِهِ ثمنًا". وعن أبي حازمٍ نحوه. منه قولُ الحسنِ: "إنما الفقيهُ الزاهدُ في الدُّنيا، الراغبُ في الآخرةِ، البصيرُ بدينِهِ، المداومُ على عبادةِ ربِّه ". وعن عبيدِ اللَّهِ بنِ عمرَ أنَّ عمرَ بنَ الخطابِ سألَ عبدَ اللَّهِ بنَ سلامٍ: "مَنْ أربابُ ألعلم؟ قال: الذين يعملونَ بما يعلمُونَ ". وقال رجلٌ للشعبي: أفتني أيها العالم فقال: "إنما العالمُ من يخافُ اللَّهَ ". وعن الربيع بنِ أنس عن بعضِ أصحابِهِ قال: "علامةُ العلم: خشيةُ اللَّهِ عزَ وجل ".

وسئلَ سعدُ بنُ إبراهيم -: من أفقهُ أهلِ المدينةِ؟ قال: "أتقاهم لربِّه ". وسئل الإمامُ أحمدُ عن معروفٍ، وقيلَ له: هلْ كان معه علمٌ؟ فقال: "كان معه أصلُ العلم، خشيةُ اللَّهِ عزَّ وجلّ ". ويشهد لهذا قولُه تعالى: (أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ) . وكذلك قولُهُ تعالى: (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ) . وقولُهُ: (أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) . وقولُهُ: (ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (119) . قال أبو العاليةَ: "سألتُ أصحابَ محمدٍ عن هذه الآيةِ: (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ) فقالُوا: كلُّ منْ عَصَى اللَّهَ فهو جاهلٌ، وكلُّ من تاب قبل الموتِ فقدْ تابَ من قريبٍ ". وعن قتادةَ قال: "أجمع أصحابُ رسول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - على أنَّ كلَّ من عصى ربَّه فهو جاهلٌ جهالةً، عمدًا كان أو لم يكنْ، وكلُّ من عَصَى ربَّه فهو جاهلٌ ". وقال مجاهدٌ: "منْ عمِلَ ذنبًا من شيخ أو شابٍ فهو بجهالةٍ"، وقال أيضًا: "من عصى ربَّه فهو جاهلٌ حتى ينزعَ عن معصيتِهِ "، وقال أيضًا: "من عملَ سوءًا خطأً أو إثمًا فهو جاهلٌ حتى ينزعَ منه ". وقال أيضًا هو وعطاء: "الجهالةُ: العمدُ". رواهنَّ ابنُ أبي حازمٍ وغيرُه، وقال: ورُوي عن قتادةَ،

وعمرِو بنِ مرةَ، والثوريِّ نحو ذلك. ورُوي عن مجاهدٍ، والضحاكِ، قالا: "ليسَ من جهالتِهِ أن لا يعلَمَ حلالاً ولا حرامًا، ولكن مِنْ جهالتِهِ حينَ دخلَ فيه ". وقال عكرمةُ: "الدنيا كلُّها جهالةٌ". وعن الحسنِ البصريِّ أنَه سُئلَ عنها فقال: "هم قومٌ لم يعلمُوا ما لهم مما عليهم، قيل له: أرأيتَ لو كانوا علموا؟ قال: فليخرجُوا منها فإنها جهالةٌ". ومما يبيِّنُ أنَّ العلمَ يوجبُ الخشيةَ وأنَّ فقدَهُ يستلزمُ فقْدَ الخشيةَ وجوه: إحداها: أن العلم باللَّه تعالى وما لَهُ من الأسماءِ والصفات كالكبرياءِ والعظمةِ والجبروتِ، والعزة وغيرِ ذلك يوجبُ خشيتَهُ، وعدمُ ذلك يستلزمُ فقْدَ هذه الخشيةِ، وبهذا فسَّر الآيةَ ابنُ عباسٍ، فقال: "يريدُ إنما يخافني مَنْ علِمَ جبروتِي، وعِزَتي، وجلالِي، وسلْطَاني "، ويشهدُ لهذا قولُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: "إني لأعلمكم باللَّهِ وأشدُّكم له خشيةً" وكذلك قولُهُ - صلى الله عليه وسلم -: "لو تعلمونَ ما أعلمُ لضحكتُم قليلاً ولبكيتُم كثيرًا" وفي "المسند" وكتابِ الترمذيِّ وابنِ ماجةَ منْ حديثِ أبي ذرٍّ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "إني أرَى ما لا ترونَ وأسمعُ ما لا تسمعونَ. إنَّ السماءَ أطَّتْ وحُقَّ لها أن تئِطَّ، ليسَ فيها موضعُ أربع أصابعَ إلا وملكٌ واضعٌ جبهتَهَ ساجدٌ للَّهِ - عز وجلَّ - واللَّه لو تعلمونَ ما أعلمُ لضحكتُم قليلاً ولبكيتُم كثيرًا، وما تلذذتُم بالنساءِ على الفُرشِ، ولخرجتُم إلى الصعداتِ تجأرونَ إلى الله عزَّ وجلَّ ".

وقال الترمذيُّ: حسنٌ غريبٌ. قال: ويُروى عن أبي ذرٍّ موقوفًا وذكر أبو نُعيمٍ وغيرُه بالإسنادِ عن ابنِ عباسٍ، أنه قالَ للنفرِ الذين كانوا يختصمون ويتمارون: "أو ما علمتُم أنَّ للَّه عبادًا أصمتَتْهم خشيةُ اللَّهِ من غير بكمٍ ولا عَيًّ، وإنهم لَهُمُ العلماءُ والفصحاءُ والطلقاءُ والنبلاءُ، العلماءُ بأيامِ اللَّه غيرَ أنهم إذا تذكَّروا عظمةَ اللَّهِ طاشتْ لذلكَ عقولُهم، وانكسرتْ قلوبُهم، وانقطعتْ ألسنتُهم، حتَّى إذا استفاقُوا من ذلك، تسارعُوا إلى اللَّه عزَّ وجلَّ بالأعمالِ الزكيَّةِ، يعدونَ أنفسهم مع المفرطين، وإنهم لأكياسٌ أقوياءُ مع الظالمينَ والخاطئين، وإنهم لأبرارٌ بُرءاءُ، إلا أنهم لا يستكثرونَ إلا الكثيرَ، ولا يرضونَ له بالقليلِ، ولا يدلون عليه بالأعمالِ هم حيثُ ما لقيتموهُم مهتمُّونَ مشفقونَ وجِلُونَ خائفون ". وروى ابنُ أبي الدنيا أثرًا عن زنادِ بن أبي حبيبٍ أنه بلغه: "أن من حملةِ العرشِ من سالَ من عينه أمثالُ الأنهارِ من البكاءِ فإذا رفعَ رأسَهُ قالَ: سبحانَك ما تُخشى حقَّ خشيتِكَ، قال تعالى ذكرُه: لكن الذين يحلفونَ باسمي كاذبين لا يعلمونَ ذلك ". وعن يزيد الرقاشيِّ قالَ: "إن للَّه تبارك وتعالى ملائكةً حولَ العرشِ. تجري أعينهم مثلَ الأنهارِ إلى يومِ القيامةِ، يميدونَ كأنَّهم ينفضهم الريحُ من خشيةِ اللَّهِ، فيقول الربُّ عزَّ وجلَّ: يا ملائكتي، ما الذي يُخيفكُم وأنتم عِنْدِي؟ فيقولون: يا ربِّ، لو أنَّ أهلَ الأرضِ اطَّلعوا من عِزَّتك وعظمتكَ على ما اطَّلعنا عليها، ما أساغوا طعامًا ولا شرابًا، ولا انبسطُوا في فُرُشِهِم. ولخرجُوا إلى الصَّحاري يخورونَ كما تخورُ البقرُ". ومثل هذا كثيرٌ جدًّا،

والمقصود أنَّ العلمَ باللَّهِ وأسمائهِ وصفاتِهِ وأفعالِهِ منْ قدره، وخلقِهِ، والتفكيرَ في عجائبِ آياتِهِ المسموعةِ المتلوةِ، وآياتِهِ المشاهدةِ المرئيةِ من عجائبِ مصنوعاتِهِ، وحِكمِ مبتدعاتِهِ ونحو ذلك مما يوجبُ خشيتَهُ وإجلالَهُ، ويمنعُ من ارتكابِ نهيهِ، والتفريطِ في أوامره؛ هو أصلُ العلم النافع، ولهذا قالَ طائفةٌ من السلفِ لعمرَ بنِ عبدِ العزيزِ وسفيان بن عيينةَ: "أعجبُ الأشياءِ قلبٌ عَرَفَ ربَه ثمَ عصاهُ ". وقال بشرُ بنُ الحارثِ: "لو يفكرُ الناسُ في عظمةِ اللَّهِ لما عصوا اللَّه " وفي هذا المعنى يقولُ الشاعرُ: فواعجبًا كيف يُعصى الإله. . . وكيفَ يجحدُهُ الجاحدُ وللَّهِ في كلِّ تحريكةٍ. . . وتسكينةٍ أبدًا شاهِدُ وفي كلِّ شيءٍ له آيةٌ. . . تدل على أنَه واحِدُ الوجه الثاني: أنَّ العلمَ بتفاصيلِ أمرِ اللَّهِ ونهيه، والتصديقَ الجازمَ بذلك. ومما يترتبُ عليه من الوعدِ والوعيدِ والثوابِ والعقابِ، مع تيقنِ مراقبة اللَّهِ واطِّلاعهِ، ومشاهدَتِهِ، ومقتِهِ لعاصِيهِ وحضورِ الكرامِ الكاتبينَ، كلُّ هذا يوجبُ الخشيةَ، وفعلَ المأمورِ وتركَ المحظورِ، وإنَّما يمنعُ الخشيةَ ويوجبُ الوقوعَ في المحظوراتِ الغفلةُ عن استحضارِ هذه الأمورِ، والغفلةُ من أضدادِ العلمِ، والغفلةُ والشهوةُ أصلُ الشرِّ، قالَ تعالى: (وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا (28) . والشهوةُ وحدُها، لا يستقلُّ بفعلِ السيئاتِ إلا مع الجهلِ، فإنَّ صاحبَ الهوى لو استحضرَ هذه الأمورَ المذكورةَ وكانتْ موجودةً في ذكره، لأوجبتْ له الخشيةَ القامعةَ لهواهُ، ولكنَّ غفلتَه عنها مما يوجبُ نقصَ إيمانِهِ الذي أصلُه التصديقُ الجازمُ المترتبُ على

التصورِ التامِ، ولهذا كان ذكرُ اللَّهِ وتوحيدُه والثناءُ عليه يزيدُ الإيمانَ، والغفلةُ والإعراضُ عن ذلك يضعفُهُ وينقصُهُ، كما كان يقولُ منْ يقولُ من الصحابةِ: "اجلسُوا بنا نؤمنُ ساعة". وفي الأثرِ المشهورِ عن حماد بنِ سلمةَ عن أبي جعفرٍ الخطميِّ عن جدِّه عميرِ بن حبيبٍ وكان من الصحابةِ، قال: "الإيمانُ يزيدُ وينقصُ قيلَ: وما زيادتُهُ ونقصانُهُ؟ قال: إذا ذكرَنا اللَّه ووحَّدْناه وسبَّحْنَاهُ، فتلك زيادتُهُ. وإذا غفلنا ونسينا، فذلك نقصانُهُ ". وفي مسندي الإمام أحمدَ والبزارِ من حديث أبي هريرةَ أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "جدِّدُوا إيمانَكُم " قالُوا: وكيفَ نجددُ إيمانَنا يا رسولَ اللَّهِ؟ قال: "قولُوا: لا إله إلا اللَّه ". ولهذا كان الصحيحُ المشهورُ عن الإمامِ أحمدَ الذي عليه أكثرُ أصحابِهِ وأكثرُ علماءِ السنة من جميع الطوائف؛ أنَّ ما في القلبِ من التصديقِ والمعرفةِ يقبلُ الزيادةَ والنقصانَ، فالمؤمنُ يحتاجُ دائمًا كلَّ وقتٍ إلى تحديدِ إيمانِهِ وتقويةِ يقينِهِ، وطلبِ الزيادةِ في معارفهِ، والحذرِ من أسبابِ الشكِّ والريبِ والشبهةِ، ومنْ هُنا يُعلمُ معنى قولِ النبيًّ - صلى الله عليه وسلم -: "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ولا يسرقُ السارقُ حين يسرقُ وهو مؤمن ولا يشربُ الخمرَ حين يشربُها وهو مؤمن " فإنه لو كان مستحضِرًا في تلك الحال لاطِّلاع اللَّهِ عليه ومقتِهِ له جمع ما توعَّدَهُ اللَّهُ به من العقابِ المجملِ والمفصلِ استحضارًا تامًّا لامتنعَ منه بعدَ ذلكَ وقوعُ هذا المحظورِ وإنما وقعَ فيما وقعَ فيه لضعفِ إيمانِهِ ونقصِهِ.

الوجهُ الثالث: أنَّ تصورَ حقيقةِ المخوفِ يوجبُ الهربَ منه، وتصورَ حقيقة المحبوبِ توجبُ طلبَهُ فإذا لم يهربْ منْ هذا ولم يطلبْ هذا دلَّ على أنًّ تصورَهُ لذلك ليسَ تامًّا، وإن كانَ قد يصور الخبر عنه، وتصورُ الخبرِ وتصديقِهِ وحفظُ حروفِهِ غيرُ تصوُّرِ المخبَرِ به فإذا أخبر بما هو محبوبٌ أو مكروهٌ له، ولم يكذِّبِ الخبرَ بل عرفَ صدقَهُ لكن قلبَهُ مشغولٌ بأمور أخرى عن تصورِ ما أخبرَ به، فهذا لا يتحركُ للهربِ ولا للطلبِ، في الأثر المعروف عن الحسن وروي مرسلاً عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: "العلمُ علمانِ، فعلم في القلب، فذاك العلمُ النافعُ، وعلمٌ على اللسانِ، فذاك حجةُ اللهِ على ابنِ آدم ". الوجه الرابع: أنَّ كثيرًا من الذنوبِ قد يكونُ سببُ وقوعِهِ جهلَ فاعلِهِ بحقيقةِ قبحه وبُغضِ اللَّهِ له وتفاصيل الوعيدِ عليه وإنْ كانَ عالمًا بأصل تحريمه وقبحِه لكنَّه يكونُ جاهِلاً بما وردَ فيه من التغليظ والتشديد ونهايةِ القبح، فجهلُه بذلكَ هو الذي جرَّأهُ عليه وأوقعه فيه، ولو كان عالمًا بحقيقةِ قبحِهِ لأوجبَ ذلك العلمُ تركَهُ خشيةً من عقابِهِ، ولهذا كان القولُ الصحيحُ الذي عليه السلفُ وأئمةُ السنةِ أنه يصحُّ التوبةُ من بعضِ الذنوبِ دون بعضٍ خلافًا لبعضِ المعتزلةِ، فإنَّ أحدَ الذنبينِ قد يَعلمُ قبحَه فيتوبُ منه ويستهينُ بالآخرِ لجهلِهِ بقبحِهِ وحقيقةِ مرتبتِه فلا يقلعُ عنه، ولذلك قد يقهرُهُ هواهُ ويغلبُه في أحدِهما دون الآخر فيقلعُ عما لم يغلبْه هواه دون ما غلبه فيه هواهُ، ولا يقالُ لو كانتِ الخشية عندَهُ موجودةً لأقلعَ عن الجميع، لأن أصلَ الخشيةِ عنده موجودةٌ، ولكنها غيرُ تامةٍ، وسبب نقصها إما نقصُ علمِهِ، وإما غلبةُ هواه، فتبعُّضُ توبتِه نشأ من كونِ المقتضِي للتوبةِ من أحدِ الذنبين أقوى من المقتضي للتوبةِ من الآخرِ، أو كونِ المانع من التوبةِ من أحدِهما أشدَّ من

المانع من الآخرِ. الخامس: أنَّ كل ما علمَ عِلمًا تامًّا جازِمًا بانَّ فعلَ شيئًا يضرُّه ضررًا راجحًا لم يفعلْه، فإنَّ هذا خاصةُ العاقلِ، فإنَّ نفسه تنصرفُ عمَّا يعلمُ رجحانَ ضررهِ بالطبع، فإنَّ اللَّه جعلَ في النفس حبًّا لما ينفعُها وبغْضًا لما يضرُّها، فلا يفعلُ ما يجزم بأنه يضرُّها ضررًا راجحًا، ولا يقعُ ذلك إلا مَعَ ضعيفِ العقلِ؛ فإنَّ السقوطَ مَنْ موضع عالٍ، أو في نهر مغرقٍ، والمرورَ تحتَ حائطٍ يُخشى سقوطُه، ودخولَ نارٍ متأججةٍ، ورميَ المالِ في البحرِ، ونحو ذلك، لا يفعلهُ من هو تامُّ العقل لعلمِهِ بأن هذا ضرر ولا منفعةَ فيه، وإنَّما يفعلُه من لم يعلمْ ضررُهُ كالصبيِّ، والمجنونِ، والسَّاهي، والغافلِ، وأمَّا العاقلُ فلا يُقدمُ على ما يضرّه مع علمه بما فيه من الضررِ إلا لظنِّه أنَّ منفعتَهُ راجحة إمَّا بأن يجزمَ بأن ضررَهُ مرجوح، أو يظنُّ أن خيرَهُ راجح، كالذي يركبُ البحرَ ويسافرُ الأسفارَ الخطرةَ للربح فإنه لو جزمَ بأنه يغرقُ أو يخسرُ لما فعلَ ذلكَ وإنَّما أقدمَ عليه لترجيح السلامةِ عندَهُ والربح، وإن كانَ قد يكونُ مخطئًا في هذا الظنِّ. وكذلك الزاني والسارقُ ونحوُهما، لو حصلَ لهم جزم بإقامةِ الحدودِ عليهم من الرجم والقطعْ ونحو ذلك، لم يُقدموا على ذلكَ، فإذا عُلم هذا فاصلُ ما يوقعُ الناسَ في السيئاتِ الجهلُ وعدمُ العلم بأنها تضرُهم ضررًا راجحًا، أو ظنُّ أنها تنفعُهم نفعًا راجحًا، وذلك كلُّه جهل إما بسيط وإمَّا مركب، ولهذا يسمَّى حالُ فعلِ السيئاتِ الجاهليةَ، فإن صاحبَها في حالِ جاهليةٍ، ولهذا كانَ الشيطانُ يزيِّنُ السيئاتِ ويأمرُ بها، ويذكرُ ما فيها من المحاسنِ التي يُظنُّ أنها منافعُ لا مضارّ كما أخبرَ اللَّهُ عنه في قصةِ آدمَ أنه (يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى (120) فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا) .

قال: (مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ (20) . وقال تعالى (وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36) وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (37) . وقال تعالى: (أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا) . وقال: (كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (108) . وتزيينُ أعمالِهم يكونُ بواسطةِ الملائكةِ والأنبياءِ والمؤمنينَ للخيرِ. وتزيينُ شياطينِ الإنسِ والجن للشر، وقال تعالى: (وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ) . ومثلُ هذا كثيرٌ فالفاعلُ للذنبِ لو جزمَ بأنه يحصلُ له به الضررُ الراجحُ لم يفعلْه، لكنه يزينُ له ما فيه من اللذةِ التي يظنُّ أنها مصلحة، ولا يجزمُ بوقوع عقوبتِهِ، بل يرجو العفوَ بحسناتٍ أو توبةٍ أو بعفوِ اللهِ ونحوِ ذلك، وهذا كله من اتباع الظن وما تهوى الأنفسُ، ولو كان له علم كامل لعرفَ به رجحانَ ضررِ السيئة، فأوجبَ له ذلك الخشيةَ المانعةَ له من مواقعتِها، ونبينُ هذا بـ: الوجه السادس: وهو أن لَذَّاتِ الذنوبِ لا نسبةَ لها إلى ما فيها من الآلامِ والمفاسد ألبتةَ فإنَّ لذاتها سريعةُ الانقضاءِ وعقوباتِها وآلامِها أضعافُ ذلك ولهذا قيل: "إن الصبرَ على المعاصِي أهونُ من الصبرِ على عذابِ اللَّه، وقيل: "رُبَّ شهوةِ ساعو أورثتْ حزنًا طويلاً" وما في الذنوبِ من اللذاتِ كما في الطعامِ الطيبِ المسموم من اللذةِ، فهي مغمورة بما فيه من المفسدةِ ومؤثرُ لذة الذنبِ كمؤثر لذة الطعامِ المسمومِ الذي فيه من السموم ما يمرضُ أو يقتلُ ومن هاهُنا يُعلمُ أنه لا يُؤثِرُ لذاتِ الذنوبِ إلا من هو جاهل بحقيقةِ عواقبَها، كما لا يؤثرُ أكلَ الطعامِ المسمومِ للِذَّتِهِ إلا من هو جاهل بحالهِ أو غير عاقل، ورجاؤه التخلصَ من شرفا بتوبةٍ أو عفو أو غيرِ ذلك كرجاءِ آكلِ الطعامِ

المسمومِ الطيب للخلاصِ من شرِّ سُمِّه بعلاج أو غيره، وهو في غايةِ الحمقِ والجهلِ، فقدْ لا يتمكنُ من التخلصِ منه بالكليةِ، فيقتلُهُ سمّه، وقد لا يتخلصُ منه تخلصًا تامًّا فيطولُ مرضُهُ، وكذلكَ المذنبُ قد لا يتمكنُ من التوبةِ، فإنَّ من وقعَ في ذنبٍ تجرَّأ عليه عمرَهُ وهان عليه خوضُ الذنوبِ وعَسُرَ عليه الخلاصُ منها ولهذا قيل: "من عقوبةِ الذنب: الذنبُ بعدَهُ ". وقد دلَّ على ذلك القرآنُ في غيرِ موضع، وإذا قُدِّرَ أنه تابَ منه فقدْ لا يتمكنُ من التوبةِ النصوح الخالصةِ التي تمحو أثرَه بالكليةِ، وإنْ قدِّر أنه تمكنَ من ذلكَ، فلا يقاومُ اللذةَ الحاصلةَ بالمعصيةِ ما في التوبةِ النصوح المشتملةِ على النَّدمِ والحزنِ والخوفِ والبكاءِ وتجشم الأعمالِ الصالحةِ؛ من الألم والمشقةِ، ولهذا قال الحسنُ: "تركُ الذنبِ أيسرُ من طلبِ التوبةِ" ويكفي المذنبُ ما فاته في حالِ اشتغالِهِ بالذنوبِ من الأعمالِ الصالحةِ الَّتي كانَ يمكنُه تحصيلَ الدرجاتِ بها. وقد اختلفَ الناسُ في التائبِ، هل يمكنُ عودُهُ إلى ما كانَ عليه قبل المعصية؟ على قولينِ معروفينِ، والقولُ بأنه لا يمكنُ عودُهُ إلى ما كانَ عليه قولُ أبي سليمان الدَّرانيّ وغيرِهِ، وكذلكَ اختلفُوا في التوبةِ إذا استكملتْ شروطَها، هل يُجزمُ بقبولها؟ على قولين: فالقاضي أبو بكر وغيرُهُ من المتكلمينِ على أنَّه لا يُجزمُ بذلك، ولكنَّ أكثرَ أهلِ السنةِ والمعتزلةِ وغيرَهم على أنه يُقطعُ بقبولها، وإنْ قُدِّر أنه عفِيَ عنه من غيرِ توبةٍ فإنْ كانَ ذلك بسببِ أمرٍ مكفرٍ عنه كالمصائبِ الدنيويةِ، وفتنةِ القبرِ، وأهوالِ البرزخ، وأهوالِ الموقفِ، ونحوِ ذلكَ، فلا يستريبُ عاقلٌ أن ما في هذه الأمورِ من الآلامِ والشدائدِ أضعاف أضعاف ما حصلَ في المعصيةِ من اللذةِ. وإنْ عُفِيَ عنه بغيرِ سببٍ من هذه الأسباب المكفرةِ ونحوِها، فإنه لابَّد أن

يلحقَهُ عقوبات كثيرة منها: ما فاتَهُ من ثوابِ المحسنينِ، فإن اللَّه تعالى وإن عفا عن المذنبِ فلا يجعلْه كالذينَ آمنوا وعمِلوا الصالحاتِ، كما قال تعالى: (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (21) . وقال: (أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (28) . ولهذا قالَ بعضُ السلفِ: عُدَّ أن المسيءَ قد عُفِيَ عنه. أليسَ قد فاتَهُ ثوابُ المحسنينَ؟ ولولا أنَّ اللَّه تعالى رضَّى أهلَ الجنةِ كلَّهم بما حصلَ لهم من المنازلِ لتقطعتْ أصحابَ اليمينَ حسرات مما فاتَهُم من منازلِ المقربينَ مع إمكانَ مشاركتِهِم لهم في أعمالِهِم التي نالُوا بها منازلَهُم العاليةَ، وقد جاء في الأحاديثِ والآثارِ أنهم يقولون: ألم نكن مع هؤلاءِ في الدنيا؟ فيقالُ: كنتُم تفطرونَ، وكانوا يصومونَ، وكنتُم تنامونَ، وكانوا يقومون، وكنتم تبخلون، وكانوا ينفقون، ونحوُ ذلك. وكذلكَ جاءَ: "أنَّ الرجلَ من أهلِ عليين ليخرجُ فيسيرُ في ملكِهِ فما تبقى خيمة من خيمِ الجنةِ إلا دخلَها من ضوءِ وجهه، فيستبشرونَ بريحه فيقولونَ: واهًا لهذه الريح، هذا رجل من أهلِ عليينَ قدْ خرجَ يسيرُ في ملكِه ". هذا قد رُوي من حديثِ ابنِ مسعودٍ مرفوعًا، ورُويَ من كلامِ كعبٍ. ومنها: ما يلحقُهُ من الخجلِ والحياءِ منَ اللَّهِ عزَ وجلَّ عند عرضِهِ عليه. وتقريره بأعمالِهِ، وربما كان ذلك أصعبُ عليه من دخولِ النارِ ابتداءً، وقد أخبرَ بذلكَ بعضُ المحتضرينَ في زمانِ السلفِ عند احتضاره وكان أُغميَ عليه حتَى ظُنَّ أنه مات، ثم أفاقَ فأخبرَ بذلك.

وجاء تصديقُ ذلكَ في الأحاديثِ والآثارِ كما روى عبدُ اللَهِ بنُ الإمامِ أحمدَ في كتابِ "الزهدِ" بإسنادِهِ عن أبي هريرةَ - رضي الله عنه - قال: "يُدْنِي اللَّه عزَّ وجلَّ العبدَ يومَ القيامةِ، فيضعُ عليه كنفَهُ، فيسترُهُ من الخلائقِ كلها، ويدفعُ إليه كتابَهُ في ذلكَ السترِ، فيقول: اقرأْ يا ابنَ آدمَ كتابَكَ، قال: فيمرّ بالحسنةِ، فيبيضُّ لها وجْهُه ويُسَرُّ بها قلبُهُ قال: فيقولُ اللَهُ عزَ وجل: أتعرفُ يا عبدِي؟ فيقول: نعم، يا ربَ أعرفُ، فيقول: إني قد قبلتُها منك. قال: فيخرُّ للَّه ساجدًا، قال: فيقول اللَّهُ عزَّ وجلَّ: ارفع رأسَك يا ابنَ آدمَ وعُدْ في كتابِكَ، قال: فيمرُّ بالسيئةِ فيسودُ لها وجْهُه، ويوجلُ منها قلبُه وترتعدُ منها فرائصُه، ويأخذه من الحياءِ من ربه ما لا يعملُه غيرُهُ، قال: فيقول اللَّه عزَّ وجلَّ: أتعرفُ يا عبدِي؟ قال: فيقول: نعم، يا ربَ أعرفُ، قال: فيقول: إني قد غفرتُها لك؟ قال: فلا يزال حسنةٌ تُقبلُ فيسجدُ، وسيئةٌ تُغفرُ فيسجدُ، فلا ترى الخلائقُ منه إلا السجودَ، قال: حتى تنادي الخلائقُ بعضها بعضًا: طوبى لهذا العبدِ الذي لم يعصِ اللَّهَ قط، ولا يدرونَ ما قد لقي فيما بينه وبين اللَّهِ عزَ وجلَ ". ومما قدْ وقفه عليه ورُوي معنى ذلك عن أبي موسى، وعبدِ اللَّهِ بنِ سلامٍ. وغيرِهِما، ويشهدُ لهذا حديثُ عبدِ اللَّهِ بنِ عمرَ الثابتُ في "الصحيح " - حديثُ النجوى - أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا كان يوم القيامةِ دعا اللَّهُ بعبدِهِ فيضعُ عليه كنَفَهَ فيقولُ: ألم تعملْ يومَ كذا وكذا ذنبَ كذا وكذا؟ فيقولُ: بلى يا ربِّ، فيقول: فإني قد سترتُها عليك في الدنيا وغفرتُ ذلك لك اليومَ " وهذا كلُّه في حقِّ من يريدُ اللَّهُ أن يعفوَ عنه ويغفرَ له فما الظنُّ بغيره؟ ولهذا في "مراسيل الحسنِ " عن النبي - صلى الله عليه وسلم -

"إذا أرادَ اللَّهُ أن يسترَ على عبدِهِ يومَ القيامة أراه ذنوبَهُ فيما بينه وبينه ثمَّ غفرَهَا له " ولهذا كانَ أشهرُ القولينِ أنَّ هذا الحكمَ عامٌّ في حقِّ التائبِ وغيره، وقد ذكرَهُ أبو سليمانَ الدمشقيُّ عن أكثرِ العلماءِ، واحتجُّوا بعمومِ هذه الأحاديثِ مع قولِهِ تعالى: (وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَا لِهَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كبِيرَة إِلاَّ أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا) . وقد نُقِلَ ذلك صريحًا عن غيرِ واحدٍ من السلفِ كالحسنِ البصريِّ وبلالِ بنِ سعد - حكيم أهلِ الشامِ - كما روى ابنُ أبي الدنيا، وابنُ المنادِي وغيرُهُما عن الحسنِ: "أنه سُئل عن الرجلِ يذنبُ ثم يتوبُ هل يُمحى من صحيفتِهِ؟ قال: لا، دون أن يوقِفَهُ عليه ثم يسألُهُ عنه " ثم في رواية ابنِ المنادِي وغير: "ثم بكى الحسنُ، وقال: لو لم تبكِ الأحياءُ من ذلكَ المقامِ لكانَ يحقُّ لنا أن نبْكِي فنطيلَ البكاءَ". وذكرَ ابنُ أبي الدنيا عنْ بعضِ السلفِ أنه قال: "ما يمرُّ عليَّ أشدُ من الحياءِ من اللَّهِ عزَّ وجلَّ ". وفي الأثرِ المعروفِ الذي رواه أبو نُعيمٍ وغيرُهُ عن علقمةَ بنِ مرثدٍ: "أنَّ الأسودَ بنَ يزيدَ لما احتُضِرَ بكى، فقيلَ له: ما هذا الجزعُ؟ قالَ: ما لي لا أجزعُ، ومن أحقُّ بذلكَ منَي. واللَّهِ لو أُتيتُ بالمغفرةِ من اللَّهِ عزَّ وجلَّ، لهمَّني الحياءُ منه مما قدْ صنعتُه، إنَّ الرجلَ ليكونُ بينه وبين الرجلِ الذنبُ الصغيرُ فيعفو عنه فلا يزالُ مستَحِيًا منه ". ومن هذا قولُ الفضيلِ بنِ عياضٍ: "بالموقفِ واسوءتاهُ منكَ وإنْ عفوتَ ". المقصود هنا أن آلام الذنوبِ ومشاقَّها وشداتها التي تزيدُ على لذاتِها أضعافًا مضاعفةً، لا يتخلفُ عن صاحِبها، لا مع توبة ولا عفوٍ، فكيفَ إذا لم يُوجدْ واحدٌ منهما، ويتضحُ هذا بما نذكرُهُ في الوجهِ السابع.

الوجه السابع: وهو أن المقْدِمَ على مواقعةِ المحظورِ إنما أوجبَ إقدامَهُ عليه ما فيه من اللذةِ الحاصلةِ له به، فظنَّ أنَّه يحصلُ له لذتُهُ العاجلةُ، ورجَى أنْ يتخلصَ من تبعتِهِ بسببٍ من الأسبابِ ولو بالعفوِ المجردِ فينالُ به لذةً ولا يلحقُهُ به مضرةٌ، وهذا من أعظم الجهلِ، والأمر تجلس (1) باطنه، فإن الذنوبَ تتبعُها ولابدَّ من الهمومِ والآلامِ وضيقِ الصدرِ والنكدِ، وظلمةِ القلبِ، وقسوتِهِ أضعافُ أضعافُ ما فيها منَ اللذةِ، ويفوتُ بها من حلاوةِ الطاعاتِ، وأنوارِ الإيمانِ، وسرورِ القلبِ ببهجةِ الحقائقِ والمعارفِ، ما لا يُوازي الذرةَ منه جميعُ لذاتِ الدنيا، فيحصلُ لصاحبِ المعصيةِ العيشةُ الضنكُ، وتفوتُهُ الحياةُ الطيبةُ، فينعكسُ قصدُهُ بارتكابِ المعصيةِ، فإنَّ اللَّهَ ضمِنَ لأهلِ الطاعةِ الحياةَ الطيبةَ، ولأهلِ المعصيةِ العيشةَ الضنكَ، قالَ تعالى: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكرِي فَإِن لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا) . وقال: (وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ وَلَكِن أَكثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) . وقال: (وَلَنُذِيقَنَّهُم مِّنَ الْعَذَابِ الأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الأَكبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) . وقال في أهلِ الطاعةِ: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً) . قال الحسنُ وغيرُهُ من السلفِ: "لنرزقنَّه عبادةً يجدُ حلاوتَها في قلبِهِ ". ومن فسَّرها بالقناعةِ، فهو صحيح أيضًا، ومن أنواع الحياةِ الطيبةِ الرضى بالمعيشةِ فإنَّ الرِّضى، كما قالَ عبدُ الواحدِ بنُ زيدٍ: "جنةُ الدنيا ومستراحُ العابدين ". وقال تعالى: (وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ) .

_ (1) هكذا في المطبوع، ولعلها: " تُحِسُّ ".

وقال: (فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (148) . كما قالَ عن إبراهيمَ عليه السلام: (وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (122) . ومثلُ هذا كثيرٌ في القرآنِ. فما في الطاعةِ من اللذةِ والسرورِ والابتهاج والطمأنينةِ وقرة العينِ. أمر ثابتٌ بالنصوصِ المستفيضة وهو مشهودٌ محسوسٌ يدركُهُ بالذوقِ والوجدِ مَنْ حصلَ له ولا يمكنُ التعبيرُ بالكلامِ عن حقيقتِهِ، والآثارُ عن السلفِ والمشايخ العارفينَ في هذا البابِ كثيرةٌ موجودةٌ حتَّى كان بعضُ السلفِ يقولُ: لو يعلمُ الملوكُ وأبناءُ الملوكِ ما نحنُ فيه لجالدُونا عليه بالسيوفِ ". وقال آخرُ: "لو علِموا ما نحن فيه لقتلُونا ودخلوا فيه ". وقال أبو سليمانَ: "أهلُ الليلِ في ليلهم ألذ من أهلِ اللهو في لهوهِم. ولولا الليلُ ما أحببتُ البقاءَ في الدُّنيا". وقال: "إنه ليمرُّ على القلبِ أوقاتٌ يضحكُ فيها ضحِكًا". وقال ابنُ المباركِ وغيرُهُ: "مساكينُ أهلِ الدنيا خرجُوا منها ولم يذوقوا أطيبَ ما فيها، قيل: ما أطيب ما فيها؟ قال: معرفةُ اللَّهِ ". وقال آخرُ: "أوجدني اللَّه قلبًا طيبًا حتى قلتُ: إن كان أهلُ الجنةِ في مثلِ هذا فإنَّهم في عيشٍ طيب ". وقال مالكُ بنُ دينار: "ما تنعمَ المتنعمونَ بمثلِ ذكرِ اللَّهِ ". وهذا بابٌ واسعٌ جدًّا، والمعاصي تقطعُ هذه الموادَّ، وتغلقُ أبوابَ هذه الجنةِ المعجلةِ، وتفتحُ أبوابَ الجحيم العاجلةِ من الهمِّ والغمِّ، والضيقِ والحزنِ

والتكدرِ وقسوةِ القلبِ وظلمتِهِ وبعدِهِ عن الربِّ - عزَّ وجلَّ - وعن مواهبِهِ السَّنيَّةِ الخاصةِ بأهلِ التقوى. كما ذكر ابنُ أبي الدنيا بإسنادِه عن علي - رضي الله عنه - قال: "جزاءُ المعصيةِ الوهنُ في العبادةِ، والضيقُ في المعيشةِ، والتعسُ في اللذةِ. قيل: وما التعسُ في اللذةِ؟ قال: لا ينال شهوةً حلالاً، إلا جاءَه ما يبغِّضُهُ إيَّاها". وعن الحسنِ قال: "العملُ بالحسنةِ نورٌ في القلبِ وقوةٌ في البدنِ، والعملُ بالسيئةِ ظلمةٌ في القلبِ ووهن في البدن ". وروى ابن المنادِي وغيرُهُ عن الحسنِ، قال: "إن للحسنةِ ثوابًا فى الدنيا وثوابًا في الآخرةِ، وإنَّ للسيئة ثوابًا في الدنيا، وثوابًا في الآخرةِ، فثوابُ الحسنةِ في الدنيا البصرُ في الدِّين، والنورُ في القلبِ، والقوةُ في البدنِ مع صحبةٍ حسنةٍ جميلةٍ، وثوابُها في الآخرةِ رضوانُ اللَّه عزَّ وجلَّ وثوابُ السيئةِ في الدنيا العمَى في الدنيا، والظلمةُ في القلبِ، والوهنُ في البدنِ مع عقوباتٍ ونقماتٍ، وثوابُها في الآخرةِ سخطُ اللَّهِ عزَّ وجلَّ والنارُ". وروى ابنُ أبي الدنيا بإسنادِهِ عن مالكِ بن دينارٍ، قال: "إن للَّهِ عقوبات فتعاهدُوهنَّ من أنفسكم في القلوبِ والأبدانِ: ضنكٌ في المعيشةِ، ووهن فى العبادةِ، وسخطٌ في الرزقِ ". وعنه أنه قال: "ما ضُرِبَ عبدٌ بعقوبةٍ أعظمُ من قسوةِ القلبِ ". ومثلُ هذا كثيرٌ جدًّا، وحاصلُ الأمر ما قاله قتادةُ وغيرُهُ من السلفِ: "إن اللَّهَ لم يأمرْ العبادَ بما أمرَهُم به لحاجتِهِ إليه، ولا نهاهُم عمَّا نهاهُم عنه بخلاً به، بل أمرهُم بما فيه صلاحُهم، ونهاهُم عمَّا فيه فسادُهُم، وهذا هو الذي

عليه المحققون من الفقهاءِ من أصحابِنا وغيرُهُم، كالقاضي أبي يَعْلَى وغيرِهِ. وإن كان بينهم في جوازِ وقوع خلافِ ذلكَ عقلاً نزاعٌ مبنيّ على أن العقلَ هل له مدخل في التحسينِ والتقبيح أم لا؟ وكثير منهم كأبي الحسنِ التميمي وأبي الخطابِ على أنَّ ذلك لا يجوزُ عقْلاً أيضًا وأما منْ قال بوقوع مثلِ ذلك شرعًا فقولُهُ شاذٌ مردودٌ. والصوابُ: أنَّ ما أمرَ اللَّهُ به عبادَهُ فهو عينُ صلاحِهِم وفلاحِهِم في دنياهُم وآخرتِهم، فإنَّ نفسَ الإيمانِ باللَّهِ ومعرفتِهِ وتوحيدِهِ وعبادتِهِ ومحبتِهِ وإجلالِه وخشيتهِ وذكره وشكره؛ هو غذاءُ القلوبِ وقوتُها وصلاحُها وقوامُها، فلا صلاحَ للنفوسِ، ولا قرةَ للعيونِ ولا طمأنينةَ، ولا نعيمَ للأرواح ولا لذةَ لها في الدنيا على الحقيقةِ، إلا بذلكَ، فحاجتُها إلى ذلك أعظمُ من حاجةِ الأبدانِ إلى الطعامِ والشرابِ والنَّفَسِ، بكثيرٍ، فإنَّ حقيقةَ العبدِ وخاصيتِهِ هي قلبُه وروحُهُ ولا صلاحَ له إلا بتألهِهِ لإلهه الحقّ الذي لا إله إلا هو، ومتى فقدَ ذلكَ هلكَ وفسدَ، ولم يصلحْهُ بعد ذلك شيء ألبتة، وكذلكَ ما حرَّمه اللَّهُ على عبادِهِ وهو عينُ فسادِهِم وضررِهم في دينهِم ودنياهم، ولهذا حرَّم عليهم ما يصدُّهم عن ذكره وعبادتِهِ كما حرم الخمرَ والميسرَ، وبيَن أنه يصدّ عن ذكرِهِ وعن الصلاة مع مفاسدَ أُخرَ ذكرَها فيهما، وكذلك سائرُ ما حرَّمه اللَّه فإنَّ فيه مضرةً لعبادِهِ في دينهم ودنياهم وآخرتِهِم، كما ذكر ذلك السلفُ، وإذا تبيَّن هذا وعُلِمَ أنَّ صلاحَ العبادِ ومنافعِهم ولذاتِهم في امتثالِ ما أمرهُم اللَهُ به، واجتنابِ ما نهاهم اللَّهُ عنه تبيَّن أن من طلبَ حصولَ اللذةِ والراحةِ مِنْ فعلِ المحظورِ أو تَرْكِ المأمورِ، فهو في غايةِ الجهلِ والحمقِ، وتبيَّن أنَّ كلَّ من عصى اللَّهَ هو جاهل، كما قاله السلفُ ودلَّ عليه القرآنُ كما

تقدم، ولهذا قال: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (216) . وقال: (وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا (66) وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا (67) وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (68) . وقال تعالى: (وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (102) وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (103) . فأخبر أنهم علموا أنَّ من اشتراه أي تعوَضَ به في الدنيا فلا خَلاقَ له في الآخرةِ ثم قالَ: (وَلَبِئْسَ مَا شَرَوا بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) ، فيدلُّ هذا على أنَّهم لم يعلموا سوء ما شرَوا به أنفسَهُم. وقد اختلفَ المفسرونَ في الجمع بين إثباتِ العلم ونفيه هاهنا. فقالت طائفة منهم: الذين علموا لمن اشتراه ما له في الآخرةِ من خلاق، هم الشياطينُ الذين يُعلِّمونَ الناسَ السحرَ، والذين قيلَ فيهم: (لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) هم الناسُ الذين يتعلمون. قال ابنُ جرير: وهذا القولُ خطأٌ مخالفٌ لإجماع أهلِ التأويلِ على أنَّ قولَهُ: (وَلَقَدْ عَلِمُوا) عائدٌ على اليهودِ الذين اتبعوا ما تتلو الشياطينُ على ملكِ سليمانَ - ثم أخبرَ ابنُ جرير أنَّ الذين علموا أنه لا خلاقَ لمن اشتراه هم اليهودُ، والذين قيل فيهم: لو كانوا يعلمون، هم الذين يتعلمون من الملكينِ، وكثيرًا ما يكون فيهم الجهالُ بأمرِ اللَّه ووعدِهِ ووعيدِه، وهذا أيضًا ضعيفٌ فإنَّ

الضميرَ فيهما عائدٌ إلى واحدٍ، وأيضًا فإن الملكينِ يقولانِ لمن يعلمانِهِ: إنما نحن فتنة فلا تكفر، فقد أعلماه تحريمَه وسوءَ عاقبتِهِ. وقالتْ طائفة: إنما نفىَ عنهم العلمَ بعدما أثبته لانتفاءِ ثمرتِهِ وفائدتِهِ، وهو العملُ بموجبِهِ ومقضتاهُ، فلمَّا انتفَى عنهم العملُ بعلمهِم جعلَهم جُهَّالاً لا يعلمونَ، كما يقالُ: لا عِلْمَ إلا ما نفعَ، وهذا حكاه ابنُ جريرٍ وغيرُهُ، وحكى الماورديُ قولاً بمعناه، لكنه جعلَ العملَ مضمرا، وتقديرُهُ لو كانوا يعملون بما يعلمون. وقيلَ: إنهم علموا أنَّ منْ اشتراه فلا خلاقَ له، أي لا نصيبَ له في الآخرةِ من الثوابِ، لكنهم لم يعلموا أنه يستحق عليه العقاب مع حرمانِهِ الثوابَ، وهذا حكاه الماورديُّ وغيرُهُ، وهو ضعيف أيضًا، فإنَّ الضميرَ إن عادَ إلى اليهودِ، فاليهودُ لا يخفى عليهم تحريمُ السحرِ واستحقاقِ صاحبِه العقوبةَ، وإن عادَ إلى الذين يتعلمونَ من الملكينِ فالملكانِ يقولانِ لهم: (إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ) والكفرُ لا يخْفَى على أحدٍ أن صاحبَه يستحقُّ العقوبةَ، وإن عادَ إليهما، وهو الظاهرُ، فواضح، وأيضًا فإذا علموا أنَّ من اشتراهُ ما لهُ في الآخرةِ من خلاقٍ فقدْ علمُوا أنه يستحقُّ العقوبةَ، لأنَّ الخلاقَ: النصيبُ من الخيرِ، فإذا عَلِمَ أنه ليس له نصيب في الخيرِ بالكليةِ فقدْ علم أن له نصيبًا من الشرِّ، لأنَّ أهلَ التكليفِ في الآخرةِ لا يخلو واحد منهم عن أن يحصلَ له خير أو شرّ لا يمكنُ انتكاله عنهما جميعًا ألبتة. وقالتْ طائفة: علموا أنَّ من اشتراه فلا خلاقَ له في الآخرةِ، لكنهم ظنُّوا أنهم ينتفعونَ به في الدنيا، ولهذا اختاروه وتعوَّضُوا به عن بوارِ الآخرةِ وشرَوا به أنفسَهُم، وجهلُوا أنه في الدنيا يضرُّهم أيضًا ولا ينفعُهم،

فبئسَ ما شروا به أنفسَهُم لو كانوا يعلمون ذلك، وأنَّهم إنما باعُوا أنفسَهم وحظَّهم من الآخرةِ بما يضرُّهم في الدنيا أيضًا ولا ينفعهم، وهذا القولُ حكاه الماورديّ وغيرُهُ، وهو الصحيحُ، فإنَّ اللَّه تعالى قال: (وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضرّهُمْ ولا يَنفَعُهُمْ) أي هو في نفس الأمرِ يضرُّهم ولا ينفعُهم بحالٍ في الدنيا وفي الآخرةِ. ولكنَّهم لم يعلموا ذلك لأنهم لم يُقدِمُوا عليه إلا لظنَّهم أنه ينفعُهم في الدنيا. ثمَ قال: (وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ) أي قد تيقَّنوا أنَّ صاحبَ السحرِ لا حظَّ له في الآخرةِ، وإنما يختارُهُ لما يرجو من نفعِهِ في الدنيا، وقدْ يسمُّون ذلك العقلَ المعيشي أي العقلَ الذي يعيشُ به الإنسانُ في الدنيا عيشةً طيبةً، قال اللَّه تعالى: (وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) أي: إن هذا الذي يعوضوا به عن ثوابِ الآخرةِ في الدنيا أمرٌ مذمومٌ مُضِر لا ينفع لو كانوا يعلمونَ ذلك ثمَ قال: (وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنوا وَاتَّقَوْا لَمَثوبَةٌ مِنْ عِندِ اللَّهِ خَيْر لَّوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) يعني: أنهم لو اختارُوا الإيمانَ والتقْوى بدلَ السِّحرِ لكانَ اللَّهُ يثيبُهم على ذلكَ ما هو خير لهم مما طلبُوه في الدنيا لو كانوا يعلمون، فيحصُلُ لهم في الدنيا من ثوابِ الإيمانِ والتقْوى من الخير الذي هُو جلبُ المنفعةِ ودفعُ المضرَّةِ ما هو أعظمُ مما يُحَصِّلُونَهُ بالسِّحرِ من خيرِ الدنيا مع ما يُدَّخَرُ لهم من الثوابِ في الآخرةِ. والمقصودُ هنا: أن كل من آثرَ معصيةَ اللَّهِ على طاعتِهِ ظانًّا أنه ينتفعُ بإيثارِ المعصيةِ في الدنيا، فهُوَ من جنسِ من آثرَ السحرَ - الذي ظنَّ أنه ينفعُه في الدنيا - على التقوى والإيمان، ولو اتَّقى وآمنَ لكانَ خيرًا له وأرجى لحصولِ مقاصدِهِ ومطالبِهِ ودفع مضارِّه ومكروهاتِهِ، ويشهدُ كذلك أيضًا ما في "مسندِ البزارِ"

عن حذيفةَ قال: "قامَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - فدعا الناسَ فقال: هلمُّوا إليَّ، فأقبلوا إليه فجلسُوا، فقال: "هذا رسولُ ربِّ العالمين جبريلُ - عليه السلامُ. - نفثَ في رُوعي: أنَّه لا تموتُ نفسٌ حتى تستكملَ رزقَها وإن أبْطأَ عليها، فاتقوا اللَّهَ وأجمِلُوا في الطلبِ ولا يحملنَّكُم استبطاءُ الرّزْقِ أنْ تأخذُوه بمعصيةِ اللَهِ، فإنَّ اللهَ لا يُنالُ ما عندَه إلا بطاعَتِهِ ". إذا تبيَن هذا؛ فقدْ عُلِمَ أن العلمَ مستلزِم للخشيةِ منْ هذه الوجوهِ كُلِّها. لكن على الوجهِ الأولِ يستلزمُ الخشيةَ العلمُ باللَّهِ وجلالِهِ وعظمتِهِ، وهو الذي فسرَ الآيةَ به جماعةٌ من السلفِ، كما تقدَّم، وعلى الوجوهِ الأُخرِ تكون الخشيةُ ملازمةٌ للعلم بأوامرِ اللهِ ونواهيهِ وأحكامِهِ وشرائعِهِ وأسرارِ دينه وشرعِهِ وخلقِهِ وقَدَره، ولا تَنافي بينَ هذا العلم والعلم باللَّهِ؛ فإنَّهما قد يجتمعانِ وقد ينفردُ أحدُهما عن الآخرِ، وأكملُ الأحوال اجتماعُهما جميعًا وهي حالةُ الأنبياءِ - عليهم السلامُ - وخواصُّ الصديقينَ ومتى اجتمعا كانتِ الخشيةُ حاصلةٌ من تلكَ الوجوهِ كلها، وإن انفردَ أحدُهما حصلَ من الخشيةِ بحسبِ ما حصَّل من ذلك العلم، والعلماءُ الكُمَّلُ أولو العلم في الحقيقةِ الذين جمعُوا الأمرين. وقد ذكر الحافظُ أبو أحمدَ بنُ عديٍّ: ثنا أحمدُ بنُ عبدِ اللَّهِ بنِ صالح بنِ شيخ بنِ عميرةَ: ثنا إسحاقُ بن بهلول قال: قال لي إسحاقُ بنُ الطباع: قال لي سفيانُ بن عيينةَ: "عالمٌ باللَّه عالِمٌ بالعلم، عالمٌ باللَّه ليس بعالِمٍ بالعلم. عالمٌ بالعلم ليس بعالم باللَّه "، قال: قلتُ لإسحاقَ: فهمنيه واشرحه لي،

قالَ: عالمٌ باللَّهِ عالمٌ بالعلم، حمادُ بن سلمةَ، عالمٌ باللَّه ليس بعالم بالعلم مثل أبي الحجاج العابدِ، عالمٌ بالعلم ليسَ بعالم باللَّه فلانٌ وفلانٌ وذكر بعضَ الفقهاءِ. وروى الثوريُّ عن أبي حيَّان التميمي سعيدِ بنِ حيَّانَ عن رجلٍ قالَ: كانَ يُقال: العلماءُ ثلاثةٌ: "فعالمٌ باللَّه ليس عالمًا بأمرِ اللَّهِ، وعالمٌ بأمرِ اللَّهِ ليس عالمًا باللَّهِ، وعالمٌ باللَّه عالمٌ بأمرِ اللَّهِ ". فالعالمُ باللَّهِ وبأوامر اللَّه: الذي يخشى اللَّهَ ويعلمُ الحدودَ والفرائضَ. والعالمُ باللَّه ليس بعالم بأمرِ اللَّه: الذي يخشى اللَّهَ ولا يعلمُ الحدودَ والفرائضَ. والعالمُ بأمرِ اللَّه ليس بعالم باللَّهَ: الذي يعلمُ الحدودَ والفرائضَ، ولا يخشى اللَّهَ عزَّ وجلًّ. وأما بيانُ أنَّ انتفاءَ الخشيةِ ينتفي مع العلم، فإنَّ العلمَ له موجب ومقتضى. وهو اتباعُهُ والاهتداءُ به وصدُّه الجهل، فإذا انتفتْ فائدتُهُ ومقتضاهُ، صارَ حالُهُ كحالِهِ عند عدمِهِ وهو الجهلُ، وقد تقدَّم أن الذنوبَ إنَّما تقعُ عن جهالةٍ، وبيَّنا دلالةَ القرآنِ على ذلكَ وتفسيرَ السلفِ له بذلكَ، فيلزمُ حينئذٍ أن ينتفي العلمُ ويثبتُ الجهلُ عند انتفاءِ فائدةِ العلم ومقتضاهُ وهو اتباعُهُ، وم هذا البابِ قولُهُ تعالى: (وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا) . وقولُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: "إذا كان أحدُكُم صائمًا فلا يرفثْ ولا يجهلْ فإنِ امرؤٌ شاتَمَه أو قاتَلهُ فليقلْ: إني امرؤٌ صائمٌ " وهذا كما يوصفُ من لا ينتفعُ بسمْعِهِ وبصر وعقلِهِ

في معرفة الحقِّ والانقيادِ له بأنه أصمُ أبكمُ أعْمَى قال تعالى: (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ) . ويُقال أيضًا: إنه لا يسمعُ ولا يبصرُ ولا يعقلُ كما قال اللَّهُ تعالى: (وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (179) . فسَلْبُ العلم والعقلِ والسمع والبصرِ وإثباتُ الجهلِ والبكم والصم والعَمَى في حقِّ مَنْ فقدَ حقائقَ هذه الصفاتِ وفوائدَها من الكفَّارِ أو المنافقينَ أو مَنْ يشركُهم في بعضِ ذلك كلِّه؛ من باب واحدٍ وهو سلْبُ اسم الشيءِ أو مسمَّاهُ لانتفاءِ مقصوده وفائدتِهِ وإنْ كان موجودًا، وهو بابٌ واسعٌ وأمثلته كثيرةٌ في الكتاب والسُّنَّةِ. * * *

سورة يس

سُورَةُ يس قوله تعالى: (إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ (12) [قال البخاري] : "باب احتساب الآثار": حدثنا محمد بن عبد الله بن حوشب: ثنا عبد الوهاب، قال: حدثني حميد عن أنس، قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "يا بني سلمة، ألا تحتسبون آثاركم؟ ". وقال ابن أبي مريم: أنا يحيى بن أيوب: حدثني حميد: حدثني أنس، أن بني سلمة أرادوا أن يتحولوا عن منازلهم فينزلوا قريبًا من النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: فكرِهَ النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يُعْرُوا مَنَازِلَهم، فقال: "ألا تحتسبون آثاركم؟ ". قال مجاهد: خطاهم: آثار المشي في الأرض بأرجلهم. ساقه أولاً من حديث عبد الوهاب الثقفي، عن حميد مختصرًا، ثم ذكر من رواية يحيى بن أيوب المصري - وهو ثقة، عن حميد مختصرا، ثم ذكر من رواية يحيى بن أيوب المصري وهو ثقة، لكنَّه كثير الوهم - مطوَّلاً، وزاد فيه تصريح حميد بالسماع له من أنسٍ فإن حميدًا قد قيل: إنه لم يسمع من أنس إلا قليلاً وأكثر رواياته عنه مرسلة، وقد سبق ذكر ذلك، وما قاله الإسماعيلي في تسامح المصريين والشاميين في لفظة "حدثنا" وأنهم لا يضبطون ذلك.

وقد خرَّجه في "كتاب الحج " من طريق الفزاري، عن حميد، عن أنس. قال: أراد بَنُو سلمة أن يتحولوا إلى قرب المسجد، فكره رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - أن تعرى المدينة، فقال: "يا بني سلمة، ألا تحتسبون آثاركم؟ ". وبنو سلمة: قوم من الأنصار، كانت دورهم بعيدة من المسجد، فأرادوا أن يتحولوا إلى قرب المسجد، فأمرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بملازمة دورهم، وأخبرهم أنَّ خطاهم يُكتب لهم أجرها في المشي إلى المسجد. وخرَّج مسلم في "صحيحه " من حديث أبي الزبير، عن جابر، قال: كانت دارنا نائيةً من المسجد، فأردنا أن نبيع بيوتَنَا فنقترب من المسجد، فنهانا رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - فقال: "إن لكم بكل خطوةٍ درجة". ومن حديث أبي نضرة، عن جابر، قال: أراد بنو سلمة أن يتحولوا إلى قرب المسجد، والبقاع خالية. قال: فبلغ ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: "يا بني سلمة، دياركم تكتب آثاركم ". فقالوا: ما يسرنا أنا كنَّا تحولنا. وقوله: "ديارَكم " بفتح الراء على الإغراء، أي الزموا دياركم. وخرَّجه الترمذيُّ من حديثِ أبي سُفيانَ السعدي، عن أبي نضرةَ عن أبي سعيدٍ، قالَ: كانتْ بنو سَلمةَ في ناحيةِ المدينةِ، فأرادوا النُقلةَ إلى قُرْبِ المَسْجِدِ، فنزلتْ هذه الآية ُ: (إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ) فقال رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ آثارَكُمْ تُكْتَبُ "، فلَمْ ينتقْلُوا. وأبو سفيانُ، فيه ضعْفٌ.

والصحيحُ: رواية مسلم، عن أبي نضْرةَ عن جابرٍ، وكذا قالَهُ الدارقطني وغيرُهُ. وخرَّج ابنُ ماجةَ من روايةِ سِماكٍ، عن عِكْرمةَ، عن ابنِ عباسٍ، قالَ: كانت الأنصارُ بَعِيدةً منازلُهم مِنَ المسجدِ، فأرادوا أنْ يَقْربوا، فنزلتْ: (نَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ) ، قال: فَثَبَتُوا. وقد ذكرَ البخاريُّ عن مجاهدٍ، أنه فسَّر الآثار - يعني: في هذه الآية ِ بالخُطا، وزاد - أيضًا - بقوله: آثارُ المَشْي في الأرضِ بأرْجُلهم. وفي حديثِ أنسٍ: "فكَرِهَ رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أنْ يُعرُوا المدينةَ أو منازلَهم ". يَعني: يُخلوها فتصيرُ عراةً منَ الأرضِ. والعَرَاءُ: الفضاءُ الخالي مِنَ الأرضِ، ومنه: قوله تعالى: (فَنَبَذْناه بِالْعَرَاءِ) . وروى يحيى بن سعيد الأنصاريُّ هذا الحديثَ، عن حميدٍ، عن أنسٍ. وقال: "فَكَرِهَ أن يُعروا المسجدَ". قالَ الإمامُ أحمدُ: وَهِمَ فيه، إنما هو: "كرِهَ أن يُعرْوا المدينةَ". * * *

سورة الصافات

سُورَةُ الصَّافَّاتِ قوله تعالى: (وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ (165) واعلمْ أنَّ الصفوفَ في الصلاةِ ممَّا خصَّ اللَّهُ به هذه الأمةَ وشرَّفها به. فإنهم أشَبْهوا بذلك صُفوفَ الملائكةِ في السَّماءِ، كما أخبر اللَهُ عنهم أنَّه قالوا: (وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُونَ) ، وأقْسَمَ بالصافّاتِ صفًّا، وهُم الملائكة. وفي "صحيح مسلم" عنِ حذيفةَ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: "فُضلنا على الناسِ بثلاثٍ: جُعلت صُفوفُنا كصفوفِ الملائكة" الحديث. وفيه - أيضًا - عن جابرِ بنِ سَمُرةَ، قال: خرَجَ علينا رسول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، فقال: "ألا تصفون كما تصفُّ الملائكةُ عِندَ ربِّها؟ فقلنا: يا رسول اللَّه، وكيف تصفُّ الملائكةُ عِندَ ربِّها؟ قال: "يُتمُّون الصفوفَ الأولَى، ويتراصُّون في الصفِّ". وروى ابنُ أبي حاتم من روايةِ أبي نضرةَ، قال: كان ابنُ عمرَ إذا أُقيمتِ الصلاةُ استقبلَ الناسُ بِوَجْههِ، ثم قالَ: أقيموا صُفُوفكم، استَوُوا قِيَامًا، يريدُ اللَّهُ بِكُمْ هدْيَ الملائكةِ. ثم يقول: (وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ) ، تأخَّرْ فُلانٌ، تقدَّمْ فلانٌ، ثم يتقدَّمُ فيُكَبِّرُ.

وروى ابنُ جُريجٍ، عن الوليدِ بنِ عبدِ اللَّهِ بن أبي مغيثٍ، قال: كانوا لا يَصُفُّون في الصلاةِ، حتَّى نزلتْ: (وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ) . وقد رُوي أن مِنْ صِفَةِ هذه الأُمَّةِ في الكتبِ السالفةِ: صفَّهم في الصلاةِ. كصفِّهم في القتالِ. * * *

سورة (ص)

سُورَةُ (ص) قوله تعالى: (مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ (69) خرَّج الإمامُ أحمد رحمه اللَّه تعالى منْ حديثِ معاذِ بنِ جبلٍ - رضي الله عنه - قال: "احتبسَ عنَّا رسولُ اللَّه - صلى الله عليه وسلم - ذاتِ غداةٍ في صلاةِ الصبح، حتى كدنا نتراءى قرن الشمسِ، فخرج رسولُ اللَهِ - صلى الله عليه وسلم - سريعًا، فثوَّبَ بالصلاةِ وصلَّى وتجوَّزَ في صلاته، فلما سلَّم قال: "كما أنْتُم على مَصَافِّكم " ثم أقبلَ إلينا فقال: "إني سأحدَثكُم ما حبسني عنكم الغداة، إني قمتُ مِنَ الليلِ فصليتُ ما قُدِّر لي، فنعستُ في صلاتي حتى استثقلتُ فإذا أنا بربِّي عزَّ وجلَّ في أحسنِ صورةٍ فقال: يا محمدٌ أتدري فيم يختصمُ الملأُ الأعلى؟. قلتُ: لا أدري ربِّ، قال: يا محمدُ فيم يختصم الملأُ الأعلى؟. قلتُ: لا أدري ربِّ، قال: يا محمدُ فيم يختصمُ الملاُ الأعلى؟. قلتُ: لا أدري ربِّ فرأيتُهُ وضعَ كفَّه بينَ كتفي حتى وجدتُ بَرَدَ أنامِلِهِ في صدرِي وتجلَّى لي كل شيءٍ وعرفتُ. فقال: يا محمد فيم يختصمُ الملأُ الأعلى؟. قلتُ: في الكفَّاراتِ والدرجاتِ، قال: وما الكفَّاراتِ؟. قلتُ: نقْلُ الأقدام إلى الجمعاتِ، والجلوسُ في المساجدِ بعدَ الصلواتِ، وإسباغُ الوضوءِ عند الكريهاتِ، قال: وما الدرجاتُ؟. قلتُ: إطعامُ الطعام، ولينُ الكلام، والصلاةُ والناسُ نيامٌ. قال: سَلْ؟. قلتُ: اللَّهُمَ إني أسْألكَ إطعامُ الطعام، ولينُ الكلامِ، والصلاةُ والناسُ نيامٌ، قال: سَلْ؟ قلت: قلتُْ اللَّهم إنِّي

أسْألكَ فِعْلَ الخيراتِ، وتركَ المنكراتِ، وحبَّ المساكينِ، وأنْ تَغْفِرَ لي وترْحمني، وإذا أردتَ فتنة في قومٍ فتوفَّني غيرَ مفتونٍ، وأسألك حبَكَ وحبَّ مَن يحبُّك، وحبَّ عملٍ يُقَرّبُني إلى حبِّكَ " وقال رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: "إنها حقٌّ فادْرسوها وتعقَمُوها" وخرَّجَه الترمذيُّ، وقال: حديثٌ حسنٌ صحيحٌ، قال: وسألتُ محمدَ بنِ إسماعيلِ البخاريَّ عَنْ هذا؟ فقال: هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. قلتُ: وفي إسنادِهِ اختلافٌ، وله طرقٌ متعددةٌ، وفي بعضها زيادةٌ وفي بعضها نُقصانٌ، وقد ذكرتُ عامةَ أسانيدِهِ وبعضَ ألفاظه المختلفةِ في كتابي "شرح الترمذي "، وفي بعض ألفاظه عند الإمامِ أحمدَ، والترمذي أيضًا: "المشيُ على الأقدام إلى الجماعاتِ " بدل: "الجُمُعات " وفيه أيضًا عندهما بعد ذكْر الكفَّاراتِ زيادةُ: "ومَنْ فعلَ ذلك عاشَ بخير، وماتَ بخير، وكان مِنْ خطيئتِهِ كيوم ولدتْه أُمُّهُ "، وفيه أيضًا عندهما: " والدرجاتُ إفشاءُ السلام" بدل: (الين الكلا أ" وفي بعض رواياتِهِ: "فعلمتُ ما في السماءِ والأرضِ، ثم تلا: (وَكَذَلِكَ نرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ) " وفي رواية أخرى: "فتجلَّى لي ما بيْنَ السماءِ والأرضِ ". وفي رواية: "ما بيْنَ المشرقِ ". وفي بعضها زيادة في الدعاء وهي: "وتتوب عليَّ ". وفي بعضِها: "إسباغُ الوضوءِ في السبراتِ " وفي بعضها: "وقال: يا محمد إذا صليتَ، فقُلْ: اللَهُمَّ إني أسألك فِعْلَ الخيراتِ " فذكره. والمقصودُ هنا شرحُ الحديثِ وما يُستنبطُ منه مِنَ المعارفِ والأحْكامِ وغيرِ ذلك. ففي الحديثِ دلالةٌ على أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - لم يكن من عادتِهِ تأخيرُ صلاةِ

الصبح إلى قريبِ طلوع الشمسِ، وإنَّما كانتْ عادتُهُ التغليسَ بها، وكان أحيانًا يُسْفرُ بها عند انتشارِ الضوءِ على وجهِ الأرض، وأما تأخيرُها إلى قريبِ طلوع الشمسِ فلم يكنْ مِنْ عادتِهِ، ولهذا اعتذرَ لهم عَنْهُ في هذا الحديث. وقد قيل: إن تأخيرَها إلى هذا الإسْفارِ الفاحشِ لا يجوزُ لغيرِ عذرٍ، وأنَّه وقتُ ضرورةٍ، كتأخير العصر إلى بعد اصفرار الشمسِ وهو قولُ القاضي من أصحابِنا في بعضِ كتبه، وقد أوَمأ إليه الإمامُ أحمدُ وقال: هذهِ صلاةُ مفرط. إنَّما الإسْفارُ أن ينتشرَ الضوءُ على الأرضِ. وفي الحديثِ دلالةٌ على أنَّ من أخرَ الصلاةَ إلى آخر الوقتِ لعذرٍ أو غيره وخافَ خروجَ الوقتِ في الصلاةِ إنْ طَوَّلها أنْ يخففها حتَّى يُدْركها كُلَّها في الوقتِ. وأمَّا قولُ أبي بكر الصدِّيق - رضي الله عنه - لمَّا طوَّل في صلاةِ الفجرِ وقرأ بالبقرةِ فقيل له: كادت الشمسُ أنْ تطلعَ، فقال: لو طلعتْ لم تجدْنَا غافلين، فإن أبا بكر - رضي الله عنه - لم يتعمَّدِ التأخيرَ إلى طلوع الشمسِ ولا أنْ يمدَّها ويُطيلها حتَّى تطلعَ الشمسُ؛ لأنه دخلَ فيها بغلسٍ، وأطالَ القراءةَ، وربما كان قد استغرقَ في تلاوتِهِ، فلو طلعتِ الشمسُ حينئذٍ لم يضرَّه، لأنه لم يكنْ متعمدًا لذلك. وهذا يدلُّ على أنَّه كان يرى صحةَ الصلاةِ لمن طلعتْ عليه الشمس وهو في صلاتِهِ كما أمر النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - منْ طلعت عليه الشمسُ وقد صلَّى ركعة من الفجرِ أنْ يُضيفَ إليها أُخرى. وفي حديثِ معاذ دليل على أنَّ من رأى رُؤيا تَسُرُه فإنه يقَصُهُّا على أصحابِهِ وإخوانه المُحبينَ له، ولا سِيَّما إنْ تضمنتْ رُؤياه بشارةً لهم وتعليمًا

لما ينفعهم، وقد كان النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - إذا صلَّى الفجرَ يقولُ لأصحابِهِ: "من رأى منكم الليلة رؤيا" وفيه أيضًا: أن من استثقل نومه في تهجده بالليل حتَّى رأى رؤيا تَسُرُّه، فإنَّ في ذلك بُشْرى له. وفي "مراسيلِ الحسنِ ": "إذا نام - العبدُ وهو ساجدٌ باهى اللَّهُ الملائكةَ يقول: يا ملائكتي انظرُوا إلى عبدِي، جسَدُهُ في طاعتِي وروحُهُ عندي " وفيه دلالةٌ على شرفِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وتفضيلِهِ بتعليمِهِ ما في السماواتِ والأرضِ، وتجلَّى ذلك له مما تختصمُ فيه الملائكةُ في السماء وغير ذلك كما أُري إبراهيمُ ملكوتَ السماواتِ. وقد وردَ في غيرِ حديثٍ مرفوعًا، وموقوفًا أنَّه - صلى الله عليه وسلم - أعْطِي عِلْمَ كلِّ شيءٍ خلا مفاتيح الغيبِ الخمسِ التي اختصَّ اللَّهُ عزَّ وجلَّ بعلمِها، وهي المذكورةُ في قولِهِ عزَّ وجل: (إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (34) . وأمَّا وصفُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - لربِّه عزَّ وجلَّ بما وصفَهُ به فكُل ما وصف النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - ربَّه عزَّ وجلَّ به فهو حقٌّ وصدق يجبُ الإيمانُ والتصديقُ به كما وصفَ الله عزَّ وجلَّ به نفْسَهُ، مع نَفْي التمثيل عنه، ومَنْ أشكِلَ عليه فهْمُ شيءٍ مِنْ ذلك واشتبه عليه فليقل كما مدحَ اللَهُ تعالى به الراسخينَ في العلم وأخبرَ عنهم أنهم عند المتشابه (آمَنا بِهِ كلٌّ منْ عِندِ رَبِّنَا) ، وكما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في القرآن: "وما جهلتُمْ منه فَكِلُوهُ إلى عالِمِه " خرَّجه الإمامُ أحمدُ والنسائيُّ وغيرُهُما. ولا يتكلَّفُ ما لا عِلْمَ له به، فإنه يخشى عليه مِنْ ذلك الهلكة.

سمِعَ ابنُ عباسِ يومًا منْ يروي عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - شيئًا مِنْ هذه الأحاديثِ، فانتفضَ رجلٌ استنكارًا لذلك فقال ابنُ عباسٍ: ما فرقُ هؤلاءِ يجدونَ رِقَّةً عندَ مُحْكمه ويهلكونَ عندَ مُتَشابِهه " خرَّجه عبدُ الرزاقُ في كتابه عن معمرٍ عن ابنِ طاوسِ عن أبيه عن ابنِ عباسٍ - رضي الله عنهما -، كلما سمعَ المؤمنون شيئًا منْ هذه الكلامِ قالوا: هذا ما أخبرنا اللَّهُ ورسولُه وصدق الله ورسوله وما زادهم إلا إيمانا وتسليمًا. وفيه دلالةٌ على أنَّ الملأَ الأعْلى وهُم الملائكةُ أو المُقرَّبونَ منهم يختصمونَ فيما بينهم ويتراجعونَ القولَ في الأعمالِ التي تُقربُ بني آدمَ إلى اللَّهِ عزَّ وجلَّ وتُكَفَّرُ بها عنهم خطاياهُم وقد أخبرَ اللَّهُ عنهم بأنهم يستغفرون للذين آمنوا ويدْعون لهُمْ. وفي الحديثِ الصحيح: "إنَّ اللَّهَ إذا أحبَّ عبْدًا نادى إنِّي أحبُّ فلانًا فأحبَّه، فيحبُّه جبريلُ ثم ينادِي في السماءِ أنَّ اللَّهَ يحبُّ فلانًا فأحبِّوه فيحبَّه أهلُ السماءِ، ثم يوضعُ له القَبولُ في الأرضِ ". وقال أبو هريرة - رضي الله عنه -: إذا ماتَ ابنُ آدمَ قال الناسُ: ما خلفَ؟ وقالتْ الملائكةُ: ما قدَّمَ؛ فالملائكةُ يسألون عن أعمالِ بني آدمَ ولهُمْ اعتناءٌ بذلك واهتمامٌ به، وبقي الكلامُ على المقصودِ من الحديثِ، وهو ذِكْرُ الكفَّاراتِ والدرجاتِ والدعواتِ، ونعقدُ لكلِّ واحدةٍ منها فصْلاً مُفْردًا. الفصل الأول: في ذكر الكفَّاراتِ: وهو إسباغُ الوضوءِ في الكريهاتِ، ونقْلُ الأقدامِ إلى الجُمعاتِ أو الجَماعاتِ، والجلوسُ في المساجدِ بعدَ الصلواتِ، وسُميِّتْ هذه كفَّاراتٌ لأنها تُكَفِّرُ الخطايا والسيئاتِ، ولذلك جاء في بعضِ الرواياتِ: "مَنْ فعل ذلك عاشَ

بخيرٍ، وماتَ بخير، وكان مِنْ خطيئتِه كيوم ولدتْهُ أمُّه " وهذه الخصال المذكورةُ الأغلبُ عليها تكفيرُ السيئات، ويحصلُ بها أيضًا رفعُ الدرجاتِ كما في "صحيح مسلمٍ " عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "ألا أدلكم على ما يمحُو اللَّهُ به الخطايا ويرفعُ به الدرجاتِ؟ " قالُوا: بلى يا رسول اللَّه، قال: "إسباغُ الوضوءِ على المكارِهِ، وكثرة الخطا إلى المساجدِ، وانتظارُ الصلاةِ بعدَ الصلاةِ، فذلكُم الرباطُ فذلِكُم الرباط ". وقد رُوي هذا المعنى عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - من وجوهٍ متعددة، فهذه ثلاثةُ أسبابُ يُكفِّر اللَّهُ بها الذنوبَ: أحدها: الوضوء، وقد دلَّ القرآنُ على تكفيره الذنوب في قولهِ عزَّ وجلَّ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ) إلى قوله: (مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ) . فقولُهُ تعالى: (لِيطَهِّرَكمْ) يشمل طهارةَ ظاهرِ البدنِ بالماءِ. وطهارةَ الباطنِ من الذنوبِ والخطايا، وإتمامُ النعمةِ إنما يحصلُ بمغفرةِ الذنوبِ وتكفيرها كما قال تعالى لنبيِّه - صلى الله عليه وسلم -: (لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ) . وقد استنبط هذا المعنى محمدُ بنُ كعبٍ القرظيُّ، ويشهدُ له الحديثُ الذي خرَّجه الترمذيُّ وغيرُه، عن معاذٍ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سمعَ رجلاً يدعو يقول: اللَّهُمَّ إني أسألك تمامَ النعمة، فقال له: "أتدري ما تمامُ النعمة؟ " قال: دعوةٌ دعوتُ بها أرْجو بها الخيرَ. فقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ تمامَ النعمة: النجاةُ منَ النارِ ودخولُ الجنةِ"،

فلا تتم نعمةُ اللَّهِ على عبدِهِ إلا بتكفيرِ سيئاتِهِ. وقد تكاثرتِ النصوصُ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - بتكفيرِ الخطايا بالوضوءِ كما في "صحيح مسلم " عن عُثمانَ - رضي الله عنه -: أنه توضَّأ، ثم قال: رأيتُ رسولَ اللَّه - صلى الله عليه وسلم - توضَّأ مِثْلَ وضوئي هذا، ثم قال: "من توضَّأ هكذا غُفر له ما تقدَّمَ من ذنبه. وكانتْ صلاتُهُ ومَشْيُهُ إلى المسجدِ نافلةً"، وفيه أيضًا عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "منْ توضّأ فأحْسنَ الوضوءَ خرجتْ خطاياهُ منْ جَسَدِهِ حتَّى تخرجَ منْ تحتِ أظفارِهِ " وفيه أيضًا عن أبي هريرة عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا توضَّأ العبدُ المسلمُ أو المؤمنُ، فغَسَلَ وجهَهُ خرَجَ من وجههِ كل خطيئة نظر إليها بعينيه مع الماءِ أو مع آخِرِ قَطرِ الماءِ، فإذا غَسَلَ يديه خرجَ منْ يديه كلُّ خطيئةٍ بطشتْها يدَاهُ مع الماءِ أو مع آخر قطرِ الماء، فإذا غَسَلَ رجْليه خرجتْ كل خطيئةٍ مشتْها رِجْلاه مع الماءِ أو مع آخر قطرِ الماءِ، حتى يخرجَ نقيًّا من الذنوبِ " وفيه أيضًا عن عمرو بنَ عَبْسةَ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما مِنكُم من رجل يقربُ وضوءَه فيمضمضُ ويستنشقُ فينتثرُ إلا خرجتْ خطايا وجهِهِ وفيه وخياشيمِهِ، ثُمَّ إذا غسلَ وجههُ كما أمره اللَّهُ إلا خرجتْ خطايا وجهه من أطرافِ لحيتِهِ مع الماءِ، ثم يغسلُ يديه إلى المرفقينِ إلا خرجتْ خطايا يديه من أنامِلِهِ مع الماءِ، ثم يمسحُ رأسَهُ إلا خرجتْ خطايا رأسِهِ من أطرافِ شعرِهِ مع الماءِ ثم يغسلُ قدميهِ إلى الكعبينِ إلا خرجتْ خطايا رجليه من أنامِلِهِ مع الماءِ، فإنْ هو قامَ فصلَّى فحمدَ اللهَ وأثنى عليه ومجَّدهُ بالذي هو له أهل وفرغًّ قلبَهُ للهِ إلا انصرفَ من خطيئته كهيئتِهِ يومَ ولدتْهُ أُمُّهُ ".

وفي "الموطأ"، و"مسند الإمامِ أحمدَ" و"سنن النسائيّ " وابن ماجةَ عن الصنابحيِّ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: "إذا توضأ العبدُ المؤمنُ فمضمضَ خرجتِ الخطايا من فِيه، فإذا استنشقَ خرجتِ الخطايا من أنفِهِ، فإذا غسلَ وجهَه خرجتِ الخطايا من وجهِهِ حتَّى تخرجَ من تحتِ أشفارِ عينيه، فإذا غسلَ يديه خرجتِ الخطايا من يديه حتَّى تخرجَ من تحتِ أظفارِ يديه، فإذا مسحَ برأسِهِ خرجت الخطايا من رأسِهِ حتَّى تخرجَ من أذنيه، فإذا غسلَ رجليهِ خرجتِ الخطايا من رجليْهِ حَتَّى تخرجَ من تحتِ أظفارِ رجليِه، ثمَّ كان مشيُهُ إلى المسجدِ وصلاتُهُ نافلةً له ". وفي "المسندِ" عن أبي أُمامة عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "ما من مسلمٍ يتوضأ فيغسلُ يديه ويمضمضُ فاه ويتوضأ كما أُمِرَ إلا حطَّ اللَهُ عنه يومئذ ما نطقَ به فمُهُ، وما مسَّ بيده، وما مشى إليه، حتَّى إنَّ الخطايا تحادَرُ من أطرافِهِ، ثم هو إذا مشى إلى المسجدِ فَرِجْل تكتبُ حسنةً، وأُخرى تمحُو سيئة". وفيه أيضًا عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "أيُّما رجلٍ قامَ إلى وضوئِهِ يريدُ الصلاةَ ثم غسلَ كفَّيهِ، نزلتْ خطئيتُهُ من كفيه مع أولِ قطرة، فإذا مضمضَ واستنشقَ واستنثرَ نزلتْ خطيئتُهُ من لسانِهِ وشفتيهِ مع أولِ قطرةٍ، فإذا غسلَ وجهَهُ نزلتْ خطيئتُهُ من سمعِهِ وبصرِهِ مع أولِ قطرة، فإذا غسلَ يديه إلى المرفقينِ ورجليه إلى الكعبينِ سلم من كلِّ ذنبٍ هو له وكان من كلِّ خطيئةٍ كهيئتِهِ يومَ ولدتْهُ أمُّهُ فإذا قامَ إلى الصلاةِ رفعَ اللَّهُ درجتَهُ وإن قعدَ قعدَ سالما". وفي المعنى أحاديثُ أُخرُ وفيما ذكرناه كفايةً وللَّه الحمدُ والمنة.

وقد وردتِ النصوص أيضًا بحصول الثوابِ على الوضوء وهذا زيادة على تكفيرِ السيئاتِ، ففي "صحيح مسلم " عن عمرَ - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "من توضَّأ فاحسنَ الوضوءَ ثم قالَ: أشهدُ أن لا إله إلا اللَهُ وأنَّ محمدًا عبدُهُ ورسولُهُ، فتحتْ له أبوابُ الجنةِ الثمانيةِ يدخلُ من أيِّها شاءَ". وفيه أيضًا عن أبي هريرة عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: "تبلغُ الحليةُ من المؤمن حيث يبلغُ الوضوءُ". وفيه أيضًا عن أبي هريرة عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: " أنتم الغر المحجلونَ يومَ القيامةِ من إسباغِ الوضوءِ ". وخرَّجه البخاريُّ ولفظُهُ: "إن أمَّتي يُدعون يوم القيامةِ غرًّا محجلينَ من آثارِ الوضوءِ ". واعلمْ أن حديثَ معاذِ بنِ جبلٍ في المنامِ إنما فيه ذكرُ إسباغ الوضوءِ على الكريهاتِ: وكذا في حديثِ أبي هريرةَ المبدوءِ بذكرهِ في هذا الفصلِ فههنا أمرانِ: أحدهما: إسباغُ الوضوءِ، وهو: إتمامُهُ وإبلاغُهُ مواضِعَهُ الشرعيةَ كالثوبِ السابِغ المغطي للبدنِ كله. وفي "مسند البزارِ" عن عثمانَ مرفوعًا: "من توضَّأ فأسبغَ الوضوءَ غفرَ له ما تقدَّم من ذنبهِ وما تأخرَ" وإسنادُهُ لا بأس به وخرَّجه ابنُ أبي عاصم من وجهٍ آخرَ عن عثمانَ، وخرجَ النسائيُّ وابنُ ماجةَ من حديثِ أبي مالكٍ الأشعريِّ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "إسباغُ الوضوءِ شطرُ الإيمانِ "

وخرَّجه "مسلم" ولفظُهُ: "الطهورُ شطرُ الإيمانِ ". وثانيهما: أن يكونَ إسباغُهُ على الكريهاتِ، والمرادُ أن يكونَ على حالة تكرهُ النفسُ فيها الوضوءَ وقد فُسِّرَ بحال نزول المصائبِ فإن النفسَ حينئذ تطلبُ الجزعَ فالاشتغال عنه بالصبرِ والمبادرةِ إلى الوضوءِ والصلاةِ من علامة الإيمانِ، كما قال عزَّ وجلَّ: (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الخَاشعِينَ) ، وقال تعالى: (يَا أَيهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بْالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللًهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) . والوضوءُ مفتاح الصلاة وقد يُطفأ به حرارةُ القلبِ الناشئةِ عن ألمِ المصائبِ كما يُؤمرُ مَنْ غضِبَ بإطفاءِ غضبِهِ بالوضوءِ، وفسرتِ الكريهاتُ بالبردِ الشديدِ ويشهدُ له أنَّ في بعضِ رواياتِ حديثِ معاذ "إسباغُ الوضوءِ على السبرات " والسبرةُ: شدةُ البردِ، ولا ريبَ أنَّ إسباغَ الوضوءِ في شدة البردِ يشقُّ على النفسِ وتتألمُ به، وكلُّ ما يؤلمُ النفسَ ويشقُّ عليها فإنه كفارةَ للذنوبِ وإنْ لم يكنْ للإنسان فيه صنعٌ ولا تسببٌ، كالمرضِ ونحوِه كما دلتِ النصوصُ الكثيرةُ على ذلك. وأما إن كان ناشئًا عن فعلٍ هو طاعةٌ للَّه تعالى، فإنه يكتبُ لصاحبِهِ به أجرٌ وترفعُ به درجاتُهُ كالألم الحاصلِ للمجاهدِ في سبيلِ اللَّهِ تعالى قال اللَّهَ عزَّ وجلَّ: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (120) . وكذلك ألم الجوع والعطشِ الذي يحصلُ .

للصائم، فكذا التألمُ بإسباغ الوضوءِ في البردِ، ويجبُ الصبرُ على الألم بذلك، فإن حصلَ به رضى، فذلك مقامُ خواصِّ العارفين المحبينَ، وينشأ الرضى بذلكَ عن ملاحظةِ أمورٍ: أحدها: تَذَكُّرُ فضلِ الوضوءِ من حطِّه الخطايا ورفعِهِ الدرجاتِ، وحصولِ الغرة والتحجيل به وبلوغ الحليةِ في الجنّة إلى حيث يبلغ، وهذا كما انكسرَ ظفرُ بعضِ الصالحاتِ من السلفِ من عثرة عثرتْها فضحكتْ وقالتْ: أنسانِي حلاوةُ ثوابِهِ مرارةَ وجعِهِ. وقال بعضُ العارفينَ: من لم يعرفْ ثوابَ الأعمالِ ثقلتْ عليه في جميع الأحوالِ. الثاني: تَذَكُّرُ ما أعدَّه اللَّه عزَّ وجلَّ لمن عصاهُ من العذابِ بالبردِ والزمهريرِ في الآخرةِ، فإنَّ شدةَ بردِ الدنيا يذكرُ زمهريرَ جهنم، وفي الحديث الصحيح: "إنَّ أشدَّ ما تجدونَ من البردِ من زمهريرِ جهنَّم " فملاحظةُ هذا الألم الموعود يهونُ الإحساسَ بألم بردِ الماءِ كما رُوي عن زبيد الياميِّ أنه قام ليلةً للتهجدِ وكان البردُ شديدًا، فلمَّا أدخلَ يده في الإناءِ وجدَ شدةَ بردِهِ فذكرَ زمهرير جهنم، فلم يشْعُر ببردِ الماءِ بعد ذلك، وبقيتْ يدُه في الماءِ حتى أصبح، فقالتْ له جاريتُهُ: مالَكَ لم تصلِّ الليلةَ كما كنتَ تصلِّي؟ فقال: إني لما وجدتُ شدةَ بردِ الماءِ ذكرتُ زمهريرَ جهنَّم فما شعرتُ به حتىَ أصبحتُ، فلا تخبري بهذا أحدًا ما دمتُ حيًّا. الثالث: ملاحظةُ جلالِ مَنْ أمرَ بالوضوءِ، ومطالعةُ عظمتِهِ وكبريائهِ، وتذكرُ التهيئ للقيامِ بين يديه ومناجاتِهِ في الصلاةِ، فذلك يهونُ كلَّ ألمٍ ينالُ العبدَ

في طلبِ مرضاتِهِ من بردِ الماءِ وغير وربَّما لم يشعر بالماءِ بالكليةِ، كما قال بعضُ العارفين: بالمعرفة هانتْ على العاملينَ العبادةُ قال سعيدُ بنُ عامرِ: بلغَني أنَّ إبراهيمَ الخليلَ - صلى الله عليه وسلم - كانَ إذا توضا سُمِعَ لعظامِهِ قعقعةٌ. وكان علي بن الحسينُ إذا توضأ اصفرَّ، فيقال له: ما هذا الذي يعتريكَ عندَ الوضوء؛ فيقولُ: أتدرونَ بين يدي منْ أريدُ أن أقومَ له؟. وكان منصورُ بنُ زاذانَ إذا فرغَ من وضوئِهِ يبكي حتَى يرتفعَ صوتُهُ، فقيلَ له: ما شأنُك؟ فقالَ: وأيُّ شيءِ أعظم من شأني إني أريد أن أقومَ بين يدي من لا تأخذُهُ سنةٌ ولا نومٌ، فلعله يرضى عني. وكان عطاءٌ السلميُّ إذا فرغَ من وضوئِه ارتعد وانتفضَ وبكى بكاءً شديدًا. فقيلَ له في ذلك، فقال: إني أريدُ أن أتقدًّمَ إلى أمرٍ عظيمٍ، إني أريدُ أن أقومَ بين يدي اللَّهِ عزَّ وجل. الرابع: استحضارُ اطلاع اللَّهِ عزَّ وجلَّ على عبده في حالِ العملِ له. وتحملُ المشاقِ لأجلِهِ فمن تيقنَ أن البلاءَ بعينِ من يحبُّه هانَ عليه الألمُ كما أشارَ تعالى إلى ذلك بقولِهِ عزَّ وجلَّ لنبيَّه - صلى الله عليه وسلم -: (وَاصْبِرْ لِحُكْم رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا) . وقولُهُ تعالى لموسى وهارونَ عليهما السلامُ: (لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسمعُ وَأَرَى) . وقال - صلى الله عليه وسلم -: "اعبد الله كأنك تراهُ فإن لم تكنْ تراهُ فإنه يراك " قال أبو سليمانَ: قرأتُ في بعضِ الكتبِ، يقولُ اللَّهُ عزَّ وجلَّ: بعيني ما تحمَّلَ المتحملونَ من أجلي، وكابدَ المكابدونَ في طلبِ مرضَاتِي، فكيفَ بهم وقد صارُوا في جوارِي وتبحبَحُوا في رياضِ خلدِي؛ فهنالك فليستبشرِ المصفونَ للَّه أعمالهم بالمنظرِ العجيب من الحبيبِ القريبِ، أترونَ أنَي أضيعُ لهم عملاً؟ فكيف وأنا أجود على الموَلِّين عئي فكيفَ بالمقبلينَ إليَّ.

فإسباغُ الوضوءِ في البردِ لاسيَّما في الليل يطلعُ اللَّهُ عليه ويرضَى به ويباهي به الملائكةَ، فاستحضارُ ذلك يهونُ ألم بردِ الماءِ. وفي "المسندِ" و"صحيح ابن حبانَ " عن عقبةَ بنِ عامرٍ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "رجلانِ من أُمَّتي، يقومُ أحدُهُما من الليلِ يعالجُ نفسَهُ إلى الطهورِ وعليه عقدٌ فيتوضأ، فإذا وضَّأ يديه انحلتْ عقدة، وإذا وضأ وجهَهُ انحلتْ عقدة، وإذا مسحَ رأسَهُ انحلتْ عقدة، وإذا وضَّأ رجليه انحلتْ عقدة، فيقول الرب عزَّ وجل للذي وراء الحجابِ: انظرُوا إلى عبدِي هذا يعالجُ نفسَهُ يسألني، ما سألني عبدِي هذا فهو لَهُ " وذكرَ بقيةَ الحديثِ. وَرُوي عن عطيةَ عن أبي سعيدٍ عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله يضحكُ إلى ثلاثةِ نفرٍ، رجل قامَ من جوفِ الليلِ فأحسنَ الطهورَ فصلَّى" وذكر الحديث. كان بعضُ السلفِ له وِرْدٌ بالليلِ ففترَ عنهُ فهتفَ به هاتفٌ: ينظرُ اللَّه في الليلِ لما يصنعُ خدامُهُ إذا قامُوا أوحشتهم على الخدمةِ أحكامُهُ. الخامس: الاستغراقُ في محبةِ من أمرَ بهذه الطاعةِ وأنَّه يرضَى بهَا ويحبُّها. كما قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ) ، فمن امتلأ قلبُه من محبةِ اللَّه عزَّ وجلَّ أحبَّ ما يحبُّهُ وإنْ شقَّ على النفسِ وتألَّمتْ به. كما يُقال: المحبةُ تهونُ الأثقالَ. وقال بعضُ السلفِ في مرضِهِ: أحبُّه إليَّ أحبُّه إليه. وكما قيل: فَمَا لِجُرْح إِذَا أَرْضَاكُم أَلَمٌ

وكما قيل أيضًا: فِي حبكم يهونُ ماقد ألقَى. . . يسعدُ بالنعيم من لايشقَى من خدَمَ من يحبُّ تلذذَ بشقائهِ في خدمتهِ. وقال بعضُهم: القلبُ المحبُّ للَّهِ يحبُّ النصبَ له. وقالَ عبدُ الصمد: أوجدَ لهم في عذابهِ عذوبةً. إسباغُ الوضوءِ على المكاره من علاماتِ المحبينَ، كما في كِتابِ "الزهدِ" للإمامِ أحمدَ عن عطاء بن يسارٍ قال: قال موسى عليه السلام: "يا ربِّ من أهلُكَ الذينَ هم أهلُكَ الذينَ تظلهم في ظل عرشِكَ؟ قالَ: هم البريئةُ أبدانُهم الطاهرةُ قلوبُهم الذينَ يتحابُّون بجلالي، الذين إذا ذُكرتُ ذُكرُوا بي وإذا ذُكِروا ذكرتُ بذكرِهم، الذينَ يسبغونَ الوضوءَ في المكارهِ وينيبونَ إلى ذكْري كما تنيبُ النسورُ إلى أوكارِها، ويكلفُون بحبِّي كما يكلفُ الصبيّ بحبِ الناسِ ويغضبُونَ لمحارِمي إذا استحلَّت، كما يغضبُ النمرُ إذا حربَ ". وقد يخرقُ اللَّهُ العادةَ لبعضِ المحبينَ له فلا يجدُ ألمَ بردِ الماءِ، كما كانَ بعضُ السلفِ قد دعَا اللَّهَ أن يهوِّن عليه الطهورُ في الشتاءِ فكانَ يؤتى بالماء وله بخارٌ، وربما سُلِبَ بعضهُم الإحساسَ في الحرِّ والبردِ مطلقًا، وكانَ عليُّ ابنُ أبي طالبٍ - رضي الله عنه - قد دعَا له النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يذهبَ اللَّهُ عنه الحرَّ والبردَ فكانَ يلبسُ في الصيفِ لباسَ الشِتَاءِ وفي الشتاءِ لباسَ الصيفِ وقالَ - صلى الله عليه وسلم - فيه: "إنه يحبُّ اللهَ ورسولَهُ ويحبُّه اللَهُ ورسولُهُ ". ورأى أبو سليمانَ الدارانيُّ في طريقِ الحج في شدّةِ بردِ الشتاءِ شيخًا عليه أخلاقٌ رثةٌ وهو يرشحُ عَرقًا فسألهُ عن حالِهِ فقالَ: إنما الحرُّ والبرد خلقانِ للَّهِ

عز وجل، فإنْ أمرَهما أن يغشياني أصاباني وإن أمرهمَا أن يتركاني تركاني. وقالَ: أنا في هذِه البريةِ منذُ ثلاثينَ سنة يلبسُني في البردِ فيحًا من محبتِهِ ويلبسُني في الصيفِ بردًا من محبَّتهِ، وقيَّل لآخرَ وعليه خرقتان في بردٍ شديدٍ لو استترتْ في موضع يكنُّكَ من البردِ فأنشدَ: ويحسن ظنّي أنني في فنائهِ. . . وهلْ أحدٌ في كنِّهِ يجد البردَا السبب الثانِي: من مكفرات الذنوبِ المشيُ على الأقدامِ إلى الجماعاتِ وإلى الجمعاتِ، ولاسيَّما إن توضًّأ الرجلُ في بيتِهِ ثم خرجَ إلى المسجدِ لا يريدُ بخروجِه إلا الصلاةَ فيه، كما في "الصحيحينِ " عن أبىِ هريرةَ - رضي الله عنه - عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "صلاةُ الرجلِ في الجماعةِ تضعفُ على صلاتِهِ في بيتِهِ وفي سوقِهِ خمسًا وعشرينَ ضعفًا، وذلك أنه إذا توضَّأ فأحسَنَ الوضوءَ، ثم خرجَ إلى المسجدِ لا يخرَّجَهُ إلا الصلاةُ، لم يخط خطوةً إلا رُفِعت له بها درجة وحُطَّ عنه بها خطيئة، فإذا صلَّى لم تزلِ الملائكةُ تصلِّي عليهِ مادام في مصلاَّه، اللَّهم صلِّ عليه اللهم ارحمه، ولا يزالُ أحدُكم في صلاةٍ ما انتظر الصلاةَ". وفي "صحيح مسلم " عن أبي هريرة عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "منْ تطهَّرَ في بيته، ثمَّ مشى إلى بيتٍ من بيوتِ اللَّهِ ليقضِي فريضةً من فرائضِ اللَّهِ، كانتْ خطوتاهُ إحداهُما تحطُّ خطيئةً والأخرى ترفَعُ درجةً"، وفي "الصحيحين " عن أبي هريرةَ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "كل خطوة مشيهَا إلى الصلاة صدقة ". وفي "المسندِ" و "صحيح ابنِ حبانَ " عن عقبةَ بنِ عامرٍ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "إذَا تطهرَ الرجلُ ثمَّ أتَى

المسجدَ يرعى الصلاةَ كتبَ له كاتباهُ بكل خطوةٍ يخطوهَا إلى المسجدِ عشرَ حسناتٍ ". وفيهما أيضًا عن عبدِ اللَّهِ بنِ عمرٍو عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: " من راحَ إلى مسجدِ جماعة فخطوتاهُ خطوة تمحو سيئةً وخطوة تكتبُ حسنةً ذاهبًا وراجعًا" وفي "سنن أبي داودَ" عن أبي أمامةَ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "من خرجَ من بيتهِ متطهرًا إلى صلاةٍ مكتوبةٍ فأجرُه كأجرِ الحاجِّ المحرم" وفيه أيضًا عن رجلٍ من الأنصار عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "منْ توضأ فأحسنَ الوضوءَ ثم خرجَ إلى الصلاةِ، لم يرفع قدمَهُ اليمنى إلا كتبَ اللَّهُ له بها حسنةً، ولم يضعْ قدمَهُ اليُسرى إلا حطَّ اللَّهُ عنه بها خطيئةً، فليقرب أو ليبعد، فإنْ أتَى المسجدَ فصلَّى في جماعةٍ غُفِرَ لهُ " والأحاديث في هذا المعنى كثيرةٌ جدًّا. فالمشي إلى الجمعاتِ له مزيدُ فضلٍ لاسيَّما إن كانَ بعد الاغتسالِ كما في "السنن " عن أوسِ بنِ أوسٍ - رضي الله عنه - عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "من غسَّلَ يومَ الجمعةِ واغتسلَ، وبكَّرَ وابتكَرَ، ومشى ولم يركبْ، ودنا من الإمام واستمعَ ولم يلغُ، كان لهُ بكلِّ خطوةٍ أجرُ سنةٍ صيامُها وقيامُها". كلما بعُدَ المكانُ الذي يمشي منه إلى المسجدِ كانَ أفضل لكثرةِ الخُطا، وفي "صحيح مسلم" عن جابرٍ قال: "كانتْ دارُنا نائيةً عن المسجدِ، فأردْنا أن نبيعَ بيوتنَا فنقرب من المسجدِ، فنهانا رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وقال: "إنَ لكم بكلِّ خطوةٍ حسنةً"

وفي "صحيح البخاريِّ " عن أنس أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "يا بني سلمةَ ألا تحتسبونَ آثارَكم". وفي "الصحيحينِ " عن أبي موسى أنَ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنَّ أعظمَ الناسِ أجرًا في الصلاةِ أبعدُهمُ إليها ممشى فأبعدُهم ". ومع هذا فنفسُ الدارِ القريبة من المسجدِ أفضلُ من الدارِ البعيدةِ عنه، لكنَّ المشي من الدار البعيدةِ أفضلُ، ففي "المسندِ" عن حذيفةَ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "فضلُ الدارِ القريبةِ من المسجدِ على الدارِ البعيدةِ الشاسعةِ، كفضلِ الغازي على القاعدِ" وإسنادُه منقطعٌ. والمشيُّ إلى المسجدِ أفضلُ من الركوبِ كما تقدَّم في حديثِ أوسٍ في الجمع، ولهذا جاءَ في حديثِ معاذٍ ذكرُ المشي على الأقدامِ، وكادَ النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يخرجُ إلى الصلاة إلا ماشيًا حتَّى العيد يخرجُ إلى المصلَّى ماشيًا، فإنَّ الآتي للمسجدِ زائرُ اللَّهِ، والزيارةُ على الأقدامِ أقربُ إلى الخضوع والتذللِ، كما قِيل: لو جئتكم زائرًا أسْعى على بصرِي. . . لم أؤدَ حقا وأيَّ الحق أديتُ وفي "صحيح البخاريِّ " عن أبي هريرةَ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "من غدا إلى المسجدِ أو راحَ، أعدَّ اللَّهُ له نزلاً في الجنةِ كلَّما غدا أو راحَ " والنزلُ هو ما يعدُّ للزائرِ عندَ قدومهِ. وفي الطبراني من حديثِ سلمانَ مرفوعًا: "من توضَّأ في بيتهِ فأحسنَ الوضوء ثمَ أتى المسجدَ فهو زائرُ اللَّهِ تعالي وحقّ على المزورِ أن يكرمَ الزائرَ"

وفي "صحيح مسلم " عن أبيِّ بن كعبٍ قال: كانَ رجل لا أعلمُ رجلاً أبعدَ من المسجدِ منهُ وكانَ لا تخطئُهُ صلاةٌ في المسجدِ، قالَ: فقيل له: أو قلت لهُ: لو اشتريتَ حمارًا تركبُه في الظلماءِ أو في الرمضاء فقال: ما يسرّني أن منزلي إلى جنبِ المسجدِ، إني أريدُ أنْ يكتبَ لي ممشاي إلى المسجدِ. ورجوعي إذا رجعتُ إلى أهلي، فقال: رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: "قد جمعَ اللَّهُ لكَ ذلك كلَّه ". وكلما شقَّ المشيُ إلى المسجدِ كانَ أفضل ولهذا فُضِّلَ المشي إلى صلاةِ العشاءِ وصلاةِ الصبح وعدلَ بقيامِ الليلِ كله كما في "صحيح مسلمٍ " عن عثمانَ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "من صلى العشاءَ في جماعة فكأنَّما قامَ نصفَ الليل. ومن صلي الصبح في جماعةٍ فكأنما قامَ الليلَ ". وفي "الصحيحينِ " عن أبي هريرةَ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "أثقلُ صلاةٍ على المنافقينَ صلاةُ العشاءِ وصلاةُ الفجرِ، ولو يعلمونَ ما فيهمَا لأتوهُما ولو حبوًا". وإنما ثقلتْ هاتان الصلاتانِ على المنافقينَ لأنَّ المنافقَ لا ينشطُ للصلاةِ إلا إذا رآهُ الناسُ، كما قالَ تعالى: (وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كسَالَى يرَاءُونَ الناسَ وَلا يَذْكرُونَ اللهَ إِلاَّ قَلِيلاً) . وصلاة العشاءِ والصبحِ يقعان في ظلمةٍ فلا ينشطُ للمشي إليهما إلا كلُّ مخلص يكتفي برؤيةِ اللَّهِ عزَّ وجلَّ وحده لعلمِهِ وثوابُ المشي إلي الصلاة في الظُّلَمِ النورُ التامُّ في ظُلَم القيامةِ، كما في

"سنن أبي داودَ"، والترمذي عن بريدةَ عنَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: " بشِّر المشائينَ في الظل إلي المساجدِ بالنورِ التامِّ يومَ القيامةِ " وخرَّجهُ ابنُ ماجة من حديثِ سهلِ بن سعدٍ، وقد رُوي من وجوه كثيره. وفي بعضهَا زيادةٌ "يفزعُ النَّاس ولا يفزعونَ " قال النخعيُّ: وكانُوا يرونَ أنَّ المشيَ في الليلةِ الظلماء إلى الصلاة موجبةٌ - يعني: توجبُ المغفرةَ. وروينا عن الحسنِ قالَ: أهلُ التوحيدِ في النار لا يقيدونَ فيقولُ الخزنةُ بعضُهم لبعضٍ: ما بالُ هؤلاءِ لا يُقيَّدون، وهؤلاءِ يُقيَّدون؟ فينادِيهم مُنادٍ: إنَّ هؤلاءِ كانوا يمشونَ في ظُلَم الليل إلى المساجدِ، كما أنَّ مواضعَ السجودِ من عصاةِ الموحدينَ في النارِ لا تأكلهَا النَّارُ، فكذلك الأقدامُ التي تمشي إلى المساجدِ في الظلم لا تقيدُ في النار. ولا يسوِّي في العذابِ بينَ من خدمَهُ وبين من لم يخدِمه وإن عذَّبه. ومن كانَ في سخطهِ محسنًا. . . فكيف يكونُ إذا ما رضِي لمَّا كانتِ الصلاةُ صلةً بين العبدِ وبينَ ربَه، ومناجاةً تظهرُ فيها آثارُ تحلِّيهِ لقلوبِ العارفينَ وقربِهِ شرعَ قبلَ الدخولِ فيها الطهارةُ، فإنَّه لا يصلحُ للوقوفِ بين يدي اللَّه عز وجل والخلوةِ بمناجاتِهِ إلا طاهرٌ، فأمَّا المتلوثُ بالأوساخ الظاهرةِ والباطنةِ فلا يصلحُ للقربِ، فشرعَ اللَّهُ عز وجل للمصلِّي غسلَ أعضائِهِ بالماءِ ورتبَ عليها طهارةً ظاهرةً وباطنةً، ثمَّ شرعَ المشي إلى المساجدِ. وفيه أيضًا تكفيرُ الخطايا حتَّى تكملَ طهارةُ الذنوبِ إن بقي منها شيءٌ بعد الوضوءِ حتَّى لا يقفَ العبدُ في مقامِ المناجاةِ إلا بعدَ كمالِ طهارةٍ ظاهرةٍ

وباطنة من درنِ الأوساخ والذنوبِ، ولهذا شَرعَ لهُ تجديدَ التوبة والاستغفارَ عقب وضوءٍ حتَّى تكملَ طهارةُ ذنوبهِ، كما خرَّج النسائيُّ من حديثِ أبي سعيدٍ مرفوعًا وموقوفًا: "من توضَّا فأسبغَ الوضوءَ ثمَّ قالَ عندَ فراغِه من وضوئه: سبحانكَ اللهمَّ وبحمدكَ أستغفرُكَ وأتوبُ إليكُ، ختمَ عليها بخاتمٍ فوضعتْ تحتَ العرشِ فلم تُكسرْ إلى يوم القيامةِ". ومتى اجتهدَ العبدُ على تكميلِ طهارتهِ ومشيهِ إلى المسجدِ ولم يقوَ ذلكَ على تكفير ذنوبهِ، فإنَّ الصلاةَ يكملُ بها التكفيرُ، كما في "الصحيحينِ " عن أبي هريرةَ عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "أرأيتُم لو أنَّ نهرًا ببابِ أحدكُم يغتسلُ فيه كلَّ يومٍ خمسَ مراتٍ، هل يبقى من درنهِ شيء؟ " قالوا: لايبقى من درنهِ شيءٌ، قال: "فذلكَ مثلُ الصلواتِ الخمس يمحو اللَّهُ بهنَّ الخطايا". وإنْ قويَ الوضوءُ وحدهُ على تكفيرِ الخطايا، فالمشيُ إلى المسجدِ والصلاةُ بعده تكونُ زيادةُ حسناتٍ وهذا هو المرادُ من قولِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في حديث عثمانَ والصنابحي "وكان مشيهُ إلى المسجدِ وصلاتُه نافلةً"، وقد سبقَ ذكرُ الحديثين. واعلم أنَّ جمهورَ العلماءِ على أنَّ هذهِ الأسبابَ كلَّها إنما تكفَر الصغائرَ دونَ الكبائرِ وقد استدلَّ بذلكَ عطاءٌ وغيرهُ من السلفِ في الوضوءِ، وقال سلمانُ الفارسيُّ - رضي الله عنه -: الوضوءُ يكفِّرُ الجراحاتِ الصغارَ، والمشيُ إلى المسجدِ يكفِّرُ أكثرَ من ذلكَ والصلاة تكفر أكثر من ذلك. خرَّجهُ محمدُ بن نصر المروزيُّ، ويدل على أنَّ الكبائرَ لا تكفَّرُ بذلكَ ما في "الصحيحينِ " عن أبي هريرةَ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال:

"الصلواتُ الخمسُ والجمعةُ إلى الجمعةِ ورمضانُ إلي رمضانَ، مكفراتٌ لما بينهن إذا اجتنبتِ الكبائرُ". وفي "صحيح مسلم " عن عثمانَ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما من امرئٍ مسلمٍ تحضُرهُ صلاة مكتوبة فيحسنُ وضوءها وخشوعَها وركوعَها وسجودَها، إلا كانتْ كفارةً لما قبلَها من الذنوبِ ما لم تؤتَ كبيرة وذلكَ الدهرَ كلَّهُ ". فانظرْ إلى كم تيسرَ لك أسبابُ تكفيرِ الخطايا لعلكَ تُطهَّرُ منها قبلَ الموتِ فتلقاهُ طاهرًا فتصلحُ لمجاورتِهِ في دارِ السلام، وأنتَ تأبى إلا أن تموتَ على خبثِ الذنوبِ فتحتاجُ إلى تطهيرها في كيرِ جهنَّم، يا هذا أما علمتَ أنه لا يصلحُ لقربنا إلا طاهر، فإذا أردت قربَنا ومناجاتِنا اليومَ فطهِّر ظاهرَكَ وباطنَكَ لتصلُحَ لذلكَ، وإن أردتَ قربَنا ومناجاتِنَا غدًا فطهِّرْ قلبك من سوانَا لتصلحَ لمجاورتنَا (يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89) . والقلبُ السليمُ الذي ليسَ فيه غيرُ محبةِ اللَّهِ ومحبَّةِ ما يحبّه اللَّهُ "إن اللهَ طيبٌ لا يقبلُ إلا طيبًا" فما كلُّ أحدٍ يصلُح لمجاورةِ اللَّهِ تعالى غدًا، ولا كل عبدٍ يصلحُ لمناجاةِ اللَّهِ اليوم ولا على كلِّ الحالات تحسنُ المناجاةُ. الناسُ من الهوَى علَى أصنافِ. . . هذا نَقِضُ العهدِ وهذا وافي هيهاتَ من الكدورِ تبغي الصافي. . . ما يصلحُ للحضرةِ قلبٌ جَافي السبب الثالث: من مكفراتِ الذنوبِ الجلوسُ في المساجدِ بعد الصلواتِ. والمراد بهذا الجلوسِ انتظارُ صلاة أخرى كما في حديثِ أبي هريرةَ "وانتظارُ

الصلاة بعد الصلاةِ فذلكُمُ الرباطُ فذلكُمُ الرباطُ " فجعل هذا من الرباطِ في سبيلِ اللَّه عز وجل، وهذا أفضلُ من الجلوسِ قبلَ الصلاةِ لانتظارهَا، فإنَّ الجالسَ لانتظارِ الصلاةِ ليؤدِّيها ثم يذهبُ تقصُرُ مدةُ انتظاره بخلافِ من صلَّى صلاةً ثمَّ جلسَ ينتظرُ أخرى فإنَّ مدَّتَهُ تطولُ فإن كانَ كلما صلَّي صلاةً جلسَ ينتظرُ ما بعَدهَا استغرقَ عمرَهُ بالطاعةِ وكانَ ذلكَْ بمنزلةِ الرباطِ في سبيلِ اللَّه عز وجل. وفي "المسندِ"، و"سنن ابنِ ماجةَ " عن عبدِ اللهِ بن عمرٍو - رضي الله عنهما - قالَ: "صلَّيتُ مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المغربَ فرجعَ منْ رجعَ وعقبَ من عقبَ، فجاءَ رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مسرعًا قد حفزهُ النفَسُ وقد حسر عن ركبتيهِ فقالَ: "أبشرُوا هذا ربُّكم قد فتحَ بابا من أبواب السماءِ، يباهِي بكُمُ الملائكةَ، يقولُ: انظُروا إلي عبادِي قد قضَوا فريضة وهم ينتظرونَ أُخري ". وفي "المسندِ" عن أبي هريرةَ عن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "منتظرُ الصلاةِ بعدَ الصلاةِ كفارسٍ اشتدَّ به فرسُهُ في سبيلِ الله على كشحِهِ تصلِّي عليهِ ملائكةُ الله ما لم يحدثْ أو يقوم، وهو في الرباط الأكبر ". ويدخلُ في قولهِ: "والجلوسُ في المساجدِ بعدَ الصلواتِ " الجلوسُ للذكرِ والقراءةِ وسماع العلم وتعليمهِ ونحو ذلكَ لاسيَّما بعدَ صلاة الصبح حتى تطلعَ الشمسُ؛ فإنَّ النصوصَ قد وردتْ بفضلِ ذلكَ، وهو شبيه بمن جلسَ ينتظرُ صلاةً أخرى، لأنهَّ قد قضى ما جاءَ إلى المسجدِ لأجلِهِ من الصلاةِ وجلسَ ينتظر طاعةً أخرى. وفي "الصحيح " عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما اجتمعَ قوم في بيتٍ

من بيوتِ اللَّه تعالى يتلونَ كتاب اللَّه، ويتدارسونَهُ بينَهُم، إلاَّ نزلتْ عليهم السكينةُ، وغشيتهُم الرحمةُ، وحفتهُمُ الملائكةُ، وذكرهُمُ اللَهُ فيمنْ عندَهُ ". وأما الجالسُ قبلَ الصلاةِ في المسجدِ لانتظار تلكَ الصلاةِ خاصةً فهو في صلاةٍ حتَّى يصلِّي. وفي "الصحيحينِ " عن أنسٍ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - "أنه لما أخَّرَ صلاةَ العشاءِ الآخِرةَ، ثمَّ خرج فصلَّى بهم، قالَ لهم: "إنكم لم تزالُوا في صلاةٍ ما انتظرتُمُ الصلاةَ ". وفيهما أيضًا عن أبي هريرةَ - رضي الله عنه - عن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "الملائكةُ تصلِّي على أحدِكم ما دام في مصلاه ما لم يحدثْ، اللهم اغفرْ لهُ اللهم ارحمْهُ، ولا يزال أحدُكم في صلاةٍ ما كانتِ الصلاةُ تحبسُهُ لا يمنعهُ أن ينقلبَ إلى أهله إلا الصلاةُ" وفي روايةٍ لمسلمِ "ما لم يؤذِ فيه ما لم يحدِثْ فيهِ ". وهذا يدلُّ على أنَّ المرادَ بالحدثِ حدثُ اللسانِ ونحوِه من الأذَى، وفسرهُ أبو هريرةَ بحدثِ الفرج، وقيلَ: إنه يشملُ الحدثينِ. وفي "المسندِ" عن عقبةَ بن عامرٍ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "القاعدُ يراعي الصلاةَ كالقانت ويكتُب من المصلينَ من حين يخرجُ من بيتِهِ حتَّى يرجعَ إليه " وفي روايةٍ له: "فإذا صَلَّى في المسجد ثم قعدَ فيه كانَ كالصائم القانتِ حتَى يرجع ". وفي هذا المعنى أحاديثُ كثيرةٌ، وبالجملةِ فالجلوسُ في المساجدِ للطاعاتِ له فضلٌ عظيمٌ.

وفي حديثِ أبي هريرةَ - رضي الله عنه - عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "لا يوطِّن رجل المساجدَ للصلاةِ والذكر إلا تبشبش اللَّهُ عز وجل به كما يتبشبشُ أهلُ الغائب إذا قدمَ عليهم غائبُهُم ". ورَوى دراجٌ عن أبي الهيثم عن أبي سعيدٍ عن النبيًّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "من ألِفَ المسجدَ ألِفَهُ اللَّه ". وقال سعيدُ بنُ المسيبِ: من جلسَ في المسجدِ فإنَّما يجالسُ اللَّه عز وجلَ. وصحَّ عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - أنه عدَّ من السبعةِ الذينَ يظلُّهُمُ اللَّه في ظلَّه يومَ لا ظلَّ إلا ظلُّه رجلٌ قلبُهُ معلَّق بالمسجدِ إذا خرجَ منه حتى يعودَ إليه. وإنَّما كانتْ ملازمةُ المسجدِ للطاعاتِ مكفرةً للذنوبِ؛ لأنَّ فيها مجاهدةَ النفسِ وكفًّا لها عن أهوائِها؛ فإنها لا تميلُ إلا إلى الانتشار في الأرضِ لابتغِاء الكسب؛ أو لمجالسةِ الناس، أو لمحادثتهم، أو للتنزه في الدور الأنيقةِ والمساكنِ الحسنةِ ومواطنِ النزهِ، ونحو ذلكَ. فمن حبسَ نفسَهُ في المساجدِ على الطاعةِ فهوَ مرابطٌ لها في سبيلِ اللَّه مخالِفٌ لهواهَا، وذلكَ من أفضلِ أنواع الصبرِ والجهادِ. وهذا الجنسُ - أعني ما يؤلمُ النفسَ ويخالفُ هواهَا - فيه كفارةٌ للذنوبِ وإنْ كانَ لا صنعَ فيه للعبدِ كالمرضِ ونحوِه فكيفَ بما كانَ حاصِلاً عن فعلِ العبدِ واختياره إذا قصدَ به التقربَ إلي اللَّه عزَّ وجل، فإنَّ هذا من نوع الجهادِ في سبيلِ اللَّه الذي يقتضِي تكفيرَ الذنوبِ كلها ولهذا المعنى كانَ المشيُ إلى

المساجدِ كفارةً للذنوبِ أيضًا هو نوعٌ منَ الجهادِ في سبيلِ اللَّه أيضًا، كما خرَّجَهُ الطبرانيّ من حديثِ أبي أمامةَ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - " الغدو والرواح إلي المساجد من الجهادِ في سبيلِ اللهِ عزَّ وجل ". كان زياد مولَى ابن عباس أحد العبادِ الصالحينَ، وكانَ يلازمُ مسجدَ المدينةِ فسمعوهُ يومًا يعاتب نفسَهُ ويقولُ لها: أين تريدينَ أنْ تذهِبي، إلي أحسنَ من هذا المسجدِ؛ تريدينَ أن تبصرِي دارَ فلانِ ودار فلانِ. لما كانت المساجد في الأرضِ بيوتَ الله أضافَها اللَهُ إلى نفسِه تشريفًا لها وتعلقتْ قلوبُ المحبينَ للَّهِ عز وجلَّ بها لنسبتها إلي محبوبِهِم، وارتاحتْ إلى ملازمِتها لإظهارِ ذكرهِ فيها، قالَ تعالى: (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (36) رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ (37) . أين يذهبُ المحبونَ عن بيوتِ مولاهُم؛ قلوبُ المحبينَ ببيوتِ محبوبهِم متعلقةٌ، وأقدامُ العابدينَ إلي بيوتِ معبودِهم مترددةٌ. يا حبذَا العرعرُ النًجدي والبانُ. . . ودارُ قوم بأكناف الحِمى بانُوا وأطيبُ الأرضِ ما للقلبِ فيه هوى. . . سَمُّ الخياطِ مع الأحبابِ ميدانُ لا يُذْكرُ الرَّملُ إلا حنَّ مغتربٌ. . . له بذي الرمل أوطارٌ وأوطانُ يهفُو إلى البانِ من قلبي نوازعهُ. . . وما بي البانُ بل مَنْ دارُه البانُ

الفصل الثاني في ذكرِ الدرجاتِ المذكورة في حديثِ معاذٍ: وهي ثلاثٌ: أحدها: إطعامُ الطعامِ وقد جعلَهَ اللَّه في كتابهِ من الأسبابِ الموجبِة للجنةِ ونعيمِهَا، قالَ اللَّهُ عز وجل: (وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (8) إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا (9) إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا (10) فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا (11) وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا (12) مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا (13) وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا (14) وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا (15) قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا (16) وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلًا (17) عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا (18) . إلى قولهِ: (وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا (21) . فوصفَ فاكهتَهُم وشرابَهُم جزاء لإطعامِهِمُ الطعامَ. وفي الترمذيِّ من حديثِ أبي سعيدٍ الخدريِّ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "أيما مؤمن أطعمَ مؤمنًا على جوع، أطعمَهُ اللَّهُ منْ ثمارِ الجنة، ومنْ سقى مؤمنًا على ظمإٍ سقاهُ اللَّهُ من الرحيقِ المختوم" وفي "المسندِ" و "الترمذيِّ" عن علي عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنَّ في الجنةِ غرفا يُرى ظاهُرها من باطِنِها وباطنُها من ظاهرِهَا، قالوا: لمن هيَ يا رسولَ اللَّهِ؟ قالَ: لمن أطعمَ الطعامَ، وأطابَ الكلامَ، وصلَّي بالليلِ والناسُ نيامُ ". وفي حديثِ عبدِ اللَّه بنِ سلامٍ الذي خرَّجهُ أهلُ السنن أنه سمعَ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أولَ قدومِهِ المدينةَ يقولُ: "أيها الناسُ، أفشوا السلامَ، وأطعمُوا الطعامَ، وصِلوا الأرحامَ،

وصلُّوا بالليل والناسُ نيام تدخلُوا الجنةَ بسلامٍ ". وفي حديث عبادةَ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: "أنه سُئلَ أيُّ الأعمالِ أفضلُ؟ قال: " إيمان باللهِ وجهاد في سبيله وحجّ مبرورٌ، وأهونُ من ذلكَ إطعامُ الطعام ولينُ الكلامِ " خرَّجهُ الإمامُ أحمد. وفي حديثِ هانئ بن يزيد أنَ رجلاً قال: يارسولَ اللَّه، دلَّني على عملٍ يدخلني الجنةَ ويباعدُني من النارِ، قال: " تطعم الطعامَ وتفشِي السلامَ ". وفي حديثِ حُذيفةَ عن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "من خُتم لهُ بإطعام مسكينٍ دخلَ الجنةَ". وفي "الصحيحين " من حديثِ عبد اللَّهِ بن عمروٍ أنَّ رجلاً قالَ: يا رسولَ الله، أيُّ الإسلامِ خير؟ قالَ: "تطعمُ الطعامَ وتقرئُ السلامَ على من عرفتَ ومن لم تعرفْ ". وفي حديث صهيبٍ عن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "خيرُكم من أطعمَ الطعامَ " خرَّجهُ الإمامُ أحمد. فإطعامُ الطعامِ يوجبُ دخولَ الجنةِ، ويباعدُ من النارِ، وينجي منها كما قالَ تعالى: (فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ (12) فَكُّ رَقَبَةٍ (13) أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ (15) أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ (16) .

وفي الحديثْ الصحيح عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: "اتقوا النار ولو بشقِّ تمرةٍ" وكان أبو موسى الأشعريُّ - رضي الله عنه - يقولُ لولدِهِ: اذكرُوا صاحبَ الرغيفِ، ثم ذكرَ أنَّ رجلاً من بني إسرائيلَ عبدَ اللَّهَ سبعينَ سنةً ثمَّ إنَّ الشيطانَ حسَّنَ في عينيهِ امرأةً فأقامَ معها سبعةَ أيامٍ ثمَّ خرجَ هارباً فأقامَ مع مساكينَ فتُصُدِّقَ عليهِ برغيفٍ، كان بعضُ أولئكَ المساكين يريدهُ فآثره بهِ ثم ماتَ، فوزِنَ عبادتُهُ بالسبعةِ الأيام التي مع المرأةِ فرجحتِ الأيامُ السبعةُ بعبادَتِهِ، ثم وزنَ الرغيفُ بالسبعةِ الأيامِ فرجحَ بها. ويتأكدُ إطعامُ الطعامِ للجائع وللجيرانِ خصوصًا، وفي "الصحيح " عن أبي موسى الأشعريِّ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "أطعموا الجائعَ وعودُوا المريضَ وفكُّوا العاني ". وفي "صحيح مسلم" عن أبي ذرٍّ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال لهُ: "إذا طبختَ مرقةً فأكثرْ ماءها وتعاهدْ جيرانَكَ ". وفي المسندِ، وصحيح ابن حِبانَ عن عمرَ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "أيُّما عرصةٍ أصبحَ فيهم امرؤ جائعًا، فقد برئتْ منهم ذمةُ اللَّه عزَّ وجلَ ". وقال - صلى الله عليه وسلم -: " لا يشبعُ المؤمنُ دونَ جاره ". وفي "صحيح الحاكم " عن ابن عباس عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "ليسَ بالمؤمنِ الذي يشبعُ وجارُه جائغ " وفي رواية: "ما آمن من بات شبعانا وجاره طاويًا ". فأفضلُ أنواع إطعامِ الطعامِ الإيثارُ مع الحاجةِ كما وصفَ اللَهُ تعالى

بذلكَ الأنصارَ - رضي الله عنهم - فقال: (وَيُؤْثِرونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهم خَصَاصَة) وقدْ صحَّ أنَّ سبَب نزولها أنَّ رجلاً منهم أخذ ضيفاً من عند النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - يضيفُه فلم يجدْ عندَهُ إلا قوتَ صبيانِهِ، فاحتالَ هوَ وامرأتُهُ حتَّى نوَّما صبيانَهُمَا وقامَ إلى السراج كأنه يصلحُهُ فأطفأهُ، ثم جلسَ مع الضيفِ يريهِ أنه يأكلُ معهُ ولم يأكلْ فلما غدًا على رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - قال لهُ: "عجبَ اللَّهُ من صنيعِكُما الليلةَ" ونزلتْ هذه الآيةُ. وكان كثيرٌ من السلفِ يؤثرُ بفطورِه غيرَه وهو صائمٌ ويصبحُ صائمًا. منهم عبدُ اللَّه بنُ عمرَ - رضي الله عنهما -، وداودُ الطائيُّ، وعبدُ العزيز بنُ سليمانَ، ومالك بنُ دينارٍ، وأحمدُ بنُ حنبلٍ، وغيرُهم، وكان ابنُ عمرَ لا يفطرُ إلا مع اليتامَى والمساكينِ وربما عَلمَ أن أهلَهُ قد ردُّوهم عنه فلم يفطرْ تلكَ الليلةَ. ومنهم من كانَ لا يأكلُ إلا مع ضيفٍ له. قال أبو السوارِ العدويُّ: كانَ رجالاً من بني عدي يصلُّون في المسجدِ ما أفطرَ أحدٌ منهُم على طعامٍ قط وحدَهُ، إن وجدَ من يأكلُ معه أكلَ، وإلا أخرجَ طعامَهُ إلى المسجدِ فأكلهُ مع الناسِ وأكلَ الناسُ معهُ. وكانَ منهُم من يطعمُ إخوانهُ الطعامَ وهو صائم ويجلسُ يخدمهُم. ويروحهُم، منهمُ الحسنُ، وابنُ المباركِ، وكان ابنُ المباركِ ربما يشتهي الشيءَ فلا يصنعُهُ إلا لضيفٍ ينزلُ به فيأكلُهُ مع ضيفِهِ، وكانَ كثير منهُم يفضلُ إطعامَ الإخوانِ على الصدقةِ على المساكينِ. وقد رُويَ هذا المعنى مرفوعًا من حديث أنسٍ بإسنادٍ ضعيفٍ، ولاسيَّما إن كان الإخوانُ لا يجدونَ مثل ذلكَ الطعامِ. كانَ بعضُهم يعملُ الأطعمةَ الفاخرةَ ثم يطعمُها إخوانَهُ الفقراءَ ويقولُ: إنهم

لا يجدونَها، وبعضُهم يُصنَعُ له طعامٌ ولا يأكلُ ويقولُ: إني لا أشتهيهِ وإنما صنعتُهُ لأجلِكمُ، وبعضُهم اتخذَ حلاوةً فأطعمَهُا المعتوهَ، فقالَ له أهلهُ: إن هذا لا يدري ما يأكلُ، فقال: لكن اللَّهَ يدرِي. واشتَهى الربيعُ بنُ خثيم حلواءَ، فلما صنعتْ لهُ دعَا بالفقراءِ فأكلُوا، فقالَ له أهلُه: أتعبتَنا ولم تأكل، فقالَ: ومن أكلَهُ غيرِي، وقالَ آخرُ منهُم وجَرَى له نحوٌ من ذلكَ: إذا أكلتُهُ كانَ في الحشِّ وإذا أطعمتُهُ كانَ عندَ اللهِ مدخوراً. ورُوي عن علي قالَ: لأنْ أجمعَ أناسًا من إخواني على صاع من طعامٍ أحب إليَّ من أن أدخلَ سوقكُم هذه فابتاعُ نسمةً فأعتقُها. وعن أبي جعفرٍ محمد بن على قالَ: لأن أدْعُو عشرةً من أصحابي فأطعمهُمُ طعامًا يشتهونَهُ، أحبَّ إليَّ منْ أن أعتقَ عشرةً من ولد إسماعيل. أأصفُ الإيثارَ لمن يبخلُ بأداء الحقوقِ الواجبةِ عليهِ، أأطلبُ الشجاعةَ من الجبانِ، وأستشهِدُ على رؤيةِ الهلالِ من هوَ من جملةِ العميانِ، كم بينَ من قيلَ فيه: (فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ) ، وبين من قيلَ فيهِ: (وَيؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ) . بيننا وبين القومِ كما بينَ اليقظةِ والنوم. لا تعرضنَّ لذكرِنَا في ذكرِهِم. . . ليسَ الصحيحُ إذا مشىَ كالمقعدِ فيا من يطمعُ في علوّ الدرجاتِ من غيرِ عمل صالح هيهاتَ هيهاتَ (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحوا السَّيِّئَاتِ أَن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) . نزلواُ بمكةَ في قبائل نوفلٍ. . . ونزلت بالبيداءِ أبعدَ منزلِ الفصل الثالث من الدرجاتِ: لينُ الكلامِ وفي رواية: "إفشاءُ السلام " وهو

داخل في لينِ الكلامِ، وقد قالَ اللَهُ عز وجل: (وَقُولُوا لِلناسِ حُسْنًا) . وقال تعالى: (وَقُل لِعِبَادِي يَقُولوا التِي هِيَ أَحْسَنُ) . وقالَ تعالى: (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35) . وقالَ تعالى: (وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) . وقالَ تعالى: (وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ) . ولما قالَ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -: "الحجُّ المبرورُ ليسَ له جزاء إلا الجنةَ، قالوا له: وما الحج المبرورُ يا رسول اللَّه؟ قال: إطعامُ الطعام ولينُ الكلام " خرَّجهُ الإمامُ أحمد، وقد تقدَّم في ذكر إطعامِ الطعامِ أحاديثُ أخرُ في طيبِ الكلامِ. وفي الحديث الصحيح عن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - "والكلمةُ الطيبةُ صدقة " وفيه أيضًا اتقوا النارَ ولو بشقِّ تمرةِ فمن لم يجدْ فبكلمةِ طيبةٍ،. وأما كونُ إفشاء السلامِ من موجباتِ الجنةِ ففي "صحيح مسلم" عن أبي هريرةَ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "والذي نفسي بيدِهِ لا تدخلُوا الجنةَ حتى تؤمنُوا ولا تؤمنُوا حتى تحابَّوا ألا أدلُّكُم على شيء إذا فعلتُمُوه تحاببتُم أفشوا السلامَ فيما بينَكُم " وخرَّجَ أبو داود من حديثِ أبي أُمامةَ عن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "إنَّ أوْلَى الناسِ باللَّهِ تعالي منْ بدأهُم بالسلامِ. ويُروَي من حديثِ ابن مسعود مرفوعًا وموقوفًا "إذا مرَّ الرجلُ بالقوم فسلَّم عليهِم فردُّوا عليهِ كانَ لهُ عليهِم فضلُ درجة، لأنَّه ذكَّرهُم بالسلامِ، وإن لم يردُّوا عليهِ ردَّ عليهِ ملأٌ خيرٌ منهُم وأطيبُ،.

وقد رُويَ من حديثِ عمرانَ بن حصينٍ وغيرِه "أنَّ رجلاً دخلَ على النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فقاَلَ: السلامُ عليكم، فقالَ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -: "عشر"، ثم جاءَ آخرُ فقالَ: السلامُ عليكُم ورحمةُ اللَّهِ، فقالَ رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - "عشرونَ ". ثم جاءَ آخرُ فقال: السلامُ عليكُم ورحمةُ اللَّهِ وبركاتهُ، فقالَ رسول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - "ثلاثون " خرَّجهُ الترمذيُّ وغيرُه، وخرَّجهُ أبو داود وزادَ "ثمَ جاءَ آخرُ فقالَ: السلامُ عليكُم ورحمةُ اللَّهِ وبركاتهُ ومغفرتهُ، فقالَ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - "أربعون "، ثم قالَ: "هكذا تكون الفضائل ". وقد سبقَ حديثُ "أنْ تقرأ السلامَ على من عرفتَ ومن لم تعرفْ " وفي حديثِ ابن مسعود مرفوعًا "من أشراطِ الساعةِ السلامُ بالمعرفةِ " خرَّجهُ الإمامُ أحمد. وإنما جمعَ بينَ إطعامِ الطعامِ ولين الكلامِ ليكملَ بذلكَ الإحسانُ إلى الخلقِ بالقولِ والفعلِ فلا يتمُّ الإحسانُ بإطعامِ الطعامِ إلا بلينِ الكلامِْ وإفشاءِ السلامِ، فإنْ أساءَ بالقولِ بطلَ الإحسانُ بالفعلِ من الإطعامِ وغيرِه كما قالَ اللَّهُ تعالي: (يَا أَيّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تبْطِلُوا صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأَذَى) . وربما كانَ معاملةُ الناسِ بالقولِ الحسنِ أحبَّ إليهم من إطعامِ الطعامِ والإحسانِ بإعطاءِ المال، كما قالَ لقمانُ لابنهِ: يا بنيَّ لأن تكنْ كلمتُكَ طيبةً ووجهُكَ منبسطَا تكنْ أحبَّ إلى الناسِ ممن يعطِيهِم الذهبَ والفضةَ، وقد كانَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يلينُ القولَ حتى لمن يشهدُ له بالشر فينتفي بذلكَ شرُّهُ، وكانَ - صلى الله عليه وسلم - لايواجهُ أحدًا بما يكرهُ في وجهِهِ ولم يكنْ - صلى الله عليه وسلم - فحاشًا ولا متفحشًا. ورُويَ عن ابن عمرَ أنَّه كانَ ينشدُ:

بنيَّ إن البرَّ شيءٌ هينُ. . . وجهٌ طليقٌ وكلامٌ لينُ ولبعضهِم: خذِ العفوَ وأمرْ بعرفٍ كَما. . . أُمرْتَ وأعرضْ عن الجاهلينَ ولِنْ في الكلامِ لكلَّ الأنامِ. . . فمستحسن من ذوي الجاهِ لينِ وقد وصفَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ في كتابِهِ أهلَ الجنةِ بمعاملة الخلقِ بالإحسانِ بالمالِ واحتمالِ الأَذَي فقالَ تعالى: (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134) . فالإنفاقُ في السراءِ والضراءِ يقتضي غاية الإحسان بالمالِ من الكثرةِ والقلَّة، وكظم الغيظ والعفوِ عن الناسِ يقتضِي عدمَ المقابلةِ على السيئةِ من قولٍ وفعلٍ وذلك يتضمنُ إلانةَ القولِ واجتنابَ الفحشِ والإغلاظَ في المقالِ، ولو كانَ مباحًا، وهذا نهايةُ الإحسانِ فلهذا قالَ تعالَى: (وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) . ومن هذا قولُ بعضهم وقد سُئِلَ عن حُسنِ الخلقِ فقالَ: بذلُ النَّدى وكفُّ الأذَى. وهذا الوصفُ المذكورُ في القرآنِ أكملُ من هذا، لأنَّه وصفهُم ببذلِ الندى واحتمالِ الأذى، وحُسنِ الخلقِ يبلغُ به العبدُ درجاتِ المجتهدينَ في العبادةِ. كما قالَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "إن الرجلَ ليدرِكُ بحسنِ خلقِهِ درجةَ الصائم النهارَ القائم الليلَ ". ورؤيَ بعضُ السلفِ في المنامِ فسئلَ عن بعضِ إخوانِهِ الصالحينَ فقالَ: وأينَ ذلكَ رُفعَ في الجنةِ بحسنِ خلقِهِ.

ومما يندبُ إلى إلانةِ القولِ فيه الأمرُ بالمعروفِ والنهيُ عن المنكرِ وأنْ يكونَ برفقٍ، كما قالَ تعالَى: (وَجَادِلْهُم بِالتِي هِيَ أَحْسَنُ) . قال بعضُ السلفِ: ما أغضبتَ أحدًا فَقَبِلَ مِنْكَ، وكانَ أصحابُ ابنِ مسعودِ إذا رأوا قومًا على ما يكرهُ يقولونَ لهم: مهلاً مهلاً باركَ اللَهُ فيكم. ورأى بعضُ التابعينَ رجلاً واقفًا مع امرأة فقالَ لهما: إن اللهَ يراكمُا سترنا اللهُ وإيَّاكما، ودُعي الحسنُ إلى دعو فجيء بآنيةِ فضة فيها حلواءُ، قأخذَ الحسنُ الحلواءَ فقلبهَا على رغيف وأكلَ منهَا، فقالَ بعضُ من حضرَ: هذا نهى في سكون. ورأى الفضيلُ رجلاً يعبثُ في صلاتِهِ فزبرهُ، فقالَ له الرجلُ: يا هذا ينبغي لمنْ يقومُ للهِ أن يكونَ ذليلاً، فبكى الفضيلُ وقالَ له: صدقتَ. قال شعيبُ بنُ حرب: ربما مرَّ سفيانُ الثوريُّ بقومٍ يلعبونَ بالشطرنج فيقولُ: ما يصنعُ هؤلاءِ؟ فيقالُ له: يا عبد اللهِ ينظرونَ في كتاب، فيطاطئ رأسَهُ ويمضي، وإنما يريدُ بذلكَ ليُعلمَ أنَّه قد أنكَرَ. وقالَ سفيانُ: لا يأمرُ بالمعروفِ ولا ينهى عن المنكرِ إلا من كانَ فيهِ خصالٌ ثلاث: رفيقٌ بما يأمرُ، رفيق بما يَنهى، عدلٌ بما يأمرُ، عدلٌ بما ينهى، عالمٌ بما يأمرُ، عالم بما يَنهَى. وقالَ الإمامُ أحمدُ: الناسُ يحتاجونَ إلى مداراةٍ ورفقٍ في الأمر بالمعروفِ بلا غلظةٍ إلا رجلاً معلنًا بالفسقِ، فإنَهُ لا صبرَ عليه. وكانَ كثير من السلفِ لا يأمرُ بالمعروفِ ولا ينهى عن المنكرِ إلا سرًّا فيما بينه وبينَ من يأمُرُه وينهاهُ. وقالَ أبو الدرداءِ: من وعظَ أخاهُ سرًّا فقد زانهُ ومن وعظه علانية فقد شانهُ. وكذلك مقابلةُ الأذى بإلانةِ القولِ كما قالَ تعالَى: (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَن السَّيئَةَ)

وقالَ تعالَى: (وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَة السَّيئَةَ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ) . قال بعضُ السلفِ: هو الرجلُ يسبُّه الرجلُ، فيقولُ له: إن كنتَ صادقًا فغفر اللَّهُ لي، وإن كنتَ كاذبًا فغفرَ اللَّهُ لكَ. قالَ رجل لسالم بنِ عبد اللَّهِ وقد زحمتْ راحلتُه في سفر: ما أراك إلا رجلَ سوءٍ، فقال له سالمٌ: ما أراكَ أبعدتَ. وقالت امرأةٌ لمالكِ بن دينارٍ: يا مُرائي، قال: متى عرفتِ اسمي؟ ما عرفَه أحدٌ من أهلِ البصرةِ غيرُكِ. ومرَّ بعضُهم على صبيانٍ يلعبونَ بجوزٍ فوطئَ على بعضِ الجوز بغير اختيارهِ فكسرَهُ، فقالَ له الصبيّ: يا شيخُ، النارَ، فجلسَ الشيخُ يبكي ويقولُ: ما عرفني غيرُهُ. ومر بعضُهم مع أصحابهِ في طريقٍ فرموا عليهِم رمادًا، فقالَ الشيخ لأصحابِهِ: من يستحق النَّارَ فصالحُوه على الرمادِ، يعني فهو رابح. ورأى جنديٌّ إبراهيمَ بنَ أدهمَ خارج البلدِ فسألهُ عن العمرانِ فأشارَ له إلى القبورِ فضربَ رأسهُ ومضَى فقيلَ له: إنَّه إبراهيمُ بنُ أدهمَ فرجعَ يعتذرُ إليهِ. فقالَ له إبراهيم: الرأسُ الذي يحتاجُ إلى اعتذاركَ تركتُه ببلخ، ومرَّ به جنديٌّ آخر وهو ينظرُ بستانًا لقومٍ بأجرةٍ فسألهُ أن يناولَهُ شيئا فلم يفعل وقالَ: إنَّ أصحابَهُ لم يأذنوا في ذلك، فضربَ رأسَهُ فجعلَ إبراهيمُ يطأطئ رأسَهُ وهو يقولُ: اضربْ رأسًا طالمَا عَصى اللَّهَ. من أجلكَ قد جعلتُ خدِّي أرضًا. . . للشامتِ والحسودِ حتى ترضَى الثالثُ من الدرجات: الصلاةُ بالليلِ والناسُ نيام: فالصلاةُ بالليلِ من موجباتِ الجنةِ كما سبقَ ذكرُه

في غيرِ حديثٍ، وقد دلَّ عليه قولُه عز وجل: (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (15) آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ (16) كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (17) وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (18) وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (19) . فوصفَهم بالتيقظِ بالليلِ والاستغفارِ بالأسحارِ وبالإنفاقِ من أموالهِم. كانَ بعضُ السلفِ نائمًا فأتاه آتٍ في منامِه فقالَ له: قمْ فصلِّ أما علمتَ أن مفاتيحَ الجنةِ مع أصحابِ الليلِ هم خزانهَا؟! وقيام الليلِ يوجب علو الدرجات في الجنةِ قالَ اللَّهُ تعالَى لنبيهِ - صلى الله عليه وسلم -. (وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَى أَن يَبْعَتَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مُّحْمُودًا) . فجعلَ جزاءَهُ على التهجدِ بالقرآنِ بالليلِ أن يبعثَهُ المقامَ المحمودَ وهو أعْلى درجاتِهِ - صلى الله عليه وسلم -. قال عونُ بنُ عبدِ اللَّهِ: " إنَّ اللهَ يُدخلُ الجنةَ أقوامًا فيعطِيهم حتى يملُّوا وفوقَهم ناسٌ في الدرجات العلى، فلما نظروا إليهم عرفوهُم فقالُوا: ربنا. إخواننا كنَّا معهُم فبم فضًّلْتهم علينا؟ فيقولُ: هيهاتَ هيهاتَ إنَّهم كانُوا يجوعونَ حين تشبعونَ، ويظمؤونَ حين تروونَ، ويقومونَ حينَ تنامون، ويشخصونَ حينَ تخفضونَ ". ويوجبُ أيضًا نعيمَ الجنةِ ما لم يطلعْ عليه العبادُ في الدنيا قالَ اللَّهُ عز وجل: (تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (16) فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17) . وفي "الصحيح " عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "يقول اللهُ عز وجل: أعددتُ لعبادِي الصالحينَ ما لا عين رأتْ، ولا أذن سمعتْ، ولا خطرَ على قلبِ بشر اقرؤوا إن شئتمُ: (فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17) ".

قال بعضُ السلفِ: أخفَوا للَّهِ العملَ فأخفَى اللَّهُ لهم الجزاءَ فلو قدموا عليهِ لأقرَّ تلكَ الأعينَ عندَهُ. ومما يجزي به المتهجدينَ في الليلِ كثرةَ الأزواج من الحورِ العين في الجنةِ فإنَّ المتهجدَ قَد تركَ لذةَ النومِ بالليلِ ولذةَ التمتع بأزواجِهِ طلبًا لما عندَ اللَّهِ عز وجل فعوَّضَهُ اللَّهُ تعالَى خيرًا مما تركَهُ وهوَ الحورُ العينِ في الجنةِ، ومن هُنا قال بعضُهم: طول التهجدِ مهورُ الحورِ العينِ في الجنةِ. وكانَ بعضُ السلفِ يُحيي الليلَ بالصلاة، فَفَتُرَ عن ذلك فأتاه آتٍ، فقال له: قد كنتَ يا فلانُ تدأبُ في الخطبةِ، فما الذي قصرَ بكَ عن ذاكَ؟ كنتَ تقومُ من الليلِ أوَ ما علمتَ أن المتهجدَ إذا قامَ إلى التهجدِ قالتِ الملائكةُ: قد قامَ الخاطبُ إلى خطبتِهِ؟! ورأى بعضُهم في منامهِ امرأةً لا تشبهُ نساءَ الدُّنيا فقال لها: من أنتِ؟ قالتْ: حوراءُ أمةُ اللَّهِ، فقال لها: زوِّجِيني نفسَكِ، قالتْ: اخطُبني إلى سيدي وامهُرني، قال: وما مهرُكِ؟ قالتْ: طول التهجدِ. قامَ بعضُ المتهجدينَ ذاتَ ليلةٍ فرأى في منامهِ حوراءَ تنشدُ: أتخطبُ مثْلي وعني تنامُ. . . ونومُ المحبينَ عنَّا حرامُ لأنا خلقْنَا لكلِّ امرئٍ. . . كثيرِ الصلاةِ براهُ الصيامُ وكانَ لبعضِ السلفِ وِرْدٌ من الليلِ فنَامَ عنهُ ليلةً فرأى في منامِه جاريةً كأنَّ وجهها القمرُ، ومعَها رقٌّ فيه كتابٌ فقالتْ: أتقرأ؟ قال: نعم، فأعطتهُ إياهُ ففتحهُ فإذا فيه مكتوبٌْ أتلهُو بالكَرَى عن طيبِ عيشٍ. . . مع الخيراتِ في غرفِ الجنانِ

تعيش مخلَّدًا لا موت فيهِ. . . وتنعمُ في الجنانِ مع الحسانِ تيقظ من منامِكَ إن خيرًا. . . من النومِ التهجد بالقرانِ فاستيقظَ قالَ: فواللهِ ما ذكرتُها إلا ذهبَ عنِّي النومُ. كان بعضُ الصالحينَ له وِرْدٌ فنامَ عنه فوقفَ عليه فتى في منامِهِ فقال لهُ لصوتٍ محزونٍ: تيقظْ لساعاتٍ من الليلِ يا فتى. . . لعلكَ تحظَى في الجنانِ بحورِها فتنعمُ في دار يدومُ نعيمُهَا. . . محمدٌ فيها والخليل يزورهَا فقم فتيقظْ ساعةً بعد ساعةٍ. . . عساكَ توفَّى ما بقيَ من مهورِها كان بعضُ السلفِ الصالحينَ كثيرُ التعبدِ، فبكى شوقًا إلى اللهِ عز وجل ستينَ سنةً فرأى في منامهِ كأنّهُ على ضفةِ نهر يجرِي بالمسكِ حافتاهُ شجرُ لؤلؤ ونبتٌ من قضبانِ الذهبِ، فإذا بجوارٍ مُزَيَّناتٍ يقلنَ بصوتٍ واحد: سبحانَ المسبَّح بكل لسانٍ سبحانَهُ. سبحان الموحَّدِ بكل مكانٍ سبحانه. سبحان الدائم في كلِّ الأزمانِ سبحانه. فقال لهنَّ: ما تصنعن ههنا؟ فقلن: برانَا إلهُ الناسِ ربّ محمدٍ. . . لقومٍ على الأقدامِ بالليلِ قوَّمُ يناجونَ ربَّ العالمينَ إلههم. . . وتسري همومُ القومِ والناسُ نوَّمُ فقال: بَخ بَخ لهؤلاءِ، من هم، لقد أقر اللَّهُ أعينهُم بكنَّ؟ فقلنَ: أو ما - تعرفَهم؟ قالَ: لا، فقلنَ: بلى هؤلاءِ المتهجدونَ أصحابُ القرآنِ والسهرِ. وكان بعضُ الصالحينَ ربما نامَ في تهجدهِ، فتوقظُه الحوراءُ في منامِهِ فيستيقظُ بإيقاظها. وُرويَ عن أبي سليمان الداراني أنه قالَ: ذهبَ بي النومُ

ذاتَ ليلةٍ في صلاتي فإذا بها - يعني الحوراء - تنبهني وتقولُ: يا أبا سليمانَ أترقدُ وأنا أُربَّى لك في الخدرِ منذ خمسمائة سنة. وفي رواية عنهُ: أنه نام ليلةً في سجودهِ قالَ: فإذا بها قدْ ركضتني بِرِجْلِهَا وقالتْ: حبيبي أترقدُ عيناكَ والملكُ يقظانُ ينظرُ إلى المتهجدينَ في تهجدِهم؟ بؤسًا لعينٍ آثرت لذةَ نومٍ على مناجاةِ العزيزِ، قمْ فقدْ دنا الفراغُ ولقيَ المحبونَ بعضهم بعضًا، فما هذا الرقادُ يا حبيبي وقرةَ عيني؟ أترقدُ عيناكَ وأنا أُربَّى لكَ في الخدورِ منذ خمسمائةِ عامٍ؟ فوثبَ فزعًا وقد عرقَ من توبيخهَا له، قالَ: وإن حلاوةَ منطقها لفي سمعي وقلبي. وكان أبو سليمانَ يقولُ: أهلُ الليلِ في ليلهِم ألذ من أهل اللهو في لهوهم، ولولا الليلُ ما أحببتُ البقاءَ في الدنيا. وقال يزيدُ الرقاشي لحبيبٍ العجميِّ: ما أعلمُ شيئًا أقرّ لعيونِ العابدينَ في الدنيا من التهجدِ في ظلمةِ الليلِ، وما أعلم شيئًا من نعيم الجنانِ وسرورها ألذُّ عند العابدينَ ولا أقرَّ لعيونِهم من النظرِ إلى ذي الكبرياءِ العظيم إذا رُفعتْ تلكَ الحجب، وتجلَّى لهم الكريم، فصاحَ حبيبٌ عندَ ذلكَ وخرَّ مغشيا عليه. وكانَ السريُّ يقول: رأيتُ الفوائدَ تردُ في ظلامِ الليلِ. وقالَ أبو سليمان: إذا جنَّ الليلُ وخلا كلُّ محبٍّ بحبيبهِ افترشَ أهلُ المحبةِ أقدامَهُم، وجرتْ دموعُهم على خدودهِم، أشرفَ الجليلُ جل جلالهُ فنادَى يا جبريلُ بعيني من تلذذَ بكلامي واستروحَ إلى مناجاتي، نادِ فيهم يا جبريلُ ما هذا البكاءُ هل رأيتُم حبيبًا يعذِّب أحباءَهُ أم كيفَ يجملُ بي أن أعذِّبَ قومًا إذا جنَّهُمُ الليلُ تملَّقُوني، فبي حلفتُ، إذا قدِموا عليَّ يوم القيامةِ لأكشفنَّ لهمْ

عن وجهي، ينظرونَ إليَّ وأنظر إليهم. وسئلَ الحسنُ البصريُّ لم كانَ المتهجدون أحسنُ الناس وجوهًا؟ قال: لأنَّهُم خلَوا بالرحمنِ فألبسَهُم نورًا من نوره. رأتِ امرأةٌ من الصالحاتِ في منامِهَا كأنَّ حللاً قد فرِّقتْ على أهلِ مسجدِ محمدِ بنِ جحادةَ، فلما انتهَى الذي يفرِّقها إليه دعَا بسفطٍ مختومٍ فأخرجَ منه حلةً صفراء، قالت: فلم يقُمْ لها بصرِي فكساهُ إياها وقال: هذه لكَ بطول السهرِ، قالتْ: فواللَّهِ لقد كنتُ أراه - تعني محمدَ بن جحادةَ - بعد ذلكَ فأتخايلُها عليهِ - تعني: تلكَ الحلةَ -. قالَ كرزُ بنُ وبرةَ: بلغَنِي أنَّ كعبا قالَ: إنَّ الملائكةَ ينظرونَ من السماءِ إلى الذينَ يتهجدونَ بالليلِ كما تنظرونَ أنتم إلى نجومِ السماء. يا نفسُ فازَ الصالحونَ بالتُّقى. . . وأبصرُوا الحقَّ وقلبي قد عمِي يا حُسْنَهُم والليلُ قد أجنَّهُم. . . ونورُهُم يفوقُ نورَ الأنجم ترنَّمُوا بالذكرِ في ليلِهم. . . فعيشُهُم قدْ طابَ بالترنمِ قلوبُهُم للذِّكْرِ قد تفرغتْ. . . دموعُهم كلؤلؤٍ منظَّم أسحارُهُم بهم لهم قد أشرقتْ. . . وخلَعُ الغفرانِ خيرُ المقسمم في بعضِ الآثارِ يقولُ اللَّهُ عز وجل كلَّ ليلةٍ: ياجبريلُ أقمْ فلاناً وأنمْ فلاناً. قام بعضُ الصالحينَ في ليلةٍ بارده وكانَ عليه خلقانُ رثةٌ فضربهُ البردُ فبكى فسمعَ هاتفاً يقول: أقمناكَ وأنمناهُم ثمَّ تبكي علينا. تنبهوا يا أهلَ وادي المنحنى. . . كم ذا الكرى هبَّ نسيم وجدي كم بين خالٍ وجوٍ وساهرٍ. . . وراقدٍ وكاتمٍ ومعبدي

قيلَ لابنِ مسعودٍ: ما نستطيع قيامَ الليلِ، قال: أبعدَتْكُم ذنوبُكُم. وقيلَ للحسنِ: أعجزنا قيامُ الليل، قال: قيدتْكُم خطاياكُم، إنما يؤهَّلُ الملوكُ للخلوةِ بهم ومخاطبتِهِم منْ يخلصُ في ودادِهِم ومعاملتِهِم، فأمَّا من كانَ من أهلِ مخالفتِهِم فلا يرضونَهُ لذلكَ. الليلُ لي ولأحبابي أحادثُهُم. . . قد اصطفيتُهُم كَي يسمعُوا ويعُوا لَهم قلوبٌ بأسرارٍ لَها مُلئتْ. . . على ودادِي وإرشَادِي لهُم طُبعُوا قد أثمرتْ سْجراتُ الفهم عندهُمُ. . . فما جَنوا إذ جَنوا مما بهِ ارتفعُوا سرَوا فما وهَنُوا عجزًا وما ضعُفُوا. . . وواصلُوا حبلَ تقرِيبي فما انقطَعُوا الفصل الثالث في ذكرِ الدعواتِ المذكورةِ في هذا الحديثِ: وهيَ: " اللَّهمَّ إني أسألكَ فعلَ الخيراتِ، وتركَ المنكراتِ، وحبَّ المساكين، وأن تغفرَ لي وترحمني، وإذا أردتَ بقومٍ فتنة فاقبضْني إليكَ غيرَ مفتون وأسألكَ حُبَّكَ وحبَّ من يحبُّك وحبَّ العملِ الذي يبلغُني حبَّك"، فقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: " تعلموهنَ وادرُسُوهنَّ فإنهن حقًّا ". هذا دعاء عظيم من أجمع الأدعيةِ وأكملِهَا، فقولهُ - صلى الله عليه وسلم -. "أسألُكَ فعلَ الخيرات وتركَ المنكراتِ " يتضمنُ طلبَ كلِّ خيرٍ وتركَ كلِّ شر، فإنَّ الخيراتِ تجمعُ كلًّ ما يحبُّه اللَّهُ تعالَى ويقربُ منهُ منَ الأعمال والأقوال من الواجباتِ والمستحباتِ، والمنكراتِ تشملُ كلَّ ما يكرههُ اللَّهُ تعالَى ويباعدُ عنهُ من الأقوال والأعمال، فمنْ حصلَ له هذا المطلوبُ حصلَ له خيرُ الدنيا والآخرةِ، وقد كان النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يحبُّ مثلَ هذه الأدعيةِ الجامعةِ، قالتْ عائشةُ: "كانَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -

يعجبهُ الجوامعَ من الدعاءِ ويدعُ ما بينَ ذلكَ ". خرَّجه أبو داود. وقوله: "وحب المساكين " هذا قد يقال إنهُ من جملةِ فعلِ الخيراتِ وإنَّما أفرده بالذكرِ لشرفهِ وقوةِ الاهتمامِ به، كما أفردَ أيضًا ذكرَ حبِّ اللَّهِ تعالى وحبِّ من يحبُّه وحبِّ عملٍ يبلِّغهُ إلى حبِّه، وذلكَ أصلُ فعلِ الخيراتِ كلِّها، وقد يُقال: إنه طلبَ من اللَّهِ عز وجل أن يرزقهُ أعمال الطاعاتِ بالجوارح، وتركَ المنكراتِ بالجوارح، وأن يرزقَهُ ما يوجبُ له ذلكَ وهو حبُّه وحبُّ من يحبُّه. حبُّ عملٍ يبلغهُ حبَّه، فهذه المحبةُ بالقلبِ موجبة لفعل الخيراتِ بالجوارح ولتركِ المنكراتِ بالجوارح، وسأل اللَّهَ تعالى أن يرزقَهُ المحبةَ فيه، فقد تضمنَ هذا الدعاءُ سؤال حبِّ اللهِ عز وجل وحبِّ أحبابِهِ، وحبِّ الأعمال التي تقرِّبُ من حبِّه والحبِّ فيه، وذلكَ يقتضي فعلَ الخيراتِ كلِّها ويتضمنُ تركَ المنكراِت، والسلامةَ من الفتنِ، وذلكَ يتضمنُ اجتنابَ الشرّ كلِّه فجمعَ هذا الدعاءُ طلبَ خير الدنيا وتضمنَ سؤال المغفرةِ والرحمةِ وذلكَ يجمعُ خيرَ الآخرةِ كلَّه فجمعَ هذا الدعاءُ خيري الدنيا والآخرةِ. والمقصودُ أنَّ حبَّ المساكين أصل الحبِّ في اللَّهِ تعالى؛ لأن المساكينَ ليسَ عندهم من الدنيا ما يوجبُ محبَّتهم لأجلهِ فلا يحبونَ إلا للَّهِ عز وجل والحبُّ في اللَّهِ من أوثقِ عُرى الإيمان، ومن علاماتِ ذوقِ حلاوةِ الإيمانِ، وهو صريحُ الإيمانِ، وهو أفضلُ الإيمانِ، وهذا كلُّه مرويّ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنه وصفَ به الحبَّ في اللَّهِ تعالى. ورُويَ عن ابن عباسٍ أنه قال: "به تنال ولايةُ اللَّهِ وبه يوجدُ طعم الإيمانِ ". وحبُّ المساكين قد أوصَى به النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - غيرَ واحدٍ من أصحابهِ،

قال أبو ذرٍّ: "أوصانِي رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أنْ أحبَّ المساكينَ وأنْ أدنوَ منهُم " خرَّجهُ الإمامُ أحمد. وخرَّج الترمذي عن عائشةَ أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قالَ لها: "يا عائشةُ أحبي المساكينَ وقربيهم فإن اللَّهَ يقربكِ يومَ القيامةِ ". ويروى أن داودَ عليه السلام كانَ يجالسُ المساكين ويقولُ: ياربِّ مسكين بين مساكين. ولم يزلِ السلفُ الصالحُ يوصونَ بحب المساكينِ - كتبَ سفيانُ الثوريُ إلى بعضِ إخوانِهِ - عليكَ بالفقراءِ والمساكينِ والدنو منهمُ فإنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - كانَ يسأل ربه حبَّ المساكين، وحبَّ المساكينِ مستلزم لإخلاصِ العمل للَّهِ تعالَى، والإخلاصُ هو أساسُ الأعمالِ الذي لا تثبتُ الأعمالُ إلا عليهِ، فإن حبَّ المساكين يقتضِي إسداءَ النفع إليهِم بما يمكنُ من منافع الدينِ والدنيا، فإذا حصلَ إسداءُ النفع إليهِم حبًّا لَهُم، والإحسانُ إليهم كان هذا العملُ خالصًا وقد دلَّ القرآنُ على ذلكَ، قالَ اللَهُ تعالَى: (وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (8) إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا (9) . وقالَ عز وجل (وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ (52) . وقالَ تعالى: (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) . قالَ سعدُ بنُ أبي وقاصٍ: نزلتْ هذه الآية ُ في ستةٍ: فيَّ، وفي ابن مسعود، وصهيبٍ، وعمار، والمقدادِ، وبلال. قالتْ قريشٌ لرسولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:

إنا لا نرضَى أن نكونَ أتباعًا لَهُم فاطردْهُم عنكَ، فأنزلَ اللَّهُ عز وجل.، (وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُون رَبَّهم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِي يُرِيدُونَ وَجْهَهُ) . وقالَ خبابُ بنُ الأرتِ في هذه الآيةِ "جاء الأقرعُ بنُ حابسٍ وعيينةُ بنُ حصنٍ، فوجدَا رسول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مع صهيبٍ وعمارٍ وبلالٍ وخبابٍ قاعداً في ناسٍ من الضعفاءِ منَ المؤمنينَ، فلما رأوهُم حولَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - حقروهُم، فأتوه فخَلوا بهِ وقالوا: إنا نريدُ أن نجعلَ لنا منكَ مجلسًا تعرفُ لنا به العربُ فضلَنَا، فإن وفودَ العربِ تأتيكَ فنستحي أن ترانا مع هولاءِ الأعبدِ، فإذَا نحنُ جئناكَ فأقمهُم عنكَ، فإذا نحنُ فرغنَا فاقعدْ معهم إن شئت، قالَ "نعم ". قالوا: فاكتبْ لنا عليكَ كتابا، قالَ فدعا بصحيفةٍ، ودعا عليًّا ليكتبَ ونحن قعودٌ في ناحيةٍ فنزلَ جبريلُ - عليه السلام - فقال: (وَلا تَطْرد الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِى يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْء وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيهِم مِّن شَيْءٍ فَتَطْردَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ) ، ثم ذكرَ الأقرعَ بنَ حابس، وعيينةَ ابنَ حصنٍ فقالَ: (وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (53) . ثم قالَ: (وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يؤمِنَونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كتَبَ رَبُكمْ عَلَى نَفْسِةِ الرَّحْمَةَ) . قالَ: فدنونا منهُ حتَّى وضعْنَا رُكَبَنَا عَلَى رُكْبَتَيهِ، وكانَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يجلسُ معنا فإذا أرادَ أنَّ يقومَ قامَ وتركَنَا، فأنزلَ اللَّهُ عز وجل (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ) . ولا تجالسِ الأشرافَ (وَلا تُطِعْ مَن أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكرِنَا) يعني عيينةَ، والأقرع. قالَ خبابٌ: فكنَّا

نقعدُ مع النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فإذا بلغنَا الساعةَ التي يقومُ قمنا وتركناهُ حتى يقومَ " خرَّجه ابنُ ماجَة، وغيره. وكان النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يعودُ المرضَى من مساكينِ أهلِ المدينةِ ويشيعُ جنائزهُم وكان لا يأنفُ أن يمشِيَ مع الأرملةِ والمسكينِ حتى يقضيَ حاجتَهُما وعلى هذا الهَدْي كانَ أصحابُهُ مِن بعدهِ والتابعون لهم بإحسانٍ. وروي عن أبي هريرة قال: "كان جعفر بن أبي طالبٍ يحبُّ المساكينَ ويجلسُ إليهم ويحدِّثهم ويحدّثونه، وكان النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يكنيه أبا المساكين ". وفي رواية "أنهُ كان يعمهم وربما أخرج لهم عكةً فيها العسل فشقُّوها ولعقوها". وكانتْ زينبُ بنْتُ خزيمةَ أمُّ المؤمنينَ - رضي الله عنها - تسمَّى أمَّ المساكينَ لكثرةِ إحسانهِا إليهم وتوفيتْ في حياةِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -. وقالَ ضرارُ بن مُرَّةَ في وصف عليِّ بن أبي طالب - رضي الله عنه - في أيامِ خلافتِهِ: كان يعظمُ أهلَ الدينِ ويحبُّ المساكينَ، ومرَّ ابنهُ الحسنُ - رضي الله عنه - على مساكينَ يأكلونَ فدعُوه فأجابهمُ وأكلَ معهُم، وتلا (إِنَّه لا يُحِبُّ الْمُسْتَكبِرِينَ) ، ثم دعاهم إلى منزِلِهِ فأطعمهم وأكرمهمُ. وكان ابنُ عمر لا يأكلُ غالبًا إلا معَ المساكينِ وكانَ يقُولُ لعلَّ بعضَ هؤلاءِ أن يكونَ ملِكًا يومَ القيامةِ. وجاءَ مسكين أعمى إلى ابن مسعودٍ وقد ازدحَم الناسُ عندَهُ فنادَاهُ يا أبا عبدِ الرحمنِ آويتَ أربابَ الخزِّ واليمنيةِ وأقصيتنِي لأجلِ أنِّي مسكين؟ فقالَ له: ادْنُهْ فلم يزلْ يُدْنِيهِ حتى أجلسهُ إلى جانبهِ أو بِقُرْبهِ. وكانَ مطرفُ بنُ عبدِ اللَّهِ يلبسُ الثيابُ الحسنةَ ثم يأتِي المساكينَ ويجالسهم.

وكان سفيانُ الثوريُّ يعظمُ المساكينَ ويجفو أهلَ الدنيا فكانَ الفقراءُ في مجلسِهِ همُ الأغنياءُ والأغنياءُ همُ الفقراءُ. وقال سليمانُ التيمي: كنَّا إذَا طلبنَا عليةَ أصحابنا وجدْناهُم عندَ الفقراءِ والمساكينِ. وقالَ الفضيلُ: من أراد عزَّ الآخرةِ فليكن مجلسهُ مع المساكينِ. ومن فضائلِ المساكينِ أنهُم أكثرُ أهلِ الجنةِ. كما قالَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "قمتُ على بابِ الجنةِ فإذا عامةُ من دخلَها المساكينُ " وقالَ - صلى الله عليه وسلم -: "تحاجتِ الجنةُ والنَّارُ، فقالتِ الجنةُ: لا يدخلني إلا الضعفاءُ والمساكينُ ". وسئلَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - عن أهل الجنةِ فقالَ: "كلُّ ضعيفٍ مستضعفٍ " وهم أولُ الناسِ دخولاً الجنةَ كما صحَ عنه - صلى الله عليه وسلم -: "إن الفقراءَ يسبقونَ الأغنياءَ إلى الجنةِ بأربعين عاماً" - وفي روايةٍ - "أنهم يدخلون الجنةَ بنصفِ يومٍ وهو خمسمائةِ سنةً" وهم أولُ الناسِ إجازةً على الصراطِ كما صحَّ عنه - صلى الله عليه وسلم - أنهُ سئلَ من أولُ الناسِ إجازةً على الصراط؟ فقالَ: "فقراءُ المهاجرينَ " وهم أولُ الناسِ ورودًا على الحوضِ كما قالَ - صلى الله عليه وسلم -: "أولُ الناسِ ورودًا عليهِ فقراءُ المهاجرينَ الدَّنسةُ رءوسُهم، الشعثةُ ثيابهُم الذينَ لا ينكحونَ المتنعماتِ ولا تفتحُ لهم السددُ" وهم

أتباعُ الرسلِ كما أخبرَ اللَّهُ تعالى عن نوح عليه السلامُ أن قومَهُ عيرُوهُ باتباع الضعفاءِ له فقالُوا: (أَنؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الأَرْذَلُونَ) . وكذلكَ قالَ هرقلُ لأبي سفيانَ لما سألهُ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وهل يتَّبعهُ أشرافُ الناسِ أم ضعفاؤهم؟ فقال: بل ضعفاؤهم، قالَ هرقلُ: هم أتباعُ الرسلِ. وهم أفضلُ من الأغنياءِ عندَ كثيرٍ من العلماءِ أو أكثرهم، وقد دلَّ على ذلكَ أدلة كثيرة منها قولُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - حينَ مرَّ به الغنيُّ والمسكينُ في المسجدِ: "هذا - يعني المسكينَ - خير من ملءِ الأرضِ مثلَ هذا - يعني الغنيَّ " وقد خرَّجه البخاريُّ وغيرُه. ومنهُم من لو أقسمَ على اللَّهِ لأبرهُ كما في "الصحيح " عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنه قالَ في أهلِ الجنةِ: "كلُّ ضعيفٍ مستضعفٍ لو أقسمَ على اللَّهِ لأبَرَّهُ " وفي روايةٍ " أشعثَ ذو طمرينِ " وفي روايةٍ خرَّجَها ابنُ ماجةَ "أنَّهم ملوكُ أهلِ الجنةِ" وفي الحديثِ المشهورِ "رُبَّ أشعثَ أغبرَ ذي طمرينِ مدفوعٌ بالأبوابِ لو أقسمَ على اللَّهِ لأبَرَّه " خرَّجهُ الحاكمُ وغيرهُ. ربَّ ذي طمرينِ نضوٍ. . . يأمنُ العالمُ شرَّهُ لا يُرى إلا غنيًّا. . . وهوَ لا يملك ذرَّهُ ثم لوأقسمَ في شيءٍ. . . على اللَّهِ أبرَّهُ

قال ابنُ مسعودٍ: كونُوا جدَدَ القلوبِ، خلقانَ الثيابِ. سرجَ الليلِ مصابيحَ الظلامِ، تعرفونَ في أهلِ السماءِ وتخفونَ على أهلِ الأرضِ. طُوبى لعبدٍ بحبلِ اللَّهِ معتصمه. . . على صراطٍ سويٍّ ثابتٌ قدمُه رث اللباسِ جديد القلبِ مستترٍ. . . في الأرضِ مشتهر فوقَ السماء وسمُه ما زالَ يستحقرُ الأولى بهمتهِ. . . حتَى يرقى إلى الأخرى به هممُه فذاكَ أعظمُ من التاج متكئًا. . . على النمارقِ محتفا به خدمُهُ واعلم أنَّ محبةَ المساكينِ لها فوائدٌ كثيرة: منها: أنَّها توجبُ إخلاصَ العملِ للهِ عز وجل، لأنَّ الإحسانَ إليهم لمحبَّتهم لا يكونُ إلا للَّهِ عز وجل، لأنَّ نفعهُم في الدنيا لا يُرجَى غالبًا فأما من أحسنَ إليهم ليمدحَ بذلكَ فما أحسنَ إليهم حبًّا لهم بل حبًّا لأهلِ الدُّنيا وطلبًا لمدحهِم له بحبِّ المساكينِ. ومنها: أنها تزيلُ الكِبْرَ، فإن المتكبرَ لا يرضى مجالسةَ المساكينِ كما سبقَ عن رؤساءِ قريشٍ والأعرابِ، ومن حذا حذوهم من هذه الأمة ممن تشبهَ بهم حتى أنَّ بعضَ علماءِ السوءِ كان لا يشهدُ الصلاةَ في جماعةٍ خشيةَ أن تزاحمَهُ المساكينُ في الصفِّ، ويمتنعُ بسببِ هذا الكبرِ فيفوتُهُ خيرٌ كثيرٌ جدا، فإنَّ مجالسَ الذكرِ والعلم تقعُ فيها كثيرًا مجالسةُ المساكينِ فإنهم أكثرُ هذه المجالسِ فيمتنعُ المتكبرُ من هذه المجالسِ بتكبر، وربما كانَ المسموعُ منه الذكرُ والعلمُ من جملة المساكينِ فيأنف أهلُ الكبرِ من التردد إلى مجلسهِ كذلكَ فيفوتهُم خيرٌ كثير، وقد أخبرَ اللَهُ تعالى عن المشركينَ أنهم قالوا: (لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (31) .

يشيرونَ إلى عظماءِ مكةَ والطائفِ كعتبةَ بنِ ربيعةَ وأخيهِ شيبةَ ونحوهما من صناديد قريشٍ وثقيفٍ ذوي الأموالِ والشرفِ فيهم ممن كانَ أكثرَ مالاً من محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - وأعظمَ رياسةً عندهُم. وردَّ عليهم سبحانهُ بأنهُ يقسِّم رحمتَهُ كما يشاءُ وأنه كما رفَع درجاتِ بعضهم على بعضٍ في الدنيا، فكذلكَ يرفَعُها في الآخرة بالنبوةِ والعلم والإيمانِ خيرٌ مما يجمعونَهُ من الأموالِ التي تَفْنَى، فهو يخصّ بهذه الرحمةِ الدينيةِ من يشاءُ ويرفعُهُ على أهلِ النعم الدنيويةِ وقد خصَّ محمدًا - صلى الله عليه وسلم - بما لم يشركهُ فيه غيرهُ من هذه النعم كما قالَ تعالَى له: (وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُن تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا) . وكانَ عليٌّ بنُ الحسينِ يجلسُ في مجلسِ زيدِ بنِ أسلمَ فيعاتَبُ على ذلكَ فيقولُ: إنما يجلسُ المرء حيثُ يكونُ له فيه نفعٌ، أو كما قالَ يشيرُ إلى أنَّه ينتفعُ بسماع ما يسمعُهُ من العلم والحكمةِ، وزيدُ بنُ أسلمَ أبوه مولى لعمرَ. وعلي بنُ الحسينِ سيدُ بني هاشم وشريفِهم. ولما اجتمع الزهريُّ وأبو حازمٍ الزاهدُ بالمدينةِ عند بعضِ بني أميةَ - لما حجَّ - وسمعَ الزهريُّ كلامَ أبي حازمٍ وحكمتهُ أعجبهُ ذلكَ، وقالَ: هو جارِي منذُ كذا وكَذا وما جالسْتُهُ ولا عرفتُ أن هذا عندَهُ، فقالَ له أبو حازم: أجلْ إنَي من المساكينِ ولو كنتُ من الأغنياءِ لعرفتني، فوبخهُ بذلكَ، وفي رواية عنه أنه قالَ له: لو أحببتَ اللَّهَ أحببتني ولكنَّكَ نسيتَ اللَّهَ فنسيتني، يشيرُ إلى أنَّ من أحبَّ اللَّهَ تعالى أحبَّ المساكينَ من أهلِ العلم والحكمةِ لأجلِ محبتهِ للهِ تعالى ومن غفلَ عن اللَّهِ تعالَى غفلَ عن أوليائه من المساكينِ فلمْ يرفعْ لهم رأسًا، ولم ينتفعْ بما اختصَّهمُ اللَّهُ عز وجل بهِ من الحكمةِ والعلومِ النَّافعِةِ

التي لا توجدُ عند غيرِهم من أهلِ الدُّنيا. وقد كانَ علماءُ السلفِ يأخذونَ العلمَ عن أهلِهِ والغالبِ عليهمُ المسكنةُ وعدمُ المال والرفعةِ في الدنيا ويَدَعُونَ أهلَ الرياسات والولاياتِ فلا يأخذونَ عنهم ما عندهُم من العلم بالكليةِ. ومنها: أنَّه يوجبُ صلاحَ القلبِ وخشوعِهِ، وفي "المسندِ" عن أبي هريرةَ أن رجلاً شكى إلى رسول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قسوةَ قلبهِ فقال له: "إن أحببتَ أن يلينَ قلبُكَ فأطعِم المسكينَ وامْسحْ رأس اليتيم ". ومنها: أن مجالسةَ المساكينِ توجبُ رضى من يجالسُهُم برزقِ اللَّهِ عز وجل وتعظمُ عنده نعمةُ اللَّهِ عز وجل عليهِ بنظرهِ في الدنيا إلى من دونَه، ومجالسةُ الأغنياءِ توجبُ التسخطَ بالرزقِ ومدَّ العينِ إلى زينتهم وما هم فيه، وقد نهى اللَّهُ عز وجل نبيَّه - صلى الله عليه وسلم - ّ عن ذلكَ فقال تعالَى: (وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى (131) . وقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "انظرُوا إلى من دونكمُ ولا تنظُروا إلى منْ فوقَكم فإنَّه أجدر أن لا تزدرُوا نعمةَ اللَّهِ عليكم " قال أبو ذرٍّ - رضي الله عنه -: "أوصانِي رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أن أنظر إلى من دوني ولا أنظرَ إلى من فوقِي وأوصانِي أن أحبَّ المساكينَ وأن أدنوَ منهم ". وكان عونُ بنُ عبدِ اللَّهِ بن عتبةَ بنِ مسعودٍ يجالسُ الأغنياءَ فلا يزال في غمٍّ، لأنَه لا يزال يَرى من هو أحسنُ منه لباسًا ومركبًا ومسكنًا وطعامًا. فتركَهُم وجالسَ المساكينَ فاستراحَ من ذلك.

وقد رُويَ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنه نهَى عائشةَ عن مخالطةِ الأغنياءِ. وقالَ عمر: إيَّاكم والدخولَ على أهلِ السعةِ فإنَه مسخطةٌ للرزقِ. واعلمْ أن المسكينَ إذا أُطلقَ يرادُ به غالبًا من لا مال لهُ يكفيه، فإنَّ الحاجةَ توجبُ السكونَ والتواضعَ بخلافِ الغنِي فإنَّه يُوجبُ الطغيانَ، ولهذا ذمَّ الفقيرَ المختالَ وعظَّم وعيدهُ؛ لأنَهُ عصَى بما ينافي فقرهُ وهو الاختيالُ والزهو والكبرُ، ولما كانَ المسكينُ عندَ الإطلاقِ لا ينصرفُ إلا إلى من لا كفايةَ لهُ من المال وصى اللَّهُ تعالى بإيثارِ المساكينِ وإطعامهم الطعامَ، ومدحَ من يطعمُهم، وذمًّ من لا يحضُّ على إطعامهِم، وجعلَ لهم حقًّا في أموالِ الصدقاتِ والفيء وخمسِ الغنائمِ وحضورِ قمسةِ الأموالِ. وهؤلاءِ المساكينُ على قسمينِ: أحدُهما: من هو محتاجٌ في الباطنِ وقد أظهرَ حاجَتهُ للنَّاس. والثاني: من يكتُم حاجتَهُ ويظهرُ للناسِ أنه غَني فهذا أشرَفُ القسمينِ، وقد مدحَ اللَّهُ عز وجل هذا في قولِه تعالى: (لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا) . وقالَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "ليس المسكينُ بهذا الطواف الذي تردُّه اللقمةُ واللقمتان والتمرةُ والتمرتانِ، ولكن المسكينَ من لا يجدُ ما يغنيهِ، ولا يفطنُ له فيتصدَّقُ عليه " وقالَ بعضُهم: هذا المحرومُ المذكورُ في قولِه عز وجل: (لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ) . فأخبرَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أن من كتمَ حاجتَهُ فلم يفطنْ لهُ أحقُّ باسم المسكين من

الذي أظهرَ حاجتَهُ بالسؤالِ وأنَّه أحقُّ بالبرِّ منه وهذا يدلُّ على أنَّهم كانُوا لا يعرفونَ من المساكينِ إلا من أظهرَ حاجتَهُ بالسؤالِ، وبهذا فرَّقَ طائفةٌ من العلماءِ بين الفقيرِ والمسكينِ فقالوا: من أظهرَ حاجتَهُ فهو مسكينٌ ومن كتمَها فهو فقيرٌ، وفي كلامِ الإمامِ أحمدَ إيماءٌ إلى ذلك وإن كانَ المشهورُ عنه أن التفريقَ بينهما بكثرةِ الحاجةِ وقلَّتِهَا كقولِ كثير من الفقهاءِ. وهذا حيثُ جمعَ بينَ ذِكْرِ الفقيرِ والمسكينِ كما في آيةِ الصدقاتِ، فأمَّا إذا أفردَ أحدُ الاسمينِ دخلَ فيهِ الآخر عنَد الأكثرينَ، وقد كانَ كثيرٌ من السلفِ يكتمُ حاجتَهُ ويظهرُ الغِنى تعففًا وتكرمًا، منهم إبراهيم النخعيّ كانَ يلبسُ ثيابًا حسناءَ ويخرجُ إلى الناسِ وهم يرونَ أنه تحل له الميتةَ من الحاجةَ. كانَ بعضُ الصالحينَ يلبسُ الثيابَ الجميلةَ وفي كمهِ مفتاحُ دارٍ كبيرةٍ ولا مأوى لهُ إلا المساجدُ، وكانَ آخرُ لا يلبسُ جبةً في الشتاءِ لفقرهِ ويقولُ: بي علةٌ تمنعني من لبسِ المحشو وإنَّما يعني بها الفقرَ - شعر: إن الكريمَ لُيخفي عنك عسرتَهُ. . . حتى تراهُ غنيًّا وهوَ مجهودُ وكان بعكس هؤلاءِ من يلبسُ ثيابَ المساكينِ مع الغِنَى تواضعاً للهِ عز وجل وبُعْدًا من الكبرِ كما كانَ يفعلُهُ الخلفاءُ الراشدونَ الأربعةُ وبعدَهم عمرُ بنُ عبد العزيز، وكذلكَ كانَ جماعةٌ من الصحابةِ منهم عبدُ اللَّهِ بنُ عمرَ وعبدُ اللَّهِ بنُ عمرو بن العاصِ وغيرُهما - رضي الله عنه -. ورويَ أنَ أبا بكر الصدِّيقِ - رضي الله عنه - كانَ ينشدُ: إذا أردتَ شريفَ الناسِ كلهم. . . فانظرْ إلى ملك في زي مسكينِ ذاكَ الذي حسنت في الناسِ سيرتُهُ. . . وذاكَ يصلحُ للدُّنيا وللدينِ وكان عليٌّ - رضي الله عنه - يُعاتَبُ على لباسِهِ فيقولُ: هو أبعدُ عن الكبرِ وأجدرُ أن يقتدي بي المسلمُ. وعوتبَ عمرُ بنُ عبد العزيزِ على ذلكَ فقالَ: إن أفضلَ

القصدِ عندَ الجدةِ، يعني أفضلَ ما اقتصدَ الرجلُ في لباسِهِ مع قدرتِهِ ووجدانهِ. وفي "سنن أبِي داودَ" وغيرِه عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قالَ: "البذاذةُ من الإيمانُ " يعني: التقشفَ. وفي الترمذي عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - "من تركَ اللباسَ تواضعًا للَّهِ عز وجل وهو يقدرُ عليه دعاهُ اللَّهُ يومَ القيامةِ حتَّى يخيرهُ من أيِّ حُللِ الجنةِ شاء يلبسُهَا" وخرَّجهُ أبو داود من وجهٍ آخرَ ولفظه: "من تركَ ثوبَ جمالٍ وهو يقدرُ عليه - أحسبهُ قالَ: تواضعاً - كساهُ اللَهُ حلَّة الكرامةِ". وإنَّما يذمّ من تركَ اللباسَ مع قدرتِهِ عليهِ بخلاً على نفسه أو كتمانًا لنعمةِ اللَّهِ عز وجل وفي هذا جاءَ الحديثُ المشهورُ: "إن اللهَ إذا أنعم على عبدٍ أحبَّ أن يرَى أثرَ نعمتِهِ على عبدِهِ " ومن لبسَ لباسًا حسنًا إظهارًا لنعمةِ اللَّهِ ولم يفعلْهُ اختيالاً كانَ حسنًا. وكان كثيرٌ من الصحابةِ والتابعينَ يلبسونَ لباسًا حسنًا، منهم: ابنُ عباس. والحسنُ البصريّ، وقد صحَّ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَه سُئِلَ عن الرجلِ يحبُّ أن يكونَ لباسهُ حسنًا ونعلُه حسنًا، قالَ: "ليس ذلك بالكبر، إنما الكبر بطر الحق وغمط الناس " يعني التكبرَ عن قبولِ الحقِّ والانقيادِ لهُ واحتقارَ الناسِ وازدراءهمُ فهذا هُوَ الكبرُ وأمَّا مجردُ اللباسِ الحسنِ الخالي عن الخيلاءِ فليسَ

بكبرٍ، واحتقارُ الناسِ مع رثاثةِ اللباسِ كبر. وقد رُويَ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنَّه كانَ ماشيًا في طريقٍ وهناكَ أمة سوداءُ، فقال لها رجل: الطريقَ الطريقَ للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فقالتْ: الطريقُ يمنةً ويسرةً، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "دعُوهَا فإنَّها جبَّارةٌ" خرَّجهُ النسائيُّ وغيرُه، وفي روايةِ الطبرانيِّ قالُوا: يا رسولَ اللَّهِ إنها يعني مسكينة، قالَ: "إنَّ ذاكَ في قلبها" يعني أنَّ الكبرَ في قلبهَا وإنْ كانَ لباسهَا لباسَ المساكينِ. وقالَ الحسنُ: إن قومًا جعلوا التواضعَ في لباسِهم والكبرَ في صدورهم إن أحدَهم أشدُ كبرًا بمدرعتهِ من صاحبِ السريرِ بسريره، وصاحبِ المنبرِ بمنبرِهِ، قالَ أحمدُ بنُ أبي الحواريّ: قالَ لي سليمانُ بنُ أبي سليمانَ وكانَ يعدلُ بأبيه: أيَّ شيء أرادوا بثيابِ الصوفِ؟ قلت: التواضعَ، قالَ: وما يتكبرُ أحدُهم إلا إذا لبسَ الصوفَ؟ وقالَ أبو سليمانَ: يكونُ ظاهرُكَ قطنيا وباطنكَ صوفيًا. وقالَ أبو الحسينِ ابن بشارِ: صوِّف قلبَكَ والبس القوهيَ على القوهي يعني رفيعَ الثيابِ، فمتَى أظهرَ الإنسانُ لباسَ المساكينِ لدعوى الصلاح ليشتهرَ بذلكَ عندَ الناسِ كانَ ذلكَ كبرًا ورياءً، ومن هُنا تركَ كثيرٌ من السلفِ المخلصينَ اللباسَ المختصَّ بالفقراءِ والصالحينَ وقالُوا: إنه شهرة، ولما قدمَ سيارُ أبو الحكم البصرةَ لزيارةِ مالك بنِ دينار، لبسَ ثيابًا حسنةً ثمَ دخلَ المسجدَ فصلَّى صلاةً حسنةً فرآه مالكٌ ولم يعرفْهُ فقالَ له: يا شيخُ إنِّي أرغبُ بك عن هذه الثيابِ مع هذه الصلاةِ، فقالَ له: يا مالك ثيابي هذه تضعُني عندكَ أم ترفعُني؟

قالَ: بل تضعكَ، فقالَ: نِعمَ الثوبُ ثوبٌ يضعُ صاحبهُ عندَ الناسِ، ولكن انظرْ يا مالكُ لعلَّ ثوبيكَ هذين يعني الصوفَ أنزلاكَ عندَ الناسِ ما لم ينزلاكَ من اللَّهِ، فبكى مالكٌ وقام إليه واعتنقهُ وقال له: أنشدكَ اللَّهَ أنت سيارُ أبو الحكم؟ قالَ: نعم. فلهذا كرهَ من كرهَ من السلفِ كابنِ سيرينَ وغيره لباسَ الصوفِ حيثُ صارَ شعارَ الزاهدينَ فيكونُ لباسُهُ إشهارًا للنفسِ وإظهارًا للزهدِ، وأما النبي - صلى الله عليه وسلم - فكانَ يلبسُ لباسَ الأغنياءِ من حللِ اليمنِ وثيابِ الشامِ ونحوهَا، وتارةً يلبسُ لباسَ المساكينِ، فيلبسُ جبةً من صوفٍ أحيانًا وأحيانًا يتزر بعباءه، ويهيئُ إبلَ الصدقةِ بيدهِ يعني أنه يطليَها بيدِهِ ويصلحهَا كما يفعلُ أربابُ الإبلِ بها، ولم يبعثِ اللَّهُ نبيًا من أهلِ الكبرِ، وإنَّما يبعثُ من لا كبرَ عندَهُ ولا يتكبرُ عن معالجةِ الأشياءِ التي يأنفُ منها المتكبرونَ كرعايةِ الإبلِ والغنم، وإجارةِ نفسِهِ عندَ الحاجةِ إلى الاكتسابِ، ومن أعطاهُ اللَّهُ منهم مُلكًا فإنهُ لم يزل دأبهُ التواضعَ للَّهِ عز وجل كداودَ وسليمانَ ومحمدٍ صلَّى اللَّهُ عليهم وسلَّم تسليمًا كثيرًا. وقد يطلقُ اسمُ المسكينِ ويرادُ بهِ من استكانَ قلبُه للهِ عز وجل وانكسر لهُ وتواضعَ لجلالهِ وكبريائهِ وعظمتهِ وخشيتهِ ومحبتِهِ ومهابتِهِ، وعلى هذا المعنى حملَ بعضُهم الحديثَ المرويَّ عن النبيًّ - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "اللَّهم أحيني مسكينا وأمتْني مسكينا واحشرنِي في زمرةِ المساكينِ " خرَّجهُ الترمذيُّ من حديثِ أنسٍ وخرَّجَهُ ابنُ ماجةَ من حديثِ ابنِ عباسٍ، وفي حملهِ على ذلكَ نظرٌ؛ لأن

في تمامِ حديثيهما ما يدل على أن المرادَ به المساكينُ من المال؛ لأنهُ ذكرَ سبقَهم الأغنياء إلى الجنةِ مع أنَّ في إسنادِ الحديثين ضعفًا، وقد خُيِّرَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بينَ أن يكونَ نبيًّا ملكًا أو عبدًا رسولاً فأشارَ إليهِ جبريلُ أنْ تواضعَ، فقالَ: بل عبدًا رسولاً، وكانَ بعدَ ذلكَ لا يأكلُ متكئًا ويقولُ: "آكل كما يأكلُ العبدُ وأجلسُ كما يجلسُ العبدُ". قالَ الحسنُ: قالَ رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: "فأعطاني اللهُ لذلكَ أن جعلَني سيدَ ولدِ آدمَ وأولَ شافع وأولَ مشفع وأولَ من تنشقُّ عنه الأرضُ " وصحَّ عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قالَ: "إنَّما أنا عبدٌ فقولوا عبدُ اللَّهِ ورسولُه " فأشرفُ أسمائهِ عبدُ اللَّهِ ولهذا سُمِّي بهذا الاسم في القرآنِ في أفخرِ مقاماتِه، فلما حققَ - صلى الله عليه وسلم - عبوديته لربِّه حصلتْ له السيادةُ على جميع الخلقِ. كانَ كثير من العارفينَ يقولُ في مناجاتهِ لربِّه: كفى بي فخرًا أنِّي لكَ عبدٌ وكفَى بي شرفًا أنكَ لي ربٌّ. وكانَ بعضُهُم يقولُ: كلَّما ذكرتُ أنه ربِّي وأنا عبدُه حصلَ لي من السرور ما يصلحُ به بدَني: شرفُ النفوسِ دخولُها في رقِّهم. . . والعبدُ يحوِي الفخرَ بالمتملكِ وكان أبو يزيدِ البسطاميُّ ينشدُ: يا ليتني صرتُ شيئًا. . . من غيرِ شيء أعد أصبحتُ للكلِّ مولى. . . لأنَّني لكَ عبدُ

فمنِ انكسَرَ قلبُه للهِ عز وجل واستكانَ وخشع وتواضعَ جبرهُ اللَّهُ عز وجل رفعهُ بقدرِ ذلكَ، وفي الأثرِ المشهورِ أن اللَّهَ عز وجل قالَ لموسى على نبيِّنا وعليهِ أفضلُ الصلاةِ والسلامِ حينَ سألَهُ أينَ أجدكَ؟ قالَ: عندَ المنكسرةِ قلوبُهُم من أجلي، فإني أدْنو منهُم كلَّ يوم باعًا ولولا ذلكَ انهدَموا. وروِي عن عبدِ اللَّهِ بي سلامٍ أنه فسرهُ فقال: هم المنكسرة قلوبُهُم بحبِّ اللَّهِ عن حبِّ غيرهِ، وفي الحديثِ المشهورِ المرفوع: "أنَّ اللَهَ تعالى إذا تجلَّى لشيء من خلقِهِ خشعَ له " فإذا تجلَّى لقلوبِ العارفينَ عظمةُ اللَّهِ وجلالهُ وكبرياؤه اندكت قلوبهم من هيبتِهِ وخشعتْ وانكسرتْ من محبَّتِهِ ومخافتِهِ: مساكينُ أهلِ الحبِّ حتى قبورُهم. . . عليها ترابُ الذلِّ بينَ المقابرِ فالمسكينُ في الحقيقةِ من استكانَ قلبُهُ لربه وخشعَ من خشيتِهِ ولا يكونُ المسكينُ ممدوحًا بدونِ هذه الصفةِ، فإنَّ من لم يخشعْ قلبُهُ معَ فقرِه وحاجتِهِ فهوَ جبار كتلكَ الأمة السوداء التي قالَ فيها النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّها جبَّارةٌ" وهو إما عائلٌ مستكبر أو فقير مختالٌ، وكلاهما لا ينظرُ اللَهُ إليه يومَ القيامةِ، فالمؤمنُ من يستكينُ قلبُهُ لربِّه ويخشعُ له ويتواضعُ ويظهرُ مسكنتهُ وفاقتَه إليهِ في الشدَّةِ والرخاءِ، أما في حالِ الرخاءِ فإظهارُ الذل والعبوديةِ والفاقةِ والحاجةِ إلى كشفِ الضر قالَ تعالى: (وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُم بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَعُونَ) ، فذمَّ من لا يستكينُ لربِّهِ عندَ الشدةِ، وكانَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يخرجُ عندَ الاستسقاءِ متخشعًا متمسكنًا. وحُبسَ لمطرفِ بنِ عبد اللَّهِ قريبٌ له لبسَ خلقانَ ثيابهِ، وأخذ بيده قصبةً

وقالَ: أتمسكنُ لربِّي لعلَّهُ يشفعني فيه. ومما يشرعُ فيه التمسكنُ للَّهِ عز وجل حالَ الصلاةِ كما في حديثِ الفضلِ بنِ عباس عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "الصلاةُ مثْنَي مثْنَي تشهدُ في كلِّ ركعتينِ وتخشعُ وتضرع وتمسكنُ وتقنعْ يديكَ - يقولُ ترفعهُما - وتقولُ: ياربِّ ثلاثا، فمن لم يفعلْ ذلكَ فهي خداجٌ " خرَّجهُ الترمذيُّ وغيره. وكذلكَ يشرعُ إظهارُ المسكنةِ في الدعاءِ، خرَّجَ الطبراني من حديثِ ابنِ عباسٍ قالَ: "رأيتُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يدعوُ بعرفةَ ويداهُ إلى صدره كاستطعامِ المسكينِ ". ومن حديثِهِ أيضاً أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ في دعائِهِ عشيةَ عرفةَ: "أنا البائسُ الفقيرُ المسغيثُ المستجيرُ الوجلُ المشفقُ المقرُّ المعترفُ بذنبِهِ، أسألكَ مسألةَ المسكينِ، وأبتهلُ إليكَ ابتهالَ المذنبِ الذليلِ، وأدعوكَ دعاءَ الخائفِ الضرير ". وكان بعضُ السلفِ يجلسُ بالليلِ مطرقًا رأسَهُ ويمدُّ يديهِ وهو ساكَتٌ كحالِ المسكينِ المستعطِي. وقالَ طاوس: دخلَ عليٌّ بنُ الحسينِ الحِجْرَ ليلةً فصلَّى فسمعتُهُ يقولُ في سجودِهِ: عُبيدُكَ بفنائِكَ، مسكينُكَ بفنائِكَ، فقيرُكَ بفنائِكَ، سائلُكَ بفنائِكَ، قالَ طاوس: فحفظتُهنَّ فما دعوتُ بهنَّ في كربٍ إلاَّ فرجَ عنَّي. وكان بعضُ العبادِ قد حجَّ ثمانينَ حجةً على قدميهِ فبينَما هوَ في الطوافِ وهوَ يقولُ: ياحبيبي ياحبيبي، فهتفَ هاتفٌ: ليسَ ترضَى أن تكونَ مسكينًا حتى تكون حبيبا فغشيَ عليه، فكانَ بعد ذلكَ يقولُ: مسكينُك، مسكينُك.

شعرٌ لابنِ تيميةَ شيخ الإسلامِ رحمهُ الله: أنا الفقيرُ إلى ربِّ السماواتِ. . . أنا المستكينُ في مجموع حالاتي أنا الظلومُ لنفسِي وهي ظالمتي. . . والخيرُ إن جاءَهَا من عندِهِ ياتي قولهُ - صلى الله عليه وسلم -: "وأن تغفَر لي وترحمني " المغفرةُ والرحمةُ يجمعانِ خيرَ الآخرةِ كلَّهُ؛ لأن المغفرةَ سترُ الذنبِ مع وقايةِ شرِّه، وقد قيلَ: إنه لا تجتمعُ المغفرةُ مع عقوبةِ الذنبِ حيثُ كانتِ المغفرةُ وقايةً لشرِّ الذنبِ، وهذا لا يكونُ مع عقوبةٍ عليهِ، ولذلكَ سمِّي المغفرُ مغفرًا لأنه يستُرُ الرأسَ ويقيهِ الأذَى، وهذا بخلافِ العفوِ فإنَه يكونُ تارةً قبلَ العقوبةِ وتارةً بعدها. وأمَّا الرحمةُ فهيَ دخولُ الجنةِ، وعلو درجاتِها، وجميع ما في الجنةِ من النعيم بالمخلوقاتِ ومنْ رضَى اللَّهِ عزَ وجل وقربِهِ ومشاهدتِهِ وزيارتِهِ فإنَّه من رحمةِ اللَّهِ تعالَى، وفي الحديثِ الصحيح: "إنَّ اللَّهَ عز وجل يقولُ للجنةِ: أنتِ رحمتِي أرحمُ بكِ من أشاءُ من عبادِي " فكلُّ ما في الجنةِ فهُو من رحمةِ اللهِ عزَّ وجلَّ وإنَّما تُنالُ برحمِتِه لا بالعملِ كما قالَ - صلى الله عليه وسلم -: "لن يدخلَ أحدٌ منكُمُ الجنةَ بعمله، قالُواْ ولا أنتَ يا رسولَ اللَّهِ؟ قالَ: ولا أنا إلا أن يَتَغَمَّدَنِيَ اللَّهُ برحمتِهِ ". قولُه - صلى الله عليه وسلم -: "وإذا أردتَ بقومٍ فتنةً فاقبضْنِي إليكَ غيرَ مفتونٍ ". المقصودُ من هذا الدعاءِ سلامةُ العبدِ من فتن الدنيا مدةَ حياتِهِ فإنْ قدَّر اللَّهُ عز وجل على عبادِه فتنة قبضَ عبدَهُ إليهِ قبلَ وقوعها وهذا من أهمِّ الأدعيةِ فإنَّ المؤمن إذا عاشَ سليمًا من الفتن ثم قبضَهُ اللَّهُ قبل وقوعِهَا وحصولِ الناسِ فيها كانَ في ذلكَ نجاةٌ له من الشرِّ وقد أمرَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أصحابَهُ أن يتعوَّذوا من الفتن ما ظهرَ منها

وما بطَنَ، وفي حديثٍ آخرَ "وجنِّبنا الفواحشَ والفتنَ ما ظهرَ منها وما بطنَ "، وكانَ يخصُّ بعضَ الفتنِ العظيمة بالذكرِ، وكان يتعوذُ باللَّهِ في صلاتهِ من أربع ويأمرُ بالتعوذِ منها "أعوذُ باللًّهِ من عذابِ جهنمَ، ومن عذابِ القبرِ، ومن فتنةِ المحيا والمماتِ، ومن فتنةِ المسيح الدجال " ففتنةُ المحيا تدخلُ فيها فتنُ الدِّينِ والدنيا كلُّها كالكفرِ والبدع والفسوقِ والعصيانِ، وفتن المماتِ يدخلُ فيها سوءُ الخاتمةِ، وفتنةُ الملكينِ في القبرِ فإنَّ الناسَ يفتنونَ في قبورهم مثلَ أو قريبًا من فتنة الدجالِ، ثم خصَّ فتنةَ الدجالِ بالذكرِ لعظم موقِعهَا فإنه لم يكن في الدُّنَيا فتنةٌ قبل يومِ القيامةِ أعظمُ منها وكلما قربَ الزمانُ من الساعةِ كثُرتِ الفتن. وفي حديث معاويةَ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنّهُ قالَ: "إنه لم يبقَ من الدنيا إلا بلاءٌ وفتنةٌ " وأخبر النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - عن الفتنِ التي كقطع الليلِ المظلم يصبح الرجل فيها مؤمِنًا ويمسي كافرًا، ويمسي مؤمنًا ويصبحُ كافرًا يبيعُ دينَهُ بعرِضٍ من الدنيا. وكان أولُ هذه الفتنِ ما حدثَ بعدَ عمرَ - رضي الله عنه - ونشأ من تلكَ قتلُ عثمانَ - رضي الله عنه - وما ترتبَ عليهِ من إراقةِ الدماءِ وتفرق القلوبِ وظهورِ فتن الدينِ كبدع الخوارج المارقينَ من الدينِ وإظهارهم ما أظهروا، ثم ظهورُ بدع أهلِ القدرِ والرفضِ ونحوِهِم، وهذه هي الفتنُ التي تموجُ كموج البحرِ المذكورةُ في حديثِ حذيفةَ المشهورِ للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم - حينَ سألَهُ عنها عمرُ وكان حذيفةُ - رضي الله عنه - .

من أكثرِ الناسِ سؤالاً للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم - عن الفتن خوفا من الوقوع فيها، ولما حضرَهُ الموتُ قال: حبيبٌ جاءَ على فاقةٍ لا أفلَحَ من ندِمَ، الحمدُ للَّهِ الذي سبقت بي الفتنة قادتها وعلوجها. وكان موتُه قبلَ قتلِ عثمانَ بنحو من أربعين يومًا وقيلَ: بل ماتَ بعدَ قتلِ عثمانَ. وكانَ في تلكَ الأيامِ رجلٌ من الصحابةِ نائمًا فأتاهُ آتٍ في منامهِ فقال له: قمْ، فاسأل اللَّهَ أن يعيذَك من الفتنةِ التي أعاذَ منها صالحَ عبادِهِ، فقام فتوضَّأ وصلَّى ثم اشتكَى وماتَ بعد قليلٍ. وقد رويَ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنهُ قال لرجل: "إذا مت أنا وأبو بكرٍ وعمرُ وعثمانُ فإن استطعتَ أنْ تموتَ فمُتْ " وهذا إشارةٌ إلى هذه الفتن التي وقدتْ بمقتلِ عثمانَ - رضي الله عنه -. والدعاءُ بالموتِ خشيةَ الفتنةِ في الدينِ جائزٌ وقد دعا به الصحابةُ - رضي الله عنهم - والصالحونَ بعدَهم، ولما حجَّ عمرُ - رضي الله عنه - آخرَ حجَّة حجَّها استلقى بالأبطح ثم رفعَ يديهِ وقالَ: اللهمُّ إنه قد كبرَ سنِّي ورقَّ عظمي وانتشرتْ رعيتي فاقبضني إليكَ غيرَ مُضيِّع ولا مفتون، ثم رجع إلى المدينة، فما انسلخَ حتى قتلَ - رضي الله عنه -. ودعا عليٌّ ربَّهُ أن يريحهُ من رعيتِه حيثُ سَئمَ منهم فقتلَ عن قريبٍ. ودعتْ زينبُ بنتُ جحشٍ - رضي الله عنها - لما جاءَها عطاءُ عمرَ من المال فاستكثرتهُ وقالتْ: اللهمَّ لا يدركني عطاءٌ لعمرَ بعدَها فماتت قبلَ العطاءِ الثاني. ولما ضجَرَ عمرُ بنُ عبدُ العزيزِ من رعيتِهِ حيثُ ثقلَ عليهم قيامُهُ فيهِم بالحقِّ

طلبَ من رجلٍ كان معروفًا بإجابةِ الدعوةِ أن يدعوَ له بالموتِ فدعَا له ولنفسِه بالموتِ فماتا. ودُعي طائفةٌ من السلفِ الصالح إلى ولايةِ القضاءِ فاستُمهلوا ثلاثةَ أيامٍ فدعَوا اللَّهَ لأنفسِهِم بالموتِ فماتوا. واطُّلعَ على حال بعض الصالحينَ ومعاملاتِهِ التي كانتْ سرًّا بينه وبينَ ربِّه. فدعا اللَّهَ أن يقبضهُ إليه خوفًا من فتنةِ الاشتهارِ، فماتَ فإنَّ الشهرةَ بالخيرِ فتنةٌ، كما جاءَ فى الحديثِ "كفَى بالمرءِ فتنة أن يشارَ إليه بالأصابع فإنَّها فتنةٌ" وكان سفيانُ الثوريّ يتمنَّى الموتَ كثيرًا فسئل عن ذلكَ فقال: ما يدريني لعلِّي أدخلُ في بدعةٍ، لعلِّي أدخلُ فيما لا يحلَّ لي، لعلي أدخلُ في فتنةٍ أكون قدْ متُّ فسبقتُ هذا. واعلم أن الإنسانَ لا يخلو من فتنةٍ. قال ابن مسعودٍ - رضي الله عنه -: لا يقلْ أحدُكم أعوذُ باللَّهِ من الفتنِ ولكن ليقلْ: أعوذُ باللَّهِ من مضلاتِ الفتنِ ثم تلا قوله تعالى: (إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ) يشيرُ إلى أنه لا يستعاذُ من المال والولد وهما فتنةٌ. وفي "المسندِ" أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أمرَ أمَّ سلمةَ أن تقولَ: "اللهمَّ ربَّ النبيًّ محمدٍ اغفرْ لي ذنبي، وأذهِبْ غيظ قلبِي، وأجرنِي من مضلات الفتنِ ما أبقيتَنِي " وقد جعلَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - النساءَ والأموال فتنةً ففي "الصحيح " عنه - صلى الله عليه وسلم - قالَ: " مَا تَرَكْتُ بَعْدِي فِتْنَةً أَضَرَّ عَلَى الرِّجَالِ مِنْ النِّسَاءِ" وفيه أيضًا أنهُ - صلى الله عليه وسلم -

قالَ: "واللَّهِ ما الفقرُ أخشَى عليكم، ولكنْ أخشَى أن تبسطَ عليكُم الدُّنيا كما بسطَتْ على من كانَ قبلَكم، فتنافسوها كما تنافسوهَا فتهلكهمُ كما أهلكتهُم ". وفي "صحيح مسلم " عنه - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "اتَّقوا النساءَ فإنَّ أولَ فتنةَ بني إسرائيلَ كانتْ في النساء" وفي الترمذي أنه - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "لكلِّ أمةٍ فتنةٌ، وفتنةُ أمَّتي المالُ " وقد قالَ اللًّهُ عز وجل: (وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُون وَكانَ رَبُّكَ بَصِيرًا) . فالرجلُ فتنة للمرأةِ، والمرأةُ فتنة للرجلِ، والغني فتنة للفقير، والفقيرُ فتنة للغنيِّ، والفاجرُ فتنة للبرِّ، والبرُّ فتنة للفاجرِ، والكافرُ فتنة للمؤمنِ، والمؤمنُ فتنة للكافرِ، كما قالَ اللَّهُ تعاليَ: (وَكذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُم بِبَعْضٍ ليَقُولُوا أهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشاكِرِينَ) . وقالَ عز وجل: (وَنَبْلُوكُم بِالشَّر وَالْخَيْرِ فِتْنَةً) . فجعلَ كلَّ ما يصيبُ الإنسانَ من شر أو خيرٍ فتنةً يعني أنهُ محنة يمتحنُ بها فإنْ أصيبَ بخير استحقَّ به شكرَه، وإن أصيبَ بسوءٍ استحقَّ به صبره، وفتنةُ السراءِ أشدُّ من فتنةِ الضراءِ. قالَ عبدُ الرحمنِ بن عوفٍ - رضي الله عنه - بُلينا بفتنةِ الضراءِ فصبرْنَا، وبُلينا بفتنةِ السراءِ فلم نصبرْ. قالَ بعضُهُم: فتنةُ الضراءِ يصبرُ عليها البر والفاجرُ ولا يصبرُ على فتنةِ السراءِ إلاَّ صدِّيقٌ. ولما ابتليَ الإمامُ أحمدُ بفتنةِ الضراءِ صبرَ ولم يجزعْ وقالَ: كانتْ زيادةً في إيماني، فلما ابتلي بفتنةِ السراءِ جزعَ وتَمَنَّى الموتَ صباحة ومساءً وخَشيَ أنْ يكونَ نقصًا في دينهِ.

ثمَّ إن المؤمنَ لابدَّ أنْ يفتنَ بشي من الفتن - المؤلمةِ الشاقةِ عليه ليمُتحنَ إيمانهُ، كما قالَ اللَّهُ تعالى: (الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (3) . ولكنَّ اللَّهَ يلطُفُ بعباده المؤمنينَ في هذهِ الفتن ويصبرُهُم عليها، ويثيبُهُم فيها، ولا يلقيهم في فتنةٍ مهلكةٍ مضلةٍ تذهبُ بدينِهم، بل تمرّ عليهِم الفتنُ وهم منها في عافية. وأخرجَ ابنُ أبي الدنيا من حديثِ ابنِ عمرَ مرفوعا " إنَّ للهِ ضنائنُ منْ عبادِهِ يغذُوهُم في رحمتِهِ ويحييهم في عافيةٍ ويتوفاهُم إلي جنتهِ أولئكَ الذينَ تمرّ عليهِم الفتنُ كقطع الليل المظلم، وهم منهَا في عافية" والفتن الصغارُ التي يُبْتَلى بها المرءُ في أهلهِ ومالِهِ وولدِهِ وجاره تكفِّرُها الطًاعاتُ من الصلاةِ والصيامِ والصدقةِ، لذا جاءَ في حديثِ حذيفةَ. ورُويَ عنهُ أنَّه سألَ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: إن في لساني ذرباً وإنَّ عامةَ ذلكَ على أهلي؟ فقالَ لهُ: " أينَ أنتَ منَ الاستغفارِ؟ ". وأما الفتنُ المضلةُ التي يُخشَى منها فسادُ الدينِ فهيَ التي يُستعاذُ مِنْهَا ويسألُ الموتُ قبلَهَا، فمنْ ماتَ قبلَ وقوعِهِ في شيء من هذهِ الفتن فقدْ حفظَهُ اللَّهُ تعالَى وحماهُ. وفي "المسندِ" عن محمودِ بن لبيدٍ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "اثنتان يكرَهُهُمَا ابنُ آدمَ: يكرهُ الموتَ، والموتُ خيرٌ للمؤمنِ من الفتنِ، ويكرهُ قلةَ المالِ، وقلة المالِ أقلُّ للحسابِ ".

قولهُ - صلى الله عليه وسلم - "وأسألكَ حبَّك وحبَّ من يحبُّك وحبَّ العملِ الذَّي يُبلغُني حبَّك" هذا الدعاءُ يجمعُ كلَّ خيرٍ، فإن الأفعالَ الاختياريةَ من العبادِ إنما تنشأُ عن محبةٍ وإرادةٍ، فإنْ كانتْ محبةُ الله ثابتةً في قلبِ العبدِ نشأتْ عنهَا حركاتُ الجوارح فكانتْ بحسبِ ما يحبُّه اللَّهُ ويرتضِيهِ، فأحبَّ ما يحبُّه اللَّهُ عز وجلَّ من الأعمالِ والأقوالِ كُلِّها، ففعلَ حينئذٍ الخيراتِ كُلَّها وتركَ المنكراتِ كلَّها، وأحبَّ من يحبُّه الله من خلقه، وهذا الدعاءُ كانتِ الأنبياءُ عليهم السلامُ يدعونَ به كما في الترمذي عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: "أن داودَ عليهِ السلام كان يقولُ: اللهمَّ إنِّي أسألكَ حبَّكَ وحبَّ من يحبُّكَ، وحبَّ عملٍ يبلغني إلى حبِّك، اللهُم اجعلْ حبَّكَ أحبَّ إليَّ من نفسي وأهلِي ومن الماء الباردِ" وفيه أيضًا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يدعو: "اللهمَّ ارزقني حبَّكَ، وحبَّ من يحبُّكَ، وحبَّ عملٍ يبلغني إلى حبك، اللهمَّ ما رزقتَني مما أحبُّ فاجعلهُ قوةً لي فيما تحبُّ. وما زويتَ عني مما أحبُّ فاجعلهُ فراغًا لي فيما تحبُّ ". وفي حديثٍ مرسلٍ خرَّجهُ ابنُ أبي الدنيا وغيرُه أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَان يقولُ: "اللهمَّ اجعلْ حبَّكَ أحبَّ الأشياءِ إليَّ، وخشيتَكَ أخوفُ الأشياءِ عنْدِي واقطعْ عنِّي حاجاتِ الدُّنيا بالشوقِ إلى لقائكَ وإذا أقررتَ أعينَ أهلِ الدنيا من دنياهم فأقررْ عيني في عبادتكَ " ومن كانَ همُّه طلبَ محبةِ اللهِ عز وجل أعطاهُ اللَّهُ فوق ما يريدُهُ من الدُّنيا تبعًا. قال بعضُ السلفِ: لما توفِّي داودُ عليه السلامُ أرسلَ اللَّهُ عز وجل إلى سليمانَ عليهِ السلامُ ألكَ حاجةٌ تسألني إيَّاها؟ فقالَ سليمانُ: أسألُ اللَّهَ أن يجعلَ قلبي يحبُّه كما كانَ قلبُ أبي داودَ يحبُّه، وأن يجعلَ قلبِي يخشاهُ كما

كانَ قلبُ أبي داودَ يخشاهُ، فشكرَ اللَّهُ لهُ ذلكَ وأعطاهُ مُلْكًا لا ينبغي لأحدٍ من بعده. ومحبةُ اللَّهِ تعالَى على درجتينِ: إحداهما: واجبةٌ وهيَ المحبةُ التي توجبُ للعبِد محبةَ ما يحبُّه اللَّهُ من الواجباتِ وكراهةِ ما يكرهُهُ من المحرماتِ، فإنَّ المحبةَ التامةَ تقتضِي الموافقةَ لمن يحبُّه في محبةِ ما يحبُّه وكراهةِ ما يكرههُ خصوصًا فيما يحبُّه ويكرهُهُ من المحبِّ نفسِهِ، فلا تصحُّ المحبةُ بدونِ فعلِ ما يحبُّه المحبوب من مُحبَهِ وكراهةِ ما يكرهُهُ المحبوبُ من محبيهِ، وسئلَ بعضُ العارفينَ عن المحبةِ فقالَ: الموافقةُ في جميع الأحوالِ وأنشدَ: ولو قلتَ لي مُتْ مُتُّ سمعًا وطاعة. . . وقلتُ لداعي الموتِ أهلاً ومرحبًا وأنشدَ بعضُهُم: تعصِي الإلهَ وأنتَ تزعمُ حبَّهُ. . . هذا لعمري في القِياسِ فظيعُ لو كانَ حبُّكَ صادقًا لأطعتهُ. . . إن المحبَّ لمنْ يحبُّ مطيعُ ومتى أخلَّ العبدُ ببعضِ الواجباتِ أو ارتكبَ بعضَ المحرماتِ فمحبّته لربِّهِ غيرُ تامَّةٍ، فالواجبُ عليهِ المبادرةُ بالتوبةِ، والاجتهادُ في تكميلِ المحبةِ المفضيةِ لفعلِ الواجباتِ كلِّها، واجتنابِ المحرماتِ كلِّها، وهذا معنى قولِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - " لا يزني الزانِي حينَ يزني وهو مؤمن ولا يسرقُ السارقُ حينَ يسرقُ وهوَ مؤمن ولا يشربُ الخمرَ حينَ يشربُها وهو مؤمنٌ " فإنَّ الإيمانَ الكاملَ يقتضِي محبَّة ما يحبُّه اللَّهُ، وكراهةَ ما يكرهُهُ اللَّهُ عزَّ وجلَّ، والعملَ بمقتضَى ذلكَ فلا يرتكب أحدٌ

شيئًا من المحرماتِ أو يخلّ بشيءٍ من الواجباتِ إلا لتقديمِ هوى النفسِ المقتضي لارتكابِ ذلكَ على محبةِ اللَّهِ تعالَى المقتضيةِ لخلافِهِ. الدرجةُ الثانيةُ من المحبةِ: درجةٌ المقربينَ وهيَ: أنْ يمتلئَ القلبُ بمحبةِ اللَّهِ تعالِى حتى توجبَ له محبةَ النوافلِ والاجتهادَ فيها وكراهةَ المكروهاتِ والانكفافَ عنها، والرِّضا بالأقضيةِ والأقدارِ المؤلمةِ للنفوسِ لصدورها عن المحبوبِ، كما قالَ عامرُ بنُ قيس: أحببتُ اللَّهَ حبًا هوَّنَ عليَّ كلَّ مصيبةٍ، ورضَّاني بكلِّ بليةٍ، فلا أبالي معًّ حَبِّي إياهُ على ما أصبحتُ ولا على ما أمسيتُ. وقالَ عمرُ بنُ عبدِ العزيز لما ماتَ ولدُهُ الصالحُ: إن اللَّهَ أحبَّ قبضَهُ، وإني أعوذُ باللَّهِ أن يكونَ لي محبةٌ في شيءٍ من الأمورِ يخالفُ محبةَ اللَّهِ، وكانَ يقولُ: إذا أصبحتُ فما لي سرورٌ. . . إلا في مواقع القضاءِ والقدرِ. يا من يعَزُّ علينا أن نفارِقَهم. . . وجداننَا كل شيءٍ بعدَكُم عدمُ إن كانَ سرَّكم ما قد بليتُ بهِ. . . فما لجُرحٍ إذا أرضَاكمُ ألمُ وحسبُ سلطانِ الهوى أن يلذَّ فيه كلُّ ما يؤلمُ. كان عمارُ بنُ ياسرٍ يقولُ: اللهمَّ لو أعلمُ أنَّه أرْضَى لك أن أرمي بنفسِي من هذا الجبلِ فأتردَّى فأسقطُ فعلتُ، ولو أعلمُ أنَّه أرضى لكَ أن أوقدَ نارًا عظيمَةً فأقعُ فيها فعلتُ، ولو أعلمُ أنَّه أرْضى لكَ عنِّي أن ألقِي نفسي في الماءِ فأغرِق نفسي فعلتُ، ولا أقولُ هذا إلا وأريدُ وجهَكَ وأنا أرجو أن لا تخيبني وأنا أريدُ وجهَكَ. وقُتِلَ لبعضِ الصالحين ولدانِ في الجهادِ فعزاهُ الناسُ فيهما فبكى وقالَ:

إنِّي ما أبْكِي لفقدهمَا إنما أبكانِي كيفَ كانَ رضاهُما عن اللهِ حيثُ أخذْتهُما السيوفُ. وكانَ بعضُ العارفينَ يطوفُ بالبيتِ فتجمعتِ القرامطةُ على الناس قتلُوهم في الطوافِ فوصلُوا إليه فلم يقطع الطوافَ حتى سقطَ من ظربِ السيوفِ صريعًا وأنشدَ: واللَّهِ لو حلفَ العشاقُ أنهُمُ موتى. . . من الحبِّ ما ماتُوا وما حنثُوا ترى المحبِّين صرْعى في ديارِهمُ. . . كَفِتْيةِ الكهفِ لا يدرونَ كم لبِثوا أقلُّ ثمنِ المحبةِ بذل الروح. بدمِ المحبِّ يُبَاعُ وصلُهُم. . . فمن الذي يبْتَاعُ بالثمنِ قال بعضُ العارفينَ: إن كنت تسمحُ ببذل روحكَ في هذه الطريقِ وإلا فلا تشتغلْ بالتُرَّهَات: خاطرْ بروحكَ في هَوانَا واسترحْ. . . إنْ شئتَ تحظى بالمحل الأعظمِ لا يشغلنَّكَ شاغِلٌ عن وصلِنا. . . وانهضْ على قدمِ الرجاءِ واقدمِ ولما كانتْ محبةُ اللَّهِ عز وجل لها لوازمٌ وهي محبةُ ما يحبُّه اللَّهُ عز وجل من الأشخاصِ والأعمال، وكراهةِ ما يكرههُ من ذلكَ سأل النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - اللَّهَ تعالَى مع محبته محبةَ شيئينِ آخرينِ: أحدُهما: محبةُ من يحبُّ ما يحبُّه اللَّهُ تَعالى فإن من أحبَّ اللَّهَ أحبَّ أحباءهَ فيهِ ووالاهم وأبغضَ أعداءَهُ وعاداهم. كما قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "ثلاثٌ من كنَّ فيه وجدَ بهنَّ حلاوةَ الإيمانِ، أن يكونَ اللَهُ ورسولُه أحبَّ إليه مما سواهُما، وأن يحبَّ المرءَ لا يحبُّه إلا للَّهِ، وأن يكرَه أنْ يعودَ في الكفرِ بعدَ إذ اْنقذهُ اللَّهُ منه كما يكرهُ أن يلقَى في النارِ".

وأعظم من تجبُ محبّتهُ في اللَّهِ تعالَى أنبياؤهُ ورسلهُ وأعظمُهم نبيُّه محمدٌ - صلى الله عليه وسلم - الذي افترضَ اللَّهُ على الخلقِ كلِّهم متابعتَهُ، وجعلَ متابعتَهُ علامةً لصحةِ محبتِهِ، كما قالَ تعالى: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ) . وتوعدَ من قدَّم محبةَ شيءٍ من المخلوقينَ على محبتهِ ومحبةِ رسولهِ - صلى الله عليه وسلم - ومحبة الجهادِ في سبيلِهِ في قوله تعالى: (قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا) . ووصفَ المحبينَ لهُ باللينِ للمؤمنينَ والرأفةِ بهم والمحبةِ لهم والشدةِ على الكافرينَ والبغضِ لهم والجهادِ في سبيله فقال: (فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ) الآية. والثاني: محبة ما يحبُّه اللَّهُ تعالى من الأعمالِ وبها يبلغُ إلى حبِّه وفي هذا إشارةٌ إلى أنَّ درجةَ المحبةِ للَّهِ تعالَى إنَّما تنالُ بطاعتِهِ وبفعلِ ما يحبُّه فإذا امتثلَ العبدُ أوامرَ مولاهُ وفعلَ ما يحبُّه أحبَّهُ اللَّهُ تعالَى ورقَّاه إلى درجةِ محبتهِ، كما في الحديثِ الإلهي الذي خرَّجهُ البخاريُّ: "وما تقربَ إليَّ عبدي بمثلِ ما افترضتُ عليهِ ولا يزالُ عبدي يتقربُ إليَّ بالنوافلِ حتى أحبَّه". فأفضلُ ما تُستجلبُ به محبةُ اللَّهِ عز وجل فعلُ الواجباتِ وتركُ المحرماتِ، ولهذا جعلَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - من علاماتِ وجدانِ حلاوةِ الإيمان أن تكرَهَ

أنْ ترجعَ إلى الكفرِ كما تكرهُ أن تُلقَى في النار. وسئلَ ذو النونِ متى أحبُّ ربِّي؟ قالَ: إذا كان ما يكرههُ عندَكَ أمرُّ من الصبرِ، ثمَّ بعدَ ذلكَ الاجتهادُ في نوافلِ الطاعاتِ وتركُ دقائقِ المكروهاتِ والمشتبهاتِ، ومن أعظم ما تحصُلُ به محبةُ اللَّهِ من النوافلِ تلاوةُ القرآنِ وخصوصًا مع التدبرِ. قال ابنُ مسعودٍ - رضي الله عنه -: لا يسألُ أحدُكم عن نفسِهِ إلا القرآنَ، فمنْ أحبَّ القرآنَ فهو يحبُّ اللَّهُ ورسولَه. ولهذا قالَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - لمنْ قالَ إني أحبُّ سورةَ "قلْ هو اللَّهُ أحدٌ" لأنَّها صفةُ الرحمنِ فقالَ: "أخبروه أنَّ اللَّهَ يحبُّه ". وقالَ أبو سلمةَ بنُ عبد الرحمنِ: لما قدِم النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - المدينةَ خطبَ فقالَ في خطبتهِ: "إنَّ أحسنَ الحديثِ كتابُ اللَّهِ، قد أفلحَ من زينَهُ اللَّهُ في قلبهِ وأدخَلَهُ في الإسلامِ بعدَ الكفرِ، واختارَهُ على ما سواهُ من الأحاديث، إنه أحسنُ الحديث وأبلغهُ، أحبُوا من أحبَّ اللَّهَ وأحبُّوا اللَّه من كلِّ قلوبكم ". وكان بعضُهم يكثرُ من تلاوةِ القرآنِ ثمَّ فترَ عن ذلك فرأى في المنامِ قائلاً يقولُ له: إن كنتَ تزعمُ حبِّي. . . فلم جفوتَ كتابي أما تدبرتَ ما فيه. . . من لطيف عِتابِي فاستيقظ وعادَ إلى تلاوتِه: ومن الأعمالِ التي توصِّلُ إلى محبةِ اللهِ تعالَى وهيَ من أعظمِ علامات المحبينَ كثرةُ ذِكرِ اللَّهِ عز وجل بالقلبِ واللسان. قالَ بعضُهم: ما أدمنَ أحد ذكرَ اللَّهِ إلا أفادتْهُ منهُ محبةَ اللَّهِ تعالَى. وقالَ ذو النونِ: من أدمن ذكرَ اللَّهِ

قذفَ اللَّهُ في قلبِهِ نورَ الاشتياقِ إليهِ، وقالَ بعضُ التابعينَ: علامةُ حبِّ اللَّه كثرةُ ذكر، فإنكَ لن تحبَّ شيئًا إلا أكثرتَ ذكرَهُ، وقالَ فتحٌ الموصليُّ: المحبُّ للهِ لا يجدُ مع حبِّ اللهِ للدنيا لذةً ولا يغفلُ عن ذكرِ اللَّهِ طرفَة عينٍ. المحبونَ إن نطقوا نطقُوا بالذكرِ، وإن سكتُوا اشتغلوا بالفكرِ: فإن نطقتُ فلم ألفظْ بغيركم. . . وإن سكتُّ فأنتم عند إضْمارِي ومن علامات المحبينَ للهِ وهو مما يحصلُ به المحبةُ أيضًا حبُّ الخلوةِ بمناجاةِ اللَّهِ تعالى وخصوصًا في ظلمةِ الليلِ: الليلُ لي ولأحبابي أسامرُهم. . . قد اصطفيتُهم كي يسمعوا ويعوا قالَ الفضيلُ: يقولُ اللَهُ عز وجل: كذبَ من ادَعَى محبَّتي فإذا جَنَّهُ الليلُ نام عنِّي. أليسَ كل حبيبٍ يحبُّ الخلوةَ بحبيبهِ؟ ها أنا مُطَّلعٌ على أحبابي إذا جنَّهُمُ الليلُ جعلتُ أبصارهُم في قلوبهم، ومثلتُ نفسِي بينَ أعينِهم فخاطبوني على المشاهدةِ، وكلَّموني على حضوري، غدًا أقرُّ عينَ أحبَابي في جنَاتي: تنامُ عيناكَ وتشكُو الهوى. . . لو كنتَ صبًّا لم تكنْ نائمًا قلوبُ المحبينَ جمرةٌ تحتَ فحمةِ الليلِ كلما هبَّ عليها نسيمُ السحرِ التهبَتْ، وأنشد: يذكِّرُني مرُّ النسيم عهودكمُ. . . فأزدادُ شوقًا كلَّما هبتِ الريحُ أرَاني إذا ما أظلمَ الليلُ أشرقتْ. . . بقلبِي منْ نارِ الغرامِ مصابيحُ كلما جنَ الغاسقُ حن العاشقُ. لو أنَّكَ أبصرتَ أهلَ الهوى. . . إذا غابتِ الأنجمُ الطُّلعُ

فهذا ينوحُ على ذنبِهِ. . . وهذا يصلِّي وذا يركعُ من لم يكنْ له مثلُ تقواهُم لم يدرِ ما الذي أبكاهُم، ومن لم يشاهدْ جمالَ يوسفَ لم يدرِ ما الذي آلمَ قلبَ يعقوبَ، وسئلَ السّريُّ السقَطيُّ عن حالِهِ فأنشدَ: من لم يبتْ والحبُّ حشوَ فؤادِهِ. . . لم يدرِكيفَ تفتتُ الأكبادُ أين رجالُ الليلِ؛ أين ابنُ أدهمَ والفضيلُ؛ ذهبَ الأبطالُ وبقيَ كلُّ بطالٍ. يا من رضِيَ من الزهدِ بالزي، ومن الفقرِ بالاسم، ومن التصوفِ بالصوف. ومن التسبيح بالسبح، أينَ فضلُ الفضيل؟ أين جدُّ الجنيدِ؟ أين سرُّ السريًّ؟ أين بشر أين إبراهيم بن أدهمَ؟ ويحَكَ إن لم تقدرْ على معرفةِ معروفٍ فاندُبْ على ربع رابعةَ وأنشد: هاتيكَ رُبوعَهم وفيها كانُوا. . . بانُوا عنْهَا فَلْيَتَّهِم ما بانوا ناديتُ وفي حشَاشتي نيرانُ. . . يا دارُ متى تحوَّلَ السكانُ يا من كان له قلبٌ فانقلبَ، يا من كان له وقتٌ مع اللَّهِ فذهبَ، قيامُ الأسحارِ يستوحشُ لكَ، صيامُ النهارِ يسألُ عنكَ، ليالي الوصالِ تعاتبكَ على انقطاعكَ: تشَاغلتمُ عنَّا بصحبةِ غيرِنا. . . وأظهرتُم الهجْرَانَ ما هكذا كنَّا وأقسمتُم أن لا تحولُوا عَنِ الهوى. . . فقد وحياةِ الحبِّ حلتُم وما حُلنا ليالي كنَّا نجتَني من ثمارِكم. . . فقلبي إلى تلكَ الليالِي لقدْ حنَّا إخواني مجَالسُ الذكرِ شرابُ المحبينَ وترياقُ المذنبينَ، قد علمَ كلُّ أناسٍ مشرَبهم، مجالسُ الذكرِ مآتم الأحزانِ فهذا يبكي لذنوبِه، وهذا يندبُ

قوله تعالى: (قال فإنك من المنظرين (80)

لعيوبِهِ، وهذا يتأسفُ على فواتِ مطلوبهِ، وهذا يتلهفُ لإعراضِ محبوبِهِ. وهذا يبوحُ بوجودِهِ وهذا ينوحُ على فقدِهِ وأنشدَ: ما أذكر عيشَنَا الذي قد سلفا. . . إلا وجفَّ القلبُ وكم قد وَجَفا واهًا لزمانِنَا الذي كان صفَا. . . بل وأسفًا لفقدِهِ وأسفا غيره: يا ليتَنَا بزمزم والحجر. . . يا جيرتَنَا قبيلَ يومِ النفرِ فهلْ يعودُ ما مضَى من عمري. . . ما كنتُ أدْرِي يا ليتَنِي لا أدرى كأنِّي أرَى الخلعَ قد خُلِعَتْ على المقبولينَ، كأنِّي أرَى الملائكةَ تصافحُ التائبينَ، فتعالوا نجتمعُ نبْكي على المطرودينَ: ما زلتُ دهْرًا للّقَا متعرضًا. . . ولَطَالما قد كنتَ عنَا معرِضًا جانبتَنا دهرًا فلما لم تجدْ. . . عوضًا سوانَا صرتَ تبْكي محرضًا واحسرتَاهُ عليكَ من متقلبٍ. . . حق الوبالُ عليهِ من سوءِ القضَا لو كنتَ من أحبَابِنَا للزمتَنا. . . فكُسيتَ من إحسَانِنا خلعَ الرضا لكنْ غمطتَ حقوقَنَا وتركتنَا. . . فلذاكَ ضاقَ عليكَ متسعُ الفضَا * * * قوله تعالى: (قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (80) قال ابن الجوزي في "المقتبس ": سمعت الوزير يقول في قوله تعالى:

قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (80) . قال: ليس هذا بإجابة سؤاله وإنَّما سألَ الإنظار. فقيلَ لهُ: كذا قُدِّرَ، لا أنَّه جواب سؤالك، لكنَّه مما فُهِم. * * *

سورة الزمر

سُورَةُ الزُّمَر قوله تعالى: (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (10) قالَ تعالى: (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ) والصبرُ ثلاثةُ أنواع: صبرٌ على طاعةِ اللَّهِ، وصبْرٌ عن محارمِ اللَّهِ، وصبرٌ على أقدارِ اللَّهِ المؤلمةِ. وتجتمعُ الثلاثةُ كلُّها في الصوم،؛ فإنَّ فيه صَبرًا على طاعةِ اللَّهِ، وصَبرًا عمَّا حرَّمَ اللَّهُ على الصائم من الشَّهواتِ، وصبرًا على ما يحصُلُ للصَّائم فيه من ألم الجوع والعطشِ، وضعْفِ النفسِ والبدنِ. ثبتَ في "الصحيحين " عن أبي هريرةَ - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "كلُّ عملِ ابنِ آدمَ له؛ الحسَنةُ بعشْرِ أمثالها إلي سبعمائةِ ضِعفٍ، قالَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ: إلا الصَّيامَ فإنَّه لي وأنا أجزِي به، إنَه تَرَكَ شهوتَه وطعامَه وشرابَه من أجلي. للصائم فرحتانِ: فَرْحَةٌ عند فطرِه، وفَرْحَةٌ عند لقاءِ ربَّهِ، ولَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ ". وفي روايةٍ "كلُّ عَمَلِ ابنِ آدمَ له إلا الصيامَ فإنَّه لي " وفي رواية للبخاريِّ "لكلِّ عملٍ كَفَّارةٌ، والصَّوم لي وأنا أجزي به ". وخرَّجهُ الإمامُ أحمد من هذا الوجهِ، ولفظهُ: "كلُّ عملِ ابنِ آدمَ له كفارةٌ إلا الصَّومَ، والصَّومُ لي، وأنا أَجْزِي به " فعلى الروايةِ الأولى: يكونُ استثناءُ الصومِ من الأعمالِ المُضَاعَفَةِ، فتكونُ الأعمالُ كلُّها تُضاعَفُ بعَشرِ أمثالهِا إلى سبعمائةِ ضعفٍ إلا الصيامَ

قوله تعالى: (والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه)

فإنَّه لا ينحصِرُ تضعيفُه في هذا العددِ، بل يُضاعِفُه اللَّهُ عزَّ وجلَّ أضعافًا كثيرةً بغير حَصْرِ عددٍ؛ فإنَّ الصيامَ من الصَّبرِ. ولهذا وَرَدَ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه سمَّى شهرَ رمضانَ شهرَ الصبر وفي حديثٍ آخرَ عنه - صلى الله عليه وسلم -، قالَ: "الصَّومُ نِصْفُ الصَّبْرِ" خرَّجهُ الترمذيُ. وهذا الألمُ الناشئُ من أعمالِ الطَّاعَاتِ يُثابُ عليه صاحبُه، كما قالَ اللَّهُ تعالى في المجاهدينَ: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (120) . وفي حديثِ سلمانَ المرفوع الذي أخرَجَهُ ابنُ خُزيمةَ في "صحيحِهِ " في فضلِ شهرِ رمضانَ "وهو شهرُ الصَّبرِ، والصَّبْرُ ثوابُه الجَنَّةُ ". وفي الطبراني عن ابنِ عُمَرَ مرفوعا: " الصيامُ لله لا يَعْلَمُ ثَوابَ عملهِ إلا اللَهُ عزَّ وجلَّ ". ورُوي مرسلاً وهو أصحُّ. * * * قوله تعالى: (وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ) وأما سعةُ جهَنم طولاً وعرْضًا، فروى مجاهد عن ابنِ عباسٍ، قالَ: أتدرونَ ما سعةُ جهنَم؟ قلنا: لا، قالَ: أجلْ واللَّهِ ما تدرونَ أنَّ ما بينَ شحمةِ

أذنِ أحدِهم وأنفِهِ مسيرةُ سبعينَ خريفًا تجري في أوديةُ القيح والدمِ. قلنَا: أنهار؟ قال: لا، بل أوديةٌ، ثمَّ قالَ: أتدرونَ ما سعةُ جهنَّمَ؟ قلنا: لا، قالَ: حدثتنِي عائشةُ أنها سألتْ رسولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عن قوله تعالى: (وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ) . فأين الناسُ يومئذٍ؟ قال: "على جسر جهنَّم" خرَّجهُ الإمامُ أحمدُ، وخرجَ النسائيُّ والترمذيُّ منه المرفوعَ وصححهُ الترمذيُّ وخرَّجهُ الحاكمُ وقالَ صحيحُ الإسنادِ. * * * وقالَ - أي ابن الجوزي -: كانَ أبو القاسم بنِ السَّمرقندي يقولُ: إنَّ أبا بكر بنَ الخاضبةِ كانَ يُسَمِّي ابنَ الفاعوسِ الحجَريَّ؛ لأته كانَ يقولُ: الحجرُ الأسودُ يمينُ اللهِ حقيقةً. قلت: إنْ صحَّ عن ابنِ الفاعوسِ أنَّه كانَ يقولُ: الحجرُ الأسودُ يمينُ اللَّهِ حقيقةً، فأصلُ ذلكَ: أنَّ طائفَةً من أصحابنا وغيرِهم نَفوا وقُوعَ المجاز في القرآنِ، ولكنْ لا يعلمُ منهم مَن نفَى المجاز في اللُّغةِ كقولِ أبي إسحاقَ الإسفرائيني. ولكنْ قد يسمعُ بعضُ صالحِيهم إنكارَ المجازِ في القرآنِ، فيعتقدُ إنكارَهُ مطلقًا. ويؤيدُ ذلكَ: أنَّ المُتبادرَ إلى فهم أكثرِ النَّاسِ مِن لفظِ الحقيقةِ والمجازِ: المعَاني والحقائقُ دونَ الألفاظِ.

فإذَا قيلَ: "إن هذا مجاز" فهمُوا إنَه ليسَ تحتَه معنى، ولا له حقيقة. فينكرونَ ذلك، وينفِّرون منه. ومن أنكرَ المجازَ من العلماءِ فقدْ ينكرُ إطلاقَ اسم المجاز؛ لئلا يوهم هذا المعنى الفاسد، ويصيرَ ذريعةً لمن يريدُ حقائقَ الكتابِ والسنةِ ومدلولاتِهمَا. ويقولُ: غالبُ من تكلمَ بالحقيقةِ والمجاز همُ المعتزلةُ ونحوهم من أهلِ البدع وتطرقُوا بذلكَ إلى تحريفِ الكلم عن مواضعِهِ، فيمنعُ من التسميةِ بالمجاز، يجعلُ جميع الألفاظِ حقائقَ، ويقولُ: اللَّفظُ إن دل بنفسه فهو حقيقة لذلكَ المعنى، وإن دلَّ بقرينةٍ فدلالتُه بالقرينةِ حقيقة للمعنى الآخرِ. فهو حقيقة في الحالينِ. وإن كانَ المعنى المدلولُ عليه مختلفًا فحينئذٍ يُقَالُ: لفظ اليمينُ في قولِه سبحانَه وتعالى: (وَالسَّمَوَاتُ مَطْوِياتٌ بِيَمِينِهِ) حقيقة. وهو دالٌّ على الصفةِ الذاتيةِ. ولفظُ اليمينِ في الحديثِ المعروفِ: "الحجرُ الأسودُ يمينُ اللهِ في الأرضِ. فمنْ صافَحهُ فكأنَّمَا صَافَحَ اللَّهَ عز وجل. وقيلَ: يمينُه يُرادُ به - مع هذهِ القرائنِ المحتفة بهِ - محلُّ الاستلام والتقبيل. وهو حقيقةٌ في هذا المعنى في هذه الصورةِ، وليسَ فيه ما يُوهم الصفَة الذاتية أصلاً، بل دلالتُه على معناه الخاصِ قطيعة لا تحتملُ النقيضَ بوجهٍ، ولا تحتاج إلى تأويل ولا غيرهِ. وإذا قيلَ: فابنُ الفاعوسِ لمْ يكن من أهلِ هذا الشأنِ - أعني: البحثَ عن مدلولاتِ الألفاظ؟ قيلَ: ولا ابنُ الخاضبة كانَ من أهلِه، وإن كانَ محدِّثًا. وإنَّما سمعَ من ابنِ الفاعوسِ،

أو بلغَه عنه إنكارُ أن يكونَ هذا مجاز، لِما سمعَه من إنكارِ لفظِ المجازِ، فحملهُ السامعُ لقصورهِ أو لهواه على أنَّه إذا كانَ حقيقةً لزمَ أن يكونَ هو يدُ الربِّ عزَّ وجلَّ، التي هي صفتُه. وهذا باطلٌ. واللَّهُ أعلم. * * *

سورة غافر

سُورَةُ غَافِر قوله تعالى: (فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (7) قال ابن الجوزي في "المقتبس ": سمعتُ الوَزِير13) يقولُ فِي قَولِهِ تعالَى: (فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعوا سَبِيلَكَ) . قال: علمتِ المَلائكةُ انَّ اللَّهَ عز وجل يحبُّ عبادَهُ المُؤمِنِينَ، فَتَقَرّبوا إليه بالشفاعةِ فِيهِم. وأحْسَنُ القُرَبِ: أن يسأل المُحِبُّ إكرامَ حَبِيبِهِ، فإنكَ لَوْ سألتَ شَخصًا أن يزيدَ في إكرامِ وَلَدِهِ لارتَفَعْتَ عِنده، حَيْثُ تَحُثُّهُ عَلَى إِكْرَامِ مَحْبُوبِهِ. * * * قوله تعالى: (يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ (39) وقالَ اللَهُ تعالى: (بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (16) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (17) . وقالَ تعالى: (أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ (38) .

قوله تعالى: (النار يعرضون عليها غدوا وعشيا ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب (46)

وقالَ اللَّهُ تعالى عن مؤمن آل فرعونَ أنّه قال لقومِه: (يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ (39) . والمتَاعُ: هو ما يتمتَع به صاحبُه برْهَهً ثم ينقطِعُ ويفنَى. فما عِيبَتِ الدُّنيا بأبلغَ من ذكر فنائها وتقلُّبِ أحوالهَا، وهو أدل دليل على انقضائها وزوالِهَا، فتتبدَّل صحتُها بالسُّقم، ووجودُها بالعدمِ، وشبيبتُها بالهرَمِ، ونعيمهَا بالبؤسِ، وحياتُها بالموتِ، فتفارِقُ الأجسامُ النفوسَ، وعمارتُها بالخراب، واجتماعها بفرقةِ الأحبابِ، وكُلُّ ما فوق التُّرابِ تراب. * * * قوله تعالى: (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ (46) قال اللَّه تعالى: (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ) . قال قتادةُ في هذه الآيةِ: يقال لهم: يا آلَ فرعونَ هذه منازلكم، توبيخًا وصغارًا ونقيصةً. وقالَ ابنُ سيرين: كان أبو هريرةَ يأتِينا بعد صلاةِ العصرِ، فيقول: عرجت ملائكةٌ، وهبطتْ ملائكةٌ وعُرضَ آل فرعونَ على النارِ، فلا يسمعُه أحد إلا يتعوَذ باللَّهِ من النار. وقال شعبةُ، عن يعْلَى بنِ عطاء، سمعتُ ميمونَ بنَ مهرانَ يقول: كانَ أبو هريرةَ إذا أصبحَ يُنادي: أصبحْنا والحمدُ للَّهِ، وعُرِضَ آل فرعونَ على النارِ، فلا يسمعُه أحد إلا يتعوَّذ باللَّهِ من النارِ.

ورواهُ هشيمٌ عن يعْلى، عن ميمون، قال: كانَ لأبي هريرةَ صيحتانِ كلَّ يومٍ، أوَّل النهارِ يقولُ: ذهبَ الليلُ وجاءَ النهارُ وعرضَ آلُ فرعونَ على النارِ، وإذا كان العشيُّ يقول: ذهبَ النهارُ وجاءَ الليل، وعُرِضَ آل فرعونَ على النار، فلا يسمعُ أحد صوْتَهُ إلا استجارَ باللَّهِ من النارِ. ويُروى من حديثِ الليث، عن أبي قيسٍ، عن هُذيل، عن ابنِ مسعودٍ قالَ: أرواحُ آل فرعونَ في أجواف طير سودٍ، فيعرضونَ على النارِ كلَّ يومٍ مرتينِ، فيقال لهم: هذه دارُكم فذلك قوله تعالى: (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ) . ورواهُ غيرُه عن أبي قيسٍ، عن هذيل، من قولِه. لكن خرَّجه الإسماعيليُّ من طريقِ ابنِ عيينةَ، عن مسروقٍ عن أبي قيسٍ. عن هذيلٍ، عن ابنِ مسعود أيضًا. قال ابنُ أبي الدنيا: حدثنا حمادُ بنُ محمدٍ الفزَاريُّ، قال: بلغني عن الأوزاعيِّ، أنه سألهُ رجلٌ بعسقلانَ على الساحلِ، فقال له: يا أبا عمرو، إنَّا نرَى طيرًا سودًا تخرجُ من البحرِ، فإذا كانَ العشيُّ عادَ مثلها بيضًا. قال: وفطنتم لذلكَ؟ قالوا: نعم. قال: فتلك طيرٌ في حواصِلها أرواحُ آل فرعونَ. فتلفحُها النارُ، فيسودُّ ريشُها، ثم يُلقى ذلك الريشُ، ثم تعودُ إلى أوكارِها، يعرضونَ على النارِ فتلفحُها النارُ، فذلك دأبُها حتى تقومَ الساعةُ. فيقال: (أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ) . وفي "الصحيحين " من حديثِ ابنِ عمرَ - رضي الله عنهما -. عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال:

قوله تعالى: (ادعوني أستجب لكم)

"إذا ماتَ أحدُكم عُرضَ عليه مقعدُ بالغداةِ والعشيِّ، إن كانَ من أهلِ الجنةِ فمن أهلِ الجنةِ، وإن كان من أهلِ النارِ فمن أهلِ النارِ، حتَّى يبعَثَه ربُّه، يقالُ: هذا مقعدُك حتى يبعثكَ اللَّهُ إلى يوم القيامةِ". ورواه الفضيلُ بن غزوان، عن نافع عن ابنِ عمرَ - رضي الله عنهما -، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ولفظه: "ما من عبدٍ يموتُ إلا عرِضَ عليه مقعدُه، إن كان من أهلِ الجنةِ على الجنة، وإن كان من أهلِ النارِ على النارِ". * * * قوله تعالى: (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) وقالَ إبراهيمُ بنُ أدْهمَ رحمهُ اللَّهُ تعالى في موعظتِه حينَ سألُه عن قولِه تعالى: (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) وإنَّا ندعُوه فلم يستجبْ لنا. فقالَ: عرفتم اللَّه فلم تطيعُوه، وقرأتُم القرآنَ فلم تعملوا به، وعرفتُمُ الشيطانَ فوافقْتمُوه، وادَّعيتُم حبَّ رسولِ اللَّه - صلى الله عليه وسلم - وتركتُم سنَّته وادَّعيتم حبَّ الجنةِ ولم تعملوا لها وادَّعيتم خوفَ النارِ ولم تنتهوا عن الذنوبِ، وقلتُم: إن الموتَ حقٌّ ولم تستعدِّوا له، واشتغلتم بعيوبِ غيركم ولم تنظروا إلى عيوبكم، وتأكلونَ رزقَ اللَّهِ ولا تشكرونَ، وتدفنون أمواتكم ولا تعتبرون * * *

الدعاء مأمور به، وموعود عليه بالإجابةِ، كما قالَ تعالى: (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) . وفي "السنن الأربعة عنِ النُّعمانِ بنِ بَشيرٍ. عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنَّ الدعاءَ هو العبادةُ" ثم تلا هذه الآيةَ. وفي حديث آخرَ خرَّجه الطبرانيُّ مرفوعًا: "منْ أُعْطيَ الدُّعاءَ، أُعْطيَ الإجابة، لأنَّ اللَّه تعالى يقول: (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) ". وفي حديث آخرَ: "مَا كان اللَّهُ ليفتَحَ على عبدٍ بابَ الدُّعاءِ، ويُغْلِقَ عنه بابَ الإجابةِ ". لكنَّ اْلدعاءَ سببٌ مقتضٍ للإجابةِ مع استكمالِ شرائطِه، وانتفاءِ مَوانعهِ. وقد تتخلَّف إصابتُه، لانتفاءِ بعضِ شروطِهِ، أو وجودِ بعضِ موانِعِه. ومن أعظم شرائطِه: حضورُ القَلبِ، ورجاءُ الإجَابةِ من اللَّه، كما خرَّجه الترمذيُّ من حديثِ أبي هريرةَ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "ادعوا اللَّه وأنتُم موقنونَ بالإجابةِ، فإنَّ الله لا يَقبلُ دُعاءً من قلبٍ غافلٍ لاهٍ ". وفي "المسندِ" عن عبدِ اللَّهِ بنِ عمرٍو، عنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: "إنَّ هذه القلوبَ أوعية لبعضُها أوعى من بعضٍ، فإذا سألتم اللَّه فاسألوهُ وأنتُم موقنونَ بالإجابةِ،

فإنَّ اللَّه لايستجيبُ لعبدٍ دعاءً من ظهرِ قلبٍ غافلٍ ". ولهذا نُهيَ العبدُ أنْ يقولَ في دعائه: اللَّهم اغفرْ لي إنْ شئت، ولكنْ ليَعزِمَ المسألةَ، فإنَّ اللَّه لا مُكْرِهَ له. ً ونُهِيَ أن يستعجلَ، ويتركَ الدعاءَ لاستبطاءِ الإجابةِ، وجعلَ ذلك من موانع الإجابةِ حتَّى لا يقطعَ العبدُ رجاءَه من إجابةِ دُعائهِ ولو طالتِ المدةُ. فإنَّه سبحانه يُحبُّ المُلِحِّين في الدعاءِ. وجاء في الآثارِ: إنَّ العبدَ إذا دعا ربَّه وهو يحبّه، قال: "يا جبريل، لا تَعجَلْ بقضاءِ حاجة عبدي، فإنَّي أحبُّ أن أسمع صوتَه ". وقال تعالى: (وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (56) . فما دام العبدُ يُلحُّ في الدّعاءِ، ويَطمعُ في الإجابةِ من غيرِ قطع الرَّجاءِ، فهو قريبٌ من الإجابةِ، ومنْ أدْمَنَ قرع البابِ، يُوشك أن يُفتح له. وفي "صحيح الحاكم " عن أنس مرفوعًا: "لا تعْجزُوا عن الدُّعاء، فإنَّه لن يَهلِكَ مع الدُّعاءِ أحَدٌ". * * *

سورة الشورى

سُورَةُ الشُّورَى قوله تعالى: (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (13) [قالَ البخاريُّ] : وقال مجاهدٌ: (شَرَعَ لَكم مِّنَ الدِّينِ) . أوصينَاكَ وإيَّاهُ يا مُحَمد دِينًا واحدًا. روى ورقاءُ، عن ابنِ أبي نجي@، عن مجاهدٍ، في قوله: (شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصئَى بِهِ نوحًا) الشورى: 13،، قال: وصَّاك به وأنبياءَهُ كلَّهم دينًا واحدًا. ومعنى ذلك أنَّ دينَ الأنبياءِ كلِّهم دينٌ واحدٌ، وهو الإسلامُ العامُّ، المشتملُ على الإيمانِ باللَّهِ وملائكتهِ وكتبِهِ ورسلهِ واليومِ الآخرِ، وعلى توحيدِ اللَّه وإخلاصِ الدِّين له، وإقامِ الصلاةِ وإيتاءِ الزكاة. كما قال تعالى: (وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ (4) وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (5) . والدينُ هو الإسلامُ، كما صرحَ به في مواضعَ أُخرَ، وإذا أُطلقَ الإسلامُ دخلَ فيه الإيمانُ، وبالعكس.

قوله تعالى: (وإذا ما غضبوا هم يغفرون (37)

وقد استدل على أنَّ الأعمال تدخلُ في الإيمانِ بهذه الآيةِ وهي قولُه: (وَذَلِكَ دِينُ الْقَيمَةِ) ، طوائفُ من الأئمةِ، منهم: الشافعيُّ وأحمدُ والحميديُّ. وقال الشافعيُّ: ليسَ عليهم أحجُّ من هذه الآيةِ. واستدل الأوزاعيُّ بقولِهِ تعالى: (شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نوحًا) إلى قوله: (أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ ولا تَتَفَرَّقُوا) . وقال: الدِّينُ: الإيمانُ والعملُ. واستدل بقولِهِ تعالى: (فَإن تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَإخوَانُكُمْ فِي الدِّينِ) . وقد ذكرَ الخلاَّل في كتاب "السُّنة" أقوال هؤلاء الأئمة بألفاظِهِمْ، بالأسانيد إليهم. * * * قوله تعالى: (وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (37) وقد مدحَ اللَّهُ من يغفرُ عندَ غضبِهِ، فقال: (وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ) ؛ لأنَّ الغضبَ يحملُ صاحبه على أنْ يقول غيرَ الحقِّ، ويفعلَ غيرَ العدل، فمن كانَ لا يقول إلا الحقَّ في الغضبِ والرِّضا دل ذلك على شدةِ إيمانِهِ وأنَّه يملكُ نفسَهُ. وخرَّج الطبرانيُّ من حديثِ أنسٍ مرفوعًا: "ثلاث من أخلاقِ الإيمانِ: مَنْ إذا

غضِبَ لا يُدْخِلُهُ غضبُه في باطل، ومَنْ إذا رَضِي لا يُخْرِجُهُ رضَاه من حق، ومنْ إذا قدِرَ لا يتعاطَى ما ليسَ له ". فهذا هو الشديدُ حقًّا كما قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "ليسَ الشديدُ بالصُّرَعَةِ إنَّما الشديدُ الذي يملكُ نفسَهُ عندَ الغضبِ ". ولمسلمٍ: "ما تعدون الصُّرَعَةَ فيكم؟ " قلنا: الذي لا تَصْرَعُهُ الرِّجالُ. قال: "ليس كذلك، ولكنَّه الذي يملكُ نفسَهُ عندَ الغضبِ ". وقال رجلٌ للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: أوصِني. قال: " لا تغضَبْ " فرددَ مرارًا، قال: "لا تغضبْ " أخرَّجَه البخاريُّ. وفي "المسندِ" أنَّ رجلاً قال: يا رسول اللَّه، ما يباعدني عن غضَبِ اللَّهِ؟ قال: "لا تغضَبْ ". قال مُورِّقٌ العِجْلِي: ما قلتُ في الغضبِ شيئًا إلا ندمتُ عليه في الرِّضا. قال عطاءٌ: ما أبكَى العلماءَ بكاءٌ آخرَ العمرِ إلا من غضبة قدْ أقحمتْ صاحبَها مقحمًا ما استقاله. كان الشعبيُّ ينشدُ: ليستِ الأحلامُ في حالِ الرِّضا. . . إنَّما الأحلامُ في حالِ الغضَبْ وكان ابنُ عونٍ - رحمه اللَّه تعالى - إذا اشتدَّ غضبُه على أحدٍ قال: باركَ اللَّه فيك، ولم يزدْ.

وقال الفضيلُ - رحمه اللَّه تعالى -: أنا منذُ خمسينَ سنةً أطلبُ صديقًا إذا غضبَ لا يكذبُ عليَّ ما أجدُه. فإنَّ منْ لا يملكُ نفسَهُ عندَ الغضبِ إذا غضبَ قال فيمَنْ غضِبَ عليه ما ليسَ فيه من العظائم، وهو يعلمُ أنَّه كاذبٌ، وربما علِمَ الناسُ بذلك ويحمِلُهُ حقدُهُ وهوى نفسِهِ على الإصرارِ على ذلك. وقال جعفرُ بنُ محمدٍ: الغضبُ مِفتاحُ كلِّ شر. وقيلَ لابنِ المباركِ: اجمَعْ لنا حسنَ الخلقِ في كلمةٍ قال: تركُ الغضَبِ. وقال مالكٌ بن دينارٍ - رحمه اللَّه تعالى -: منذ عرفتُ الناسَ لم أبال بمدحهِم وذمهم لأنّي لم أرَ إلا مادحًا غاليًا، أو ذامًّا غاليًا. يعني: أنه لم يرَ مَنْ يقتصدُ فيما يقول في رضاه وغضبهِ. * * *

سورة الزخرف

سُورَةُ الزُّخْرُفِ قوله تعالى: (مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ (58) ومما أنكره السلفُ: الجدالُ والخصامُ والمراءُ في مسائلِ الحلالِ والحرامِ، ولم يكنْ ذلكَ طريقةَ أئمةِ الإسلامِ، وإنَّما أحدثَ ذلكَ بعدَهُم كما أحدَثَهُ فقهاءُ العراقيينَ في مسائل الخلافِ بين الشافعية والحنفية، وصنفوا كتبَ الخلافِ ووسَّعُوا البحثَ والجدالَ فيها، وكلُّ ذلك لا أصلَ له وصارَ ذلكَ علمُهُم. حتى شغَلَهم عن العلِم النافع. وقد أنكرَ ذلك السلفُ ووردَ في الحديث المرفوع في "السنن ": " ما ضل قوم بعدَ هدى كانُوا عليه إلا أوتوا الجدلَ ". ثم قرأ: (مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ (58) . وقال بعضُ السلفِ: إذا أرادَ اللَّهُ بعبدٍ خيرًا فتحَ له بابَ العملِ وأغلقَ عنه باب الجدلِ، وإذا أراد اللَّهُ بعبدٍ شرًّا أغلقَ عنه بابَ العملِ، وفتحَ له بابَ الجدلِ. وقال مالكٌ: أدركتُ أهل هذه البلدةِ وإنَّهم ليكرهونَ هذا الإكثارَ الذي عليه الناسُ اليومَ، يريدُ المسائلَ. وكان يعيبُ كثرةَ الكلامِ والفُتيا ويقولُ: يتكلمُ أحدُهُم كأنَّه جمل مغتلم، يقولُ: هو كذا هو كذا، يهدرُ كلامَهُ، وكان يكرهُ الجوابَ في كثرةِ المسائلِ، ويقولُ: قالَ اللَّه عزَّ وجلَّ: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي) ، فلم يأتِهِ في ذلكَ جوابٌ.

قوله تعالى: (إن المجرمين في عذاب جهنم خالدون (74) لا يفتر عنهم وهم فيه مبلسون (75)

وقيل له: الرجلُ يكونُ عالمَا بالسنةِ يجادل عنها، قال: لا، ولكنْ يخبرُ بالسنةِ، فإمَّا قُبِلَ منه وإلا سكتَ. وقال: المراءُ والجدال في العلم يذهبُ بنورِ العلم. وقالَ: المراءُ في العلم يُقَسِّي القلبَ ويورثُ الضغْنَ. وكان يقول في المسائلِ التي يسأل عنها كثيرًا: لا أدْرِي. كان الإمام أحمدُ يسلك سبيلَه في ذلك. وقد وردَ النهيُ عن كثرة المسائلِ وعن أغلوطاتِ المسائلِ، وعن المسائلِ قبلَ وقوع الحوادِثِ. * * * قوله تعالى: (إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (74) لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (75) وعذابُ الكفارِ في النَّارِ لا يُفَتَّرُ عنهم ولا ينقطعُ ولا يُخفَّفُ بل هو متواصلٌ أبدًا، قال اللَّهُ عزَّ وجلَّ: (إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (74) لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (75) . وقال تعالى: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا) . وقال تعالى: (فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُم الْعَذَابُ وَلا هُمْ يُنصَرُونَ) . وقال تعالى: (وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ (49) قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (50) .

وقالَ أحمدُ بنُ أبي الحواريِّ: سمعتُ إسحاقَ بنَ إبراهيمَ يقولُ - على منبرِ دمشقَ -: لا يأتي على صاحبِ الجنَّةِ ساعةٌ إلا وهو يزدادُ ضِعفًا من النَّعيم لم يكنْ يعرفُه، ولا يأتي على صاحبِ النَارِ ساعةٌ إلا وهو مستنكرٌ لنوع من العذابِ لم يكنْ يعرفُه، قالَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ: (فَذُوقُوا فَلَن نَّزِيدَكمْ إِلاَّ عَذَابًا) . قالَ جِسرُ بنُ فَرْقَدٍ عن الحسنِ: سألتُ أبا بَرْزةَ عن أشدِّ آيةٍ في كتابِ الله على أهلِ النَارِ، قال: سمعتُ رسولَ اللَّه - صلى الله عليه وسلم - قرأ: (فَذُوقُوا فَلَن نَزِيدَكمْ إِلاَّ عَذَابًا) ، فقالَ: "أُهلِكَ القومُ بمعاصيهم للهِ تعالى" خرَّجَه ابنُ أبي حاتمٍ، وجِسرٌ ضعيفٌ، وخرَّجَه البيهقيُّ ولمْ يرفعْهُ ولفظُهُ: سألت أبا برزةَ عن أشدِّ آيةٍ على أهلِ النارِ، قال: قولُه عزَّ وجلَّ: (فَذُوقُوا فَلَن نَّزِيدَكمْ إِلاَّ عَذَابًا) . وقالَ مجاهدٌ: بلغني أنَّ استراحةَ أهلِ النَّارِ أنْ يضعَ أحدُهم يدَهُ على خاصِرَتِهِ، ولأهل النَّارِ أنواعٌ من العذابِ لم يطلع اللَّهُ عليها خلقَهُ في الدنيا. قال مباركٌ عن الحسنِ: ذكرَ اللَّهُ السلاسلَ والأغلالَ والنَّارَ وما يكونُ في الدنيا، ثم قرأ: (وَآخَرُ مِن شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ) . قال آخرُ: لا تُرى في الدنيا. خرَّجَهُ ابنُ أبي حاتمٍ. وقال أبو يَعلى الموصلي: حدثَنا شُريحٌ، حدثنا إبراهيمُ بنُ سليمانَ، عن الأعمشِ عن الحسنِ، عن ابنِ عباسٍ في قولِه تعالى: (زِدْنَاهُم عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ) . قال: هي خمسةُ أنهارٍ تحتَ العرشِ يُعذَّبون ببعضها في الليل وبعضها في النَّهار. * * *

قوله تعالى: (ونادوا يا مالك)

قوله تعالى: (وَنَادَوْا يَا مَالِكُ) قال اللَّهُ تعالى: (وَنَادَوْا يَا مَالِكُ) ومَالِكٌ هو خازنُ جهنَّم، وهو كبيرُ الخزنةِ ورئيسهم، وقدْ رآه النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - ليلةَ الإسراءِ، وبدأَهُ مالكٌ بالسلامِ. خرَّجهُ مسلمٌ من حديثِ أنسٍ. ورآه النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في منامِهِ وهو كريهُ المِرآةِ، أي: كريهُ المنظرِ، كأكرهِ ما أنتَ راءٍ من الرَجال. * * * قال اللَّه عزَّ وجلَّ: (قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ (106) رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ (107) قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ (108) . وقال تعالى: (وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكم مَّاكِثُونَ) . وقال تعالى: (وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ (49) قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (50) . وقال تعالى: (وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (37) .

وفي حديثِ الأعمشِ عن شمرِ بنِ عطية عن شهرِ بنِ حوشب عن أمِّ الدَّرداءِ عن أبي الدَّرداءِ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: في ذكرِ أهلِ النَّارِ قال: "فيقُولونَ: ادعُوا خزنةَ جهنمَ، فيقُولون: (أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (50) . قال: "فيقُولونَ ادعُوا مالكَّاً فيقُولُونَ: (وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ (77) . " قال الأعمشُ: نُبئتُ أنَّ بينَ دُعائِهم وبين إجابةِ مالكٍ لهم ألفَ عامٍ، قال: فيقُولُون: ادعُوا ربَّكم فإنَّه ليس أحد خيرًا من ربكم فيقُولُون: (رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ (106) رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ (107) . ، قال فيُجِيبُهم: (قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ (108) . قال: "فعندَ ذلك يئسُوا من كل خيرٍ وعندَ ذلك يأخذونَ في الحسرةِ والزفيرِ والويلِ ". خرَّجهُ الترمذيُّ مرفوعًا وموقوفًا على أبي الدرداء. وروى أبو معشرٍ عن محمدِ بن كعبٍ القُرظى قال: لأهلِ النارِ خمسُ دعواتٍ يكلَّمونَ في أربع منها ويُسكتُ عنهم في الخامسةِ فلا يكلَّمونَ يقولون: (قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ (11) . فيردُّ عليهم: (ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا) .

ثمَّ يقولون: (رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ (12) . فيردُّ عليهم: (وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُل نَفْسٍ هُدَاهَا) ، إلى آخر الآيتين. ثمَّ يقولون: (رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ) . فيردُّ عليهم: (أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ (44) . ثمَّ يقولُون: (رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ) . فيردُّ عليهم: (أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ) . ثم يقولون: (رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ (106) رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ (107) . فيردُّ عليهم: (اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ (108) . إلى قولِهِ: (وكنتُم مِّنْهُمْ تَضْحَكُونَ) . قال: فلا يتكلَّمونَ بعدَ ذلك. خَرَّجَه آدمُ بنُ أبي إياسٍ وابنُ أبي حاتمٍ. وخرَّجَ ابنُ أبي حاتٍ من روايةِ قتادةَ عن أبي أيوبَ العتكيّ، عن عبدِ اللهِ ابنِ عمرٍ قال: نادَى أهلُ النَارِ: (يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّك) قال: فخلَّى عنهم أربعين عامًا ثمَّ أجابهم: (قَالَ إِنَّكُم ماكِثُونَ) . فقالُوا: (رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ (107) . قال: فخلَّى عنهم مثلَ الدُّنيا - ثمَّ أجابَهم: (قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ (108) . قال: فأطبِقَتْ عليهم فبئسَ القومُ بعدَ تلك الكلمةِ، وإنْ كان إلا الزفيرُ والشهيقُ. وعن عطاءِ بنِ السائبِ عن أبي الحسنِ عن ابنِ عباسٍ في قولهِ تعالى: (وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا ربُّكَ) قال: فيتركُهم ألفَ سنةٍ ثم يقولُ: (إِنَّكُم مَّاكثونَ) ، وخرَّجهُ البيهقيُّ وعندَه عن عطاءٍ عن عكرمةَ عن ابنِ عباسٍ.

وقال سُنَيدٌ في "تفسير ": حدثنا حجافي، عن ابنِ جريج قال: نادَى أهلُ النَّارِ خزنةَ جهنمَ أنْ (ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِّنَ الْعَذَابِ) . فلم يجيبُوهم ما شاءَ اللَّهُ، ثُمَّ أجابُوهم بعدَ حينٍ وقالُوا لهُم: (فَادْعُوا وَمَا دُعَاء الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ) . ثمَّ نادَوا: (يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ) فيسكُتُ عنهم مالكٌ خازنُ جهنمَ أربعينَ سنةً ثمَّ أجابَهم: (قَالَ إِنَّكُم مَّاكِثونَ) ثُمَّ نادَى الأشقياء ربَّهم: (رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتنَا) الاَيتين، فسكتَ عنهم مثلَ مقدارِ الدنيا ثمَّ أجابَهم بعدُ (اخْسَئوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمونِ) . ورَوى صفوانُ بنُ عمرٍو قال: سمعتُ أيفعَ بنَ عبدٍ الكُلاعي يقولُ: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا دخلَ أهلُ الجنةِ الجنةَ وأهلُ النَّارِ النارَ، قالَ اللَهُ: يا أهلَ الجنةِ: (قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (112) قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ) . قال: نعم ما اتجرتُم في يوم أو بعضِ يوم رحمتي ورضواني وجنتي امكُثوا فيها خالدين مخلدينَ. ثم يقولُ لأهلِ النَّارِ: (كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (112) قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ) فيقول: بئسَ ما اتَجرتُم به في يوم أو بعضِ يومٍ سخطِي ومعصيتي ونارِي، امكُثُوا فيها خالدين مخلدينَ فيقولون: (رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ) فيقولُ: (اخْسَئوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ) . فيكونُ ذلك آخرُ عهدهِم بكلام ربهم عزَّ وجل". خرَّجَه أبو نُعيمٍ. وقال: كذا رواه أيفعُ مرسلاً. وقال أبو الرعْراءِ عن ابنِ مسعودِ: إذا أرادَ اللَهُ أن لا يُخرِجَ منها أحدًا غيرَ وجوهِهِم وألوانِهم، فيجيءُ الرجلُ من المؤمنين فيشفعُ فيقولُ: يا ربِّ،

فيقالُ: من عرفَ أحدًا فليُخرِجْهُ، قال: فيجيءُ الرجلُ من المؤمنينَ فينظرُ فلا يعرفُ أحدًا فينادَيَهُ الرجلُ فيقولُ: يا فلانُ، أنا فلان، فيقولُ: ما أعرفك قال: فعندَ ذلك يقولون في النَارِ: (رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ) فيقولُ عندَ ذلك: (اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ) فإذا قال ذلك أُطبِقَتْ عليهم فلم يخْرجْ منهم أحدٌ. وفي روايةٍ قال ابنُ مسعودٍ: ليسَ بعدَ هذه الآيةِ خروجٌ: (اخْسئُوا فِيهَا وَلا تكَلِّمُونِ) . وذكَرَ عبدُ الرزاقِ في "تفسيرِهِ " عن عبدِ اللهِ بنِ عيسى عن زيادٍ الخُرسانيِّ أسندَهُ إلى بعضِ أهلِ العلم: قال: إذا قيلَ لهم: (اخْسَئوا فِيهَا وَلا تكَلِّمُونِ) سكتُوا فلا يُسمَعُ لهم فيها حسٌّ إلاكطنينِ الطِّستِ. * * *

سورة الدخان

سُورَةُ الدُّخَانِ قوله تعالى: (فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4) وقد رُوي عن عكرمةَ وغير من المفسِّرين في قوله تعالى: (فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4) . أنَّها ليلةُ النِّصْفِ من شعبانَ. والجمهورُ على أنَّها ليلةُ القدْرِ، وهو الصحيحُ. وقال عطاءُ بنُ يسارٍ: إذا كان ليلةُ النِّصْفِ من شعبانَ دُفعَ إلى ملكِ الموتِ صحيفةٌ، فيُقالُ: اقبض من في هذه الصحيفةِ، فإنَّ العبدَ ليَغْرِسُ الغِرَاسَ. وينكحُ الأزواجَ، ويبني البُنيانَ، وإن اسمَه قد نُسِخَ في الموتى ما ينتظرُ به ملَكُ الموتِ إلا أن يُؤمَرَ به فيقبضَه.. يا مغرورًا بطول الأمل، يا مسرورًا بسوءِ العملِ، كُنْ مِن الموتِ على وَجَلٍ، فما تدري متى يهجُمُ الأجَلُ. كُلُّ امْرئٍ مُصئحٌ في أهْلِهِ. . . والمَوْتُ أدْنَى من شِراكِ نَعْلِهِ قال بعضُ السلفِ: كم من مُستقبل يومًا لا يستكملُهُ، ومن مُؤمِّلٍ غدًا لا يدرِكُه، إنَّكم لو رأيتمُ الأجَلَ ومسيرَهُ لأبغضتُمُ الأمَلَ وغُرورَهُ. أؤمّلُ أنْ أخَلَّدُ والمنايا. . . . تدُورُ عليَّ من كُلّ النَّواحِي وما أدرِي وإنْ أمْسَيْتُ يومًا. . . لَعلِّي لا أعيشُ إلى الصباح كمْ ممن راحَ في طلبِ الدنيا أو غدَا. . . أصبَحَ مِنْ سكانِ القُبورِ غدَا

قوله تعالى: (إن هؤلاء ليقولون (34) إن هي إلا موتتنا الأولى وما نحن بمنشرين (35) فأتوا بآبائنا إن كنتم صادقين (36) أهم خير أم قوم تبع والذين من قبلهم

كأنكَّ بالمضيِّ إلى سبيلِكْ. . . وقدْ جذَ المُجَهِّزُ في رحِيلِكْ وجيءَ بِغاسِل فاسْتَعْجَلُوهُ. . . بقولِهِم لهُ افْرغْ من غَسيلِكْ ولم تحمِلْ سِوَى كفَنٍ وقُطْنٍ. . . إليهم من كثيركَ أو قليلكْ وقد مدَّ الرِّجالُ إليكَ نَعْشًا. . . فأنْتَ عليه مَمْدُودٌ بطولِك وصلَّوا ثمَ إنَّهم تدَاعَوا. . . لحمْلِكَ من بُكورِكَ أو أصيلِكْ فلمَّا أسْلَمُوك نزَلْتَ قبْرًا. . . ومن لكَ بالسَّلامةِ في نُزولِكْ أعانَكَ يومَ تدَخُلُهُ رحيمٌ. . . رءوفٌ بالعبادِ على دُخُولِكْ فسَوفَ تُجاوِر المَوْتَى طويلاً. . . فذَرْني مِن قَصيركَ أو طويلِكْ أُخَيَّ لقد نَصحتُكَ فاسْتَمِعْ لِي. . . وباللَّهِ اسْتَعَنْتُ على قبولِكْ ألسْتَ تَرى المنايا كُل حينٍ. . . تُصيبُكَ في أخِيكَ وفي خَلِيلِكْ * * * قوله تعالى: (إِنَّ هَؤُلَاءِ لَيَقُولُونَ (34) إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ (35) فَأْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (36) أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ (37) قال ابن الجوزي في "المقتبس ": سمعت الوزير يقول في فوله تعالى: (إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ (35) فَأْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (36) أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ) . قال: رُبَّما تَوهَّم جاهلٌ أنهم لم يُجَابُوا عما سألوا، وليسَ كذلك؛ فإن الذين سألوُا لا يصلح أن يكون دليلاً على البعثِ؛ لأنهم لو أُجيبوا إلى ما سألوا لم يكُنْ ذلك حجةً على مَنْ تقدَّم، ولا على

قوله تعالى: (إن شجرت الزقوم (43) طعام الأثيم (44) كالمهل يغلي في البطون (45) كغلي الحميم (46)

من تأخَّر، ولم يَزد على أنْ يكونَ لمن تقدَّم وعدًا، ولمن تأخر خبرًا، اللَّهمَّ إلا أن يجيء لكل واحدٍ أبوه، فتصير هذه الدارُ دارَ البعثِ. ثمَّ لو جازَ وقوع مثل هذه كان إحياءُ ملكٍ يُضْرَب به الأمثالُ أولى. كـ: تُبَّع، لا أنتم يا أهلَ مكَّةَ، فإنكم لا تُعرفون في بقاع الأرض. * * * قوله تعالى: (إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ (43) طَعَامُ الْأَثِيمِ (44) كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ (45) كَغَلْيِ الْحَمِيمِ (46) قال اللَّه تعالى: (إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ (43) طَعَامُ الْأَثِيمِ (44) كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ (45) كَغَلْيِ الْحَمِيمِ (46) . وقال: (أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ (62) إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ (63) إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ (64) طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ (65) فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ (66) ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ (67) ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ (68) . وقال: (ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ (51) لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ (52) فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ (53) فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ (54) فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ (55) هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ (56) نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلَا تُصَدِّقُونَ (57) . وقال: (وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرًا (60) . وخرَّجَ الترمذيُّ وابنُ ماجهَ وابنُ حبانَ في "صحيحِهِ " من حديثِ ابنِ عباسٍ أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -

قرأ هذه الآيةَ: (اتَقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَموتنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ) . فقال رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -: "لو أن قطرةً من الزقومِ قُطِرَتْ في دارِ الدنيا لأفسدتْ على أهلِ الدنيا معايشَهُم، فكيفَ بمن تكونُ طعامَهُ؟! ". وقال الترمذيُّ: صحيح، ورُوي موقوفًا على ابنِ عباس. وقال ابنُ إسحاقَ: حدثني حكيمُ بنُ حكيم، عن عكرمةَ، عن ابنِ عباسٍ. قال: قال أبو جهلٍ لما ذكرَ رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - شجرةَ الزقومِ: يُخوِّفُنا بها محمد، يا معشرَ قريشٍ أتدرُون ما شجرةُ الزقومِ التي يُخوِّفكم بها محمد؟ قالوا: لا، قال: عجوةُ يثربَ بالزبدِ، واللهِ لئنِ اهتمكنا منها لنتزقمنَّها تزقمًا، فأنزل اللَّه فيه: (إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ (43) طَعَامُ الْأَثِيمِ (44) الآية، أي ليس كما تقول، وأنزل الله (وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ طُغْيَانًا كَبِيرًا) . وقال عبدُ الرزاقِ، عن معمر، عن قتادةَ، في قوله: (فِتْنَةً لِّلظَّالِمِينَ) قال: زادتُهم تكذيبًا حينَ أخبرَهم أنَّ في النَّارِ شجرةً. قال: يخبرُهم أنَّ في النَّارِ شجرةً والنَّارُ تحرقُ الشجرَ. فأخبرَهم أنَّ غذاءَها من النارِ. وقد تقدمَ عن ابنِ عباسٍ أنَّ شجرةَ الزقومِ نابتة في أصلِ سقرَ. ورُوي عن الحسنِ أنَّ أصلَها في قعرِ جهنمَ وأغصانَها ترتفعُ إلى دركاتِها. وقال سلامُ بنُ مسكينٍ: سمعتُ الحسنَ تلا هذه الآيةَ: (إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ (43) طَعَامُ الْأَثِيمِ (44) كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ (45) كَغَلْيِ الْحَمِيمِ (46) . قالَ: إنَّها هناك قد حُميت عليها جهنمُ.

وقال مغيرةُ، عن إبراهيمَ وأبي رزينِ: (كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ) : قال: الشجرُ يغلي. قال جعفرُ بنُ سليمانَ: سمعتُ أبا عمرانَ الجوني يقولُ: بلغَنا أنَّه لا ينهشُ منها نهشةً إلا نهشتْ منه مثلَها. وقد دلَّ القرآنُ على أنَّهم يأكلونَ منها حتى تمتلى منها بطونُهم، فتغلي في بطونِهم كما يغلي الحميمُ، وهو الماءُ الذي قدْ انتهى حرُّهُ، ثمَّ بعدَ أكلهم منها يشربُونَ عليه من الحميم شربَ الهيم. قال ابنُ عباسٍ في روايةِ علي بنِ أبي طلحة: الهيمُ: الإبلُ العطاشُ. وقال: السديُّ: هو داء يأخذ الإبلَ فلا تُروى أبدًا حتى تموت، فكذلك أهلُ جهنم لا يُروونَ من الحميم أبدًا، وعن مجاهدٍ نحوُه. وعن الضحاكِ في قولِهِ: (شُرْبَ الْهِيم) ، قال: من العربِ مَن يقولُ: هو الرملُ، ومنهم مَنْ يقولُ: الإبلُ العطاش، وقد رُوي عن ابنِ عباسٍ كلا القولين، ودلَّ قولُهُ سبحانَهُ: (ثُمَّ إِن لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِّن حَمِيم) على أنَّ الحميمَ يشابُ به ما في بطونِهِم من الزَّقوم فيصيرُ شوبًا له، وقال عطاء الخراسانيُّ في هذه الآيةِ: يقالُ: يُخلطُ طعامُهُم ويشابُ بالحميم. وقال قتادةُ: (لَشَوْبًا مِّنْ حَمِيم) : مِزاجًا من حميم. وعن سعيدِ بنِ جبيرِ قال: إذا جاعَ أهلُ النَّارِ استغاثُوا من الجوعُ فأُغيثُوا بشجرةِ الزَّقومِ فأكلوا منها فانسلختْ وجوهُهُم حتى لو أنَّ مارًّا مرَّ عليهم يعرفُهم لِعُرْفِ جلود وجوهِهِم، فإذا أكلُوا منها أُلقي عليهم العطشُ. فاستغاثُوا من العطشِ فأُغيثوا بماءِ كالمهلِ، والمهلُ: الذي قد انتهى حرُّهُ،

فإذا أدنَوه من أفواهِهم أنضجَ حرُّهُ الوجوهَ فيُصهرُ به ما في بطونِهِم، ويُضربُون بمقامعَ من حديدٍ فيسقطُ كلُّ عضو على حيالِهِ يدعُونَ بالثبورِ. وقولُهُ تعالى: (ثمَّ إِد مَرْجِعَهُمْ لإِلَى الْجَحِيمِ) . أي: بعدَ أكل الزقومِ وشربِ الحميم عليه، ويدلُّ هذا على أنَّ الحميمَ خارجٌ من الجحيم فهم يردُونَه كما تَرِدُ الإبلُ الماءَ، ثمَّ يَرِدُون إلى الجحيم، ويدلُّ على هذا أيضًا قولُه تعالى: (هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ (43) يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ (44) . والمعنى أنَّهم يتردَّدُون بينَ جهنمَ والحميم فمرةٌ إلى هذا، ومرةٌ إلى هذا قالَهُ قتادةُ وابنُ جريجٍ، وغيرُهما. وقال القرظيُّ في قولِهِ: (يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ) قالَ: إنَّ الحميمَ دونَ النَّارِ، فيُؤخذُ العبدُ بناصيتِه فيُجرُّ في ذلك الحميم حتى يذوبَ اللحمُ ويبقى العظمُ والعينان في الرأسِ، وهذا الذي يقول اللَّهُ عزَّ وجلَّ: (فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ (72) . * * *

سورة الجاثية

سُورَةُ الجَاثِيَةِ قوله تعالى: (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ) وجاء من مراسيلِ الحسنِ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ قالَ: لا إله إلا اللَّه مخلصًا دخلَ الجنَّة" قيلَ: وما إخلاصُها؟ قال: "أن تحجُزَك عمَّا حرَّم اللَّهُ " ورُوي ذلك مسندًا من وجوهٍ أُخرَ ضعيفة. ولعلَّ الحسنَ أشارَ بكلامِه الذي حكيناه عنه من قبلُ إلى هذا، فإنَّ تحقيقَ القلبِ بمعنى: "لا إله إلا اللًّه " وصدقَه فيها وإخلاصَهُ بها يقتضي أن يرسخَ فيه تألُّه اللَّه وحدَهُ، إجلالاً، وهيبةً، ومخافةً، ومحبَّةً، ورجاءً، وتعظيمًا. وتوكُلاً، ويمتلئَ بذلك، وينتفيَ عنه تألُّه ما سواه من المخلوقينَ، ومتى كانَ كذلك لم يبقى فيه محبَّةٌ ولا إرادةٌ، ولا طلبٌ لغيرِ ما يُريدُهُ اللَّهُ ويحبُّه ويطلبُه، وينتفي بذلك من القلبِ جميعُ أهواءِ النفوسِ وإرادتها ووساوسُ الشيطان، فمَنْ أحبَّ شيئًا وأطاعَهُ، وأحبَّ عليه وأبغضَ عليه، فهو إلهُهُ. فمن كان لا يحبُّ ولا يُبغضُ إلا للَّه، ولا يُوالي ولا يُعادي إلا له، فاللَّه إلهُهُ حقًّا، ومن أحبَّ لهواه، وأبغضَ له ووالَى عليه، وعادَى عليه، فإلهه هواه، كما قال تعالى: (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ) . وقال الحسنُ: هو الذي لا يَهوى شيئًا إلا ركبَهُ. وقال قتادةُ: هو الذي كلما هَوِيَ شيئًا ركبَهُ، وكلَّما اشتهى شيئًا أتاه. لا يَحجزُهُ عن ذلك ورعٌ ولا تقوى. ويُروى من حديث أبي أمامةَ مرفوعًا: "ما تحت ظلّ السماء إلهٌ يُعبد أعظمَ عندَ اللهِ من هوىً متَّبع ".

وكذلك مَنْ أطاعَ الشيطانَ في معصيةِ اللَّه، فقد عبدَهُ كما قال عزَّ وجلَّ: (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (60) . فتبيَّن بهذا أنَّه لا يصحُّ تحقيقُ معنى قولِ: لا إله إلا اللَّه، إلا لمن لم يكنْ في قلبِهِ إصْرار على محبةِ ما يكرهُهُ اللَّهُ، ولا على إرادةِ ما لا يُريدهُ اللَّهُ. ومتى كان في القلبِ شيءٌ منْ ذلك، كانَ ذلك نقصًا في التوحيدِ، وهو مِنْ نوع الشِّركِ الخفيِّ، ولهذا قال مجاهد في قولِهِ تعالى: (لا تشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا) قال: لا تحبُّوا غيرِي. وفي "صحيح الحاكم " عن عائشةَ - رضي الله عنها -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "الشِّركُ أخْفى من دبيبِ الذَّر على الصَّفا في الليلةِ الظَّلماءِ، وأدناهُ أنْ تُحِبَّ على شيء منَ الجوْرِ، وتُبغِضَ على شيءٍ من العدلِ، وهل الدِّينُ إلا الحبُّ والبغضُ؟ قال اللَّهُ عز وجلَّ: (قلْ إِن كنتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعونِي يُحْبِبْكمُ اللَّهُ) ". وهذا نصٌّ في أنَّ محبةَ ما يكرهُه الله، وبغضَ ما يُحبُه متابعة للهوى. والموالاةُ على ذلك والمعاداةُ عليه من الشركِ الخفي ". * * * وقد ورد إطلاقُ الإله على الهوى المتَّبع، قالَ اللَّه تعالى: (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ) . قال الحسنُ رحمه اللَّهُ: هو الذي لا يَهْوى شيئًا إلا ركبه. وقال قتادةُ: هو

الذي كلَّما هَويَ شيئًا ركبه، وكلَّما اشْتهى شيئًا أتاهُ، لا يحجزُهُ عن ذلك ورعٌ ولا تقْوى. ورُوي من حديث أبي أمامة بإسنادٍ ضعيف: "ما تحت ظلِّ سماءٍ إلهٌ يعبدُ أعظمُ عند اللَّهِ من هوى متَّبع ". وفي حديثِ آخرَ: "لا تزالُ لا إله إلا اللَّهُ تدْفَعُ عن أصحابها حتَّى يؤثِرُوا دنياهم على دينهم، فإذا فعلُوا ذلكَ رُدَّتْ عليهم، ويقالُ لهم: كذبْتُم ". ويشهدُ لهذا: الحديث الصحيحُ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: "تَعِسَ عبدُ الدينارِ، تعِسَ عبد الدرهم، تعسَ عبدُ القطيفةِ، تعِسَ عبدُ الخميصةِ، تعِسَ وانتكسَ، وإذا شِيكَ فلا انتقشَ ". فدلَّ هذا على أنَّ كلَّ من أحبَّ شيئًا وأطاعه وكانَ غايةَ قصدِهِ ومطلوبِهِ، ووالى لأجله، وعادى لأجلهِ، فهو عبدُهُ، وكان ذلك الشيءُ معبودَهُ وإلهَهُ. ويدلُّ عليه أيضًا أنَّ اللَّه تعالى سمَّى طاعةَ الشيطانِ في معصيتِهِ عبادةً للشيطانِ، كما قال اللَّهُ تعالى: (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ) ، وقال تعالى حاكِيًا عن خليلِهِ إبراهيمَ عليه السلامُ لأبيه: (يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا (44) . فمنْ لم يتحققْ بعبوديةِ الرحمنِ وطاعتِهِ فإنَّه يعبدُ الشيطانَ بطاعتِهِ له، ولم يخلُصْ من عبادةِ الشيطانِ إلا من أخلصَ عبوديةَ الرحمنِ، وهم الذين قال فيهم: (إِن عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ) . فهم الذين حقَّقُوا قول: " لا إله إلا اللَّه ".

وأخلصُوا في قولِها، وصدَّقُوا قولَهم بفعلِهِم، فلم يلتفتوا إلى غيرِ اللَّهِ محبةً ورجاءً وخشيةً وطاعةً وتوكُلاً، وهم الذين صدَقُوا في قولِ: "لا إله إلا اللَّه " وهم عبادُ اللَّه حقًا، فأمَّا من قالَ: "لا إله إلا اللَّه " بلسانِهِ، ثم أطاعَ الشيطانَ وهواه في معصيةِ اللَّهِ ومخالفتِهِ فقدْ كذَّبَ فعلُه قولَهُ، ونقصَ من كمالِ توحيدِهِ بقدرِ معصيةِ اللهِ في طاعةِ الشيطانِ والهوى (وَمَنْ أَضَلّ مِمنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ) . (وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ) . فيا هذا كنْ عبدًا للَّه لا عبدًا للهوى، فإنَّ الهوى يهوِي بصاحبِهِ في النارِ: (أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ) . تعسَ عبدُ الدرهم! تعسَ عبدُ الدينارِ! واللهِ لا ينجُو غدًا من عذابِ اللَّه إلا من حقَّقَ عبوديةَ اللَّه وحدَهُ، ولم يلتفتْ إلى شيءٍ من الأغيار، من عَلِمَ أنَّ إلهه فردٌ، فليُفْردْهُ بالعبوديةِ (وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا) ". كان بعضُ العارفينَ يتكلَّم على أصحابِهِ على رأسِ جبلٍ، فقالَ في كلامِهِ: لا ينالُ أحدٌ مرادَه حتى ينفردَ فردًا بفردٍ، فانزعجَ واضطربَ، حتى رأى أصحابُهُ أنَّ الصخورَ قد تدكْدكتْ، وبقي على ذلك ساعةً، فلمَّا أفاق فكأنَّه نُشِرَ من قبرِهِ. قولُ: "لا إله إلا اللَّهُ " تقتَضِي أنْ لا يُحبَّ سواهُ، فإنَّ الإلهَ هو الذي يُطاعُ، فلا يعصى محبةً وخوفًا ورجاءً، ومن تمام محبته محبَّةُ ما يحبُّه. وكراهةِ ما يكرَهُهُ، فمنْ أحبَّ شيئًا مما يكرهُهُ اللَّهُ، أو كرِهَ شيئًا مما يحبُّه اللَّهُ لم يكملْ توحيدُه وصدقه في قولِ: "لا إله إلا اللَّهُ "، كان فيه من الشركِ الخفيِّ بحسبِ ما كرههُ مما يحبُّه الله، وما أحبَّه مما يكرهُهُ اللَّهُ،

قال اللَّهُ تعالى: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ (28) . قال الليث عن مجاهدٍ في قوله: (لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا) . قال: لا يحبون غيري. وفي "صحيح الحاكم " عن عائشة - رضي الله عنها - عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "الشركُ في هذه الأمَّةِ أخْفَى من دبيبِ النملِ على الصَّفا في الليلةِ الظلماِء، وأدناهُ أن تحبَّ على شيءٍ من الجورِ، أو تُبغضَ على شيءٍ من العدلِ، وهل الدِّينُ إلا الحبُّ والبغضُ؟ قال اللَّه عزَّ وجلَّ: (قُلْ إِن كنتُمْ تُحِبونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ) ". وهذا نصّ في أنَّ محبةَ ما يكرهُه اللَّه، وبغضَ ما يحبُّه متابعةٌ للهَوى. والموالاةُ على ذلك والمعاداةُ فيه من الشِّركِ الخفِيِّ. وقال الحسنُ: اعلمْ اْنَّكَ لن تحبَّ اللَّهَ حتَّى تحبَّ طاعتَهُ. وسُئل ذو النونِ: متى أُحبُّ ربِّي؟ قال: إذا كان ما يبغضه عندَكَ أمرَّ من الصبر. وقال بشرُ بنُ السريِّ: ليس من أعلامِ الحب أن تحبَّ ما يبغضُ حبيبُك. وقال أبو يعقوب النَّهْرجوْرِي: كلُّ من ادَّعى محبةَ اللَّهِ ولم يوافقِ اللَّهَ في أمرِه فدعواه باطلةٌ. وقِال يحيى بن معاذٍ: ليس بصادقٍ من ادَّعى محبةَ اللَّهِ ولم يحفظْ حدوده. وقال رويمٌ: المحبةُ: المُوافقةُ في جميع الأحوال، وأنشد:

ولو قلتَ لي مُتْ قلتُ سمعًا وطاعةً. . . وقلتُ لداعِي الموتِ أهلاً ومرحبًا ويشهدُ لهذا المعنى أيضًا قولُهُ تعالى: (قُلْ إِن كنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ) . قال الحسنُ: قالَ أصحابُ رسولِ اللَّه - صلى الله عليه وسلم -: إنَّا نحبُّ ربَّنا حبًّا شديدًا، فأحبَّ اللَّهُ أن يجعلَ لحبِّه عَلَمًا، فأنزلَ اللَّهُ تعالى هذه الآيةَ. ومن هاهُنا يُعلم أنه لا تتمُّ شهادةُ أن لا إله إلا اللَّهُ إلا بشهادة أن محمدًا رسولُ اللَّه، فإنَّه إذا علمَ أنه لا تتمُّ محبةُ اللَّهِ إلا بمحبَّةِ ما يحبُّه، وكراهةِ ما يكرهُه، فلا طريقَ إلى معرفة ما يحبُّه وما يكرَهُهُ إلا من جهةِ محمدٍ المبلِّغ عن اللَّهِ ما يحبُّه وما يكرهُهُ باتًّباع ما أمرَ به، واجتنابِ ما نَهى عنه، فصارت محبةُ اللَّه مستلزمة لمحبةِ رسولِهِ - صلى الله عليه وسلم - وتصديقِهِ ومتابعته، ولهذا قرنَ اللَّهُ بين محبتِهِ ومحبةِ رسولِهِ في قولِهِ تعالى: (قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ) إلى قوله: (أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ) . كما قرنَ طاعتَهُ وطاعةَ رسوله - صلى الله عليه وسلم - في مواضع كثيرة. وقال - صلى الله عليه وسلم -: "ثلاث من كنَّ فيهِ وجد بهنَّ حلاوةَ الإيمانِ: أن يكونَ اللَهُ ورسولُهُ أحبَّ إليه مما سوَاهُمَا، وأنْ يحبَّ الرجلَ لا يحبُّه إلا للهِ، وأنْ يكرهَ أن يرجعَ إلى الكفر بعد أن أنقذه اللَّهُ منه كما يكرهُ أن يُلقَى في النارِ". هذه حالُ السحرةِ لمَّا سكنتِ المحبةُ قلوبَهُم سمحُوا ببذلِ النفوسِ وقالُوا لفرعون: (فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ) ، ومتى تمكنتِ المحبةُ في القلبِ

لم تنبعثِ الجوارحُ إلا إلى طاعةِ الربِّ، وهذا هو معنى الحديثِ الإلهيِّ الذي خرَّجه البخاريُّ في "صحيحه " وفيه: "ولا يزالُ عبدِي يتقرَّبُ إليَّ بالنوافلِ حتَّى أحبَّه، فإذا أحببتُهُ كنتُ سمعَهُ الذي يسمعُ به وبصرَهُ الذي يبصرُ به، ويدَهُ التي يبطشُ بها، ورِجْلَهُ التي يمشِي بها" وقد قيل: إن في بعض الروايات: "فبي يسمعُ وبي يبصرُ وبي يبطشُ وبي يمشي ". والمعنى: أن محبةَ اللَّه إذا استغرقَ بها القلبُ واستولتْ عليه لم تنبعثِ الجوارحُ إلا إلى مراضِي الربِّ، وصارتِ النفسُ حينئذ مطمئنةً بإرادةِ مولاها عن مرادِها وهواها. يا هذا، اعبدِ اللَّهَ لمرادِهِ منكَ لا لمرادِكَ منه، فمنْ عبدَهُ لمرادِهِ منه فهوَ ممن يعبدُ اللَّهَ على حرْفٍ، إن أصابَهُ خيرْ اطمأنَّ به، وإن أصابتْهُ فتنة انقلبَ على وجهه خسرَ الدنيا والآخرةَ، ومتى قويتِ المعرفةُ والمحبةُ لم يُرِدْ صاحبها إلا ما يريدُ مولاهُ. وفي بعضِ الكتب السالفةِ: من أحبَّ اللَهَ لم يكنْ شيء عندَهُ آثرُ من رضاهُ، ومن أحب الدنيا لم يكنْ شيءٌ عندَه آثرُ من هوى نفسِهِ. وروى ابنُ أبي الدنيا بإسنادِهِ عن الحسنِ قال: ما نظرتُ ببصرِي ولا نطقتُ بلساني، ولا بطشتُ بيدي، ولا نهضتُ على قدمِي، حتى أنظر على طاعةِ اللهِ أو على معصيتِهِ، فإنْ كانتْ طاعةً تقدمتُ، وإن كانتْ معصيةً تأخَّرْتُ. هذا حالُ خَواصِّ المحبينَ الصادقينَ، فافهمُوا رحمكُمُ اللَّهُ هذا، فإنَّه من دقائق أسرارِ التوحيدِ الغامضةِ.

وإلى هذا المقامِ أشارَ النبي - صلى الله عليه وسلم - في خطبتِهِ لما قدِمَ المدينةَ حيثُ قال: "أحبُّوا اللَّهَ من كلِّ قلوبِكُم ". وقد ذكرها ابنُ إسحاقَ وغيرُه، فإنَّ من امتلأ قلبُه من محبةِ اللَّه، لم يكنْ فيه فراغٌ لشيءٍ من إراداتِ النفسِ والهوى، وإلى ذلكَ أشارَ القائلُ، بقولِهِ: أروحُ وقدْ ختصتَ على فؤادِي. . . بحبِّك أن يحلَّ بهِ سواكَا فلو أنَي استطعتُ غضضْتُ طرْفِي. . . فلم أنظرْ به حتَى أراكَا أحبُّك لا ببعضِي بلْ بكلِّي. . . وإنْ لم يُبقِ حُبُّك لي حِرَاكَا وفي الأحبابِ مخصوصٌ بوجدِ. . . وآخر يدَّعي معه اشْتِرَاكَا إذا اشتبكتْ دموع في خدودِ. . . تبيَن من بكى ممن تباكى فأمَّا منْ بكَى فيذوبُ وجْدًا. . . وينطقُ بالهوى من قدْ تشَاكَا متى بقي للمحبِّ حظٌّ من نفسِهِ فما بيدِهِ من المحبةِ إلا الدَّعْوى، إنما المحبُّ من يفْنى عن هوى نفسِهِ كلِّه، ويبْقى بحبيبِهِ، فبي يسمعُ وبي يبصرُ. وفي الإسرائيلياتِ يقولُ اللَّهُ: "ما وسِعَنِي سمائي ولا أرضِي، ووسعنِي قلبُ عبدِي المؤمنِ " فمتى كان القلبُ فيه غيرُ اللَّهِ فاللَّهُ أغنى الأغنياءِ عن الشِّركِ، وهو لا يَرضى بمزاحمة أصنامِ الهوى.. الحقُّ غيورٌ يغار على عبدِهِ المؤمنِ أن يسكنَ في قلبِهِ سواهُ، أو يكنَّ فيه شيئًا ما يرضاه. أردناكُمُ صِرْفًا فلمَّا مزجتُمُ. . . بَعِدتُم بمقدارِ التفاتِكُم عنَّا وقلنا لكُم لا تُسْكِنُوا القلبَ غيرَنا. . . فأسكنْتُم الأغيارَ ما أنتُمُ مِنَّا لا ينجو غدًا إلا من لقي اللَّهَ بقلبٍ سليم ليسَ فيه سواه، قال اللَّه تعالى: (يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89)

القلبُ السليمُ: هو الطاهرُ من أدناسِ المخالفاتِ، فأمَّا المتلطخُ بشيءٍ من المكروهاتِ فلا يصلُحُ لمجاورةِ حضرةِ القدوسِ إلا بعدَ أن يطهرَ في كيرِ العذابِ، فإذا زالَ عنه الخبثُ صلَحَ حينئذ للمجاورةِ. "إن اللَّه طيِّب لا يقبلُ إلاطيبًا". فأما القلوبُ الطيبةُ فتصلحُ للمجاورةِ من أولِ الأمرِ: (سَلامٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ) . (سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ) . (الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ) . من لم يُحرِق اليومَ قلبَهُ بنارِ الأسف على ما سلفَ أو بنار الشوقِ إلى لقاء الحبيبِ فنار جهنَّمَ له أشدُّ حَرًّا. َ * * *

سورة الأحقاف

سُورَةُ الأَحْقَافِ قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (13) أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (14) قولُ سفيانَ بنِ عبدِ اللَّهِ للنبي - صلى الله عليه وسلم -: "قُلْ لي في الإسلام قولاً لا أسألُ عنه أحدًا بعدَك " طلبَ منه أن يُعلِّمَه كلامًا جامعًا لأمرِ الإسلامِ كافيًا حتَّى لا يحتاجَ بعدَه إلى غيرهِ، فقالَ له النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: " قلْ: آمنتُ باللهِ، ثمَّ استقمْ " وفي الروايةِ الأخرى: " قلْ: ربِّيَ اللَهُ، ثمَّ استقمْ ". هذا منتزعٌ من قولهِ عزَّ وجلَّ: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30) . وقولهِ عزَّ وجلَّ: ((إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (13) أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (14) . وخرج النسائي في "تفسيرهِ " من روايةِ سهيلِ بنِ أبي حزمٍ: حدثنا ثابتٌ. عن أنسٍ أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قرأ: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّه ثُمَّ استَقَامُوا) فقالَ: "قدْ قالَها الناسُ، ثمَّ كفرُوا، فمن ماتَ عليها فهو من أهلِ الاستقامةِ".

وخرَّجه الترمذيُّ، ولفظهُ: فقال: "قد قالَها الناسُ، ثُمَّ كفرَ أكثرُهم، فمن ماتَ عليها، فهو مِمنِ استقامَ "، وقال: حسنٌ غريبٌ، و"سهيل " تُكُلِّمَ فيه من قِبَلِ حفظه. وقاَل أبو بكرٍ الصديقُ في تفسيرِ (ثُمَّ اسْتَقَامُوا) قال: لم يشركُوا باللَّه شيئًا. وعنه قال: لم يلتفتوا إلى إله غيرِه. وعنه قال: ثم استقامُوا على أنَّ اللَّهَ رَبُّهم. وعن ابنِ عباسٍ بإسنادٍ ضعيفٍ قال: هذه أرخصُ آيةٍ في كتابِ اللَّهِ: (قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا) على شهادةِ أنْ لا إلهَ إلا اللهَ. ورُويَ نحوهُ عن أنسٍ ومجاهدٍ والأسودِ بنِ هلال، وزيدِ بنِ أسلمَ. والسُّدِّيِّ وعكرمةَ وغيرِهم. ورُويَ عن عمرَ بن الخطابِ أنَّه قرأَ هذه الآيةَ على المنبرِ (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا) . فقالَ: لم يَروغوا رَوَغَانَ الثعالبِ. وروى عليٌّ بنُ أبي طلحةَ عنِ ابنِ عباس في قولهِ تعالى: (ثُمَّ اسْتَقَامُوا) قال: استقامُوا على أداءِ فرائضهِ. وعن أبي العاليةَ، قال: ثمَّ أخلَصُوا له الدين والعملَ. وعن قتادةَ قال: استقامُوا على طاعةِ اللَّهِ، وكانَ الحسنُ إذا قرأَ هذه الآيةَ قال: اللهمَّ أنت ربُّنا فارزقنا الاستقامةَ. ولعلَّ من قال: "إنَّ المرادَ الاستقامةُ على التوحيدِ" إنَّما أرادَ التوحيدَ الكاملَ الذي يُحرِّمُ صاحبَه على النارِ، وهو تحقيقُ معنى لا إلهَ إلا اللَّهَ، فإنَّ الإلهَ هو الذي يُطاعُ، فلا يُعصى خشيةً وإجلالاً ومهابةً ومحبةً ورجاءً وتوكُّلاً ودعاءً، والمعاصِي كلُّها قادحةٌ في هذا التوحيدِ، لأنَّها إجابةٌ لداعي الهوى

وهو الشيطان، قالَ اللَّهُ عزَّ وجل: (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ) قال الحسنُ وغيرُه: هو الذي لا يهوى شيئًا إلا ركبَه. فهذا يُنافي الاستقامةَ على التوحيدِ. وأما على روايةِ من روى: "قُلْ آمنْتُ باللَّه ". فالمعنى أظهرُ، لأنَّ الإيمانَ يدخلُ فيه الأعمالُ عندَ السلفِ وَمن تابعَهم من أهلِ الحديثِ. وقالَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ: (فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (112) . فأمرَه أن يستقيمَ هو ومن تابعَه، وأن لا يُجاوزُوا ما أُمِروا به. وهو الطغيانُ، وأخبرَ أنَّه بصيرٌ بأعمالِهم، مطَّلعٌ عليها، قال تعالى: (فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كمَا أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ) . وقالَ قتادةُ: أُمِرَ محمدٌ - صلى الله عليه وسلم - أن يستقيمَ على أمرِ اللهُ. وقالَ الثوريُّ: على القرآنِ. وعن الحسنِ قال: لمَّا نزلتْ هذه الآية ُ شَمَّرَ رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، فما رؤي ضاحكًا. خرَّجه ابنُ أبي حاتمٍ. وذكر القُشَيريُّ وغيرُه عن بعضِهم: أنَه رأى النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - في المنامِ، فقالَ له: يا رسولَ اللَّه قلتَ: "شَيبتني هُودٌ وأخواتُها"، فما شيَّبك منها؟ قال: " قوله: (فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ) ". وقالَ عزَّ وجل: (قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ) . وقد أمرَ اللَّهُ تعالى بإقامةِ الدِّين عمومًا كمَا قالَ: (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ) .

وأمرَ بإقامِ الصلاةِ في غيرِ موضع من كتابهِ، كما أمرَ بالاستقامةِ على التوحيدِ في تلك الآيتينِ. والاستقامةُ: هي سلوكُ الصِّراطِ المستقيم، وهو الدِّينُ القيّمُ من غيرِ تعريج عنه يمنةً ولا يَسرةً، ويشملُ ذلك فعلَ الطَّاعاتِ كلِّها، الظاهرةِ والباطنةِ. وتركَ المنهيات كلِّها كذلك، فصارت هذه الوصيةُ جامعةً لخصالِ الدِّينِ كُلِّها. وفي قولهِ عزَّ وجلَّ: (فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِروهُ) ، إشارةٌ إلى أنَّه لا بُدَّ من تقصيرٍ في الاستقامةِ المأمورِ بها، فيجْبُرُ ذلك الاستغفارُ المقتضي للتَّوبةِ والرُّجوع إلى الاستقامة، فهو كقولِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -لمعاذ: "اتَّقِ اللَّهَ حيثُما كنتَ، وأتبع السيئةَ الحسنةَ تَمْحُها". وقد أخبرَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أنًّ الناسَ لن يُطيقُوا الاستقامةَ حقَّ الاستقامةِ، كما خرَّجه الإمامُ أحمدُ وابنُ ماجةَ من حديثِ ثوبانَ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "استقيموا ولن تُحْصوا، واعلمُوا أنَّ خيرَ أعمالكُم الصَّلاةُ، ولا يُحافِظُ على الوضوءِ إلا مؤمنٌ ". وفي روايةٍ للإمامِ أحمدَ: "سَدِّدُوا وقاربُوا، ولا يحافِظُ على الوضوءِ إلا مؤمنٌ ". وفي "الصحيحينِ " عن أبي هريرةَ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "سدِّدُوا وقاربُوا". فالسَّدادُ: هو حقيقةُ الاستقامةِ، وهو الإصابةُ في جميع الأقوالِ والأعمالِ والمقاصدِ كالذي يرمي إلى غرضٍ فيُصيبُه. وقد أمرَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - عليًّا أن يسألَ اللَّهَ عزَّ وجلَّ السَّدادَ والهُدى، وقالَ له: "اذكرْ بالسَدادِ تسديدَكَ السَّهمَ، وبالهدى هدايتك الطَّريق ".

والمقاربةُ: أن يُصيبَ ما قَرُبَ مِنَ الغرضِ إذا لم يُصِبِ الغرضَ نفسه. ولكنْ بشرطِ أن يكونَ مصمِّمًا على قصدِ السَّدادِ وإصابةِ الغرضِ، فتكونُ مقاربتُه عن غيرِ عمد. ويدلُّ عليه قولُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في حديثِ الحكم بنِ حزنٍ الكُلَفي: "أيُّها النَّاس إنَّكم لنْ تعملُوا - أو لن تُطيقوا - كلَّ ما أمرتُكم، ولكنْ سدِّدُوا وأبشرُوا". والمعنى: اقصِدُوا التَّسديدَ والإصابةَ والاستقامةَ، فإنَّهم لو سدَّدُوا في العمل كله، لكانوا قد فعلُوا ما أُمِرُوا به كُلّه. فأصلُ الاستقامةِ استقامةُ القلب على التوحيدِ، كما فسر أبو بكر الصدِّيق وغيرُه قولَه: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَ اسْتَقَاموا) ، بأنَّهم لم يلتفتُوا إلى غيرِه، فمتى استقامَ القلب على معرفةِ اللهِ، وعلى خشيتهِ، وإجلالهِ. ومهابتهِ، ومحبتهِ، وإرادتهِ، ورجائهِ، ودعائهِ، والتوكُّلِ عليه، والإعراضِ عما سِواه، استقامت الجوارحُ كلُّها على طاعتهِ، فإن القلبَ هو ملك الأعضاءِ، وهي جنودُه، فإذا استقامَ الملكُ، استقامت جنودُه ورعاياه، وكذلك فسِّر قولُه عزَّ وجلَّ: (فَاَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا) ، بإخلاصِ القصدِ للَّهِ وإرادتهِ وحدَه لا شريكَ له. وأعظمُ ما يُراعى استقامتُه بعدَ القلبِ مِنَ الجوارح: اللسانُ، فإنَّه ترجمانُ القلب والمعبِّرُ عنه، ولهذا لما أمرَ النبي - صلى الله عليه وسلم - بالاستقامةِ، وصَّاه بعدَ ذلك بحفظِ لسانهِ، وفي " مسندِ الإمامِ أحمدَ " عن أنس، عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يستقيمُ إيمانُ عبدٍ حتَّى يستقيمَ قلبُه. ولا يستقيمَ قلبُه حتَّى يَّسَتقيمَ لسانُه ".

قوله تعالى: (فلما رأوه عارضا مستقبل أوديتهم)

وفي "الترمذيِّ " عن أبي سعيدٍ الخدري مرفوعًا وموقوفًا: "إذا أصبحَ ابنُ آدمَ، فإن الأعضاءَ كلَّها تكفرُ اللسانَ، فتقولُ: اتق اللهَ فينا، فإنما نحنُ بك، فإن استقمتَ استقمنا، وإن اعوجَجْتَ اعوججنا". * * * قوله تعالى: (فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُّسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ) [قال البخاري] بَابٌ إذَا هَبَّتِ الرِّيحُ: حدثنا سعيدُ بنُ أبي مريم: أنا محمدُ بنُ جعفرٍ: أخبرنِي حُميدٌ، أنَّهُ سمعَ أنس بن مالكٍ يقولُ: كانتِ الرِّيحُ الشديدَةُ إذا هَبَّتْ عُرفَ ذلكَ في وَجهِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -. إنما كان يظهرُ في وجهِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - الخوفُ من اشتدادِ الريح؛ لأنه كان يخشَى أن تكونُ عذابًا أُرسلَ إلى أمَّتِهِ. وكان شدةُ خوفِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - على أُمته شفقةً علَيهم، كما وصفَهُ اللَّهُ سبحانه وتعالى بذلكَ في قولهِ: (عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128) . ولما تلاً عليه ابنُ مسعودٍ: (فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا) بكَى. ولما تلاً قولَه: (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ) الآية، بكى، وقالَ: " اللهمَّ، أُمَّتي، أُمَّتي "، فأرسلَ اللَّهُ جبريلَ يقولُ له: "إن اللَّهَ يقولُ: إنَا سنُرضيكَ في أمتِك ولا نَسُوءُكَ ".

وكان يقولُ: "شيَّبتني هودٌ وأخواتُها". وجاءَ في روايةٍ مرسلةٍ: "قَصَّفْنَ عليَّ الأمَم ". يشيرُ إلى أنَّ شيبهُ منها ما ذُكر مِن هلاكِ الأممِ قبلَ أمَّته وعذابهم. وكانَ عندَ لقاءِ العدوِّ يخافُ على مَن معه من المؤمنينَ، ويستغفرُ لهم، كما فعلَ يومَ بدرٍ، وباتَ تلكَ الليلةَ يصلِّي ويبكي ويستغفرُ لهُم، ويقولُ: "اللهمَّ، إن تُهلكْ هذه العِصَابةَ لا تُعبدُ في الأرض ". وكلُّ هذا مِن خوفِه وشفقتهِ عليْهم. وقد جاءَ في رواياتٍ متعددةٍ: التصريحُ بسببِ خوفهِ من اشتدادِ الريح: ففي "الصحيحينِ " من حديثِ سليمانَ بنِ يسارٍ، عن عائشةَ: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كانَ إذا رأى غيمًا أو ريحًا عُرِفَ ذلكَ في وجهِهِ، فقلتُ: يا رسولَ اللَّهِ: أرى الناسَ إذا رأوُا الغيمَ فرِحوا؛ رجاءَ أن يكونَ فيه المطرُ، وأراكَ إذا رأيتَه عَرفتُ في وجهِك الكراهيةَ؟ فقالَ: "يا عائشة، ما يُؤمِّني أن يكونَ فيه عذابٌ قد عُذبَ قومٌ بالريح، وقدْ رأى قومٌ العذابَ، فقالُوا: (هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا) ". وخرَّجَا - أيضًا - من روايةِ ابنِ جريج، عن عطاءٍ، عن عائشةَ، قالتْ كانَ رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إذا رأَى مخيلةً في السماءِ أقبلَ وأدبرَ، ودخلَ وخرجَ، وتغيَّر

وجهُه، فإذا أمطرتِ السماءُ سُرِّي عنه، فعرَّفتْه عائشةُ ذلكَ، فقالَ النبي - صلى الله عليه وسلم -: "وما أدْرِي لعلَّه كلما قالَ قومٌ: (فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُّسْتَقْبِلَ أوْدِيَتِهِمْ) " الآية. وزاد مسلمٌ - في أولِهِ -: كانَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - إذا عصفتِ الريحُ قال: "اللهمَّ، إنِّي أسألُكَ خيرَها وخيرَ ما فيها وخيرَ ما أُرسِلَت به، وأعوذُ بكَ مِن شرها وشرِّ ما فيها وشرِّ ما أُرسلتُ به ". وخرَّجَهُ النسائي، ولفظُه: "كانَ إذا رأَى ريحًا"، بدل: "مخيلة". وخرجَ مسلمٌ - أيضًا - من حديثِ جعفرِ بنِ محمدٍ، عن عطاء، عن عائشةَ، قالتْ: كانَ رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إذَا كانَ يومُ الريح والغيمِ عُرفَ ذلكَ في وجههِ، فأقبلَ وأدبرَ، فإذَا مطرَ سُرَّ بهِ، وذهبَ عنه ذلكَ. قالتْ عائشةُ: فسألته، فقالَ: "إنِّي خشيتُ أن يكونَ عذابًا سُلِّطَ على أمتي ". وخرجَ الإمامُ أحمدُ وابنُ ماجةَ من حديثِ المقدامِ بنِ شريع، عن أبيهِ. عنْ عائشةَ، أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كانَ إذَا رأى سحابًا مقبلاً منْ أفقٍ من الآفاقِ تركَ ما هُوَ فيه وإن كانَ في صلاتِهِ، حتى يستقبلَه، فيقولُ: "اللهمَّ، إنا نعوذُ بكَ من شرِّ ما أُرْسلَ "، فإنْ أمطرَ قالَ: "اللهمَّ سقيًا نافعًا" - مرتينِ أو ثلاثا -، فإنْ كشفَه اللَّهُ ولم يُمطِرْ حمِدَ اللهَ على ذلكَ. ولفظهُ لابنِ ماجَةَ.

وخرَّجَهُ أبو داود، ولفظُه: كانَ إذا رأى ناشئًا في أفقِ السماءِ تركَ العملَ، وإن كانَ في صلاه، ثم يقولُ: "اللهمَّ، إني أعوذُ بكَ من شرِّها". وخرَّجه ابنُ السني، ولفظُه: كان إذا رأَى في السماء ناشئًا، غبارًا أو ريحًا، استقبلَهُ مِن حيثُ كانَ، وإن كانَ في الصلاةِ تعوذَ باللًّهِ من شرِّه. وكذا خرَّجه ابنُ أبي الدنيا. وخرجَ الإمامُ أحمدُ وأبو داودَ والنسائي في "اليومِ والليلةِ" وابنُ ماجةَ وابنُ حبانَ في "صحيحه " من حديثِ أبي هريرةَ، عنِ النبي - صلى الله عليه وسلم -، قالَ: "الريحُ من روح اللَّهِ، تأتي بالرحمةِ، وتأتي بالعذابِ، فإذا رأيتمُوها فلا تسبُّوها، واسألُوا اللَّهَ خيرَها، واستعيذُوا باللَّهِ من شرِّها". وخرجَ الترمذيُّ من حديثِ أبى بنِ كعبٍ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قالَ: "لا تسبُّوا الريحَ، فإذا رأيتُمْ ما تكرهونَ فقولُوا: اللَّهُمَّ، إنَّا نسألُكَ من خيرِ هذهِ الريح وخيرِ ما فيها، وخيرِ ما أُمرتْ به، ونعوذُ بكَ من شرِّ هذه الريح، وشر ما فيها، وشر ما أُمرتْ وقال: حسن صحيح. وخرَّجَه النسائيُّ في " اليومِ والليلةِ " مرفوعًا وموقوفًا على أبيِّ بنِ كعبٍ - رضي الله عنه -.

وفي البابِ: أحاديثُ أخرُ متعددةٌ. ورُويَ عن ابنِ مسعود، قال: لا تسبُّوا الريحَ؛ فإنها بشرٌ ونَذر ولواقحُ. ولكنِ استعيذُوا باللَّهِ من شرِّ ما أُرسلَتْ به. وعن ابنِ عباسٍ، قال: لا تسبُّوا الريحَ؛ فإنها تجيءُ بالرحمةِ، وتجيء بالعذاب، وقولوا: اللهمَّ، اجعلْهَا رحمةً، ولا تجعلْها عذابًا. خرَّجهما ابنُ أبي الدنيا. وخرَّج - أيضًا - بإسنادهِ، عن علي، أنه كانَ إذَا هبَّتِ الريحُ قالَ: اللهمَّ. إن كنتَ أرسَلْتَها رحمةً فارحمْنِي فيمنْ ترحَمُ، وإن كنتَ أرسلْتَها عذابًا فعافِني فيمنْ تعافي. وبإسنادِهِ، عنِ ابنِ عمرَ، أنه كان يقولُ إذَا عصفتِ الريحُ: شدُّوا التكبيرَ. فإنها تذهبُ. وعن عمرَ بنِ عبدِ العزيزِ، أنه لما وُلِيَ هبتْ ريحٌ، فدخلَ عليه رجلٌ وهو مُنْتقعُ اللونِ، فقال: ما لكَ يا أميرَ المؤمنينِ؟ قال: ويحَك، وهل هلكتْ أمةٌ إلا بالرِّيح؟ * * *

سورة محمد

سُورَةُ مُحَمَّدٍ قوله تعالى: (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ (11) منْ حفظَ حدودَ اللَّهِ وراعَى حقوقَهُ، تولَّى اللَّهُ حفظَهُ في أمورِ دينهِ ودنيا، وفي دنيا وآخرتِهِ. وقد أخبرَ اللَّهُ تعالَى في كتابِهِ أنه وليُّ المؤمنينَ وأنه يتولَّى الصالحينَ. وذلكَ يتضمنُ أنه يتولَّى مصالحَهُم في الدنيا والآخرةِ، ولا يكلُهُم إلى غيرِهِ قالَ تعالَى: (اللَّهُ وَلِى الَّذِينَ آمَنوا يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ) . وقالَ تعالَى: (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ (11) . وقالَ تعالَى: (وَمَن يَتَوَكلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ) . وقالَ تعالَى: (أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ) . فمن قامَ بحقوقِ اللَّهِ عليهِ فإنَّ اللَّهَ يتكفلُ له بالقيامِ بجميع مصالحِهِ في الدنيا والآخرةِ، ومن أرادَ أن يتولَّى اللَّهُ حفظَهُ ورعايتَهُ في أموره كلِّها فليراع حقوقَ اللَّهِ عليهِ، ومن أرادَ ألا يصيبَهُ مما يكرهُ فلا يأتِ شيئًا مما يكرهُهُ اللَّهُ. كان بعضُ السلفِ يدورُ على المجالسِ ويقولُ: من أحبَ أن تدومَ له العافيةُ فليتقِ اللَّهَ.

وقالَ العمريُّ الزاهدُ لمن طلبَ منه الوصيةَ: كما تحبُّ أن يكونَ اللَّهُ لكَ. فهكذَا كنْ للَّهِ عز وجل. وفي بعضِ الآثار: يقولُ اللَهُ: "وعِزتي وجَلالي لا أطلعُ على قلبِ عبدٍ فأعلمُ أن الغالبَ عليه حبُّ التمسكِ بطاعتي، إلا توليتُ سياسَتَهُ وتقويمهُ ". وفي بعضِ الكتبِ المتقدمةِ: يقولُ اللَّهُ عز وجل "يا ابنَ آدمَ، ألا تعلمُنِي ما يضحككَ، يا ابنَ آدمَ، اتقني. . . (1) ونَمْ حيثُ شئتَ ". والمعنى: أنكَ إذا قمتَ بما عليكَ للَّهِ من حقوقِ التقوى فلا تهتمَّ بعدَ ذلكَ بمصالحكَ، فإن اللَّهَ هو أعلمُ بها منكَ، وهو يوصلُّهَا إليكَ على أتمِّ الوجوهِ من غيرِ اهتمامٍ منكَ بِهَا. وفي حديث جابرٍ - رضي الله عنه -، أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "من كانَ يحبُّ أن يعلمَ منزلتَهُ عندَ اللهِ، فلينظرْ كيفَ منزلةُ اللِّهِ عندَهُ، فإنَّ اللهَ ينزلُ العبدَ منه حيث أنزلَهُ من نفسِهِ ". فهذا يدل على أنَّه على قدرِ اهتمامِ العبدِ بحقوقِ اللَّهِ ومراعاةِ حدودِهِ. واعتنائه بذلكَ وحفظهِ لهُ يكونُ اعتناؤُه به وحفظُهُ لهُ، فمن كانَ غايةُ همَه رِضَا اللًّهِ عنهُ وطلبَ قربِهِ ومعرفتِهِ ومحبتهِ وخدمتِهِ، فإنَّ اللَّهَ يكونُ له على حسبِ ذلكَ كما قالَ تعالَى: (فَاذْكرُونِي أَذْكُركُمْ) . (وَأَوفُوا بِعَهْدِي أوفِ بِعَهْدِكُمْ) ، بل هو سبحانَهُ أكرمُ الأكرمينَ. فهو يجازِي بالحسنةِ عشرًا ويزيدُ، ومن تقرّبَ منه شبرًا تقرّبَ منه ذراعًا. ومن تقرّبَ منه ذراعًا ثقرّبَ منه باعًا، ومن أتاهُ يمشِي أتاهُ هرولةً.

_ (1) قال محققه: بياضٌ بالأصل.

قوله تعالى: (والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم (17)

ما يُؤتَى الإنسانُ إلا من قِبَل نفسِهِ ولا يصيبُهُ المكروهُ إلا من تفريطِهِ في حق ربه عز وجل. قال علي - رضي الله عنه -: لا يَرْجوَن عبد إلاْ رَّبهُ، ولا يخافنَّ إلا ذنبَهُ. وقال بعضُهم: من صَفَى صُفّي لهُ، ومن خلطَ خُلِّط عليهِ. وقال مسروقٌ: من راقبَ اللهَ في خطراتِ قلبِهِ عصمَهُ اللَّهَ في حركاتِ جو ارِحِهِ. وبسطُ هذا المعنى يطولُ جدًّا، وفيمَا أشرْنَا إليه كفايةٌ، وللهِ الحمدُ. * * * قوله تعالى: (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ (17) ثم قال البخاري - رحمه اللَّه -: وَيَزيدُ وينقصُ. قال اللَّه عزَّ وجلَّ: (لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَّعَ إِيمَانِهِمْ) ، (وَزِدْناهُمْ هُدًى) . (وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى) ، (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ) ، (وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنوا إِيمَانًا) . وقوله عزَّ وجلَّ: (أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا) . وقوله: (فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا) . وقوله: (وَمَا زَادَهُم إِلاَّ إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا) . زيادة الإيمان ونقصانه؛ قولُ جمهورِ العلماءِ. وقد رُوي هذا الكلامُ عن طائفة من الصحابةِ، كأبي الدرداءٍ، وأبي هريرةَ. وابنِ عباسٍ، وغيرِهم من الصحابةِ.

ورويَ معناه عن علي وابنِ مسعودٍ - أيضًا. وعن مجاهدٍ وغير من التابعينَ. وتوقَّف بعضُهُم في نقصِهِ، فقالَ: يزيدُ، ولا يقالُ: ينقصُ. ورويَ ذلكَ عن مالكٍ، والمشهورُ عنه كقولِ الجماعةِ. وعن ابنِ المباركِ، قالَ: الإيمانُ يتفاضلُ. وهو معنى الزيادة والنقصِ. وقد تلا البخاريُّ الآياتِ التي فيها ذكرُ زيادةِ الإيمانِ. وقد استدلَّ بِهَا علَى زيادةِ الإيمانِ أئمةُ السَّلفِ قديمًا، منهُم: عطاءُ بنُ أبي رباح فمن بعدَه. وتلا البخاريُّ - أيضًا - الآياتِ التي ذكَرَ فيهَا زيادةَ الهُدَى؛ فإنَّ المرادَ بالهُدَى هنا فعلُ الطاعاتِ، كما قالَ تعالى بعد وصفِ المتقينَ بالإيمانِ بالغيبِ. وإقامِ الصلاةِ، والإنفاقِ مما رزقَهُم، وبالإيمانِ بما أُنزلَ إلى محمدٍ وإلى مَنْ قبلَهُ، وباليقينِ بالآخرةِ، ثم قالَ: (أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِهِمْ) . فسمَّى ذلكَ كلَّه هدًى، فمن زادتْ طاعاتُهُ فقد زادَ هداهُ. ولما كانَ الإيمانُ يدخلُ فيه المعرفةُ بالقلبِ، والقولُ والعملُ كلُّه، كانتْ زيادتُهُ بزيادةِ الأعمالِ، ونقصانُهُ بنقصانِهَا. وقد صرح بذلك كثيرٌ من السلف، فقالُوا: يزيد بالطاعة، وينقصُ بالمعصية. َ * * *

قوله تعالى: (فاعلم أنه لا إله إلا الله)

قوله تعالى: (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ) فصل: في فضائل لا إله إلا الفَه. وكلمةُ التوحيدِ لها فضائلُ عظيمة لا يمكنُ هاهنا استقصاؤُها، فلنذكر بعضَ ما وردَ فِيها: 1 - فهيَ كلمةُ التقوى كما قالَ عمرُ - رضي الله عنه - وغيرُه من الصحابة. 2 - وهي كلمةُ الإخلاصِ. 3 - وشهادةُ الحقِّ. 4 - ودعوةُ الحقِّ. 5 - وبراءةٌ من الشركِ، ونجاةُ هذا الأمرِ. 6 - ولأجلِهَا خُلِقِ الخلقُ. كما قال تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ) . 7 - ولأجلِهَا أُرسلتِ الرُّسلُ وأنزلتِ الكتبُ، كما قالَ تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُول إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ) . وقالَ تعالى: (يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ (2) . ونحو هذه الآياتِ. وهذه الآية ُ أولُ ما عدَّدَ اللَّهُ من النعم في سورةِ النحلِ التي تُسَمَّى سورةُ النعم. ولهذا قال ابنُ عيينةَ: ما أنعمَ اللَّهُ على عبدٍ من العبادِ نعمةً أعظمُ من أن عرَّفهم "لا إلهَ إلا اللَّهُ ". وأنَّ "لا إلهَ إلا اللَّه " لأهلِ الجنةِ كالماءِ الباردِ لأهلِ الدنيا.

8 - ولأجلِهَا أُعدَّتْ دارُ الثوابِ ودارُ العقابِ. 9 - ولأجلِهَا أُمرتِ الرسلُ بالجهادِ، فمنْ قالَها عصمَ مالَه ودمَه، ومن أباها فمالُه ودمُه هدر. 10 - وهي مفتاحُ الجنةِ. 11 - ومفتاحُ دعوةِ الرسلِ. 12- وبها كلَّمَ اللَّهُ موسى كِفاحًا. وفي "مسندِ البزار" وغيرِه عن عياضِ الأنصاريِّ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن لا إلهَ إلا اللَهُ كلمةُ حق على اللهِ كريمة ولها من اللهِ مكان وهي كلمة من قالَها صادِقًا أدخلَهُ اللَهُ بها الجنةَ، ومن قالَها كاذبًا حقنتْ دمَهُ، وأحرزتْ مالَه، ولَقِي اللهَ غدًا فحاسَبَهُ ". وهي مِفتاحُ الجنةِ كما تقدم. 13 - وهي: ثمنُ الجنةِ: قاله الحسنُ، وجاءَ مرفوعًا من وجوه ضعيفة: "ومن كانتْ آخرَ كَلامه دخلَ الجنةَ". " 14 - وهي: نجاة من النارِ: وسمعَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - مؤذنًا يقولُ: أشهد أن لا إلهَ إلا اللَّهُ، فقالَ: خرج من النارِ". خرَّجه مسلم.

15 - وهي: توجبُ المغفرةَ: في "المسندِ" عن شدَّادِ بن أوس وعبادةَ بنِ الصامتِ: أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال لأصحابهِ يومًا: "ارفعُوا أيدِيكم وقولُوا: لا إلهَ إلا اللَّهُ ". فرفعْنا أيدِينا ساعةً، ثم وضعَ رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يدَهُ، ثم قالَ: "الحمدُ للَّهِ، اللهُمَّ بعَثْتَنِي بهذهِ الكلمةِ، وأمرْتَني بها، ووعدتنِي بها الجنةَ، وإنَّك لا تخلفُ الميعادَ"، ثم قالَ: "أبشِرُوا فإن اللهَ قدْ غَفَرَ لكُم ". 16 - وهي: أحسنُ الحسناتِ: قال أبو ذرِّ: قلتُ يا رسولَ اللَّه: كلِّمْني بعمل يقربني من الجنةِ، ويباعدُني من النارِ، قالَ: "إذا عملتَ سيئة فاعملْ حسنةَ، فإنها عشرُ أمثالِها. قلتُ: يا رسولَ اللَّهِ، "لا إله إلا اللَّه " من الحسناتِ؟ قالَ: "هيَ أحسنُ الحسناتِ ". 17 - وهي: تمحو الذنوبَ والخطايا: وفي "سننِ ابنِ ماجةَ " عن أُمِّ هانئ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا إلهَ إلا اللهُ لا تتركُ ذنبًا، ولا يسبقُها عملٌ ". رُئِي بعضُ السلفِ بعدَ موتِهِ في المنامِ فسُئلَ عن حالهِ، فقالَ: ما أبقتْ لا إلهَ إلا اللَّهُ شيئًا. 18- وهي: تجدد ما درسَ من الإيمانِ في القلبِ: وفي "المسند" أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ لأصحابِهِ: "جدِّدوا إيمانَكم ". قالوا: كيفَ نجدِّدُ إيمانَنَا؟

قال: "قولُوا: لا إله إلا الله، وهي لا يعدِلُها شيءٌ في الوزنِ، فلو وُزِنتْ بالسماواتِ والأرضِ رجحْت بهن ". كما في "المسندِ" عن عبدِ اللَّهِ بنِ عمرٍو عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: "أن نوحًا قالَ لابنِهِ عندَ موتِهِ: آمرُكَ بلا إلهَ إلا اللَهُ، فإنَّ السماواتِ السبعَ والأرضينَ السبعَ لو وُضعِتْ في كِفة ووضِعَتْ لا إلهَ إلا اللَهُ في كفةٍ، رجحتْ بهن لا إلهَ إلا اللَهُ، ولو أن السماوات السبعَ والأرضينَ السبعَ كن في حلقةٍ مبهمةٍ قصَمتهُن لا إلهَ إلا الله ". وفيه أيضًا عن عبدِ اللهِ بن عمرٍو عن النبى - صلى الله عليه وسلم -: "أن موسى - عليه السلامُ - قالَ: يا رب علِّمني شيئًا أذكرُك وأدعوكَ به، قال: يا موسى قلْ: لا إله إلا اللَّه. قالَ: يا ربِّ: كلُّ عبادِكَ يقولون هذا. قال: قل: لا إله إلا الله، قال: لا إله إلا أنت يا ربِّ. إنما أريد شيئا تخصُّنِي به. قال: يا مُوسى، لو أنَّ السماوات السبعَ وعامرَهنَّ غيري والأرضينَ السبعَ في كفةٍ، ولا إلهَ إلا اللَهُ في كفةٍ، مالتْ بهن لا إله إلا الله ". وكذلك ترجحُ بصحائفِ الذنوب، كما في حديثِ السجلاتِ والبطاقةِ. وقد خرَّجهُ أحمدُ والنسائيُّ والترمذيُّ أيضًا من حديثِ عبدِ اللَّهِ بن عمرٍو عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -. 19 - وهي: التي تخرقُ الحجبَ حتَّى تصلَ إلى اللَّهِ عزَّ وجلَّ: وفي الترمذي عن عبدِ اللَّهِ بن عمرو عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا إله إلا اللَّهُ ليسَ لها دونَ اللَّهِ حجابٌ حتى تصلَ إليهِ ".

وفيه أيضًا عن أبي هريرةَ عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ما قالَ عبدٌ: لا إله إلا اللَّه مخلصًا إلا فُتحتْ له أبوابُ السماءِ حتى تُفضِي إلى العرشِ ما اجتُنِبَتِ الكبائرُ". ويروى عن ابنِ عباسٍ مرفوعًا: " ما منْ شيء إلا بينهِ وبينَ اللَّهِ حجابٌ، إلا قولَ: لا إلهَ إلا الله كما أنَّ شَفتَيْكَ لا تحجبُهما كذلكَ لا يحجِبُها شيء حتى تنتهي إلى اللهِ عز وجلَّ ". وقال أبو أمامةَ: ما مِنْ عبدٍ يهلِّلُ تهليلةً فينهنهها شيء دونَ العرشِ. 20 - وهي الَّتِي ينظرُ اللَهُ إلى قائِلِها، ويجيبُ دعاه: خرَّجَ النسائيُّ في كتابِ "اليومِ والليلةِ" من حديثِ رجلينِ من الصحابة عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: "منْ قالَ: لا إلهَ إلا اللَّهُ وحدَهُ لا شريكَ لهُ، له الملكُ وله الحمدُ، وهو على كلِّ شيءٍ قديرٌ مخلِصًا بها روحُه مصدِّقًا بها لسانُه، إلا فَتَقَ له السماءَ فتقًا، حتَى ينظرَ إلى قائِلِها مِنْ أهلِ الأرضِ، وحُقَّ لعبدٍ نظرَ إليهِ أن يعطِيَهُ سؤلَهُ ". 21 - وهي: الكلمةُ الَّتي يصدِّقُ اللَهُ قائِلَهَا: كما أخرجَ النسائيُّ والترمذيُّ وابنُ حبان من حديثِ أبي هريرةَ وأبي سعيدٍ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا قالَ العبدُ: لا إلهَ إلا اللَّهُ واللَّهُ أكبرُ، صدَّقهُ ربُه. وقالَ: لا إلهَ إلا أنا وأنا أكبرُ. وإذا قالَ: لا إلَه إلا اللَهُ وحدَهُ، لا شريكَ لهُ، يقولُ اللَهُ: لا إلهَ إلا أنا وحدِي لا شريكَ لي. وإذا قالَ: لا إلهَ إلا اللَهُ وحدَه، لا شريكَ له، له الملكُ وله الحمدُ، قال اللَّهُ: لا إلهَ إلا أنا، لي الملكُ، ولي الحمدُ. وإذا قالَ: لا إلهَ إلا اللَّهُ، ولا حولَ ولا قوةَ إلا باللَّهِ،

قالَ اللَّهُ: لا إلهَ إلا أنا، ولا حولَ ولا قوةَ إلا بِي ". وكان يقولُ: "من قالها - في مرضِهِ ثم ماتَ لم تَطعمهُ النارُ". 22 - وهي: أفضلُ ما قاله النبيونَ: كما وردَ ذلكَ في دعاءِ يومِ عرفة. 23 - وهي: أفضلُ الذِّكْرِ: كما في حديثِ جابرٍ المرفوع: "أفضلُ الذكرِ لا إلهَ إلا اللَهُ ". وعن ابنِ عباسٍ: أحبُّ كلمةٍ إلى اللَّهِ لا إلهَ إلا اللَّه، لا يقبلُ اللَّهُ عملاً إلا بِها. 24 - وهي: أفضلُ الأعمالِ وأكثرُها تضعيفًا، وتعدلُ عتقَ الرقابِ، وتكونُ حِرزًا من الشيطانِ: وكما في "الصحيحينِ " عن أبي هريرةَ - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "من قالَ: لا إله إلا اللَّهُ وحدَهُ لا شريكَ لهُ، له الملكُ وله الحمدُ وهوَ على كلِّ شيءٍ قديرٌ في يومٍ مائةَ مرةٍ كانتْ له عدلَ عشرِ رقابٍ، وكُتبَ له مائةُ حسنةٍ، ومُحيَ عنه مائةُ سيئةٍ، ولم يأتِ أحدٌ بأفضلَ مما جاءَ بهِ، إلا أحدٌ عملَ أكثرَ من ذلكَ ". وفيهما أيضًا عن أبي أيوبٍ الأنصاريِّ - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "من قالَها عشرَ مراتٍ كانَ كمنْ أعتقَ أربعَ أنفسٍ من وَلَدِ إسماعيلَ ".

وفي الترمذي عن ابنِ عمرَ مرفوعًا: "منْ قالها إذا دخل السوقَ، وزادَ فيها: يُحي ويميتُ وهوَ حيٌ لا يموتُ بيدِهِ الخيرُ وهوَ على كل شيء قديرٌ كتبَ اللَهُ له ألفَ ألفَ حسنةٍ، ومحا اللَّهُ عنه ألفَ ألفَ سيئةٍ، ورفعَ اللَهُ له ألفَ ألفَ درجة". وفي روايةٍ: "ويبنى له بيتٌ في الجنةِ". 25 - ومن فضائِلِها: أنها أمانٌ من وحشةِ القبرِ وهولِ الحشرِ: كما في "المسندِ" وغيرِهِ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "ليسَ على أهلِ لا إلهَ إلا اللَّهُ وحشة في قبورهم ولا في نشورِهم، وكأئي بأهلِ لا إلهَ إلا اللَهُ قد قامُوا ينفضونَ الترابَ عن رؤوسِهم، ويقولونَ: الحَمُد للَّه الَّذي أذهبَ عنَّا الحزنُ ". وفي حديثٍ مرسلٍ: "من قالَ: لا إلهَ إلا اللَهُ الملكُ الحق المبينُ، كل يومٍ مائةَ مرةٍ كانتْ له أمانًا من الفقرِ، وأنسًا من وحشةِ القبرِ، واستجلبتْ له الغِنى، واستقرعتْ له بابَ الجتةِ". 26 - وهيَ: شعارُ المؤمنينَ إذا قامُوا من قبورِهم: قال النضرُ بنُ عربي: بلغَنِي أن الناسَ إذا قامُوا من قبورِهِم كانَ شعارُهم: لا إلَه إلا اللهُ. وقد خرج الطبرانيُّ حديثًا مرفوعًا: "إن شعارَ هذه الأمةِ على الصراطِ: لا إلهَ إلا أنتَ ".

27 - ومن فضائلها: أنَّها تفتحُ لقائِلِها أبوابَ الجنةِ الثمانيةَ، يدخلُ من أيِّها كما في حديث عمرَ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فيمَنْ أتَى بالشهادتينِ بعد الوضوء، وقدْ خرَّجهُ مسلمٌ. وفي "الصحيحينِ " عن عبادةَ بن الصامتِ - رضي الله عنه - عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "من قالَ: أشهدُ أن لا إلهَ إلا اللَّهُ وحدَهُ لا شريكَ له، وأن محمدًا عبدُه ورسولُه، وأنَّ عيسى عبدُ اللَّهِ ورسولِهِ وكلمتُه ألقَاها إلى مريمَ وروحٌ منه، وأنَّ الجنةَ حق والنارَ حق أدخلَهُ اللَّهُ من أيِّ أبوابِ الجنَّةِ الثمانيةِ شاء". وفي حديثِ عبد الرحمنِ بنِ سمرةَ عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في قصةِ منامِهِ الطويل، وفيه قالَ: "ورأيتُ رجلاً من أُمَّتِي انتهى إلى أبوابِ الجنةِ، فأُغلقت الأَبوابُ دونَهَ. فجاءتْه شهادةُ أن لا إلهَ إلا اللَّهُ، فتحتْ له الأبوابَ، وأدخلنْهُ الجنةَ". 28 - ومن فضائلها أنَّ أهلَها وإنْ دخلُوا النارَ وبتقصيرِهم في حقوقِها فإنهم لابد أن يخرجُوا منها. وفي "الصحيحينِ " عن أنسٍ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "يقولُ اللَهُ عز وجلَّ: وعِزَّتي وجلالِي وكبريائِي وعظمتِي لأُخرجنَّ منها منْ قالَ: لا إله إلا اللَّهُ ". وأخرجَ الطبراني عن أنس عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "إن ناسًا منْ أهلِ لا إلهَ إلا اللَّهُ

يدخلونَ النارَ بذنوبهم، فيقولُ لهم عبدةُ اللات والعزَّى: ما أغنى عنكُم قولُ: لا إله إلا اللَّه، فيغضبُ اللَّهُ لهم فيخرِجُهُم من النارِ، فيدخلونَ الجنةَ". ومن كان في سخطه يُحسنُ. . . فكيفَ يكونُ إذا ما رضي؟ لا يسوي بين من وحَّده وإن قصَّر في حقوقِ توحيدهِ، وبينَ من أشركَ به. قال بعضُ السلفِ: كان إبراهيمُ - عليه السلامُ - يقولُ: اللهمَّ لا تشركْ من كان يشركُ بكَ شيئًا بمن كانَ لا يشركُ بكَ. كان بعضُ السلفِ يقولُ في دعائِه: اللهمَّ إنَّك قلتَ عن أهلِ النارِ: إنَّهم أقسمُوا باللَّهِ جهدَ أيمانِهم لا يبعثُ اللَّه من يموتُ، ونحنُ نقسمُ باللهِ جَهدَ أيمانِنا ليبعثنَّ اللَّهُ من يموتُ، اللهمَّ لا تجمع بينَ أهلِ القَسَمَينِ في دارٍ واحدةٍ. كان أبو سليمانَ يقولُ: إن طالَبنِي ببخلِي طالبتُه بجودِهِ، وإن طالَبني بذنوبي طالبتُه بعفوِه، وإن أدخلَنِي النارَ أخبرتُ أهلَ النارِ أنِّي أُحبُّه. ما أطيبَ وصلَه وما أعذبَه! . . . وما أثقلَ هجرَه وما أصَعبَه! وفي السخطِ والرِّضى ما أهيبَه! . . . القلبُ يحبُّ وإنْ عذبه وكان بعضُ العارفينَ يبْكِي طولَ ليلهِ ويقولُ: إن تعذِّبْني فإنِّي لك محبٌّ، وإنْ ترحمْني فإنَي لك محبٌّ. العارفونَ يخافونَ من الحجابِ أكثرَ مما يخافونَ من العذابِ. قال ذو النونِ: خوفُ النارِ عند خوفِ الفراقِ كقطرةٍ في بحرٍ لُجي. كان بعضُهم يقولُ: إلهِي وسيدِي ومولاي! لو أنَّك عذبْتنِي بعذابِكَ كلِّه. كانَ ما فاتَني من قربِكَ أعظمُ عنْدِي من العذابِ.

قيلَ لبعضِهم: لو طردكَ ما كنتَ تفعلُ. قالَ: إِذَا أنا لم أجْد من الحبِّ وصْلاً. . . رمتُ في النارِ مُنْزلا ومقِيلا ثم أزعجتُ أهلَهَا بندَائِي. . . بكرةً في عرصَاتِها وأصِيلا معشرَ المشركينَ ناحُوا على منْ. . . يدِّعِي أنَّه يحبُّ الجليلا لم يكنْ في الذي ادعاه محقًّا. . . فجزاهُ به العذابَ الطَّوِيلا! إخوانِي! اجتهدُوا اليومَ في تحقيقِ التوحيدِ، فإنَّه لا يُنجي من عذابِ اللَّهِ إلا إيَّاه. وما نطقَ الناطقونَ إذْ نطقُوا. . . أحسنَ من: لا إلهَ إلا الله. تباركَ اللَّهُ ذو الجلالِ ومنْ. . . أشهدُ أن لا إِلهَ إلا هُو مَن لذنوبِي ومنْ يمحِّصُها. . . غيرُك يَا منْ لا إِلهَ إلا هُو جنان خلدٍ لمنْ يوحدُه. . . أشهدُ أن لا إلهَ إلا هُو نيرانُه لا تحرقُ منْ. . . يشهدُ أن لا إلهَ إلا هُو أقولُها مخلِصًا بِلا بُخلٍ. . . أشهدُ أن لا إلهَ إلا هُو والحمد للَّه رب العالمين * * *

سورة الفتح

سُورَةُ الفَتْحِ قوله تعالِ: (وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ) إن الزرعَ وإنْ كانَ له طاقةً منه ضعيفةٌ ضئيلةٌ إلا أنه يتقوَّى بما يخرجُ معه وحولَهُ ويعتضدُ به، بخلافِ الشجرةِ العظامِ فإنَّ بعضَها لا يشدُّ بعضًا. وقد ضربَ اللَّهُ تعالى مثلَ النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابِهِ بالزرع لهِذا المعنى قال: (وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ) . قوله: (أَخْرَجَ شَطْأَهُ) أي: فِرَاخَهُ. (فَآزَرَهُ) أي: ساواه وصارَ مثلَ الأمِّ وقوي به. (فَاسْتَغْلَظَ) أي: غَلُظَ. فالزرعُ مثلُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - إذ خرجَ وحدهُ فأمدَّه بأصحابِهِ وهُم شطأ الزرع كما قَوَّى الطاقةَ من الزرع بما نَبَتَ منها حتَى غلظتْ واستحكمتْ. (فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ) : جمعُ ساق. وفي الإنجيلِ: " سيَخرُجُ قوْم يَنْبُتُونَ نَباتَ الزَّرع ". وقد قالَ عزَّ وجلَّ: الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ) . وقال: (الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِّنْ بَعْضٍ) .

فالمؤمنونَ بينَهُم ولاية وهي مودةٌ ومحبة باطنةٌ. ثم قالَ: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) . لأن المؤمنينَ قلوبُهم على قلبِ رجلٍ واحدٍ فيما يعتقدونَهُ من الإيمانِ وأما المنافقونَ فقلوبُهم مختلفة. كما قالَ: (تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شتَّى) . فأهواؤُهُم مختلفةٌ.. إلخ. ولا ولايةَ بينَهُم في الباطنِ وإنَّما بعضُهم من جنس بعض في الكفر والنفاقِ. وفي "الصحيحينِ " عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: "المؤمِنُ للمُؤْمِنِ كالبُنيان يَشُدُّ بعضُهُ بعضا" وشبَّكَ بينَ أصابعِهِ. وفيهما أيضًا عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "مثل المُؤمنين في توادِّهم وتراحُمهم وتعاطُفهِم كمثَلِ الجسَدِ الوَاحدِ، إذَا اشتَكَى منهُ عضوٌ تداعَى سائِرهُ بالحُمَّى والسهَرِ". * * *

سورة الحجرات

سُورَةُ الحُجُرَاتِ قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (1) وقال الحسنُ في قولهِ تعالَى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ) . قال: لا تذبَحُوا قبلَ الإمامِ. خرَّجَه ابنُ أبي حاتمٍ. * * * قوله تعالى: (وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7) فإن علامةَ محبَّةِ اللَّهِ ورسولِهِ محبةُ ما يحبّهُ اللَّهُ ورسولُه، وكراهةُ ما يكرهُه اللَّهُ ورسولُه - كما سبقَ -، فإذا رسخَ الإيمانُ في القلبِ وتحققَ بِهِ. ووجدَ حلاوتَهُ وطعمَه، أحبَّه وأحبَّ ثباتَهُ ودوامَهُ، والزيادَة منه، وكرهَ مفارقتَه، وكانَ كراهتُه لمفارقتِه أعظمَ عندَه من كراهِة الإلقاءِ في النارِ. قال اللَّه تعالى: (وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7) . والمؤمنُ يحبُّ الإيمانَ أشدَّ من حبِّ الماءِ الباردِ في شدَّةِ الحرِّ للظمآنِ،

قوله تعالى: (إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم)

ويكره الخروجَ منه أشدَّ من كراهةِ التحريقِ بالنيرانِ. كما في "المسندِ" عن أبي رزينٍ العقيلي، أنه سألَ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - عن الإيمانِ، فقالَ: "أنْ تشهَدَ أنْ لا إِله إلا اللَهُ، وحدَه لا شريكَ لَهُ، وأنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه، وأنْ يكونَ اللَهُ ورسولُه أحبَّ إليكَ مما سواهُما، وأن تحرق في النَّارِ أحبُّ إليكَ من أنْ تشركَ باللهِ، وأن تحبَّ غير ذي نسبٍ لا تحبه إلا للَّه، فإذَا كنتَ كذلكَ فقد دخلَ حبُّ الإيمانِ في قلبك، كما دخلَ حبُّ الماءِ للظمآنِ في اليوم القائظ ". وفي "المسند" - أيضًا -: أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - وصَّى معاذَ بن جبل، فقال له - فيما وصاه به -: "لا تشركْ باللَّهِ شيئًا، وإن قُطِّعْتَ وحُرِّقت ". * * * قوله تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ) وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "المسلمُ أخو المسلم، لا يظلِمُه ولا يَخذُلُه، ولا يَكذِبُه، ولا يَحقِرُه ". هذا مأخوذٌ من قولِهِ عزَّ وجلَّ: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ) ، فإذا كانَ المؤمنونَ إخوةً أُمروا فيمَا بينَهُم بما يُوجبُ تآلُفَ القلوبِ واجتماعَها، ونُهوا عمَّا يوجبُ تنافرَ القلوبِ واختلافَها، وهذا من ذاكَ. وأيضا: فإنَّ الأخَ مِنْ شأنِهِ أن يوصِلَ إلى أخيه النَّفعَ، ويكفَّ عنه الضررَ. ومن أعظم الضرِّ الذي يجبُ كَفُّه عَنِ الأخ المسلم الظُّلم، وهذا لا يختصُّ

بالمسلم، بل هو محرَّمٌ في حق كلِّ أحدٍ، وقد سبق الكلامُ على الظلْمِ مستوفيًا عند ذكرِ حديث أبي ذر الإلهي: "يا عبادي، إنِّي حرَّمتُ الظلم على نفسِي، وجعلتُه بينَكُم مُحرَّمًا فلا تَظَالَمُوا". ومِنْ ذلكَ: خِذْلانُ المسلم لأخيهِ، فإنَّ المؤمنَ مأمورٌ أن يَنْصُرَ أخاه، كما قالَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "انصُرْ أخاكَ ظالِمًا أو مظلومًا". قيلَ: يا رسولَ اللَّهِ، أنصُرُهُ مظلومًا، فكيفَ أنصرُهُ ظالمًا؟ قالَ: "تمنعُه عَنِ الظلم، فذلكَ نَصْرُك إيَّاهُ ". خرَّجهُ البخاريُّ بمعناهُ من حديثِ أنسٍ. وخرَّجهُ مسلمٌ بمعناه من حديثِ جابرٍ. وخرَّج أبو داود من حديثِ أبي طلحةَ الأنصاريِّ وجابرِ بنِ عبدِ اللَّهِ. عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قالَ: "ما مِنْ امرئٍ مسلمٍ يَخذُلُ امْرءًا مُسلمًا في موضعٍ تُنتهكُ فيه حُرمتُه، ويُنتقصُ فيه من عِرضهِ إلا خذلهُ اللَهُ في موطنٍ يُحبُّ فيه نُصرتهُ، وما من امرئٍ ينصُرُ مُسلمًا في موضع يُنتقصُ فيه من عِرضِهِ، ويُنتهكُ فيه من حُرمتهِ إلا نصرَه اللَّه في موطن يُحبُّ فيه نُصرتَهُ ". وخرَّج الإمامُ أحمد من حديثِ أبي أمامةَ بنِ سهلٍ، عن أبيهِ عنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "مَنْ أُذِلَّ عندهُ مؤمنٌ فلم ينصُرْه وهو يَقْدِرُ على أنْ ينصُره أذلَّهُ اللَّهُ على رءوسِ الخلائقِ يومَ القيامةِ". وخرَّج البزارُ من حديثِ عمرانَ بنِ حُصينٍ، عن النَّبيَ - صلى الله عليه وسلم - قال:

قوله تعالى: (قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا)

"مَنْ نصرَ أخاهُ بالغَيبِ وهو يستطيعُ نصرَه نصرهُ اللَّهُ في الدنيا والآخرةِ". ومن ذلكَ: كذبُ المسلم لأخيه، فلا يُحِل له أن يُحدِّثه فيكذبهُ، بل لاْ يُحدِّثه إلا صدقًا. وفي "مسندِ الإمام أحمدَ" عن النَّوَّاس بنِ سَمعانَ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "كَبُرَت خيانة أنْ تُحدِّثَ أخاكَ حديثًا هو لك مُصدِّق وأنتَ به كاذبٌ ". ومن ذلكَ: احتقارُ المسلم لأخيهِ المسلم، وهو ناشئ عن الكِبْر، كما قالَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "الكِبْرُ بَطَرُ الحقِّ وغمْطُ النَّاسِ ". خرَّجه مسلمٌ من حديثِ ابنِ مسعودٍ - رضي الله عنه -. وخرَّجهُ الإمامُ أحمدُ، وفي روايةٍ لهُ: "الكِبْرُ سَفَهُ الحَقِّ، وازدراءُ الناسِ "، وفي روايةٍ: "وغمصُ الناسِ "، وفي روايةٍ زيادةٌ: "فلا يَراهم شيئًا". وغمصُ النَّاسِ: الطَّعْنُ عليهم وازدراؤهُم. وقالَ اللَّهُ عزَّ وجل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ) . فالمتكبرُ ينظرُ إلى نفسِهِ بعينِ الكمالِ، وإلى غيره بعينِ النَّقصِ، فيحتقرُهُم ويزدريهِم، ولا يراهمُ أهلاً لأنْ يقومَ بحقُوقِهِم، ولا أن يقبلَ مِنْ أحدٍ منهمُ الحقَّ إذا أوردَهُ عليهِ. * * * قوله تعالى: (قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا) [قَال البخاريُّ] : بَاب إذا لم يكُنِ الإسلامُ علَى الحقيقةِ وكان على

الاستسلامِ أوِ الخوْفِ مِنَ القَتْلِ: لقولِهِ عزَّ وجلَّ: (قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا) . فَإِذَا كانَ على الحقيقةِ فهُوَ علَى قولِهِ: (إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الإِسْلامُ) . وَقولِهِ: (وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ) . معنى هذا الكلامِ: أن الإسلامَ يُطلقُ باعتبارينِ. أحدُهما: باعتبارِ الإسلامِ الحقيقيِّ، وهو دينُ الإسلامِ الذي قالَ اللَّهُ فيهِ: (إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الإِسْلامُ) . وقال: (وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ) . والثاني: باعتبارِ الاستسلامِ ظاهرًا، مع عدمِ إسلامِ الباطنِ إذا وقَع خوفًا. كإسلامِ المنافقينَ. واستدلَّ بقوله تعالى: (قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ) . وحملَهُ على الاستسلامِ خوفًا وتقيةً. وهذا مرويٌّ عن طائفةٍ من السلفِ، منهم: مجاهدٌ وابنُ زيدٍ ومقاتلُ بنُ حيانَ وغيرُهم. وكذلك رجَّحه محمدُ بنُ نصرٍ المروزيُّ، كما رجَّحه البخاريُّ؛ لأنهما لا يفرقانِ بينَ الإسلامِ والإيمانِ، فإذا انتفى أحدُهما انتفَى الآخرُ. وهو اختيارُ ابنِ عبدِ البرِّ، وحكاهُ عن أكثرِ أهلِ السنةِ من أصحابِ مالكٍ

والشافعيِّ وداودَ. وأما من يفرقُ بين الإسلامِ والإيمانِ، فإنه يستدلُّ بهذه الآيةِ على الفرقِ بينهُما، ويقول: نفيُ الإيمانِ عنهم لا يلزمُ منه نفيُ الإسلامِ، كما نَفَى الإيمانَ عن الزاني والسارقِ والشاربِ، وإن كان الإسلامُ عنهم غيرَ منفيً. وقد وردَ هذا المعنى في الآيةِ عن ابنِ عباسٍ وقتادَة والنخَعيِّ. ورُوي عن ابنِ زيدٍ - معناه - أيضًا. وهو قولُ الزهريِّ وحمادِ بنِ زيدٍ وأحمدَ. ورجَّحه ابنُ جريرٍ وغيرُه. واستدلُّوا به على التفريقِ بينَ الإسلامِ والإيمانِ. وكذا قال قتادةُ في هذه الآيةِ، قال: (قُولُوا أَسْلَمْنَا) : شهادةَ أن لا إله إلا اللَّهُ، وهو دينُ اللَّهِ، والإسلامُ درجةٌ، والإيمانُ تحقيقٌ في القلب. والهجرةُ في الإيمانِ درجةٌ، والجهادُ في الهجرةِ درجةٌ، والقتلُ في سبيل الله درجةٌ. خرَّجه ابنُ أبي حاتمٍ. فجعل قتادة الإسلام الكلمة، وهي أصلُ الدينِ، والإيمان ما قام بالقلوبِ من تحقيقِ التصديقِ بالغيب، فهؤلاء القومُ لم يحقَقُوا الإيمانَ في قلوبِهم. وإنما دخلَ في قلوبِهم تصديق ضعيفٌ، بحيثُ صحَّ به إسلامُهم. ويدلُّ عليه: قولُه تعالى: (وَإِن تُطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكم مِّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا) . واختلفَ مَنْ فرَّق بين الإسلامِ والإيمانِ، في حقيقة الفرقِ بينهما:

فقالت طائفةٌ: الإسلامُ كلمةُ الشهادتينِ، والإيمانُ العملُ. وهذا مرويٌّ عن الزهري وابنِ أبي ذئبٍ، وهوَ روايةٌ عن أحمدَ، وهي المذهبُ عند القاضي أبي يعلَى وغيرِه من أصحابهِ. ويشبه هذا: قولَ ابنِ زيدٍ في تفسير هذه الآية، قال: لم يصدِّقُوا إيمانَهم بأعمالهم، دردَّ اللَّه عليهم، وقال: (لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قولُوا أَسْلَمْنَا) . فقال: الإسلامُ إقرارٌ والإيمانُ تصديقٌ. وهو قولُ أبي خيثمةَ وغيرِه من أهلِ الحديثِ. وقد ضعَّفَ ابنُ حامدٍ من أصحابِنا هذا القولَ عن أحمدَ، وقال: الصحيحُ أن مذهَبَه أن الإسلامَ قولٌ وعملٌ، روايةً واحدةً، ولكن لا تدخلُ كلّ الأعمالِ في الإسلامِ كما تدخلُ في الإيمانِ. وذكر: أنَّ المنصوصَ عن أحمدَ، أنه لا يكفرُ تاركُ الصلاةِ، فالصلاةُ من خصالِ الإيمانِ دونَ الإسلامِ، وكذلك اجتنابُ الكبائرِ من شرائطِ الإيمانِ دونَ الإسلام. كذا قالَ، وأكثرُ أصحابنا: أن ظاهرَ مذهبِ أحمدَ تكفيرُ تاركِ الصلاةِ، فلو لم تكنِ الصلاةُ من الإسلامِ، لم يكنْ تاركُها عندَه كافرًا. والنصوصُ الدالةُ على أن الأعمالَ داخلةٌ في الإسلامِ كثيرة جدًّا. وقد ذهَب طائفةٌ إلى أن الإسلامَ عامٌّ، والإيمانَ خاصٌّ، فمنِ ارتكبَ الكبائرَ خرجَ من دائرةِ الإيمان الخاصةِ إلى دائرةِ الإسلامِ العامَّةِ. هذا مرويٌّ عن أبي جعفرٍ محمدِ بنِ عليٍّ. وضعفه ابنُ نصرِ المروزيُّ، من جهة راويه عنه، وهو فضيل بنُ يسار،

وطعنَ فيه. ورُوي عن حمادِ بنِ زيدٍ نحو هذا - أيضًا. وحُكي روايةً عن أحمدَ - أيضًا -؛ فإنه قال - في رواية الشالنجيِّ - في مرتكبِ الكبائرِ: يخرجُ من الإيمانِ، ويقعُ في الإسلامِ. ونقل حنبلٌ، عن أحمدَ - معناه. وقد تأوَّلَ هذه الروايةَ القاضي أبو يعلَى، وأقرَّها غيرَه، وهي اختيارُ أبي عبدِ اللَّهِ ابن بطةَ وابنِ حامدٍ، وغيرِهما من الأصحابِ. وقالت طائفةٌ: الفرقُ بينَ الإسلامِ والإيمانِ: أن الإيمانَ هو التصديقُ. تصديقُ القلبِ، فهو علمُ القلبِ وعملُه، والإسلامُ الخضوعُ والاستسلامُ والانقيادُ، فهو عملُ القلبِ والجوارح. وهذا قولُ كثيرٍ من العلماءِ، وقد حكاهُ أبو الفضلِ التميميُّ عن أصحابِ أحمدَ، وهو قولُ طوائفَ منَ المتكلمينَ. لكن المتكلمونَ عندَهُم أن الأعمالَ لا تدخلُ في الإيمانِ، وتدخلُ في الإسلامِ، وأما أصحابُنا وغيرُهم من أهلِ الحديثِ، فعندهم أن الأعمالَ تدخل في الإيمانِ، مع اختلافِهم في دخولِها في الإسلامِ، كما سبق. فلهذا قالَ كثير من العلماءِ: إن الإسلامَ والإيمانَ تختلفُ دلالتُهما بالإفراد والاقترانِ، فإن أُفردَ أحدُهما دخلَ الآخرُ فيه، وإن قُرنَ بينهما كانا شيئينِ حينئذ. وبًهذا يجمعُ بينَ حديثِ سؤالِ جبريلَ عن الإسلامِ والإيمانِ، ففرَّق النبي - صلى الله عليه وسلم - بينهما، وبينَ حديثِ وفدِ عبدِ القيسِ حيث فسَّر فيه النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - الإيمانَ

المنفرد بما فسَّر به الإيمانَ المقرونَ في حديثِ جبريلَ. وقد حكى هذا القولَ أبو بكرٍ الإسماعيليّ عن كثيرٍ من أهلِ السنةِ والجماعة. ورُويَ عن أبي بكرِ بنِ أبي شيبة ما يدلُّ عليهِ. وهو أقربُ الأقوالِ في هذه المسألةِ وأشبهُها بالنصوصِ. واللَّهُ أعلمُ. والقولُ بالفرقِ بين الإسلام والإيمانِ مرويٌّ عن الحسنِ وابنِ سيرينَ وشريكٍ وعبدِ الرحمنِ بنِ مهديً ويحيى بنِ معينٍ، ومؤمَّلِ بنِ إهابٍ، وحُكي عن مالك - أيضًا. وقد سبقَ حكايتُه عن قتادةَ، وداودَ بنِ أبي هندٍ، والزهرىِّ، وابنِ أبي ذئبٍ، وحمادِ بنِ زيدٍ، وأحمدَ، وأبي خيثمةَ. وكذلك حكاهُ أبو بكرِ بنُ السمعانيِّ عن أهلِ السنةِ والجماعةِ جملةً. فحكايةُ ابنِ نصرٍ وابنِ عبدِ البرِّ عن الأكثرينَ التسويةَ بينهما غيرُ جيِّدٍ. بل قد قيلَ: إن السلفَ لم يُروَ عنهم غيرُ التفريقِ. واللَّهُ أعلمُ. وخرَّج البخاريُّ في هذا البابِ: حديثَ: الزُّهريّ، عن عامِر بن سعدٍ، عَن أبيهِ، أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أعطَى رهطا، وسعد جَالسٌ، فتركَ رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - رجُلاً، هُو أعجبُهُم إليَّ، فقلتُ: يَا رسُولَ اللَّهِ، مَا لكَ عن فُلانٍ، فواللَّهِ، إنِّي لأراهُ مُؤمنًا؟ فقالَ: "أَو مسلمًا"، فسكتُّ قليلاً، ثمَّ غلبني ما أعلمُ منهُ، فقلتُ: يارسولَ اللَّهِ، ما لك عن فلانٍ؛ فواللَّهِ إنّي لأراهُ مُؤمنًا؛ قالَ: "أو مُسلمًا"، فسكتُّ قليلاً، ثمَّ غلبني ما أعلمُ منهُ، فعدتُ لمقالتِي، وعادَ رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، ثمَّ قالَ: "يا سعدُ، إنِّي

لأعطي الرجل، وغيرهُ أعجبُ إلي منهُ، خشيةَ أن يكبَّهُ اللَهُ في النارِ". خرَّجَه من طريقِ: شعيب، عن الزهري. ثم قال: رواهُ يُونسُ وصالح ومعمرٌ وابنُ أخي الزُّهري، عن الزُّهري. وقد رواهُ ابنُ أبي ذئبٍ - أيضًا -، عن الزهريِّ - كذلك. ورواه العباسُ الخلالُ، عن الوليدِ بنِ مسلم، عن ابنِ وهب ورشدينَ بنِ سعد، عن يونُسَ، عن الزهريِّ، عن إبراهيمَ بنِ عبد الرحمنِ بنِ عوف، عن أبيه، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -. " وأخطأ في ذلكَ -: نقلَه ابنُ أبي حاتمٍ الرازيُّ، عن أبيهِ. فهذا الحديثُ محمولاً عند البخاريِّ على أن هذا الرجلَ كانَ منافقًا، وأن الرسولَ - صلى الله عليه وسلم - نفى عنه الإيمانَ، وأثبتَ له الاستسلامَ دونَ الإسلامِ الحقيقيِّ. وهو - أيضًا - قولُ محمدِ بنِ نصر المروزيّ. وهذا في غايةِ البعدِ، وآخرُ الحديثِ يردُّ على ذلك، وهو قولُ النبيّ - صلى الله عليه وسلم - "إني لأعطي الرجلَ وغيرُه أحبُّ إليَّ منه ". فإن هذا يدل على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وكَلَه إلى إيمانه، كما كان يعطي المؤلفةَ قلوبُهم، ويمنعُ المهاجرينَ والأنصار. وزعمَ عليٌّ بن المدينيَ في كتابِ " العللِ " له: أن هذا من بابِ المزاح منَ النبي - صلى الله عليه وسلم - فإنه كانَ يمزحُ ولا يقولُ إلا حقًّا، فأوهم سعدًا أنه ليس بمؤمنٍ بل مسلم، وهما بمعنًى واحد، كما يقول لرجل يمازحُه - وهو يدعي أنه أخ لرجل -، فيقول: إنما أنتَ ابنُ أبيه، أو ابنُ أمِّه، وما أشبَه ذلكَ، مما يوهمُ

الفرقَ، والمعنَى واحد. وهذا تعسفٌ شديد. والظاهرُ - واللَّهُ أعلمُ -: أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - زجرَ سعدًا عن الشهادةِ بالإيمانِ؛ لأن الإيمانَ باطن في القلبِ لا اطلاعَ للعبدِ عليه، فالشهادةُ به شهادة على ظنٍّ، فلا ينبغي الجزمُ بذلك، كما قال: "إن كنتَ مادحًا لا محالةَ، فقل: أحسِبُ فلانًا كذا، ولا أزكِّي على اللَّهِ أحدًا". وأمرَه أن يشهدَ بالإسلامِ؛ لأنه أمرٌ مطَّلع عليه. كما في "المسندِ" عن أنسٍ - مرفوعًا -: "الإسلامُ علانيةٌ والإيمانُ في القلبِ ". ولهذا كرِه أكثرُ السلفِ أن يطلقَ الإنسانُ على نفسه أنه مؤمن، وقالوا: هو صِفةُ مدح، وتزكية للنفسِ بما غابَ من أعمالِها، وإنما يشهدُ لنفسِه بالإسلامِ؛ لظهورِه. فأما حديثُ: "إذا رأيتمُ الرجلَ يعتادُ المسجدَ، فاشهدُوا له بالإيمانِ ". فقد خرَّجهُ أحمدُ والترمذيُّ وابنُ ماجةَ من حديثِ درَّاج، عن أبي الهيثم عن أبي سعيدٍ - مرفوعًا. وقال أحمد: هو حديثا منكرٌ. ودراجٌ له مناكيرُ. واللهُ أعلمُ.

وهذا الذي ذكرَه البخاريُّ في هذا البابِ، من الآية والحديثِ إنما يطابق التبويبَ، على اعتقادِه: أنه لا فرقَ بين الإسلامِ والإيمانِ. وأما على قولِ الأكثرينَ بالتفريقِ بينهما، فإنما ينبغي أن يُذكرَ في هذا البابِ قولُه عزَّ وجل: (وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا) . فإنَّ الجمهورَ على أنه أرادَ استسلامَ الخلقِ كلهم له وخضوعَهم، فأما المؤمنُ فيستسلمُ ويخضعُ طوعًا، وأما الكافرُ فإنه يضطرُ إلى الاستسلام عند الشدائدِ ونزولِ البلاءِ به كرهًا، ثم يعودُ إلى شركِه عندَ زوالِ ذلك كلِّه، كما أخبرَ اللَّهُ عنهم بذلكَ في مواضعَ كثيرةٍ من القرآنِ. والحديثُ الذي يطابقُ البابَ - على اختيارِ المفرقينَ بينَ الإسلام والإيمان - قولُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - - في ذكر قرينهِ من الجنِّ -: "ولكنَّ اللَّهَ أعاننِي عليه، فأسلَمُ ". وقد رُوي بضمِّ الميم وفتحِها: فمن رواهُ بضمِّها، قال: المرادُ: أي: أنا أسلمُ من شرِّه. ومن رواه بفتحها، فمنهم من فسَّره بأنه أسلمَ من كفرِه، فصار مسلمًا. وقد وردَ التصريحُ بذلكَ في روايةِ خرَّجها البزارُ في "مسندِه "، بإسنادٍ فيه ضعفٌ. ومنهم من فسَّره بأنه استسلمَ وخضعَ وانقادَ كرهًا. وهو تفسير ابنِ عيينة وغيرهِ. فيطابقُ على هذا ترجمةَ البابِ. واللَّهُ أعلم. * * *

قال المحقِّقون مِنَ العُلماءِ: كلُّ مؤمِنِ مُسلم، فإنَّ من حقَّق الإيمانَ، ورسخَ في قلبِهِ، قام بأعمالِ الإسلامِ، كما قالَ - صلى الله عليه وسلم -: "ألا وإن في الجسدِ مُضغة، إذا صلحتْ، صلَّحَ الجسدُ كلُّه، وإذا فسدتْ، فسدَ الجسدُ كلُّه، ألا وهيَ القلبُ ". فلا يتحقَّقُ القلبُ بالإيمانِ إلا وتنبعِثُ الجوارحُ في أعمالِ الإسلامِ، وليسَ كلُّ مسلم مؤمنًا، فإنَّه قد يكونُ الإيمانُ ضعيفًا، فلا يتحقَّقُ القلبُ به تحقُّقًا تامًّا. معَ عملِ جوارحِهِ بأعمالِ الإسلامِ، فيكونُ مسلمًا وليس بمؤمنِ الإيمانَ التامَّ كما قالَ تعالَى: (قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ) ، ولم يكونُوا مُنافقينَ بالكُلَيَّةِ على أصحِّ التفسيرينِ، وهو قولُ ابنِ عباسٍ وغيرِه، بل كانَ إيمانُهم ضعيفًا، ويدلُّ عليه قولُه تعالى: (وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا) . يعني: لا ينقُصعكم من أجورِها، فدلَّ على أنَّ معهم من الإيمانِ ما تُقبلُ به أعمالُهم. وكذلك قولُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - لسعد بن أبي وقَّاص لمَّا قال له: لمْ تعطِ فلانًا وهو مؤمنٌ، فقالَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "أو مسلمٌ " يُشيرُ إلى أنَّه لم يُحقق مقامَ الإيمانِ. وإنما هو في مقامِ الإسلامِ الظَّاهرِ، ولا ريبَ أنَّه متى ضعفَ الإيمانُ الباطنُ. لزمَ منه ضعفُ أعمالِ الجوارح الظاهرةِ أيضًا، لكن اسمَ الإيمانِ يُنفى عمَّن تركَ شيئًا مِن واجباتهِ، كَمَا في قوله: "لا يزني الزاني حينَ يزني وهو مؤمن ". وقد اختلفَ أهلُ السُّنةِ: هل يُسمَّى مؤمنًا ناقصَ الإيمانِ، أو يقالُ: ليسَ

بمؤمنٍ، لكنَّهُ مسلمٌ، على قولينِ، وهمَا روايتانِ عن أحمدَ. وأمَّا اسمُ الإسلامِ، فلا ينتفِي بانتفاءِ بعضِ واجباتِهِ، أو انتهاكِ بعضِ محرَّماتِهِ، وإنما يُنفَى بالإتيانِ بما يُنافيهِ بالكُلِّيَّةِ، ولا يُعرَفُ في شيءٍ من السُّنَّةِ الصَّحيحةِ نفيُ الإسلامِ عمَّن تركَ شيئًا من واجباتِهِ، كما يُنفَى الإيمانُ عمَّن تركَ شيئًا من واجباتِهِ، وإنْ كانَ قد وردَ إطلاقُ الكُفرِ على فعلِ بعضِ المحرَّماتِ، وإطلاقُ النِّفاقِ أيضًا. واختلفَ العلماءُ: هل يُسمَّى مرتكبُ الكبائرِ كافرًا كفرًا أصغر أو منافقًا النِّفاق الأصغرَ، ولا أعلمُ أنَّ أحدًا منهم أجازَ إطلاقَ نفي اسم الإسلامِ عنهُ. إلا أنه رُوي عن ابنِ مسعودٍ أنَّه قالَ: ما تاركُ الزكَاةِ بمسلم. ويُحتملُ أنَّه كان يراه كافرًا بذلكَ، خارجًا عنِ الإسلام. وكذلكَ رُوي عن عمرَ فيمن تمكَّن مِنَ الحجِّ، ولم يحجَّ أنهم ليسُوا بمسلمينَ، والظَّاهرُ أنَّه كانَ يعتقدُ كفرَهم، ولهذا أرادَ أن يضربَ عليهمُ الجزيةَ، يقولُ: لم يدخُلُوا في الإسلامِ بعدُ، فهُم مستمرُّونَ على كتابيتِهِم. وإذا تبيَّن أنَّ اسمَ الإسلامِ لا ينتفي إلا بوجودِ ما ينافيهِ، ويُخرجُ عن الملَّةِ بالكلِّيَّةِ، فاسمُ الإسلامِ إذا أُطلِقَ أو اقترنَ به المدحُ، دخلَ فيهِ الإيمانُ كلُّه منَ التَّصديقِ وغيرِه. وخرَّج النَّسائيُّ مِن حديثِ عقبةَ بنِ مالكٍ أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - بعثَ سريَّةً،

فغارت على قوم، فقال رجل منهم: إنِّي مُسلم، فقتلُه رجل منَ السَّريَّة. فنُمي الحديثُ إلىَّ رَسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -، فقال فيه قولاً شديدًا، فقال الرجلُ: إنَّما قالها تعوُّذًا مِنَ القتلِ، فقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "إن اللَّه أبَى عليَّ أن أقتلَ مؤمنًا" ثلاثَ مرَاتٍ. فلولا أنَّ الإسلامَ المطلقَ يدخُلُ فيه الإيمانُ والتَّصديقُ بالأصول الخمسةِ، لم يصِر من قال: "أنا مسلم" مؤمنًا بمجرَّدِ هذا القول، وقد أخبرَ اللَّه تعالى عن ملكةِ سبإٍ أنها دخلتْ في الإسلامِ بهذهِ الكلمةِ وقالت: (رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (44) . وأخبرَ عن يوسفَ عليه السَّلامُ أنه دعَا بالموتِ على الإسلامِ. وهذا كلُّه يدلُّ على أنَّ الإسلامَ المطلقَ يدخُلُ فيهِ ما يدخلُ في الإيمان مِنَ التَّصديق. وفي "سننِ ابنِ ماجةَ " عن عدي بنِ حاتمٍ، قال: قال لي رسول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: "يا عديُّ، أسلمْ تسلمُ! ، قلتُ: وما الإسلامُ؟ قال: "تشهدُ أنْ لا إله إلا الله، وتشهدُ أني رسولُ اللَّه، وتؤمنُ بالأقدارِ كلِّها، خيرِها وشرِّها حلوِها ومرِّها". فهذا نصّ في أنَّ الإيمانَ بالقدرِ مِنَ الإسلامِ. * * *

سورة (ق)

سُورَةُ (ق) قوله تعالى: (إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ (17) مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18) وقد قال كثير من السلف في قول اللَّه عز وجل: (إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ (17) : إن الذي عن اليمينِ كاتبُ الحسناتِ، والذي عن الشمالِ كاتبُ السيئاتِ، منهم: الحسنُ، والأحنفُ بنُ قيسٍ، ومجاهد، وابنُ جريج، والإمامُ أحمدُ. وزادَ ابنُ جريج، قالَ: إن قعدَ فأحدُهُما عن يمنيِهِ، والآخرُ عن شمالِهِ. وإن مَشَى فأحدُهُما أمامَهُ والآخرُ خلفَهُ، وإن رقدَ فأحدُهُما عندَ رأسِهِ والآخرُ عند رجليهِ. وعلى هذا، فقد يخلو اليمينُ عن الملكِ إذا مَشى أو رقدَ. وحديثُ أبي أمامةَ فيه أن الذي على الشمالِ هو القرينُ. يريد به: الشيطانَ الموكل بالعبدِ، كما في "صحيح مسلم " عن ابن مسعودٍ، عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، قالَ: "ما منكُم من أحد إلا وقد وُكَل به قرينُهُ من الجن وقرينُه من الملائكة". قالوا: وإياك يا رسولَ اللَّهِ؟ قالَ: "وإياي، ولكنَّ الله أعانني عليه، فلا يأمُرُني إلا بخير ".

وقد وردَ في حديثٍ خرَّجهُ الطبرانيُّ من حديثِ أبي مالكٍ الأشعريِّ - مرفوعًا -: "إنَّ القرينَ هو كاتبُ السيئاتِ ". وإسنادُه شاميٌّ ضعيف. * * * قالَ اللَّهُ عز وجلَّ: (إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ (17) مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18) . وقد أجمعَ السَّلفُ الصَّالحُ على أنَّ الذي عن يمينه يكتُبُ الحسناتِ، والذي عن شماله يكتبُ السيئات، وقد رُويَ ذلكَ مرفوعًا من حديث أبي أمامةَ بإسنادٍ ضعيف. وفي "الصحًيح " عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: "إذا كانَ أحدُكُم يُصلِّي، فإنه يُناجي ربَّه والملكُ عن يمينهِ ". ورُويَ من حديثِ حُذيفةَ مرفوعًا: "إنَّ عن يمينِهِ كاتبُ الحسناتِ ". واختلفُوا: هل يكتبُ كلَّ ما تكلَّم به، أو لا يكتبُ إلا ما فيه ثواب أو عِقاب؟ على قولينِ مشهورينِ. وقال عليٌّ بنُ أبي طلحةَ عن ابنِ عباس: يُكتبُ كلُّ ما تكلمَ به من خيرٍ أو

شرٍّ حتى إنه ليكتبُ قولَهُ: أكلتُ وشربتُ، وذهبتُ وجئتُ، حتى إذا كانَ يومُ الخميسِ عُرضَ قولُه وعملُه، فأقرَّ منه ما كانَ فيه من خيرٍ أوشرٍّ، وألقى سائرَهُ، فذلكَ قولُه تعالى: (يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ (39) . وعن يحيى بنِ أبي كثيرٍ، قالَ: ركبَ رجل الحمارَ، فعثرَ بهِ، فقال: تعسَ الحمارُ، فقالَ صاحبُ اليمينِ: ما هيَ حسنة أكتُبُها، وقال صاحبُ الشمالِ: ما هي سيئة فأكتبها، فأوحَى اللَّه إلى صاحبِ الشمالِ: ما تركَ صاحبُ اليمينِ من شيء، فاكتبهُ، فأثبتَ في السيئاتِ "تَعِسَ الحمارُ". وظاهرُ هذا أنَّ ما ليسَ بحسنةٍ، فهو سيئة، وإن كانَ لا يُعاقبُ عليها، فإنَّ بعضَ السيئاتِ قد لا يُعاقبُ عليهَا، وقد تقعُ مكفَّرةً باجتنابِ الكبائرِ، ولكنَّ زمانَها قد خسرهُ صاحبُها حيثُ ذهبتْ باطلاً فيحصلُ له بذلكَ حسرةٌ في القيامةِ وأسفٌ عليه وهو نوعُ عقوبةٍ. * * * وروى عليٌّ بنُ أبي طلحةَ، عن ابنِ عباسٍ في قولهِ عز وجلْ (مَا يَلْفِط مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) ، قال: يُكتبُ كلُّ ما تكلَّم به من خيرٍ وشرٍّ، حتَّى إنَّه ليُكتبُ قولُه: أكلتُ، وشربتُ، وذهبتُ، وجئتُ، ورأيتُ، حتَّى إذا كانَ يومُ الخميسِ عُرضَ قولُه وعملُه فأقِرُّ منه ما كانَ فيهِ من خيرٍ أو شرٍّ

وأُلقيَ سائرُه، فذلكَ قولُه تعالى: (يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ (39) خرَّجه ابنُ أبي حاتم وغيرُه. فهذا يدُلُّ على اختصاصِ يومِ الخميسِ بعرضِ الأعمال لا يوجدُ في غيرهِ. وكانَ إبراهيمُ النَّخعِيُّ يبكي إلى امرأتِهِ يومَ الخميسِ وتبكي إليه، ويقول: اليومَ تُعرضُ أعمالُنا على اللهِ عزَّ وجلَّ. فهذا عرضٌ خاصٌّ في هذينِ اليومينِ غيرُ العرضِ العامِّ كل يوم، فإنَّ ذلكَ عرضٌ دائمٌ كلَّ يوم بكرةً وعشيَّا. ويدل على ذلك ما في "الصحيحين " عن أبي هريرةَ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: "يتعاقبُونَ فيكُم ملائكة بالليلِ، وملائكةٌ بالنَّهارِ. فيجتمعونَ في صلاةِ الصّبح، وصلاةِ العصرِ، فيسألُ الذينَ باتوُا فيكُم، وهو أعلمُ: كيفَ تركتُم عِبادي؟ فيقولونَ: أتيناهُم وهم يُصلُّون، وتركنَاهُم وهم يُصلُّون ". وفي "صحيح مسلم " عن أبي موسى الأشعريِّ، قال: قامَ فينا رسول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بخمسِ كلماتٍ، فقال: "إنَّ اللَّه لا ينامُ، ولا ينبغِي له أن ينامَ، يخفضُ القسطَ ويرفعه، يُرفعُ إليه عملُ الليلِ قبلَ النهارِ وعملُ النَّهار قبلَ الليلِ، حجابُه النورُ، لو كشفه لأحرقتْ سُبحاتُ وجههِ ما انتهَى إليه بصرُه من خلقِهِ ". ويُروى عن ابنِ مسعود، قال: إنَّ مقدارَ كُلِّ يوم من أيامكم عند ربكم ثنتا عشرةَ ساعةً، فتُعرضُ عليه أعمالُكُم بالأمسِ أوَّل النَّهارِ اليومَ، فينظرُ فيها ثلاثَ ساعات، وذكر باقيهُ. كان الضحَّاكُ يبكِي آخرَ النَّهارِ، ويقول: لا أدري ما رُفعَ من عملِي. يا مَن عملُه معروضٌ على مَن يعلمُ السِّر وأخفى، لا تُبهرجْ فإنَّ

قوله تعالى: (وما أنا بظلام للعبيد (29)

النَّاقِدَ بصيرٌ. السُّقمُ على الجِسم لهُ تردادُ. . . والعُمرُ مضَى وزلَّتي تزدادُ ما أبعدَ شُقَّتِي وما لي زَادُ. . . ما أكثرَ بهرجي ولي نقَّاد * * * قوله تعالى: (وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (29) فقوله - صلى الله عليه وسلم - فيما يرويهِ عن ربِّه: "يا عبادِي إنِّي حرمتُ الظُّلمَ على نفسِي ". يعني: أنَّه منعَ نفسَهُ من الظلم لعباده، كمَا قالَ عزَّ وجلَّ: (وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (29) ، وقالَ: (وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ) . وقال: (وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ) . وقال: (وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) . وقال: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا) . وقال: (إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّة) . وقال: (وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا (112) . والهضمُ: أن يُنقَصَ من جزاءِ حسناتِهِ، والظُّلمُ: أن يُعاقب بذنوبِ غيرِه، ومثلُ هذا كثيرٌ في القرآنِ. وهو مما يدلُّ على أنَّ اللَّهَ قادرٌ على الظلم، ولكنَّهُ لا يفعلُه فضلاً منه وجُودًا، وكرمًا وإحسانا إلى عبادِهِ. وقد فسرَ كثيرٌ من العلماءِ الظلمَ: بأنه وضعُ الأشياءِ في غيرِ موضِعِهَا. وأمَّا من فسَّره بالتَّصرُّفِ فِي ملك الغيرِ بغيرِ إذنِهِ - وقد نقلَ نحوه عن إياسِ ابنِ معاويةَ وغيرِه - فإنهم يقولون: إنَّ الظُّلْمَ مستحيلٌ عليه، وغيرُ متصوَرٍ في حقِّه، لأن كلَّ ما يفعلُه فهو تصرُّف في ملكه، وبنحو ذلكَ أجابَ أبو الأسودِ

قوله تعالى: (هذا ما توعدون لكل أواب حفيظ (32) من خشي الرحمن بالغيب وجاء بقلب منيب (33)

الدؤليُّ لعمران بنِ حصينٍ حين سألهُ عن القدرِ. وخرَّج أبو داودَ، وابنُ ماجةَ من حديث أبي سنانٍ سعيدِ بنِ سنانٍ، عن وهب بنِ خالدٍ الحمصيِّ، عن ابنِ الدَّيلميًّ أنَّه سمعَ أُبيَّ بنَ كعبٍ يقولُ: لو أنَّ اللًّهَ عذَّب أهلَ سماواتِهِ وأهلَ أرضهِ؛ لعذَّبهُم وهو غيرُ ظالمٍ لهُم، ولو رحمهُم، لكانتْ رحمتُه خيرًا لهم من أعمالِهِم. وأنه أتى ابنَ مسعودٍ، فقالَ لهُ مثلَ ذلكَ، ثم أتى زيدَ بن ثابت، فحدَّثه عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - بمثلِ ذلك. وفي هذا الحديثِ نظرٌ، ووهبُ بنُ خالدٍ ليسَ بذاكَ المشهورِ بالعلم، وقد يُحملُ على أنَّه لو أرادَ تعذيبَهُم لقدَّرَ لهم ما يعذبهم عليهِ، فيكونُ غيرَ ظالم لهُم حينئذٍ. وكونه خلقَ أفعالَ العبادِ وفيها الظلمُ لا يقتضِي وصفَه بالظُّلم سبحانه وتعالى، كما أنَّه لا يُوصَفُ بسائرِ القبائح التي يفعلُها العبادُ، وهي خلقُه وتقريرُه، فإنَّه لا يُوصفُ إلا بأفعاله لا يُوصفُ بأفعال عبادِه، فإنَّ أفعالَ عبادِهِ مخلوقاتُه ومفعولاتُه، وهو لا يُوصفُ بشيءٍ منها، إنًّما يوصَفُ بما قامَ بهِ من صفاتِهِ وأفعالِهِ، واللَّهُ أعلم. * * * قوله تعالى: (هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (32) مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ (33) قوله: (وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ) ، وقال تعالى: (هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (32) مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ (33) .

وُفسِّرَ "الحفيظُ " ههُنا بالحافظ لأوامرِ اللَّهِ، وفُسِّرَ بالحافظِ لذنوبهِ حتَّى يرجعَ عنهَا، وكلاهُما يدخلُ في الآية. ومن حفظَ وصيَة اللَّهِ لعبادِهِ وامتثَلهَا فهوَ داخل أيضًا، والكلُّ يرجعُ إلى معنى واحدٍ. وقد وردَ في بعضِ ألفاظِ حديثِ يومِ المزيدِ في الجنةِ، "أن اللَّهَ تعالَى يقولُ ْلأهلِ الجنةِ، إذا استدعاهُم إلى زيارتِهِ وكشفَ لهم الحجَب: "مرحبًا بعبادي الذين حفظُوا وصيَّتي، ورعَوا عهدِي، وخافوني بالغيبِ، وكانُوا منِّي على كلِّ حالٍ مشفقينَ ". فأمرُه - صلى الله عليه وسلم - لابنِ عباسٍ أن يحفظَ اللَّهَ، يدخلُ فيهِ هذا كلُّه. ومن أعظم ما يجبُ حفظُه من المأموراتِ الصلواتُ الخمسُ. قالَ اللَّه تعالى: (حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَئ) . وقال تعالى: (وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ) . وقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "من حافظَ عليها كانَ له عندَ اللَّهِ عهدًا أن يدخلَهُ الجنةَ". الحديث. وفي حديثٍ آخرَ: "من حافظَ عليهنَّ كنَّ له نورًا وبرهانًا ونجاةً يومَ القيامةِ". الحديث.

وكذلكَ الطهارةُ، فإنها مفتاحُ الصلاةِ، وقالَ النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا يحافظُ على الوضوءِ إلا مؤمنٌ ". ومما أمرَ اللَّهُ بحفظه الأيمانُ، لما ذكرَ كفارةَ اليمينِ قالَ: (ذَلِكَ كفارَة أَيْمَانِكُمْ إِذَا حلَفْتمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ) ، فإن الأيمانَ كثيرًا ما تقع من الناسِ وموجباتها مختلفةٌ. فتارة يجبُ فيها كفارةُ يمين، وتارةً يجبُ بها كفارة مغلظة، وتارةً يلزمُ بها المحلوفُ عليهِ من طلاق ونحوِه. فمن حفظَ أيمانَهُ دلَّ على دخولِ الإيمانِ في قلبِهِ. وكانَ السلفُ كثيرًا يحافظونَ على الأيمانِ. فمنهم من كانَ لا يحلفُ باللَّهِ ألبتَّة، ومنهم من كانَ يتورعُ حتى يكفرَ فيما شكَّ فيه من الحنثِ. ووصى الإمامُ أحمدُ رحمه اللَّه عند موتِهِ أن يخرجَ عنه كفارةُ يمينٍ. وقال: أظنُّ أنِّي حنثتُ في يمينٍ حلفتُها. وقد رُويَ عن أيوبَ عليه السلامُ أنه كان إذا مرَّ باثنينِ يحلفانِ باللَّهِ ذهب فكفرَ عنهُما، لئلا يأثمانِ وهما لا يشعرانِ. ولهذا لما حلفَ على ضربِ امرأتِهِ مائةَ جلدةٍ، أفتاهُ اللَّهُ بالرخصةِ لحفظِهِ لأيمانِهِ وأيمانِ غيرِه. وقد اختلفَ العلماءُ: هل تتعدَّى الرخصةُ إلى غيرِه أم لا؟ وقال يزيدُ بنُ أبي حبيبٍ: بلغَنِي أنَّ من حملةِ العرشِ من يسيلُ من عينيهِ أمثالُ الأنهارِ من البكاءِ، فإذا رفعَ رأسَهُ قالَ: سبحانكَ ما تُخشَى حقَّ خشيتكَ، فيقولُ اللَهُ تعالى: لكن الذينَ يحلفونَ باسمي كاذبينَ

لا يعلمونَ ذلكَ. وقد وردَ التشديدُ العظيمُ في الحلفِ الكاذبِ باللَّهِ، ولا تصدرُ كثرةُ الحلفِ باللَّهِ إلامن الجهلِ باللَّهِ تعالَى، وقلةِ هيبتهِ في الصدورِ. ومما يلزمُ المؤمن حفظَهُ رأسهُ وبطنَهُ، كما في حديثِ ابنِ مسعودٍ - رضي الله عنه - المرفوع: "الاستحياءُ من اللَّهِ حقَّ الحياءِ أن يحفظَ الرأسَ وما وعَى، ويحفظَ البطنَ وما حوَى". خرَّجهُ الإمامُ أحمدُ والترمذيُّ. وحفظُ البطنِ وما حَوى: يتضمُن حفظَ القلبِ عن الإصرارِ على محرمٍ. وقد جمَع اللَّهُ ذلكَ كلَّه في قولِه تعالى: (إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا (36) . ويدخلُ في حفظِ البطنِ وما حَوى: حفظُه من إدخالِ الحرامِ إليهِ من المأكولاتِ والمشروباتِ. ومما يجبُ حفظُه من المنهياتِ: حفظُ اللسانِ والفرج. وفي حديثِ أبي هريرةَ - رضي الله عنه -: "من حفظ ما بين لحييهِ وما بينَ رجليهِ دخلَ الجنةَ". خرَّجه الحاكم. وخرَّجه البخاريُّ من حديثِ سهلِ بنِ سعدٍ - رضي الله عنه - عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ولفظه: "من يضمنُ لي ما بينَ لحييهِ ورجليهِ، أضمنُ له الجنةَ". وفي "مسند الإمام أحمد" عن أبي موسى عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "من حفظَ ما بين فقميه وفرجيهِ دخلَ الجنةَ".

وقد أمرَ اللَّهُ بحفظِ الفرج خاصةً ومدحَ الحافظين له قالَ اللَّهُ تعالى: (قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فروجَهُمْ) . وقال تعالى: (وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهًمْ وَالْحَافِظَاتِ) . وقال تعالى: (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) . وقد روى عن أبي إدريس الخولاني أن أول ما وصَّى اللَّهُ آدمَ عندَ إهباطه إلى الأرضِ بحفظِ فرجِهِ، وأن لا يضعَهُ إلا في حلالٍ. * * * وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "يحفظكَ " يعني: أنَّ من حفظَ حدودَ اللَّهِ، وراعَى حقوقَه، حفظَهُ اللَّهُ، فإنَّ الجزاءَ من جنسِ العملِ، كمَا قالَ تعالى: (أَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكمْ) ، وقال: (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ) . وقال: (إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصرْكُمْ) . وحفظُ اللَّهِ لعبدِهِ يدخلُ فيه نوعانِ: أحدُهما: حفظُه له في مصالح دنياهُ، كحفظِهِ في بدنِهِ وولدِهِ وأهلِهِ ومالِهِ. قالَ اللَّهُ عزَ وجلَّ: (لَهُ مُعَقِّبَاتٌ منْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ) . قال ابنُ عباسٍ: هم الملائكةُ يحفظونَهُ بأمرِ اللَّهِ فإذَا جاءَ القدرُ خلَّوا عنهُ. وقال عليٌّ - رضي الله عنه -: إنَّ مع كلِّ رجل ملكينِ يحفظانِهِ مما لم يقدَّر فإذا جاءَ القدرُ خلَّيا بينهُ وبينهُ، وإنَّ الأجل جُنَّة حصينة.

وقال مجاهدٌ: ما مِن عبدٍ إلا له ملكٌ يحفظُه في نومِهِ ويقظتِهِ من الجن والإنسِ والهوامِّ، فما من شيءٍ يأتيهِ إلا قالَ: وراءَك، إلا شيئًا أذنَ اللَّهُ فيه فيصيبُهُ. وخرَّج الإمامُ أحمدُ، وأبو داودَ، والنسائيُّ من حديثِ ابنِ عمرَ، قالَ: لم يكنْ رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يدعُ هؤلاءِ الدَّعواتِ حين يُمسي وحين يُصبحُ: "اللهمَّ إني أسألُكَ العافية في الدنيا والآخرةِ، اللهمَّ إني أسألك العفوَ والعافيةَ في ديني ودنيايَ وأهلِي ومالِي، اللهمَّ استُر عورتي، وآمن روعاتي، واحفظنِي من بين يديَ ومن خلِفي. وعن يميني وعن شالِي ومن فوقِي، وأعوذُ بعظمتِكَ أن أُغتَالَ من تحتِي ". ومَن حفظَ اللَّهَ في صباهُ وقوتِه، حفظَهُ اللَهُ في حالِ كبرهِ وضعفِ قوّته. ومتَّعهُ بسمعِهِ وبصر وحولهِ وقوَّته وعقلِهِ. كان بعضُ العلماءِ قد جاوزَ المائةَ سنة وهو ممتَّعٌ بقوَّته وعقلِهِ، فوثب يومًا وثبةً شديدةً، فعُوتبَ في ذلكَ، فقالَ: هذه جوارحُ حفظناهَا عن المعاصِي في الصِّغر، فحفظَهَا اللَّهُ علينا في الكبرِ. وعكسُ هذا: أن بعضَ السلف رأى شيخًا يسألُ الناسَ، فقالَ: إن هذا ضيَّع اللَّهَ في صغرِه، فضيَّعهُ اللَّهُ في كبره. وقد يحفظُ اللَّهُ العبدَ بصلاحِهِ بعدَ موتِهِ في ذريَته، كَما قِيل في قولِه تعالى: (وَكَانَ أَبوهُمَا صَالِحًا) : إنَّهما حُفظا بصلاح أبيهما. قال سعيدُ بن المسيب لابنِهِ: لأزيدن في صلاتِي مِن أجلكَ، رجاءَ أن

أُحفظَ فيكَ، ثم تلا هذه الآية: (وَكَانَ أَبوهُمَا صَالِحًا) . وقالَ عُمرُ بنُ عبدِ العزيزِ: ما منْ مؤمنٍ يموتُ إلا حفظَهُ اللَّهُ في عقبِهِ وعقبِ عقبهِ. وقال ابنُ المنكدرِ: إن اللَّهَ ليحفظُ بالرجلِ الصالح ولدَه وولدَ ولده والدويراتِ التي حولَهُ، فما يزالونَ في حفظٍ من اللَّهِ وسترٍ. ومتى كانَ العبدُ مشتغلاً بطاعةِ اللَّهِ، فإن اللَّهَ يحفظُهُ في تلكَ الحالِ، وفي "مسندِ الإمامِ أحمدَ" عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قالَ: "كانتِ امرأةٌ في بيتٍ، فخرجتْ في سريَّة من المسلمينَ، وتركتْ ثنتي عشرة عنزا وصيصيتها كانتْ تنسجُ بِهَا، قالَ: ففقدتْ عنزًا لها وصيصيتها، فقالتْ: يا ربِّ، إنَّكَ قد ضَمنتَ لمنْ خرجَ في سبيلِكَ أن تحفظَ عليهِ، وإنِّي قد فَقدتُ عنزًا من غنمِي وصيصيتِي، وإنِّي أنشُدُكَ عنزِي وصيصيتي ". قالَ: وجعلَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يذكر شدَّة مناشدتِهَا ربَّها تباركَ وتعالَى، قال رسول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: "فأصبحت عنزُها ومثلُها، وصيصيتُها ومثلُها ". والصيصيةُ: هي الصِّنارةُ التي يُغزلُ بها ويُنسجُ. فمن حفظَ اللَّهَ حفظهُ اللَّهُ من كلِّ أذى. قال بعضُ السلفِ: من اتقى اللَّهَ، فقد حفظَ نفسَهُ، ومن ضيَع تقواهُ، فقد ضيَّع نفسَهُ، واللهُ الغنيّ عنهُ. ومن عجيبِ حفظِ اللَّه لمن حفظَهُ أن يجعلَ الحيواناتِ المؤذيةِ بالطبع حافظةً له من الأذَى، كما جرى لسفينةَ مولَى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - حيث كُسرَ به المركبُ، وخرج إلى جزيرة، فرأى الأسدَ، فجعلَ يمشِي معهُ حتَّى دلَّه على الطريقِ، فلمَّا أوقفَهُ عليها، جعلَ يُهمهِمُ كأنَّه يُودِّعُهُ، ثم رجعَ عنه.

ورُوي أنَّ إبراهيمَ بنَ أدهم كانَ نائمًا في بستانٍ وعنده حيةٌ في فمها طاقةُ نرجسٍ، فما زالت تذبُّ عنه حتَّى استيقظ. وعكسُ هذا، أن من ضيعَ اللَّه، ضيَّعهُ اللَّهُ، فضاع بين خلقِهِ حتى يدخلَ عليه الضررُ والأذى ممنَ كانَ يرجُو نفعَهُ من أهلهِ وغيرِهم، كما قالَ بعضُ السلفِ: إني لأعصِي اللَّهَ، فأعرِفُ ذلكَ في خُلُقِ خادمِي ودابتي. النوعُ الثانِي من الحفظِ: وهو أشرفُ النوعينِ: حفظُ اللَّهِ للعبدِ في دينهِ وإيمانهِ، فيحفظُه في حياتِه من الشبهاتِ المُضِلَّةِ، ومن الشهواتِ المحرَّمةِ. ويحفظُ عليه دينه عند موتِهِ، فيتوفاه على الإيمانِ. قال بعضُ السلفِ: إذا حضرَ الرجلُ الموتَ يقالُ للملكِ: شمَّ رأسَهُ، قالَ: أجدُ في رأسِهِ القرآنَ، قالَ: شمَّ قلبه، قال: أجد في قلبهِ الصيامَ، قال: شمَّ قدميهِ، قالَ: أجد في قدميه القيامَ، قالَ: حفظَ نفسَه، فحفظهُ اللَّهُ. وفي "الصحيحينِ " عن البراءِ بن عازبٍ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنه أمرَهُ أن يقولَ عندَ منامِهِ: "إن قبضتَ نفسِي، فارحمْهَا، وإنْ أرسلتَها، فاحفظهَا بما تحفظُ به عبادَك الصالحينَ ". وفي حديثِ عمرَ أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - علَّمَهُ أن يقولَ: "اللَّهمَّ احفظِني بالإسلام قائمًا، واحفظِني بالإسلامِ قاعِدًا، واحفظنِي بالإسلامِ راقِدًا، ولا تُطعْ فيَّ عدوًّا ولا حاسِدًا". خرَّجَه ابنُ حبانَ في "صحيحه ". وكان النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يودع من أرادَ سفرًا، فيقولُ: "أستودع الله دينكَ وأمانتَكَ وخواتِيمَ عملك "،

وكان يقولُ: "إن اللهَ إذَا استُودِعَ شيئا حفظهُ ". خرَّجَهُ النسائيُّ وعيره وفي الجملةِ، فإنَّ اللَّهَ عزَّ وجلَّ يحفظُ على المؤمنِ الحافظِ لحدودِ دينهِ. ويحُولُ بينه وبين ما يُفسدُ عليه دينَه بأنواع منَ الحفظ، وقد لا يشعرُ العبدُ ببعضِهَا، وقد يكونُ كارِهًا له، كما قالَ في حقِّ يوسُف عليه السلام: (كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ) . قال ابنُ عباسٍ في قوله تعالَى: (أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ) . قال: يحولُ بين المؤمنِ وبين المعصيةِ التي تجرهُ إلى النارِ. وقال الحسنُ - وذكرَ أهلَ المعاصِي -: هانُوا عليهِ، فعَصوْه، ولو عزُّوا عليه لعصمَهُم. وقال ابنُ مسعودٍ: إنَّ العبدَ ليهمُّ بالأمرِ من التجارةِ والإمارةِ حتى يُيسر لهُ. فينظرُ اللَهُ إليه فيقولُ للملائكةِ: اصرفوه عنهُ، فإنهُ إن يسرتُهُ له أدخلتُه النارَ، فيصرفه اللَّهُ عنهُ، فيظلُّ يتطيَّرُ يقولُ: سبقنِي فلانٌ دهانِي فلان، وما هو إلا فضلُ اللَّهِ عزَّ وجلَّ. وخرَّج الطبرانيُّ من حديثِ أنسٍ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: " يقولُ اللَهُ عزَّ وجلَّ: إن من عبادِي من لا يُصلحُ إيمانَهُ إلا الفقرُ، وإن بسطتُ عليه أفسدَهُ ذلكَ، وإن من عبادِي من لا يصلحُ إيمانَه إلا الغِنى، ولو أفقرتُه، لأفسدَهُ ذلكَ، وإنَّ من عبادِي من لا يصلحُ إيمانَهُ إلا الصّحَّةُ، ولو أسقمتُهُ لأفسدَهُ ذلكَ، وإنَّ من عبادِي مَن لا يصلحُ إيمانُه إلا السقمُ،

قوله تعالى: (ولقد خلقنا السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام وما مسنا من لغوب (38)

ولو أصححتُهُ لأفسدَهُ ذلكَ، وإن من عبادِي من يطلبُ بابَا من العبادةٍ فأكفُّه عنهُ، لكيلا يدخلهُ العُجبُ، إني أدبرُ عبادِي بعلمِي بما في قلوبِهِم، إنِّي عليمٌ خبيرٌ. * * * قوله تعالى: (مَّنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ) قال الفضيلُ في قولِهِ تعالى: (مَّنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ) قال: "هو الرجلُ يذكرُ ذنوبَهُ في الخلاءِ فيستغفرُ اللهَ منهَا". * * * قوله تعالى: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ (38) وقال الحكمُ: سُئِل أبو مجلز عن الرجلِ يضعُ إحْدَى رجليهِ على الأُخْرَى؟ فقالَ: لا بأسَ بِهِ، إنَما هذا شيء قالهُ اليهودُ: إن اللَّهَ لَمَّا خَلقَ السماواتِ والأرضَ استراحَ، فجلسَ هذه الجلسةَ، فأنزلَ اللَّهُ عز وجل: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ (38) . خرَّجه أبو جعفر ابنُ أبي شيبةَ في "تاريخِهِ ". وقد ذكرَ غيرُ واحدِ من التابعينَ: أنَّ هذهْ الآيةَ نزلت بسببِ قولِ اليهود: إنَّ اللَّهَ خلقَ السماواتِ والأرضَ في ستةِ أيامِ ثم استراحَ في اليومِ السابع. منهُم: عِكرمةُ وقتادةُ.

فهذا كلامُ أئمةِ السلفِ في إنكارِ ذلكَ ونسبتهِ إلى اليهودِ، وهذا يدلُّ على أن الحديثَ المرفوعَ المرويّ في ذلكَ لا أصلَ لرفعِهِ، وإنَّما هو متلقى عن اليهودِ، ومَن قالَ: إنَّه على شرطِ الشيخينِ فقدْ أخطأ. وهو من روايةِ محمدِ بنِ فُليح بنِ سليمانَ، عن أبيهِ، عن سعيدِ بنِ الحارثِ، عن عُبيدِ بنِ حُنين: سمعَ قتادةَ بنَ النعمانِ يحدثُهُ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - بمعنى قولِ أبي مُجلز. وفي آخرِه: وقالَ عزَّ وجل: " إنها لا تصلحُ لبشر". وعُبيد بنُ حُنين، قيلَ: إنه لمْ يسمعْ من قتادةَ بنِ النعمانِ -: قالَهُ البيهقيُّ. وفُليحٌ، وإن خرَّج له البخاريُّ فقد سبقَ كلامُ أئمةِ الحفاظِ في تضعيفِهِ. وكان يحيى بنُ سعيدٍ يقشعِرُّ من أحاديثِهِ، وقال أبو زُرعةَ - فيما رواه عنه سعيد البرذعيّ -: فُليحٌ واهي الحديثِ، وابنُهُ محمدٌ واهي الحديثِ. ولو كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يروِي عن ربِّه أنه قالَ: "إنها لا تصلحُ لبشرٍ" لم يفعله رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -، ولو كان قد انتسخ فِعله الأول بهذا النهي لم يستمر على فعله خلفاؤه الراشدون الذين هم أعلمُ أصحابهِ به، وأتبعهم لهديه وسنته. وقد رُوي عن قتادَة بنِ النعمانِ من وجهٍ آخر منقطع، من روايةِ سالمٍ أبي النضر، عن قتادةَ بنِ النعمانِ - ولم يدركْهُ -، أنه رَوَى عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، أنه نهى عن ذلكَ. خرَّجه الإمامُ أحمد. وهذا محتملٌ، كما رواه عنه جابرٌ وغيرُه. فأما هذه الطَّامةُ، فلا تحتملُ أصلاً.

وقد قيلَ: إن هذا مما اشتبهَ على بعضِ الرواةِ فيه ما قالَهُ بعضُ اليهود. فظنه مرفوعًا فرفَعَهُ، وقد وَقَعَ مثلُ هذا لغيرِ واحدٍ من متقدمِي الرواةِ، وأُنكرَ ذلك عليهِم، وأنكرَ الزبيرُ على من سَمِعَهُ يحدثُ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وقالَ: إنَّما حكاه النبي - صلى الله عليه وسلم - عن بعضِ أهلِ الكتابِ. فرَوَى مسلمُ بنُ الحجاج في "كتابِ التفصيلِ" والبيهقيُّ في "المدخلِ " من روايةِ ابنِ أبي الزِّناد، عن هشامِ بن عُروةَ، عن عبدِ اللهِ عُروةَ، عن عُروةَ. أن الزبيرَ سمع رجلاً يحدثُ حديثًا عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، فاستمعَ الزبيرُ له، حتَى إذا قَضَى الرجلُ حديثَه قال لهُ الزبيرُ: أنتَ سمعتَ هذا من رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -؟ قال الرجلُ: نعم. فقالَ الزبيرُ: هذا وأشباهه مما يمنعَنا أن نحدثَ عن رسولِ اللَّه - صلى الله عليه وسلم -، قد - لعمرِي - سمعتُ هذا من رسولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وأنا يومئذٍ حاضر، ولكنَّ رسولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ابتدأ هذا الحديثَ، فحدثناهُ عن رجلٍ من أهلِ الكتابِ حدَّثه إياه، فجئتَ أنتَ بعد أن تقضَّى صدرُ الحديثِ وذكرُ الرجلِ الذي من أهلِ الكتابِ، فظننتَ أنه من حديث رسولِ اللَّه - صلى الله عليه وسلم -. وروى مسلمٌ - أيضًا - في "كتابِ التفصيلِ " بإسنادٍ صحيح، عن بُكيرِ ابنِ الأشَج، قالَ: قال لنا بُسر بنُ سعيدٍ: أيها الناسُ، اتقوا الله، وتحفظُوا في الحديثِ، فواللَّهِ لقد رأيتُنَا نجالسُ أبا هريرةَ، فيحدثنا عن رسول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -. ويحدثُنا عن كعبٍ، ثم يقومُ، فأسمعُ بعضَ من كانَ معنا يجعلُ حديثَ رسول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عن كعب، ويجعل حديثَ كعبٍ عن رسولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -.

ولو ذكرنا الأحاديثَ المرفوعةَ التي أُعِلَّت بأنها موقوفة: إمَّا على عبدِ اللَّهِ بن سلام، أو على كعبٍ، واشتبهتْ على بعضِ الرواةِ فرفَعَها، لطالَ الأمرُ. * * *

سورة الذاريات

سُورَةُ الذَّارِيَاتِ قوله تعالى: (وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ (22) وقال سفيانُ الثوريُّ: قرأ واصِلٌ الأحدبُ هذه الآية: (وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ) ، فقالَ: ألا إنَّ رزقي في السماءِ وأنا أطلبُه في الأرضِ؟ فدخل خَربةً، فمكث ثلاثا لا يُصيب شيئًا، فلمَّا كان اليومُ الرابعُ، إذ هو بدوخَلَّةٍ من رُطَبٍ، وكانَ له أخ أحسن نيةً منه، فدخلَ معه فصارتَا دوخَلَتينِ، فلم يزلْ ذلك دأبُهما حتَّى فرَّق الموتُ بينهما. * * * قوله تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) إن اللَّهَ تعالى خلقَ الخلقَ وأوجدَهُم لعبادَتِهِ الجامعةِ لخشيتهِ ورجائه ومحبتهِ كما قال تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) . وإَنَّما يُعبدُ اللَّهُ سبحانه بعد العلم به ومعرفتهِ، فبذلكَ خلقَ السمواتِ والأرضَ وما فيهما للاستدلالِ بهمَا على توحيدِهِ وعظمتِهِ كما قالَ تعالَى: (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا (12) . وقد عُلِمَ أنَّ العبادةَ إنما تُبنى على ثلاثةِ أصول: الخوفِ، والرجاءِ، والمحبةِ.

وكلٌّ منهما فرضٌ لازِم، والجمعُ بين الثلاثةِ حتم واجبا، فلهذا كانَ السلفُ يذمونَ من تعبَّدَ بواحدٍ منها وأهملَ الآخَرَينِ، فإن بدعَ الخوارج ومن أشبهَهُم إنما حدثتْ من التشديدِ في الخوفِ والإعراضِ عن المحبةِ والرجاءِ. وبدعُ المرجئةِ نشأتْ من التعلقِ بالرجاءِ وحدَهُ والإعراض عن الخوفِ، وبدعُ كثيرٍ من أهلِ الإباحةِ والحلول ممن يُنسبُ إلى التعبدِ نشأتْ من إفرادِ المحبةِ والإعراضِ عن الخوفِ والرجاءِ. وقد كثُرَ في المتأخرينَ المنتسبينَ إلى السلوكِ تجريدُ الكلامِ في المحبةِ وتوسيعُ القول فيها بما لا يُساوي على الحقيقةِ مثقال حبةٍ، إذ هو عار عن الاستدلال بالكتابِ والسنةِ، وخال من ذكرِ كلامِ مَنْ سلفَ من سلفَّ الأمةِ وأعيانِ الأئمةِ، وإنَّما هو مجردُ دعاوى، قد تُشرِفُ بأصحابِهَا على مَهَاوِي، وربما استشهدُوا بأشعارِ عشاقِ الصورِ، وفي ذلكَ ما فيه من عظيم الخطرِ، وقد يحكونَ حكاياتِ العشاقِ، ويشيرونَ إلى التأدبِ بما سلكُوه من الآدابِ والأخلاق، وكل هذا ضررُه عظيمٌ، وخطرُه جسيم، وقد يكثِر ذكرَ المحبةِ. ويعيدُها ويبديها مَنْ هو بعيدٌ عن التلبسِ بمقدماتِها ومبادِيها، وما أحسنَ قول ذي النونِ رحمه اللَهُ تعالى وقد ذُكِرَ عنده الكلامُ في المحبةِ فقال: "اسكُتُوا عن هذه المسألةِ لا تسمعُهَا النفوسُ فتدَّعِيها"، فإن النفوسَ ممتلثة من الكبرِ والفخرِ والغرورِ، "والمتشبعُ بمما لم يُعطَ كلابسِ ثوبي زور". وكثير ما تقترنُ دعوى المحبةِ بالشطح والإدلال وما ينافي العبوديةَ من الأقوال والأفعال. * * *

سورة النجم

سُورَةُ النَّجْم قوله تعالى: (أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (59) وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ (60) وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ (61) وقدْ أفْتَى قاضي القضاةِ أبو بكرٍ محمدُ بنُ المظفرِ الشاميُّ الشافعيُّ - وكانَ أحدَ العُلماءِ الصَّالحينَ الزُّهادِ، الحاكمينَ بالعدلِ وكانَ يُقالُ عنْهُ: لو رُفِعَ مذهبُ الشافعيِّ من الأرضِ لأمْلاهُ من صدرِه - بتحريمِ الغناءِ، وهذه صورةُ فُتياهُ بحروفِهَا، قال: لا يجُوزُ الضربُ بالقضيبِ ولا الغناءُ ولا سماعُه، ومن أضافَ هذا إلى الشافعيِّ فقدْ كذبَ عليهِ. وقد نصَّ الشافعيّ في كتابِ "أدبِ القضاءِ": أنَّ الرجلَ إذا داوَم على سماع الغناءِ، رُدّتْ شهادته، وبطلتْ عدالتُه. وقال اللَّه تعالى: (أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (59) وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ (60) وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ (61) . قاِل ابنُ عباسٍ: معناه تُغَنُّون بلغةِ حِمير. وقال اللَّهُ عزَّ جلَّ: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ) جاءَ في التفسير: أنه الغناءُ والاستماعُ إليهِ. ورُوي عن رسُول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قالَ: "إن اللهَ كَرِهَ صوتينِ أحمقَينِ فاجِرَينِ: صوتٌ عند نعمة، وصوتٌ عندَ مصيبة". يُريد بذلكَ الغناءَ والنوحَ. وقال ابنُ مسعود: الغناًءُ خِطبةُ الزِّنا. وقالً مكحول: الغناءُ ينبتُ النفاقَ في القلبِ، كما ينبتُ السَّيلُ البقْلَ. واللَّه أعلم.

هذا جوابُ محمدِ بنِ المظفرِ الشاميّ الشافعيِّ. ثم كتبَ بعدَهُ موافقةً له على فُتياه، جماعةٌ من أعيانِ فقهاءِ بغدادَ: من الشافعيةِ والحنفيّةِ والحنبليَّةِ في ذلكَ الزَّمانِ، وهو عصرُ الأربع مائةَ. وهذا يخالفُ قولَ كثيرٍ من الشافعيَّةِ، في حمل كلامِ الشافعي على كراهةِ التنزيهِ. والمعنى المقتضِي لتحريمِ الغناءِ: أنَّ النفوسَ مجبولة على حُبِّ الشهواتِ. كما قالَ تعالى: (زُيِنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النسَاءِ) الآية، فجعلَ النساءَ أوّلَ الشهواتِ المزينةِ. والغناءُ المشتملُ على وصفِ ما جُبلتِ النفوسُ على حبِّه، والشَّغفِ به - من الصُّوَر الجميلةِ - يُثيرُ ما كمنَ في النفوسِ من تلك المحبّةِ ويُشوِّقُ إليها، ويُحرِّكُ الطبعَ ويزعجُه، ويخرجُه عن الاعتدالِ. ويؤُزُّه إلى المعاصِي أزًّا. ولهذا قِيل: إنه رقيةُ الزنا. وقد افتُتن بسماع الغناء، خلقٌ كثيرٌ فأخرَّجَهُم استماعُه إلى العشقِ، وفُتنوا في دينهِم، فلو لم يرِد نصٌّ صريح في تحريمِ الغناءِ بالشعرِ الذي تُوصفُ فيه الصُّورُ الجميلة لكانَ محرَّمًا بالقياسِ على النظرِ إلى الصُّورِ الجميلةِ التي يحرمُ النظرُ إليها بالشهوةِ، بالكتابِ والسنةِ وإجماع من يُعتدُّ به من علماءِ الأمةِ. فإنَّ الفتنةَ كَما تحصُلُ بالنظرِ والمشاهدةِ، فكذلك تحصُلُ بسماع الأوصافِ. واجتلائِها من الشعرِ الموزونِ المحرك للشهواتِ. ولهذا نهى النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أن تصفَ المرأةُ المرأةَ لزوجها، كأنّه ينظرُ إليها. لِمَا يُخشى من ذلكَ من الفتنةِ. وقد جعلَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - زِنا العينينِ النظرَ. وزنا الأذنينِ الاستماع. وقالَ أبو هريرةَ - رضي الله عنه -: ثلاث فاتناتٌ مُفتناتٌ يُكببنَ في

النارِ: رجلٌ ذُو صور حسنة، فاتنٌ مفتونٌ به يُكبُّ في النار، ورجلٌ ذو شعر حسن، فاتن مفتون به يُكَمث في النارِ، ورجل ذو صوت حسن، فاتن مفتون به يُكبُّ في النارِ. خرَّجَه حميد بن زنجويه في "كتابِ الأدَّبَ ". * * *

سورة القمر

سُورَةُ القَمَرِ قوله تعالى: (إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ (47) يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (48) ومن أنواع عذابِهم سحبُهم في النَّارِ على وجوهِهم، قالَ اللَّهُ تعالى: (إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ (47) يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (48) . وقالَ تعالى: (فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (70) إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ (71) فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ (72) . قالَ قتادةُ: يسحبُونَ في النارِ مرةً وفي الحميم مرةً، وقالَ تعالى: (يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا (66) . وقالَ قتادةُ: قالَ ابنُ عباس (صَعُودًا) : صخرة في جهنمَ يُسحَبُ عليها الكافرُ على وجهِه. وقالَ كعب: يقولُ اللَّهُ عزَّ وجلَّ للإمامِ الجائرِ: (خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (30) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (31) . فيُسحَبُ على وجهِه في النَّارِ، فينتثرُ لحمهُ وعظامُه ومخهُ. وقالَ ثابتٌ أبو زيد القيسيُّ، عن عاصم الأحول، عن أبي منصورٍ مَولى سليم أن ابنَ عباس قالَ: (يُسْحَبُونَ (71) فِي الْحَمِيمِ) . قالَ أبو زيدٍ: أُراه قالَ: ينسلخُ كل شيءٍ عليه من جلدٍ ولحم وعروق وأعصابٍ حتَى

يصيرَ في عقبيهِ جسدٌ من لحمِهِ مثلُ طولِه، وطولُهُ ستونَ ذراعًا، ثمَّ يُكسَى جلدًا آخرَ، ثمَّ يسجرُ في الحميم. خرَّجُه كلَّه ابنُ أبي حاتمٍ. * * *

سورة الرحمن

سُورَةُ الرَّحْمَنِ قوله تعالى: (رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ (17) إنَّ الشتاء له مشرقٌ ومغربٌ، والصيفَ كذلك، ولهذا ثَنَّاهما اللَّه تعالى في قولِهِ: (رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ (17) . وجمعَهما في قولهِ: (بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ) ، باعتبار مشارق الشتاءِ والصيفِ والخريفِ والربيع؛ فإن لكلِ يومٍ من السنةِ مطلعًا مشرقًا خاصا ومغربًا خاصا. وأفردَهما في قوله: (رَبُ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ) ، باعتبار الجنسِ. * * * قوله تعالى: (وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ (46) وقد ضمِنَ اللَّهُ سبحانَهُ الجنةَ لمن خافَهُ من أهلِ الإيمانِ، فقالَ تعالَى: (وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ (46) قال مجاهد: في هذه ِ الآية: اللَّهُ قائمٌ على كلِّ نفسٍ بما كسبتْ، فمن أرادَ أن يعملَ شيئًا فخافَ مقامَ ربِّه عليه، فله جنتان. وعنه أنه قال: هو الرجلُ يذنبُ فيذكرُ مقامَ اللَّهِ فيدعهُ. وعنه قال: هو الرجلُ يهمُّ بالمعصيةِ فيذكرُ اللَّهَ فيترُكُها.

وقال عليٌّ بنُ أبي طلحةَ عن ابنِ عباسٍ: وعد اللَّهُ المؤمنينَ الذين خافُوا مقامَهُ وأدَّوا فرائِضَهُ الجنةَ. وعن الحسنِ، قالَ: قالتِ الجنةُ: يا ربِّ لمنْ خلقْتني، قالَ: لمن يعبدُني وهو يخافُني. وقال يزيدُ بنُ عبدِ اللهِ بنِ الشخيرِ: كنَّا نحدَّثُ أنَّ صاحبَ النارِ الذي لا تمنعُهُ مخافةُ اللَّهِ من شيءٍ خفي له. وعن وهبِ بنِ منبهٍ، قال: ما عُبدَ اللَّهُ بمثلِ الخوفِ. وقال أبو سليمانَ الدارانيُّ: أصلُ كل خيرٍ في الدنيا والآخرةِ الخوفُ من اللَّهِ عزَّ وجل، وكلُّ قلب ليسَ فيه خوفُ اللَّهِ فهو قلب خربٌ. وقال وهيبُ بنُ الوردِ: بلغنا أنَّه ضُرب لخوفِ اللَّهِ مثل في الجسدِ، قيلَ: إنما مثلُ خوفِ اللَهِ، كمثلِ الرجلِ يكونُ في منزلِهِ فلا يزالُ عامِرًا ما دامَ فيه رتُه، فإذا فارقَ المنزلَ ربُّه وسكنَهُ غيرُه خربَ المنزلُ، وكذلكَ خوفُ اللَّهِ تعالَى، إذا كانَ في جسدٍ لم يزلْ عامِرًا ما دامَ فيه خوفُ اللَهِ، فإذا فارقَ خوفُ الله الجسدَ خربَ، حتى إنَّ المار يمرُّ بالمجلسِ من الناسِ فيقولونَ: بِئسَ العبدُ فلان، فيقولُ بعضُهم لبعضٍ: ما رأيتم منه؟ فيقولونَ: ما رأينا منه شيئًا غيرَ أنَا نبغضه، وذلك أن خوفَ اللَّهِ فارقَ جسدَه، وإذا مر بهم الرجلُ فيه خوفُ اللَّهِ، قالُوا: نِعْمَ واللهِ الرجلُ، فيقولونَ: أيَّ شيءٍ رأيتم منه؟ فيقولونَ: ما رأينا منه شيئًا غيرَ أنَّا نحته. وقال الفضيلُ بنُ عياضٍ: الخوفُ أفضلُ من الرجاءِ ما كَانَ الرجلُ صحيحًا، فإِذا نزلَ الموتُ فالرجاءُ أفضلُ.

وسُئلَ ابنُ المبارك عن رجلينِ، أحدُهما خائفٌ والآخرُ قتيلٌ في سبيلِ اللَّهِ عز وجل، قال: أحبُّهما إلىَّ أخوفُهُما. * * *

سورة الواقعة

سُورَةُ الوَاقِعَةِ قوله تعالى: (إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (1) لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ (2) خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ (3) وقال محمدُ بن كعبٍ القُرظِيُّ في قولهِ تَعالى: (إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (1) لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ (2) خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ (3) . قال: تخفض رجالاً كانُوا في الدّنيا مرتفعينَ، وترفعُ رجالاً كانوا في الدُّنيا مخفوضين. * * * قوله تعالى: (وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ (41) فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ (42) وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ (43) لَا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ (44) قالَ اللَّهُ تعالى: (وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ (41) فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ (42) وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ (43) لَا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ (44) . قالَ ابنُ عباسٍ؛ ظلٌّ من دخانٍ، وكذا قالَ مجاهدٌ وعكرمةُ وغيرُ واحدٍ. وعن مجاهدٍ قالَ: ظل من دخانِ جهنمَ، وهو السَّمُومُ؛ وقالَ أبو مالكٌ: اليحمومُ: ظلٌّ من دخانِ جهنمَ. قالَ الحسنُ وقتادةُ في قولهِ: (لَا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ) لا باردُ المدخلِ، ولا كريمُ المنظرِ؛ والسَّمُومُ: هو الريحُ

الحارةُ، قالَه قتادةُ وغيرُه. وهذه الآية ُ تضمنتْ ذكرَ ما يُتبردُ به في الدُّنيا من الكربِ والحرِّ وهو ثلاثة: الماءُ والهواءُ والظلُّ، فهواءُ جهنمَ: السمومُ وهو الريحُ الحارَةُ الشديدةُ الحرِّ، وماؤُها الحميمُ الذي قدْ اشتدَّ حرُّهُ، وظلُّها اليحمومُ وهو قطعُ دخانِها، أجارَنا اللهُ من ذلك كلِّه بكرمِه ومنِّه. وقالَ تعالى: (انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلَاثِ شُعَبٍ) . قالَ مجاهد: هو دخانُ جهنمَ: اللهبُ الأخضرُ والأسودُ والأصفرُ الذي يعلو النَّارُ إذا أُوقِدتْ. قالَ السديُّ في قولهِ: (إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ) ، قال: زعمُوا أن شررَها ترمي به، كأصولِ الشجرِ ثمَّ يرتفعُ فيمتدُّ. وقالَ القرظيُّ: على جهنمَ سور فما خرج من وراءِ سورِها يخرجُ منها في عظم القصورِ ولونِ القارِ. وقال الحسنُ والضحاكُ في قوله: (كالْقَصْرِ) هو كأصولِ الشجرِ العظامِ. وقالَ مجاهد: قطعُ الشجرِ والجبلِ. وصحَّ عن ابنِ مسعودٍ قالَ: شرر كالقصورِ والمدائنِ. ورَوى عليٌّ بنُ أبي طلحةَ عن ابنِ عباسٍ قالَ: (بِشَرَرٍ كالْقَصْرِ) يقولُ: كالقصرِ العظيم. وفي "صحيح البخاريّ " عن ابنِ عباس، قالَ: كنا نرفعُ من الخشبِ بقصرِ ثلاثةَ أذرع أو أقلَّ نرفعُه للشتاءِ، نُسميه القصرَ. وقولُه: (كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ صُفْرٌ) ، قالَ ابنُ عباسٍ: حبالُ السفنِ يُجمَعُ بعضُها إلى بعضٍ تكونُ كأوساطِ الرجالِ. وقالَ مجاهد: هي حبالُ الجسورِ،

وقالتْ طائفة: هي الإبلُ، منهم الحسنُ وقتادةُ والضحاكُ، وقالوا: الصفرُ هي السودُ. ورُوي عن مجاهدٍ أيضا. وقالَ عليٌّ بنُ أبي طلحةَ عن ابنِ عباسٍ في قولهِ: (جِمَالَتٌ صُفْرٌ) يقولُ: قِطَعُ النحاسِ. قال اللَّهُ عزَّ وجلَّ: (يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ) . قال عليٌّ بنُ أبي طلحةَ عن ابنِ عباسٍ (شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ) يقولُ: لهبُ النَّارِ (وَنُحَاسٌ) يقولُ: دخانُ النارِ. ْ وكذا قالَ سعيدُ بنُ جبيرٍ وأبو صالح وغيرُهما إنَّ النحاسَ: دخانُ النَارِ. وقالَ سعيدُ بنُ جبيرٍ عن ابنِ عباس (شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ) قالَ: دخانٌ. وقال أبو صالح: الشواظُ: اللهبُ الذي فوقَ النَّارِ ودونَ الدخانِ. قالَ منصور عن مجاهدٍ: الشواظُ: هو اللهب الأخضرُ المتقطعُ. وعنه قالَ: الشواظُ: قطعة من النَّارِ فيها خُضرة. قالَ الحسينُ بنُ منصورٍ: أخرج الفضيلُ بنُ عياضٍ رأسه من خوخةٍ فقالَ منصورٌ عن مجاهدٍ: (يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فَلا تَنتَصِرَانِ) ، ثمَّ أدخلَ رأسَه فانتحَب ثم أخرجَ رأسَه، فقالَ: هو اللهبُ المنقطعُ ولم يستطعْ أنْ يجيزَ الحديثَ. وخرَّجَ النسائيُّ والترمذيُّ من حديثِ أبي هريرةَ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "لا يجتمعُ غباز في سبيلِ اللَّهِ ودخانُ جهنمَ في جوفِ امرئ أبدًا "،

قوله تعالى: (ثم إنكم أيها الضالون المكذبون (51) لآكلون من شجر من زقوم (52) فمالئون منها البطون (53) فشاربون عليه من الحميم (54) فشاربون شرب الهيم (55)

وخرَّج الإمامُ أحمد من حديثِ أبي الدرداءَ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - نحوَه. * * * قوله تعالى: (ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ (51) لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ (52) فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ (53) فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ (54) فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ (55) هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ (56) قالَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ: (ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ (51) لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ (52) فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ (53) فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ (54) فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ (55) هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ (56) . والنُّزلُ هو ما يعُدُّ للضيفِ عندَ قدومهِ، فدلتْ هذه الآياتُ على أنَّ أهلَ النَّارِ يتحفُونَ عند دخولهِا بالأكلِ من شجرةِ الزقومِ والشربِ من الحميم، وهم إنَّما يُساقُونَ إلى جهنمَ عِطاشًا، كما قالَ تعالى: (وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا) . قال أبو عمرانَ الجوني: بلغنا أنَّ أهلَ النَّارِ يبعثُون عِطاشًا ثمَّ يقفُونَ مشاهدَ القيامةِ عِطَاشًا، ثمَّ قَرا: (وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا) قال مجاهد في تفسيرِ هذه الآيةِ: متقطعةٌ أعناقُهم عَطَشًا. وقالَ مطرٌ الوراق: عطَاشًا: ظمَاءً. وفي "الصحيحينِ " عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديثِ الشفاعة الطويل: "إنَّه يقالُ

لليهودِ والنصارى: ماذا تبغُون؟ فيقولُون: عَطِشْنا ربَّنا فاسقِنا، فيُشارُ إليهم ألا تردِونَ فيُحشرونَ إلى جهنمَ كأنَهما سرابٌ يحطمُ بعضُها بعضا، فيتساقطُونَ في النَّارِ". وقالَ أيوبُ عن الحسنِ: ما ظنُكَ بقومِ قاموا على أقدامِهم خمسينَ ألفَ سنةِ لم يأكُلوا فيها أكلةً ولم يشربُوا فيها شربةً حتَّى انقطعتْ أعناقُهم عطشًا واحترقتْ أجوافُهم جُوعًا، ثُمَّ انصرفَ بهم إلى النَّارِ فيُسقَونَ من عينٍ آنيةٍ قدْ آنَ حرُّها واشتدَّ نضجُها. ورَوى ابنُ المبارك بإسناده عن كعبٍ، قالَ: إنَّ اللَّهَ ينظرُ إلى عبدهِ يومَ القيامةِ وهو غضبانٌ، فيقولُ: خذُوه، فيأخذه مائة ألفِ ملكٍ أو يزيدُون. فيجمعون بينَ ناصيتهِ وقدميه غضبًا لغضبِ اللَهِ، فيسحبونه على وجههِ إلى النَّارِ، قالَ: فالنَّارُ أشدّ عليه غضبًا من غضبهم سبعينَ ضعفًا. قال: فيستغيثُ بشرْبَةٍ، فيُسقى شربةً يسقطُ منها لحمُه وعصبُه، ثمَّ يركسُ - أو يدكسُ - في النَّارِ، فويلٌ لها من النَّارِ. قال ابنُ المباركِ: حُدثتُ عن بعضِ أهلِ المدينةِ أنَّه يتفتتُ في أيديهم إذا أخذُوه فيقولُ: ألا ترحمُوني، فيقولُون: كيفَ نرحمُك ولمَ يرحمك أرحمُ الراحمِينَ. وروى الأعمشُ عن مالكِ بن الحارثِ، قال: إذا طُرحَ الرجلُ في النارِ هوى فيها، فإذا انتهى إلى بعضِ أبوابها قيلَ: مكانَك حتَّى تُتْحَفَ، قال: فيسُقى كأسًا من سُمِّ الأساودِ والعقاربِ، فيتميزُ الجلدُ على حدةٍ، والشعرُ على حدةٍ، والعصبُ على حدةٍ، والعروقُ على حدةِ. خرَّجَه ابنُ أبي حاتمٍ. وروى محمدُ بنُ سليمانَ بنِ الأصبهانيّ، عن أبي سنانَ ضرار بنِ مرة،

عن عبدِ اللَّه بنِ أبي الهذيلِ، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قالَ: "إنَّ جهنمَ لما سِيقَ إليها أهلُها تلقتهُم فلفحتهُم لفحةً، فلم تدع لحمًا على عظم إلا ألقته على العرقوبِ " خرَّجَه الطبرانيُّ ورفْعُه منكرٌ، فقد رواه ابنُ عيينة عن أبي سنانَ عن عبدِ اللَّهِ بنِ أبي الهذيلِ أو غيرهِ من قولهِ لم يرفعْه. ورواه محمدُ بنُ فضيل عن أبي سنانَ عن عبدِ اللَّهِ بنِ أبي الهذيلِ عن أبي هريرةَ من قولهِ في قولهِ تعالى: (لَوَّاحَةٌ للْبَشَرِ) ، قالَ: تلقاهُم جهنمُ يومَ القيامةِ فتلفحُهم لفحةً، فلا تتركُ لحما على عظمٍ إلا وضعتْهُ على العراقيبِ. * * * وأما شرابُهم فقالَ اللَّهُ تعالى: (فَشَارِبونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيم) وقالَ تعالى: (وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ (15) . وقالَ تعالى: (لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا (24) إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا (25) . وقالَ تعالى: (هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ (57) وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ (58) . وقالَ تعالى: (وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ (16) يَتَجَرَّعُهُ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ) . وقالَ تعالى: (وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا (29) . فهذه أربعةُ أنواع ذكرناها من شرابِهم، وقد ذكرَها اللَّهُ في كتابهِ: النوعُ الأولُ: الحميمُ - قال عبدُ اللَّهِ بنُ عيسى الخراز، عن داودَ، عن عكرمةَ، عن ابنِ عباس: الحميمُ الحارُّ الذي يحرق.

وقال الحسنُ والسديُّ: الحميمُ الذي قد انتهى حرُّهُ. وقال جويبر عن الضحاكِ: يُسقى من حميم يُغلى من يومِ خلقَ اللَّهُ السماواتِ والأرضَ إلى يومِ يُسقَونَه ويُصبُّ على رؤوسِهم. وقالَ ابنُ وهب عن ابن زيد: الحميمُ دموعُ أعينهم في النارِ يجتمعُ في حياض النارِ فيُسْقَونَه. وقال تعالى: (يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ) . قال محمدُ بنُ كعبٍ: حميم أن: حاضرٌ، وخالفَه الجمهورُ، فقالوا: بل المرادُ بالآن: ما انتهى حرُّه. وقال شبيبٌ، عن عكرمَة، عن ابنِ عباسٍ: حميم آنٍ: الذي قد انتهى غليُه. وقال سعيدُ بنُ بشيرٍ عن قتادةَ: قد آنَ طبخُه، منذُ خلقَ اللَّه السماواتِ والأرضَ، وقالَ تعالى: (تسْقَى مِنْ عَيْن آنِيَة) ، قال مجاهدٌ: قد بلغَ حرُّها، وحانَ شربُها. وعن الحسنِ، قالَ: كانت العربُ تقولُ للشيءِ إذا انتهى حرُّهُ حتى لا يكون شيء أحرَّ منه: قد آنَ حرُّهُ، فقالَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ: (مِنْ عَينٍ آنِيَة) يقول: قد أوقدَ اللَّهُ عليها جهنمَ منذُ خُلقتْ، وآنَ حرُّها. وعنه قال: آنَ طبخُها منذُ خلقَ اللَّهُ السمواتِ والأرضَ. وقال السديُّ: انتهى حرُّها، فليس بعدَه حرٌّ. وقد سبقَ حديثُ أبي الدرداء، في دفع الحميم إليهم بكلاليبِ الحديدِ. النوع الثاني: الغسَّاقُ - قال ابنُ عباسٍ: الغسَّاقُ: ما يسيلُ من بينِ جلدِ

الكافرِ ولحمهِ. وعنه قال: الغسَّاقُ: الزمهريرُ الباردُ، الذي يحرقُ من بردهِ. وعن عبدِ اللَّه بنِ عمرٍو قال: الغسَّاقُ: القيحُ الغليظُ، لو أنَّ قطرةً منه تُهرقُ في المغربِ، لأنتنتْ أهلَ المشرقِ، ولو أُهرِقَتْ في المشرقِ، لأنتنتْ أهلَ المغربِ. وقال مجاهدٌ: غسَّاق: الذي لا يستطيعُون أنْ يذوقُوه من بردِه. وقال عطيةُ: هو ما يغسِقُ من جلودِهم - يعني يسيلُ من جلودِهم. وقال كعب: غسَّاق: عينٌ في جهنم يسيلُ إليها حمة كلُّ ذاتِ حمةٍ، من حيةٍ وعقربٍ وغيرِ ذلك، فيستنقعُ؛ فيؤتَى بالآدَمي، فيُغمسُ فيها غمسةً واحدةً، فيخرجُ وقد سقطَ جلدُه ولحمُه عن العظامِ؛ ويتعلقُ جلدُه ولحمُه في عقبيهِ وكعبيهِ، ويجر لحمَه، كما يجر الرجلُ ثوبَه. وقال السديُّ: الغسَّاق: الذي يسيلُ من أعينهِم من دموعِهم، يُسقونَه معَ الحميمِ. وروى دراجٌ، عن أبي الهيثم، عن أبي سعيدٍ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: " لو أن دلوًا من غسَّاقٍ، يُهرَقُ في الدنيا، لأنتنَ أهلَ الدُّنيا" خرَّجَه الإمامُ أحمدُ والترمذيُّ والحاكمُ وصححَه. وقال بلال بنُ سعدٍ: لو أنَّ دلوًا من الغسَّاقِ، وُضعَ على الأرضِ، لماتَ مَنْ عليها. وعنه قال: لو أنَّ قطرةً منه، وَقَعتْ على الأرضِ، لأنتن مَن فيها. خرَّجَه أبو نُعيمٍ.

وقدْ صرحَ ابنُ عباسٍ في رواية عنه، ومجاهد، بأنَّ الغسَّاق ههنا هو الباردُ الشديدُ البردِ. ويدلُّ عليه قولُه تعالى: (لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا (24) إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا (25) . فاستثنى من البردِ الغسَّاقَ ومن الشرابِ الحميمَ. وقد قيل: إن الغسَّاقَ هو الباردُ المنتن، وليس بعربيّ. وقيل: إنَّه عربيّ، وإنه فَعّال من غسَقَ يَغسِقُ، والغاسقُ: الليلُ، وسُميَ غاسقًا لبردِه. النوع الثالث: الصَّدِيدُ: - قال مجاهد في قولِه تعالى: (وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ) . قال: يعني القيحَ والدَّمَ، وقالَ قتادةُ: (وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ) قال: ما يسيلُ من بينِ لحمِه وجلدهِ؛ قالَ: (يَتَجَرَّعُهُ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ) . قالَ قتادةُ: هلْ لكُم بهذا يدانِ، أم لكُم على هذا صبر؟ طاعةُ اللَّهِ أهونُ عليكُم - يا قوم - فأطيعُوا اللَّهَ ورسولَه. وخرَّج الإمامُ أحمدُ والترمذيُّ، من حديثِ أبي أمامةَ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، في قوله: (وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ (16) يَتَجَرَّعُهُ) . قال: يقربُ إلى فيه فيكرعُهُ، فإذا أُدني منه، شَوى وجهَه، ووقعت فروةُ رأسِه؛ فإذا شَرِبه قطَّعَ أمعاءَه، حتَّى يخرجَ من دبرِه، يقولُ اللَّهُ تعالى: (وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَعَ أَمْعَاءَهُمْ) . وقال: (وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا (29) .

وروى أبو يحيى القتات، عن مجاهدٍ، عن ابنِ عباسٍ قالَ: في جهنَم أوديةٌ من قيع تكتازُّ ثمَّ تُصَبُّ في فِيهِ. وفي "صحيح مسلم " عن جابر عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "إن على اللهِ عهدًا لمن شَرِبَ المسكراتِ ليسقِيَه من طينةِ الخبالِ ". قالوا: يا رسولَ اللَّهِ: وما طينةُ الخبَالِ؟ قال: "عَرَقُ أهلِ النارِ أو عُصَارَةُ أهلِ النارِ. وخرَّج الإمامُ أحمدَ والنسائيُ وابنُ ماجةَ وابنُ حبانَ في "صحيحه " من حديثِ عبدِ اللَهِ بنِ عمرِو بنِ العاصِ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - نحوَه، إلا أنَّه ذكرَ ذلك في المرةِ الرابعةِ، وفي بعضِ الرواياتِ "مِنْ عينِ الخبالِ ". وخرَّج الترمذيُّ من حديثِ عبدِ اللَّه بنِ عمرَ نحوَه عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - إلا أنَّه قال: "من نهرِ الخبالِ ". قِيلَ: يا أبا عبدِ الرحمنِ ما نهرُ الخبال؟ قالَ: نهرٌ من صديدِ أهلِ النَّارِ. وقالَ: حديثٌ حسنٌ. وخرَّج أبو داود من حديثِ ابنِ عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - نحوَه، وقالَ: "من طينةِ الخبالِ " قِيلَ: يا رسولَ اللَّهِ ما طينةُ الخبالِ؟ قالَ: "صديدُ أهلِ النَّارِ". وفي روايةٍ أُخرى قالَ: "ما يخرجُ من زهومة أهلِ النارِ وصديدهم ". وخرَّجَ الإمامُ أحمدَ بمعناه أيضًا من حديثِ أبي ذرٍّ وأسماءَ بنتِ يزيد عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -. وخرَّج الإمامُ أحمدَ وابنُ حبانَ في "صحيحهِ " من حديثِ أبي موسى

عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "مَنْ ماتَ وهو مدمنُ خمرٍ سقَاه اللَّهُ من نهرِ الغوطةِ"، قِيلَ: * وما نهرُ الغوطةِ؟ قال: "نهرٌ يخرجُ من فروج المومساتِ يؤذي أهلَ النَّارِ نتن فروجِهم ". وقد سبقَ حديثُ عمرِو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في المتكبرين وفيه: "يسقون من عصارة أهل النار طينة الخبال ". النوعُ الرَّابعُ: الماءُ الذي كالمهلِ، خرَّج الإمامُ أحمد والترمذيُّ من حديثِ دراج عن أبي الهيثم عن أبي سعيدٍ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في قولهِ: (كَالْمُهْلِ) قال: "كعكرِ الزيتِ، فإذا قربَ إلى وجههِ سقطتْ فروة وجههِ فيه ". قالَ عطيةُ: سُئِلَ ابنُ عباسٍ عن قولهِ: (كَالْمُهْلِ) قال: غليظٌ كدردي الزيتِ، قال عليٌّ بنُ أبي طالب عن ابنِ عباسٍ: أسود كمهلِ الزيتِ؛ وكذا قالَ سعيدُ بنُ جبيرٍ وغيرُه. قالَ الضحاكُ: أذابَ ابنُ مسعودٍ فضةً من بيتِ المال ثُمَّ أرسلَ إلى أهلِ المسجدِ، فقالَ: من أحب أن ينظرَ إلى المهلِ فلينظرْ إلى هذا. وقالَ مجاهد: بماء كالمهلِ: مثلُ القيح والدمِ أسود كعكرِ الزيتِ. وخرَّج الطبرانيُّ من طريقِ تمام بنِ نجيح عن الحسنِ عن أنسٍ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: "لو أنَّ غَربًا جُعِلَ من حميم جهنمَ وجُعِلَ وسطُ الأرضِ لآذى نتن ريحهِ وشدَّةُ حرِّه ما بينَ المشرقِ والمغربِ ". وفي موعظةِ الأوزاعي للمنصورِ قال: بلغَني أنَّ جبريلَ قالَ للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم -:

قوله تعالى: (أفرأيتم ما تحرثون (63) أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون (64) لو نشاء لجعلناه حطاما فظلتم تفكهون (65) إنا لمغرمون (66) بل نحن محرومون (67)

" لوأنَّ ذَنُوبًا من شرابِ جهنمَ صُبَّ في ماءِ الأرضِ جميعًا لقتل من ذاقه ". خرجَ بعضُ المتقدمينَ فمر بكرومٍ بقرية يقال لها: طيزناباد، وكأنَّه كانَ يُعصرُ فيها الخمرُ، فأنشدَ يقول: بطيزناباد كَرْم ما مررتُ به. . . إلا تعجبتُ ممن يشربُ الماءَ فهتف به هاتف يقول: وفي جهنمَ ماءٌ ما تجرعهُ. . . حلقٌ فأبقى له في البطنِ أمعاء * * * قوله تعالى: (أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ (63) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (64) لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (65) إِنَّا لَمُغْرَمُونَ (66) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (67) أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (68) أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ (69) لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ (70) قال ابن الجوزي في "المقتبس ": سمعت الوزير يقول في قولِهِ تعالى: (لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا) ، (لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا) . قال: تأملتُ دخول اللامِ وخروجَها فرأيتُ المعنى: أنَّ اللامَ تقعُ للاستقبالِ، تقول: لأضربنَّك، أي: فيما بعدُ، لا في الحال، والمعنى: (أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ (63) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (64) لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا) أي: في مستقبلِ الزَّمان إذا تَمَّ فاستحصدَ، وذلك أشدُّ العذابِ، لأنَّها حالةُ انتهاء

قوله تعالى: (نحن جعلناها تذكرة ومتاعا للمقوين (73)

تعبِ الزراع، واجتماع الدَّيْنِ عليهِ، لرجاء القضاءِ بعدَ الحصاد مع فراغ البيوتِ من الأقواتِ. وأمَّا في الماء، فقال: (لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا) أي: الآنَ، لأنَّا لو أخَّرْنا ذلك لشربَ العطشانُ، وادَّخَرَ منه الإنسان. * * * قوله تعالى: (نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ (73) وكان من السلفِ من إذا رأَى النارَ اضطربَ وتغيرتْ حالُه، وقد قال تعالىَ (نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ (73) . قال مجاهد وغيرُه: يعني أن نارَ الدنيا تذكرُ بنارِ الآخرةِ. وقال أبو حيانَ التيمي:. سمعتُ منذُ ثلاثينَ سنة أو أكثرَ من ثلاثينَ سنة أنَّ عبدَ الله بنَ مسعودٍ مَرَّ على الذينَ ينفخُونَ على الكيرِ فسقَطَ. خرَّجَه الإمامُ أحمدُ. وخرج ابنُ أبي الدنيا من روايةِ سعدِ بنِ الأخرمِ، قال: كنتُ أمشِيَ معَ ابنِ مسعودٍ. فمرَّ بالحدادينَ وقد أخرجُوا حديدًا من النارِ، فقامَ ينظرُ إليه ويبْكِي. وعن عطاءٍ الخراسانيِّ قال: كانَ أويس القرنيُّ يقفُ على موضِع الحدادينَ فينظرُ إليه كيفَ ينفخونَ الكيرَ، ويسمعُ صوتَ النارِ فيصرخُ ثم يسقطُ. وعن ابن أبي الذبابِ: أن طلحةَ وزيدًا مرَّا بكيرِ حدادٍ فوقَفَا ينظرانِ إليه ويبكيانِ.

قال الأعمشُ: أخبرني من رأى الربيعَ بن خثيم مرَّ بالحدادينَ فنظر إلى الكيرِ وما فيه فخرَّ. وقال مطر الوراقُ: كان حممةُ وهرمُ بنُ حيانَ إذا أصبحَا غدَيا فمرَّا بأكْوِرَةِ الحدادينَ، فنظرَا إلى الحديدِ كيفَ ينفخُ، فيقفانِ ويبكيانِ، ويستجيرانِ من النارِ. وقال حمادُ بنُ سلمةَ عن ثابت: كانَ بشيرُ بنُ كعبٍ وقراءُ البصرةِ يأتونَ الحدادينَ فينظرونَ إلى شهيقِ النارِ فيتعوذونَ باللَّهِ من النارِ. وعن العلاءِ بنِ محمدٍ قالَ: دخلتُ على عطاءٍ السلميِّ فرأيتُه مغشيًّا عليه. فقلتُ لامرأتِهِ: ما شأنُه؟ قالتْ: سجرتْ جارةٌ لنا التنورَ فلمَّا نظرَ إليه غُشِيَ عليهِ. وعن معاويةَ الكنديِّ قالَ: مرَّ عطاءٌ السلميّ على صبيٍّ معهُ شعلةُ نارٍ فأصابت النارَ الريحُ، فسمعَ ذلك منها، فغشِيَ عليهِ. وقال الحسنُ: كان عمرُ - رضي الله عنه - ربَّما توقدُ له النارُ ثم يدْني يديه منهَا، ثم يقولُ: يا ابنَ الخطابِ هلْ لكَ على هذا صبرٌ. وكان الأحنفُ بنُ قيسٍ يجيءُ إلى المصباح بالليلِ فيضعُ أصبعهُ فيه، ثم يقولُ: حِس حِس، ثم يقولُ: يا حنيفُ ما حملكَ على ما صنعتَ يومَ كذا. ما حملكَ على ما صنعتَ يومَ كذا؟. وقال البختريُّ بنُ حارثةَ: دخلتُ على عابدٍ، فإذَا بين يديهِ نارٌ قد أجَّجَهَا. وهوَ يعاتبُ نفسهُ ولم يزلْ يعاتِبُها حتى ماتَ. وكانَ كثير من الصالحينَ يذكرُ النارَ وأنواعَ عذابِها برؤيةِ ما يشبُههُ بها في

الدُّنيا، أو يذكرُهُ بِهَا كرؤيةِ البحرِ وأمواجِهِ والرؤوسِ المشويةِ، وبكاءِ الأطفالِ، وفي الحرِّ والبردِ، وعند الطعامِ والشرابِ وغيرِ ذلكَ، وسنذكرُ ما تيسرَ من ذلكَ مفرَّقًا في مواضِعهِ إن شاءَ اللَّهُ تعالى. وأنَّ منهم من كانَ يذكرُ النارَ بدخولِ الحمامِ، وروى ليثٌ عن طلحة قال: انطلقَ رجلٌ ذاتَ يومٍ فنزعَ ثيابَهُ وتمرغَ في الرمضاءِ وهو يقولُ لنفسِهِ: ذوقي نارَ جهنمَ ذوقي (نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا) ، جيفةٌ بالليلِ بطالةٌ بالنهارِ، فبينا هو كذلك إذا أبصرَ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - في ظلِّ شجرةٍ فأتاهُ، فقالَ: غلبتنِي نفسِي، فقالَ له النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "ألم يكنْ لك بدٌّ من الذي صنعتَ؟ لقد فُتحتْ لك أبوابُ السماءِ، ولقد باهَى اللَهُ بكَ الملائكةَ" خرَّجهُ ابنُ أبي الدنيا وهو مرسلٌ، وخرَّجَ الطبرانيُّ نحوَهُ من حديث بريدةَ موصولاً، وفي إسناده من لا يعْرفُ حالُه. واللَّهُ أعلم. * * *. ومِن أعظم ما يُذكِّرُ بنارِ جهنمَ: النَّارُ التي في الدنيا، قال الله تعالى: (نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا للْمُقْوِينَ) ، يعني أنَّ نارَ الدُّنيا جعلها اللَّه تذكرةً تذكِّرُ بنارِ الآخرةِ. مرَّ ابنُ مسعودٍ بالحدَّادين وقد أخرجُوا حديدًا من النارِ، فوقفَ ينظرُ إليه ويبكي. ورُوي عنه: أنَّه مرَّ على الذين ينفُخُون الكيرَ فسقطَ. وكان أويس يقفُ على الحدَّادين فينظرُ إليهم كيف ينفخونَ الكيرَ، ويسمعُ صوتَ النَّار، فيصرخُ، ثم يسقُطُ. وكذلك الربيع بنُ خُثيم. وكان كثيرٌ من "التخويف من النار! (24 - 25) .

السَّلف يخرجونَ إلى الحدَّادينَ ينظرونَ إلى ما يصنعونَ بالحديدِ، فيبكونَ ويتعوَّذون باللَّهِ من النَّارِ. ورأى عطاءٌ السَّليمي امرأةً قد سجرت تنورَها، فغُشي عليه. قال الحسنُ: كانَ عمرُ رُبَّما تُوقدُ له النَّارُ، ثم يُدني يدَه منها، ثم يقول: يا ابنَ الخطاب! هل لك على هذا صبرٌ؟ كانَ الأحنفُ بنُ قيسٍ يجيءُ إلى المصباح فيضعُ أُصبعَه فيه، ويقول: حسِّ، ثمَّ يُعاتبُ نفسه على ذنوبهِ. أجَّجَ بعضُ العبَّادِ نارًا بين يديه وعاتبَ نفسه، فلم يزلْ يعاتبُها حتى مات. نارُ الدنيا جُزءٌ من سبعين جزءًا من نار جهنَّم، وغُسلَت بالبحر مرتين حتى أشرقت وخفَّ حرُّها، ولولا ذلك ما انتفعَ بها أهلُ الدُّنيا، وهي تدعو اللَّهَ ألا يعيدَها إليها. قال بعضُ السَّلف: لو أُخرجَ أهلُ النار منها إلى نار الدنيا لقالُوا فيها ألفَي عام. يعني أنهم كانُوا ينامُون فيها ويرونها بردًا. كان عمرُ يقول: أكثروا ذِكرَ النَّارِ؛ فإنَّ حرَّها شديدٌ، وإنَّ قعرها بعيدٌ. وإنَّ مقامعها حديدٌ. كان ابنُ عمر وغيرُه من السَّلف إذا شربوا ماءً باردًا بكوا وذكروا أمنيَّةَ أهل النار وأنَّهم يشتهون الماء الباردَ، وقد حيلَ بينهم وبينَ ما يشتهون، ويقولون لأهل الجنة: (أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ) ، فيقولُونَ لهم: إنَّ اللهَ قد حرَّمَهما على الكافرينَ. والمصيبةُ العُظْمى حينَ تطبُقُ النَّارُ على أهلِها، وييأسونَ من الفرج، وهو الفزعُ الأكبرُ الذي يأمنُه أهل الجنةِ (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ (101) .

لو أبصرتْ عيْنَاكَ أهلَ الشَّقَا. . . سِيقوا إلى النَّار وقَدْ أُحْرِقُوا شرابُهُمُ المُهْلُ في قَعْرِها. . . إذ خالَفُوا الرُّسْلَ وما صَدَّقُوا تقولُ أُخراهُمْ لأولاهُمُ. . . في لُجج المُهْلِ وقد اغْرِقوا قد كُنْتُمُ خُوِّفْتُمُ حَرَّها. . . لكن مِن النَيران لم تَفْرُقُوا وَجِيء بالنَيران مَذْمُومَةً. . . شَرَارُها مِنْ حَوْلِها مُحْدِقُ وقيلَ للنِّيران أنْ احْرِقي. . . وقيلَ للخُزَّان أن اطْبقُوا * * * (وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (82) [قال البخاري] : قَوْل اللَّهِ عَزَّ وَجَل: (وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ) قَالَ ابن عبَّاسٍ: شكركُمْ. قالَ آدمُ بنُ أبي إياسٍ في "تفسيره ": نا هشيمٌ، عن جعفرِ بنِ إياس، عن سعيدِ بنِ جبيرٍ، عنِ ابنِ عباسٍ، في قولِه: (وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ) أي: شكرَكم (أَنَّكُمْ تُكَذِّبونَ) قال: هو قولُهم: مُطرنَا بنوءِ كذَا وكذَا. قال ابنُ عباسٍ: وما مُطرَ قومٌ إلا أصبحَ بعضُهَم به كافرًا، يقولونَ: مُطرنا بنوءِ كذا وكذا. ثمَّ خرَّج في سببِ نزولِها من روايةِ الكلبيِّ، عن أبي صالح، عن ابنِ عباسٍ. وقد خرَّجه مسلمٌ في "صحيحه " من روايةِ عكرمةَ بنِ عمارٍ: حدثني

أبو زميلٍ: حدثني ابنُ عباس، قال: مُطرَ الناسُ علَى عهدِ رسول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -. فقالَ رسول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: "أصبحَ مِنَ الناسِ شاكرٌ ومنهم كافر قالوا: هذا رحمة وضعَها اللَّهُ، وقال بعضهم: لقد صدقَ نوءُ كذا وكذا"، فنزلتْ هذه الآية ُ: (فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ) حتَّى بلغَ (وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ) . وروى عبدُ الأعلَى الثعلبيُّ، عن أبي عبدِ الرحمنِ السلميِّ، عن عليٍّ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: (وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ) قال: "شكُرَكم، تقولُون. مُطرْنا بنوءِ كذَا وكذَا، ونجمِ كذَا وكلذَا". خرَّجَه الإمامُ أحمدُ والترمذيُّ. وقال: حسن غريبٌ، لا نعرفه - مرفوعًا - إلا من حديث إسرائيلَ، عن عبد الأعلى. ورواه سفيانُ عن عبدِ الأعلَى - نحوَه -، ولم يرفَعْه. ثم خرَّجه من طريقِ سفيانَ - موقوفًا على عليٍّ. وكان سفيانُ ينكرُ علَى مَن رفعَه. وعبدُ الأعلَى هذا، ضعَّفَه الأكثرونَ. ووثقه ابنُ معين. وخرجَ القاضِي إسماعيلُ في كتابه "أحكامُ القرآن " كلامَ ابنِ عباسٍ بالإسنادِ المتقدمِ، عن سعيدِ بنِ جبيرٍ، أن ابنَ عباسٍ كان يقرؤها: (وتجعلون شكركم) ، تقولونَ: على ما أنزلْتُ من الغيثِ والرحمةِ، تقولونَ: مُطرْنا بنوْءِ كذا وكذا. قال: فكان ذلك كفرًا منهم لِمَا أنعمَ اللَّهُ عليهم.

نا إسماعيلُ: حدَّثني مالكٌ، عن صالح بنِ كيسانَ، عنْ عُبَيدِ اللَّهِ بنِ عبدِ اللَّه بنِ عُتبَةَ بنِ مسعُوب، عن زيدِ بنِ خالدٍ الجُهنيِّ، أنَّهُ قالَ: صلَّى لنا رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - صلاةَ الصُّبح بالحديبيةِ علَى إِثْرِ سماء كانتْ من اللَّيلِ، فلمَّا انصرفَ النَبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أقبلَ علَى النَّاسِ، فقالَ: "هَلْ تَدْرُونَ مَاذَا قَالَ رَبّكُمُ؟ " قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: " أَصْبَحَ مِنْ عِبَادِي مُؤْمِنٌ بِي وكافر فأمَّا من قالَ: مُطرْنَا بفضلِ اللَّهِ ورحمتِهِ، فذلكَ مُؤْمنٌ بِي كافرٌ بالكوكَب، وأمَّا منْ قالَ: بنَوء كذَا وكذَا، فذلك كافرٌ بي مُؤْمنٌ بالكَوْكبِ". قولُه: "على إثرِ سماءٍ"، أي: مطرٍ كانَ منَ الليلِ. والعربُ تسمِّي المطرَ سماءً؛ لنزولهِ منَ السماءِ، كما قالَ بعضُهم: إِذَا نَزَلَ السَّمَاءُ بِأرْضِ قَوْمٍ. . . رَعَيْنَاهُ وَإنْ كَانُوا غِضَابًا وقولُهُ - صلى الله عليه وسلم -: "هَلْ تدرونَ ماذَا قالَ ربكمْ؟ " - وفي بعضِ الرواياتِ: "الليلةَ" - وهي تدلُّ على أن اللَّه تعالى يتكلَّمُ بمشيئَتِه واختيارِه. كما قالَ الإمامُ أحمدُ: لم يزلِ اللَّهُ متكلِّمًا إذا شاءَ. وقولُه: " أصْبَحَ مِنْ عِبَادِي مُؤْمِنٌ بِي وكافر، فأمَّا من قالَ: مُطرْنَا بفضلِ اللَّهِ ورحمتِهِ، فذلكَ مُؤْمنٌ بِي كافرٌ بالكوكَبِ، وأمَّا منْ قالَ: بِنَوءِ كذَا وكذَا، فذلك كافرٌ بي مُؤْمنٌ بالكَوْكبِ". يعني: أنَّ مَن أضافَ نعمةَ الغيثِ وإنزالهِ إلى الأرضِ إلى اللهِ عز وجل وفضلِه ورحمتهِ، فهو مؤمنٌ باللَّهِ حقًّا، ومَن أضافَه إلى الأنْواءِ، كما كانتِ الجاهليةُ تعتادُه، فهو كافر باللَّهِ، مؤمنٌ بالكوكبِ.

قال ابنُ عبدِ البرِّ: النوءُ في كلامِ العربِ: واحدُ أنْواءِ النجومِ، وبعضُهم يجعلُه الطالعَ، وأكثرهُم يجعلُه الساقطَ، وقد تسمَّى منازلُ القمرِ كلُّها أنواءً، وهي ثمانية وعشرونَ. وقال الخطابيُّ، النوْءُ واحدُ الأنواءِ، وهي الكواكبُ الثمانيةُ والعشرونَ التي هي منازلُ القمرِ، كانوا يزعمونَ أنَّ القمرَ إذا نزل ببعضِ تلكَ الكواكبِ مُطِروا، فجعل النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - سقوطَ المطرِ من فعلِ اللَّهِ دونَ غيرِه، وأبطل قولَهم. انتهى. وقال غيرُه: هذه الثمانيةُ وعشرونَ منزلاً تطلعُ كلَّ ثلاثةَ عشرَ يومًا منزلَ صلاةِ الغداةِ بالمشرقِ، فإذا طلعَ رقيبُه منَ المغربِ؛ فسمِّيت أنواءً لهذا المعنى. وهو من الأضدادِ، يقال: ناءَ إذا طلعَ، وناء إذا غربَ، وناءَ فلان إذا قربَ، وناء إذا بعدَ. وقد أجرى اللَّهُ العادة بِمَجيء المطر عند طلوع كلِّ منزلٍ منها، كما أجرى العادة بِمجيءِ الحرِّ في الصيف، والبردِ في الشتاءِ. فإضافةُ نزولِ الغيثِ إلى الأنْواءِ، إنِ اعتقدَ أنَّ الأنواءَ هي الفاعلةُ لذلك. المدبرةُ له دونَ اللَّهِ عز وجل، فقد كفرَ باللَّهِ، وأشركَ به كفرًا ينقله عن ملةِ الإسلامِ، ويصيرُ بذلك مرتدا، حكمُه حكمُ المرتدينَ عن الإسلامِ، إن كان قبل ذلك مسلمًا. وإن لم يعتقدْ ذلكَ، فظاهرُ الحديثِ يدلُّ على أنه كفرُ نعمةِ اللَّهِ. وقد سبقَ عنِ ابنِ عباس، أنه جعلَه كفرًا بنعمة اللَّهِ عزَّ وجلَّ. وقد ذكرنا في "كتابِ الإيمان " أن الكفرَ كفرانِ: كفر ينقلُ عن الملةِ، وكفر

دون ذلكَ، لا ينقلُ عن الملة، وقد بوَّب البخاريُّ عليه هنالك. فإضافةُ النِّعَم إلى غيرِ المنعم بها بالقول كفرٌ للمنعم في نعمهِ، وإن كان الاعتقادُ يخالفُ ذلك. والأحاديثُ والآثار متظاهرةٌ بذلك. وفي "صحيح مسلمٍ"، عن أبي هريرةَ، عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: "ألم تروا إلى ما قالَ ربُّكم؟ قال: ما أنعمتُ علَى عبادِي من نعمةٍ إلا أصبحَ فريقٌ منهم بها كافرينَ، يقولون: الكوكب وبالكوكب ". وروي من وجه آخر، عن أبي هريرةَ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: "إن اللَهَ عزَّ وجلَّ ليُبَيِّتُ القومَ بالنعمةِ، ثم يُصبحُونَ وأكثرُهم بها كافر لقولون: مُطِرْنا بنوْءِ كذا وكذا". وروى أبو سعيدِ الخدريُّ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: "لو أمسكَ اللَهُ القَطرَ عن الناسِ سبعَ سنينَ، ثم أرسلَه، كفرتْ طائفةٌ منهم، فقالوا: هذا من نوْءِ المِجْدَحِ ". وروى أبو الدرداء، قال: مُطرنا على عهدِ رسول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ذات ليلة، فأصبحَ رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - ورجلٌ يقول: مُطرنا بنوءِ كذا وكذا، فقال رسولُ اللَّه - صلى الله عليه وسلم -: "قَلَّمَا أنعمَ اللًّهُ علَى قومٍ نعمةَ، إلا أصبحَ كثير منهم بِها كافرينَ ". وفي "صحيح مسلمٍ"، عن أبي مالكٍ الأشعريِّ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال:

"أربعٌ في أمتِي مِن أمرِ الجاهليةِ، لا يتركونَهنُّ: الفَخْر في الأحساب، والطعنُ في الأنسابِ، والاستسقاءُ بالنجوم، والنياحةُ". وخرج البخاريُّ في "صحيحه،، من روايةِ ابنِ عيينةَ، عن عبيدِ اللَّهِ: سمعَ ابنَ عباس يقول: "خلالٌ من خلالِ الجاهليةِ: الطعنُ في الأنسابِ. والنياحةُ"، ونَسِيَ الثالثةَ: قال سفيان: ويَقُولون: إنها "الاستسقاءُ بالأنواءِ". وروي عن ابنِ عباسٍ - مرفوعًا - من وجهٍ آخر ضعيفٍ. وخرج ابنُ حبانَ في "صحيحه " - معناه - من حديثِ أبي هريرةَ - مرفوعًا. وروى ابنُ عيينَةَ، عن إسماعيلَ بنِ أمية، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سمع رجلاً في بعضِ أسفارِه يقول: مُطِرْنا ببعضِ عَثانين الأسدِ، فقال رسول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: "كذبتَ، بل هو سقي اللَّه عزَّ وجلَّ، ورزقُه ". وذكر مالكٌ، أنه بلغَه عن أبي هريرةَ، أنه كانَ يقولُ: مُطِرْنا بنوْءِ الفتح، ثم يتلو هذه الآية: (مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا) . وذكر الشافعيُّ أنه بلغه، أن عمرَ سمع شيخًا يقول - وقد مطرَ الناسُ -: أجَادَ مَا أَقْرَى المِجْدَح الليلةَ، فأنكر ذلك عمرُ عليه.

وروى ابنُ أبي الدنيا بإسنادِه، عن سلم العلويِّ، قال: كنا عند أنسٍ. فقال رجل: إنها لمخيلة للمطرِ، فقال أنس: إنها لربِّها لمطيعةٌ. يشير أنسٌ إلى أنه لا يضافُ المطرُ إلى السحابِ، بلْ إلى أمرِ اللهِ ومشيئته. وذكر ابنُ عبدِ البرِّ، عن الحسنِ، أنه سمعَ رجلاً يقول: طلع سهيلٌ، وبردَ الليلُ، فكره ذلكَ، وقال: إن سهيلاً لم يأت قطُّ بِحَرٍّ ولا بردٍ. قال: وكره مالكٌ أن يقول الرجلُ للغيم والسحابة: ما أخلقَها للمطرِ. قال: وهذا يدل على أن القومَ احتاطُوا، فمنعوا الناسَ منَ الكلامِ بما فيه أدنى متعلَّق مِن كلامِ الجاهليةِ في قولِهم: مُطرنا بنوءِ كذا وكذا. انتهى. واختلف الناسُ في قول القائل: "مُطِرنْا بنوْءِ كذا وكذا" مِن غيرِ اعتقادِ أهلِ الجاهليةِ: هو هو مكرُوه، أو محرَّمٌ؟ فقالت طائفةٌ: هو محرمٌ، وهو قول أكثرِ أصحابِنا، والنصوصُ تدل عليه. كما تقدم. وقال طائفة: هل مكرُوه، وهو قول الشافعيِّ وأصحابِه، وبعضِ أصحابِنا. فأما إن قال: "مُطِرْنا في نوْء كذا وكذا"، ففيه لأصحابنا وجهان: أحدهما: أنه يجوزُ، كقوله: "في وقت كذا وكذا"، وهو قولُ القاضِي أبي يعلَى وغيرِه. ورُوي عن عمرَ - رضي الله عنه -، أنه قالَ للعباسِ - رضي الله عنه -، وهو يستسقِي: يا عباسُ، كم بقيَ مِن نوْءِ الثرَيَّا؟ فقال: يا أميرَ المؤمنين، إن أهلَ العلم بها يزعمونَ أنها تعترض بالأفقِ بعدَ وُقُوعِهَا سبعًا، فما مضتْ تلك السبعُ حتى أغيثَ الناسُ.

رواه ابنُ إسحاقَ، عن محمدِ بنِ إبراهيمَ بنِ الحارثِ، عن ابنِ المسيبِ. قال: حدثني من لا أتهمُ، عن عمرَ - فذكره. والوجهُ الثاني: أنه يُكْرَه، إلا أن يقولَ مع ذلك: "برحمةِ اللهِ عزَّ وجلَّ ". وهو قولُ أبي الحسن الآمديِّ مِن أصحابِنا. واستدلَّ للأول بما ذكرَ مالكٌ في "الموطإِ"، أنه بلغَه، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كانَ يقولُ: "إذا نشأتْ بحريتها فَشَاءَمَتْ، فتلك عين غَدِيقة". وهذا من البلاغاتِ لمالكٍ التي قيل: إنه لا يعرَفُ إسنادُها. وقد ذكرَه الشافعى، عن إبراهيمَ بنِ محمدِ بنِ أبي يحيى، عنْ إسحاقَ بنِ عبدِ اللَّهِ، عنِ النبيّ - صلى الله عليه وسلم - - مرسلاً -، قال: "إذا نشأتْ بَحْرِيَّة، ثم استحالتْ شاميةً، فهو أمطرُ لها". قال ابنُ عبدِ البر: ابنُ أبي يحيى، مطعون عليه متروكٌ. وإسحاقُ، هو: ابن أبي فروةَ، ضعيفٌ - أيضًا - متروكٌ. وهذا لا يَحتَجُ به أحدٌ من أهل العلم. قلت: وقد خرَّجَه ابنُ أبي الدنيا من طريقِ الواقديِّ: نَا عبدُ الحكيم بنُ عبدِ اللَّهِ بن أبي فروةَ: سمعتُ عوفَ بنَ الحارثِ: سمعتُ عائشةَ تقولُ: سمعتُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: " إذا أنشاتِ السحابةُ بحرية، ثم تشاءَمت، فتلك عين " أو قالَ: "عام غديقة ". يعني: مطرًا كثيرًا.

قال الله تعالى: (فلولا إذا بلغت الحلقوم (83) وأنتم حينئذ تنظرون (84) ونحن أقرب إليه منكم ولكن لا تبصرون (85) فلولا إن كنتم غير مدينين (86) ترجعونها إن كنتم صادقين

والواقديُّ: متروك - أيضًا. والمعنى: أنَّ السحابةَ إذا طلعتْ بالمدينةِ من جهةِ البحرِ، ثمَّ أخذتْ إلى ناحيةِ الشامِ، جاءتْ بمطرٍ كثير، وهو الغدَقُ. قال تعالى: (لأَسْقَيْنَاهُم مَّاءً غَدَقًا) . وقيَّده ابنُ عبدِ البرِّ: "غُدَيقةٌ" بضمِّ الغينِ بالتصغيرِ. ومن هذا المعنى: قولُ اللَّهِ عزَّ وجلَّ: (فَالْحَامِلاتِ وِقْرًا) . وفسَّره علي بنُ أبي طالبٍ وابنُ عباسٍ ومَن بعدَهُما بالسحابِ. قال مجاهدٌ: تحملُ المطر. * * * قال الله تعالى: (فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (84) وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ (85) فَلَوْلَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (86) تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (87) فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (88) فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ (89) وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (90) فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (91) وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (92) فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ (93) وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ (94) إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ (95) قال آدمُ بنُ أبي أياسٍ: حدثنا حمادُ بنُ سلمةَ، عن عطاءِ بنِ السائبِ، عن عبدِ الرحمنِ بنِ أبي ليلى، قالَ: تلا رسولُ اللًهِ - صلى الله عليه وسلم - هذه الآيات: (فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (84) . إلى قولِه: (فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ (89) .

إلى قولِه: (فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ (93) وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ (94) . قال: "إذا كانَ عندَ الموتِ قيلَ له هذا، فإن كانَ من أصحابِ اليمينِ أحبَّ لقاءَ اللَّهِ وأحبَّ اللَّهُ لقاءَهُ، وإن كانَ من أصحابِ الشمالِ كَرهَ لقاءَ اللَّهِ وكرهَ اللَّهُ لقاءَه ". وخرَّج الإمامُ أحمدُ، من طريقِ همّامٍ، عن عطاءِ بنِ السائبِ، سمعتُ عبدَ الرحمنِ بنِ أبي ليلَى - وهو يتبعُ جنازةً يقولُ: حدثني فلانُ بن فلانِ. سمعَ رسولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: "مَن أحبَّ لقاءَ اللَّهِ أحبَّ اللَّهُ لقاءَهُ، ومن كرهَ لقاءَ اللهِ كرهَ اللَّهُ لقاءَهُ ". فأكبُّ القوم يبكونَ. قال: "ما يبكيكُم؟ " قالوا: إنا نكرهُ الموتَ. قال: "ليسَ ذاك، ولكنَّه إذا حُضِرَ: (فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (88) فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ (89) . فإذا بشرَ بذلكَ أحبَّ لقاءَ الله، واللَّهُ للقائه أحبُّ. (وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (92) فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ (93) وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ (94) . وفي قراءة ابن مسعود: (ثُمَّ تَصْلِيةُ جَحيم) . فإذا بشرَ بذلكَ كرهَ لقاءَ اللَّهِ واللَّهُ للقائهِ أكْرَهُ ". خرَّج ابنُ البراءِ في كتابِ "الروضةِ" من حديثِ عمرِو بن شَمِر - وهو ضعيف جدًّا - عن جابر الجعفي، عن تميم بن حَذْلم، عن ابنِ عباس، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ما من ميِّتٍ يموتُ إلا وهو يعرفُ غاسلَه، ويناشدُ حاملَه، إن كان بُشِّر بَروح وريحانٍ وجنةِ نعيمٍ أن يعجِّلَه، وإن بُشِّرَ بنزلٍ من حميمٍ وتَصْليةِ جحيمٍ أن يحبسَهُ ". وفي "صحيح البخاريّ "، عن عبادةَ بنِ الصامتِ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من أحبَّ لقاءَ اللَّهِ أحبَّ اللَهُ لقاءَهُ، ومن كرهَ لقاءَ اللَّهِ كرهَ اللَّهُ لقاءَهُ "، فقالتْ عائشةُ، أو بعضُ أزواجهِ: إنا نكرهُ الموتَ. قالَ: "ليس ذلكَ، ولكن المؤمنَ إذا حضرَه

الموتُ بُشِّر برضوانِ اللهِ وكرامتهِ، فليسَ شيءٌ أحبَّ إليه مما أمامَهُ، فأحب لقاءَ اللهِ وأحبَّ اللَهُ لقاءَه، وإنَّ الكافرَ إذا حُضِر، بُشِّر بعذابِ اللهِ وعقوبتهِ، فليسَ شيءٌ كرهَ إليه ممَّا أمامَهُ، فكرهَ لقاءَ اللَّهِ وكرهَ اللَهُ لقاءَهُ ". وقد رُوِيَ هذا المعنى عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - من وجوه متعددهِ. وفي حديث زاذن، عن البراءِ بن عازبٍ، عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ نفسَ المؤمنِ يقالُ لها: اخْرجي أيتها النفسُ المطمئنةُ إلى مغفرة من اللَّهِ ورضوان، فتخرجُ وتسيلُ كما تسيلُ القطرةُ من فيِّ السقاءِ، وإنَّ نفسَ الكافرِ يُقال لها: اخرجي أيتها النفسُ الخبيثةُ إلى غضبِ اللهِ وسخطه، فتتفرقُ في جسدِهِ، وتأبى أن تخرجَ، فيجذبونَها، فتنقطعُ معها العروقُ والعصبُ ". وفي روايةِ عيسى بنِ المسيبِ عن عديِّ بن ثابت، عن البراءِ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "فتتفرق روحُهُ في جسدِهِ، كراهةَ أن تخرجَ لما ترى وتعاين، فيستخرِجُها. كما يستخرجُ السفودَ من الصوفِ المبلولِ ". وقد دلَّ القرآنُ على عذابِ القبرِ في مواضعَ أُخرَ كقولهِ تعالى: (وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ (93) . وخرَّجَ الترمذي بإسناده، عن عليٍّ قالَ: مازِلْنا في شكٍّ من عذابِ القبرِ حتى نزلتْ: (أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (1) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ (2) .

وخرّج ابن حبانَ في "صحيحهِ "، من حديثِ حمَّادِ بنِ سلمَة، عن محمدِ بنِ عمرو، عن أبي سلمةَ، عن أبي هريرةَ، عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، في قوله سبحانه وتعالى: (فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) . قال: "عذابُ القبرِ". وقد روي موقوفًا، وروي من وجهٍ آخر عن أبي هريرةَ مرفوعًا. وروي من وجه آخرَ من حديثِ أبي سعيدٍ الخدريّ، مرفوعًا وموقوفًا. وسيأتي ذلك كلُّه إن شاءَ الله تعالى. وقال آدمُ بنُ أبي إياسٍ، حدثنا المسعوديُّ، عن عبدِ اللَّهِ بن المخارق، عن أبيه، عن ابنِ مسعود - رضي الله عنه -، قالَ: إذا ماتَ الكافرُ أجلس في قبرِه، فيقالُ له: من ربك؟ وما دينُك؟ فيقولُ: لا أدري، فيضيَّقُ عليه قبُره، ثم قرأ ابنُ مسعود: (فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا) ، قال: المعيشة الضنكُ: عذابُ القبرِ. وروى شريك، عن ابنِ إسحاقَ، عن البراءِ، في قولهِ عزَّ وجلَّ: (عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ) . قال: عذابُ القبرِ. وكذا رُوي عن ابنِ عباسٍ، في قولِه سبحانه وتعالى: (لَنُذِيقَنَّهم مِّنَ الْعَذَابِ الأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الأَكبَرِ) ، أنه عذابُ القبرِ. وكذا قال قتادةُ، والربيعُ بنُ أنسٍ، في قولِه عز وجل: (سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ) إحداهما في الدنيا، والأُخرى هي عذابُ القبرِ. وقد تواترتِ الأحاديثُ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في عذابِ القبرِ والتعوّذِ منه.

وفي "الصحيحينِ " عن مسروق عن عائشةَ - رضي الله عنها -، أنها سألتِ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - عن عذابِ القبرِ، قال: "نَعمْ، عذابُ القبرِ حق" قالتْ عائشةُ - رضي الله عنها -: فما رأيتُ رسولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بعدَ ذلكَ صلَّى صلاةً إلا تعوَّذ من عذابِ القبرِ. وفيهما عن عَمْر، عن عائشةَ - رضي الله عنها -، أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنّي رأيتكم تفتنونَ في القبورِ كفتنةِ الدَّجَّالِ "، قالتْ عائشةُ - رضي الله عنها -: فكنتُ أسمعُ رسولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بعدَ ذلكَ يتعوّذُ من عذابِ القبرِ. وفي "صحيح مسلم " عن ابنِ عباسٍ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يعلِّمُهم هذا الدعاءَ كما يعلِّمُهُم السورةَ من القرآنِ: "اللهُمّ إنِّي أعوذُ بكَ من عذابِ جهنَّمَ، وأعوذُ بكَ من عذابِ القبرِ، وأعوذُ بكَ من فتنةِ المسيح الدجالِ، وأعوذُ بكَ من فتنةِ المحيا والممات ". وفيه - أيضًا -، عن أبي هريرةَ، أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا فرغَ أحدُكم من التشهدِ الآخرِ، فليتعوَّذ باللَّهِ من أربع: من عذاب جهنَّم، ومن عذابِ القبرِ، ومن فتنةِ المحيا والمماتِ، ومن فتنةِ المسيح الدَّجالِ ". وفي "صحيح مسلم " عن زيدِ بن ثابت، قال: بينما النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في حائطِ بني النجارِ على بغلة له، ونحن معهُ، إذ حادتْ بهِ، فكادتْ أن تلقيَهُ، وإذا أَقْبُرٌ ستةٌ أو خمسةٌ أو أربعةٌ، فقال: "من يعرفُ أصحاب هذه الأقبُرِ؟ " فقال رجلٌ: أنا، فقالَ: "متى ماتَ هؤلاءِ؟ " فقال: ماتُوا في الإْشراكِ، فقالَ النبيُّ

- صلى الله عليه وسلم -: "إن هذه الأمةَ تُبتلى في قبورِها، فلولا أن لا تَدافَنُوا لدعوتُ اللَّهَ أن يسمعَكُم من عذابِ القبرِ الذي أسمعُ منه ". ثم أقبلَ علينا بوجهِهِ فقال: "تعوَّذوا باللَهِ من عذابِ النارِ"، فقالوا: نعوذُ باللَّهِ من عذابِ النارِ، فقالَ: "تعوَّذوا باللهِ من عذاب القبرِ". قالوا: نعوذُ باللَّهِ من عذابِ القبرِ، فقال: "تعوَّذُوا باللهِ من الفتنِ ما ظهرَ منها وما بطَنَ "، قالوا: نعوذ باللَّهِ من الفتنِ ما ظهرَ منها وما بطنَ، قال: "تعوَّذوا باللهِ من فتنة الدجال "، قالوا: نعوذ باللَّه من فتنة الدجال. وفي "صحيح مسلم " عن أنسٍ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "لولا أن لا تدافنوا لدعوتُ اللَّهَ أن يسمعَكمُ من عذابِ القبرِ". وفي "الصحيحينِ "، من حديثِ أبي أيوب الأنصاريِّ، قالَ: خرجَ علينا النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد وجبتِ الشمسُ، فسمعَ صوتًا، فقالَ: "يهودُ تعذبُ في قبورِهَا". وخرّج الإمامُ أحمدُ، وأبو داود، من حديثِ البراءِ بنِ عازبٍ، قال: خرجْنَا معَ رسولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - في جنازةِ رجلٍ من الأنصارِ فانتهيْنَا إلى القبرِ ولمْ يُلحَد، ْ فجلسَ رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وجلسْنَا حولَهُ، كأنَّ على رؤوسِنَا الطيرُ، وفي يده عود ينكتُ به الأرضَ، فرفعَ رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - رأسَهُ، فقالَ: "استعيذُوا باللهِ من عذابِ القبرِ"، مرتينِ أو ثلاثًا، وذكرَ الحديثَ بطولهِ. وخرَّجَ الإمامُ أحمدُ، من حديثِ أبي الزبيرِ، عن جابرِ بنِ عبدِ اللَّهِ، قالَ: دخلَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - نَخْلاً لبني النجارِ، فسمعَ أصوات رجالٍ من بني النجارِ، ماتُوا في الجاهليةِ، يعذَّبونَ في قبورِهم، فخرجَ رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فزعًا فأمَرَ

أصحابَهُ أن يتعوَّذوا باللهِ من عذابِ القبرِ. وخرَّجَه - أيضًا - من حديثِ أبي سفيانَ، عن جابرٍ، عن أمِّ مبشرٍ، قالتْ: دخلَ عليَّ رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وأنا في حائطٍ من حوائطِ بني النجارِ، فيه قبور منهم، قد ماتُوا في الجاهليةِ، فسمعهم يعذبونَ، فخرجَ وهو يقولُ: "استعيذُوا باللَّهِ من عذابِ القبرِ"، قلتُ: يا رسولَ اللَّه ليعذَّبونَ في قبورِهم؟ قال: "نعم عذابًا تسمعُهُ البهائمُ ". وفي "الصحيحينِ " عن ابنِ عباسٍ، أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - مرَّ بقبرينِ، فقالَ: "إنهما ليَعذّبانِ، وما يعذبانِ في كبيرٍ، أما أحدُهما فكانَ لا يستترُ من البولِ، وأما الآخرُ فكانَ يمشِي بالنميمةِ"، ثم أخذ جريدةً رطبةً، فشقَّها باثنتينِ، ثم غَرَز على كلِّ قبرٍ منهُما واحدةً، قالوا: لِمَ فعلتَ هذا يا رسولَ اللهِ؟ قال: "لعلَّه يخففُ عنهُما ما لم يَيْبسا". وقد رُوي هذا الحديثُ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - بهذا المعنى مِنْ وجوه متعددةٍ، خرَّجَه ابنُ ماجةَ من حديثِ أبي بكرةَ، وفي حديثهِ: "وأمَّا الآخرُ يعذَّبُ في الغِيبةِ". وخرَّجه الخلالُ وغيرُه، من حديثِ أبي هريرةَ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وفي بعضِ رواياتهِ: "وأمَّا الآخرُ فكان يهْمِزُ الناسَ بلسَانِه، ويمشِي بينَهُم بالنميمةِ". وخرّجَّه الطبرانيُّ من حديثِ عائشة - رضي الله عنها -، وأنسِ بنِ مالكٌ، وابنِ عمرَ - رضي الله عنهم -.

وخرَّجَه أبو يعلى الموصِلي وغيرُه، من حديثِ جابر، وفي حديثهِ: "أمَّا أحدُهما فكانَ يغتابُ الناسَ ". وخرَّجَه الإمامُ أحمد، من حديثِ أبي أمامةَ، وفي حديثهِ قالوا: يا نبيَّ اللَّهِ، وحتى متى يعذبانِ؟ قال: " غَيْبٌ لا يعلَمُه إلا اللَّهُ، ولولا تمريجٌ في قلوبِكم وتزيدُكُم في الحديثِ لسمعتُم ما أسمعُ ". ورويَ من وجوهٍ أُخرَ. وخرَّجَ النسائيُ، من حديثِ عائشةَ - رضي الله عنها -، قالتْ: دخلَتْ عليَّ امرأةٌ من اليهودِ فقالَتْ: إنْ عذابَ القبرِ من البولِ، قلتُ: كذبتِ، قالتْ: بلَى، إنه ليقرظُ من الجلدِ والثوبِ، قالتْ: فخرجَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إلى الصلاةِ، وقد ارتفعتْ أصواتُنا، فقالَ - صلى الله عليه وسلم -: "ما هذا؟ " فأخبرتُه بما قالتْ، فقالَ: "صَدَقَتْ ". وخرَّجَ الإمامُ أحمدُ، وأبو داودَ، والنسائيُّ، وابن ماجةَ، من حديثِ عبدِ الرحمنِ بنِ حسنة، سمعَ النبي - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: "أَلَم تعلمُوا ما لقيَ صاحبُ بني إسرائيلَ؛ كانُوا إذا أصابَهُم البولُ قطعُوا ما أصابَهُ البولُ، فنهاهُم فعذِّبَ في قبرهِ ". وخرّج الإمامُ أحمدُ، وابنُ ماجةَ، من حديثِ أبي هريرةَ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "أكثر عذاب القبر من البول ". وروي موقوفًا على أبي هريرة - رضي الله عنه -. وخرّج البزارُ، والحاكم، من حديثِ ابنِ عباس - رضي الله عنهما -، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -

قالَ: "إنّ عامَّة عذابِ القبرِ من البولِ، فتنزَّهُوا منه ". وخرَّجَ الطبراني، والدارقطني، منِ حديثِ أنسٍ، عنِ النبى - صلى الله عليه وسلم - قال: "اتّقوا البولَ، فإنَّه أوَّلُ ما يحاسَبُ به العبدُ في القبرِ". وخرّج ابنُ عدي، من حديث أنسٍ - رضي الله عنه - أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مرَّ برجلٍ يعذبُ في قبرهِ من النميمةِ، ورجل يعذَّبُ في قبرهِ من الغيبةِ، ورجلٌ يعذَّب في قبرهِ من البولِ. وخرَّجَ أيضًا، بإسنادٍ ضعيف، عن قتادةَ، عن أنسٍ - رضي الله عنه -، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "فتنةُ القبرِ من ثلاثٍ: من الغيبةِ، والنميمةِ، والبولِ ". ولكن روى عبدُ الوهابِ الخفَّاف، عن سعيدٍ، عن قتادةَ، قالَ: كان يُقال: عذابُ القبرِ من ثلاثةِ أثلاثٍ: ثلثٌ من الغِيبةِ، وثلث من النميمةِ، وثلث من البولِ. خَرَّجه الخلالُ وهذا أصحُّ. وخرَّجَ الأثرمُ والخلالُ من حديث ميمونة - مولاة رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ لها؟ "يا ميمونةُ! إنَّ منْ أشدِّ عذابِ القبرِ من الغيبةِ والبولِ ". وقد ذكرَ بعضُهم السر في تخصيص البولِ والغيبةِ والنميمةِ بعذابِ القبرِ. وهوَ أنّ القبرَ أولُ منازلِ الآخرةِ، وفيه أنموذجُ ما يقعُ في يومِ القيامةِ من العقابِ والثوابِ. والمعاصِي التي يعاقبُ عليها العبدُ يومَ القيامةِ نوعانِ: حقُّ اللَّهِ، وحقُّ العبادِ، وأولُ ما يُقضَى فيه يومَ القيامةِ من حقوقِ اللَّهِ الصلاةُ، ومن حقوقِ العبادِ الدماءُ.

وأمَّا البرزخُ فقضى فيه في مقدماتِ هذَينِ الحقَّينِ ووسائِلِهما، فمقدمةُ الصلاةِ: الطهارةُ من الحَدَثِ والخَبثِ، ومقدمةُ الدماءِ النميمةُ والوقيعةُ في الأعراضِ، وهما أيسرُ أنواع الأذى، فيبدأ في البرزخ بالمحاسبةِ والعقابِ عليهِما. وروى عبدُ الرزَّاقِ، عن معمر، عن أبي إسحاقَ، عن أبي ميسرةَ، عمرِو بنِ شرحبيلَ، قالَ: ماتَ رجلٌ، فلمَّا دخلَ في قبرهِ أتتْه الملائكةُ، فقالُوا: إنا جالدوكَ مائةَ جلده من عذابِ اللَّهِ، قال: فذكرَ صلاتَهُ وصيامَه واجتهادَهُ قال: فخفَّفُوا عنه حتى انتهى إلى عشرة، ثم سألَهُم، فخَّففوا عنه حتَّى انتهى إلى واحدة، فجلدوه جلدةً اضطرمَ قبرُه نارًا، وغُشِيَ عليه، فلما أفاق قالَ: فيم جلدتمُونِي هذه الجلدة؟ قالوا: إنَّك بُلْتَ يومًا، ثم صليتَ ولم تتوضأْ. وسمعتَ رجلاً يستغيثُ مظلومًا، فلم تغثْهُ. ورواهُ أبو سنان، عن أبي إسحاقَ، عن أبي ميسرةَ، بنحوِه. ورويناه من طريقِ حفصِ بن سليمانَ القارئِ وهو ضعيفٌ جدًّا، عن عاصمٍ، عن أبي وائلٍ، عن ابنِ مسعودٍ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - به. فعذابُ القبرِ حصلَ ها هنا بشيئينِ: أحدُهما: تركُ طهارةِ الحَدثِ. والثاني: تركُ نصرةِ المظلومِ مع القدرةِ عليه، كما أنه في الأحاديثِ المتقدمةِ حصلَ بتركِ طهارةِ الخبثِ، والظلم بالقولِ، وهي متقاربةٌ في المْعنَى. وفي حديثِ عبدِ الرحمنِ بنِ سمرةَ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "إنّي رأيتُ الليلَة عجبًا" فذكرَ الحديثَ بطوله، وفيه: "رأيتُ رجُلاً من أمَّتي بُسِطَ عليه عذابُ القبرِ، فجاءَهُ وضوءُه فاستنقذَهُ منه ". أخرَّجَه الطبراني وغيره.

ففي هذا الحديثِ أنّ الطهارةَ من الحدثِ تُنجي من عذابِ القبرِ. وكذلك الأمرُ بالمعروفِ والنهيّ عن المنكرِ يُنجِي من عذابِ القبرِ، كما تقدَّم ذكْرُه في البابِ الثانِي، لأن فيه غايةَ النفع للناسِ في دينهِم. وكذلكَ الجهادُ والرباطُ، لأنَّ المجاهدَ والمرابِطَ في سبيلِ اللَّهِ كلّ منهُما بذَل نفسَهُ، وسمحَ بنفسِهِ لتكونَ كلمةُ اللَّهَ هي العُليا، ودينُه هو الظاهرُ، وليذبَّ عن إخوانِهِ المؤمنينَ عدوَّهم. ففي الترمذي، عن المقدامِ بن معدي كرب، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "للشهيدِ عندَ اللَّهِ ستُّ خصالٍ: يُغفر لهُ في أولِ دفعةٍ، ويرَى مقعدَهُ من الجنةِ، ويُجارُ من عذابِ القبرِ، ويأمنُ من الفزع الأكبرِ " وذكر بقيةَ الحديثِ. وخرَّج الحاكم وغيرُه، من حديثِ أبي أيوبَ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "من لَقِي العدو في سبيل اللهِ فصبرَ حتَى يُقتلَ أو يُغلبَ لم يُفتنْ في قبرهِ أبدًا ". وفي "صحيح مسلم " عن سلمانَ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "رباطُ يومٍ وليلةٍ خيرٌ من صيام شهرٍ وقيامِه، وإن ماتَ أجرِي عليه عملُه الذي كانَ يعملُه، وأُجْرِي عليه رزقُه، وأمِنَ الفتَّان". وخرَّجَه غيره وقال فيه: "ووُقِيَ عذابَ القبرِ". وخرّج الترمذيّ وأبو داود، من حديث فَضَالةَ بنِ عُبَيد، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - معناه أيضًا، ورُوي من وجوهٍ أُخر.

وخرّج النسائيُّ من حديثِ راشدِ بنِ سعدٍ، عن رجلٍ من أصحابِ النبي - صلى الله عليه وسلم - أن رجلاً قال: يا رسولَ اللَّهِ، ما بالُ المؤمنينَ يفتنونَ في قبورِهم إلا الشهيدُ؟ قال: "كفَى ببارقةِ السيوفِ على رأسهِ فتنةً". وروى مجالدٌ، عن محمدِ بن المنتشرِ، عن ربعي، عن حذيفةَ، قالَ: إن في القبرِ حِسَابًا، وفي القيامةِ حِسابًا، فمن حوسبَ يومَ القيامةِ عُذِّبَ. وروى ابنُ عجلانَ، عن عونِ بنِ عبدِ اللَّهِ، قالَ: يقالُ: إنَّ العبدَ إذا أُدخِلَ قبرَه، سئِلَ عن صلاتهِ أولَ شيءٍ يُسالُ عنهُ، فإنْ جازَتْ له صلاتُه، نُظِرَ فيما سِوى ذلكَ من عملهِ، وإن لم تجزْ لهُ، لم ينظرْ له في شيءٍ من عملهِ بعد. وقد وردَ فِي عذابِ القبرِ أنواعٌ: مِنْها: الضربُ إمَّا بمطراقٍ منْ حديدٍ أو غيرِه، وقدْ سبقَ ذلكَ في أحاديثَ متعددة. وروي من طريقِ عثمانَ بنِ أبي العاتكة، عن عليِّ بن زيدٍ، عن القاسم. عن أبي أمامةَ الباهليِّ، قالَ: أتَى رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بقيعَ الغرقدِ، فوقفَ على قبرينِ، فقالَ: "أدفنتُم ها هنا فُلانًا وفلانة؟ " أو قالَ: فُلانًا وفُلانًا؟ " قالوا: نعمْ @ فقالَ: "قدْ أقعِدَ فلان الآن يُضربُ "، ثمَّ قالَ: "والَّذي نفسِي بيدِهِ لقدْ ضُرِبَ ضربة ما بقيَ منهُ عضوٌ إلا انقطعَ، ولقدْ تطايرَ قبرهُ نارًا، ولقد صرخ به صرخةً يسمعُها الخلائقُ إلا الثقلينِ من الجنِّ والإنسِ، ولولا تمريجٌ في صدورِكم وتزييدُكُم في الحديثِ لسمعتُم ما أسمعُ "،

قالوا: يا رسولَ اللَّهِ ما ذنبُهما؟ قال: "أما فلان فإئه كانَ لا يستبرئُ من البولِ، وأما فلانٌ أو فلانة فكانَ يأكلُ لحومَ الناسِ ". وفي هذا الإسنادِ ضعفٌ. وخرجَ ابنُ جرير في "تفسيره"، من طريقِ أسباط، عن السُّدِّي قالَ: قالَ البراءُ بنُ عازبٍ: إن الكافرَ إذَا وُضعَ في قبرِه أتتْه دابَّةٌ كأنَّ عينيهَا قِدْرانِ من نحاس، معها عمودٌ من حديدٍ، فتضربُه ضربةً بين كتفيهِ، فيصيحُ، فلا يَسمعُ صوتَه أحدٌ إلا لعنهُ، ولا يَبْقى شيءٌ إلا سمعَ صوته إلا الثقلينِ الجنَّ والإنسَ. ومن طريقِ جويبر، عن الضحاكِ، قالَ: الكافر إِذا وُضِعَ في قبرهِ ضُرِبَ ضربةً بمطراقٍ، فيصيحُ صيحةً، فيسمعُ صوتَه كلُّ شيء إلا الثقلينِ الجنَّ والإنسَ، فلا يسمعُ صيحَته شيءٌ إلا لعنَهُ. وروى اللالكائيّ بإسنادِه، عن محمدِ بنِ المنكدرِ، قالَ: بلغَنِي أن اللَّهَ عزَّ وجلَّ يسلِّطُ على الكافرِ في قبرِه دابّةً عمياءً في يدِها سوطٌ من حديد، رأسُها مثلُ غربِ البعيرِ فتضربُه بها إلى يومِ القيامةِ، لا تراهُ ولا تسمعُ صوتَه فترحمُهُ. ومنها: تسليطُ الحياتِ والعقاربِ عليه؛ وقد سبقَ ذلكَ من حديثِ أبي هريرةَ. وروى ابنُ وهب، حدثني عمرُو بن الحارثِ، أن أبا السمح، حدَّثه عن ابنِ حجيرةَ، عن أبي هريرةَ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنه قالَ: "أتدرونَ فِيما أُنزلتْ هذه الآيةُ: (فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا) ؟ تدرونَ ما المعيشةُ الضنكُ؟ " قالوا: اللَّهُ ورسولُه أعلمُ، قال: "عذابُ الكافرِ في قبرِه، والذي نفسِي بيده إنه ليسلَّطُ عليه تسعة وتسعونَ تِنِّينًا، أتدرونَ ما التنينُ؟ قال: تسعة وتسعونَ حيةً، لكلًّ حيةٍ سبعةُ رؤوسٍ،

وفي روايةٍ: "تسعةُ رؤوسٍ، ينفخونَ في جسمِهِ، وبلسعونَهُ ويخدِشوَنهُ إلي يومِ يبعثونَ " خرَّجه بقيُّ بنُ مخلدٍ في "مسندهِ ". وخرَّجَه البزارُ، من وجهٍ آخرَ عن ابنِ حجيرةَ عن أبي هريرةَ، مرفوعًا أيضًا مختصرًا. وخرج ابنُ منده من طريقِ أبي حازمٍ، عن أبي هريرةَ، وذكرَ قبضَ روح المؤمنِ والكافرِ، وقالَ في الكافرِ: "ويسلَّطُ عليه الهوامُّ، وهي الحياتُ، فينامُ كالمنهوسِ فينامُ ويفزعُ ". وخرَّجَه مرفوعًا أيضًا. وقد رُوي عن درّاج أبي السمح، عن أبي الهيثهم، عن أبي سعيد الخدريِّ. عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "يسلَّطُ على الكافرِ في قبرهِ تسعةٌ وتسعونَ تنينًا، يلدغونَهُ حتَّى تقومَ الساعةُ، ولو أنَّ تِنينا منها نفخَ على الأرضِ ما أنبتتْ خضراءَ". خرَّجَه الإمامُ أحمدُ، وابنُ حبانَ في "صحيحهِ "، من طريقِ سعيدِ بن أبي أيوبَ، عن دراج بهِ. ورواه ابنُ لهيعةَ، عن درَّاج، مرفوعًا - أيضَّاً - إلا أنه قالَ: "ضمّةُ القبرِ". وخرَّجه الخلالُ، مِن طريقِ سعيدِ أبي خلادِ بنِ سليم، عن دراج أبي السمح، عمَّن حدَّثَهُ، عن أبي سعيدٍ: أنَّهم سألُوه عن المعيشةِ الضنكِ. قال: هي معيشةُ الكافرِ في قبرهِ، يبعثُ اللَّهُ إليه قبلَ يومَ القيامةِ اثنينِ وسبعينَ تنينًا وعقاربَ كالبغالِ يلسعْنهُ في قبرهِ، ويضيّقُ عليه قبرُه حتَّى تدخلَ الأضلاعُ

بعضُها في بعضٍ، يتمنَّى أنه لو خرجَ منها إلى النارِ. وهذا موقوفٌ، قد سبقَ في البابِ الثاني من وجه آخر مرفوعًا. وقد رُوي بعضُه من وجهٍ آخرَ مرفوعًا وموقوفًا أيضًا. وروى منصورُ بنُ صقير، عن حمادِ بنِ سلمةَ، عن أبي حازمٍ، عن النعمانِ بن أبي عياشٍ، عن أبي سعيدٍ، أنّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ في هذه الآيةِ: (فَإِن لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا) قال: "المعيشةُ الضنكُ عذابُ القبرِ، يضيَّقُ عليه قبرُه حتَى تختلفَ أضلاعُهُ، ولا يزالُ يعذبُ حتى يُبعثُ " خرَّجه الخلالُ، ومنصورُ بن صُقير فيه ضعفٌ. وخالفَهُ آدمُ بنُ أبي إياسٍ، فرواه عن أبي حازمٍ، عن حمَّادِ بن سلمةَ. ووقفه. وكذا رواه الثوريُّ، وسليمانُ بنُ بلالي، والدراورديُّ، وغيرُهم، عن أبي حازمٍ، عن النعمانِ، عن أبي سعيدٍ مرفوعًا، وخالفَهُم ابنُ عيينة، فرواه عن أبي حازمٍ عن أبي سلمة عن أبي سعيدٍ موقوفًا أيضًا، فمنهم من قال: أخطأ فيه ابنُ عيينةَ، كذا قاله أبو زرعةَ والعلائيّ، وقيل: بل أبو سلمةَ هذا هو النعمانُ بنُ أبي عياشٍ، قاله أبو حاتم الرازيُّ، وأبو أحمدَ الحاكمُ، وأبو بكرٍ الخطيبُ وغيرُه. وخرَّجه الإمامُ أحمدُ، من حديثِ علي بنِ زيدِ بن جدعانَ، عن أمِّ محمدٍ، عن عائشةَ - رضي الله عنها -، أن رسول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "يرسَلُ على الكافرِ حيتانِ، واحدة من قبَل رأسه، والأخرى من قبلِ رجليه، يقرصانه قرصًا، كلَّما فرغَتا عادَتا إلى يوم القيامةِ".

وخرَّجَ ابنُ أبي الدنيا - بإسنادٍ ضعيفٍ - عن الحسنِ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يُرى أحدٌ خارجًا من الدنيا شاتمًا لأحد منهم - يعني من أول هذه الأمة - إلا سلَّطَ اللَّهُ عليه دابةً في قبرِه، تقرصُ لحمَهُ، يجدُ ألمَهُ إلى يوم القيامةِ". وخرَّج الخلالُ، من طريقِ عاصمٍ، عن زِرٍّ، عن ابنِ مسعود، قالَ: يقالُ للكافرِ - يعني في قبرِه: ما أنتَ؟ فيقولُ: لا أدْري، فيقالُ: لا دريتَ - ثلاثًا، ويضيَّقُ عليه قبرُه حتَّى تختلفَ أضلاعُه، ويُرسلُ عليه حيَّات من جوانبِ قبرهِ، ينهشْنهُ ويأكلْنهُ، فإذا خرجَ صاحَ، قُمِعَ بمقامع من نار أو حديد. وخرَّجَه أبو بكر الآجريُ، وزاد فيه: "وبُضربُ ضربةً يلتهبُ قبرُه نارًا" وعنده: "وتنبعثُ عليه حياتٌ من النارِ كأعناقِ الإبلِ ". وخرَّج ابنُ أبي الدنيا في كتابِ "الموتِ " بإسنادِه عن عبيدِ بن عميرٍ، قالَ: يسلَّطُ عليه شجاعٌ أقرعُ، فيأكله حتى يأكلَ أمَّ هامتِهِ، فهذا أوَّلُ ما يصيبُه من عذابِ اللَّهِ. وبإسناده عن مسروق، قال: ما من ميِّت يموتُ وهو يزنِي، أو يسرقُ، أو يشربُ، أو يأتي شيئًا من هذه، إلا جُعِلَ معهَّ شَجاعانِ ينهشَانهِ في قبرِه. ومنها: رضُّ رأسِ الميتِ بحجر، أو شق شدْقهِ أو نحوُ ذلك. وفي حديث سمرةَ بنِ جندبٍ، عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "رأيتُ الليلةَ رجلينِ أتيانِي فأخَذَا بيدِي، فأخرجَانِي إلى أرضٍ مقدسة، فإذا رجلٌ جالسٌ ورجلٌ قائمٌ بيده كَلُّوبٌ من حديدٍ يدخلُه في شدقِهِ حتَّى يبلغَ قفاةُ، ثم يفعلُ بشدقِهِ الآخر مثلَ ذلك، ويلتئمُ شدقُه هذا، فيعودُ فيصنعُ مثلَه، قلتُ: ما هذَا؟ قالا: انطلقْ فانطلقْنا، حتَّى أتينَا على رجل مضطجعٍ على قفَاه، ورجلٌ قائمٌ على رأسِه بصخرة أو فهر، فيشدَخُ بها

رأسَه، فإذا ضربَه تدهْدَهَ الحجرُ، فانطلقَ إليه ليأخذَه فلا يرجعُ إلى هذا حتى يلتئمَ رأسُه، وعادَ رأسُه كما هُو، فعادَ إليه فضربَهُ، قلتُ: ما هذا؟ قالا لِي: انطلقْ، فانطلقْنا، إلي نقب مثلِ التنورِ أعلاه ضيق وأسفله واسع، توقدُ تحتَهُ نار وإذا فيه رجالاً ونساء عراة فيأتِيهم اللهبُ من تحتِهِم فإذَا اقتربَ ارتفعوا حتَّى كادُوا أن يخرجُوا، فإذا خمدتَ رجعُوا فِيها، وفيها رجالٌ ونساء، فقلتُ: ما هذا؟ قالا: انطلقْ، فانطلقْنا، حتَّى أتيْنَا على نهر من دمِ. فيه رجل قائم وعلى شاطئ النهرِ رجل بين يديه حجارة، فأقبلَ الرجلُ الذي في النهرِ، فإذا أرادَ أن يخرجَ، رَمَى الرجلُ بحجر في فِيه فردَّه حيثُ كان، فجعلَ كلما جاءَ ليخرجَ رَمَى في فِيه بحجر رجعَ كما كانَ، فقلتُ: ما هذا؟ قالا لي: انطلقْ، فانطلقْنا". فذكرَ الحديثَ. وفيه: "قلتُ: طوفتُماني الليلةَ، فأخبرانِي عما رأيتُ؟ قالا: نعم، أما الرجلُ الذي رأيتَه يشقّ شدقُه فكذَّابٌ يحدِّثُ بالكذبِ، فتُحملُ عنه حتى تبلغَ الآفاقَ، فيصنعُ به ذلك إلى يوم القيامةِ؛ والذي رأيتَه يُشدخُ رأسُه فرجل علَّمه اللَهُ القرآنَ، فنامَ عنه بالليلِ، ولم يعملْ فيه بالنهارِ؛ يُفعلُ به إلى يوم القيامةِ؛ وأما الذي رأيتَ في النقبِ فهم الزناةُ والزوانِي، وأما الذي رأيتَ في النهرِ فآكلُ الرِّبا". وذكرَ الحديثَ بطوله. خرَّجَه البخاريُّ. وروى هذا الحديثَ أبو خلدةَ، عن أبي حازمٍ، عن سمرةَ، وفي حديثهِ: "قلتُ: فالذي يسبحُ في الدم؟ قال: ذاك صاحبُ الرِّبا، ذاكَ طعامُه في القبرِ إلى يومِ القيامةِ. قلت: فالذي يشدخُ رأسُه؟ قال: ذاك رجل علَّمه اللَهُ القرآنَ، فنامَ عنه حتى نسيَه، لا يقرأُ منه شيئا، كلَّما رقدَ دقُوا رأسَه في القبرِ إلى يوم القيامةِ، ولا يدعونَهُ ينامُ ". ومنها: تضييقُ القبرِ على الميتِ حتَّى تختلفَ فيه أضلاعُه، وقد سبقَ ذلك في أحاديثَ متعددة.

وخرّج الخلال - بإسنادٍ ضعيفٍ - عن أبي سعيدٍ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنه قال في الكافرِ: "فيضيقُ عليه قبرُه حتى يخرجَ دماغُه من بَينِ أظفارهِ ولحمهِ ". وقد وردَ ما يدل على أن التَّضييقَ عامٌّ للمؤمنِ والكافرِ، وصرّحَ بذلكَ طائفةٌ من العلماءِ، منهم ابنُ بطةَ وغيرُه، فروى شعبةُ، عن سعدِ بنِ إبراهيمَ، عن نافع، عن عائشةَ - رضي الله عنها -، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن للقبرِ ضغطة، لو كان أحدٌ ناجيًا منها لنَجا مها سعدُ بنُ معاذٍ" خرَّجه الإمام أحمد. وقد اخُتلِفَ على شعبةَ في إسنادهِ، فقيلَ: عنه كما ذكرنا: وقيل: عنه، عن نافع، عن إنسانٍ، عن عائشة - رضي الله عنها -. وقيل: عنه، عن سعدٍ، عن نافع، عن امرأةِ ابنِ عمرَ، عن عائشةَ - رضي الله عنها -. وروى: الثوريُّ، عن سعد، عن نافع، عن ابنِ عمرَ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وليس بالمحفوظِ. ورواه ابنُ لهيعةَ، عن عقيلٍ، سمعَ سعدَ بنَ إبراهيمَ، يخبرُ عن عائشةَ بنتَ سعدٍ، عن عائشةَ أمَ المؤمنينَ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - بأنه قال لها: "تعوَّذِي باللهِ من عذابِ القبرِ، فإنه لو نجا منه أحدٌ لنجا سعدُ بنُ معاذٍ، لكنّه لم يزدْ على ضمِّه ". خرَّجه الطبراني، ورواية شعبة أصح. وخرَّج الإمامُ أحمدُ، من حديثِ محمدِ بنِ جابر، عن عمرِو بن مرةَ، عن أبي البختري، عن حذيفةَ، قال: كنَّا مع النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في جناز، فلمَّا انتهينَا إلي القبرِ قعدَ على شفتهِ فجعلَ يرددُ بصرَه فيه، ثم قال: "يُضغطُ المؤمنُ فيه ضغطةً تزولُ منها حمائِلُه، وتُملأ على الكافرِ نارًا ". ومحمد بن جابر هو اليمامي:

ضعيف: وأبو البختري لم يدركْ حذيفةَ. وخرج النسائيُّ، من حديثِ عبيدِ اللَّهِ بنِ عمرَ عن نافع، عن عبدِ اللَّهِ بنِ عمرَ - رضي الله عنهما - أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "هذا الذي تحرك له العرشُ وفتحتْ له أبوابُ السماءِ. وشهدَهُ سبعونَ ألفًا من الملائكةِ، لقد ضُمّ ضمةً ثمَّ فُرِّج عنه ". وخرَّجه البزارُ وقالَ: وروي عن عبيدِ اللَّهِ، عن نافع مرسلاً. قلتُ: وقد سبقَ ذكرُ الاختلافِ فيه عن سعدِ بنِ إبراهيمَ عن نافعِ. ورواه زيدُ بنُ أبي أنيسةَ، عن جابرٍ، عن نافع، عن صفيةَ بنتِ أبي عبيدٍ. عن بعضِ أزواج النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن كنتُ لأرى لو أنَّ أحدَا أُعفي من عذابِ القبرِ. لعُفِي منه سعدُ بنُ معاذٍ، لقد ضُم فيه ضمةً". وخرَّجه البزارُ من وجهٍ آخرَ، عن نافع، عن ابنِ عمرَ، ومن طريقِ عطاءِ بنِ السائبِ عن مجاهدٍ عن ابنِ عمرَ. وخرَّج الطبراني صْ طريقِ زكريا بنِ سلامٍ، عن سعيدِ بن مسروقٍ، عن أنسٍ، قال: لما ماتتْ زينبُ بنتُ رسولِ اللَّه - صلى الله عليه وسلم - حزنَ، ثم سُرِّيَ عنه، فقلنا: يا رسولَ اللَّه، رأينا منك ما لم نرَ، قالَ: "ذكرتُ زينبَ وضعفَها وضغطةَ القبرِ، لقد هُوِّن عليها، ومع ذلكَ لقد ضُغِطتْ ضغطةً بلغتِ الخافقينِ ". وزكريا قيل: إنه مجهولٌ، وسعيدُ بنُ مسروق، لم يدركْ أنسًا، فهو منقطِعٌ. وقد رُوي من وجهٍ آخرَ عن أنسٍ، من روايةِ الأعمشِ، عن أنسٍ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - بمعناهُ.

وكذا رواه أبو حمزة السكري، عن الأعمشِ، والأعمشُ لم يسمعْ من أنسِ عند الأكثرينَ. وقيلَ: عن أبي حمزةَ، عن الأعمشِ، عن سليمانَ، عن أنسٍ. ورواه سعدُ بنُ الصلتِ، عن الأعمشِ، عن أبي سفيانَ، عن أنسٍ. ورواهُ حبيبُ بنُ خالد الأسدي عن الأعمشِ، عنْ عبدِ اللَّهِ بنِ المغيرة، عن أنسِ. ورواه حمادُ بنُ سلمةَ، عن ثمامةَ، عن أنسِ، أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - دَفَن صبيا أو صبيةً، فقالَ: "لو نجا أحدٌ من ضمّةِ القبرِ لنجا منها هذا الصبي". خرَّجَه الخلالُ، والطبرانيُّ. وقد اختُلفَ فيه على حمادِ، فرواه جماعةٌ عن ثمامةَ مرسلاً. والمرسلُ هو الصحيحُ، عند أبي حاتمٍ الرازي، والدارقطنيِّ. وروى ابنُ وهبِ، عن عمرِو بنِ الحارثِ، عن أبي النضرِ، عن زيادِ مولى ابن عباس عن ابنِ عباسِ، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صعدَ على قبرِ سعدِ بن معاذ فقال: "لو نجا من ضغطة القبرِ أحدٌ منه لنجَا سعدُ بنُ معاذٍ، ولقد ضُمَّ ضمَّة ثم فرجِّ عنه ". خرَّجَه الطبرانيُّ. وخرَّج الإمامُ أحمدُ والنسائي، من حديثِ يزيدَ بنِ عبدِ اللَّهِ بن الهادِ. عن معاذِ بن رفاعةَ، عن جابرٍ، أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال لسعدٍ وهو يدفنُ: " سبحانَ اللَّهِ، لهذا العبدِ الصالح الذي تحركَ له عرشُ الرحمنِ وفتحتْ له أبوابُ السماءِ شدِّد عليه ثمَّ فرجَ عنه ".

وخرَّجَه الإمامُ أحمد، من طريقِ ابن إسحاقَ، حدثني معاذُ بنُ رفاعةَ. عن محمودِ بنِ عبدِ الرحمنِ بنِ عمرِو بن الجموح، عن جابر، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "لقد تضايقَ على هذا العبدِ الصالح قبرُه حتى فرجَّ اللَّهُ عنه ". وذكر ابنُ إسحاقَ: اهتزازَ العرشِ، وفتحَ أبوابِ السماء؛ عن معاذِ بنِ رفاعةَ، قال: حدثني من شئتُ من رجال قومِي، عن النبيًّ - صلى الله عليه وسلم - ولم يذكره في حديثِ جابر. وزادَ في إسنادِ حديثِ جابرٍ رجلاً، وقوله أصحُّ من قولِ يزيدِ بن الهادِ في هذا كلِّه عند كثير من أئمةِ الحفاظِ واللَّه أعلم. وخرَّج البيهقيُّ، من حديثِ ابنِ إسحاقَ، قال: حدثني أميةُ بنُ عبدِ اللَّهِ. أنه سألَ بعضَ أهلِ سعدٍ، ما بلغكَم من قولِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في هذا؟ قالوا: ذُكر لنا أنَّ رسول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - سُئِل عن ذلكَ، فقال: "كانَ يُقصِّر في بعض الطهورِ من البولِ ". وذكر ابنُ أبي الدنيا عن عبيد اللَّه بنِ محمدٍ التميميِّ، قالَ: سمعتُ أبا بكرٍ التيمي - شيخًا من قريشٍ - قال: كان يقالُ: إن ضمَّةَ القبرِ إنَّما أصلُها أُمُّهم، ومنها خلقُوا، فغابُوا عنها الغيبةَ الطويلةَ، فلما رَدُّوا إليها أولادَها، ضمَّتهم ضمَّ الوالدةِ التي غابَ عنها ولدُها، ثم قدِمَ عليها، فمنْ كانَ للَّهِ عز وجل مطيعًا ضمتْهُ برأفة ورفقٍ، ومن كانَ للَّه عاصيًا ضمَّتْه بعنفِ، سخَطا منها عليه لربِّها. وروى في كتابِ "المحتضرينَ " بإسنادِه عن عبدِ العزيزِ بن أبي روادٍ، عن

نافع، أنه لمّا حضرتهُ الوفاةُ جعلَ يبْكي، فقيل له: ما يبكيكَ؟ فقال: ذكرتُ سعدًا وضغطةَ القبرِ. وروى هنّادُ بن السريِّ، عن سعيدِ بن دينارٍ، عن إبراهيمَ الغنويِّ، عن رجلٍ عن عائشةَ - رضي الله عنها -، أنها مرَّتْ بها جنازةٌ صغيرةٌ فبكتْ، فقالتْ: بكيتُ لهذا الصبيِّ، شفقةً عليه من ضمَّةِ القبرِ. قال هناد: وحدثنا محمدُ بنُ فضيل، عن أبيه، عن ابنِ أبي مليكةَ، قالَ: ما أجِيرَ أحدٌ من ضغطةِ القبرِ، ولا سعدُ بنُ معاذٍ، الذي منديلٌ من مناديلهِ خيرٌ من الدنيا وما فِيها. وقال أبو الحسن بن البراءِ: حدثنا محمدُ بنُ الصباح، حدثنا عمّارُ بن محمدٍ، عن ليثٍ، عن المنهالِ، عن زاذانَ، عن البراءِ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في قوله تعالى: (لَهُم مِّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ) . قال: " يُكْسَى الكافرُ في قبرِه ثوبانِ من نار، فذلك قولُه سبحانَهُ وتعالى: (مِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ) " هذا غريبٌ منكرٌ. وقد قيلَ: إن عذابَ القبرِ يفتر عن أهلِ القبورِ فيما بين النفختينِ، كذا ذكرَهُ سعيدُ بنُ بشيرٍ عن قتادةَ، وتأوَّل ذلك قوله تعالى: (يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ) . أي، يعني تلكَ الفترةَ التي لا عذابَ فيها. وورد ذلك مرفوعًا، خرَّجَه الخلالُ في كتابِ "السنة" حدثنا إسحاقُ بنُ خالد البالسي، حدثنا محمد بن صعب، حدثنا روح بن مسافرٍ، عن الأعمشِ، عن أبي سفيانَ، عن جابرٍ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنَّ هذه الأمة تبتلى في قبورِها"،

فذكرَ الحديثَ بطوله، وفي آخرهِ قال: "فإنهم يعذبونَ في قبورِهم إلى قريب من قيام الساعةِ، ثم ينامونَ قبيلَ الساعةِ، وهي النومةُ التي ندمُوا عليها، حين قالوا: (يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا) . وهذا إسنادٌ ضعيفٌ، وروحُ بن مسافر، وإسحاقُ بنِ خالدٍ، ضعيفانِ جدًّا. وقد يُرفعُ عذابُ القبرِ أو بعضُه في بعضِ الأوقاتِ الشريفةِ. فقد روي بإسنادٍ ضعيفٍ، عن أنسِ بنِ مالكٍ: أن عذابَ القبرِ يرفعُ عن الموتى في شهرِ رمضانَ، وكذلكَ فتنةُ القبرِ ترفعُ عمَّن مات يومَ الجمعةِ أو ليلة الجمعةِ. كما خرَّجَ الإمامُ أحمدُ، والترمذيُّ، من حديثِ عبدِ اللَّهِ بنِ عمرِو بنِ العاصِ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما منْ مسلمٍ يموتُ يومَ الجمعةِ أو ليلةَ الجمعةِ إلا وقاهُ اللهُ فتنةَ القبرِ". وأما نعيمُ القبرِ، فقد دلّ عليه قولُه تعالَى: (فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (88) فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ) ، كما سبق. وقد تقدّمَ في حديثِ البراءِ وغيرِه ذكرُ بعضِ نعيم القبرِ. وروى ابنُ وهبٍ، حدَّثني عمرُو بنُ الحارثِ، أنَّ أبا المسيح درَّاجًا حدَّثَهُ. عن ابنِ حجيرةَ، عن أبي هريرةَ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنه قالَ: "إن المؤمنَ في قبرِه لفي روضة خضراءَ، ويرحبُ له قبرُه سبعونَ ذراعًا، وينوّرُ له فيه كالقمرِ ليلةَ البدرِ". وروى أبو عبد الرحمنِ المقرئُ، حدثنا داودُ أبو بحر، عن صهرٍ له - يقالُ

له: مسلمُ بنُ مسلم - عن مُورِّقٍ العجليِّ، عن عبيدِ بنِ عميرٍ، قال: قال عبادةُ بنُ الصامتِ: إذا حضرتْه - يعني المؤمنَ المتهجدَ بالقرآنِ - الوفاةُ جاءَ القرآنُ فوقفَ عند رأسهِ، وهم يغسِّلونَهُ، فإذا فرغَ منه دخلَ حتى صارَ بين صدرِه وكفنِهِ، فإذَا وُضِعَ في حفرتِهِ جاءَه منكرٌ ونكير، خرجَ حتى صارَ بينه وبينهُمَا، فيقولانِ له: إليكَ عنَا، فإنا نريدُ أن نسألَهُ، فيقولُ: واللَّه ما أنا بمفارقه، فإن كنتُما أمرتُما فيه بشيء فشأنكما. ثم ينظرُ إليه، فيقولُ: هل تعرِفني؟ فيقول: لا. فيقولُ: أنا القرآنُ الذي كنتُ أسهرُ ليلكَ، وأظمأ نهارَك، وأمنعكَ شهوتَكَ، وسمعَكَ، وبصرَكَ، فستجدُني من الأخلاءِ خليلَ صدقٍ، فأبشرْ، فما عليكَ بعد مسألةِ منكرٍ ونكيرٍ من هم، ولا حزنٍ، ثم يخرجانِ عنه، فيصعدُ القرآنُ إلى ربِّه، فيسأله فراشًا ودِثارًا، قال: فيؤمرُ له بفراشٍ ودثارٍ وقنديلٍ من الجنةِ، وياسمين من الجنةِ، فيحمله ألفُ ملك من مقرَبي سماءِ الدنيا. قال: فيسبقُهُم إليه القرآنُ، فيقولُ: هل استوحشتَ بعدي؟ فإنِّي لم أزلْ بربي حتى أمرَ لكَ بفراشٍ ودثارٍ ونورٍ من الجنةِ. قال: فتدخلُ عليه الملائكة، فيحملونَهُ ويفرشونَ له ذلك الفراشَ، ويضعونَ الدِّثارَ تحتَ رجليهِ، والياسمينَ عند صدرهِ، ثم يحملونَهُ حتى يضجعُوه على شقِّه الأيمن، ثم يصعدونَ عنه، فيستلقِي عليه، فلا يزالُ ينظر إلى الملائكة حتى يلجُوا في السماءِ، ثم يدفعُ القرآنَ في قبلةِ القبرِ، فيوسعُ عليه ما شاءَ الَلَّهُ من ذلكَ. قال أبو عبد الرحمنِ: وكان في كتابِ معاويةَ إليَّ: فيوسَّع له مسيرةَ أربعمائةِ عامٍ، ثم يحملُ الياسمينَ من عندِ صدرِه، فيجعلُه عند أنفهِ، فيشقه غضا إلي يوم ينفخُ في الصورِ، ثم يأتي أهلَه كلَّ يومٍ مرةً أو مرتينِ، فيأتيه

بخبرِهم، ويدعُو لهم بالخيرِ والإقبالِ، فإن تعلَّم أحدٌ من ولدهِ القرآنَ بشّره بذلكَ، وإن كانَ عقبَ سوءٍ، أتى الدارَ بكرةً وعشيًا، فبكى عليه إلى أن يُنفخَ في الصورِ. أو كما قال. قال الحافظُ أبو موسى المديني: هذا خبرٌ حسنٌ رواه الإمام أحمد بن حنبل، وأبو خيثمة، وطبقتُهما من المتقدمينَ، عن أبي عبد الرحمنِ المقرئِ. وقد تقدّمَ في البابِ الثاني: "القبرُ روضةٌ من رياضِ الجنةِ، أو حفرةٌ من حفرِ النارِ". من حديثِ أبي هريرةَ، وأبي سعيدٍ، بإسنادينِ ضعيفينِ. وروي أيضًا من حديثِ ابنِ عمرَ، خرَّجَهُ ابنُ أبي الدنيا، حدثنا هارونُ بن سفيانَ، حدثنا محمدُ بنُ عمرَ، أخبرنا أخي شملةُ بنُ عمرَ، عن عمرَ بن شيبةَ عن أبي كثيرِ الأشجعيِّ، عن نافع، عن ابنِ عمرَ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "القبرُ روضةٌ من رياضِ الجنةِ، أو حفرةٌ من حفرِ النارِ". إسنادُه ضعيف. * * *

سورة الحديد

سُورَةُ الحَدِيدِ قوله تعالى: (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ) إنَّ اللَّهَ تعالى أمرَ عبادَهُ في كتابهِ، وعلى لسانِ رسُولهِ، بجميع ما يُصلحُ قلوبَ عبادِهِ، ويُقرِّبها منه، ونهاهُم عمَّا ينافِي ذلكَ ويضادُّه ولمَّا كانتِ الرّوح تقوَى بما تسمعُه من الحكمةِ والموعظةِ الحسنةِ، وتَحْيَا بذلكَ، شرعَ اللَّهُ لعبادِهِ سماعَ ما تقوَى به قلوبُهم، وتتغذّى وتزدادُ إيمانًا. فتارةً يكونُ ذلك فرضًا عليهم، كسماع القرآنِ، والذكرِ والموْعظةِ يومَ الجمعةِ في الخطبةِ والصَّلاةِ، وكسماع القرآنِ في الصّلواتِ الجهريّةِ من المكتوباتِ. وتارةً يكونُ ذلك مندُوبًا إليه غيرَ مفترضٍ، كمجالسِ الذكرِ المندُوبِ إليها. فهذا السّماعُ حَادٍ يحدُو قلبَ المؤمنِ إلى الوصولِ إلى ربِّه، يسُوقُه ويشُوقُه إلى قربه، وقد مدحَ اللَّهُ المؤمنينَ بوجودِ مزيدِ أحوالهِم، بهذا السماع. وذمَّ من لا يجدُ منهُ ما يجدونَهُ، فقالَ تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا) . وقال: (فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (22) اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ) . وقال: (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ) .

قال ابنُ مسعودٍ: ما كانَ بين إسلامنَا، وبينَ أنْ عوتبْنَا بهذهِ الآية ِ إلا أربعَ سنينَ. خرَّجَه مسلم. وفي روايةٍ أُخرى قال: فجعلَ المؤمنون يعاتِبُ بعضُهم بعضًا. وعن ابنِ عباسٍ قال: إن اللَّهَ استبْطأ قلوبَ المهاجرينَ فعاتَبهُم، على رأسِ ثلاثَ عشرةَ سنةٍ من نزُولِ القرآنِ، بهذه الآيةِ. فهذه الآية ُ تتضمّنُ توبيخًا وعتابًا لمن سمعَ هذا السماعَ، ولم يُحدِثْ له في قلبهِ صَلاحًا ورقَّةً وخشوعًا، فإنَّ هذا الكتابَ المسمُوعَ يشتملُ على نهاية المطلوبِ، وغايةِ ما تصلُحُ به القلوبُ، وتنجذبُ به الأرواحُ، المعلّقةُ بالمحلًّ الأعْلَى إلى حضرةِ المحبوبِ، فيحْيى بذلك القلبُ بعد مماتِهِ، ويجتمعُ بعدَ شتاتهِ، وتزولُ قسوتُهُ بتدبُّر خطابِهِ وسماع آياتهِ، فإنَّ القلوبَ إذا أيقنتْ بعظمةِ ما سمعتْ، واستشْعَرتْ شَرَفَ نسبةِ هذا القولِ إلى قائلِهِ، أذعنتْ وخضعتْ. فإذا تدبَّرَتْ ما احتَوى عليه من المرادِ ووعتْ، اندكَّتْ من مهابةِ اللَّهِ وإجلالِهِ، وخشعت. فإذا هطلَ عليها وَابلُ الإيمانِ من سُحُب القرآنِ، أخذتْ ما وسعتْ، فإذَا بذَر فيها القرآنُ مِنْ حقائقِ العرفانِ، وسقاهُ ماءُ الإيمانِ، أنبتتْ ما زرعتْ (وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِن كُلِّ زَؤجِ بَهِيجٍ) ، (فانظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كيْفَ يحْي الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا) ، ومتى فقدت القلوبُ غذاءَها، وكانتْ جاهلةً بهِ، طلبت العِوضَ من غيرهِ، فتغذتْ بِهِ، فازداد سقمُها بفقْدِهَا ما ينفعُها والتعوّضِ بما يضرّها. فإذا سقمتْ مالتْ إلى ما فيه ضررُها، ولم تجدْ طعمَ غذائِها، الذي فيه نفعُها، فتعوضتْ عن

سماع الآياتِ، بسماع الأبياتِ. وعن تدبُّرِ معاني التنزيلِ، بسماع الأصواتِ. قال عثمانُ بنُ عفانَ - رضي الله عنه -: لو طهُرتْ قلوبكم ما شبعتُم من كلامِ ربكم. وفي حديث مرسل: "إنَّ هذه القلوبَ تصدَأُ كما يصدا الحديد"، قيل: فما جلاؤُه؛، قالَ: "تلاوةُ كتابِ اللهِ ". وفي حديث آخرَ مرسلٍ، أن النبي - صلى الله عليه وسلم -، خطبَ بعدما قدِمَ المدينةَ، فقال: "إن أحسنَ الحديثِ كتابُ اللهِ، قد أفلحَ منْ زينه اللهُ في قلبِهِ، وأدخلَهُ في الإسلامِ بعد الكفرِ؛ واختارَهُ على ما سواهُ من أحاديث الناسِ. إنه أحسنُ الحديثِ وأبلغُه، أحِبُّوا ما أحبَّ الله، أحِبُّوا الله من كلّ قلوبكِم ". وقالَ ميمونُ بن مِهرانَ: إنّ هذا القرآنَ قدْ خلق في صدُورِ كثيرٍ من الناسِ. والتمسوا حديثًا غيره، وهو ربيعُ قلوبِ المؤمنينَ، وهو غضٌّ جديدٌ في قلوبِهِم. وقال محمدُ بنُ واسع: القرآنُ بستانُ العارفينَ حيثما حلُّوا منه، حلُّوا في نزه!. وقال مالكُ بنُ دينار: يا حملةَ القرآنِ ماذَا زرعَ القرآنُ في قلوبِكم؟! فإنَّ القرآنَ ربيعُ المؤمنينَ، كما أنَّ الغيثَ ربيعُ الأرضِ، فقد ينزلُ الغيثُ من السَّماءِ إلى الأرضِ، فيُصيبُ الحشَّ فتكونُ فيه الحبَّةُ، فلا يمنعُها نتن موضعِهَا أن تهتزَّ وتخضرَّ وتحسُن. فيا حملَة القرآنِ، ماذا زرعَ القرآنُ في قلوبِكُم؟ أين أصحابُ سورة؛ أينَ أصحابُ سورتين؟! ماذا عملتم فيهما. وقال الحسن: تففدُوا الحلاوةَ في الصّلاةِ، وفي القرآنِ، وفي الذكرِ. فإنْ وجدتمُوها فامضُوا وأبشِرُوا، وإنْ لم تجدُوها فاعْلمُوا أنَّ البابَ مغلق. اسمعْ يا منْ لا يجدُ الحلاوةَ في سماع الآياتِ، ويجدها في سماع الأبياتِ. في حديث مرفوع: "منِ اشْتاقَ إلى الجنة فليسْمَعْ كلامَ اللهِ ". كان داودُ الطّائيُّ يترنمُ بالآيةِ في الليلِ، فيرى من سمعهُ أن جميعَ نعيم الدنيا جُمِعَ في ترنُّمه.

قال أحمدُ بنُ أبي الحواري: إنيِّ لأقرأُ القرآنَ، فأنظرُ في آية آيةٍ، فيحارُ فيها عَقْلي، وأعجبُ من حُفَّاظِ القرآنِ، كيف يهنيهمُ النّومُ، ويسعُهُم أن يشْتَغِلُوا بشيءٍ من الدُّنيا، وهم يتلونَ كلامَ اللَّهِ!! أمَا لو فهِمُوا ما يتلونَ، وعَرفُوا حقَّه، وتلذَّذُوا بِهِ، واستحلوا المناجاةَ بِهِ، لذهبَ عنهم النومُ، فَرحًا بما قدْ رُزِقوا. قال ابنُ مسعودٍ. لا يسألُ أحدٌ عن نفسِهِ غيرَ القرآنِ، فمن كانَ يحبُّ القراَنَ فهُوَ يحبُّ اللهَ ورسولَهُ. قال سهل التستريُّ: علامةُ حُبِّ اللَّهِ، حُبُّ القرآنِ. وقال أبو سعيدٍ الخراز: مَن أحبَّ اللَّهَ أحبَّ كلامَ اللهِ، ولم يشبَع من تلاوتهِ. ويُروى عن معاذ قالَ: سيبلى القرآنُ في صدُورِ أقوامٍ، كما يبْلى الثوبُ. فيتهافتُ، فيقرءونه لا يجدون له شهوةً. وعن حذيفةَ قالَ: يوشِكُ أن يدرُسَ الإسلامُ، كما يدرسُ وشيُ الثوبِ. ويقرأُ الناسُ القرآنَ لا يجدونَ له حلاوةً. وعن أبي العَاليةَ قالَ: سيأْتي على الناسِ زمان، تخربُ فيه صدورُهم من القرآنِ، وتبلَى كما تبْلى ثيابُهم، وتهافَت فلا يجدُون له حلاوةً، ولا لذاذةً. قال أبو محمد الجريري - وهو من أكابرِ مشايخ الصوفيّةِ -: من استولْت عليهِ النفسُ، صارَ أسيرًا في حكم الشَّهواتِ، محصُورًا في سجنِ الهوَى. فحرَّم اللَّهُ على قلبِهِ الفوائدَ، فلا يستلذُّ بكلامِهِ، ولا يستحلِيهِ، وإنْ كثُرَ تردادُه على لسانِه. وذُكِرَ عند بعضِ العارفينَ أصحابُ القصائدِ، فقالَ: هؤلاءِ الفرارُونَ من اللهِ عز وجل، لو ناصحُوا اللَّهَ، وصدَّقُوه، لأفادَهُم في

سَرائرِهِم، ما يشغلُهم عن كثرةِ التلاقِي. واعلمْ أن سماعَ الأغانِي يضادُ سماعَ القرآنِ، مِنْ كلِّ وجهٍ. فإنّ القرآنَ كلامُ اللَّهِ، ووحيُهُ ونوُرهُ، الذي أحيا اللَّهُ به القُلوبَ الميتةَ، وأخرجَ العبادَ به من الظلماتِ إلى النّورِ. والأغاني وآلاتُها مزاميرُ الشيطانِ. فإنَّ الشيطانَ قرآنهُ الشعرُ، ومؤذِّنُه المزمارُ، ومصائِدُه النّساءُ. كذا قالَ قتادةُ وغيرُه من السَّلفِ. وقد رُوي ذلك مرفوعًا، من روايةِ عبيدِ اللَّه بن زحْر، عن عليِّ بنِ يزيدَ عن القاسم، عن أبي أمامةَ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وقدْ سبقَ ذكرُ هذا الإسنادِ. والقرآنُ تُذكر فيه أسماءُ اللَهِ، وصفاتُهُ وأفعالُهُ، وقدرتُهُ وعظمتُة، وكبرياؤه وجلالُه، ووعدُه ووعيدُه. والأغاني إنما يُذكرُ فيها: صفاتُ الخمرِ والصورُ المحرّمُة، الجميلةُ ظاهرُها المستقذرُ باطنُها التي كانتْ تُرابًا، وتعُود ترابًا. فمن نزّل صفاتِها على صفاتِ من ليس كمثلِهِ شيءٌ وهوَ السَّميعُ البصيرُ، فقد شبَّه، ومرقَ من الإسلامِ، كما - يمرُقُ السهمُ من الرميةِ. وقد رُئيَ بعضُ مشايخ القومِ في النَّومِ بعدَ موتِهِ. فسُئِلَ عن حالِهِ فقالَ: أوقفني بينَ يديه، ووبَّخني، وقالَ: كنتَ تسمعُ وتقِيسُني بسُعْدى ولُبنَى. وقد ذكرَ هذا المنامَ أبو طالبٍ المكيُّ، في كتابِ "قوتِ القلوبِ ". وإن ذُكر في شيءٍ من الأغانِي التوحيدُ، فغالِبُه من يسوقُ ظاهرُه إلى الإلحادِ: من الحلولِ والاتحادِ، وإن ذُكِرَ شيءٌ من الإيمانِ والمحبةِ، أو توابع

ذلكَ، فإنَّما يُعبَّرُ عنه بأسماء قبيحةٍ، كالخمرِ وأوعيتِهِ ومواطنِهِ وآثارهِ، ويُذكر فيه الوصلُ والهجرُ، والصدودُ والتجنِّي. فيطربُ بذلكَ السامعونَ، وكأنَّهم يشيرون، إلى أن اللَّه تعالى، يفعل مع عبادهِ المحبينَ له المتقربينَ إليه، كما يذكرونَهُ. فيبعدُ ممن يتقربُ إليه، ويصدُّ عمن يحبُّه ويُطيعُه، ويُعرِضُ عمن يُقبلُ عليه. وهذا جهل عظيمٌ فإنَّ اللَّهَ تعالى يقولُ، على لسانِ رسُوله الصادقِ المصدوقِ - صلى الله عليه وسلم -: "من تقرَّبَ منِّي شِبْرًا تقربت منه ذراعًا، ومن تقرَّبَ مني ذراعًا تقرَّبتُ منه باعًا، ومن أتَاني يمشِي أتيته هرولةً". وغايةُ ما تحرِّكُه هذه الأغاني: ما سكنَ في النفوسِ من المحبَّةِ، فتتحركُ القلوبُ إلى محبوباتِها، كائنة ما كانتْ، من مباح ومحرّمٍ وحقٍّ وباطلٍ. والصّادقُ من السامعينَ، قد يكونُ في قلبهِ محبّةُ اللهِ، مع ما ركزَ في الطباع من الهَوى، فيكونُ الهَوى كامِنًا، لظهورِ سُلطانِ الإيمانِ. فتحركُّه الأغاني. مع المحبّةِ الصحيحةِ. فيقْوى الوجدُ، ويظن السامعُ، أنْ ذلكَ كلَّه محبّةُ اللَّهِ. وليسَ كذلك. بل هي محبّة ممزوجةٌ ممتزجة، حقُّها بباطِلها. وليسَ كلُّ ما حرك الكامنَ في النفوسِ، يكونُ مُباحًا في حكم اللَّهِ ورسولهِ. فإنّ الخمرَ تحركُ الكامنَ في النُفوسِ، وهي محرمة في حكم اللَّهِ ورسولهِ كما قِيلَ: الرَّاحُ كالريح إِن هبَّتْ على عِطْرٍ. . . طابتْ وتخبثُ إنْ مرَّتْ على الجِيَفِ وهذا السماعُ المحظورُ، يُسكرُ النفوسَ، كما يسكرُ الخمرُ أو أشدُّ، ويصدُّ

عن ذكرِ اللَّهِ، وعن الصَّلاةِ، كالخمرِ والميسرِ فإن فُرضَ وجُودُ رجلٍ يسْمعُه، وهو ممتَلئٌ قلبُه بمحبةِ اللَّهِ، لا يؤثرُ فيه شيءٌ من دَواعِي الهوى بالكليةِ، لم يُوجبْ ذلك له خصوصًا، ولا للنّاسِ عمومًا. لأنّ أحكامَ الشريعةِ، تناطُ بالأعمِّ الأغلبِ. والنَّادرُ ينسحبُ عليه حكمُ الغالبِ، كما لو فُرض رجل تامُّ العقلِ، بحيثُ لو شرِبَ الخمرَ، لم يُؤثرْ فيه ولم يقعْ فيه فساد، فإنَّ ذلك لا يوجبُ إباحةَ الخمر له، ولا لغيرهِ. على أنَّ وجودَ هذا المفروضِ في الخارج. في الصُّورتين: إما نادرٌ جدًّا أو ممتنعٌ متعذرٌ. وإنما يظهرُ هذا السماعُ، على هذا الوجهِ، حيث جرّد كثير من أهلِ السلوكِ الكلامَ في المحبةِ ولهجِوا بها، وأعرضُوا عن الخشيةِ. وقد كانَ السلفُ الصالحُ يُحذِّرون منهمُ، ويفسِّقون من جرَّدَ، وأعرضَ عن الخشيةِ إلى الزندقةِ. فإنَّ أكثرَ ما جَاءتْ به الرّسُلُ، وذكرَ في الكتابِ والسنةِ: هو خشيةُ اللَّهِ وإجلالِهِ وتعظيمِهِ، وتعظيم حرماتِهِ وشعائِرهِ، وطاعتِهِ. والأغاني لا تحرّكُ شيئا من ذلكَ، بلْ تُحدِثُ ضدَّهُ من الرعُونَةِ والانبساطِ والشطح، ودعوى الوصُولِ والقُربِ، أو دعوى الاختصاصِ بولايةِ اللَّهِ التي نسب اللَّهُ في كتابه دعواها إلى اليهودِ. فأمَّا أهلُ الإيمانِ، فقد وصفهُم بأنَّهم (يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وًّ قلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ) ، وفسَّر ذلكَ النبي - صلى الله عليه وسلم - بأنَّهم: "يصومونَ ويتصدقونَ، ويصلُّون ويخشونَ أن لا يُتقبلَ منْهُم ". وقد كانَ الصحابةُ - رضي الله عنهم - يخافونَ النفاقَ على نفوسِهم، حتَى قالَ الحسنُ: ما أمِنَ النفاقَ إلا منافقٌ، ولا خشِيَهُ إلا مؤمنٌ.

قوله تعالى: (إن المصدقين والمصدقات وأقرضوا الله قرضا حسنا)

ويوجبُ أيضًا سماعُ الملاهي: النفرةَ عن سماع القرآنِ، كما أشارَ إليه الشافعيُّ رحمه اللَّه. وعدمَ حضورِ القلبِ عند سماعِهِ، وقلّةَ الانتفاع بسماعِهِ. ويوجبُ أيضًا قلّةَ التعظيم لحرماتِ اللَّهِ، فلا يكادُ المدمِنُ لسماع الملاهِي، يشتدُّ غضبُهُ لمحارمِ اللَّهِ تعالَى إذا انتُهكَتْ، كما وصفَ اللَّهُ تعالى المحبّينَ لهُ بأنَّهم (أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ) . ومفاسدُ الغناءِ كثيرةٌ جدًّا. وفي الجملةِ فسماعُ القرآنِ ينبتُ الإيمانَ في القلبِ، كما ينبِتُ الماءُ البقلَ. وسماعُ الغناءِ ينبتُ النفاقَ، كما ينبتُ الماءُ البقلَ. ولا يستويانِ حتى يستوي الحقُّ والبُطلانُ (وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ (19) وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ (20) وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ (21) وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (22) . واللَّهُ تعالى المسئولُ أن يهدِيَنا وسائرَ إخوانِنَا المؤمنينَ إلى صراطٍ مستقيم، صراطِ الذين أنعمَ عليهم غير المغضوبِ عليهِم، ولا الضالين آمين والحمدُ للَّه ربِّ العالمينَ، وصلَّى اللَّه على سيدنا محمدٍ، وآلهِ وصحبهِ أجمعين. * * * قوله تعالى: (إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا) وقد قال طائفة من السَّلف في قولِ اللَّهِ عزَّ وجلَّ: (وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا) : إنَّ القرضَ الحسنَ قولُ: سبحانَ اللَّهِ، والحمد اللَّهِ، ولا إلهَ إلا اللَّهُ، واللَّهُ أكبرُ. وفي "مراسيلِ الحسنِ "، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قالَ:

قوله تعالى: (سابقوا إلى مغفرة من ربكم)

"ما أتفقَ عبدٌ نفقة أفضلَ عندَ الله عزَّ وجلَّ من قول ليس من القرآن وهو من القرآن: سبحان اللَّه، والحمد للَّه، ولا إله إلا اللَّهِ واللَّه اكبر" ً. * * * قوله تعالى: (سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ) وقال بعضُ السلفِ في قول اللَّه تعالى: (السَّابِقُونَ السَّابِقُونَ) : إِنَّهم أوَّل الناسِ خروجًا إلى المسجدِ وإلى الجهادِ. وفي قوله: (سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَة مِّن رَّبكمْ) . قال مكحول: التكبيرةُ الأولى مع الإمامِ. وقال غيرُه: التكبيرة الأولى والصفُّ الأول. * * *

سورة المجادلة

سُورَةُ المُجَادلَةِ قوله تعالى: (فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ) وخرَّج محمد بنُ نصر المروزيُّ بإسنادٍ ضعيفٍ جدًّا عن أنسٍ قالَ: لم يكنِ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يقبل مَنْ أجابه إلى الإسلامِ إلا بإقام الصلاةِ، وإيتاءِ الزكاةِ، وكانتا فريضتين على مَنْ أقرَّ بمحمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - وبالإسلامِ، وذلك قولُ اللَّه عزَّ وجل: (فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ) . وهذا لا يثبتُ، وعلى تقديرِ ثبوتِهِ، فالمرادُ منه: أنه لم يكن يُقرُّ أحدًا دخلَ في الإسلامِ على تركِ الصَّلاةِ والزكاةِ، وهذا حقّ فإنه - صلى الله عليه وسلم - أمر معاذًا لما بعثَهُ إلى اليمنِ أن يدعُوَهُم أوَّلاً إلى الشهادتينِ. وقالَ: "إنْ هُمْ أطاعوك لذلكَ، فأعلمهُم بالصلاةِ ثم بالزكاةِ" ومُرادُه أن من صارَ مسلمًا بدخولِهِ في الإسلامِ أُمِرَ بعدَ ذلكَ بإقامِ الصلاةِ، ثم بإيتاءِ الزكاةِ، وكانَ من سألهُ عن الإسلامِ يذكرُ له مع الشهادتين بقيةَ أركانِ الإسلامِ، كما قالَ لجبريلٍ عليه السلامُ لما سألهُ عن الإسلامِ، وكمَا قال للأعرابيِّ الذي جاءَهُ ثائرَ الرأسِ يسألُ عن الإسلامِ. * * *

سورة الحشر

سُورَةُ الحَشْرِ قوله تعالى: (مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ) الأرضُ المعنوةُ هل هي داخلةٌ في آيةِ الغنائم المذكورةِ في سورةِ الأنفالِ وهي قوله تعالى: (وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ) الآية. أمْ هي داخلةٌ في آيةِ الفيءِ المذكورةِ في سورةِ الحشرِ وهي قوله تعالى: (مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ) ، الآية ثم ذكر ثلاثة أصناف المهاجرين والأنصارَ ومن جاء بعدَهم؛ فقالتْ طائفةٌ: الأرضُ داخلةٌ في آية الغنيمة، فإنه تعالى قال: (وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ) ، وشيءٌ نكرةٌ في سياقِ النَّفيً فيعمهُ كلَّ ما يُسمى شيئًا، قالوا: وآيةُ الفيءُ لم يدخل فيها حكمُ الغنيمة كما أنَّ آيةَ الغَنِيْمةِ لم يَدْخلْ فيها الفيءُ بلْ الغنيمةُ والفيءُ لكل واحدٍ منهما حمٌ يختصُّ له، وهذا قولُ مَنْ قالَ من الفقهاءِ: إنَّ الأرضَ تتعينُ قسمتُها بينَ الغانمينَ. وقالت طائفةٌ: بل الأرضُ داخلةٌ في آيةِ الفيءِ، وهذا قولُ أكثرِ العلماءِ صرحُوا بذلك، وممن روي عنه عمر بن عبد العزيز، وقد سبق ذكر من قال من السلف: إن السَّوادَ فيءٌ ونصَّ عليه الإمامُ أحمد.

ووجه دخول الأرض في الفيءِ أنَّ اللَّه تعالى قال: (مَا أَفَاءَ اللَّه عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ) إلى قوله: (وَالَّذِينَ جَاءوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا) الآية، فجعل الفيءَ لثلاثةِ أصنافٍ؛ المهاجرينَ والأنصارَ والذين جاءوا من بعدهم ولذلك لما تلا عمرُ - رضي الله عنه - هذه الآية قال: "استوعبتُ هذه الآيةُ الناسَ فلم يبقَ أحدٌ من المسلمين إلا له فيها حق إلا بعضَ من تملكون من أرقائِكم " خرَّجَه أبو داود من طريق الزُّهْري عن - رضي الله عنه - منقطعًا. وروي من وجه آخرَ عن الزهري موصولاً، ورواه هشامُ بنُ سعدٍ عن زيدِ بنِ أسلمَ عن أبيه عن عمر - رضي الله عنه - أيضًا. ثمَّ إنَّ عمرَ - رضي الله عنه - جعل أرضَ العنوة فيئًا وأرصدَها للمسلمين إلى يومِ القيامةِ، فدل على أنَه فهِمَ دخولَها في آياتِ الفيءِ ولذلك قرَّره أميرُ المؤمنين عمرُ بنُ عبد العزيز في رسالتِهِ المشهورةِ التي بَين فيها أحكام الفيءِ وقد اعتمدَ عليها مالكٌ وأخذَ بها، كما ذكر ذلك القاضي إسماعيل في كتاب "أحكام القرآن " وساقها بتمامها بإسناده، وذكرَ البخاريّ في "صحيحه " بعضها تعليقًا وبَيَّنَ دخول الأرضِ في الفيءِ وأنَّ هذه الآياتِ ليستْ بسببِ بني النضيرِ. وبنو النَّضيرِ أجَلاَهم النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - من المدينة بعدَ أن حاصرَهم قال الزهريُّ: حاصر رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - بني النضير وهم سبط من اليهودِ بناحيةِ من المدينة حتى نَزَلُوا على الجلاءِ وعلى أنهَ لهم ما أقلَّت الإبل من الأمتعةِ إلا الحلقةَ فأنزل اللَّه فيهم يعني أول سورة الحشرِ. خرَّجه أبو عبيدٍ وخرَّجه أبو داود مطولاً من طريق الزهري عن عبد الرحمن بن كعب عن رجلٍ من أصحابِ

النبي - صلى الله عليه وسلم - فذكر حديثًا طويلاً وفيه أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - غزا على بني النضير بالكتابِ فقاتَلَهَم حتى نزلوا على الجلاءِ فجلَتْ بنو النضير واحتملوا ما أقلَّتِ الإبلُ من أمتعتِهم وأبوابِ بيوتهم وخشبِها، فدلَّ أنَّ نخلَ بني النضير لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - خاصةً أعطاه الله إياها وخصَّه بها فقال تعالى: (وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْل وَلا رِكَابٍ) ، يقول: فأعطى النبي - صلى الله عليه وسلم - أكثرَها للمهاجرين وقسَّمها بينهم وقسَّم منها لرجلين من الأنصار كانا ذوي حاجةٍ. وبقي منها صدقة رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - التي في أيدي بني فاطمةَ - رضي الله عنها -، وهذا الكلام أكثره مدرجٌ من قولِ الزهري واللَّه أعلم. وخرَّج أبو داود من قولِه: "كانتْ بنو النَّضيرِ للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم - " إلى آخرِهِ من قول الزهريَ. وثبت في "الصحيحين " عن ابنِ عمرَ - رضي الله عنهما -: أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - حرَّق نخل بني النضير وقطَّع وهي البوُيْرَة فنزلتْ فيهم هذه الآيةُ: (مَا قَطَعْتُم مِّن لِّينَةٍ أَوْ تَرَكتمُوهَا) الآية. وفي "الصحيحين " أيضًا عن عمر - رضي الله عنه - أنه قال: "كانت أموالُ بني النضير مما أفاء اللَّه على رسولِهِ مما لم يوجفْ المسلمون عليه بخيلٍ ولا ركابٍ وكانتْ لرسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - خاصةً فكان ينفقُ منها على أهلِهِ نفقةَ سنة ثمَّ ما بقي جعلَه في الكُرَاع والسلاح عدةً في سبيل اللَّه عز وجلَ. وإذا عُلِمَ أنَّ الآيةَ نزلتْ بسببِ بني النضير فبنو النضير بما تركُوا أرضَهم ونخْلَهم وسلاحَهم وقد جعلَه اللَّه فيئًا وخصَّه برسولِهِ إمَّا لأنَه كانَ يملكُ الفيء في حياتِهِ، أو لأنه كان يُقسِّمه باجتهادِهِ ونظرِه بخلافِ الغنيمة ولا ريبَ أنَّ

بني النضير لم يتركُوا أرضَهم إلا بعد حصار ومحاربةٍ ولم ينزلوا من حصونِهم إلا خشيةَ القتلِ ومع هذا فقد جعلَ اللَّه أرضَ بني النضير فيئًا. وقوله تعالى: (فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْل وَلا رِكابٍ) تذكيرٌ بنعمةِ اللَّهِ عليهم في أنَّهم لم يحتاجوا في أخذِ ذلك إلى كثير عملٍ ولا مشقةٍ، وقال مجاهدٌ في قوله: (فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ) قال: يذكرُهم ربُّهم أنَّه نصرَهم بغيرِ كراع ولا عدةٍ في بني قريظةَ وخيبرَ. خرَّجه آدم بن أبي إياسٍ عن ورقاءَ عن أبي نجيح عنه، ومعلوم أنَّ خيبرَ وقعَ فيها قتال لكن يسير فتكون الآية ُ كقوله: (وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ) وحينئذ فإمَّا أن تكونَ الأرضُ تُستثنى من عمومِ قوله: (وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ) الآية، فيكونُ ذلك تخصيصًا من العامِّ، وإمَّا أن يكونَ هذا ناسخًا لحكم الأرضِ من آيةِ الغنيمةِ فإنَّ قصةَ بني النضير بعدَ قصةِ بدرٍ بالاتفاق والأشبهُ التخصيصُ إلا أنْ يقالَ: إنَّ قصةَ بدرٍ لم يدخُلْ فيها إلا المنقولات إذ لم يكنْ في غنيمةٍ بدرٍ أرضٌ، وهذا على قول من يَرى التخصيصَ بالسببِ ظاهرٌ، ومما يدل على تخصيصِ آيةِ الغنيمةِ بالمنقولاتِ، أنَ الله تعالى خصَّ هذه الأمة بإباحةِ الغنيمة كما ثبتَ ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من وجوه كثيرةٍ. والذي خصتْ بإباحته هو المنقولاتُ دونَ الأرضِ، فإنَّ اللَّه تعالى أورثَ بني إسرائيل أرضَ الكفارِ وديارَهُم ولم يكن ذلك ممتنعًا عليها، لأنَّ الأرضَ ليستْ بداخلة في مطلقِ الغنيمةِ وإنَّما كان ممتنعًا عليهم المنقولاتِ، ولهذا كانُوا يحرِّقونها بالنار وإنَّما خصَّ الغانمون من هذه الأمة بالمنقولاتِ دون الأرضِ. لأنَّ قتالَهم وجهادَهُم للَّه عزَّ وجلَّ لا للغنيمةِ، وإنَّما الغنيمةُ رخصةٌ من اللَّهِ تعالَى ورحمةٌ بهم فخصُّوَا بما ليسَ له أصل يبقى، وأما ما له أصلٌ يبقَى فإنه

يكونُ مشتركًا بين المسلمينَ كلِّهم، من وُجِدَ منهم ومن لم يوجدْ بعد ذلك. ويبينُ هذا أنَّ الله تعالى نسبَ الغنيمةَ للغانمين، فقال: (وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ) ، فأمَّا الأرضُ فأضافها إلى الرسول لقولِهِ: (مَا أفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى) إشارةً إلى أن كلَّ قريية يفيئُها اللَّهُ على أمتِهِ إلى يومِ القيامةِ، فهي مضافةٌ إلى الرسول غيرُ مختصةٍ بالغانمين، والإمامُ يقومُ مقامَ الرسول في قسمتِها بالاجتهاد. وقولُهُ: (مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى) من الأرض خاصة وقد صحَّ عن عطاءِ بن السائب والحسنِ البصري وغيرِهما من السلفِ أنهم قالُوا: الأرضُ فيءٌ وإن أخذتْ بقتالٍ وتقدَّم ذكرُ ذلك عن جماعة من العلماءِ يدلُّ على ذلك أنَّه جعلها لثلاثةِ أصنافٍ المهاجرينَ والأنصارِ ومن جاء بعدَهم من المسلمين، وهذا لا يمكنُ في المنقولاتِ قطعًا، لأنَّ المنقولاتِ تستهلكُ ويختصُّ به من يأخذُهُ فلا يمكنُ اشتراكُ جميع المسلمينَ فيه، وقد قيلَ: إنَّ هذه الآية نزلتْ في قرى عرينةَ التي فتحتْ على النبي - صلى الله عليه وسلم -، أو فيها وفي قرى بني قريظة والنضير وحنين، وقيلَ: بل الآية ُ تعمُّ كلَّ ما فتحَ إلى آخر الدهر، وهو أصحُ، وإن كانَ سببُ نزولها في قرى عرينة، فإنَّ سبب الثزولِ لا يختص الحكمَ العامَّ. قال معمرٌ: بلغنَا أن هذه الآيةَ نزلتْ في الجزيرةِ والخراج، وخراج القُرى. يعني القُرى تؤدِّي الخراجُ ذكرُهُ ابنُ أبي حاتمٍ، وكذا قال الحسنُ بنُ صالح: أن الفيءَ ما أُخذَ من الكفارِ بصلح من جزيةٍ أو خراج، وكذا فسر أحمدُ الفيءَ بأنه ما صولح عليه من الأرضين وجزيةِ الرؤوس وخراج الأرضِ. وقال: فيه حق لجميع المسلمين، ولم يذكرْ في هذه الآيةِ بغيرِ إيجافٍ، كما ذكرهُ في

الآية الأولى، وقد تقدَّم عن مجاهدٍ أنه حمل الآية الأولى على خيبر وقريظةَ مع ما فيها من نفي الإيجافِ، فما لم يذكرْ فيه نفيُ الإيجافِ أوْلى أن يحملَ على حالةِ القتالِ، فمن هنا قالتْ طائفة من السلف: المرادُ به ما أخذَهُ المسلمونَ بقتالٍ من الأرضِ. ذكرَ إسماعيلُ بن إسحاقَ عن أبيه عن المغيرة بنِ عبد الرحمن، قالَ ابنُ إسحاقَ: وحدَّثني عبد الله بن أبي بكرٍ دخلَ حديثُ أحدُهما في الآخر. قال: أنزلَ اللَّهُ تعالى في بني النضير سورة الحشرِ، فكانتْ أموالُ بني النضير مما لم يوجفِ المسلمونَ عليه خيلاً ولا ركابًا، فجعل اللَّهُ أموالَهم لنبيِّه - صلى الله عليه وسلم - يضَعُها حيثُ شاءَ، ثم قالَ: (مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى) ما أوجفَ المسلمون عليه بالخيل والركابِ، وفُتحَ بالحربِ فللَّه وللرسول ولذي القربى، فهذا قسم آخرُ بينَ المسلمين على ما وضَعهُ اللَّهُ عزَّ وجلَّ فقسم الفيءَ لمن سمَّى من المهاجرينَ والأنصارِ، لمن جاء بعدهم. خرَّجه القاضي إسماعيلُ. ونحو هذا قالَ قتادةُ ويزيد بن رومانَ: وأن هذه القرى مما أخذ بالقتال لكنَهم قالوا: نُسخ ذلك بآيةِ الأنفالِ، فإن أرادوا النسخَ الاصطلاحي، وهو رفعُ الحكم، فلا يصحُّ؛ لأنَّ آيةَ الأنفالِ نزلت عقبَ بدرٍ قبلَ بني النضير. وإن أرادُوا أنها بينت أمرَهَا وأنَّ المرادَ بآيةِ الحشرِ خُمسُ الغنيمةِ خاصةً، وهذا قولُ عطاءٍ الخراسانيِّ ذكرهُ آدمُ بنُ أبي إياسٍ في "تفسيرِهِ " عن أبي شيبةَ عنه على تقديرِ أن يكونَ المرادُ الخمسَ خاصة بآيةِ الحشر أنها بينت أنَّ خُمسَ الغنيمةِ لا يختصُّ بالأصنافِ الخمسِ، بل يشتركُ فيها جميعُ المسلمين كان متوجّها، ويستدلُّ بذلك على أن مصرف الخمسِ كلَّه مصرفُ الفيء، وهو

أقوى الأقوالَ، وهو قولُ مالكٌ وقرره عمرُ بنُ عبد العزيزِ في رسالتِهِ في الفيءِ تقريرًا بليغًا شافيًا - رضي الله عنه -. فهذه ثلاثة أقوال في الآية إذا قلنا: إنَّ الفيءَ هنا ما أخذَ بقتالٍ، هل هي منسوخة أو أن المرادَ بها خمسُ الغنيمةِ أو أنَّ المرادَ بها الأرضُ خاصةً، وهذا الثالثُ أصحُّ ويقررُ هذا أنَّ الفيءَ يستعملُ كثيرًا فيما أخذ بقتالٍ. وروى إبراهيمُ بنُ طهمانَ عن أبي الزبير عن جابر - رضي الله عنه - قال: "أفاءَ اللَّه على رسولِهِ خيبرَ فأقرَّهم رسولُ اللَّه - صلى الله عليه وسلم - كما كانُوا"، وذكرَ الحديث. وروى يحيى بنُ سعيد عن بشير بنِ يسار أنَّ رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - لما أفاء اللهُ عليه خيبرَ قسمَها ستةً وثلاثينَ سهمًا، وذكرَ الحديث. خرَّجه أبو داود. وإذا تقرَّرَ هذا فمن رأى دخولَ الأرضِ في آية الغنيمةِ خاصةً أوجبَ قسمتَها بين الغانمينَ، ومن رأى دخولَها في آية الفيءِ خاصةً فمنهم من أوجب إرصادَهَا للمسلمينَ عمومًا، كقول مالكٍ وأصحابِهِ، ومنهم من خير بين ذلك وبين قسمتِها، وهو قولُ الأكثرين، ثمَّ إنَّ أبا عبيد زعمَ أنَّ الصحابةَ - رضي الله عنهم - رأوا دخولَها في كلتا الآيتَيْنِ، فلذلكَ منهم من أشارَ بقسمتِها ومنهُم من أشارَ بحبسِها، وردَّ ذلك أصحابُ مالكٌ، وقالُوا: لو دخلتْ في آيةِ الغنيمةِ لكانتْ حقًّا للغانمينَ كالمنقولاتِ، فكيف يخيرُ الإمامُ بين إعطائها لأهلِها المستحقين لها وبين منعِهم حقّهم. وقد يقالُ: إنَّ من رأى قسمتَها كالزبير وبلالٍ - رضي الله عنهما -، وهو أولُ اختيارَيِّ عمرَ - رضي الله عنه - لم يكنْ مأخذُهُ في ذلك دخولَها في آيةِ الغنيمة، وإنما يكونُ

قوله تعالى: (ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون (9)

مأخذُهُم في ذلكَ أنها لما كانت فيئًا لجميع المسلمين، وحقًّا مشتركا بينهم جاز تخصيصُ الغانمينَ بها لأنهم من جملةِ المسلمين، ولهم خصوصيةٌ على غيرِهم بحصولِ هذه الأرضِ بقتالِهم عليها، فإذا كانتِ المصلحةُ في تخصيصِهم بها جازَ، وهذا كما أقطع عثمانُ - رضي الله عنه - جماعةً من الصحابة بعض أرضِ السوادِ إقطاعَ تمليكٍ، ونظيرهُ وقفُ الإمامِ بعضَ أراضي بيتِ المالِ على بعضِ المسلمين، وقد أفتى بجوازِ ذلك ابنُ عقيل من أصحابنا وطوائفُ من أصحاب الشافعي وأبي حنيفةَ، ومن الشافعية من منع ذلك. * * * قوله تعالى: (وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9) من ملك نفسَهُ وقهرَهَا ودانَها: عزَّ بذلكَ " لأنه انتصرَ على أشدِّ أعدائهِ وقهرهُ وأسرهُ واكتفَى شرَّه قال اللَهُ تعالى: (وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) ، فحصرَ الفلاحَ في وقايةِ شحِّ نفسِهِ، وتطلُّعِها إلى ما مُنعتْ منهُ، وحرصِها على ما يُضيرُها مما تشتهيهِ: من علوٍّ وترفع، ومالٍ وجاهٍ وأهلٍ ومسكنٍ، ومأكلٍ ومشربٍ وملبسٍ وغيرِ ذلكَ. فإنَّها تتطلعُ إلى ذلكَ كلِّه وتشتهِيهِ، وهو عينُ هلاكِهَا ومنه ينشأ البغيُ والحسد والحقدُ. فمن وقِيَ شح نفسه فقد قهرهَا وقصرَهَا على ما أُبيحَ لها وأُذنَ لها فيه، وذلكَ عين الفلاح. * * *

قوله تعالى: (ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رءوف رحيم (10)

قوله تعالى: (رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (10) فأفضلُ الأعمالِ: سلامةُ الصدرِ من أنواع الشَّحناءِ كلّها، وأفضلها السَّلامةُ من شحناءِ أهلِ الأهواءِ والبدع التي تقتضِي الطعنَ على سلفِ الأمةِ. وبغضَهم والحِقدَ عليهم، واعتقادَ تكفيرِهم أو تبديعِهم وتضليلِهم، ثم يلي ذلكَ سلامةُ القلبِ من الشَّحناءِ لعمومِ المسلمينَ، وإرادةُ الخيرِ لهُم. ونصيحتُهم، وأن يُحبَّ لهم ما يُحبُّ لنفسهِ. وقد وصفَ اللَهُ تعالى المؤمنين عمومًا بأنَّهم يقولون: (رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (10) . وفي "المسندِ" عن أنسٍ أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال لأصحابِهِ ثلاثةَ أيامٍ: "يطلُعُ عليكم الآنَ رَجُل مِن أهلِ الجنةِ" فيطلُعُ رجل واحدٌ، فاستضافهُ عبدُ اللَّهِ بن عمرو، فنامَ عنده ثلاثاً لينظرَ عملَه، فلم ير له في بيته كبيرَ عملٍ، فأخبرَه بالحال، فقال له: هو ما ترى، إلا أني أبيتُ وليسَ في قلبي شيءٌ على أحدٍ من المسلمين. فقالَ عبدُ اللهِ: بهذا بلغَ ما بلغَ. وفي "سُننِ ابنِ ماجةَ ": عن عبدِ اللَّهِ بنِ عمرو، قالَ: قِيل: يا رسول اللَّهِ، أيُّ الناسِ أفضلُ؟ قال: "كُلُّ مُخْمُوم القلبِ، صدوقِ اللِّسانِ ". قالوا: صَدوقُ اللسانِ نعرفُه، فما مَخمُومُ القلبِ؟ قال: "هو التَّقِيُ النَّقِيُ الذي لا إثْمَ فيه، ولا بَغْيَ، ولا غِلَّ، ولا حسدَ".

قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون (18) ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم أولئك هم

قال بعضُ السَّلفِ: أفضلُ الأعمالِ سلامةُ الصُّدُورِ، وسخاوةُ النُّفوسِ. والنصيحةُ للأمَّةِ، وبهذه الخصالِ بلغَ منْ بلغَ، لا بكثرةِ الاجتهادِ في الصَّومِ والصَّلاةِ. * * * قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (19) وأعظمُ الشدائدِ التي تنزلُ بالعبدِ في الدنيا الموتُ، وما بعده أشدّ منه إن لم يكنْ مصيرُ العبدِ إلى خيرٍ، فالواجبُ على المؤمنِ الاستعدادُ للموتِ وما بعدَهُ في حال الصحةِ بالتقوى والأعمالِ الصالحةِ، قالَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (19) . فمن ذكرَ اللَّهَ في حالِ صحتِهِ ورخائِهِ، واستعدَّ حينئذٍ للقاءِ اللَّهِ عزَّ وجلَّ بالموتِ وما بعدَهُ، ذكرَهُ اللَهُ عندَ هذه الشدائدِ، فكانَ معهُ فيها، ولطفَ به، وأعانَهُ، وتولاهُ، وثبّتَه على التوحيدِ، فلقيهُ وهو عنه راضٍ، ومن نسِيَ اللَّهَ في حالِ صحته ورخائِهِ، ولم يستعد حينئذ للقائِهِ، نسيهُ اللَّهُ في هذه الشدائدِ، بمعنى أنًّه أعرضَ عنهُ، وأهملَهُ، فإذا نزلَ الموتُ بالمؤمنِ المستعدِّ لهُ، أحسنَ الظن بربِّهِ، وجاءتْهُ البُشْرَى مِنَ اللَهِ فأحبَّ لقاءَ اللهِ، وأحبَّ اللَّهُ لقاءَه، والفاجرُ بعكسِ ذلكَ، وحينئذٍ يفرحُ المؤمنُ، ويستبشرُ بما قدَّمَهُ مما

هو قادم عليهِ، ويندمُ المفرطُ، ويقولُ: (يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ) . قال أبو عبدِ الرحمنِ السُّلَّمي قبلَ موتِهِ: كيفَ لا أرجُو ربِّي وقد صُمْتُ له ثمانينَ رمضانَ؟ وقال أبو بكر بنُ عياشٍ لابنه عندَ موتِهِ: أترى اللَّه يضيعُ لأبيكَ أربعينَ سنةً يختمُ القرآن كُلَّ ليلة؟ وختمَ آدمُ بنُ أبي إياس القرآنَ وهو مسجًّى للموتِ، ثم قالَ: بحُبِّي لكَ. إلا رفقتَ بي في هذا المصرع؛ كنتُ أُؤمِّلُك لهذا اليوم، كنتُ أرجوكَ، لا إله إلا اللَّه، ثم قُضِي. ولما احتُضِرَ زكريا بنُ عدي، رفعَ يديهِ، وقالَ: اللهمّ إنِّي إليكَ لمشتاق. وقال عبدُ الصمدِ الزاهدُ عند موتِهِ: سيِّدي لهذهِ الساعةِ خبَّأتُكَ، ولهذا اليومِ اقتنيتُكَ، حقِّق حُسْنَ ظنِّي بكَ. وقال قتادةُ في قولِ اللَّهِ عزَّ وجلَّ: (وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّه مَخْرَجًا) قال: من الكربِ عندَ الموتِ. وقال عليٌّ بنُ أبي طلحةَ عن ابنِ عباس في هذه الآيةِ: يُنجيهِ من كلِّ كرب في الدنيا والآخرةِ. وقال زيدُ بنُ أسلمَ في قولهِ عزَّ وجلَّ: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ) . قال: يُبشر بذلكَ عند موتِهِ، وفي قبرِهِ. ويومَ يُبعثُ، فإنَّه لفي الجنةِ، وما ذهبتْ فرحةُ البشارةِ من قلبهِ.

وقال ثابت البنانيُّ في هذه الآيةِ: بلغنا أن المؤمنَ حيثُ يبعثه اللَّه من قبره. يتلقاهُ ملكاهُ اللذانِ كانَا معه في الدنيا، فيقولانِ لهُ: لا تخفْ ولا تحزنْ. فيؤمِّنُ اللَّهُ خوفَه، ويُقرُّ اللَّهُ عينَه، فما مِنْ عظيمة تغشى الناسَ يومَ القيامة إلا هي للمؤمنِ قرَّةُ عينٍ لما هداهُ اللَّهُ، ولما كانَ يعملُ في الدُّنيا. * * *

سورة الممتحنة

سُورَةُ المُمْتَحَنَةِ قوله تعالى: (رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (5) قال ابن الجوزي في "المقتبس ": سمعتُ الوزير يقول في قوله تعالى: (رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كفَروا) ، قال: المعنى: لا تَبْتلِيْنا بأمر يوجبُ افتتانَ الكفارِ بِنَا، فإنَّه إذا خُذِلَ المتُقي ونُصِر العاصي فُتِنَ الكافرُ. وقال: لو كان مذهبُ هذا صحيحًا ما غُلِب. * * * قوله تعالى: (إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ) وقد رُويَ عن ابنِ عباس - رضي الله عنهما - في قولهِ تعالى: (إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ) ، قالَ: كانتِ المرأةُ إذا أتتِ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، حلَّفها باللَّهِ: ما خرجتِ من بُغضِ زوج، وباللَّهِ: ما خرجتِ رغبةً بأرضٍ عن أرضٍ، وباللَّهِ: ما خرجتِ التماسَ دُنيا، وباللَّه: ما خرجت إلا حُبًّا للَّهِ ورسولهِ. خرَّجهُ ابنُ أبي حاتمٍ، وابنُ جرير، والبزَّاَرُ في "مسنده "، وخرَّجه الترمذي في بعضِ نسخ كتابهِ مختصرًا. * * *

قوله تعالى: (يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك على أن لا يشركن بالله شيئا ولا يسرقن ولا يزنين ولا يقتلن أولادهن ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن

قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12) [قالَ البخاريُّ] : حدَّثنا أبُو اليمانِ: أنا شُعيبٌ، عن الزُّهريِّ: أخبرنِي أبُو إدريسَ عائذُ اللَّه بنُ عبدِ اللَّهِ، أنَّ عبادةَ بنَ الصامتِ - وكانَ شهدَ بدرًا، وهوَ أحدُ النُّقباءِ ليلةَ العقبةِ -، أنَّ رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: - وحولَهُ عصابةٌ منْ أصحابِهِ -: "بايعُونِي على أنْ لا تُشركوا باللهِ شيئًا، ولا تَسرقُوا، ولا تزنُوا، ولا تقتُلُوا أولادكمْ، ولا تأتُوا بُبهتانٍ تفترُونَهُ بينَ أيديكُمْ وأرجُلكُمْ، ولا تعصوا فِي معرُوفٍ، فمنْ وفَّى منكُمْ فأجرُهُ على اللهِ، ومن أصابَ مِنْ ذلك شيئًا فعُوقِبَ بهِ في الدُّنيا فهُوَ كفَّارةٌ ومن أصابَ مِنْ ذلك شيئا ثُمَّ ستَرَهُ اللَهُ فهوَ إلى اللَّهِ، إن شاءَ عفَا عنهُ، وِإنْ شَاءَ عاقبهُ ". فبايعْنَاهُ علَى ذلكَ. هذا الحديث؛ سمعه أبو إِدْريس [. . .] ، عن عقبة بن عامر، عن عبادة. وزيادة "عقبة" في إسناده وَهْم. وقد خرجَ البخاريُّ الحديثَ في "ذكرِ بيعة العقبة" وفي "تفسير سورة الممتحنة" من كتابه هذا، وفيه: التصريحُ بانَّ أبا إدريس أخبره به عبادة،

وسمعه منه. وكان عبادةُ قد شهدَ بدرًا، وهو أحدُ النقباءِ ليلةَ العقبةِ، حيثُ بايعتِ الأنصارُ النبي - صلى الله عليه وسلم - قبلَ الهجرةِ. لكنْ؛ هلْ هذه البيعةُ المذكورةُ في هذا الحديثِ كانت ليلةَ العقبةِ، أم لا؟ هذا وقعَ فيه تردُّد. فرواهُ ابنُ إسحاقَ، عن الزهريِّ، وذكرَ في روايتِهِ، أنَّ هذه البيعةَ كانتْ ليلةَ العقبةِ.. وروى ابنُ إسحاقَ - أيضًا -، عن يزيدَ بن أبي حبيبٍ، عن أبي الخيرِ مرثد ابنِ عبدِ اللَّهِ، عن الصُّنابحي، عن عبادةَ بنِ الصامتِ، قالَ: كنتُ فيمن حضرَ العقبةَ الأُولى، وكنَّا اثني عشرَ رجلاً، فبايعنا رسولَ اللَّه - صلى الله عليه وسلم - على بيعةِ النسَاءِ، وذلكَ قبلَ أن تفرضَ الحربُ على أنْ لا نشركَ باللًّهِ شيئًا، ولا نسرقَ، ولا نزني - الحديث. خرَّجَهُ الإمامُ أحمد، من روايةِ ابنِ إسحاقَ - هكذا. وكذا رواه الواقديُّ، عن يزيدَ بنِ أبي حبيب. وخرَّجاهُ في "الصحيحين "، من حديثِ الليثِ بنِ سعدٍ، عن يزيدَ بنِ أبي حبيبٍ، عن أبي الخيرِ، عن الصنابحيِّ، عن عبادةَ، قالَ: إني من النقباءِ الذينَ بايعُوا رسولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، بايَعَنا على أنْ لا نشركَ باللَّهِ شيئًا - فذكرَ الحديثَ.

وليس هذا بالصريح في أنَّ هذه البيعةَ كانتْ ليلةَ العقبةِ. ولفظُ مسلم بهذه الروايةِ: عن عبادةَ بنِ الصامتِ، قالَ: إنِّي من النقباءِ الذينَ بايعُوا رسولَ اللَّه - صلى الله عليه وسلم -. وقالَ: بايعناهُ على أن لا نشركَ - الحديث. وهذا اللفظُ؛ قد يُشعرُ بأنَّ هذهِ البيعةَ غيرُ بيعةِ النقباءِ. وخرَّجَهُ مسلمٌ، من وجهٍ آخرَ، من روايةِ أبي قلابَة، عن أبي الأشعثِ. عن عبادةَ، قالَ: أخذَ علينا رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، كما أخذَ على النساءِ: أنْ لا نشركَ باللَّه شيئًا. وهذا قد يُشعرُ بتقدمِ أخذهِ على النساءِ على أخذِهِ عليهِم. وخرجَ مسلمٌ حديثَ عبادةَ، من رواية أبي إدريس عنه، وقال في حديثه: "فتلا علينا آية النساء: (أَن لاَّ يشْرِكنَ بِاللَّهِ شَيْئًا) الآية ". وخرَّجَه البخاريُّ في "تفسيرِ سورة الممتحنة" من رواية ابنِ عيينةَ، عن الزهريِّ، وقالَ فيه: وقرا آيةَ النساءِ، وأكثرُ لفظِ سفيانَ: وقرا الآيةَ. ثم قالَ: تابعهُ عبدُ الرزاقِ، عن معمرٍ - في الآيةِ. وكذا خرَّجهُ الإمامُ أحمدُ والترمذيُّ، وعندَهُما: فقرأ عليهم الآيةَ. زاد الإمامُ أحمدُ: التي أخذت على النساءِ: (إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ) . وهذا تصريحٌ بأنَّ هذه البيعةَ كانتْ بالمدينةِ؛ لأن آيةَ بيعةِ النساءِ مَدنية.

وروى هذا الحديثَ سفيانُ بن حسينٍ، عن الزهريِّ، وقال في حديثه: إنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال لهم: "أيكمْ يبايعني على هؤلاء الآياتِ الثلاثِ؟ " ثُمَّ تلا هذه الآيةَ: (قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكوا بِهِ شَيْئًا) ، حتى فرغ من الثلاثِ آيات. خرَّجَه الهيثم بن كليبٍ في "مسندهِ ". وسفيانُ بنُ حسينِ، ليسَ بقويِّ، خصوصًا في حديثِ الزهريِّ، وقد خالفَ سائرَ الثقاتِ من أصحابهِ في هذا. وقد روى عبادةُ بنُ الصامتِ، أنهم بايعُوا النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - على السمع والطاعة، في المنشطِ والمكرَهِ، وأن لا ينازعُوا الأمرَ أهلَه، وأن يقولوا بالحق. فهذه صفةٌ أخرى، غيرَ صفةِ البيعةِ المذكورةِ في الأحاديثِ المتقدمةِ. وهذه البيعةُ الثانيةُ مخرجةٌ في "الصحيحينِ " من غيرِ وجهِ عن عبادةَ. وقد خرَّجها الإمامُ أحمد، من روايةِ ابنِ إسحاقَ: حدثني عبادةُ بنُ الوليدِ بنِ عبادةَ بن الصامت، عن جدِّهِ عبادةَ - وكانَ أحدَ النقباءِ -. قالَ: بايعنا رسولَ اللَّه - صلى الله عليه وسلم - بيعةَ الحربِ، وكانَ عبادةُ من الاثني عشرَ الذينَ بايعُوا في العقبةِ الأولى على بيعةِ النساءِ على السمع والطاعةِ، في عُسرِنا ويُسرِنا - وذكرَ الحديث. وهذه الروايةُ، تدلُّ على أنَّ هذه البيعةَ هي بيعةُ الحربِ، وأن بيعةَ النساءِ كانتْ في العقبةِ الأُولى، قبلَ أن تفرضَ الحربُ.

فهذا قد يُشعرُ بأنَّ هذه البيعةَ كانتْ بالمدينةِ، بعد فرضِ الحربِ، وفي هذا وقد خرَّجهُ الهيثمُ بنُ كليبٍ في "مسندِهِ "، من روايةِ ابنِ إدريس، عن ابنِ إسحاقَ ويحيى بنِ سعيد وعبيدِ اللَّهِ بنِ عمرَ، عن عبادةَ بنِ الوليدِ، أنَّ أباهُ حدَّثه، عن جدِّهِ قالَ: بايعنَا رسولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - في العقبةِ الآخرةِ على السمع والطاعةِ - فذكره. وخرَّجَهُ ابنُ سعدِ من وجهٍ آخرَ، عن عبادةَ بنِ الوليدِ - مرسلاً. وخرجَ الإمامُ أحمدُ من وجهٍ آخر، عن عبادةَ، أنَّهم بايعُوا النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - هذه البيعةَ على السمع والطاعةِ - الحديث، وقال فيه -: وعلى أن ننصرَ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - إذا قدِمَ علينا يثربَ، فنمنعهُ مما نمنعُ منه أنفسَنَا. وهذا يدلُّ على أن هذه البيعة كانتْ قبلَ الهجرةِ، وذلكَ ليلةَ العقبة. وخرَّج - أيضًا - هذا المعنى من حديثِ جابرِ بنِ عبدِ اللَّهِ، أنَّ هذه البيعة كانتْ للسبعينَ، بشعبِ العقبةِ. وهي البيعةُ الثانيةُ، وتكونُ سميتْ هذه البيعةُ الثانيةُ: "بيعةَ الحربِ "؛ لأن فيها البيعةَ على منع النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وذلكَ يقتضِي القتالَ دونَهُ، فهذا هو المرادُ بالحربِ، وقد شهدَ عبادةُ البيعتينِ معًا. ويحتملُ أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كانَ يبايعُ أصحابَه على بيعةِ النساءِ قبلَ نزولِ آيةِ مبايعتهنَّ، ثم نزلتْ الآيةُ بموافقةِ ذلكَ.

وفي "المسندِ"، عن أمّ عطيةَ، أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - لما قدمَ المدينةَ جمع النساءَ،. فبايعهنَّ على هذهِ الآيةِ، إلى قولهِ: (وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْروفٍ) . وهذا قبلَ نزولِ سورةِ الممتحنةِ؛ فإنها إنَّما نزلتْ قبلَ الفتح بيسيرٍ. واللَّهُ أعلمُ بحقيقةِ ذلكَ كلِّه. وأمَّا ما بايعهم عليه، فقد اتفقت رواياتُ حديثِ عبادةَ، من طرقه الثلاثةِ عنهُ، أنهم بايعُوه على أن لا يشركُوا باللهِ، ولا يسرقُوا، ولا يزنُوا، ولا يقتلُوا. وفي بعضِ الروايات: لا يقتلُوا أولادَهُم، كما في لفظِ الآيةِ. وفي بعضِهَا: لا يقتلُوا النفسَ التي حرَّم اللَّهُ. وهذه روايةُ الصُّنابحي، عن عبادةَ. ثم إنَّ منَ الرواةِ من اقتصرَ على هذه الأربع، ولمْ يزد عليهَا. ومنهمْ من ذكرَ في روايةِ المبايعةِ على بقيةِ ما ذكرَ في الآيةِ، كما في روايةِ البخاريِّ المذكورةِ هاهنا. ومنهم من ذكرَ خصلةً خامسةً بعد الأربع، ولكنْ لمْ يذكرْهَا باللفظِ الذي في الآيةِ. ثم اختلفُوا في لفظِها: فمنهم من قالَ: "ولا ننتهبُ ". وهيَ روايةُ الصنابحى عن عبادةَ المخرَّجةُ في "الصحيحينِ ".

ومنهمْ مَنْ قالَ: "ولا يَعْضَهُ بعضُنا بعضًا". وهي روايةُ أبي الأشعثِ، عن عبادةَ. خرَّجَها مسلم. ومنهم من قالَ: "ولا يغتبْ بعضُنا بعضًا". - وهي روايةُ الإمام أحمد. وأما الخصلةُ السادسةُ، فمنهمُ من لم يذكرْهَا بالكليةِ، وهي روايةُ أبي الأشعثِ التي خرَّجَها مسلم. ومنهُم من ذكرَها، وسمَّاها: "المعصية"، فقالَ: "ولا نعصِي "، كما في روايةِ الصنابحي. وفي روايةِ أبي إدريسَ: "ولا تعصُوا في معروفٍ ". فأمَّا الشركُ والسرقةُ والزنا والقتلُ، فواضحٌ. وتخصيصُ قتلِ الأولادِ بالذكرِ في بعضِ الرواياتِ، موافقٌ لِمَا وردَ في القرآنِ في مواضِعَ، وليسَ له مفهومٌ، وإنَّما خصص بالذكرِ للحاجةِ إليهِ، فإنَّ ذلكَ كان معتادًا بين أهلِ الجاهليةِ. وأما الإتيانُ ببهتانٍ يفترونَهُ بين أيدِيهم وأرجلِهم، على ما جاءَ في روايةِ البخاريِّ، فهذا يدل على أن هذا البهتانَ ليسَ مما تختصُ به النساءُ. وقد اختلفَ المفسرونَ في البهتانِ المذكورِ في آيةِ بيعةِ النساءِ:

فأكثرهُم فسرُوه، بإلحاقِ المرأةِ بزوجِهَا ولدًا من غيرِهِ. رواه عليٌّ بنُ أبي طلحةَ، عن ابنِ عباسِ. وقاله مقاتلُ بنُ حيانَ وغيرُه. واختلفُوا في معنى قولهِ: (بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ) : فقيل: لأنَّ الولدَ إذا ولدتهُ أمه سقطَ بين يديها ورجليها. وقيلَ: بل أرادَ بما تفتريه بين يديها، أن تأخذَ لقيط فتلحقه بزوجها، وبما تفتريه بين رجليها، أن تلده من زنا، ثم تلحقه بزوجِها. ومن المفسرينَ من فسرَ البهتانَ المُفترى بالسحرِ. ومنهم من فسَّره بالمشي بالنميمةِ، والسعي في الفسادِ. ومنهم من فسَّرهُ بالقذفِ والرمي بالباطلِ. وقيل: البهتانُ المفترى يشملُ ذلك كلَّه، وما كانَ في معناهُ. ورجحه ابنُ عطيةَ وغيرُه. وهو الأظهرُ؛ فيدخلُ فيه كذبُ المرأةِ فيما ائتُمنتْ عليه من حملٍ وحيضٍ. وغيرِ ذلكَ. ومن هؤلاءِ من قالَ: أرادَ بما بين يدَيها حفظَ لسانِها وفمها ووجهِها عمَّا لا يحلُّ لها، وبما بينَ رجليهَا حفظَ فرجِهَا، فيحرمُ عليها الافتراء ببهتانٍ في ذلك كلّه. ولو قيلَ: إنَّ من الافتراءِ ببهتانِ بين يديها: خيانةُ الزوج في مالهِ الذي في بيتها، لم يبعدْ ذلكَ.

وقد دلَّ مبايعةُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - الرجالَ علَى أنْ لا يأتوا ببهتانٍ يفترونَه بينَ أيْديهم وأرجُلِهمْ أنَّ ذلكَ لا يختصُّ بالنساءِ. وجميعُ ما فُسئَر به البهتانُ في حقِّ النساءِ يدخلُ فيه الرجال - أيضًا -. فيدخلُ فيه استلحاقُ الرجلِ ولدَ غيره، سواء كان لاحقًا غيره أو غيرَ لاحق. كولدِ الزنا، ويدخلُ فيه الكذبُ والغيبةُ. وقد قالَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "إِنْ كانَ في أخيكَ ما تقولُ فقد اغْتبتَه، وإنْ لم يكنْ فيه ما تقولُ فقد بهتَهُ ". خرَّجَهُ مسلمٌ. وكذلكَ القذفُ، وقد سمَّى اللَّهُ قذفَ عائشةَ بهتانًا عظيمًا. وكذلكَ النميمةُ من البهتانِ. وفي روايةِ أبي الأشعثِ، عن عبادةَ: "ولا يَعْضَه بعضُكُم بعضًا". والعضِيهَة: النميمة. وفي "صحيح مسلم "، عن ابنِ مسعود - مرفوعًا -: "ألا أُنبئُكُم ما العضْهُ؛ هي النميمةُ القَالَةُ بين الناس ". وروى إبراهيمُ الهَجَري، عن أبي الأحوصِ، عن ابنِ مسعود، قالَ: كنا نسمِّي العضيهة السحرَ، وهو اليوم: قيلَ وقالَ. وفسر إسحاقُ بن راهويه العضيهةَ في حديثِ عبادةَ بن الصامتِ، قال: لا يبهتْ بعضُكم بعضًا.

نقله عنه محمدُ بنُ نصر. وذكر أهلُ اللغةِ: أن العضيهةَ: الشتيمة، والعضيهة: البهتانُ، والعاضهة. والمستعضهة: الساحرةُ والمستسحرةُ. وفي روايةِ الصنابحيِّ: "ولا ننتهبُ "، والنُّهبَةُ من البهتانِ؛ فإنَّ المنتهبَ يبهتُ الناسَ بانتهابه منه ما يرفعونَ إليه أبصارَهُم فيه. وكل ما بهتَ صاحبَه وحيَّره وأدْهشه من قولٍ أو فعل لم يكنْ في حسابِهِ فهو بهتانٌ، فأخذُ المالِ بالنُّهْبى أو بالدعاوَى الكاذبةِ بهتانٌ. وقد قالَ تعالى: (وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (20) . وفي "المسندِ" والترمذي والنسائي، عن صفوانَ بنِ عسَّالٍ، أن اليهودَ سألوا النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - عن التسع آياتٍ البيناتِ التي أوتيها موسَى، فقالَ: "لا تشركوا باللَّهِ شيئًا، ولا تزنوا، ولا تقتلُوا النفسَ التي حرمَ اللَهُ إلا بالحق، ولا تسرقوا، ولا تسحرُوا، ولا تمشوا ببريء إلى سلطانٍ فيقتلُه، ولا تأكلوا الربا، ولا تقذفُوا محصنةً، ولا تفروا من الزحفِ، وعليكم اليهودَ خاصةً أن لا تعدُوا في السبتِ ". فلم يذكرْ في هذا الحديث البهتانَ المفترى بلفظهِ، ولكن ذكرَ ممَّا فسر به البهتانَ المذكورَ في القرآنِ عدةَ خصال: السحرَ، والمشيَ ببريء إلى السلطانِ، وقذفَ المحصناتِ. وهذا يشعرُ بدخولِ ذلك كلِّه في اسم البهتانِ.

وكذلك الأحاديثُ التي ذكرَ فيها عدَّ الكبائرِ، ذكرَ في بعضِها: القذفَ. وفي بعضِها: قولَ الزورِ، أو شهادةَ الزورِ، وفي بعضها: اليمينَ الغموسِ. والسحرَ، وهذا كلُّه من البهتانِ المفترى. وأما الخصلةُ السادسةُ، فهي المعصيةُ، وتشملُ جميعَ أنواع المعاصِي، فهو من بابِ ذكرِ العامِّ بعد الخاصّ. وهو قريبٌ من معنى قولهِ تعالى: (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) ، وقولهِ تعالى: (وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْروفٍ) . وفي بعضِ ألفاظِ حديثِ عبادةَ: "ولا تعصُوا في معروف ". وفي بعضها: "ولا تعصوني في معروف ". وقد خرَّجَها البخاريُّ في موضع آخرَ. وكلُّ هذا إشارةٌ إلى أن الطاعةَ لا تكونُ إلا في معروفٍ، فلا يطاعُ مخلوقٌ إلا في معروفٍ، ولا يطاعُ في معصيةِ الخالقِ. وقد استنبَط هذا المعنى من هذه الآيةِ طائفةٌ من السلفِ. فلو كان لأحدٍ من البشرِ أن يطاعَ بكلِّ حالٍ، لكانَ ذلك للرسولِ - صلى الله عليه وسلم -، فلمَّا خُصَّتْ طاعتُه بالمعروفِ، مع أنه لا يأمرُ إلا بما هو معروفٌ، دلَّ على أن الطاعةَ في الأصلِ للَّهِ وحدَه، والرسولُ مبلغ عنه، وواسطةٌ بينه وبينَ عبادِه. ولهذا قالَ تعالى: (مَن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ) . فدخلَ في هذه الخصلةِ السادسةِ: الانتهاءُ عن جميع المعاصِي، ويدخلُ فيها - أيضًا -: القيامُ بجميع الطاعاتِ على رأي من يرى أن النهيَ عن شيءٍ

أمر بضدَه. فلما تمتْ هذه البيعةُ على هذه الخصالِ؛ ذكرَ لهم النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - حكمَ من وفَّى بها، وحكمَ من لم يَفِ بها عندَ اللَّهِ عزَّ وجلَّ. فأما مَن وفَّى بها، فأخبرَ أن أجرَه على اللَّهِ، كذا في روايةِ أبي إدريسَ وأبي الأشعث عن عبادةَ. وفي روايةِ الصنابحيِّ، عنه: "فالجنةُ إِن فعلنَا ذلك ". وقد قالَ اللَّهُ تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (10) . وفُسرَ الأجرُ العظيمُ بالجنةِ -: كذا قالَه قتادةُ وغيرُه من السلفِ. ولا ريبَ أن منِ اجتنبَ الشركَ والكبائرَ والمعاصِي كلَّها فله الجنةُ، وعلى ذلك وقعتْ هذه البيعةُ وإن اختصرَ ذلكَ بعضُ الرواةِ، فأسقطَ بعضَ هذهِ الخصال. وأماً من لم يوفِّ بها، بل نكثَ بعضَ ما التزم بالبيعةِ تركَه للَّهِ عزَّ وجلَّ - والمرادُ: ما عدا الشركِ منَ الكبائرِ - فقسمَه إلى قسمينِ: أحدُهما: أن يعاقَب به في الدنيا، فأخبرَ أن ذلك كفارةٌ له. وفي رواية: "فهو طهورٌ له ". وفي روايةٍ: "طهور له، أو كفارةٌ" - بالشك. ورواه بعضُهُم: "طهور وكفارةٌ" - بالجمع. وقد خرَّجَها البخاريُّ في موضع آخرَ من "صحيحهِ ". وروى ابنُ إسحاقَ، عن الزهريِّ حديثَ أبي إدريسَ، عن عبادَةَ، وقال

فيه: "فأُقيم عليه الحدُّ، فهو كفارةٌ له ". وفي رواية أبي الأشعثِ عن عبادةَ: "ومن أتى منكُم حدًّا، فأقيم عليه فهُوَ كفارة". خرَّجَه مسلمٌ. وهذا صريحٌ في أن إقامةَ الحدودِ كفاراتٌ لأهلِها. وقد صرحَ بذلك سفيانُ الثوريّ. ونصَّ على ذلك أحمدُ - في روايةِ عبدوس بنِ مالكٍ العطارِ، عنه. وقال الشافعيُّ: لم أسمعْ في هذا البابِ أن الحدَّ كفارةٌ أحسنَ من حديثِ عبادةَ. وإنما قال هذا؛ لأنه قد رُوي هذا المعنى عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - من وجوهٍ متعددةٍ، عن عليٍّ، وجريرٍ، وخزيمةَ بنِ ثابتٍ، وعبد اللَّه بن عمرو وغيرهم. وفي أسانيدِها كلِّها مقال، وحديثُ عبادةَ صحيح ثابتٌ. وقد روى عبدُ الرزاقِ، عن معمرٍ، عن ابنِ أبي ذئبٍ، عن المقبريِّ، عن أبي هريرةَ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما أدرِي الحدودُ طهارةٌ لأهلها، أم لا؟ " وذكر كلامًا آخرَ. خرَّجَه الحاكم، وخرج أبو داود بعضُ الحديثِ. وقد رواه هشامُ بنُ يوسفَ، عن معمرٍ، عن ابن أبي ذئب، عن الزهريِّ - مرسلاً.

قال البخاريُّ في "تاريخه ": المرسلُ أصحُّ. قال: ولا يثبتُ هذا عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وقد ثبت عنه أن الحدودَ كفارةٌ. انتهى. وقد خرَّجَه البيهقيّ من روايةِ آدمَ بنِ أبي إياسِ، عن ابنِ أبي ذئبٍ، عن المقبريِّ، عن أبي هريرةَ - مرفوعًا - أيضًا. وخرَّجَه البزارُ من وجه آخرَ، فيه ضعفٌ، عن المقبريِّ، عن أبي هريرةَ - مرفوعًا - أيضًا. وعلى تقديرِ صحتهِ، فيحتملُ أن يكونَ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال ذلك قبل أن يعلَمه ثم علِمه، فأخبرَ به جزمًا. فإن كانَ الأمرُ كذلكَ فحديثُ عبادةَ إذنْ لم يكن ليلةَ العقبةِ بلا تردد؛ لأن حديثَ أبي هريرةَ متأخرٌ عن الهجرةِ، ولم يكنِ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - علم حينئذ أن الحدود كفارة، فلا يجوز أن يكون قد أخبرَ قبلَ الهجرةِ بخلافِ ذلك. وقد اختلفَ العلماءُ: هل إقامةُ الحدِّ بمجردِه كفارة للذنب من غيرِ توبةٍ أم لا؟ على قولين: أحدُهما: أن إقامةَ الحدِّ كفارة للذنبِ بمجردِه، وهو مرويٌّ عن عليِّ بنِ أبي طالبِ وابنهِ الحسنِ، وعن مجاهدٍ وزيدِ بنِ أسلمَ، وهو قولُ الثوريِّ والشافعيِّ وأحمدَ، واختيارُ ابنِ جريرٍ وغيرِه من المفسرينَ. والثاني: أنه ليس بكفاره بمجردهِ، فلا بدَّ من توبةٍ، هو مرويٌّ عن صفوانَ ابنِ سليمٍ وغيرِه.

ورجَّحهُ ابنُ حزمٍ وطائفةٌ من متأخرين المفسرينَ، كالبغويِّ وأبي عبدِ اللَّهِ ابنِ تيميةَ وغيرِهما. واستدلُّوا بقولهِ تعالَى - في المحاربينَ -: (ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (33) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا) . وقد يجابُ عن هذا، بأن ذكرَ عقوبةِ الدنيا والآخرةِ لا يلزمُ اجتماعهُما. فقد دل الدليلُ على أن عقوبةَ الدنيا تسقطُ عقوبةَ الآخرةِ. وأما استثناءُ الذينَ تابوا، فإنما استثناهُم من عقوبةِ الدنيَا خاصةً، ولهذا خصَّهم بما قبلَ القدرةِ، وعقوبةُ الآخرةِ تندفعُ بالتوبةِ، قبلَ القدرةِ وبعدَها. ويدل على أن الحدَّ يطهرُ الذنبَ: قولُ ماعزٍ للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: إني أصبت حدًّا، فطهرني. وكذلك قالتْ له الغامديةُ، ولم ينكرْ عليهما النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - ذلكَ، فدلَّ على أن الحدَّ طهارةٌ لصاحبهِ. ويدخلُ في قولِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: "من أصابَ شيئًا من ذلك، فعوقبَ به فى الدنيا فهو كفارتُه " العقوباتُ القدريةُ، من الأمراضِ والأسقامِ. والأحاديثُ في تكفيرِ الذنوبِ بالمصائبِ كثيرةٌ جدًّا. وهذه المصائبُ يحصلُ بها للنفوسِ من الألم نظيرُ الألم الحاصلِ بإقامةِ الحدِّ وربما زادَ على ذلكَ كثيرًا. وقد يقالُ في دخولِ هذه العقوباتِ القدريةِ في لفظِ حديثِ عبادةَ نظرٌ. لأنهُ قابلَ من عوقبَ في الدنيا سترُ اللهِ عليه، وهذه المصائبُ لا تنافي السترَ. واللَّهُ أعلمُ.

والقسمُ الثاني: أن لا يعاقبَ في الدنيا بذنبهِ، بل سترَ عليه ذنبه، ويعافَى من عقوبتهِ. فهذا أمرُه إلى اللَّهِ في الآخرةِ، إن شاءَ عذَّبه، وإن شاءَ عفَا عنهُ. وهذا موافقٌ لقولِ اللهِ عزَّ وجلَّ: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ) . وفي ذلك ردٌّ على الخوارج والمعتزلةِ في قولِهم: إن اللَّه يخلِّدُه في النارِ إذا لم يَتُبْ.. وهذا المستورُ في الدنيا له حالتان: إحدَاهُما: أن يموتَ غيرَ تائبٍ، فهذا في مشيئة اللَّهِ، كما ذكرنا. والثانيةُ: أن يتوبَ من ذنبهِ. فقال طائفة: إنه تحت المشيئةِ - أيضًا. واستدلُّوا بالآيةِ المذكورةِ، وحديثِ عبادةَ. والأكثرونَ على أن التائبَ من الذنبِ مغفورٌ له، وأنه كمن لا ذنبَ له. كما قال تعالى: (إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّل اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ) ، وقال: (أُوْلَئِكَ جَزَاؤُهُم مَّغْفِرَةٌ من رَّبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا) . فيكونُ التائبُ حينئذ ممن شاءَ اللَّهُ أن يغفرَ له. واستدلَّ بعضُهم - وهو: ابنُ حزمٍ - بحديثِ عبادةَ هذا على أن من أذنبَ ذنبًا، فإنَّ الأفضلَ له أن يأتيَ الإمامَ، فيعترفَ عنده؛ ليقيمَ عليه الحدَّ، حتى

يكفَّر عنه، ولا يبقى تحتَ المشيئةِ في الخطرِ. وهذا مبنِي على قوله: إن التائبَ في المشيئةِ. والصحيحُ: أن التائبَ توبةً نصوحًا مغفورٌ له جزمًا، لكن المؤمنَ يتَّهِم توبتَه، ولا يجزمُ بصحَّتها، ولا بقبولها، فلا يزالُ خائفًا من ذنبهِ وَجِلاً. ثم إنَّ هذا القائلَ لا يرى أن الحدَّ بمجردِه كفارةٌ، وإنما الكفارةُ التوبةُ. فكيف لا يقتصرُ على الكفارةِ، بل يكشفُ سترَ اللَّهِ علمِه؛ ليقامَ عليه ما لا يكفِّرُ عنه. وجمهورُ العلماءِ على أنَّ من تابَ من ذنبٍ، فالأفضلُ أن يسترَ على نفسهِ، ولا يقرَّ به عند أحدٍ، بل يتوبُ منه فيما بينَه وبين اللَّه عزَّ وجلَّ. روي ذلك عن أبي بكرٍ وعمَر وابنِ مسعودٍ وغيرِهم. ونصَّ عليه الشافعِيُّ. ومن أصحابهِ وأصحابِنا مَن قال: إن كان غيرَ معروفٍ بينَ الناسِ بالفجورِ فكذلكَ، وإن كان معلنًا بالفجورِ مشتهرًا به؛ فالأولى أن يقرَّ بذنبه عند الإمامِ؛ ليطهرَه منه. وقد رُويَ، عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، أنه قال لمعاذٍ: "إذَا أحدثتَ ذنبًا فأحدِثْ عنده توبة، إن سرًّا فسرًّا، وإن علانية فعلانية". وفي إسنادِه مقالٌ. وهو إنما يدلُّ على إظهارِ التوبةِ، وذلك لا يلزمُ منه طلبُ إقامةِ الحدّ. وقد وردت أحاديثُ تدل على أنَّ من سترَ اللَّهُ عليه في الدنيا، فإنَّ اللَّه

يسترُ عليه في الآخرةِ، كحديثِ ابنِ عمرَ في النجوى. وقد خرَّجه البخاريُّ في "التفسيرِ". وخرَّج الترمذيُّ وابنُ ماجةَ عن على - مرفوعًا: "من أذنبَ ذنبًا في الدنيا، فستره اللَّهُ عليه، فاللهُ أكرمُ أن يعودَ في شيءٍ قد عفَا عنه ". وفي "المسندِ" عن عائشةَ - مرفوعًا -: "لا يسترُ اللَهُ على عبدٍ ذنبًا في الدنيا إلا ستر عليه في الآخرةِ". ورُوي مثلُه عن على وابنِ مسعودٍ، من قولِهما. وقد يحملُ ذلك كلُّه على التائبِ من ذنبهِ، جمعًا بين هذه النصوصِ وبينَ حديثِ عُبادةَ هذا. وأصحُّ الأحاديثِ المذكورةِ هاهنا حديثُ ابنِ عمَر في النجوى، وليس فيه تصريحٌ بأنَّ ذلك عامّ لكل من سترَ عليه ذنبَه. واللَّهُ تعالى أعلمُ. وقد قيل: إن البيعةَ سُمّيت بيعةً؛ لأن صاحبَها باعَ نفسَه للَّه. والتحقيقُ: أن البيعَ والمبايعةَ مأخوذانِ من مدِّ الباع؛ لأنَّ المتبايعَينِ للسلعةِ كلٌّ منهما يمدُّ باعَه للآخرِ ويعاقدُه عليها، وكذلك مَن بايعَ الإمامَ ونحوَه. فإنه يمدُّ باعَه إليه ويعاهدُه ويعاقدُه على ما يبايعُه عليه. وكان النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يبايعُ أصحابَه عند دخولِهم في الإسلامِ على التزام أحكامهِ، وكانَ أحيانًا يبايعُهم على ذلك بعد إسلامِهم؛ تجديدًا للعهدِ؛

وتذكيرًا بالمقامِ عليه. وفي "الصحيحينِ " عن ابنِ عباسٍ، أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أَتى النساءَ في يومِ عيد، وتلا عليهنَّ هذهِ الآيةَ: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا) الآية. وقال: "أنتُن على ذلكَ؟ " فقالتِ امرأةٌ منهن: نعم. وفي "صحيح مسلم" عن عوفِ بنِ مالكٌ، قال: كنَّا عندَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - تسعةً أو ثمانيةً أو سبعةً، فقال: "ألا تبايعونَ رسولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -؟ " وكنَّا حديثَ عهدٍ ببيعةٍ، فقلنا: قد بايعناكَ يا رسولَ اللَّهِ، فقال: "ألا تبايعون رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قلنا: بايعناك يا رسول اللَّه، ثم قال: "ألا تبايعونَ رسولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -؟ ". فبسطْنا أيديَنا، وقلنا: قد بايعناكَ يا رسولَ اللَّهِ، فعلامَ نبايعُكَ؟ فقال: "أن تعبدُوا اللَّهَ لا تشركوا به شيئًا، والصلواتِ الخمسِ، وتطيعُوا"، وأسرَّ كلمةً خفيةً: "ولا تسألُوا الناس شيئًا". وحديثُ عبادةَ المذكورُ هاهنا في البيعة قد سبقَ أنه يحتملُ أنه كان ليلةَ العقبةِ الأولَى، فيكونُ بيعةً لهم على الإسلامِ والتزامِ أحكامِه وشرائعِه. وقد ذكرَ طائفة من العلماءِ، منهم: القاضِي أيو يعلَى في كتابِ "أحكامِ القرآنِ " من أصحابِنا - أن البيعةَ على الإسلامِ كانتْ من خصائصِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -. واستدلُّوا، بأن الأمرَ بالبيعةِ في القرآنِ يخصُّ الرسولَ بالخطابِ بها وحده. كما قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا) .

ولما كانَ الامتحانُ وجه الخطابَ إلى المؤمنينَ عمومًا، فقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ) . فدلَّ على أنه يعمُّ المؤمنينَ. وكذلكَ قولُه تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ) . وهذا أمر يختصُّ به الرسولُ - صلى الله عليه وسلم - لا يشركُه فيه غيرُه. ولكن قد رُوي عن عثمانَ، أنه كان يبايعُ على الإسلامِ. قال الإمامُ أحمدُ: حدثنا مسكينُ بنُ بكير، قال: ثنا ثابتُ بنُ عجلانَ. عن سليمٍ أبي عامر، أن وفدَ الحمراءِ أتوا عثمان بنَ عفانَ، يبايعونَه على الإسلامِ، وعلى مَنْ وراءهم، فبايَعهم على أن لا يشركوا باللَّهِ شيئًا، وأن يقيمُوا الصلاةَ، ويؤتُوا الزكاةَ، ويصومُوا رمضانَ، ويدَعُوا عيدَ المجوسِ، فلما قالُوا، بايعَهم. وقد بايعَ عبدُ اللهِ بنُ حنظلةَ الناسَ يومَ الحَرَّةِ على الموتِ، فذُكرَ ذلك لعبدِ اللَّه بنِ زيد الأنصاريِّ، فقالَ: لا أبايعُ على هذا أحدًا بعدَ رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -. ً خرَّجَهُ البخاريُّ في "الجهاد". وإنما أنكرَ البيعةَ على الموتِ، لا أصلَ المبايعةِ. وقالَ أبو إسحاقَ الفزاريُّ: قلتُ للأوزاعيِّ: لو أن إمامًا أتاه عدوٌّ كثيرٌ،

فخافَ على من معه، فقال لأصحابِهِ: تعالَوْا، نتبايعُ على أن لا نفرَّ، فبايعُوا على ذلكَ؟ قال: ما أحسنَ هذا. قلتُ: فلو أن قومًا فعلُوا ذلك بينهُم دونَ الإمامِ؟ قال: لو فعلُوا ذلك بينهم شبه العقدَ في غيرِ بيعةٍ. * * *

سورة الصف

سُورَةُ الصَّفِ قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ (3) لمَّا حاسَبَ المتَّقُون أنفسَهم خافوا من عاقبةِ الوعظِ والتَّذكيرِ. قال رجلٌ لابن عبَّاسٍ: أريدُ أن آمرَ بالمعروفِ وأنهى عن المنكرِ. فقال لهُ: إنْ لم تخشَ أن تفضحكَ هذه الآياتُ الثلاثُ فافعلْ، وإلا فابدأْ بنفسكَ، ثم تلاْ (أَتَاْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفسَكُمْ) . وقوله تعالى: (لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ (3) . وقوله حكايةً عن شُعيبٍ عليه السلام: (وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ) . قال النَّخعيُّ: كانُوا يكرهُونَ القصص؛ لهذه الآياتِ الثلاثِ. قيل لمورِّق العجلي: ألا تعظُ أصحابَكَ؟ قال: أكرهُ أن أقول ما لا أفعل. تقدَّمَ بعضُ التابعينَ ليصلِّي بالنَّاسِ إمامًا، فالتفتَ إلى المأمُومين يُعدِّل الصُّفوفَ، وقال: اسْتَوُوا، فُغشِيَ عليه، فسُئلَ عن سَببِ ذلكَ، فقال: لمَّا قلتُ لهُم: استقيمُوا، فكَرتُ في نفسِي، فقلتُ لهَا: فأنتِ، هل استقمتِ مع اللَّهِ طرفةَ عينٍ؟ مَا كُلُّ مَنْ وَصَفَ الدَّواء يستعمِلُه. . . ولا كُلُّ مَنْ وَصَفَ التُّقَى ذو تُقَى وَصَفْتُ التُقَى حتَّى كأنِّي ذو تُقًى. . . ورِيحُ الخَطَايا مِن ثِيابي تَعْبَقُ ومع هذا كلِّه فلا بُدَّ للناسِ من الأمرِ بالمعروفِ والنَّهْي عن المنكرِ، والوعظِ

والتذكيرِ، ولو لم يِعِظِ النَّاسَ إلا مَعْصُوم مِن الزَّللِ، لم يعِظْ بعدَ رسولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أحدٌ لأنه لا عِصْمَةَ لأحدٍ بعدَهُ. لئن لم يَعظِ العاصِينَ مَنْ هُوَ مُذْنِب. . . فَمَنْ يَعِظِ العَاصِينَ بَعْدَ مُحمَّدٍ ورَوى ابنُ أبي الدُّنيا بإسنادٍ فيه ضعف، عن أبي هريرةَ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ِ، قال: "مُروا بالمعروفِ وإن لم تعملُوا به كُلِّه، وانَهْوا عن المنكَرِ وإن لم تنتهوا عنه كُلِّهِ ". وقيل للحسنِ: إنَّ فلانا لا يَعِظُ، ويقولُ: أخافُ أنْ أقولَ ما لا أفعلُ. فقال الحسن: وأَيُّنا يفعلُ ما يقولُ؟! ودَّ الشيطانُ أنَّه قد ظفِرَ بهذا، فلم يأمُرْ أحدٌ بمعروفٍ ولم ينهَ عن مُنْكَرٍ. وقال مالكٌ، عن ربيعة: قال سعيدُ بن جُبير: لو كان المرء لا يأمر بالمعروف ولا ينهَى عن المنكرِ حتى لا يكونَ فيه شيء، ما أَمَرَ أحدٌ بمعروفٍ ولا نَهَى عن مُنْكرٍ. قال مالكٌ: وصدَقَ، ومَن ذا الذي ليس فيه شيءُ؟! مَنْ ذا الَّذي ماساءَ قَطْ. . . ومَنْ لَهُ الحُسْنَى فَقَطْ خطب عُمَرُ بنُ عبد العزيز - رحمه الله - يومًا، فقال في موعظته: إنِّي لأقُولُ هذه المقالَةَ وما أعلمُ عند أحدٍ من الذُّنوبِ أكثرَ ممَّا أعلمُ عنْدِي. فأستغفِرُ اللَّهَ وأتوبُ إليه. وكتبَ إلى بعض نوَّابِهِ على بعضِ الأمصار كتابًا يعِظُهُ فيه، فقال في آخره: وإنِّي لأعِظُكَ بهذا، وإنِّي لكثيرُ الإسْرافِ على نَفْسِي، غيرُ مُحكم لكثيرٍ من أمْرِي، ولو أن المرءَ لا يعظُ أخاهُ حتى يُحكمَ نفسهُ إذًا لتواكلَ الناسُ الخيرَ، وإذاً لرُفِعَ الأمر بالمعروفِ والنَهْيُ عن المُنْكَرِ. وإذاً لاستُحِلَّتِ المَحارِمُ، وقَلَّ الواعِظُونَ والسَّاعون للَّه بالنصِيحةِ في

قوله تعالى: (وإذ قال عيسى ابن مريم يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقا لما بين يدي من التوراة ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد)

الأرض، فإنَّ الشيطان وأعوانَه يَودُّون أن لا يأمُرَ أَحدٌ بمعروف ولا يَنْهَى عن مُنْكَرٍ، وإذا أمَرَهُم أحدٌ أو نَهاهُم، عَابُوه بما فيهِ وبما ليس فيه. كما قيل: وأُعْلِنَتِ الفواحِشُ في البوادِي. . . وصارَ النَّاسُ أعْوَانَ المريبِ إذا ما عِبْتُهُم عَابُوا مَقَالِي. . . لِما في القَوْمِ مِن تلكَ العُيوبِ وَوَدُّوا لو كَفَفنا فاسْتَوَيْنا. . . فصَارَ النَّاسُ كالشيءِ المشوبِ وكنَّا نَسْتَطِبُّ إذا مَرِضْنَا. . . فصارَ هلاكُنا بيدِ الطَّبِيبِ * * * قوله تعالى: (وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ) عيسى آخِرُ أنبياءِ بني إسرائيلَ، وقد قال تعالى: (وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ) . وقد كان المسيحُ - عليه السَّلامُ - يحُضُّ على اتَباعِهِ، ويقولُْ إنَّه يُبعَثُ بالسَّيفِ، فلا يمنعنَّكُم ذلك منه. ورُوي عنه أنَّه قالَ: سوف أذهبُ أنا ويأتِي الذي بعدِي لا يَتَحمَّدُكم بدعْواهُ، ولكنْ يَسُلُّ السَّيفَ فتدخلُونَه طَوعًا وكُرْهًا. وفي "المسند" عن أبي الدَّرْدَاء - رضي الله عنه -، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، أنَّ اللَّهَ عَزَّ وجَلَّ أوْحَى إلى عِيسى عليه السَّلامُ: "إنِّي باعث بعدَكَ أمَّةً، إن أصابهُمْ ما يُحبُّونَ حَمِدُوا

وشكرُوا، وإنْ أصابهُم ما يكرهُونَ، احتسبُوا وصبرُوا، ولا حِلمَ ولا عِلمَ. قال: يا ربِّ! كيفَ هذا ولا حِلمَ ولا عِلم؟ قال: أعْطِيهم مِن حِلمِي وعِلمِي ". قال ابنُ إسحاق: حدَّثني بعضُ اهْلِ العلْم أنَّ عيسَى ابنَ مريمَ - عليه السَّلام - قال: إنَّ أحبَّ الأُممِ إلى اللَّهِ عزَّ وجلَّ لأُمَّةُ أحمدَ. قيلَ له: وما فضلُهم الذي تذكرُ؟ قال: لم تُذلَّل "لا إلهَ إلا اللَّه " على ألسُنِ أُمَّةٍ مِنَ الأُمَم تذليلَها على ألسنتِهِم. * * *

سورة الجمعة

سُورَةُ الجُمُعَةِ قوله تعالى: (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (2) وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (4) . قال تعالى: (لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (164) . وقال سبحانه: (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (2) وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (4) . ومعلومٌ أنَّه لم يُبعث في مكَّةَ رسولٌ منهم بهذه الصفةِ غيرُ محمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم -، وهو مِن ولدِ إسماعيلَ، كما أنَّ أنبياءَ بني إسرائيلَ مِن ولدِ إسحاق. وذكر اللَّهُ تعالى أنَّه مَنَّ على المؤمنينَ بهذه الرِّسالةِ، فليسَ للَّهِ نعمة أعظم من إرسال محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - يهدِي إلى الحقِّ وإلى صراط مستقيم. وقوله: (فِي الأمِّيِّينَ) - والمرادُ بهم العَرَبُ - تنبيهٌ لهم على قدرِ هذه النِّعمةِ وعظمِها، حيثُ كانوا أميينَ لا كِتابَ لهم، وليسَ عندَهم شيء من آثارِ

النُّبوَّاتِ، كما كان عندَ أهلِ الكتابِ، فمنَّ اللَّه عليهم بهذا الرسول وبهذا الكتاب، حتى صاروا أفضلَ الأمم وأعلمَهم، وعرفُوا ضلالةَ منْ ضلَّ من الأمم قبلَهم. وفي كونِهِ منهم فائدتان: إحداهما: أنَّ هذا الرَّسول كان أيضًا أميًّا كأمَّتهِ المبعوثِ إليهم، لم يقرأْ كِتابًا قطُّ، ولم يخُطهُ بيمينهِ، كما قال اللَّه تعالى: (وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ) الآيات، ولا خرجَ عن ديارِ قومهِ فأقامَ عندَ غيرِهم حتَّى تعلَّم منهم شيئًا، بلْ لم يزل أُميًّا بين أمَّةٍ أمّيَّةٍ، لا يكتُبُ ولا يقرأُ حتى كمَّلَ الأربعينَ من عُمره، ثمَّ جاءَ بعد ذلكَ بهذا الكتابِ المبين، وهذه الشريعةِ الباهرةِ، وهذا الدِّينِ القيِّم، الذي اعترفَ حُذَّاقُ أهل الأرضِ ونُظَّارُهُم أنَّه لم يقرع العالمَ ناموسٌ أعظمُ منه. وفي هذا بُرهان ظاهر على صدقه. والفائدة الثانية: التنبيهُ على أنَّ المبعوثَ فيهم - وهم الأمِّيُّون خُصوصًا أهل مكَّةَ - يعرفُونَ نسبهُ، وشرفهُ، وصدقهُ، وأمانتهُ، وعفتهُ، وأنَّه نشأ بينهُم معروفًا بذلك كلِّه، وأنَّه لم يكذبْ قطُّ؛ فكيفَ كان يدعُ الكذبَ على النَّاسِ ثم يفترِي الكذبَ على اللَّه عزَّ وجل، وهذا هو الباطِلُ، ولذلك سأل هِرقلُ عن هذه الأوصافِ، واستدل بها على صدقِهِ فيما ادَّعاهُ من النّبَوةِ والرِّسالةِ. وقوله: (يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ) ، يعني: يتلُو عليهم ما أنزل اللَّهُ عليه من آياتهِ المتلُوةِ، وهو القرآنُ، وهو أعظمُ الكُتبِ السَّماويَّةِ. وقد تضمَّنَ من العلومِ والحكم، والمواعظِ، والقصصِ، والترغيبِ والترهيبِ، وذكرِ أخبارِ منْ سبقَ، وأخبارِ ما يأتي مِن البعثِ والنُّشور والجنَّةِ والنَّارِ، ما لم يشتمِلْ عليه كتابٌ غيرُهُ، حتَّى قالَ بعضُ العلماءِ: لو أنَّ هذا الكتابَ وُجِدَ مكتوبًا في

مُصحَفٍ في فلاةٍ من الأرضِ، ولم يُعلمْ منْ وضعهُ هناك، لشهدتِ العُقولُ السَّليمةُ أنَّه منزلٌ مِن عندِ اللَهِ، وأنَّ البشرَ لا قدرةَ لهم على تأليفِ ذلك. فكيف إذا جاءَ على يديْ أصدقِ الخلقِ وأبرِّهم وأتقاهُم، وقال إنَّه كلامُ اللَّهِ، وتحدَّى الخلقَ كلَّهم أن يأتوا بسُورةِ من مثلِهِ، فعجزُوا. فكيف يبقى مع هذا شكٌّ فيه؛ ولهذا قال تعالى: (ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ) . وقال تعالى: (أَوَ لَمْ يَكْفِهِمْ أَئا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ) . فلو لم يكنْ لمحمدٍ - صلى الله عليه وسلم - منَ المعجزاتِ الدالةِ على صدقهِ غيرُ هذا الكتابِ لكفاهُ، فكيفَ ولهُ من المعجزاتِ الأرضيةِ والسماويةِ ما لا يُحصَى. وقوله: (يُزَكيهِمْ) : يعني أنَّه يُزكِّي قلوبَهم ويطهرُها من أدناسِ الشركِ والفُجورِ والضلالِ؛ فإنَّ النفوسَ تزكو إذا طهرتْ من ذلك كلِّه، ومن زكتْ نفسُه فقد أفلحَ، كما قال تعالى: (قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَاهَا) . وقال: (قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكى) . وقوله: (وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ) . يعني بالكتابِ القرآنَ، والمرادُ: ويعلّمُهم تلاوةَ ألفاظِهِ. ويعني بالحكمةِ فهمَ معاني القرآنِ والعملَ بما فيه. فالحكمةُ هي فهمُ القرآنِ والعملُ به، فلا يُكْتَفى بتلاوةِ ألفاظِ الكتابِ حتَّى يُعلمَ معناهُ ويُعملَ بمقتضاهُ، فمن جُمعَ له ذلك كلُّه فقد أُوتِيَ الحكمةَ. قال تعالى: (يُؤْتِي الْحِكمَةَ مَن يَشَاء وَمَن يؤْتَ الْحِكمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كثِيرًا) . قالَ الفضيلُ: العلماءُ كثيرٌ، والحكماءُ قليلٌ. وقال: الحكماءُ ورثةُ الأنبياءِ. فالحكمةُ هي العلمُ النافعُ الذي يتبعُه العملُ الصالحُ. وهي نورٌ يقذفُ في

القلبِ يُفهمُ بها معنى العلم المنزل من السَّماء، ويحُضُّ على اتِّباعِه والعملِ به. ومَن قال: الحكمةُ السنةُ، فقولُه حقٌّ؛ لأنًّ السنةَ تفسِّرُ القرآنَ وتبينُ معانيه وتحُضُّ على اتباعِهِ والعملِ به؛ فالحكيمُ هو العالم المستنبطُ لدقائقِ العلم المنتفع بعلمهِ بالعمل بهِ. ولأبي العتاهية: وكَيْفَ تُحِبُّ أنْ تُدْعَى حكيمًا. . . وأنْتَ لِكُلِّ ما تَهْوَى رَكُوبَ وتَضْحَكُ دَائِبًا ظَهْرًا لِبَطْنِ. . . وَتَذْكُرُ مَا عَمِلْتَ فَلا تَتُوبُ وقوله: (وَإَن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ) ، إشارة إلى ما كان النَّاسُ عليه قبلَ إنزالِ هذا الكتابِ من الضلالِ، فإنَّ اللَّهَ تعالى نظرَ حينئذٍ إلى أهلِ الأرضِ، فمقتهُم، عربهُم وعجمهُم، إلا بقايا مِن أهلِ الكتابِ تمسَّكُوا بدينهِم الذي لم يُبدَّلْ ولم يُغيرْ، وكانوا قليلاً جدًّا. فأمَّا عامَّةُ أهل الكتابِ فكانوا قد بدَّلُوا كُتُبَهُم وغيّرُوها وحرفُوها، وأدخلُوا في دينهم ما ليسَ منه فضلّوا وأضلُّوا. وأمَّا غيرُ أهلِ الكتابِ فكانُوا على ضلالٍ مُبينٍ؛ فالأميّون أهلُ شركِ يعبدَونَ الأوثانَ، والمجوسُ يعبدُونَ النيرانَ ويقولون بإلهينِ اثنينِ، وكذلك غيرهُم مِن أهلِ الأرضِ؛ منهم مَن كان يعبدُ النّجومَ، ومنهم مَن كان يعبدُ الشَّمسَ أو القمر، فهدَى اللَّه المؤمنينَ بإرسالِ محمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - إلى ما جاءَ بهِ منَ الهُدى ودينِ الحقّ؛ وأظهرَ اللَّهُ دينهُ حتى بلغَ مشارقَ الأرضِ ومغاربَها، فظهرتْ فيها كلمةُ التَّوحيدِ والعَمَل بالعدْلِ بعد أن كانتْ الأرضُ كلُّها ممتلئةَ من ظُلمةِ الشِّركِ والظُّلم. فالأميُّون هم العربُ، والآخرون الذين لم يلحقُوا بهم هم أهلُ فارسَ والرُّوم، فكانتْ أهلُ فارسَ مجوسًا، والرُّومُ نصارَى، فهدَى اللَّهُ تعالى جميعَ هؤلاءِ برسالةِ محمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - إلى التوحيدِ.

وقد رُئي الإمامُ أحمدُ بعد موتهِ في المنامِ، فسُئلَ عن حالهِ، فقال: لولا هذا النبيُّ لكنَّا مجوسًا، وهو كما قال، فإنَّ أهل العراقِ لولا رسالة محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - لكانوا مجوسًا، وأهلُ الشامِ ومصرَ والرومُ لولا رسالة محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - لكانوا نصارَى، وأهلُ جزيرة العرب لولا رسالةُ محمدٍ لكانوا مشركينَ عبادَ أوثانٍ. ولكن رحمَ اللَّهُ عبادهُ بإرسالِ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - فأنقذَهُم مِن الضَّلالِ، كما قال تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ) ، ولهذا قال اللَّه تعالى: (ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) ، فمن حصلَ له نصيبٌ من دين الإسلامِ فقد حصلَ له الفضلُ العظيمُ، قد عظمت عليه نعمةُ اللَّهِ، فما أحوجهُ إلى القيامِ بشكرِ هذه النعمةِ وسؤالهِ دوامَها والثَّباتَ عليها إلى المماتِ، والموتَ عليها، فبذلكَ تتمُّ النِّعمةُ. فإبراهيمُ - عليه السلامُ - هو إمامُ الحنفاء، المأمورُ محمَّدٌ - صلى الله عليه وسلم - ومَن قبلُه منَ الأنبياءِ - عليهم السلام - بالاقتداء به، وهو الذي جعلهُ اللَّهُ للنَّاسِ إمامًا، وقدْ دعا هو وابنُه إسماعيلُ - عليه السَّلام - بأن يبعثَ اللَّهُ في أهلِ مكَّةَ رسولاً منهُم موصوفًا بهذهِ الأوصافِ، فاستجابَ اللَّهُ لهما وجعلَ هذا النَبيَّ المبعُوثَ فيهم من ولدِ إسماعيلَ بن إبراهيمَ كما دعيا بذلك، وهو النَّبيُّ الذي أظهرَ دينَ إبراهيمَ الحنيفَ بعدَ اضمحلالهِ وخفائهِ على أهلِ الأرضِ فلهذا كان أولَى النَّاسِ بإبراهيمَ، كما قال تعالى: (إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا) . وقال - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ لكلِّ نبيٍّ وليًّا مِن النَّبيينَ وإن وليي إبراهيم "، ثم تلا هذه الآية.

قوله تعالى: (إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون (9)

وكان - صلى الله عليه وسلم - أشبهَ ولدِ إبراهيمَ بهِ صُورةً ومعنًى، حتى أنَّه أشبههُ في خُلَّةِ اللَّهِ تعالى، فقال: "إن الله اتَّخذنِي خليلاً كما اتَخذَ إبراهيمَ خليلاً". * * * قوله تعالى: (إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (9) [قال البخاري] : قَوْل اللَّهِ عزَ وجلَّ: (إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ) . صلاةُ الجمعةِ فريضةٌ من فرائِض الأعيانِ على الرجالِ دونَ النساءِ، بشرائطَ أُخَرَ، هذا قولُ جمهورِ العلماءِ، ومنهم من حكاه إجماعًا كابنِ المنذرِ. وشذ من زعمَ أنها فرضُ كفاية من الشافعيةِ، وحكاهُ بعضُهم قولاً للشافعيِّ، وأنكر ذلك عامةُ أصحابه حتى قال طائفةٌ منهم: لا تحلُّ حكايتُه وحكاية الخطابي لذلك عن أكثرِ العلماءِ وهْمٌ منه، ولعله اشتبهَ عليه الجمعةُ بالعيدِ. وحكي عن بعضِ المتقدمينَ: أن الجمعةَ سنة. وقد روى ابنُ وهبٍ، عن مالكٌ، أن الجمعةَ سنةٌ. وحملَها ابنُ عبدِ البرّ على أهل القرى المختلَفِ في وجوب الجمعةِ عليهمْ

خاصةً، دون أهلِ الأمصارِ. ونقلَ حنبل، عن أحمدَ، أنه قال: الصلاةُ - يعني: صلاةَ الجمعةِ - فريضة، والسعيُ إليها تطوعٌ، سنةٌ مؤكدةٌ. وهذا إنما هو توقفٌ عن إطلاقِ الفرض على إتيانِ الجمعةِ، وأما الصلاةُ نفسُها، فقد صرَّح بأنها فريضةٌ، وهذا يدلَّ على أن ما هو وسيلة إلى الفريضةِ ولا تتمُّ إلا به لا يطلقُ عليه اسمُ الفريضةِ، لأنه وإنْ كان مأمورًا به فليس مقصودًا لنفسهِ، بل لغيرهِ. وتأوَّل القاضِي أبو يعلَى كلامَ أحمدَ بما لا يصحُّ. وقد دلَّ على فرضيتها: قولُ اللَّهِ عزَّ وجلَّ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (9) . والمرادُ بالسعي: شدةُ الاهتمامِ بإتيانِها والمبادرةُ إليها،. فهو من سَعْي القلوبِ، لا من سعي الأبدان، كذا قالَ الحسنُ وغيرُه، وسيأتي بسطُ ذلك فيما بعدُ - إن شاء اللَّهُ سبحانه وتعالى. وفي "صحيح مسلم " عن عبد اللَّهِ بنِ عمرَ وأبي هريرةَ، أنهما سمعا رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - يقولُ على أعواد منبرهِ: "لينتهينَّ أقوام عنْ ودعهمُ الجمعات، أو ليختمنَّ اللَهُ على قلوبهم، ثم ليكونُن منَ الغافِلين ". وخرَّج الإمامُ أحمدُ وأبو داود والترمذيُّ والنسائيُّ وابنُ ماجةَ من حديثِ

أبي الجعدِ الضَّمريِّ - وكانتْ له صحبةٌ -، عن النبىِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَن تركَ الجمعةَ تهاونًا ثلاثَ مراتٍ طُبعَ على قلبهِ ". وقالَ الترمذيُّ: حديثٌ حسن. وخرَّجَهُ ابنُ حبانَ في "صحيحهِ ". ورُوي معناهُ من وجوهٍ كثيرةٍ. وفي "صحيح مسلم " عن ابنِ مسعودٍ، أن النَّبي - صلى الله عليه وسلم - همَّ أن يحرقَ على مَن يتخلفُ عن الجمعةِ بيوتَهم. وقد سبقَ ذكرُه. وخرَّج أبو داود بإسنادٍ صحيح، عن طارقِ بنِ شهابٍ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "الجمعةُ حق واجبٌ في جماعة، إلا أربعة: عبدٌ مملوك أو امرأةٌ، أو صبي أو مريض". قال أبو داودَ: طارقُ بنُ شهاب رأَى النبي - صلى الله عليه وسلم - ولمْ يسمَعْ منه شيئًا. قال البيهقيُّ: وقد وصلَه بعضُهم عن طارقٍ، عن أبي موسى الأشعرِي. عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وليس وصلُه بمحفوظٍ. وخرجَ النسائيُّ من حديثِ حفصةَ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قالَ: "رواحُ الجمعةِ واجبٌ على كلِّ محتلمٍ ". وخرَّج ابنُ ماجةَ من حديثِ جابرِ بنِ عبدِ اللهِ، أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - خطبَهم، فقالَ في خُطبته: "إن اللهَ فرضَ عليكمُ الجمعةَ في مقامي هذا، في يومِي هذا، في

شهرِي هذا، من عامِي هذا إلى يوم القيامةِ، فمن ترَكها في حياتي أو بعدِي، وله إمامٌ عادلٌ أو جائرٌ، استخفافًا بها أو جحودًا لها فلا جمعَ اللَهُ شملَه، ولا باركَ له في أمره، ألا ولا صلاةَ له، ولا زكاةَ له، ولا حجَّ له، ولا صومَ له، ولا بركةَ حتَّى يتوب، فمن تابَ تابَ اللَّهُ عليه ". وفي إسنادِه ضعفٌ واضطرابٌ واختلافٌ، قد أشرْنا إلى بعضِه فيما تقدَم في "أبواب الإمامةِ". وفيه: دليلٌ على أن الجمعةَ إنما فُرضتْ بالمدينةِ؛ لأن جابرًا إنما صحبَ النبي - صلى الله عليه وسلم - وشهدَ خطبتَه بالمدينةِ، وهذا قولُ جمهورِ العلماءِ. ويدلُّ عليه - أيضًا -: أن سورةَ الجمعةِ مدنية، وأنه لم يثبتْ أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كان يصلِّي الجمعةَ بمكةَ قبلَ هجرتهِ. ونصَّ الإمامُ أحمدُ على أنَّ أولَ جمعة جُمِّعَتْ في الإسلامِ هي التي جمعتْ بالمدينةِ مع مصعبِ بنِ عميرٍ. وكذا قالَ عطاءٌ والأوزاعيُّ وغيرُهما. وزعم طائفةٌ من الفقهاء: أن الجمعةَ فرضتْ بمكةَ قبلَ الهجرةِ؛ وأن النبىَّ - صلى الله عليه وسلم - كان يصلِّيها بمكةَ قبل أن يهاجرَ. واستدلَّ لذلكَ: بما خرَّجه النسائيُّ في "كتاب الجمعةِ" من حديث المُعَافَى ابنِ عمرانَ، عن إبراهيمَ بنِ طهمانَ، عن محمدِ بنِ زيادٍ، عن أبي هريرةَ. قال: إن أولَ جمعةٍ جُمَعَتْ - بعدَ جمعةٍ جُمِّعَت معَ رسولِ اللَّه - صلى الله عليه وسلم - بمكةَ - بِجُواثاءَ بالبحرينِ - قريةٍ لعبدِ القيسِ. وقد خرَّجه البخاريُّ - كما سيأتي في موضعه - من طريق أبي عامر

العَقديِّ، عن إبراهيمَ بن طهمان، عن أبي جمرةَ، عن ابنِ عباسٍ، أن أولَ جمعةٍ جمعت - بعدَجمعةٍ في مسجدِ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - - في مسجدِ عبدِ القيسِ بجُواثى من البحرينِ. وكذَا رواه وكيعٌ، عن إبراهيمَ بن طهمان، ولفظُه: إن أولَ جمعةٍ جمعتْ في الإسلامِ - بعد جمعة جمعتْ في مسجدِ رسولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بالمدينةِ - لَجُمُعَةٌ جمعتْ بجواثاءَ - قرية من قرى البحرينِ. خرَّجَه أبو داود. وكذا رواه ابنُ المباركِ وغيرُه، عن إبراهيمَ بنِ طهمان. فتبيَّن بذلكَ: أنَّ المعافى وهمَ في إسنادِ الحديثِ ومتنهِ، والصوابُ: رواية الجماعةِ، عن إبراهيمَ بنِ طهمان. ومعنى الحديثِ: أن أولَ مسجدٍ جمع فيه - بعدَ مسجدِ المدينةِ -: مسجد جواثاءَ، وليس معناه: أنَّ الجمعةَ التي جمعت بجواثاء كانت في الجمعةِ الثانيةِ من الجمعةِ التي جمعت بالمدينةِ، كما قد يُفْهَمِ من بعضِ ألفاظِ الرواياتِ؛ فإن عبدَ القيسِ إنما وفَد على رسولِ اللَّه - صلى الله عليه وسلم - عامَ الفتح، كما ذكرهَ ابنُ سعد، عن عروةَ بنِ الزبيرِ وغيرِه. وليس المرادُ به - أيضًا - أن أولَ جمعةٍ جمعتْ في الإسلام في مسجدِ المدينةِ، فإن أول جمعةٍ جمعتْ بالمدينةِ في نقيع الخَضَماتِ، قبل أن يقدمَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - المدينةَ، وقبل أن يبنيَ مسجدَه.

يدل على ذلك: حديثُ كعبِ بنِ مالكٌ، أنه كان كلَّما سمع آذانَ الجمعةِ استغفرَ لأسعدَ بنِ زرارةَ، فسأله ابنُه عن ذلكَ، فقال: كانَ أولَ مَن صلَّى بنا صلاةَ الجمعةِ قبل مقدمِ رسولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - من مكةَ في نقيع الخضماتِ، في هَزْم النَّبيتِ، من حرَّةِ بني بياضةَ. قيل له: كم كنتم يومئذٍ؟ قال: أربعين رجلاً. خرَّجَه الإمامُ أحمدُ وأبو داودَ وابنُ ماجةَ - مطوَّلاً. وروى أبو إسحاقَ الفزاريُّ في "كتاب السمر" له، عن الأوزاعيِّ، عمَّن حدَّثَه، قال: بعثَ رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مصعَب بنَ عمير القرشيَّ إلى المدينةِ، قبل أن يهاجرَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -، فقالَ: "اجمعْ مَنْ بها من المسلمين، ثم انظرِ اليومَ الذي تجمرُ فيه اليهودُ لسبتِها، فإذا مالَ النهارُ عن شطرهِ فقم فيهمْ، ثم تزلَّفوا إلى اللَّهِ بركعتينِ ". قال: وقالَ الزهرِيُّ: فجمع بهم مصعبُ بنُ عمير في دارٍ من دُورِ الأنصارِ، فجمع بهم وهُم بضعةَ عشرَ. قال الأوزاعيُّ: وهو أولُ من جمعَ بالناسِ. وقد خرج الدارقطنيّ - أظنه في "أفرادِه " - من روايةِ أحمدَ بنِ محمدِ بنِ غالبٍ الباهليِّ: نا محمدُ بن عبدِ اللَّهِ أبو زيد المدنيّ: ثنا المغيرةُ بنُ عبدِ الرحمنِ: ثنا مالكٌ، عن الزهريِّ، عن عبيدِ اللهِ بنِ عبدِ اللَّهِ، عن ابنِ عباسٍ، قالَ: أذِنَ رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بالجمُعةِ قبلَ أن يهاجرَ، ولم يستطعْ رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أن يجمّعَ بمكةَ ولا يبيِّن لهم، وكتبَ إلى مصعبِ بنِ عمير: "أما بعدُ، فانظرِ اليومَ الذي تجمرُ فيه اليهودُ لسبتِهم، فاجمعُوا نساءَكُم وأبناءَكم، فإذا مال النهار عن شطرهِ عند الزوالِ من يوم الجمعةِ فتقربوا إلى اللهِ بركعتينِ ".

قال: فهوَ أولُ من جمَّع مصعبُ بنُ عميرٍ، حتى قدمَ رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - المدينةَ، فجمَّع عند الزوالِ من الظهرِ، وأظهرَ ذلكَ. وهذا إسناد موضوع، والباهليُّ هو: غلامُ خليلٍ، كذابٌ مشهور بالكذبِ. وإنما هذا أصله من مراسيلِ الزهري، وفي هذا السياق ألفاط منكرة. وخرج البيهقيُّ من روايةِ يونسَ، عن الزهريِّ، قال: بلغَنا أنَّ أولَ ما جُمِّعتِ الجمعةُ بالمدينةِ قبلَ أن يقدمَها رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فجمَع بالمسلمينَ مصعب بن عمير. وروى عبد الرزاق في "كتابه " عن معمر، عن الزهريِّ، قال: بعث رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - مصعبَ بنَ عميرٍ إلى أهلِ المدينة ليقرئَهمُ القرآنَ، فاستأذن رسولَ اللَّهَ - صلى الله عليه وسلم - أنْ يجمِّع بهم، فأذِنَ له رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وليس يومئذٍ بأميرٍ. ولكنه انطلقَ يعلِّمُ أهلَ المدينةِ. وذكر عبدُ الرزاقِ، عن ابنِ جريج، قال: قلتُ لعطاء: مَن أولُ من جمَّعَ قال: رجل من بني عبدِ الدارِ - زعموا -، قلتُ: أفبأمر النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: فَمَهْ؟! وخرَّجه الأثرمُ من روايةِ ابنِ عيينَةَ، عن ابنِ جريج، وعندَه. قال: نعمْ. فمَه؟! قال ابن عيينةَ: سمعتُ مَن يقولُ: هو مصعبُ بنُ عميرٍ.

وكذلك نصَّ الإمامُ أحمدُ في - رواية أبي طالبٍ - على أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر مصعبَ بنَ عميرٍ أن يجمَعِّ بهمْ بالمدينةِ. ونص أحمدُ - أيضًا - على أنَّ أولَ جمعةِ جمِّعتْ في الإسلامِ هي الجمعة التي جمعتْ بالمدينةِ مع مصعبِ بنِ عميرٍ. وقد تقدَّم مثلُه عن عطاءِ والأوزاعيِّ. فتبينَ بهذا: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أمرَ بإقامةِ الجمُعةِ بالمدينةِ. ولم يُقمْها بمكةَ، وهذا يدلُّ على أنه كان قد فُرِضَت عليه الجمعةُ بمكةَ. وممَّن قالَ: إن الجمعةَ فُرضَت بمكةَ قبلَ الهجرةِ: أبو حامدٍ الإسفرايينيُ من الشافعيةِ، والقاضِي أبو يعلَى في "خلافه الكبير" من أصحابِنا، وابنُ عقيل في "عمد الأدلةِ"، وكذلك ذكرهَ طائفةٌ من المالكيةِ، منهم: السهيليُّ وغيرُه. وأما كونُه لم يفعلْه بمكةَ، فيُحمَل أنه إنما أُمرَ بها أنْ يقيمَها في دارِ الهجرةِ، لا في دارِ الحربِ، وكانت مكةُ إذ ذاكَ دارَ حربِ، ولم يكنِ المسلمونَ يتمكَّنونَ فيها من إظهارِ دينهم، وكانُوا خائفينَ على أنفسهم. ولذلك هاجرُوا منها إلى المدينةِ، والجمعةُ تسقطُ بأعذار كثيرة منها الخوفُ على النفسِ والمالِ، َ وقد أشار بعضُ المتأخرينَ من الشافعيةِ إلى معنًى آخرَ في الامتناع من إقامتِها بمكةَ، وهو: أن الجمعةَ إنما يُقصدُ بإقامتِها إظهارُ شعارِ الإسلامِ، وهذا إنما يُتمكنُ منه في دارِ الإسلامِ. ولهذا لا تقامُ الجمعةُ في السجنِ، وإن كان فيه أربعونَ، ولا يعلمُ في ذلك خلافٌ بينَ العلماءِ، وممَّن قالَه: الحسنُ، وابنُ سيرينَ، والنخَعيُّ، والثوريُّ،

ومالكٌ، وأحمدُ، وإسحاقُ وغيرُهم. وعلى قياسِ هذا: لو كانَ الأسارى في بلدِ المشركينَ مجتمعينَ في مكانٍ واحد؛ فإنهم لا يصلُّون فيه جمعةً، كالمسجونينَ في دارِ الإسلامِ وأولَى، لا سيما وأبو حنيفةَ وأصحابُه يرونَ أن الإقامةَ في دارِ الحربِ - وإن طالتْ - حكمُها حكمُ السفرِ، فتقصر فيها الصلاةُ أبدًا، ولو أقامَ المسلمُ باختيارهِ. فكيف إذا كانَ أسيرًا مقهورًا؟ وهذا على قولِ مَن يرى اشتراطَ إذنِ الإمامِ لإقامةِ الجمعةِ أظهرُ، فأمَّا على قولِ مَن لا يشترطُ إذنَ الإمامِ، فقد قال الإمامُ أحمدُ في الأمراءِ إذا أخَّروا الصلاةَ يومَ الجمُعةِ: فيصلِّيها لوقتِها ويصليها مع الإمامِ، فحملَه القاضي أبو يعلى في "خلافه " على أنهم يصلونها جمعةً لوقتِها. وهذا بعيدٌ جدًّا، وإنَّما مرادهُ: أنهم يصلون الظهرَ لوقتِها، ثم يشهدونَ الجمعةَ مع الأمراءِ. وكذلك كانَ السلفُ الصالحُ يفعلونَ عند تأخيرِ بني أميةَ للجمعةِ عن وقتِها، ومنهم مَن كانَ يومئُ بالصلاةِ وهو جالسٌ في المسجدِ قبلَ خروج الوقتِ، ولم يكنْ أحدٌ منهم يصلِّي الجمُعةَ لوقتِها، وفي ذلك مفاسدُ كثيرةٌ تسقطُ الجمعةُ بخشيةِ بعضِها. وفي "تهذيبِ المدونةِ" للمالكيةِ: وإذا أتى من تأخيرِ الأئمةِ ما يُسْتنكَرُ جمَّعَ الناسُ لأنفسِهم إن قدرُوا، وإلا صلَّوا ظهرًا، وتنفلُوا بصلاتِهم معَهم. قال: ومَن لا تجبُ عليه الجمعةُ مثلُ المرضَى والمسافرينَ وأهلِ السجنِ

فجائزٌ أن يجمِّعُوا. وأراد بالتجميع هنا: صلاةَِ الظهرِ جماعةً، لا صلاةَ الجمعةِ؛ فإنه قالى قبلَه: وإذا فاتتِ الجمعةُ من تجبُ عليهم فلا يجمِّعوا. والفرقُ بين صلاةِ الظهرِ جماعةً يومَ الجمعةِ، ممَّن تجبُ عليه وممَّن لا تجبُ عليه: أن من تجبُ عليه يُتَّهمُ في تركِها، بخلاف من لا تجبُ عليه فإن عذرَهُ ظاهرٌ. وقد رُويَ عن ابنِ سيرينَ، أن تجميعَ الأنصارِ بالمدينةِ إنما كان عنْ رأيهم. من غيرِ أمرِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - بالكليَّةِ، وأن ذلكَ كان قبلَ فرضِ الجمعةِ. قال عبدُ اللَّهِ ابنُ الإمامِ أحمدَ في "مسائله ": ثنا أبي: ثنا إسماعيلُ - هو: ابنُ عليَّة -: ثَنا أيوبُ، عنْ محمدِ بنِ سيرينَ، قال: نبِّئتُ أنَّ الأنصارَ قبلَ قدومِ رسولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عليهم المدينةَ قالوا: لو نظرنَا يومًا فاجتمعنا فيه، فذكرنَا هذا الأمرَ الذي أنعمَ اللَّهُ علينا بهِ، فقالُوا: يوم السبتِ، ثُمَّ قالوا: لا نجامعُ اليهودَ في يومِهم. قالوا: يوم الأحدِ، قالوا: لا نجامعُ النصارَى في يومِهم. قالُوا: فيوم العروبةِ. قالَ: وكانُوا يسمُّون يومَ الجمعةِ: يوم العروبةِ. فاجتمعوا في بيتِ أبي أمامةَ أسعد بن زرارة، فذبحت لهم شاةٌ، فكفتْهُمْ. وروى عبدُ الرزاق في "كتابِه " عن معمرٍ، عن أيوبَ، عن ابن سيرين. قال: جمَّعَ أهلُ المدينةِ قبلَ أن يقدمَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، وقبلَ أن تنزلَ الجمعةُ، وهم الذين سمَّوُها الجمعةَ، فقالتِ الأنصارُ: لليهودِ يومٌ يجتمعونَ فيه كلَّ ستةِ أيامٍ، وللنصارَى - أيضًا - مثلُ ذلك، فهلُمَّ فلنجعلْ يومًا نجتمعُ فيه،

ونذكرُ اللَّهَ عزَّ وجلَّ، ونصلّي ونشكرهُ - أو كما قالوا -، فقالوا: يومُ السبتِ لليهودِ، ويومُ الأحدِ للنصارَى، فاجعلُوا يومَ العروبةِ، وكانوا يسمُّون يوم الجمعة: يومَ العروبةِ، فاجتمعُوا إلى أسعدَ بنِ زرارةَ، فصلَّى بهم وذكَّرَهم، فسمَّوه: يومَ الجمُعةِ حينَ اجتمعُوا إليه، فذبحَ أسعدُ بنُ زرارةَ لهم شاةً، فتغدَّوْا وتعشَّوْا من شاهِ واحده ليلتَهم، فأنزلَ اللَّهُ بعدَ ذلك: (إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكرِ اللَّهِ) . فوقعَ في كلام الإمامِ أحمدَ: أن هذه هي الجمُعةُ التي جمعَها مصعبُ بنُ عميرٍ، وهي التي ذكرَها كعبُ بنُ مالكٍ في حديثه، أنهم كانُوا أربعينَ رجلاً. وفي هذا نظرٌ. ويحتملُ أن يكونَ هذا الاجتماعُ منَ الأنصارِ كانَ باجتهادِهم قبلَ قدومِ مصعب إليهم، ثم لمَّا قدمَ مصعب عليهم جمَّع بهم بأمرِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وكانَ الإسلامُ حينئذ قد ظهرَ وفَشَا، وكان يمكنُ إقامةُ شعارِ الإسلامِ في المدينةِ، وأما اجتماعُ الأنصارِ قبلَ ذلكَ، فكانَ في بيت أسعدَ بنِ زرارةَ قبل ظهورِ الإسلامِ بالمدينةِ وفشوِّهِ، وكانَ باجتهادٍ منهم، لا بأمرِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -. واللَّهُ سبحانه وتعالى أعلم. * * * [قال البخاري] : باب مِنْ أيْنَ تُؤتَى الجُمُعةُ، وعلَى مَنْ تجِبُ؟ لقوْلِ اللَّهِ عزَّ وجلَّ: (إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ) .

وقالَ عطاءٌ: إذَا كُنتَ فِي قَريةٍ جامعةٍ، فنُودِيَ بالصَّلاةِ مِن يومِ الجمُعةِ. فحقّ عليكَ أن تشهدَهَا، سمعتَ النِّداءِ أو لمْ تسمعهُ. وكانَ أنسُ بنُ مالكٍ فِي قصرهِ، أحيانًا يُجمِّعُ، وأحيانًا لا يُجمِّعُ، وهُو بالزَّاويةِ على فرسخينِ. تضمنَ هذا الذي ذكرَه مسألتين: إحداهُما: أنَّ مَن هو في قريةٍ تقامُ فيها الجمعةُ، فإنه إذا نوديَ فيها بالصلاةِ للجمعةِ وجبَ عليه السعيُ إلى الجمعةِ، وشهودُها، سواءٌ سمعَ النداءَ أو لم يسمعْهُ وقد حكاه عن عطاءٍ. وهذا الذي في القريةِ، إن كانَ من أهلِها المستوطنينَ بها، فلا خلافَ في لزومِ السعي إلى الجمعةِ لهُ، وسواء سمع النداءَ أو لم يسمعْ، وقد نصَّ على ذلك الشافعي وأحمدُ، ونقلَ بعضُهم الاتفاقَ عليهِ. وإن كانَ من غيرِ أهلِها، فإن كانَ مسافرًا يباحُ له القصرُ، فأكثرُ العلماءِ على أنه لا يلزمه الجمعةُ مع أهلِ القريةِ، وقد ذكرنَا فيما تقذم أن المسافرَ لا جمعةَ عليه. وحُكيَ عن الزهريِّ والنخعيِّ، أنه يلزمه تبعًا لأهلِ القريةِ. ورُوي عن عطاءٍ - أيضًا -، أنه يلزمُه. وكذا قال الأوزاعيُّ: إنْ أدرَكه الأذانُ قبلَ أن يرتحلَ فليجبْ. وإن كانَ المسافرُ قد نوى إقامةً بالقريةِ تمنعُه من قصرِ الصلاةِ، فهلْ يلزمُه الجمعة؛ فيه وجهانِ لأصحابِنا. وأوجبَ عليه الجمعةَ في هذه الحالِ: مالكٌ وأبو حنيفةَ، ولم يوجبْها عليه

الشافعيُّ وأصحابُه. المسألةُ الثانيةُ: إنَّ مَن كان خارجَ القريةِ أو المصرِ الذي تقامُ فيه الجمعةُ، هل تلزمُه الجمعةُ مع أهلِ القريةِ أو المصرِ، أم لا؟ هذا مما اختلَف فيه العلماءُ: فقالتْ طائفةٌ: لا تلزمُ مَن كانَ خارجَ المصرِ أو القرية الجمعةُ مع أهلِه بحالٍ، إذا كان بينَهم وبينَ المصرِ فرجة، ولو كانُوا من رِبْضِ المصرِ. وهذا قولُ الثوري وأبي حنيفةَ وأصحابهِ، إلحاقًا لهم باهلِ القرَى؛ فإنَّ الجمعةَ لا تقامُ عندَهم في القرَى. وقال أكثرُ أهلِ العلم: تلزمُهم الجمعةُ مع أهلِ المصرِ أو القريةِ، مع القربِ دونَ البعدِ. ثم اختلفُوا في حذَ ذلك: فقالتْ طائفة: المعتبرُ: إمكانُ سماع النداءِ، فمن كان من موضع الجمعةِ بحيثُ يمكنُه سماعُ النداءِ لزمَه، وإلا فَلا. هذا قولُ الشافعيِّ وأحمدَ وإسحاقَ. واستدلُّوا: بظاهرِ قولِ اللهِ تعالى: (إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ) . ورُوي عن عبدِ اللَهِ بنِ عَمرو بنِ العاصِ وسعيدِ بنِ المسيبِ وعَمرِو بن شعيب. ورُويَ عن أبي أمامةَ الباهليِّ - معناه.

وخرجَ أبو داود من حديثِ عبدِ اللَّهِ بنِ عَمرِو بنِ العاصِ، عنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: "الجمعةُ علَى مَن سمِعَ النداء" ورُويَ موقوفًا، وهو أشبهُ. وروَى إسماعيلُ، عن عبدِ العزيزِ بنِ عبدِ اللَّهِ، عن محمدِ بنِ عمرو بنِ عطاءٍ، عن عُبيدِ اللهِ بنِ كعبِ بنِ مالكٍ، عن أبيه - يرفعُه -، قال: "لينتهينَّ أقوام يسمعونَ النداءَ يومَ الجمعةِ، ثم لا يَشهدُونَها، أو ليطبعن اللَهُ على قلوبِهم، وليكونُنَّ من الغافلين، أو ليكونُنَّ من أهلِ النارِ ". عبدُ العزيزِ هذا، شاميّ تكلَّموا فيه. وقالت طائفةٌ: تجبُ الجمُعةُ على مَن بينَه وبينَ الجمعةِ فرسخٌ، وهو ثلاثةُ أميالٍ، وهو قولُ ابنِ المسيبِ والليثِ ومالك ومحمدِ بنِ الحسنِ، وهو روايةٌ عن أحمدَ. ومِن أصحابِنا مَن قالَ: لا فرقَ بينَ هذا القولِ والذي قبلَه؛ لأن الفرسخَ هو منتهَى ما يسمعُ فيه النداء - غالبًا -؛ فإن أحمدَ قالَ: الجمعة على من سمع النداءَ، والنداءُ يسمعُ من فرسخ، وكذلكَ رواه جماعةٌ عن مالكٍ. فيكونُ هذا القولُ والذي قبلَهُ واحدًا. وخرج الخلالُ من روايةِ مندل، عن ابنِ جريج، عن عبدِ اللَّهِ بنِ محمدِ ابنِ عقيل، عن جابر، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "عسَى أحدُكم أن يتخذ الصُّبَّة على رأسِ ميلين أو ثلاثةٍ، تأتي عليه الجمعةُ لا يشهدُها، ثم تأتي الجمعةُ لا يشهدُها - ثلاثًا - فيطبعُ على قلبهِ ". مندلٌ فيه ضعفٌ. وخرجَ الطبراني نحوَه من حديثِ ابنِ عمرَ - مرفوعًا.

وفي إسنادِه: إبراهيمُ بنُ يزيدَ الخوزيّ، وهو ضعيف. وروى معدي بن سليمان، عن ابنِ عجلانَ، عن أبيهِ، عن أبي هريرةَ. عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ألا هل عسَى أحدُكم أن يتخذَ الصُّبة من الغنم على رأسِ ميلٍ أو ميلين، فيتعذَّر عليه الكلأُ، فيرتفعُ، ثم تجيءُ الجمعةُ، فلا يجيءُ ولا يشهدُها، وتجيءُ الجمعة، فلا يشهدُها، وتجيءُ الجمعةُ، فلا يشهدها حتى يُطبعَ على قلبهِ ". خرَّجَه ابنُ ماجةَ. وخرَّجَه أبو بكر النجاد وابنُ عبدِ البرِ، وفي روايتهما: "ميلين أو ثلائة". ومَعْدي هذا، تكلم فيه أبو زرعةَ وغيرُه. وقال أبو حاتم: شيخ. وقالت طائفة: تجبُ الجمعةُ على من بينَهُ وبينَهَا أربعةُ أميال. ورُويَ عن ابن المنكدرِ والزهريِّ وعكرمةَ وربيعةَ. ورويَ عن الزهريِّ - أيضًا - تحديدُه بستةِ أميال، وهي فرسخانِ. وروي عن أبي هريرةَ، قال: تؤتَى الجمعةُ من فرسخينِ. خرَّجَه ابن أبي شيبة بإسناد ضعيف. وروى عبد الرزاق بإسنادٍ منقطع، عن معاذٍ، أنه كانَ يقومُ على منبر. فيقول لقومٍ بينهُم وبينَ دمشقَ أربعُ فراسخٍ وخمسُ فراسخٍ: إن الجمعةَ لزمتْكُم، وأن لا جمعة إلا معنا. وبإسنادٍ منقطع، عن معاويةَ، أنه كانَ يأمرُ بشهودِ الجمعةِ مَن بينه وبينَ

دمشقَ أربعة عشرَ ميلاً. وقالَ بقيةُ، عن محمدِ بنِ زياد: أدركتُ الناسَ بحِمْص تبعثُ الخيلَ نهارَ الخميسِ إلى جُوسيةَ وحماة والرَّستن يجلبون الناسَ إلى الجمعةِ، ولم يكن يجمعُ إلا بحِمْص. وعن عطاءٍ. إنه سئلَ: من كم يُؤتى الجمعةُ؟ قال: من سبعةِ أميالٍ. وعنه، قالَ: يقال: من عشرةِ أميالٍ إلى بريدٍ. وعن النخعيِّ، قالَ: تؤتى الجمعةُ من فرسخينِ. وعن أبي بكر بنِ محمدِ بنِ عمرِو بنِ حزمٍ، أنه أمرَ أهلَ قباء، وأهلَ ذي الحليفةِ، وأهلَ القرى الصغار حولهُ: لا يجمِّعُوا، وأن يشهدوا الجمعةَ بالمدينةِ. وعن ربيعة - أيضًا -، أنه قالَ: تجبُ الجمعةُ على من إذا نودِيَ بصلاةِ الجمعةِ خرجَ من بيتهِ ماشيًا أدركَ الجمعةَ. وقالتْ طائفة: تجبُ الجمعةُ على من آواه الليلُ إلى منزلِهِ. قال ابنُ المنذرِ: رويَ ذلكَ عن ابنِ عمرَ وأبي هريرةَ وأنسٍ والحسنِ ونافع مولى ابنِ عمرَ، وكذلكَ قالَ عكرمةُ والحكمُ وعطاءٌ والأوزاعيُ وأبو ثور. انتهى. وهو قولُ أبي خيثمةَ زهيرِ بنِ حربٍ وسليمان بن داود الهاشمي. وحكى إسماعيلُ بنُ سعيدٍ الشالنجيُّ، عن أحمدَ نحوَهُ، واختاره الجوزجانيُ.

وفيه حديث مرفوعٌ، من حديثِ أبي هريرةَ. وقد ذكره الترمذي، وبيَّن ضعفَ إسنادِه، وأن أحمدَ أنكرهُ أشدَّ الإنكارِ. وفيه - أيضًا -، عن عائشةَ، وإسنادُه ضعيف. وفيه - أيضًا - من مراسيلِ أبي قِلابَة، وفي إسنادِهِ ضعف. وقالتْ طائفةٌ: تُؤتَى الجمعةُ من فرسخينِ، قالهُ النخعيُّ وإسحاقُ، نقله عنه حرب. لكنهما لم يصرِّحا بوجوبِ ذلكَ، وقد تقدَّم نحوُه عن غيرِ واحدٍ. وخرجَ حرب من طريقِ ابنِ أبي عروبةَ، عن قتادةَ، عن أنسٍ، أنه كانَ يجمعُ من الزاويةِ، وهي فرسخانِ. وروى عبدُ الرزاقِ، عن معمرٍ، عن ثابتٍ، عن أنسٍ، أنه كانَ يكونُ بينَهُ وبين البصرةِ ثلاثةُ أميالٍ، فيشهدُ الجمعةَ بالبصرةِ. وقد ذكرَ البخاريُّ عنهُ أنه كانَ أحيانًا لا يجمعُ. وكذلكَ رُويَ عن أبي هريرةَ، أنه كانَ بالشجرةِ - وهي ذو الحليفةِ -، فكانَ أحيانًا يجمعُ، - وأحيانا لا يجمعُ. وقد رويَ عنه الأمرانِ جميعًا. وكذلكَ سعدُ بنُ أبي وقاصٍ، كانَ في قصر بالعقيقِ، فكانَ أحيانًا يجمعُ. وأحيانًا لا يجمعُ، وكان بينهُ وبينَ المدينةِ سبعةُ أميالي أو ثمانية.

وكذلك رويَ عن عائشةَ بنتِ سعد، أنَّ أباها كانَ يفعل. * * * [قال البخاري] : بَابُ: المشي إلى الجُمُعةِ: وقولِ اللَّهِ عزَّ وجلَّ: (فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ) . ومَنْ قالَ: السعيُ العملُ والذَّهابُ؛ لقولِهِ: (وسَعَى لَهَا سَعْيَهَا) . وقالَ ابنُ عباسٍ: يحرمُ البيعُ حينئذٍ. وقالَ عطاءٌ: تحرُمُ الصناعاتُ كلُّها. وقالَ إبراهيمُ بنُ سعدٍ، عنِ الزهري: إذا أذن الموذن يومَ الجمعةِ وهوَ مسافر، فعليهِ أن يشهدَ. اشتملَ كلامُه - هاهنا - على مسائلَ: إحدَاها: المشيُ إلى الجمعة، وله فضل. وفي حديثِ أوسِ بنِ أوسٍ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: "من بكَر وابتكرَ، وغسَّل واغتسلَ، ومشَى ولم يركبْ ". وقد سبقَ. وفي حديثِ اختصامِ الملأ الأعْلَى: "إنهم يختصمونَ في الكفاراتِ والدرجاتِ. والكفاراتُ إسباغُ الوضوءِ في الكريهاتِ، والمشيُ على الأقدام إلى الجمُعاتِ ". وقد خرَّجَه الإمامُ أحمدُ والترمذيُّ من حديث معاذٍ.

وله طرقٌ كثيرةٌ، ذكرتُها مستوفاةً في "شرح الترمذيّ ". وروى ابنُ أبي شيبة بإسنادِ فيه انقطاعٌ، أن عبدَ اللَّهِ بنَ رواحةَ كان يأتي الجمعةَ ماشيًا، فإذا رجعَ رجعَ كيف شاءَ ماشيًا، وإن شاء راكبًا. وفي روايةِ: وكان بين منزِله وبين الجمعةِ ميلانِ. وعن أبي هريرةَ، أنه كان يأتي الجمعةَ من ذي الحليفة ماشيًا. وذكر ابنُ سعد في "طبقاته " بإسناده، عن عمرَ بنِ عبدِ العزيزِ، أنه كتب ينهَى أن يركبَ أحد إلى الجمعةِ والعيدينِ. وقال النخعيّ: لا يُركبُ إلى الجمعةِ. المسألةُ الثانيةُ: أنه يستحمبّ المشيُ بالسكينةِ مع مقاربةِ الخُطَا، كما في سائرِ الصلواتِ، على ما سبق ذكرُه في موضعه. فأما قولُ اللَّهِ عزَّ وجلَّ: (إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ) ، فقد حملَه قومٌ من المتقدمين على ظاهره، وأنكرَ ذلك عليهم الصحابةُ. فروى البيهقيُّ من حديثِ عبدِ اللَّهِ بنِ الصامتِ، قال: خرجتُ إلى المسجدِ يومَ الجمعةِ، فلقيتُ أبا ذرٍّ، فبينا أنا أمشي إذ سمعتُ النداءَ، فرفعتُ في المشي؛ لقولِ اللَّهِ عزَّ وجلَّ: (إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ) ، فجذبني جذبةً كدت أن ألاقيَه، ثم قال: أو لسْنَا في سعي؟

فقد أنكرَ أبو ذرٍّ مَن فسر السعي بشدةِ الجري والعدْوِ، وبينَ أنَّ المشيَ إليها سعيٌ؛ لأنه عمل، والعملُ يُسمَّى سعيًا، كما قالَ تعالى: (إِنَّ سَعْيكُمْ لَشَتَّى) وقال: (وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا) ، ومثلُ هذا كثيرٌ في القرآن. وبهذا فسَّرَ السعيَ في هذه الآية التابعونَ فمن بعدَهم، منهم: عطاءٌ. ومجاهدٌ، وعكرمةُ، وقتادةُ، ومحمدُ بنُ كعبٍ، وزيدُ بنُ أسلمَ، ومالكٌ. والثوريُّ، والشافعي وغيرُهم. وروي عن ابنِ عباسٍ - أيضًا - من وجهٍ منقطع. ومنهم مَن فسَّر السعيَ بالجري والمسابقةِ، لكنه حملَه على سعي القلوبِ والمقاصدِ والنياتِ دون الأقدامِ، هذا قولُ الحسنِ. وجمع قتادةُ بين القولينِ - في رواية -، فقال: السعيُ بالقلبِ والعملِ. وكان عثمانُ وابنُ مسعود وجماعةٌ من الصحابة يقرءونَها: "فامضُوا إلى ذكرِ اللَّهِ ". وقال النخعيُّ: لو قرأتُها (فَاسْعَوْا) لسعيتُ حتى يسقط ردائي. ورُويَ هذا الكلامُ عن ابنِ مسعودٍ من وجهٍ منقطع. المسألةُ الثالثةُ: في تحريمِ البيع وغيرِه مما يشتغلُ به عن السعي بعدَ النداءِ. وقد حُكي عن ابنِ عباسٍ تحريم البيع وغيرِه. وروى القاضِي إسماعيلُ في كتابه "أحكام القرآنِ " من رواية سليمانَ بنِ معاذٍ، عن سماكٍ، عن عكرمةَ، عن ابنِ عباسٍ، قالَ: لا يصلحُ البيعُ يومَ الجمعةِ حين ينادَى بالصلاةِ، فإذا قُضِيتِ الصلاةُ فاشترِ وبِعْ.

وبإسنادِهِ: عن ميمونِ بنِ مِهرانَ، قالَ: كانَ بالمدينةِ إذا نوديَ بالصلاةِ من يومِ الجمعةِ نادَوْا: حرُمَ البيعُ، حرُمَ البيعُ. وعن أيوبَ، قالَ: لأهلِ المدينةِ ساعة، وذلك عندَ خروج الإمامِ. يقولون: حرُم البيعُ، حرُم البيعُ. وعن عمرَ بنِ عبدِ العزيزِ، أنه كانَ يمنعُ الناسَ منَ البيع يومَ الجمعةِ إذا نودِي بالصلاةِ. وعن الحسنِ وعطاء والضحاكِ: تحريمُ البيع إذا زالتِ الشمسُ من يومِ الجمعةِ. وعن الشعبيِّ، أنه محرَّمٌ، وكذا قالَ مكحولٌ. وحكى إسحاقُ بنُ راهويه الإجماعَ على تحريمِ البيع بعدَ النداءِ. وحكى القاضي إسماعيلُ، عمَن لم يسمِّه، أن البيعَ مكرُوهٌ، وأنه استدل بقوله: (ذَلِكُمْ خَيْرٌ لكُمْ) . وردَّ عليه: بأن مَنْ فعل ما وجَب عليه وتركَ ما نُهِي عنه فهو خيرٌ له، كما قال تعالى: (وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ) . وحُكي القولُ بأن البيعَ مردودٌ عن القاسم بنِ محمدٍ وربيعةَ ومالكٍ. ورواه ابنُ عيينةَ، عن عبدِ الكريمِ، عن مجاهدٍ أو غيرِه. وهو مذهبُ الليثِ والثوريِّ وإسحاقَ وأحمدَ وغيرِهم من فقهاءِ أهلِ الحديثِ. وخالف فيه أبو حنيفةَ والشافعيُّ وأصحابُهما وعبيدُ اللَّه العنبريُّ، وقالوا:

البيعُ غيرُ مردودٍ؛ لأن النهي عن البيع هنا ليس نهيًا عنه لذاتهِ بل لوقتهِ. والأولون يقولون: النهي يقتضي فسادَ المنهيِّ عنه، سواءٌ كان لذاتِ المنهيِّ عنه أو لوقتهِ، كالصومِ يوم العيدِ، والصلاةِ وقتَ النهِي، فكذلك العقودُ. وقال الثوريُّ - فيما إذا تصارفا ذهبًا بفضة وقبضا البعضَ، ثم دخل وقتُ النداءِ يوم الجمعةِ -: فإنهما يترادَّان البيعَ. وهذا يدلُّ على أن القبضَ عنده شرطٌ لانعقادِ الصرفِ، فلا يتمّ العقدُ إلا به، وهو الصحيحُ عند المحققينَ من أصحابنا - أيضًا. وأما ما ذكره عن عطاء، أنه تحرُم الصناعاتُ حينئذ، فإنه يرجع إلى أنه إنَّما حرمَ البيعُ لأنه شاغلٌ عن السعي إلى ذكر اللَّه والصلاة، فكل ما قطع عن ذلك فهو محرمٌ من صناعة أو غيرِها، حتى الأكلُ "والشربُ والنوم والتحدثُ وغيرُ ذلك، وهذا قولُ الشافعيةِ وغيرهم - أيضًا. لكن لأصحابنا في بطلانِ غيرِ البيع منَ العقودِ وجهانِ، فإن وقوعها بعد النداءِ نادر، بخلافِ البيع، فإنَّه غالب، فلو لم يبطلْ لأدَى إلى الاشتغالِ عنِ الجمعةَ بهِ، فتفوتُ الجمعةُ غالبًا. وأكثرُ أصحابِنا حكَوُا الخلافَ في جوازِ ذلك، وفيه نظر؛ فإنه إذا وجبَ السعيُ إلى الجمعة حرُمَ كل ما قطعَ عنه. وقد رُويَ عن زيدِ بنِ أسلمَ، قالَ: لم يأمرُهُمُ اللَّهُ أن يذرُوا شيئًا غيرَه. حرم البيع، ثم أذنَ لهم فيه إذا فرغُوا. وهذا ضعيفٌ جدًّا، فإن البيعَ إنما خُصَّ بالذكرِ لأنَّه أكثرُ ما يقغ حينئذ مما يُلهي عن السعي، فيشارِكُه في المعنى كلُّ شاغل.

واستدل بعضُ أصحابنا على جوازِ غيرِ البيع منَ العقود بالصدقةِ، وقال: قد أمرَ بها النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يخطبُ. وهذا لا يصحُّ؛ فإن الصدقةَ قربةٌ وطاعةٌ، وإذا وقعتْ في المسجدِ حيثُ لا يكره السؤالُ فيه فلا وجْهَ لمنعها. فإن ألحق بذلكَ عقدُ النكاح في المسجدِ قبلَ خروج الإمامِ كان متوجهًا. مع أن بعضَ أصحابِنا قد خصَّ الخلافَ بالنكاح، وهو ابنُ عقيلٍ. وعن أحمدَ روايةٌ: إنه يحرم البيعُ بدخول وقتِ الوجوبِ، وهو زوالُ الشمسِ. وقد سبقَ مثلُه عن الحسنِ، وعطاءٍ، والضحاكِ، وهو - أيضًا - قولُ مسروقٍ، ومسلم بنِ يسارٍ، والثوريِّ، وإسحاقَ. وقياسُ قولهم: إنه يجبُ السعيُ بالزوال، ويحرمُ حينئذٍ كلُّ شاغلٍ يشغلُ والجمهورُ: على أنه لا يحرُم بدونِ النداءِ. ثم الأكثرونَ منهم على أنه النداءُ الثاني الذي بَين يدي الإمامِ؛ لأنه النداءُ الذي كان في عهد النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فلا ينصرفُ النداءُ عند إطلاقهِ إلا إليه. وفي "صحيح الإسماعيليِّ " من حديثِ الزهريِّ، عن السائبِ بنِ يزيدَ. قال: كان النداءُ الذي ذكرَ اللَّهُ في القرآن يومَ الجمعةَ إذا خرجَ الإمامُ، وإذَا قامتِ الصلاةُ في زمنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وعمرَ. وعن أحمدَ روايةٌ: أنه يحرمُ البيعُ ويجبُ السعيُ بالنداء الأولِ. وهو قولُ مقاتلِ بنِ حيَّانَ، قالَ: وقد كانَ النداءُ الأولُ قبلَ زوالِ الشمسِ.

ونقله ابنُ منصورٍ، عن إسحاقَ بنِ راهويه صريحًا. وعن أحمدَ، أنه قال: أخافُ أن يحرمَ البيعُ، وإن أذن قبل الوقت. ومجردُ الشروع في الأذانِ يحرمُ به البيعُ عند أصحابِنَا والشافعيةِ؛ لأنه صارَ نداءً مشروعًا مسمْونًا من سنةِ الخلفاءِ الراشدين. قال أصحابُنا: ولو اقتصر عليه أجزأ، وسقطَ فرضُ الأذانِ. وعند أصحابِ الشافعيِّ: يحرمُ البيعُ بمجردِ الشروع في النداءِ الثانِي بين يديِ الإمامِ، إذا كانَ قاطعًا عن السعي، فاما إن فعلَه وهو ماشٍ في الطريقِ ولم يقفْ، أو هو قاعدٌ في المسجد كُره ولم يَحرمْ. وهذا بعيدٌ، والتبايعُ في المسجدِ بعدَ الأذانِ يجتمعُ فيه نهيانِ؛ لزمانِهِ ومكانهِ، فهو أولى بالتحريمِ. المسألةُ الرابعةُ: حكِىَ عن الزهريِّ: أن المسافرَ إذا سمعَ النداءَ للجمعةِ، فعليه أن يشهدَها، وقد سبقَ ذكرُ ذلكَ عنه، وعن النخعيِّ والأوزاعيَ وعن عطاءٍ: أن عليه شهودَها، سمعَ الأذَان أو لم يسمعْه، وأن الجمهورَ على خلافِ ذلكَ. وهل للمسافرِ أن يبيعَ ويشتريَ في المصِر بعدَ سماع النداءِ؛ فيه اختلافٌ بينَ أصحابِنا، يرجعُ إلى أنَّ من سقطتْ عنه الجمعةُ لعذرٍ، كالمريضِ: هل له أن يبيع بعد النداءِ، أم لا؛ فيه روايتانِ عن أحمدَ. وأما من ليس مِن أهلِ الجمعةِ بالكلِّية، كالمرأة، فلها البيعُ والشراءُ بغيرِ خلافٍ، وكذا العبدُ، إذا قلنا: لا يجبُ عليه الجمعةَ. * * *

[قال البخاري] : حدثنا آدمُ: ثنا ابنُ أبي ذئبٍ، عن الزهريِّ، عن السَّائبِ بنِ يزيدَ، قالَ: كانَ النِّداءُ يومَ الجمعةِ أوَّلهُ إذَا جلسَ الإمامُ على المنبرِ، علَى عهدِ رسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكرِ وعُمرَ، فلمَّا كانَ عُثمانُ، وكثرُ النَّاسُ، زاد النِّداءَ الثَّالثَ على الزوراءِ. قالَ أبو عبدِ اللَّهِ: الزَّورَاءُ: موضع بالسُّوقِ بالمدينةِ. الأذانُ يومَ الجمعةِ قد ذكرَه اللَّهُ تعالَى في كتابه، في قوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكرِ اللَّهِ) . وقد ذهب طائفة من العلماء إلى وجوبهِ، وإنْ قيل: إن الأذان سنة، وهو الذي ذكره ابنُ أبي موسى من أصحابِنا، وقاله طائفة من الشافعيةِ - أيضًا. وقد دلَّ الحديثُ على أن الأذانَ الذي كان على عهدِ رسولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكرٍ وعمرَ هو النداءُ الذي بين يديِ الإمامِ عند جلوسهِ على المنبرِ، وهذا لا اختلافَ فيه بين العلماءِ. ولهذا قال أكثرُهم: إنه هو الأذانُ الذي يَمنع البيعَ، ويوجبُ السعيَ إلى الجمعة، حيث لم يكن على عهدِ النبىِّ - صلى الله عليه وسلم - سِواه. وما ذكره ابنُ عبد البرِّ عن طائفةٍ من أصحابِهم، أن هذا الأذانَ الذي يمنع البيعَ لم يكن على عهدِ النبي - صلى الله عليه وسلم - وإنما أحدثه هشامُ بنُ عبدِ الملكِ، فقد بيَّن ابنُ عبدِ البرِّ أن هذا جهل من قائلهِ؛ لعدم معرفته بالسنةِ والآثارِ. فإن قال هذا الجاهلُ: إنه لم يكنْ أذانٌ بالكلِّية في الجمعةِ، فقد باهتَ. ويكذِّبهُ قولُ اللَّه عزَّ وجلَّ (إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا)

وإنْ زعمَ أن الأذانَ الذي كان في عهد النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكرٍ وعمرَ هو الأذانُ الأولُ الذي قبلَ خروج الإمامِ، فقد أبطلَ، ويكذبه هذا الحديثُ واجتماعُ العلماءِ على ذلكَ. وقولُه في هذه الرواية: "أولُه إذا جلسَ الإمامُ على المنبرِ"، معناه: أن هذا الأذانَ كانَ هو الأولَ، ثم تليه الإقامةُ، وتسُمَّى: أذانًا، كما في الحديثِ المشهورِ: "بين كلّ أذانينِ صلاة. وخرَّجَه النسائي من روايةِ المعتمرِ، عن أبيه، عن الزهريِّ، ولفظُه: كان بلالاً يؤذن إذا جلسَ رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - على المنبرِ يومَ الجمعةِ، فإذا نزلَ أقامَ، ثم كان كذلك في زمنِ أبي بكرٍ وعمرَ، فلما زاد عثمانُ النداءَ الثالثَ صار هذا الثالثُ هو الأولَ، وصار الذي بين يدي الإمامِ هو الثاني. وقد خرج أبو داود هذا الحديثَ من طريق ابن إسحاقَ، عنِ الزهريِّ. عن السائبِ، قال: كان يؤذَّن بين يديْ رسولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إذا جلسَ على المنبرِ يومَ الجمعةِ على بابِ المسجدِ، وأبي بكرٍ وعمرَ. ففي هذه الروايةِ: زيادةٌ: أنَّ هذا الأذانَ لم يكنْ في نفسِ المسجدِ، بل على بابهِ، بحيث يسمعه مَنْ كان في المسجدِ ومَن كان خارجَ المسجدِ، ليترك أهلُ الأسواقِ البيعَ ويسرعُوا إلى السعي إلى المسجدِ. وقولُه: "فلما كان عثمانُ " - يريد: لما وليَ عثمان - "وكثر الناسُ في زمنه زادَ النداءَ الثالثَ على الزوراءِ"، وسمَّاه: ثالثًا؛ لأن به صارتِ النداءات

للجمعةِ ثلاثةً، وإنْ كان هو أوَّلها وقوعًا. وخرَّجَه ابن ماجةَ، وعنده - بعد قوله: "على دار في السوقِ، يقال لها: الزورَاءُ" -: "فإذا خرج أذَنَ، وإذا نَزلَ أقامَ ". وهو من روايةِ ابنِ إسحاقَ، عن الزهريِّ. وروى الزهريُّ، عن ابنِ المسيبِ: معنَى حديثهِ عن السائبِ بن يزيدَ، غيرَ أنه قال: "فلمَّا كان عثمانُ كثرَ الناسُ، فزاد الأذانَ الأولَ، وأرادَ أن يتهيأ الناسُ للجمعةِ". خرَّجَه عبدُ الرزَّاقِ في "كتابه " عن معمرٍ، عنه. وقد رواه إسماعيلُ بنُ يحيى التميميُّ - وهو ضعيفٌ جدًّا -، عن مِسعَر. عن القاسم، عن ابن المسيبِ، عن أبي أيوبَ الأنصاريِّ، قال: ما كان الأذانُ على عهدِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - يوم الجمعة إلا قُدَّامَ النبيّ - صلى الله عليه وسلم - وهو على المنبرِ، فإذا نزلَ أقامُوا الصلاةَ، فلما ولي عثمانُ أُمرَ أن يؤذَّن على المنارَة ليُسمعَ الناسَ. خرَّجَه الإسماعيليُّ في مسند مسعرٍ، وقال في القاسم: هو مجهولٌ. قلت: والصحيحُ المرسلُ. وقد أنكر عطاءٌ الأذانَ الأولَ، وقال: إنما زادَه الحجاجُ. قال: وإنما كانَ عثمانُ يدعو الناسَ دعاءً. خرَّجَه عبد الرزاقِ.

وقال عمرُو بنُ دينارٍ: إنما زادَ عثمانُ الأذانَ بالمدينةِ، وأما مكةُ فأوَّل من زادَه الحجاجُ. قال: ورأيت ابنَ الزبيرِ لا يؤذَّن له حتى يجلسَ على المنبرِ، ولا يؤذَّن له إلا أذانٌ واحد يوم الجمعة. خرَّجَه عبد الرزَّاقِ - أيضًا. وروى مصعبُ بن سلامٍ، عن هشامِ بنِ الغازِ، عن نافع، عن ابن عمرَ. قال: إنما كانَ رسول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إذا قعدَ على المنبرِ أذنَ بلال، فإذا فرغَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - ّ من خطبتهِ أقام الصلاةَ، والأذانُ الأولُ بدعةٌ. وروى وكيعٌ في "كتابه " عن هشامِ بنِ الغازِ، قال: سألتُ نافعًا عن الأذانِ يومِ الجمعةِ؟ فقال: قال ابنُ عمرَ: بدعة، وكلُّ بدعةٍ ضلالةٌ، وإن رآه الناسُ حسنًا. وقال عبدُ الرحمنِ بنُ زيدِ بنِ أسلمَ: لم يكن في زمانِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - إلا أذانَانِ: أذانٌ حين يجلسُ على المنبرِ، وأذانٌ حين تُقامُ الصلاةُ. قال: وهذا الأخيرُ شيءٌ أحدثه الناسُ بعدُ. خرَّجَهُ ابنُ أبي حاتم. وقال سفيانُ الثوريُّ: لا يُؤَذَّن للجمعةِ حتى تزول الشمسُ، وإذا أذنَ المؤذِّن قام الإمامُ على المنبرِ فخطبَ، وإذا نزل أقامَ الصلاةَ. قال: والأذان الذي كان على عهدِ رسول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكرٍ وعمرَ أذانٌ وإقامةٌ، وهذا الأذانُ الذي

زادوه محدَثٌ. وقال الشافعيُّ - فيما حكاه ابنُ عبدِ البرِّ -: أحبُّ إليَّ أن يكون الأذانُ يومَ الجمعةِ حين يجلسُ الإمامُ على المنبرِ بينَ يديهِ، فإذا قعد أخذَ المؤذنُ في الأذانِ، فإذا فرغَ قام فخطبَ. قال: وكان عطاءٌ ينكرُ أن يكونَ عثمانُ أحدثَ الأذانَ الثاني، وقال: إنما أحدثَه معاويةُ. قال الشافعيُّ: وأيُّهما كانَ، فالأذانُ الذي كان على عهد النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وهو الذي يُنَهى الناسُ عنده عن البيع. ولأصحابِهِ في أذانِ الجمعةِ - على قولِهم: الأذانُ سنةٌ - وجهانِ: أحدُهما: أنه سنةٌ - أيضًا. والثاني: أنه للجمعةِ خاصةً فرضُ كفاية. فعلى هذا: هل تسقطُ الكفايةُ بالأذانِ الأول، أوْ لا تسقطُ إلا بالأذان بين يديِ الإمامِ؟ على وجهينِ - أيضًا. ومنْ أصحابِنا من قال: يسقط الفرضُ بالأذانِ الأول، وفيه نظرٌ واللَّه أعلم. وقال القاضِي أبو يعلَى: المستحبُّ أن لا يؤذَّن إلا أذانٌ واحدٌ، وهو بعد جلوسِ الإمام على المنبرِ، فإن أذِّنَ لها بعدَ الزَّوال وقبلَ جلوسِ الإمامِ جازَ. ولم يُكْرَه. ثم ذكرَ حديثَ السائبِ بنِ يزيدَ هذا. ونقلَ حربٌ، عن إسحاقَ بنِ راهَويه: أن الأذانَ الأول للجمعةِ محدثٌ. أحدثه عثمانُ، رأى أنه لا يسمعُه إلا أن يزيدَ في المؤذنين، ليُعلم الأبعدِين

قوله تعالى: (وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها وتركوك قائما)

ذلك، فصار سنةً: لأن على الخلفاء النظرَ في مثل ذلك للناسِ. وهذا يفهم منه أن ذلك راجغ إلى رأي الإمام، فإن احتاج إليه لكثرةِ الناس فعلَه، وإلا فلا حاجةَ إليه. * * * قوله تعالى: (وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا) [قال البخاري] : بابُ الخُطبةِ قائمًا: وقالَ أنسٌ: بينَا النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يخطبُ قائما. حديثُ أنسٍ، هو الذي فيه ذكرُ الاستسقاءِ في الجمعةِ، وسيأتي - إن شاء اللَّهُ سبحانه وتعالى - فيما بعد. حدثثا عُبيدُ اللَّهِ بنُ عمرَ القواريريُّ: نَا خالدُ بنُ الحارثِ: نَا عُبيدُ اللَّهِ بنُ عمرَ، عنْ نافع، عن ابنِ عمرَ، قالَ: كانَ النَبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يخطبُ قائمًا، ثم يقعدُ، ثُمَّ يقومُ كمَا يفعلُونَ الآن. وفي الخطبةِ قائمًا أحاديثُ أُخَر. وخرَّج مسلمٌ من حديثِ سماكِ، عن جابرِ بنِ سمُرةَ، قال: كانَ رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يخطبُ قائصًا، ثم يجلسُ، ثم يقومُ فيخطبُ قائمًا، فمن نبَّأكَ أنه

كان يخطبُ جالسًا فقد كذبَ، فقد - واللهِ - صليتُ معهُ أكثرَ من ألفَي صلاة. وخرَّج مسلم بإسنادِه من حديثِ كعبِ بنِ عجرةَ، أنه دخلَ المسجدَ وعبدُ الرحمنِ بنُ أمِّ الحكم يخطبُ قاعدًا، فقالَ: انظرُوا الخبيثَ، يخطبُ قاعدًا، وقد قالَ اللَّهُ تعالى: (وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا) . وخرجَ ابنُ ماجةَ من حديثِ إبراهيمَ، عن علقمةَ، عن ابنِ مسعودٍ، أنه سُئلَ: أكانَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يخطبُ قائمًا أو قاعدًا؟ قال: أمَا تقرأُ: (وَتَرَكُوكَ قَائِمًا) ؟ وهذا إسناد جيدٌ. لكن رُوي، عن إبراهيمَ، عن علقمةَ من قولهِ. وعن إبراهيمَ، عن عبدِ الله منقطعًا. واستدل بهذه الآيةِ على القيامِ في الخطبة جماعة، منهم: ابنُ سيرينَ، وأبو عبيدةَ بن عبدِ اللَّهِ بنِ مسعودِ. وإنما احتاجوا إلى السؤالِ عن ذلك، لأنه كان في زمن بني أميةَ من يخطبُ جالسًا، وقد قيلَ: إن أولَ منَ جلسَ معاويةُ -: قاله الشعبيُّ والحسنُ وطاوُس. وقال طاوسٌ: الجلوسُ على المنبرِ يومَ الجمعةِ بدعةٌ.

وقال الحسنُ: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكرِ وعمرُ وعثمانُ يخطبون قيامًا، ثم إن عثمانَ لما رقَّ وكبرَ كان يخطبُ، فيدركُه ما يدركُ الكبيرَ فيستريحُ ولا يتكلَّمُ، ثم يقومُ فيتمُّ خطبتَه. خرَّجَه القاضي إسماعيلُ. وخرج - أيضًا - من رواية ابنِ جريج، عن عطاءِ، أنه قال؛ أولُ من جعلَ في الخُطْبةِ جلوسًا عثمانُ، حين كبرَ وأخذته الرعدةُ جلس هنيَّةً. قيل له: هل كان يخطبُ عمرُ إذا جلسَ؟ قال: لا أدري. وقد روي عن عمرَ بنِ عبدِ العزيزِ، أنه كان يخطبُ الخطبةَ الأولَى جالسًا. ويقوم في الثانيةِ. خرَّجَه ابنُ سعد. والظنُّ به أنه لم تبلغهُ السنةُ في ذلك، ولو بلغتْه كان أتبع الناسِ لها. وقد قيل: إن ذلكَ لم يصح عنه؛ فإن الأثرمَ حكَى: أن الهيثمَ بنَ خارجةَ قال لأحمدَ: كان عمرُ بنُ عبدِ العزيزِ يجلسُ في خطبته؟ قال: فظهر منه إنكارٌ لذلك. وروايةُ ابنِ سعدٍ له عن الواقدفيَ، وهو لا يعتمدُ. وقد رُوي عن ابنِ الزبيرِ - أيضًا - الجلوسُ في الخطبةِ الأولى - أيضًا. خرَّجهُ القاضي إسماعيلُ. واختلف العلماءُ في الخُطبةِ جالسًا: فمنهم مَن قالَ: لا يصح، وهو قولُ

الشافعيِّ، وحكى روايته عن مالكٍ وأحمدَ. وقال ابنُ عبدِ البرِّ: أجمعُوا على أن الخطبةَ لا تكونُ إلا قائمًا لمن قدرَ على القيامِ. ولعلَّه أراد إجماعهم على استحبابِ ذلك؛ فإن الأكثرينَ على أنها تصحُّ من الجالسِ، مع القدرةِ على القيامِ، مع الكراهةِ. وهو قولُ أبي حنيفةَ ومالكٍ، والمشهورُ عن أحمدَ، وعليه أصحابُه، وقولُ إسحاقَ - أيضا. * * * [قال البخاري] : حدثنا معاويةُ بنُ عمرو: ثنَا زائدةُ، عن حصينٍ، عن سالم بنِ أبي الجعدٍ: ثنا جابرُ بنُ عبدِ اللَّهِ، قالَ: بينمَا نحنُ نُصلِّي معَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - إذْ أقبلتْ عيرٌ تحملُ طعامًا، فالتفتُوا إليهَا حتَّى ما بقِي مع النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا اثنا عشرَ رجلاً، فنزلتْ هذه الآية ُ: (وِإذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انفَضُّوا إِليْهًا وَتَرَكُوك قَائِمًا) . وخرَّجَه في "التفسير"، عن حفصِ بنِ عمرَ، قال: ثنا خالدُ بنُ عبدِ اللَّهِ: أبْنَا حصينٌ، عن سالم بنِ أبي الجعدِ - وعن أبي سفيانَ، عن جابرِ ابنِ عبدِ اللهِ - فذكرَه بمعناه. وفي هذه الروايةِ: متابعةُ أبي سفيانَ لسالم بنِ أبي الجعدِ على روايته عن جابر، وإنما خرَّج لأبي سفيان متابعةً. وقد خرَّجه مسلم بالوجهين - أيضًا.

وفي أكثرِ رواياتهِ: أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -كانَ يخطبُ يومَ الجمُعَة. وفي رواية له: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كانَ يخطبُ قائمًا يومَ الجمُعَة - فذكرَه بمعناه. وفي روايةٍ له: فلم يبقَ إلا اثنا عشرَ رجلاً، أنا فيهم. وفي روايةٍ له - أيضا -: فيهم أبو بكرٍ وعمرُ - - رضي الله عنهما -. وقولُه في الرواية التي خرجها البخاريُّ: بيْنَا نحنُ نصلِّي معَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - " لم يرِدْ به أنهمُ انفضُّوا عنه في نفسِ الصلاةِ، إنما أرادَ - واللَّهُ أعلمُ - أنهم كانوا مجتمعينَ للصلاةِ، فانفضُّوا وتركُوه. ويدلُّ عليه: حديثُ كعبِ بنِ عجرة، لما قال: انظُروا إلى هذا الخبيثِ يخطبُ قاعِدًا، وقد قالَ اللَهُ تعالى: (انفَضوا إِلَيْهَا وَتَرَكوكَ قَائِمًا) . وكذلك استدلالُ ابنِ مسعودٍ وخلقٌ من التابعينَ بالآيةِ على القيامِ في وروى علي بنُ عاصم هذا الحديثَ عن حصينٍ، فقال فيه: فلم يبقَ معه إلا أربعونَ رجلاً، أنا فِيهِمْ. خرَّجه الدارقطنيُّ والبيهقي. وعليٌّ بنُ عاصم، ليس بالحافظِ، فلا يُقبلُ تفردُه بما يخالفُ الثقاتِ. وقد استدلَّ البخاريُّ وخلق من العلماءِ على أن الناسَ إذا نَفروا عن الإمامِ وهو يخطبُ للجمعَةِ، وصلَّى الجمُعةَ بمن بَقي، جازَ ذلك، وصحَّت جمعتهم.

وهذا يرجع إلى أصل مختلَفٍ فيه، وهو: العددُ الذي تنعقدُ به الجمعةُ؟ وقد اختُلِفَ في ذلك: فقالت طائفةٌ: لا تنعقدُ الجمعةُ بدون أربعينَ رجلاً، رُويَ ذلك عن عُبيدِ اللَّهِ بنِ عبد اللَّهِ بنِ عتبةَ وعمرَ بنِ عبدِ العزيزِ، وهو قول الشافعيِّ وأحمدَ - في المشهورِ عنه - وإسحاقَ، ورواية عن مالكٍ. وقالت طائفة: تنعقد بخمسينَ، رُويَ عن عمرَ بنِ عبدِ العزيزِ - أيضًا - وهو روايةٌ عن أحمدَ. وقالت طائفة تنعقد بثلاثةٍ، منهم: ابنُ المباركِ والأوزاعيُّ والثوريُّ، وأبو ثور، ورُوي عن أبي يوسفَ، وحُكيَ روايةً عن أحمدَ. وقالت طائفةٌ: تنعقد بأربعةٍ، وهو قول أبي حنيفة وصاحبَيه - في المشهور عنهما - والأوزاعيِّ ومالكٍ والثوريّ - في رواية عنهما - والليثِ بنِ سعدٍ. وحكي قولاً قديمًا للشافعيِّ، ومنهم مَن حكاه أنها تنعقدُ بثلاثةٍ. وقالت طائفةٌ: يعتبر أربعونَ في الأمصارِ وثلاثةٌ في القرى، وحُكيَ روايةً عن أحمدَ، صحَّحَها بعضُ المتأخرينَ مِن أصحابهِ. وقالت طائفةٌ: تنعقدُ بسبعةٍ، وحُكيَ عن عكرمةَ، وروايةً عن أحمدَ. وقالت طائفة: تنعقدُ باثني عشرَ رجلاً، حكيَ عن ربيعةَ. وقد قال الزهريُّ: إن مصعبَ بنَ عمير أول ما جمَّعَ بهم بالمدينةِ كانوا اثني عشرَ رجلاً.

وتعلَّق بعضُهَم لهذا الحديثِ بحديثِ جابرٍ المخرج في هذا البابِ. وقال طائفة: تنعقدُ الجمُعةُ بما تنعقدُ به الجماعةُ، وهو رجلانِ، وهو قولُ الحسنِ بنِ صالح وأبي ثورٍ - في روايةٍ - وداودَ، وحُكيَ عن مكحولٍ. وتعلَّق القائلونَ بالأربعينَ بحديثِ كعبِ بنِ مالكٍ، أنَّ أولَ جمُعةٍ جمَّع بهم أسعدُ بنُ زرارةَ، كانوا أربعينَ، وقد سبقَ ذكرُه في أولِ "كتابِ الجمُعةِ". وقد ذكرَ القاضي أبو يعلَى وغيرُه وجهَ الاستدلالِ به: أنَّ الجمُعةَ فُرضت بمكةَ، وكان بالمدينةِ من المسلمينَ أربعة وأكثرُ ممَّن هاجر إليها وممَّن أسلم بها. ثم لم يصلُّوا كذلك حتى كملَ العددُ أربعينَ، فدلَّ على أنها لا تجبُ على أقل منهم، ولم يُثبتْ أبو بكرٍ الخلالُ خلافَه عن أحمد في اشتراطِ الأربعينَ. قال: وإنما يُحْكَى عن غيرِه، أنه قال بثلاثة، وبأربعةٍ، وبسبعةٍ، ولم يذهبْ إلى شيء من ذلك، وهذا الذي قاله الخلالُ هوَ الأظهرُ. واللَّهُ أعلمُ. وفي عددِ الجمُعةِ أحاديثُ مرفوعةٌ، لا يصحُّ فيها شيء، فلا معنى لذكرِها. وإذا تقرَّر هذا الأصلُ، فمَن قالَ: إن الجمُعةَ تنعقدُ باثني عشرَ رجلاً أو بدونِهم، فلا إشكالَ عنده في معنى حديثِ جابرٍ؛ فإنه يحملُه على أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - صلَّى الجمُعَة بمَن بقي معَه، وصحتْ جمعتُهم. ومَن قال: لا تصحُّ الجمعةُ بدون أربعينَ، فإنه يشكلُ عليه حديثُ جابرٍ. وقد أجاب بعضُهم: بأن الصحيحَ أنهم انفضُّوا وهو في الخطبة. قال: فيحتملُ أنهم رجعُوا قبلَ الصلاةِ، أو رجعَ مَن تمَّ به الأربعونَ، فجمًّع بهم. قال: والظاهرُ أنهم انفضُّوا ابتداءً سوى اثني عشرَ رجلاً، ثم رجعَ منهم تمامُ

أربعينَ، فجمَّع بهم، وبذلك يُجمعُ بين روايةِ عليِّ بنِ عاصمٍ وسائرِ الروايات. وهذا الذي قاله بعيدٌ، وروايةُ علي بنِ عاصمٍ غلطٌ محضٌ، لا يُلتفتُ إليها. وسلكَ طائفة مسلكًا آخرَ، وظاهرُ كلامِ البخاريِّ هاهنا وتبويبه يدل عليه. وهو: أن انفضاضهم عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - كان في نفسِ الصلاة، وكان قد افتتحَ بهم الجمُعةَ بالعددِ المعتبرِ، ثم تفرَّقوا في أثناءِ الصلاةِ، فأتمَّ بهم صلاةَ الجمُعةِ" فإنَّ الاستدامَةَ يغتفرُ فيها ما لا يُغتفرُ في الابتداءِ. وهذا قولُ جماعةٍ منَ العلماءِ، منهم: أبو حنيفةَ وأصحابهُ والثوريُّ ومالكٌ والشافعيُّ - في القديم - وإسحاقُ، وهو وجهٌ لأصحابِنا. وعلى هذا، فمنهم مَن اعتبرَ أن يبقى معه واحدٌ فأكثرُ؛ لأن أصلَ الجماعةِ تنعقدُ بذلك، ومنهم مَن شرطَ أن يبقى معه اثنانِ، وهو قولُ الثوريِّ وابن المباركِ، وحكيَ قولاً للشافعيِّ. وقال إسحاقُ: إن بَقيَ معه اثنا عشرَ رجلاً جَمَّع بهم وإلا فلا؛ لظاهر حديثِ جابرٍ. وهو وجه لأصحابِنا. ولأصحابِنا وجهٌ أخرُ: يتمُّها الإمامُ جمُعةً، ولو بقيَ وحدَه. وهذا بعيدٌ جدًّا. وفرَّق مالكٌ بينَ أن يكون انفضاضُهم قبلَ تمامِ ركعةٍ فلا تصحُ جمُعتُهم ويصلُّون ظهرًا، وبينَ أن يكونَ بعد تمامِ ركعةٍ فيتمّونَها جمعةً.

ووافقَه المُزَني، وهو وجهٌ لأصحابِنا. وقالَ أبو حنيفةَ: إنِ انفَضوا قبلَ أن يسجدَ في الأولى فلا جمُعةَ لهم، وإنْ كان قد سجَدَ فيها سجدةَّ أَتمُّوها جمعةً. وقال صاحباه: بل يتمونَها جمعةً بكلّ حالٍ، ولو انفضُّوا عقبَ تكبيرةِ الإحرامَ. ومذهبُ الشافعيّ - في الجديد - وأحمدَ والحسنِ بنِ زيادٍ: أنه لا جمعة لهم، حتى يكملَ العددُ في مجموع الصلاةِ. قال أبو بكرٍ عبدُ العزيزِ بنُ جعفرٍ: لم يختلفْ قولُ أحمدَ في ذلك. وقد وجدتُ جوابًا آخرَ عن حديثِ جابرِ، وهو: أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كانَ قد صلَّى بأصحابه الجمُعةَ، ثم خطبَهم فانفضُّوا عنه في خطبِته بعدَ صلاةِ الجمُعةِ، ثم إنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - بعدَ ذلكَ قدَّم خطبَة الجمُعَة على صلاتِها. فخرج أبو داودَ في "مراسيلِه " بإسنادِه، عن مقاتلِ بنِ حيانَ، قال: كان رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يصلِّي الجمُعَةَ قبل الخطبةِ مثلَ العيدِ، حتَّى إذا كان يومُ جمُعةٍ والنبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يخطبُ، وقد صلَّى الجمعةَ، فدخلَ رجلٌ، فقالَ: إن دِحيةَ بنَ خليفةَ قد قدمَ بتجارتهِ - وكان دحيةُ إذا قدمَ تلقَّاه أهلُه بالدفافِ -، فخرجَ الناسُ، لم يظنُّوا إلا أنه ليس في تركِ الخطبةِ شيءٌ، فأنزل اللَّهُ عزَّ وجلَّ: (إَذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا) ، فقدَّمَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - الخطبةَ يومَ الجمعةِ، وأخرَ الصلاة. وهذا الجوابُ أحسنُ مما قبلَه.

قوله تعالى: (فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض)

ومن ظنَّ بالصحابةِ أنهم تركوا صلاةَ الجمُعَةِ خلفَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - بعد دخولِهم معه فيها، ثم خرجُوا مِنَ المسجدِ حتى لم يبقَ معه إلا اثنا عشرَ رجلاً، فقد أساءَ بهم الظنَّ، ولم يقعْ ذلك بحمدِ اللَّهِ تعالى. * * * قوله تعالى: (فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ) [قال البخاري] : بابُ قولِ اللَّهِ عزَّ وجلَّ: (فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ) : حدثنَا سعيدُ بنُ أبي مريمَ: ثنَا أبُو غسَّانَ: حدَّثنِي أبُو حازمٍ، عنْ سهلِ بنِ سعدٍ، قالَ: كانتْ فينَا امرأةٌ تجعلُ على أربعاءَ فِي مزرعَةٍ لهَا سلقًا، فكانتْ إذَا كانَ يومُ الجمُعةِ تنزعُ أصولَ السِّلقِ، فتجعلُهُ فِي قدرٍ، ثمَّ تجعلُ عليهِ قبضةً مِن شعير تطحنُها، فتكونُ أصولُ السِّلقِ عرقهُ، وكنَّا ننصرفُ مِن صلاةِ الجمعةِ فنسلِّمُ عليهَا، فتُقرِّبُ ذلكَ الطعامَ إلينَا، فنلعقُهُ، فكنَّا نتمنَّى يومَ الجمُعةِ لطعامِهَا ذلكَ. حدثنا عبدُ اللَّهِ بنُ مسلمةَ: نَا ابنُ أبي حازمٍ، عن أبيهِ، عن سهلِ بنِ سعد - بهذَا، وقالَ: مَا كُنَّا نقيلُ ولا نتغدَّى إلا بعدَ الجمعَةِ. المقصودُ من هذا الحديثِ هاهنا: أن الصحابة لم يكونوا يجلسونَ بعدَ صلاةِ الجمعةِ في المسجد إلى العصرِ لانتظارِ الصلاةِ - كما ورد في الحديث المرفوع أنه يعدلُ عمرةً، وقد خرَّجه البيهقيُّ بإسنادٍ ضعيفٍ، وقد سبقَ ذكرُه - -

وإنما كانوا يخرُجون من المسجدِ ينتشرُون في الأرضِ، فمنهم مَن كان ينصرفُ لتجارةٍ، ومنهم مَن كان يزورُ أصحابَه وإخوانَه، وكانوا يجتمعُون على ضيافةِ هذه المرأةِ. وقد ذهبَ بعضُهم إلى أنَّ الأمرَ بالانتشارِ بعدَ الصلاةِ للاستحبابِ. كان عراكُ بنُ مالكٍ إذا خرجَ من المسجدِ يومَ الجمعةِ قالَ: اللهمُّ، أجبتُ دعوتَكَ، وقضيتُ فريضتَك، وانتشرتُ كما أمرتني، فارزقني من فضلكِ. وأنتَ خيرُ الرازقينَ. خرَّجه ابنُ أبي حاتمٍ وغيرُه. وهذا يدلُّ على أنه رأى قولَه تعالى: (فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ) ، أمرًا على ظاهرهِ. وخرجَ - أيضًا - بإسنادهِ، عن عمرانَ بنِ قيسٍ، قال: من باعَ واشترَى يومَ الجمعةِ باركَ اللَّهُ له سبعينَ مرةً. قال بعضُ روافيِ: وذلك بعدَ صلاةِ الجمُعَةِ؛ لهذه الآيةِ. وذهبَ الأكثرونَ إلى أنه ليس بأمرٍ حقيقةً، وإنما هو إذنٌ وإباحة، حيث كان بعدَ النهي عن البيع، فهوَ إطلاق من محظورٍ، فيفيدُ الإباحةَ خاصةً. وكذا قالَ عطاءٌ ومجاهدٌ والضحاكُ ومقاتلُ بنُ حيان وابنُ زيدٍ وغيرُهم. وروى أبو بكرٍ عبدُ العزيزِ بنُ جعفرٍ في كتاب "الشافي " بإسنادٍ لا يصحُّ. عن أنسٍ - مرفوعًا - في قوله تعالى: (فَانتَشِروا فِي الأَرْضِ) ، قال: "ليسَ

بطلبِ دنيا، ولكن عيادةُ مريضٍ، وتشييعُ جنازةٍ، وزيارةُ أخٍ في اللَّه ". وفي حديث سهلٍ: دليلٌ على زيارةِ الرجالِ للمرأةِ، وإجابتِهم لدعوتِها. وعلى استحبابِ الضيافَةِ يومَ الجمُعَةِ خصوصًا لفقراءِ المسلمينَ، فإطعامُ الفقراءِ فيه حسنٌ مُرغَّبٌ فيه. وفيه: أن فرحَ الفقيرِ بوجودِ ما يأكلُ وتمنِّيه لذلك غيرُ قادحٍ في فقرهِ. منافٍ لصَبْرِه، بل ولا لرضاه. وفي الحديث ألفاظٌ تُستغرب: فـ "الأربعَاء": جداولُ الماءِ في الأرض، واحدُها: "ربيعٌ ". وقولُه: "فيكون أصولُ السِّلقِ عرقَهُ " - وفي رواية: "عراقَهُ " -، وهو بالعين المهملةِ والقافِ، والعِرقُ والعِرَاقُ: اللحمُ. والمعنَى: أن أصولَ السِّلقِ تصيرُ في هذا الطعامِ كاللحم لمَّا يطبخُ باللحم الأطعمة. ورواه بعضُهم: "غرفه " - بالغين المعجمة والفاء -، وفسر بـ "المرقةِ" فإنها تُغرَفُ باليد. وهذا بعيدٌ، فإن أصولَ السِّلقِ لا تصير بغرفٍ. وقولُه: "فنلعقُه " أي: نلحسُه، وهذا يدلُّ على أنه كان قد ثَخنَ. وقيل: الفرقُ بين اللحسِ واللعْقِ: أن اللحسَ يختص بالأصبَع، واللعقَ يكون بالأصبع وبآلة يلعقُ بها كالملْعَقة.

سورة المنافقون

سُورَةُ المُنَافِقُونَ قوله تعالى: (إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ (1) وقد رُوي عن محمدِ بنِ كعبِ القُرظيِّ أنَّه استنبطَ ما في هذا الحديثِ - أعني: حديثَ: "آيةُ المنافقِ ثلاثم - من القرآنِ، فقالَ: مصداقُ ذلك في كتابِ اللَّهِ تعالى: (إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ) إلى قولِه: (وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِين لَكَاذِبُونَ) . وقالَ تعالى: (وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ) إلى قولِه: (فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (77) . وقالَ تعالى: (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ) إلى قولِه: (لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ) . ورُوي عن ابن مسعودٍ نحوُ هذا الكلامِ، ثُمَّ تلا قولَه تعالىْ (فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ) الآية. * * * قوله تعالى: (وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ) وقد وردَ في القرآنِ تشبيهُ المنافقينَ بالخُشُبِ المسندةِ فنظرهم فقالَ:

(وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ) . فوصفَهُم بحسنِ الأجسامِ وتمامِهَا، وحسنِ المقامِ والفصاحةِ حتَّى وإعجاب به، ومع هذا فبواطِنُهم خرابٌ ومعائنُهم فارغةٌ. فلهذا مثلَهم بالخشبِ المسندةِ التي لا روحَ لها ولا إحساسَ وقلوبُهم مع هذا ضعيفةٌ في غايةِ الضعفِ. (يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ) . وهكذَا كلُّ مريب يُظْهِرُ خلافَ ما يضمرُ يخافُ من أدْنى شيءٍ ويتحسَّرُ عليهِ. وأما المؤمنونَ فبعكسِ هذه الصفاتِ حالُهم مستضعفونَ في ظاهرِ أجسامِهم وكلامِهم لأنَّهم اشتغلُوا بعمارةِ قلوبهِم وأرواحِهم عن عمارةِ أجسادهم. وبواطنُهم قويةٌ ثابتةٌ عامرةٌ فيكابدونَ بها الأعمال الشاقة في طاعةِ اللًّهِ من الجهادِ والعباداتِ والعلومِ وغيرِها ممَّا لا يستطيعُ المنافقُ مكابدتَه لضعفِ قلبِهِ. لا يخافونَ من ظهورِ ما في قلوبهِم إلا خشيةَ الفتنةِ على نفوسهم وإنَّ بواطِنَهُم خيرٌ من ظواهرِهِم وسرهم أصلحُ من علانيتِهِم. قال سليمان التيمي: أتَانِي آتٍ فِي مَنَامِي فقالَ: يا سليمانُ إنَّ قُوتَ المؤمنِ في قَلبْهِ ". فالمؤمنُ لمَّا اشتغلَ بعمارةِ قلبِهِ عن عمارةِ قالبِهِ استُضْعِفَ ظاهرُهُ وربما أُوذي، ولو علمَ الناسُ ما في قلبهِ لما فعلُوا ذلكَ. قال عليٌّ - لأصحابه: "كونوا في النَّاسِ كَالنَحْلِ في الطَّيْرِ يستضعفُهَا ولوْ علمُوا مَا في جَوفهَا مَا فعلُوا". من قوةِ قلبِ المؤمنِ وثباتهِ على الإيمانِ. فالإيمانُ الذي في قلبِهِ مَثَلُه كمثَلِ شجرة طيبةٍ أصلُها ثابتٌ وفرعُها في السماءِ فيعيشُ على الإيمانِ ويموتُ ويُبعثُ عليهِ، وإنَّما الرياحُ وهي بلايا

الدُّنيا تقلِّبُ جسْمَهُ يمنةً ويسرةً، وكذلك قلبُهُ لا تصِلُ إليه الرياحُ لأنَّه محروسٌ بزبرِ الإيمانِ. والكافرُ والمنافقُ والفاجرُ بعكسِ ذلكَ: جسمُه قويٌّ لا تقلبُّه رياحُ الدنيا. وأما قلبُه فإنَه ضعيفٌ تلاعبُ به الأهواءُ المضِلَّةُ فتقلبُه يمنةً ويسرةً، فكذلكَ كانَ مَثَلُ قلبهِ كشجرةٍ خبيثةٍ اجتثتْ من فوقِ الأرضِ ما لها من قرارٍ، كَما شجرةُ الحنضلِ ونحوهِ مما ليسَ له أصلٌ ثابتٌ في الأرضِ. وقال عليٌّ - رضي الله عنه - في صفةِ الهمج الرعاع: "أتباعُ كلِّ ناعقٍ يميلونَ مَعَ كل ريح لمْ يستضيئُوا بنورِ العلْم ولم يلجأوا إلى رُكن وثيقٍ ". بهذا يظهرُ الجمعُ بين حديثِ تمثيل المؤُمِنِ بالنَّخَّلَةِ. فإن التمثيلَ بالزرع لجسدِهِ لتوالى البلاءِ عليه. والتمثيلُ بالنخلةِ لإيمانهِ وعملِهِ وقولِهِ. يدلُّ عليه قولُه عزَّ وجلَّ: (ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ) . فجعلها مثلاً لكلمةِ الشهادتينِ التي هي أصلُ الإسلامِ في قلبِ المؤمنِ. كثبوتِ أصلِ النخلةِ في الأرضِ، وارتفاع عملِ المؤمنِ إلى السماءِ كارتفاع النخلةِ، وتجددِ عملِ المؤمنِ كإتيانِ النخلةِ أكلَها كلَّ حينٍ. وقد رُوي عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: "إن المؤمنَ الضَّعيفَ قلبُهُ كزرع والقويَّ مثلُهُ كمثلِ النَّخلةِ". وخرَّجَه البزار وغيره. ولأن ثمرةَ الزرع - وهو السنبلُ -

قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون (9)

يستضعفُ ويطمعُْ فيه كل أحدِ لقربِ تناولهِ فيطمعُ الآدمي في الأكلِ منهُ. وفي قَطْعِه وسرقتهِ، والبهائمُ في رعيهِ، والطيرُ في الأكلِ منهُ. وكذلك المؤمنُ يُستضعفُ فيعادِيه عمومُ النَّاسِ لأنَّ الإسلامَ بدأَ غريبًا ويعودُ غريبًا كما بدأ فطوبَى للغرباءِ. فعمومُ الخلقِ يستضعفُه ويستغربُه ويؤذيه لغربتهِ بينَهم وأمَّا الكافرُ والمنافقُ أو الفاجر الذين كالصنوبرِ فإنَّه لا يُطمعُ فيه فلا الرياحُ تزعزعُ بدنَه ولا يُطمعُ في تناوله ثمرتهِ لامتناعِها. * * * قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (9) فكثرةُ العيالِ مما يوجبُ تعلقَ القلبِ بهم، فيُشغِلُ ذلك عن محبَّتهِ وخدمتهِ للَّهِ، وقد قالَ اللَّهُ تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (9) . قالَ أبو حازمٍ: كلُّ ما شغلَكَ عنِ اللهِ من مالٍ أو ولدٍ فهو عليك شؤم. * * *

سورة التغابن

سُورَةُ التَّغَابُنِ قوله تعالى: (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ) قال اللَهُ عزَّ وجلَّ: (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ) . قال علقمةُ: هي المصيبةُ تصيبُ الرَّجلَ، فيعلمُ أنَّها من عندِ اللَّهِ. فيسلِّمُ لها ويَرضَى. وخرَّج الترمذيُّ من حديثِ أنسٍ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن اللهَ إذا أحبَّ قومًا ابتلاهم، فمن رَضِي، فله الرِّضَا، ومن سَخط فله السَّخَطُ "، وكانَ النبيّ - صلى الله عليه وسلم - يقول في دعائهِ: "أسالكَ الرضَا بعدَ القضاء". وممَّا يدعو المؤمنَ إلى الرِّضا بالقضاء تحقيقُ إيمانهِ بمعنى قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا يقضي اللَهُ للمؤمنِ قضاءً إلا كانَ خيرًا له: إن أصابتْهُ سرَّاءُ شكر، فكان خيرًا له، وإنْ أصابتْهُ ضراءُ صبرَ، فكان خير، له، وليسَ ذلك إلا للمؤمنِ ". وجاءَ رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فسألَه أن يُوصيه وصيةً جامعةً موجَزةً، فقال:

"لا تتَّهِم اللَّهَ في قضائهِ " قالَ أبو الدرداءِ: إنَّ اللَّه إذا قضى قضاءً أحبَّ أن يُرضى به. وقال ابنُ مسعودٍ: إنَّ اللَّهَ بقسطه وعدلهِ جعلَ الرَّوحَ والفرحَ في اليقينِ والرِّضَا، وجعلَ الهمَّ والحزنَ في الشكًّ والسَّخَطِ؛ فالرَّاضي لا يتمنَّى غيرَ ما هو عليه من شدَّة ورخاءٍ. كذا رُوِيَ عَنْ عمر وابنِ مسعود وغيرِهما. وقال عمرُ بنُ عبدِ العزيزِ: أصبحتُ ومالي سرورٌ إلا في مواضع القضاءِ والقدرِ. فمن وصلَ إلى هذه الدرجةِ، كان عيشُه كلُّه في نعيم وسرورٍ، قالَ تعالى: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً) . قال بعضُ السَّلَفِ: الحياةُ الطيبةُ: هي الرِّضا والقناعةُ. وقال عبدُ الواحدِ بنُ زيد: الرِّضا بابُ اللَّهِ الأعظم وجنةُ الدُّنيا ومستراحُ العابدين. وأهلُ الرِّضا تارةً يلاحظون حكمةَ المبتلي وخيرتَه لعبدهِ في البلاءِ، وأنَّه غيرُ متّهم في قضائهِ، وتارةً يُلاحظون ثوابَ الرِّضا بالقضاءِ، فيُنسيهم ألمَ المقضي به، وتارةً يُلاحظون عظمةَ المبتلي وجلالَه وكمالَه، فيستغرقُونَ في مشاهدةِ ذلك، حتَّى لا يشعرُونَ بالألم، وهذا يصلُ إليه خواص أهل المعرفة والمحبَّةِ، حتَّى ربَّما تلذَّذوا بما أصابَهم لملاحظتهم صدُوره عن حبيبهم، كما قالَ بعضُهم: أوجدَهم في عذابهِ عذوبةً. وسُئلَ بعضُ التابعينَ عن حاله في مرضهِ، فقالَ: أحبُّه إليَّ. وسُئلَ السريُّ: هل يجدُ المحبُّ ألمَ البلاءِ؟ فقالَ: لا. وقال بعضُهم:

عذابُه فيكَ عَذْبُ. . . وبُعدُهُ فيكَ قُرْبُ وأنْتَ عِندي كرُوحي. . . بل أنْتَ مِنها أَحَبُّ حسْبي مِنَ الحُبِّ. . . أنِّي لِمَا تُحِبُّ أُحِبُّ * * *

سورة الطلاق

سُورَةُ الطَّلاقِ قوله تعالى: (وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ) وأمَّا حدودُ اللَّهِ التي نَهى عَن اعتدائِها، فالمرادُ بها جُملةُ ما أَذِنَ في فعلهِ. سواء كانَ على طريقِ الوجوبِ، أو الندْبِ، أو الإباحةِ، واعتداؤُها: هو تجاوزُ ذلك إلى ارتكابِ ما نَهى عنه، كما قالَ تعالى: (وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ) ، والمرادُ: مَنْ طلَّقَ على غيرِ ما أمرَ اللَّه به وأذنَ فيه، وقال تعالى: (تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (229) . والمراد: مَنْ أمسَكَ بَعدَ أَنْ طَلَّق بغيرِ معروفٍ، أو سرَّح بغيرِ إحسانٍ، أو أخَذَ ممَّا أعْطَى المرأةَ شيئًا على غيرِ وجهِ الفديةِ التي أذِنَ اللَّهُ فيها. وقالَ تعالى: (تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَن يُطِع اللَّهَ وَرَسُولَهُ يدْخِلْهُ جَنَّاتٍ) إلى قوله: (وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ (14) . والمرادُ: مَنْ تجاوزَ مَا فرضَه اللَّهُ للورثةِ، ففضَّلَ وارثًا، وزاد على حقهِ، أو نقصَه منه، ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في خُطبته في حجَّة الوَداع: "إنَّ اللَّه قد أعْطَى كل ذي حَق حَقَّه فلا وصيةَ لوارث ".

وروى النَّوَّاسُ بنُ سمعانَ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "ضرب اللَّه مثلاً صراطًا مستقيمًا، وعلى جنبتيِّ الصّراطِ سُورَانِ فيهما أبوابٌ مُفتحةٌ وعلى الأبوابِ ستورٌ مرخاق وعلى بابِ الصّراطِ داع يقول: يا أيُّها الناسُ، ادخُلوا الصّراطَ جميعًا، ولا تُعرِّجوا. وداعٍ يدعو من جوفِ الصّراط، فإذا أراد أن يفتحَ شيئا من تلك الأبوابِ، قال: وَيحكَ لا تفتحه، فإنَّك إنْ تفتحْه تلجْه، والصِّراطُ: الإسلامُ، والسُّورانِ: حدودُ اللَّه، والأبوابُ المفتَّحةُ: محارمُ الله، وذلك الداعي على رأس الصِّراطِ: كتابُ اللَّهِ، والدَّاعي من فوقُ: واعظُ اللَّهِ في قلبِ كلِّ مسلمٍ " خرَّجه الإمامُ أحمدَ، وهذا لفظُه. والنسائيُّ في "تفسيرِه "، والترمذيُّ وحسَّنه. فضربَ النبي - صلى الله عليه وسلم - مثلَ الإسلامِ في هذا الحديثِ بصراطٍ مستقيم، وهو الطريقُ السَّهلُ، الواسعُ، الموصلُ سالكَه إلى مطلوبهِ، وهو - مع هذا - مستقيمٌ، لا عوجَ فيه، فيقتضي ذلك قربَه وسهولَته، وعلى جنبتي الصِّراطِ يَمْنةً ويسرَةً سُورَانِ، وهما حدودُ اللَّه، فكما أنَّ السَّورَ يمنع مَنْ كان داخله مِنْ تعدِّيه ومجاوزتهِ، فكذلك الإسلامُ يمنع من دخلَه من الخُروج عن حدودهِ ومجاوزتِها، وليس وراءَ ما حدَّ اللَهُ من المأذونِ فيه إلا ما نَهى عنه، ولهذا مدحَ سبحانَه الحافظينَ لحدودِه، وذمَّ من لا يعرفُ حَدَّ الحلالِ من الحرامِ، كمَا قالَ تعالى: (الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ) . وقد تقدَّم حديثُ القرآنِ وأنَه يقولُ لمن عَمِل به: حَفِظَ حدودِي، ولمن لمْ يعملْ به: تعدَّى حدودِي. والمرادُ: أنَّ مَنْ لم يُجاوز ما أُذِنَ له فيه إلى ما نُهِي عنه فقد حفِظَ حدودَ

اللَّه، ومن تعدَّى ذلك فقد تعدَّى حدودَ اللَّهِ. وقد تُطلقُ الحدودُ، ويُرادُ بها نفسُ المحارمِ، وحينئذٍ فيقال: لا تقربُوا حدودَ اللهِ، كما قال تعالى: (تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوهَا) . والمرادُ: النَّهيّ عن ارتكابِ ما نهى عنه في الآيةِ من محظوراتِ الصِّيامِ والاعتكافِ في المساجدِ، ومن هذا المعنى - وهو تسميةُ المحارمِ حدودًا - قولُ النبي - صلى الله عليه وسلم -: "مَثَلُ القائم على حدودِ اللَّهِ والمُدْهِنِ فيها، كمثلِ قوم اقتسموا سفينةً" الحديثُ المشهور، وأراد بالقائم على حدود اللَّه: المنكرُ للمحرَّمات والناهي عنها. وفي حديثِ ابنِ عباسٍ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: "إنِّي آخِذٌ بحُجزِكُم، أقولُ: اتَّقوا النارَ، اتَقوا الحدودَ" قالها ثلاثاً. خرَّجه الطبراني والبزار. وأراد بالحدودِ، محارمَ اللَّهِ ومعاصيهِ، ومنه قولُ الرجلِ الذي قالَ للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: إنِّي أصبتُ حدًّا فأقِمْه عليَّ. وقد تُسمى العقوباتُ المقدرةُ الرادعةُ عن المحارمِ المغلظةُ حدودًا، كما يقالُ: حدُّ الزني وحدُّ السرقةِ وحدُّ شُربِ الخَمرِ، ومنه قولُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - لأسامةَ: "أتشفعُ في حَدٍّ من حدودِ اللَّهِ؟ " يعني: في القَطع في السَّرقةِ. وهذا هو المعروفُ من اسم الحدودِ في اصطلاح الفقهاءِ.

قوله تعالى: (ومن يتق الله يجعل له مخرجا)

وأمَّا قولُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: "لا يُجلدُ فوقَ عشرِ جلدات إلا في حَدٍّ مِن حُدودِ اللَّه " فهذا قد اختلف الناسُ في معناه، فمنهم من فسَّر الحدودَ هاهنا بهذه الحدودِ المقدّرةِ، وقال: إنَّ التَّعزيرَ لا يُزادُ على عشرِ جلداتٍ، ولا يُزادُ عليها إلا في هذه الحدودِ المقدَّرةِ، ومنهم من فسَّر الحدودَ هاهنا بجنس محارمِ اللَهِ، وقالَ: المرادُ أن مجاوزةَ العشرِ جلداتٍ لا يجوزُ إلا في ارتكابِ محرمٍ مِنْ محارمِ اللَّه، فأمَّا ضربُ التَّأديبِ على غيرِ محرَّمٍ، فلا يتجاوزُ به عشر جَلْدات. وقد حملَ بعضُهم قولَه - صلى الله عليه وسلم -: "وحدَّ حُدُودًا فلا تعتدوها" على هذه العقوباتِ الزَّاجرةِ عَنِ المحرَّماتِ، وقال: المرادُ النَّهيُ عن تجاوُزِ هذه الحدود وتعديها عندَ إقامتِها على أهلِ الجرائم. ورجَّح ذلك بأنَّه لو كانَ المرادُ بالحدودِ الوقوف عند الأوامرِ والنَّواهي، لكانَ تكريرًا لقولهِ: "فرضَ فرائضَ فلا تُضيِّعُوها، وحرَّم أشياءَ، فلاتننهكُوها" وليس الأمرُ على ما قالَه، فإنَّ الوقوفَ عند الحُدودِ يقتضي أنَّه لا يخرجُ عمَّا أذِنَ فيه إلى ما نَهى عنه، وذلك أعمُّ من كونِ المأذونِ فيه فرضًا أو ندبًا أو مباحًا كما تقدَّم، وحينئذٍ فلا تكريرَ في الحديثِ، واللَّهُ أعلم. * * * قوله تعالى: (وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا) قال قتادةُ في قوله تعالى: (وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا) . 2 قالَ: مِن الكربِ عندَ الموتِ، ومن أفزاع يوم القيامةِ. وقال عليٌّ بنُ أبي طلحةَ عن ابنِ عباسٍ - رضي الله عنهما - في هذه الآيةِ: ننجيه من كلِ

كربٍ في الدُّنيا والآخرةِ. وقال زيدُ بنُ أسلمَ في قولهِ تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَ اسْتَقَامُوا) قال: يُبشرُ في ذلك عند موتهِ، وفي قبرهِ ويومَ البعثِ، فإنه لفي الجنةِ، وما ذهبت فرحةُ البشارةِ من قلبه. وقال ثابتٌ البناني في هذه الآية: بلغنا أنَّ المؤمنَ حينَ يبعثُه اللَّهُ من قبرهِ يتلَقاه ملكَاه اللذانِ كانا معه في الدُّنيا فيقولان له: لا تخف ولا تحزنْ، فيؤمِّنُ اللَّهُ خوفَه ويقر عينَه، فما من عظمةٍ تغشى الناسَ يومَ القيامةِ إلا وهي للمؤمنِ قرةُ عينٍ، لما هداه الله ولما كانَ يعملُ في الدنيا. خرَّج ذلك كلَّه ابنُ أبي حاتم وغيرهِ. وأمَّا من لم يتعرف إلى اللَّهِ في الرخاءِ، فليسَ له أنْ يعرفَه في الشدةِ لا في الدَّنيا ولا في الآخِرة. وشواهدُ هذا مشاهدةُ حالِهم في الدُّنيا، وحالهُم في الآخرة أشدُّ، وما لهم من وليٍّ ولا نصير. * * * قال اللَّهُ عزَّ وجلَّ: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ. وقد قرأ النبي - صلى الله عليه وسلم - هذه - الآيةَ على أبي ذَرٍّ، وقالَ له: "لو أن الناسَ كُلَّهم أَخَذوا بها لكفَتهم ". يعني: لو أنَّهم لو حقَّقوا التَّقوى والتوكلَ لاكتَفَوا بذلك في مصالح دينهِم ودنياهُم.

قال بعضُ السلف: بِحَسبِكَ من التوسلِ إليه أن يعلَمَ من قلبكِ حُسنَ توكُّلك عليه، فكَمْ من عبدٍ من عبادِه قد فَوَّضَ إليه أمرَه فكفاه منه ما أهمَّه. ثمَّ قرأ: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ) . وحقيقةُ التوكُّلِ: هو صدقُ اعتمادِ القلبِ على اللَّهِ عزَّ وجلَّ في استجلابِ المصالح، ودفع المضارِّ من أمور الدنيا والآخرةِ كُلِّها، وكلَةُ الأمورِ كُلِّها إليه، وتحقيقُ الإيمانِ بأنه لا يُعطي ولا يمنعُ ولا يضرُّ ولا ينفعُ سِواه. قال سعيدُ بنُ جُبير: التوكُّلُ جماعُ الإيمانِ. وقال وهبُ بنُ مُنبه: الغايةُ القُصوى التوكلُ. قالَ الحسنُ: إن توكُّلَ العبدِ على ربِّه: أنْ يعلمَ أنَّ اللَّه هو ثقتُه. وفي حديث ابن عباس عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: "مَنْ سرةَ أن يكونَ أقوى النَّاسِ فليتوكل على اللَّهَ ". ورُوي عنه - صلى الله عليه وسلم - أنَّه كانَ يقولُ في دعائهِ: "اللهمَّ إنِّي أسالُك صدْقَ التوكُّل عليك "، وأنّه كان يقولُ: "اللهمَّ اجعلني مِمَّنْ توكَلَ عليك فكفيْتَه " َ. واعلمْ أنَّ تحقيقَ التوكلِ لا يُنافي السَّعي في الأسباب التي قَدَّر اللَّهُ سبحانَه المقدوراتِ بها، وجرت سُنَّته في خَلْقهِ بذلك، فإن اللهَ تعالى أمرَ بتعاطي الأسباب مع أمرهِ بالتوكُلِ، فالسَّعيُ في الأسبابِ بالجوارح طاعة له، والتوكل بالقلبِ عليه إيمان به، قال الله تعالى: (يَا أَيهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكمْ)

وقال: (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ) . وقال: (فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ) قالَ سهل التُّستري: مَنْ طعنَ في الحركةِ - يَعْني: في السعيِّ والكَسْبِ - فقد طعنَ في السّنَة، ومن طَعَنَ في التوكُّلِ فقد طَعَنَ في الإيمانِ. فالتوكُلُ حالُ النبي - صلى الله عليه وسلم -، والكَسْبُ سنّته، فمن عَمِلَ على حالهِ، فلا يَتْرُكَنَّ سنتَه. * * *

سورة التحريم

سُورَةُ التَّحْرِيمِ قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (6) روى شريكٌ، عن عاصم، عن أبي صالح، عن أبي هريرة عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: "أوتِدَ على النَّارِ ألفُ سنة حتَّى ابيضتْ، ثم أوقِدَ عليها ألفُ سنة حتَّى احمرَّتْ، ثمَّ أوقِد عليها ألفُ سنة حتَّى اسودتْ، فهي سوداءُ كالليلِ المُظلم " خرَّجَه ابنُ ماجه والترمذيُّ وقال: حديثُ أبي هريرةَ في هذا موقوف أصح، ولا أعلمُ أحدًا رفَعه غيرُ يحيى بنِ أبي كثيرٍ عن شريكٍ. وروى معنٌ، عن مالك، عن أبي سهيل، عن أبي هريرةَ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "أترونَها حمراءَ كنارِكم هذه لهى أشدُّ سوادًا من القارِ" خرَّجه البيهقيّ، وخرَّجه البزارُ ولفظُه: "لهي أشدُّ من دخانِ نارِكُم هذه سبعينَ ضعفا" ورُوي موقوفًا على أبي هريرة وهو أصحُّ، قالَه الدارقطنيُّ. وقالَ الجوزجَانيُّ: حدثنا عبيدُ اللَّه الحنفي، حدثنا فَرْقَدُ بنُ الحجاج. سمعتُ عقبةَ اليماني يقول: سمعتُ أبا هريرةَ يقول: قال رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ نَارَ جهنمَ أشدُّ حرًا من نارِكم هذه بتسعة وتسعينَ جزءًا، وهي سوداءُ مظلمةٌ لا ضوءَ لها، لهي أشد سوادًا من القطرانِ " غريبٌ جدًّا.

وروى الكُديمي عن سهلِ بنِ حمادٍ، عن مباركِ بنِ فضالةَ، عن ثابتٍ، عن أنسٍ قال: تلا رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - (نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ) قال: " أوقِدَ عليها ألفُ عامٍ حتَى ابيضتْ، ثمَّ أوقِدَ عليها ألفُ عامٍ حتَى احمرت، ثم أوقدَ عليها ألفُ عامٍ حتَى اسودَّت، فهي سوداءُ لا يضيءُ لهبُها" خرَّجه البيهقيُّ َ، والكُديميّ ليس بحجةٍ. وخرَّج البزار من حديثِ زائدةَ بنِ أبي الرقادِ عن زيادٍ النميريِّ، عن أنسٍ، عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه ذكر نارَكم هذه فقالَ: "إنها لجزءٌ من سبعينَ جزءًا من نارِ جهنم، وما وصلتْ إليكُم - حتَّى أحسبه قال -: حتَى نُضحتْ بالماءِ مرتينِ لتضيءَ لكُم، ونارُ جهنمَ سوداءُ مظلمةٌ". وفي حديثِ عديِّ بن عدي عن عُمَرَ مرفوعًا ذكرَ الإيقادَ عليها ثلاثةَ آلافِ عامٍ أيضًا، وقال: "فهي سوداءُ مظلمةٌ لا يضئُ جمرُها ولا لهبُها" خرَّجه ابنُ أبي الدنيا والطبرانيُّ، وقد سبقَ إسنادُه والكلامُ عليه. ورَوى ابنُ أبي الدُّنيا من طريقِ الحكم بنِ ظهيرٍ - وهو ضعيف -، عن عاصم، عن زرٍ، عن عبدِ اللَّهِ (وإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ) قال: سُعّرَت ألفَ سنةٍ حتِّى ابيضت، ثُمَّ ألفَ سنةٍ حتى احمرت، ثمَّ ألفَ سنةٍ حتى اسودت، فهي سوداءُ مظلمةٌ. الحكمُ بنُ ظهيرٍ ضعيفٌ، والصحيحُ روايةُ عاصم عن أبي هريرةَ كما سبق. وروى الأعمشُ، عن أبي ظبيانَ، عن سلمانَ، قال: النَّارُ سوداءَ مظلمةٌ لا يُطفأُ جمرُها ولا يضيءُ لهبُها، ثمَّ قرأَ: (وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ) .

خرَّجه البيهقي من طريقِ أحمد بنِ عبدِ الجبارِ، عن أبي معاويةَ، عن الأعمشِ مرفوعًا وقال: رفْعُه ضعيفٌ. وقالَ أبو جعفرٍ الرازيُّ، عن الربيع بنِ أنسٍ، عن أبي العاليةَ، عن أُبيِّ بنِ كعبٍ: ضَرَبَ اللَّهُ مثلاً للكافرينَ قال: (أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ) . فهو يتقلبُ في خمسٍ من الظلم: كلامُه ظلمةٌ، وعملُه ظلمةٌ، ومدخلُه ظلمة، ومخرجُه ظلمةٌ، ومسيرُه إلى الظلماتِ إلى النَارِ. وقال أيضًا أبو جعفرٍ، عن الربيع بنِ أنسٍ: إنَّ اللهَ جعلَ هذه النَّار - يعني نارَ الدُّنيا - نُورًا وضياءً ومتاعًا لأهلِ الأرضِ، وإنَّ النَارَ الكُبْرى سوداءُ مظلمة مثلُ القيرِ - نعوذُ باللَّهِ منها. وعن الضحاكِ قالَ: جهنمُ سوداءُ وماؤُها أسودُ وشجرُها أسودُ وأهلُها سود. وقد دلَّ على سوادِ أهلِها قولُه تعالى: (كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (27) . وقولُه تعالى: (يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ) الآية. وقد ثبتَ في الأحاديثِ الصحيحةِ أنَّ مِن عصاةِ الموحدينَ مَنْ يحترقُ في النارِ حتَّى يصيرَ فحمًا. * * * وقدْ وصفَ اللَّهُ الملائكةَ الذينَ على النَّارِ بالغلظِ والشدةِ قالَ اللَّهُ تعالى: (عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (6) .

وروى أبو نُعيمٍ بإسناده عن كعبٍ، قالَ: إنَّ الخازنَ من خُزَّانِ جهنمَ مسيرةُ ما بينَ مَنْكِبيه سنةٌ؛ وإنًّ معَ كل واحدٍ منهم لعمودٌ له شعبتانِ من حديدٍ. يدفعُ به الدفعة فيكبُّ به في النارِ سبعمائةَ ألفٍ. وروى عبدُ اللَّهِ بنُ الإمامِ أحمدَ بإسنادهِ عن أبي عمرانَ الجونيِّ قالَ: بلغنا أنَّ الملَكَ مِن خزنةِ جهنمَ ما بين مَنكِبَيه مسيرةُ خريفٍ، فيضربُ الرجلَ من أهلِ النارِ الضربةَ فيتركُه طحينًا من لدن قرنهِ إلى قدمهِ. وفي روايةٍ أخرى له قالَ: بلغنا أنَّ خزنةَ النارِ تسعةَ عشرَ ما بينَ مَنكِبي أحدِهم مسجرة خريفٍ؛ وليسَ في قلوبهِم رحمةٌ إنَّما خُلقُوا للعذابِ. ورَوى الجُوَزَجانِيُّ بإسناده عن صالح أبي الخليل قالَ: ليلةَ أُسري بالنبيِّ - صلى الله عليه وسلم - بَعثَ اللَّهُ إليه نَفرًا مِن الرُّسلِ فتلقَّوه بالفرح والبشرِ. وفي ناحيةِ المسجدِ مصلٍ يصلي لا يلتفتُ إليه؛ فقام إليه، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ما منكُم من أحدٍ إلا قد رأيتُ منه البشرَ والفرحَ غيرَ صاحبِ هذه الزاويةِ" فقالوا: أمَا إنَّه قد فرحَ بك كما فرحْنا. ولكنَّه خازن من خزَّانِ جهنمَ. ورَوى بكرُ بنُ خنيسٍ، عن عبدِ الملكِ الجسري، عن الحسنِ أنَّ جبريلَ قال للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: "لو أن خازنا من خزَّانِ جهنمَ أشرفَ على أهلِ الأرضِ لماتَ أهلُ الأرضِ مما يرونَ من تشويه خلقهِ " مرسل ضعيف. * * *

سورة الملك

سُورَةُ المُلْكِ قوله تعالى: (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) وقال الفضيلُ في قولهِ تعالى: (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) قال: أخلصُه وأصوبُه. وقالَ: إنَّ العملَ إذا كانَ خالصًا، ولم يكنْ صوابًا، لم يقبلْ. وإذا كانَ صوابًا، ولم يكنْ خالصًا، لم يقبلْ حتَّى يكونَ خالصًا صوابًا، قالَ: والخالصُ إذا كانَ للَّهِ عزَ وجلَّ، والصَّوابُ إذا كانَ على السُّنَّةِ. وقد دلَّ على هذا الذي قاله الفضيلُ قولُ اللَّهِ عزَّ وجلَّ: (فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا (110) . وقالَ بعضُ العارفينَ: إنَّما تفاضَلُوا بالإراداتِ، ولم يتفاضَلُوا بالصَّومِ والصَّلاةِ. * * *

سورة القلم

سُورَةُ القَلَمِ قوله تعالى: (عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ (13) وفي "الصحيحينِ " عن حارثةَ بنِ وهب، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "ألا أخبركم بأهلِ الجنةِ: كلّ ضعيفٍ متضعفٍ لو أقسمَ على اللَّهِ لأبرَّة، ألا أخبرُكم بأهلِ النَّارِ كلُّ عتلٍّ جواظٍ مستكبرٍ". و"العتلُّ " قال مجاهد وعكرمةُ: هو القوىُّ؛ وقالَ أبو رزينٍ: هو الصحيحُ. وقال عطاءُ بن يسارٍ عن وهبٍ الذماريِّ قالَ: تبكى السماءُ والأرضُ من رجلٍ أتمَّ اللَّهُ خلقَه وأرحبَ جوفَه وأعطاه معظمًا من الدُّنيا، ثم يكونُ ظلومًا غشُومًا للناسِ، فذلك العتل الزنيمُ. وقال إبراهيمُ النخعيُّ: العتلُّ: الفاجرُ، والزنيمُ: اللئيمُ في أخلاقِ الناسِ. ورَوى شهرُ بنُ حوشب، عن عبدِ الرحمنِ بنِ غنمٍ، أن رسولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "لا يدخلُ الجنةَ جواظٌ ولا جعظريٌّ ولا العتلُّ الزنيمُ " فقال رجل من المسلمين: ما الجواظُ الجعظريُّ، والعتلُ الزنيمُ؟ فقالَ رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: "الجواظُ: الذي جمعَ ومنعَ، وأما الجعظريُّ: فالفظُّ الغليظُ، قالَ اللَّهُ تعالى: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ) .

قوله تعالى: (وقد كانوا يدعون إلى السجود وهم سالمون (43)

وأما العتلُ الزنيمُ: فشديدُ الخلقِ رحيبُ الجوفِ مصحح أكولٌ شروبٌ. واجدٌ للطعامِ، ظلوم للأنامِ. ورَوى معاويةُ بنُ صالح، عن كثيرٍ بن الحارثِ عن القاسم مولى معاويةَ. قال: سُئلَ رسولُ اللَّه - صلى الله عليه وسلم - عن العتل الزنيم قال: "هو الفاحشُ اللئيمُ ". وقال معاويةُ: وحدثني عياضُ بنُ عبدِ اللَّه الفهريّ عن موسى بنِ عقبةَ. عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - بذلك خرَّجه كلَّه ابنُ أبي حاتم. وأمَّا المستكبرُ فهو الذي يتعاطَى الكبرَ على الناسِ والتعاظمَ عليهم، وقد قال الله تعالى: (أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْمُتَكَبِّرِينَ) . * * * قوله تعالى: (وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ (43) ورُوي عن أبي سنانَ، عن سعيدِ بنِ جبير، عن ابنِ عباسٍ في قولهِ تعالى: (وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ (43) قال: نزلتْ في صلاةِ الرجل يسمعُ الأذانَ فلا يجيبُ. ورُوي عن سعيدِ بنِ جبير من قولِهِ. * * *

سورة الحاقة

سُورَةُ الحَاقَّةِ قوله تعالى: (فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (21) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (22) قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ (23) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ (24) فالأشقياءُ في البرزخ في عيشٍ ضنكٍ، قال اللَّه تعالى: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا) . وقد رُوي عن أبي سعيدٍ الخدري، مرفوعًا وموقوفًا: أن المعيشةَ الضنكَ عذابُ القبرِ. يضيقُ عليه قبرُهُ حتى تختلفَ أضلاعُه، ويسلَّط عليه تسعةٌ وتسعونَ تنينًا. وأمَّا عيشُهم في الآخرة فأضيقُ وأضيقُ فأمَّا من طاب عيشُه بعدَ الموتِ فإنَّ طيبَ عيشِهِ لا ينقطع بلْ كلَّما جاء تزايدَ طيبُه. ولهذا سُئِلَ بعضُهم: منْ أنعمُ الناس؟ فقال: أجسام في الترابِ قد أَمِنَت العذابَ فانتظرت الثوابَ فهذا في البرزخ في عيشٍ طيبٍ. ورُئي معروف في المنام بعد موتِهِ وهو ينُشد: موتُ التقي حياة لا نفادَ لها. . . قد ماتَ قوم وهم في الناسِ أحياءُ وكان إبراهيم بنُ أدهم ينشدُ: ما أحدٌ أنعم منْ مُفرد. . . في قبرِهِ أعمالُه تؤنسُه منعَّم الجسم وفي روضةٍ. . . زيَّنها اللَهُ فهي مجلسُه

رئي بعضُ الصالحين في المنامِ بعدَ موتِهِ، فقال: نحنُ بحمدِ الله في برزخ محمودٍ، نفترشُ فيه الريحانَ ونوسدُ فيه السندسَ والإستبرقَ إلى يوم النشور. رئي بعضُ الموتى في المنامِ فسُئلَ عن حالِ الفُضيل بن عياضٍ، فقال: كُسي حلَّةً لا تقومُ لها الدنيا بحواشِيها. فأمَّا عيشُ المتقين في الجنَّة فلا يحتاج أنْ يسألَ عن طيبِهِ ولذتِهِ، ويَكْفِي في ذلك قولُهُ تعالى: (فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (21) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (22) . ومعنى راضية: أي: عيشة يحصلُ بها الرِّضى. وفسَّر ابنُ عباسٍ: هنيئًا: بأنه لا موتَ فيها يُشيرُ إلى أنَّه لم يهنهم العيشُ إلا بعد الموتِ والخلودِ فيها. قال يزيدُ الرقاشيُ: أمِنَ أهلُ الجنةِ الموتَ فطابَ لهم العيشُ، وأمنُوا من الأسقامِ فهنيئًا لهم في جوارِ اللَّه طولُ المقام. وقال اللَّه تعالى: (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّات وَعُيُونٍ) . (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ) إلى آخرها. أدنى أهلِ الجنةِ منزلةً من ينظرُ في ملكِهِ وسُررِه وقصورِه مسيرةَ ألفي عام، يرى أقصَاه كما يرى أدناه، وأعلاهُم من ينظرُ إلى وجهِ ربِّه بكرةً وعشيا. وقال طائفة من السلفِ: إن المؤمن له بابٌ في الجنة من داره إلى دارِ السلامِ، يدخلُ على ربِّه إذا شاء بلا إذنٍ. قال أبو سليمان الدارانيُّ: وإذا أتاه رسول من ربِّ العزَّةِ بالتحيةِ والقُطفِ فلا يصل إليه حتى يستأذنَ عليه يقول للحاجبِ: استاذنْ لي على وليِّ اللَّه. فإني لستُ أصلُ إليه. فيُعلم ذلك الحاجبُ حاجبًا آخر حتى يصلَ إليه فذلك

له تعالى: (وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا (20) . فللهِ ذاك العيشُ بينَ خيامِها. . . وروضاتِها والثغرُ في الروضِ يبسمُ ولله كَمْ من خِيرةٍ إنْ تبَسَّمتْ. . . أضاءَ لها نور من الفجرِ أعظمُ ولله واديها الذي هو موعدُ الـ. . . مزيدِ لوفدِ الحبِّ لو كنتَ منهم بذيالكَ الوادي يهيمُ صبابةً. . . محبٌّ يرى أنَّ الصبابةَ مغنمُ وللَّهِ أفراح المحبين عندَما. . . يخاطبُهم مولاهُم ويُسلِّمُ وللَّه أبصار ترى اللَّهَ جهرةً. . . فلا الغيمُ يغشاها ولا هي تسأمُ فيا نظرة أهدت إلى القلب نظرةَّ. . . أمِنْ بعدِها يسلو المحب المتيمُ فَروحَك قرِّب إن أردتَ وصالَهم. . . فما غلبتْ نظرة تشري بروحِكَ منهمُ وأقدِم ولا تقنعْ بعيشٍ منغَّصٍ. . . فما فاز باللَّذاتِ منْ ليس يُقدِمُ فصُمْ يومَك الأدْنى لعلَّك في غدٍ. . . تفوزُ بعيدِ الفِطْرِ والنَّاسُ صوًمُ فيا بائعًا هذا ببخسٍ معجَّلٍ. . . كأنكَ لا تدري بلى سوف تعلمُ فإن كنتَ لا تدري فتلكَ مصيبة. . . وإن كنتَ تدري فالمصيبة أعظم * * * الصائمون على طبقتين: إحداهُما: من ترك طعامَه وشرابَهُ وشهوتَه للَّه تعالى، يرجو عنده عوض ذلك في الجنةِ، فهذا قد تاجَرَ مع اللَّه وعامَلَهُ، واللَّهُ تعالى لا يُضيع أجْرَ من أحسن عملاً، ولا يخيبُ معه من عامَلَهُ، بل يربحُ عليه أعظمَ الرِّبح، وقال رسولُ اللَّه - صلى الله عليه وسلم - لرجلٍ: "إنَّك لن تدعَ شيئا اتَّقاءَ اللَّه إلا آتاك اللَّهُ خيزا منه " خرَّجه الإمامُ أحمد، فهذا الصَّائمُ يُعطى في الجنة ما شاء اللَّه من طعامٍ وشرابٍ

ونساءٍ، قال اللَّه تعالى: (كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ) . قال مجاهدٌ وغيرُه: نزلَتْ في الصائمين. قال يعقوبُ بن يوسُف الحنفيّ: بلغنا أن الله تعالى يقولُ لأوليائهِ يوم القيامة: يا أوليائي طالما نظرْتُ إليكم في الدنيا وقد قلَصَتْ شفاهُكم عن الأشربة، وغارت أعينُكم وخفقتْ بطونُكم؛ كونوا اليوم في نعيمكم. وتعاطَوا الكأس فيما بينكم، و (كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ (24) . وقال الحسنُ: تقولُ الحوراءُ لولي اللَّه وهو متكئ معها على نهر العَسَلِ تُعاطيه الكأسَ: إنَّ الله نظرَ إليك في يومٍ صائفٍ بعيدِ ما بين الطرفين، وأنت في ظمأِ هاجرةٍ من جهدِ العطشِ، فباهَى بك الملائكةَ، وقال: انظروا إلى عبدِي ترَكَ زوجتَه وشهوتَه ولذَّته وطعامَه وشرابَه من أجلي، رغبةً فيما عندي، اشْهَدُوا أنَى قد غفرتُ لَهُ؛ فغفر لك يومئذٍ وزوجنيكَ. وفي "الصحيحينِ " عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: " إن في الجنة بابا يقال له: الريَّان، يدخل منه الصائمون، لا يدخلُ منه غيرُهُم " وفي روايةٍ: (فإذا دخلوا أغْلِق ". وفي رواية: "من دخلَ منه شرِبَ، ومن شرِبَ لم يظمأ أبدًا ". وفي حديثِ عبد الرحمنَّ ابن سَمُرَةَ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في منامِهِ الطويل، قال: "ورأيتُ رجلاً من أٌمَّتي يَلهَثُ عطشًا، كلَّما ورد حوْضا مُنِعَ منه، فجاءَه صيامُ رمضان، فسقاه وأرواه " خرَّجه الطبراني وغيرُهُ. وروى ابن أبي الدنيا بإسنادٍ فيه ضعف، عن أنسٍ مرفوعًا:

"الصَّائمون يُنفَحُ من أفواهِهم ريحُ المسْكِ، ويوضَعُ لهم مائدة تحتَ العرشِ، يأكلونَ منها والناسُ في الحسابِ ". وعن أنسٍ موقوفًا: "إنَّ للَّه مائدةً لم ترَ مثلَها عينٌ، ولم تسمعْ أذُنٌ، ولا خطرَ على قلبِ بشرٍ، لا يقعدُ عليها إلا الصَّائمون ". وعن بعضِ السلفِ، قال: بلغنا أنه يوضَعُ للصُّوَّامِ مائدةٌ يأكلون عليها والناسُ في الحسابِ، فيقولونَ: يا ربِّ، نحن نحاسبُ وهُم يأكُلون؟ فيقال: إنهم طالما صامُوا وأفطرْتُم، وقامُوا ونمتم. رأى بعضُهم بشرَ بنِ الحارثِ في المنامِ وبين يديه مائدةٌ وهو يأكل، ويقال له: كُلْ يا من لم يأكُلْ، واشرَبْ يا من لم يشرَبْ. كان بعضُ الصالحين قد صام حتى انحنى وانقطعَ صوتُه، فماتَ فَرُئي بعضُ أصحابه الصالحين في المنام فُسئِلَ عن حالِهِ، فضحِكَ وأنشد. قد كُسي حُلَّةَ البهاءِ وطافَتْ. . . بأباريقَ حولَهُ الخُدَّامُ ثم حُلِّي وقِيلَ يا قارئ ارْقى. . . فلَعَمْري لقد براك الصِّيام * * *

سورة الجن

سُورَةُ الجِنِّ قوله تعالى: (قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا (1) [قالَ البخاريُّ] : حدثنا مُسدَّدٌ: ثنا أبو عوانةَ، عنْ أيي بِشْرٍ - هو: جعفرُ ابنُ أبي وحْشِيَّةَ - عن سعيدِ بنِ جبيرٍ، عن ابنِ عباسٍ، قال: انطلقَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في طائفةٍ من أصْحَابِه، عامدينَ إلى سُوقِ عُكاظٍ، وقدْ حِيلَ بيْنَ الشياطينِ وبيْنَ خبرِ السماءِ، وأُرْسلتْ عليهم الشُّهُبُ، فرجعَتِ الشياطينُ إلى قومِهِم، فقالوا: ما لكُمْ؟ فقالُوا: حِيلَ بيْنَنا وبيْنَ خبرِ السماء، وأُرْسلتْ عليْنا الشُّهُبُ، قالُوا: ما حالَ بيْنكُم وبينَ خبرِ السماءِ إلا شيءٌ حدَثَ، فاضربُوا مشارقَ الأرضِ ومغارِبَهَا، فانظروا ما هذا الذي حالَ بينكُمْ وبيْنَ خبرِ السماءِ، فانصرفَ الذين توجَّهُوا نحوَ تِهامَةَ إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وهُوَ بنخْلَةَ - عامدينَ إلى سُوقِ عُكَاظٍ، وهو يُصلِّي بأصْحَابِهِ صلاةَ الفجرِ، فلمَّا سمِعُوا القرَان استمعُوا له، فقالوا: هذا - واللَّهِ - الذي حالَ بينكم وبينَ خبرِ السماءِ، فهنالكَ حينَ رَجَعُوا إلى قومِهِمْ، فقالُوا: يا قوْمَنا إنا سمعْنا قرآنا عجبًا، يهْدِي إلى الرُّشدِ فآمنّا به، ولن نُشْرِكَ بربّنا أحدًا، فأنزل اللَّهُ على نبيِّه: (قُلْ أوحِيَ إِلَيَّ) وإنَّما أوحي إليه قولُ الجنِّ. هذه القصةُ كانت في أول البعثةِ.

وهدا الحديثُ ممَّا أرسله ابنُ عباسٍ، ولم يسمِّ من حدَّثه به من الصحابة. ويحتملُ أنه سمعه من النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - يحكي عن نفسِهِ. واللَّهُ أعلم. وسوقُ عكَاظ نحو نخلة، كان يجتمعُ فيه العربُ، ولهم فيه سوقٌ، فكان النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يخرجُ إليهم، فيدعُوهم إلى اللَّه عزَّ وجلَّ، وقد كانتِ الشهبُ يُرمَى بها في الجاهلية، وإنَّما كثرتْ عندما بعث النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -. وقد قالَ السُّديُّ وغيرُه: إنَّ السماءَ لم تحرسْ إلا حيث كان في الأرضِ نبيٌّ أو دينٌ للَّه ظاهر. والمقصودُ من هذا الحديثِ هاهنا: أن الشياطينَ لما مروا بالنبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وهو يصلِّي بأصحابه صلاةَ الصبح، وقفُوا واستمعُوا القرآنَ. وهذا يدلُّ على أنَّه - صلى الله عليه وسلم - كان يجهرُ بالقراءةِ في صلاةِ الصبح، فلمَّا سمعُوا عرفوا أنَه هو الذي حال بينهم وبين خبرِ السماءِ. وظاهرُ هذا السياقِ: يقتضي أن الشياطينَ آمنُوا بالقرآنِ، وكذا قالَ السُّديُّ وغيرُه. وقد اختُلِفُ في الجنِّ والشياطينِ: هل هم جنسٌ واحدٌ، أو لا؟ فقالت طائفةٌ: الجن كلُّهم ولدُ إبليسَ، كما أن الإنسَ كلَّهم ولدُ آدمَ. رُوي هذا عن ابن عباس من وجهٍ فيه نظرٌ. وأنّهم لا يدخلون الجنةَ. ورُوي - أيضًا - عن الحسنِ، وأنَّه قالَ: مؤمنُهم وفيٌ للَّه وله الثوابُ ومشركُهُم شيطانٌ له العقابُ. وقالت طائفة: بلِ الشياطينُ ولدُ إبليسَ، وهم كفار ولا يموتون إلا معَ

قوله تعالى: (وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا (18)

إبليسَ، والجنُّ ولد الجانِّ، وليسوا شياطينَ، وهم يموتون، وفيهم المؤمنُ والكافرُ. رُوي هذا عن ابن عباسٍ بإسنادٍ فيه نظرٌ - أيضًا. وقولُه: "وإنَّما أوحي إليه قولُ الجنّ " يشيرُ ابنُ عباس إلى أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - لم يرَ الجنَّ، ولا قرأ عليهم وإنما أُوحي إليه استماعُهم القرآنَ منه وإيمانهم به. وقد رُويَ ذلك صريحًا عنه، أنه قال في أولِ هذا الحديثِ: ما قرأ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - على الجنِّ ولا رآهم - ثم ذكر هذا الحديث. * * * قوله تعالى: (وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا (18) [قال البخاريّ] : "باب هل يُقَالُ: مَسْجِدُ بني فُلانٍ ": ابتدأ البخاريُّ - رحمه اللَّهُ - من هنا في ذكرِ المساجدِ وأحكامِها، فأولُ ما ذكرهُ من ذلك: أنه يجوزُ نسبةُ المساجدِ إلى القبائلِ، لعمارِتِهم إيَّاها، أو مجاورتِهِم لها. وقد كرهَ ذلك بعضُ المتقدمين، وتعلق بقوله تعالى: (وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا (18) . والصحيحُ: أن الآيةَ لم يُرَدْ بها ذلك، وأنَّها نزلتْ في النهي عن أنْ يُشرك باللَّه في المساجدِ في عبادتِهِ غيره، كما يفعلُ أهلُ الكتابِ في كنائسِهِم وبيعِهم.

وقيلَ: إن المرادَ بالمساجدِ الأرضَ كلَّها، فإنها لهذه الأمة مساجدُ، وهي كلُّها للَّه، فنهى اللَّهُ أن يُسجدَ عليها لغير. وقيلَ: إن المرادَ بالمساجدِ أعضاء السجودِ نفسُهَا، وهي للَّه، فإنه هوَ خلقها وجمعَها وألَّفها، فَمِن شُكْر على هذه النعمةِ أن لا يسجدَ بها لغير. وقد قيلَ: إد قوله تعالى (وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا (18) . يدلُّ - أيضًا - على أنَّه لا يجوزُ إضافةُ المساجدِ إلى مخلوق إضافةَ ملكٍ واختصاصٍ. وأخذ بعضُ أصحابنا من ذلك كالوزير ابنِ هبيرةَ: أنه لا يجوزُ نسبةُ شيءٍ من المساجدِ إلى بعضِ طوائفِ المسلمينَ للاختصاصِ بها، فيقالُ: هذه المساجدُ للطائفةِ الفلانيةِ، وهذه للطائفةِ الأخرى، فإنَّها مشتركةٌ بينَ المسلمينَ عمومًا. وذكرَ بعضُ المتأخرينَ من أصحابِنا في صحةِ اشتراطِ ذلك في وقفِهَا وجهين. وأما إضافةُ المسجدِ إلى ما يُعرِّفه به فليسَ بداخلٍ في ذلك، وقد كانَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يضيف مسجدَهُ إلى نفسِهِ، فيقولُ: "مسجدي هذا" ويضيفُ مسجدَ قُباء إليه، ويضيفُ مسجدَ بيتِ المقدسِ إلى إيلياءَ، وكلُّ هذه إضافاتٌ للمساجدِ إلى غيرِ اللَّه لتعريفِ أسمائها، وهذا غيرُ داخلٍ في النهي. واللَّه أعلم. * * *

سورة المزمل

سُورَةُ المُزَّمِّلِ قوله تعالى: (إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالًا وَجَحِيمًا (12) وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا (13) قال اللَّه تعالى: (إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالًا وَجَحِيمًا (12) وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا (13) . وقال: (لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ (6) لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ (7) . روى الإمامُ أحمدُ بإسنادِهِ عن عكرمةَ عن ابنِ عباسٍ في قوله: (وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ) قال: شوكٌ يأخذُ بالحلقِ لا يدخلُ ولا يخرج. ورَوى عليٌّ بنُ أبي طلحة عن ابنِ عباسٍ في قوله: (مِن ضَرِيعٍ) قال: شجرٌ في جهنمَ. وقال مجاهدٌ: الضريعُ: الشبرقُ اليابسُ. ورَوى أيضًا عن عكرمة وقتادةَ، ورواهُ العوفيُّ عن ابنِ عباس: الشبرقُ: نبتٌ ذو شوك لاطئٍ بالأرضِ، فإذا هاجَ سمِّيَ ضريعًا. وقال قتادة: من أضرع الطعامِ وأبشعِه. وعن سعيدِ بن جبيرٍ في قوله: (مِن ضَرِيع) قال: من حجارةٍ، وعنه قال: الزقومُ. وعن أبي الحواريِّ قال: الضريع: السَّلى شوكُ النخلِ، وكيف يسمنُ شوكُ النخلِ. وخرَّج الترمذيُّ من حديث أبي الدرداءِ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: "يُلقَى على أهل

النار الجوعُ، فيعدلُ ما هم فيه من العذابِ فيستغيثونَ، فيُغاثونَ بطعامٍ من ضريع لا يسمنُ ولا يُغني من جوع، فيستغيثونَ بالطعام فيغاثونَ بطعامٍ ذي غصه، فيذكرون أنهم كانُوا يجيزون الغصص في الدنيا بالشرابِ، فيستغيثون بالشرابِ، فيدفعُ إليهم الحميمُ كلاليبِ الحديدِ، فإذا دنتْ من وجوهِهِم شوتْ وجوهَهُم، فإذا وصلتْ بطونَهُم قطعتْ ما في بطونِهِم.. " وذكر بقية الحديثِ. وقد رُوي الحديثُ موقوفًا على أبي الدرداءِ. وقيلَ: وقفهُ أشبهُ. وقال سبحانه وتعالى: (فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ (35) وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ (36) لَا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ (37) . رَوى عليٌّ بنُ أبي طلحة، عن ابن عباسٍ من غسلين، قال: هو صديدُ أهل النارِ، وقال شبيبُ بنُ بشرٍ عن عكرمةَ عن ابنِ عباس: الغسلينُ: الدمُ والماءُ يسيلُ من لحومِهِم وهو طعامُهُم. وعن مقاتلٍ، قال: إذا سالَ القيحُ والدمُ بادرُوا إلى أكلِهِ قبلَ أن تأكله النارُ. وقال أبو جعفرٍ عن الربيع بنِ أنسٍ: الغسلينُ: شجرةٌ في جهنَّم، وعن الضحاك مثلُه. ورَوى خصيف عن مجاهدٍ عن ابنِ عباسٍ، قال: ما أدري ما الغسلينُ. ولكنِّي أظنُّه الزقومُ. وقال أبو هلال عن قتادةَ: هو طعامٌ من طعامِ جهنَّم من شرِّ طعامِهِم. وقال يحيى بنُ سلامٍ: هو غسالةُ أجوافهِم. قال ابنُ قتيبةَ: هو فِعلين من غسلتُ، كأنَّه الغسالةُ. قال شريحُ بنُ عبيدٍ، قال كعب: يقولُ لو دلِّي من غسلين دلو واحدٌ في

مطلع الشمسِ لغلت منه جماجمُ قومٍ في مغربِها. خرَّجه أبو نُعيمٍ. وقد رُوي أن بعضَ أهلِ النارِ يأكلُ لحمه، وسنذكرُ الحديثَ في ذلك فيما بعد إن شاء اللَّه. وقال اللَّهُ تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا (10) . وقد روي في حديث: "إن أكلةَ الربا يبعثونَ تتأججُ أفواهُهُم نارًا" ثم تلا هذه الآية. خرَّجه ابنُ حبانَ في "صحيحه " من حديثِ أبي برزةَ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -. * * *

سورة المدثر

سُورَةُ المُدَّثِّرِ قوله تعالى: (وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4) قال مجاهد والشَّعْبيُّ وقتادةُ والضحاكُ والنخعيُّ والزُّهريُّ وغيرُهم - في قوله تعالى: (وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4) : إن المعنى: طهِّرْ نفسَك من الذنوب. وقال سعيدُ بنُ جبيرٍ: وقلبَك ونيَّتَك فطهِّرْ. وقريبا منه: قولُ مَنْ قال: وعملَك فأصلِحْ. رُوي عن مجاهدٍ وأبي رَوْقٍ والضحاكِ. وعن الحسنِ والقرظيِّ، قالا: خُلُقَك حسِّنْه. فكنَّى بالثيابِ عن الأعمالِ، وهي الدِّينُ والتقوى والإيمانُ والإسلامُ وتطهيرُه: إصلاحُه وتخليصُه من المفسداتِ له، وبذلك تحصلُ طهارةُ النفسِ والقلبِ والنيةِ. وبه يحصلُ حسنُ الخُلُقِ، لأنَّ الدِّينَ هو الطاعاتُ التي تصيرُ عادةً ودَيْدنًا وخُلقًا، قالَ تعالى: (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4) . وفسَّرهُ ابنُ عباسٍ بالدِّينِ. * * *

قوله تعالى: (ولا تمنن تستكثر (6)

قوله تعالى: (وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (6) وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ أمنَّ الناس عليَّ في صحبته ومالِهِ أبو بكرٍ". قال الخطابيُّ: معنى قوله: "أمَن"، أي: أبْذَل لنفسه وأعْطَى لماله. والمنُّ: العطاءُ من غير استثابة، ومنه قوله تعالى: (هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أوْ أَمْسِكْ) . وقوله: (وَلا تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ) أي: لا تُعْطِ لتأخذ أكثر مما أعْطَيتَ، ولم يرد به المِنَّة؛ فإنها تُفسدُ الصنيعة، ولا مِنَّةَ لأحدٍ على رسولِ اللَّه - صلى الله عليه وسلم - بل له المِنَّةُ على جميع الأُمَّةِ. * * * قوله تعالى: (سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا (17) وروى دراجٌ عن أبي الهيثم عن أبي سعيدٍ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال في قوله تعالى: (سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا) قال: "جبلٌ من نارٍ يكلفُ أن يصعدَهُ، فإذا وضَعَ يدَهُ عليه ذابتْ، وإذا رفَعَها عادتْ، وإذا وَضعَ رِجلَه عليه ذابتْ، فإذا رَفَعها عادتْ، يصعدُ سبعينَ خرِيفًا، ثم هَوى مثلَها كذلك " وهذا الحديثُ خرَّجه الإمامُ أحمدُ وغيرُه بمعناه، وخرَّجه الترمذيُّ مختصرًا ولفظُهُ: "الصَّعود جبلٌ من نارٍ يصعدُ فيه الكافرُ سبعينَ خرِيفًا وبهوِي فيه كذلك أبَدًا". وقال: حديثٌ غريبٌ لا نعرفُهُ مرفوعًا إلا من حديثِ ابن لهيعةَ عن درَّاج، ولكنْ رواه أيضًا عمرُو بنُ الحارثِ عن درَّاج به، خرَّجه من طريقه الحاكمُ، وقال: صحيحُ الإسنادِ.

قوله تعالى: (إن هذا إلا قول البشر (25)

ورَوى هذا الحديثَ أيضًا شريكٌ عن عمارٍ الدهنى عن عطيةَ عن أبي سعيدٍ الخدريِّ عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم -. خرَّجه من طريقِهِ البزارُ، وقال: تفردَ برفعه شريكٌ. ووقفه سفيانُ على عمار - يعني أنه وقفَهُ على أبي سعيد - ولم يرفعْهُ، ورواه أيضًا عمرُو بنُ قيسٍ الملائي عن عطيةَ عن أبي سعيد الخدريِّ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -. ورَوى سماك عن عكرمةَ، عن ابنِ عباسٍ في قولِهِ: (سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا (17) . قالَ: جبل في النارِ. ورويناهُ من طريقٍ فيه ضعفٌ عن الضحاكِ عن ابنِ عباسٍ، قال: هو جبل من النارِ زلق كلما صعدَهُ الفاجرُ زلقَ فهوى في النارِ. وعن ابن السائبِ قال: هو جبل من صخرةٍ ملساءَ في النارِ يكلفُ أن يصعدها، حتى إذا بلغ أعلاها رُدَّ إلى أسفلِها، ثم يكلفُ أيضًا أن يصعدَها فذلك دأبُهُ أبدًا، ويجذبُ من أمامِهِ بسلاسلِ الحديدِ ويضربُ من خلفِه بمقامع الحديدِ فيصعدُهَا في أربعين سنةٍ. وقال أيوبُ بنُ بشير عن شفي بن ماتع قال: في جهنَّم جبل يُدْعَى صعودًا يطلعُ فيه الكافرُ أربعينَ خريفًا قبل أن يرقاهُ. خرَّجه ابنُ أبي الدنيا. * * * قوله تعالى: (إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ (25) وذكر صاحب سيرة الوزير قال: وسمعته يقول في قوله تعالى؛ (إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ) ، قال: العرب لا تعرفُ "ذا" ولا "هذا" إلا في الإشارةِ إلى الحاضرِ. وإنما أشارَ هذا القائلُ إلى هذا المسموع. فمن قال: إنَّ المسموعَ

قوله تعالى: (عليها تسعة عشر (30) وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة وما جعلنا عدتهم إلا فتنة للذين كفروا)

عبارةٌ عن القديم، فقد قال: هذا قول البشر. قال مصنفُ سيرته: كثيرًا ما سمعتُه يقول: ليس مذهبُ أحمد إلا الاتباع فقط. فما قال السلفُ قاله: وما سكتُوا عنه سكتَ عنه؛ فإنَّه كان يكثُر أن يقالَ: لفظي بالقرآن مخلوق، أو غير مخلوق لأنه لم يقل. وكان يقولُ في آيات الصفات: تمرّ كما جاءت. قال: وسمعته يقول: تفكرتُ في أخبار الصفاتِ، فرأيتُ الصحابةَ والتابعين سكتُوا عن تفسيرها، مع قوةِ علمهم، فنظرتُ السببَ في سكوتِهم، فإذا هو قوةُ الهيبة للموصوف، ولأنَّ تفسيرَها لا يتأتَّى إلا بضربِ الأمثالِ للَّه، وقد قال عز وجل: (فَلا تَضربُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ) قال: وكان يقول: لا يفسرُ على الحقيقة ولا على المجازِ؛ لأن حملها على الحقيقة تشبيهٌ. وعلى المجاز بدعةٌ. * * * قوله تعالى: (عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ (30) وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا) قال اللَّه تعالى: (عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ (30) وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا) . قال آدمُ بنُ أبي إياسٍ: حدثنا حمادُ بنُ سلمةَ، حدثنا الأزرقُ بنُ قيسٍ عن رجل من بني تميم: قال: كنَّا عندَ أبي العوام فقرأ هذه الآية:

(عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ) فقال: ما تقولون، تسعةَ عشرَ ملكًا؟ قلنا: بل تسعةَ عشرَ ألفًا، فقال: ومن أينَ علمتَ ذلك؟ قال: قلتُ لأنَّ اللَّه تعالى يقولُ: (وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلَّذينَ كَفَروا) قال أبو العوام: صدقتَ وبيدِ كلِّ واحدٍ منهم مرزبةٌ من حديدٍ لها شعبتانِ، فيضربُ بها الضربةَ يهوي بها سبعينَ ألفًا، بين منكبي كلِّ ملكٍ منهم مسيرةَ كذا وكذا، فعلى قولِ أبي العوامِ ومن وافقه، الفتنةُ للكفارِ، إنما جاء من ذكرِ العددِ الموهم للقلةِ حيثُ لم يذكرِ المميزَ له. ويشبه هذا ما رَوى سعيدُ بن بشيرٍ عن قتادةَ في قوله: (وَمَا يَعْلَمُ جنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ) أي: من كثرتِهِم. وكذلك ما رَوى إبراهيمُ بنُ الحكم بنِ أبانٍ وفيه ضعفٌ عن أبيه، عن عكرمةَ قالَ: إنَّ أولَ من وصلَ من أهلِ النارِ إلى النارِ وجدُوا على البابِ أربع مائة ألفٍ من خزنةِ جهنَّم مسودةٌ وجوهُهُم كالحةٌ أنيابُهم، قد نزعَ اللَّه الرحمة من قلوبِهِم، ليسَ في قلبِ واحدٍ منهم مثقالُ ذرة من الرحمة لو طارَ الطائرُ من منكبِ أحدِهِم لطارَ شهرينِ قبلَ أن يبلغَ المنكبَ الآخرَ، ثم يجدونَ على البابِ التسعةَ عشرَ، عرضُ صدرِ أحدِهِم سبعونَ خرِيفًا، ثم يهوونَ من بابٍ إلى بابٍ خمسمائةَ سنةٍ حتى يأتُوا البابَ؛ ثم يجدونَ على كلِّ بابٍ منها من الخزنةِ مثلَ ما وجدُوا على البابِ الأولِ، حتى ينتهُوا إلى آخرِها. خرَّجه ابنُ أبي حاتمٍ. وهذا يدلُّ على أنَّ على كلِّ بابٍ من أبوابِ جهنَّم تسعةَ عشرَ خزانًا هُمْ رؤساءُ الخزنةِ، تحتَ يدِ كلِّ واحدٍ منهم أربعمائة ألفٍ.

والمشهورُ بين السلفِ والخلفِ أنَّ الفتنةَ إنما جاءتْ من حيثُ ذكرِ عددِ الملائكةِ الذين اغترَّ الكفارُ بقلَّتِهِم، وظنُوا أنهم يمكنُهُم مدافعتهُم وممانعتُهُم. ولم يعلمُوا أن كلَّ واحدٍ من الملائكةَ لا يمكنُ البشرُ كلُّهم مقاومتُهُ، ولهذا قال اللَّه تعالى: (وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا) إلى قوله: (وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ) . قال السُّديُّ: إن رجلاً من قريشٍ يقالُ له أبو الأشدينِ قال: يا معشرَ قريشٍ لا يهولنَّكم التسعةَ عشرَ أنا أدفعُ عنكُم بمنكبي الأيمنِ عشرةً من الملائكة. وبمنكبي الأيسر التسعة الباقية ثم تمرونَ إلى الجنةِ - يقولُه مستهزئًا - فقال الَلَّه عزَّ وجلَّ: (وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا) . وقال قتادة: ذُكرَ لنا أنَّ أبا جهلٍ حينَ نزلتْ هذه الآيةُ قال: يا معشرَ قريش أما يستطيعُ كلُّ عشرةٍ منكم أن يأخذوا واحدًا من خزنة النارِ وأنتم الدُّهم. وصاحبُكم هذا يزعُمُ أنهم تسعة عشر. وقال قتادةُ: في التوراةِ والإنجيلِ: إنَّ خزنةَ النارِ تسعة عشر. ورَوى حريثٌ عن الشعبيِّ عن البراءِ في قولِ الله عزَّ وجلَّ: (عَلَيهَا تِسْعَةَ عَشَرَ) قال: إن رهطَا من يهود سألُوا رجلاً من أصحابِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - عن خزنةِ جهنم، فقال: اللَّهُ ورسولُهُ أعلمُ. فجاء رجل فأخبرَ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فأنزلَ اللَّه عليه ساعةَ إذن (عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ) فأخبر أصحابَهُ، وقال: ادعُهُم، فجاءوا فسألوه عن خزنة جهنم، فأهْوَى بأصابع كفيه مرتين وأمسكَ الإبهامَ في الثانيةِ،

خرَّجه ابن أبي حاتمٍ، وحريث هو ابنُ أبي مطر ضعيف. وخرَّجه الترمذيُّ من طريقِ مجالدٍ عن الشعبيِّ، عن جابر قال: قال ناس من اليهودِ لناسٍ من أصحابِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: هل يعلمُ نبيكم عددَ خزنة جهنَّم؟ قالُوا: لا ندري حتى نسأله، فجاء رجل إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فقالَ: يا محمدُ غُلِبَ أصحابُك اليومَ، قال: "وما غُلِبُوا؟ " قال: سألتْهُم يهودُ: هل يعلم نبيُّكم عددَ خزنةِ جهنَّم؟ قال: "فما قالوا؟ " قالوا: لا ندري حتى نسأل نبيَّنا - صلى الله عليه وسلم -. فقال: "يغلبُ قومٌ سئِلوا عمَّا لا يعلمون، فقالُوا: لا نعلمُ حتى نسأل نبيَّنا. لكنَّهم قد سألُوا نبيَّهم، فقالُوا: أرِنَا اللَّهَ جهرة، علي بأعداءِ الله " فلما جاءوا قالُوا: يا أبا القاسم كم عددُ خزنةِ جهنم؟ قال: "هكذا أو هكذا" في مرةٍ عشرة وفي مرةٍ تسعة، قالُوا: ثعم، وهذا أصحُّ من حديثِ حريثٍ المتقدمِ، قاله البيهقي وغيرُهُ. وخرَّج الإمامُ أحمد من حديثِ عبدِ اللَّهِ بنِ عمرِو بنِ العاصِ قال: خرجَ علينا رسولُ اللَّه - صلى الله عليه وسلم - يومًا كالمودعَ، فقالَ: "أنا محمدٌ النبيُّ الأمّيُ " ثلاثًا، ولا نبيَّ بعدي، أوتيتُ فواتحَ الكَلم وخواتمه وجوامعَهُ، وعلمتُ كم خزنةُ النار وحملةُ العرشِ " وذكر بقيةَ الحديث. * * * قال اللَّه تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (6) .

وقال تعالى: (فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (24) . وقال تعالى: (وَاتَقُوا النَّارَ الَّتِي أعِدَّتْ لِلْكَافرِينَ) . وقال تعالى: (فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى (14) . وقال تعالى: (لَهُم مِن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَقُونِ) . وقال تعالى: (وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ (31) كَلَّا وَالْقَمَرِ (32) وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ (33) وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ (34) إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ (35) نَذِيرًا لِلْبَشَرِ (36) لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ (37) . قال الحسنُ في قوله تعالى: (نَذِيرًا لِّلْبَشَرِ) قال: "واللَّهِ ما أنذرَ العبادَ بشيءٍ قط أدْهَى منها" خرَّجَه ابنُ أبي حاتم. وقال قتادةُ في قولِهِ تعالى: (إِنها لإِحْدَى الْكُبَرِ) يعْني النار. وروى سماكُ بنُ حربٍ، قال: سمعتُ النعمانَ بنَ بشيرِ يخطبُ، يقولُ: سمعتُ رسولَ اللَّه - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: "أنذرتُكم النارَ أنذرتُكُمُ النارَ" حتى لو أنَّ رجلاً كان بالسوقِ لسمعَهُ من مقامِي هذا. حتَّى وقعتْ خميصةٌ كانتْ على عاتقِهِ عند رجليه. خرَّجَه الإمامُ أحمد، وفي روايةِ له أيضًا عن النعمان بن بشيرٍ، قالَ: قال رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -: " أنذرتُكُمُ النارَ، أنذرتُكُمُ النارَ" حتَى لو كانَ رجلٌ في أقْصى السوقِ لسمعَهُ وسمعَ أهلُ السوقِ صوتَهُ، وهو على المنبرِ. وفي رواية له عن سِماكٍ، قال: سمعتُ النعمانَ يخطبُ وعليه خميصةٌ. فقال: لقد سمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: "أنذرتُكُمُ النارَ،أنذرتُكُمُ النارَ" فلو أنَّ

رجلاً بموضع كذا وكذا، سمعَ صوتَهُ. وعن عديِّ بنِ حاتمٍ قال: قالَ رسولُ اللَّه - صلى الله عليه وسلم -: "اتَّقوا النارَ" قال: وأشاحَ، ثم قال: "اتَقوا النارَ"، ثم أعرَض وأشاحَ ثلاثاً حتَّى ظننَّا أنه ينظرُ إليها، ثم قالَ: "اتَّقوا النارَ ولو بشقِّ تمرةٍ، فمن لم يجدْ فبكلمةٍ طيبةٍ" خرَّجاه في "الصحيحينِ ". وخرَّج البيهقيُّ بإسنادٍ فيه جهالةٌ عن أنسٍ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: "يا معشر المسلمينَ ارغبُوا فيما رغبكم اللَّه فيه، واحذرُوا، وخافُوا ما خوَّفَكُمُ اللَّهُ به من عذابِهِ وعقابِهِ، ومن جهنَّم، فإنَّها لو كانتْ قطرةٌ من الجنةِ معكُم في دنياكم التي أنتم فيها حلَّتها لكُم، ولو كانتْ قطرةٌ من النارِ معكُم في دنياكم التي أنتُم فيها خبثتْها عليكُم ". وفي "الصحيحين " عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "إنَما مثلي ومثلُ أُمَّتي كمثلِ رجلٍ استوقدَ نارًا، فجعلتِ الدوابُّ والفراشُ يقعْنَ فيها، فأنا آخذُ بِحَجُزِكُم عن النارِ وأنتُم تقتحمون فيها" وفي روايةٍ لمسلم: "مثلي كمثلِ رجل استوقدَ نارًا، فلمَّا أضاءتْ ما حولَها جعلَ الفراشُ وهذه الدوابُّ التي في النارِ يقعنَ فيها. وجعلَ يحجزُهُن ويغلبْنَهُ فيقتحمنَ فيها" قال: "فذلكم مَثَلي ومثلُكُم أنا آخذ بِحجُزِكُم عن النارِ، هلمَّ عن النارِ، هلمَّ عن النارِ، فتغلبُوني وتقتحمون فيها". وفي رواية للإمامِ أحمد: "مَثَلي ومثلُكُم أيتها الأمَّةُ كمثلِ رجلٍ أوقدَ نارًا بليلٍ. فأقبلتْ إليها هذه الفراشُ والذبابُ التي تغشى النارَ، فجعل يذبُّها ويغلبْنَهُ إلا تقحُّمًا في

النارِ، وأنا آخذ بحجُزِكُم أدعوكُم إلى الجنةِ وتغلبونِي إلا تقحُّمًا في النارِ". وخرَّج الإمامُ أحمد أيضًا من حديثِ ابنِ مسعودٍ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "إنَّ اللَّه لم يحرمْ حرمةً إلا وقدْ علمَ أنَّه سيطلعها منكم مطلعٌ، ألا وإنّي آخذُ بحجُزِكُم أن تهافَتُوا في النارِ، كتهافُتِ الفراشِ والذبابِ ". وخرَّج البزارُ والطبراني من حديثِ ابنِ عباسٍ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "أنا آخذ بحجُزِكُم فاتقوا النارَ، اتقوا النارَ، اتقوا الحدودَ، فإذا مِت تركْتُكُم، وأنا فرطُكُم على الحوضِ، فمن ورَدَ فقد أفْلَحَ، فيؤْتَى بأقوامٍ ويؤخذُ بهم ذاتَ الشمالِ، فأقولُ: ربِّ أمتي، فيقولُ: إنَّهم لم يزالوا بعدَكَ يرتدونَ على أعقابِهِم " وفي روايةٍ للبزارِ، قالَ: "وأنا آخذ بحجُزِكُم أقولُ: إيَّاكُم وجهنم، إيَّاكُم والحدودَ، إيَّاكُم وجهنم، إيَّاكُم والحدودَ، إيَّاكُم وجهنمَ، إيَّاكم والحدودَ" وذكر بقية الحديثِ. وفي "صحيح مسلم " عن أبي هريرة قالَ: لما نزلتْ هذه الآية: (وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ) ، دعا رسولُ اللَّه - صلى الله عليه وسلم - قريشًا فاجتمَعُوا، فعمَّ وخصَّ، فقال: "يا بني كعبِ بنِ لؤيٍّ، أنقذوا أنفسكم من النارِ، يا بني مُرَةَ بنِ كعبٍ، أنقذُوا أنفسَكُم من النارِ، يا بني عبدَ شمسٍ، أنقذُوا أنفسَكم من النارِ، يا بني عبدِ مناف، أنقذُوا أنفسكم من النارِ، يا بني هاشم، أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني عبد المطلب، أنقذوا أنفسكم من النارِ، يا فاطمةُ بنتُ محمد، أنقدي نفسك من النارِ، فإنِّي لا أملك لكم من اللَّه شيئا". وخرَّج الطبرانيُّ وغيرُه من طريقِ يعلى بن الأشدقِ عن كليبِ بنِ حزنٍ،

قالَ: سمعتُ رسولَ اللَّه - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: "اطلبُوا الجنةَ جهدَكُم واهربُوا من النارِ جهدكم، فإن الجنة لا ينامُ طالبها، وإنَّ النارَ لا ينامُ هاربها، وإن الآخرةَ اليوم محفوفة بالمكارِهِ، وإن الدنيا محفوفة باللذاتِ والشهواتِ، فلا تلهينَّكُم عن الآخرةِ" ويُروى هذا الحديثُ أيضًا عن يعلى بن الأشدقِ عن عبدِ اللَّهِ بن جرادٍ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وأحاديثُ يعلى بنِ الأشدقِ باطلة منكرةٌ. وخرَّج الترمذيُّ من حديثِ يحيى بن عبدِ اللَّه عن أبيه، عن أبي هريرة، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "ما رأيتُ مثلَ النارِ نامَ هاربُها، ولا مثلَ الجنةِ نامَ طالبُها" ويحيى هذا ضعفُوه، وخرَّجه ابنُ مردويه من وجهٍ آخرَ أجودَ من هذا إلى أبي هريرة، وخرَّج الطبرانيُّ نحوَه بإسنادٍ فيه نظر عن أنس عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وخرَّجه ابنُ عديٍّ بإسنادٍ ضعيفٍ عن عمرَ - رضي الله عنه - عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -. وقالَ يوسفُ بنُ عطيةَ عن المعلى بنِ زيادٍ: كانَ هرمُ بنُ حيانَ يخرجُ في بعضِ الليالي وينادِي بأعلَى صوتِهِ: عجبتُ من الجنةِ كيفَ نامَ طالبُها. وعجبتُ منَ النارِ كيف نامَ هاربُها، ثم يقول: (أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأتِيَهُم بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ) . وقال أبو الجوزاءِ: لو وليتُ من أمرِ الناس شيئًا اتخذتُ منارًا على الطريقِ وأقمتُ عليها رجالاً ينادون في الناس: النارَ النارَ. خرَّجه الإمامُ أحمدُ في كتابِ " الزهدِ ". وخرَّج ابنُه عبدُ اللَّه في هذا الكتابِ أيضًا بإسنادِهِ عن مالكِ بنِ دينارٍ. قالَ: لو وجدتُ أعوانًا لناديتُ في منارِ البصرةِ بالديلِ: النارَ النارَ، ثم قالَ:

لو وجدتُ أعوانًا لناديتُ في منارِ البصرةِ بالليلِ: النارَ النارَ، ثم قال: لو وجدتُ أعوانًا لفرقتهم في منارِ الدنيا: يا أيها الناس النارَ النارَ. * * *

سورة القيامة

سُورَةُ القِيَامَةِ قوله تعالى: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23) [قال البخاريُّ] : حدثنا الحُميديُّ: ثنا مروانُ بن مُعاويةَ: ثنا إسماعيلُ عن قيْسٍ، عن جريرِ بنِ عبدِ اللَّه، قال: كُنَّا عندَ النبى - صلى الله عليه وسلم - فنظرَ إلى القمرِ ليْلَةَ البدْرِ، فقالَ: "إنَّكم سترونَ ربَّكُم كما تروْنَ هذا القمَرَ، لا تُضامُون في رُؤيَتِه، فإن استطعْتُم أن لا تُغْلبُوا على صلاة قبْلَ طُلُوع الشمسِ وقبلَ غُرُوبِها فافْعَلُوا" ثمَّ قرأ: (وَسَبِحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُروبِ) ". قال إسْماعيلُ: افْعلُوا لا تفُوتنَّكُمْ. هذا الحديثُ نصٌّ في ثبوتِ رؤيةِ المؤمنينَ لربهم في الآخرةِ، كما دلَّ على ذلك قولهُ تعالى: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23) . ومفهومُ قولِهِ في حق الكفارِ: (كَلاَّ إِنَّهمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذ لَّمَحْجوبُونَ) . قال الشافعيُّ وغيرُهُ: لما حَجَب أعداءَهُ في السخطِ دلَّ على أنَّ أولياءَه يرونَهُ في الرضا. والأحاديثُ في ذلكَ كثيرة جدًّا، وقد ذَكَرَ البخاريُّ بعضَها في أواخرِ "الصحيح " في "كتاب التوحيد" وقد أجمعَ على ذلكَ السَّلفُ الصالحُ مِنَ الصَّحابةِ والتَّابعينَ لهُم بإحسانٍ من الأئمةِ وأتباعِهِم.

وإنَّما خالفَ فيه طوائفُ أهلِ البدع، من الجهميةِ والمعتزلةِ ونحوِهِم ممَّن يرد النصوصَ الصحيحةَ لخيالاتٍ فاسدةٍ وشبهاتٍ باطلةٍ، يخيلُهَا لهمُ الشيطانُ، فيُسرعونَ إلى قَبولِهَا منه، ويوهمُهُم أنَّ هذه النصوصَ الصحيحةَ تستلزمُ باطلاً، ويسميه تشْبيهًا أو تجْسيمًا، فينفرونَ منه، كمَا خيَّل إلى المشركينَ قبلَهُم أنَّ عبادة الأوثانِ ونحوِها تعظيمٌ لجناب الربِّ، وأنَّه لا يُتوصلُ إليه من غيرِ وسائط تعبدُ فتقربُ إليه زُلفًا، وأنًّ ذلك أبلغُ في التعظيم والاحترام، وقاسَهُ لهم على ملوكِ بني آدم، فاستجابُوا لذلكَ، وقبلوه منه. هانَّما بعثَ اللَّهُ الرسلَ وأنزلَ الكتبَ لإبطالِ ذلكَ كلِّه، فمن اتَّبع ما جاءوا به فقد اهتدى، ومنْ أعْرَضَ عنه أو عن شيءٍ منه واعترضَ فقد ضلَّ. وقولهُ: "كما تروْن هذا القمَرَ" شبَّه الرؤية بالرؤيةِ، لا المرئي بالمرئي سبحانه وتعالى. وإنَّما شبَّه الرؤية برؤية البدر، لمعنيين: أحدهما: أنَّ رؤية القمرِ ليلةَ البدرِ لا يُشك فيه ولا يُمترى. والثاني. يتسوى فيه جميعُ الناسُ من غير مشقة. وقد ظنَّ المريسيُّ ونحوُه ممن ضلَّ وافترى على اللَّهِ، أنَّ هذا الحديثَ يُرد. لما يتضمن من التشبيهِ، فضلَّ وأضلَّ. واتفقَ السلفُ الصالحُ على تلَقِّي هذا الحديث بالقبولِ والتصديقِ. قال يزيدُ بنُ هارونَ: من كذَّب بهذا الحديثِ فهو بريءٌ من اللَّهِ ورسولِهِ. وقال وكيعٌ: مَنْ ردَّ هذا الحديثَ فاحسبوه من الجهميَّةِ. وكان حسينٌ الجعُفيُّ إذا حدَّث بهذا الحديثِ، قال: زَعَمَ المريسي.

وقوله: "لا تضامُون في رؤيتِهِ ". قال الخطابيُّ: "لا تضامون " رُوي على وجهين: مفتوحةُ التاءِ، مضددةُ الميم، وأصلُهُ تتضامّون، أي لا يضامُّ بعضُكم بعضًا، أي: لا يُزَاحم، من الضمِّ، كما يفعلُ الناسُ في طلبِ الشيء الخفي، يريدُ أنكم ترونَ ربَّكم وكلُّ واحدٍ منكم وادِعٌ في مكانِهِ، لا ينزاعه فيه أحدٌ. والآخرُ: مخفف: تُضامُون - بضمِّ التاءِ - من الضَّيم، أي: لا يضيم بعضُكم بعضًا فيه. انتهي. وذكرَ ابنُ السمعاني فيه روايةً ثالثةً: "تُضامُّون " - بضم التاء، وتشديدِ الميم - قال: ومعناها: لا تزاحِمُون، قال: ورواية - فتح التاء مع تشديدِ الميم - معناها: لا تزاحَمُون. وقولُه: "كما تروْن القمرَ ليلةَ البدر" يقوِّي المعنى الأول. وجاء التصريحُ به في روايةِ أبي رَزينِ العُقيليِّ، أنّه قال: يا رسول اللَّه. أكلُّنا يَرَى ربَّه يومَ القيامة؟ وما آيةُ ذلك في خَلْقِه؟ قال رسولُ اللَّه - صلى الله عليه وسلم -: "أليس كُلُّكُمْ ينظرُ إلى القمرِ مُخْلِيًا به؟ " قال: بلى، قال: "فاللَّه أعظمُ ". خرَّجه الإمامُ أحمد. وخرَّجه ابنُه عبدُ الله في "المسندِ" بسياق مطول جدا، وفيه ذكرُ البعثِ والنشورِ، وفيه: "فتخرُجُون من الأصواء - أو: من مصَارِعِكُم - فتنظرُون إليْهِ وينظُرُ إليكُمْ "

قال: قلتُ: يا رسول اللَّه، وكيفَ ونحْنُ مِلْء الأرضِ وهُو شخْص واحدٌ، ينظُرُ إلينا وننْظُرُ إليه؟ قال: "أُنبئك بمثلِ ذلك، الشَّمسُ والقَمَرُ، آيةٌ منْهُ صغيرةٌ تَروْنَهُما ويريانكُمْ ساعة واحدة، لا تضارون في رُؤيَتِهما، ولعَمْرُ إلهِكَ لَهُوَ أقْدرُ على أنْ يرَاكُمْ وتَرَوْنَهُ من أنْ تَرَوْنَهُما ويرَيانِكُم، لا تُضارون في رؤيتهِما " وذكر بقيةَ الحديثِ. وخرَّجه الحاكم وقال: صحيحُ الإسناد. وقد ذكَرَ أبو عبد اللَّه بنُ منده إجماعَ أهلِ العلم على قبولِ هذا الحديثِ ونَقَلَ عبَّاسٌ الدُّوري، عن ابن معينٍ أنَّه استحسنه. وقولُهُ: "فإنِ اسْتَطَعْتُمْ أن لا تُغْلبُوا على صلاة قبْلَ طلُوع الشَّمْسِ وقبْلَ غُرُوبِها فافْعَلُوا" أمر بالمحافظةِ على هاتينِ الصلاتين، وهما صلاةُ الفجرِ وصلاةُ العصرِ، وفيه إشارة إلى عظمِ قدْرِ هاتينِ الصلاتينِ، وأنَّهُما أشرفُ الصلواتِ الخمسِ، ولهذا قِيل في كل منهُما: إنّها الصلاةُ الوسطى، والقولُ بأنَّ الوسْطَى غيرُهما لا تعويلَ عليه. وقد قيل في مناسبةِ الأمرِ بالمحافظةِ على هاتينِ الصلاتينِ عقيبَ ذكرِ الرؤية.: أنَّ أعلى ما في الجنَّةِ رؤيةُ اللَّهِ عزَّ وجلَّ، وأشرفُ ما في الدنيا من الأعمالِ هاتان الصلاتانِ، فالمحافظةُ عليهما يُرجى بها دخولُ الجنةِ ورؤيةُ اللَّهِ عر وجل فيها. كما في الحديثِ الآخر: "منْ صلَّى البردين دخل الجنَّة" وسيأتي - إن شاء اللَّه في موضعه.

وقيل: هو إشارةٌ إلى أنَّ دخولَ الجنةِ إنَّما يحصلُ بالصلاةِ مع الإيمانِ، فمنْ لا يصلِّي فليس بمسلمٍ، ولا يدخلُ الجنةَ بلْ هو من أهل النارِ، ولهذا قال أهلُ النارِ لما قيل لهم: (مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) . ويظهرُ وجْهٌ آخرُ في ذلك، وهو: أنّ أعْلى أهلِ الجنَّة منزلةً من ينظر في وجْهِ اللَّه عزَّ وجلَّ مرتين بُكْرة وعشيا، وعُمومُ أهلِ الجنَّة يرونه في كلِّ جمعةٍ في يومِ المزيدِ، والمحافظةُ على هاتينِ الصلاتينِ على ميقاتِهِمَا ووضوئِهِمَا وخشوعِهِما وآدابهما يُرجى به أن يوجبَ النظرَ إلى اللَّه عزَّ وجلَّ في الجنَة في هذين الوقتين. ويدل على هذا ما رَوى ثُوَيْرُ بنُ أبي فاختَة، قال: سمعتُ ابنَ عمرَ. يقول: قالَ رسولُ اللَّه - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ أدْنى أهلِ الجنَّة منزلة لمنْ ينظرُ إلى جنانِهِ وأزْواجه ونعيمه وخدَمِهِ وسرُرِهِ مسيرةَ ألفَ سنة، وأكْرَمُهُمْ على اللَّه منْ ينظرُ إلى وجههِ غدْوَةً وعشيا" ثم قرأ رسولُ اللَّه - صلى الله عليه وسلم -: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23) . خرَّجهُ الإمامُ أحمدُ والترمذيُّ وهذا لفظُهُ. وخرَّجه - أيضًا - موقوفًا على ابنِ عمرَ. وثُوَيْرٌ فيه ضعفٌ. وقد رُوي هذا المعنى من حديث أبي بَرْزة الأسلميِّ مرفوعًا - آيضًا - وفي إسنادِهِ ضعفٌ.

وقاله غيرُ واحدٍ من السَّلفِ منهم: عبْدُ اللَّه بنُ بُريدةَ وغيرُه. فالمحافظةُ على هاتين الصلاتينِ تكون سببًا لرؤية اللَّه في الجنَّةِ في مثلِ هذين الوقتين، كما أنَّ المحافظةَ على الجمعةِ سببٌ لرؤية اللَّه في يومِ المزيدِ في الجنَّة، كما قال ابن مسعود: سارعُوا إلى الجُمُعات؛ فإنَّ اللَّه يبرز لأهل الجنَّة في كلِّ جمعةٍ على كثيبٍ من كافورٍ أبيضَ، فيكونونَ منه في الدنو على قدْرِ تبكيرهم إلى الجُمُعاتِ. ورُوي عنه مرْفُوعًا. خرَّجَه ابنُ ماجةَ. ورُوي عن ابن عباسٍ، قال: مَنْ دخلَ الجنةَ من أهلِ القُرى لم ينظر إلى وجْه اللَّه؛ لأنَهم لا يشهدون الجمعة. خرَّجه أبو بكر عبد العزيز بن جعفر في كتاب "الشافي " بإسنادٍ ضعيفٍ. وقد رُوي من حديثِ أنس مرفوعًا: "إنَّ النساءَ يريْنَ ربّهنَّ في الجنَّة في يومي العيدين ". والمعنى في ذلك: أنّهنَّ كُنَّ يشاركن الرجال في شهود العيدين دون الجُمع. وقولُه: ثم قرأ: (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ (39) . الظاهر أن القارئ لذلكَ هو النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -. وقد رُوي من روايةِ زيدِ بن أبي أُنَيْسة، عن إسماعيلَ بنِ أبي خالدٍ، عن جريرٍ البَجَلي في هذا الحديثِ: ثم قرأ رسولُ اللَّه - صلى الله عليه وسلم -: (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ) الآية.

خرَّجه أبو إسماعيلَ الأنصاريُّ في كتابِ "الفاروقِ ". وقد قيل: إنَّ هذه الكلمةَ مدرجة، وإنَّما القارئُ هو جرير بن عبد اللَّه البَجَلي. وقد خرَّجه مسلمٌ في "صحيحهِ " عن أبي خيثمة، عن مروان بن معاوية فذكر الحديثَ، وقال في آخره: ثم قرأ جريرٌ: (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ (39) . وكذا رواه عَمْرُو بنُ زُرارة وغيرُه، عن مروان بن معاويةَ، وأدرجه عنه آخرون. * * *

سورة الإنسان

سُورَةُ الإنْسَانِ قوله تعالى: (إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (2) قال اللَّه عزَّ وجلَّ: (إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ) . وفسَّر طائفةٌ من السَّلَفِ أمشاجَ النُّطفةِ بالعُروقِ التي فيها. قال ابنُ مسعودٍ: أمشاجُها: عزَّ وقُها. * * * قوله تعالى: (إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَ وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا (4) قال اللَّه تعالى: (إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَ وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا (4) . وقال اللَّهُ تعالى: (وَجَعَلْنَا الأغْلالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا) . وقال اللَّهُ تعالى: (إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ (71) فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ (72) . وقال: (خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (30) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (31) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ (32) . وقال تعالى: (إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالًا وَجَحِيمًا (12) وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا (13) . وقرأ ابنُ عباسٍ: "وَالسلاسِلَ يُسْحَبُونَ " بنصب السلاسل وفتح ياءِ يسحبونَ، قال: هو أشدُّ عليهم هم يسحبون السلاسلَ. خرَّجَه ابنُ أبي حاتمٍ.

فهذه ثلاثةُ أنواع: أحدها: الأغلالُ: وهي في الأعناقِ، كما ذكر سبحانه. قال الحسنُ بنُ صالح: الغلُّ تغلُّ اليدُ الواحدةُ إلى العنق، والصفدُ: اليدانِ جميعًا إلى العنقِ. خرَّجه ابنُ أبي الدنيا. وقال أسباط عن السُّديِّ: الأصفادُ تجمعُ اليدينِ إلى العنق. وقال معمر عن قتادةَ في قوله: (مُّقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ) . قالَ: مقرنين في القيودِ والأغلالِ. قالَ عيينةُ بنُ الغصنِ عن الحسنِ: إنَّ الأغلالِ لم تُجعلْ في أعناقِ أهلِ النارِ لأنَّهم أعجزُوا الربَّ عزَّ وجلَّ، ولكنها إذا طُفِئَ بهم اللهبُ أرستْهُم. قالَ: ثم خرَّ الحسنُ مغشيًّا عليه. وقال سيَّارُ بنُ حاتم: حدثنا مسكينُ عن حوشحب عن الحسنِ أنه ذكرَ النارَ فقالَ: لو أنَّ غلاً منها وُضِعَ على الجبالِ لقصمَهَا إلى الماءِ الأسودِ، ولو أنَّ ذراعًا من السلسلة وُضِعَ على جبلٍ لرضَّه. ورَوى ابنُ أبي حاتم بإسناد عن موسى بنِ أبي عائشةَ أنَّه قرأ قولَهُ تعالى: (أَفَمَن يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) . قال: تشدُّ أيديهم بالأغلال في النارِ، فيستقبلونَ العذابَ بوجوهِهِم قد شدتْ أيدِيهم، فلا يقدرون على أن يتَّقوا بها، كلما جاء نوع من العذابِ يستقبلونَ بوجوهِهِم. وبإسنادِهِ عن فيضِ بنِ إسحاقَ عن فضيلِ بنِ عياضِ: إذا قالَ الربُّ تباركَ وتعالى: (خُذوهُ فَغُلُّوهُ) تبدَّرهُ سبعونَ ألفَ ملك كلُّهم يتبدرُ أيهم يجعلُ الغلَّ في عنقِهِ.

النوع الثاني: الأنكالُ: وهي القيودُ، قال مجاهدٌ والحسنُ وعكرمةُ وغيرُهم. قال: الحسنُ: قيودٌ من نارٍ، قال أبو عمرانَ الجونيُّ: قيودٌ لا تحلُّ واللَّهِ أبدًا، وواحدُ الأنكالِ: نكلٌ، وسميمت القيودُ أنكالاً لأنه ينكلُ بها، أي يمنعُ. وروى أبو سنانَ عن الحسنِ: أما وعزَّتِهِ ما قيدَهُم مخافةَ أن يعجزُوه. ولكن قيدَهُم لترسَى في النارِ. وقال الأعمشُ: الصفدُ: القيودُ، وقولُهُ تعالى: (مّقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ) القيودُ، وقد سبقَ عن أبي صالح قولُهُ: (فِي عَمَدٍ مُّمَدَّدَةٍ) قال: القيودُ الطوالُ. النوع الثالثُ: السلاسلُ: خرجَ الإمامُ أحمدُ وغيرُه من طريقِ أبي السمح عن عيسى بنِ هلالٍ الصدفيِّ عن عبد اللهِ بن عمرٍو، قال: قالَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "لو أنَّ رصاصةً مثلَ هذه - وأشار إلى مثل الجمجمةِ - أُرْسِلت من السماءِ إلى الأرضِ وهي مسيرةُ خمسمائة عامٍ لبلغتِ الأرض قبل الليلِ، ولو أنَّها أُرْسلتْ من رأسِ السلسلةِ لسارتْ أربعينَ خرِيفا الليلَ والنهارَ قبل أن تبلغَ أصولَها" غريبٌ، وفي رفعِهِ نظر، واللَّه أعلم. وفي حديثِ عدي الكندي عن عمرَ أن جبريلَ قال للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: "لو أن حلقةً من سلسلة أهلِ النارِ التي نعتَ اللَّهُ في كتابِهِ وُضِعَتْ على جبالِ الدنيا لانقضتْ ولم يردَّها شيء حتى تنتهي إلى الأرضِ السابعةِ السفلى" خرَّجه الطبرانيُّ، وسبق الكلامُ على إسنادِهِ. وروى سفيانُ عن بشيرٍ عن نوف الشامي في قولِهِ تعالى: (ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فاسْلُكُوهُ) قال: إن الذراعَ سبعونَ باغا، والباعُ

من هاهُنا إلى مكة! - وهو يومئذ بالكوفةِ. وقال ابنُ المباركِ: أنبأنا بكَارُ عن عبدِ اللَّه سمعَ ابنَ أبي مليكةَ يحدِّثُ أنَّ كعبًا قال: إنَّ حلقة من السلسلة التي قال اللَّهُ: (ذَرْغهَا سَبْعونَ ذِرَاعًا) إن حلقةً منها أكثرُ من حديدِ الدُّنيا. وقال ابنُ جريج في قولِهِ: (ذَرْعُهَا سبْعُونَ ذِرَاعًا) قال: بذراع الملكِ. وقال ابنُ المنكدرِ: لو جُمعَ حديدُ الدنيا كلُّه ما خلا منها وما بقي ما عدلَ حلقةً من الحلقِ التي ذكرَ اللَّهُ في كتابِهِ تعالى فقال: (فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا) . خرَّجَه أبو نُعيمٍ. قال ابنُ المباركِ عن سفيانَ في قوله: (فَاسْلُكُوهُ) قال: بلَغنا أنها تدخلُ في دبر حتى تخرج منه. وقال ابنُ جريج: قال ابنُ عباس: السلسلةُ تدخلُ في إستِهِ ثمَ تخرجُ من فِيه، ثم يُنظمونَ فيها كما ينظمُ الجرَّاَدُ في العودِ حتَّى يُشْوَى. خرَّجه ابنُ أبي حاتم. وخرَّجَه أيضًا من روايةِ العوفيِّ عن ابن عباسٍ. قال: تسلكُ في دُبُر حتَى تخرج من منخريهِ حتى لا يقوم على رجليه. وخرَّج ابنُ أبي الدنيا من طريقِ خلفِ بنِ خليفةَ عن أبي هاشم قال: يجعلُ لهم أوتادٌ في جهنَّم فيها سلاسل فتلقَى في أعناقِهِم، فتزفرُ جهنَّمُ زفرةً فتذهبُ بهم مسيرة خَمسمائة سنة، ثم تجيءُ بهم في يوم، فذلك قوله: (وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (47) . ومن طريقِ أشعثَ عن جعفر عن سعيدِ بنِ جبير، قال: لو انفلتَ رجلٌ من أهلِ النارِ بسلسلةٍ لزالت الجبالُ.

وقال جويبرٌ عن الضحاكِ في قوله: (فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالأَقْدَامِ) قال: يجمعُ بين ناصيتِهِ وقدميهِ في سلسلةٍ من وراء ظهرهِ. وقال السديُّ في هذه الآيةِ: يجمعُ بين ناصيةِ الكافرِ وقدميهِ، فتربطُ ناصيتُهُ بقدمِهِ وظهره ويفتلُ. وذكر الأعمشُ عن مجاهدٍ عن ابنِ عباسٍ، قال: يؤخذَ بناصيتِه وقدميه ويكسر ظهرُهُ، كما يكسرُ الحطبُ في التنورِ. وقال سيارُ بنُ حاتمٍ: حدثنا مسكينُ عن حوشبٍ عن الحن، قال: إنَّ جهنمَ ليَغلي عليها من الدهرِ إلى يومِ القيامةِ يُحمى طعامُها وشرابُها وأغلالُها، ولو أن غلاًّ منها وُضِعَ على الجبالِ لقصَمَهَا إلى الماء الأسودِ، ولو أنَّ ذراعًا من السلسلةِ وضعَ على جبل لرضَّه، ولو أنَّ جبلاً كان بينه وبين عذابِ اللَّه عزَّ وجلَّ مسيرةَ خمسمائة عامٍ لذابَ ذلك الجبلُ، وإنَّهم ليُجمعونَ في السلسلةِ من آخرِهِم فتأكلُهُم النارُ وتبقى الأرواحُ. ورواه ابنُ أبي الدنيا عن عبدِ اللَّه بن عمرَ الجشميّ، عن المنهال بن عيسى العبديِّ، عن حوشبٍ، عن الحسنِ، عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - فذكرَهُ بمعناه، وزادَ في آخره: "تبقى الأرواحُ في الحناجِرِ تصرخُ " والموقوفُ أشبهُ. وقال عبدُ اللَّه بنُ الإمامِ أحمدَ: أخبرت عن سيَّارِ عن ابنِ المعزِّي - وكان من خيارِ الناسِ. قال: بلغني أنَّ الأبدانَ تذهبُ وتبقى الأرواحُ في السلاسلِ. وخرَّج الطبرانيُّ وابنُ أبي حاتم من طريقِ منصورِ بنِ عمار، حدثنا بشيرُ ابنُ طلحةَ، عن خالدِ بن الدريكِ، عن يعْلَى بنِ منيةَ رفعَ الحديثَ إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -

قوله تعالى: (متكئين فيها على الأرائك لا يرون فيها شمسا ولا زمهريرا (13)

قال: "ينشئُ اللَّهُ سبحانه لأهلِ النارِ سحابةً سوداءَ مظلمة، فيقالُ: يا أهلَ النارِ، أيَّ شيءٍ تطلبون؟ فيذكرون بها سحابة الدنيا، فيقولون: يا ربَّنا الشرابُ، فتمطرُهم أغلالاً تزيدُ في أغلالهم، وسلاسلَ تزيدُ في سلاسلهم، وجمرًا يلتهبُ عليهم". وخرَّجه ابنُ أبي الدنيا موقوفًا لم يرفعْهُ. ورَوى أبو جعفر الرازيُّ عن الربيع بنِ أنسٍ عن أبي العاليةَ وغيرُه عن أبي هريرة، فذكرَ قصةَ الإسرإء بطولها وفيها قال: "ثم أتى على وادٍ - يعني النبي - صلى الله عليه وسلم - - فسمعَ صوتا منكرًا ووجدَ ريحًا منتنةً، فقال: ما هذا يا جبريلُ؟ " فقال: هذا صوتُ جهنَّم تقولُ: ربِّ آتني ما وعدتني، فقدْ كثُرَتْ سلاسلي وأغلالي وسعيري وحميمي وغساقي وعذابي، وقد برد قعري واشتدَّ حرِّي فآتني ما وعدتني، قال: لكِ كلُّ مشرك ومشركة، وكافر وكافرة، وكل خبيث وخبيثة وكل جبار لا يؤمن بيوم الحسابِ ". * * * قوله تعالى: (مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا (13) قال بعضُ السلفِ: إنَّ اللَّه تعالى وصفَ الجنَّة بصفةِ الصَّيفِ لا بصفةِ الشتاءِ، فقال تعالى: (فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ (28) وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ (29) وَظِلٍّ مَمْدُودٍ (30) وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ (31) وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ (32) . وقد قال اللَهُ تعالى في صفةِ أهل الجنة: (مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا (13) . فنفَى عنهم شدة الحرِّ والبرْدِ. قال قتادةُ: علِمَ اللَّهُ أنَّ شدَّةَ الحرِّ

تؤذي، وشدة البردِ تؤذي، فوقاهم أذاهما جميعًا. * * * جاء في حديث مرفوعٍ: "إنَّ زمهريرَ جهنَّمَ بيت يتميزُ فيه الكافرُ من بردِهِ " يعني: يتقطع ويتمزعُ. ورَوى ابنُ أبي الدنيا من طريقِ الأعمشِ عن مجاهدٍ، قال: إنَّ في النارِ لزمهريرًا يغلونَ فيه فيهربون منها إلى ذلك الزمهريرِ، فإذا وقعوا فيه حطمَ عظامَهم حتى يُسمعَ لها نقيضٌ. وعن ليثٍ عن مجاهدٍ، قالَ: الزمهريرُ الذي لا يستطيعون أن يذوقُوه من بردِهِ. وعن قابوسِ بنِ أبي ظبيانَ عن أبيه، عن ابنِ عباسٍ، قال: يستغيثُ أهلُ النارِ من الحرِّ فيغوثونَ بريح بارده يصدعُ العظامَ بردُها فيسألون الحر. وعن عبدِ اللهِ بنِ عميرٍ، قالَ: بلغني أنَّ أهلَ النارِ يسألون خازنَها أن يخرجَهُم إلى جانبِهَا، فيخرجُهم فيقتلَهُم البردُ والزمهريرُ حتى يرجعُوا إليها فيدخلوها مما وجدوا من البردِ. وروى أبو نُعيمٍ بإسنادِهِ عن ابنِ عباسٍ أنَّ كعبًا قال: إنَّ في جهنَم بردًا هو الزمهريرُ يسقطُ اللحمَ حتى يستغيثُوا بحرِّ جهنَّمَ. ورُويَ عن ابنِ مسعودٍ قال: الزمهريرُ: لونٌ من العذابِ. وعن عكرمةَ، قال: هو البردُ الشديدُ.

ورُويَ عن زبيدٍ الياميِّ أنه قامَ ليلةً للتهجدِ فعمدَ إلى مطهرةٍ له قد كان يتوضأ فيها، فغسلَ يده ثم أدخلها في المطهرةِ، فوجدَ الماءَ الذي فيها باردًا بردًا شديدًا، قد كاد أن يجمد، فذكرَ الزمهريرَ ويدَه في المطهرةِ، فلم يخرجْ يدَهُ من المطهرةِ حتى أصبحَ فجاءتْهُ الجاريةُ وهو على تلكِ الحالِ، فقالتْ: ما شأنُكَ يا سيِّدِي لم تصلِّ الليلةَ كما كنتَ تصلِّي، قال: ويحكِ إني أدخلتُ يدي في هذه المطهرةِ فاشتدَّ عليَّ بردُ الماءِ فذكرتُ به الزمهريرَ، فواللَّهِ ما شعرتُ بشدةِ بردِهِ حتَى وقفتِ عليَّ، انظري لا تخبري بهذا أحدًا ما دمتُ حيًّا، فما علمَ بذلك أحدٌ حتى مات رحمه اللَّه. * * *

سورة المرسلات

سُورَةُ المُرْسَلاتِ قولِهٍ تعالى: (أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا (25) أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا (26) أي: نكفتُهم ونضمُّهم ونجمعُهم وهمْ أحياءٌ على ظهرِها، وإذا ماتُوا ففي بطنِها. * * *

سورة النبأ

سُورَةُ النَّبَأ قوله تعالى: (لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا (24) إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا (25) جَزَاءً وِفَاقًا (26) وروي عن ابنِ عباسٍ، قالَ: يستغيثُ أهلُ النارِ من الحَرّ فيُغاثون بريح باردةٍ يُصَدعُّ العِظامَ بَرْدُها، فيسألون الحَرَّ. وعن مجاهدٍ، قال: يهربون إلى الزمهريرِ، فإذا وقعُوا فيه حطَّمَ عِظامهم حتى يُسمع لها نَقيضٌ. وعن كعْبٍ، قال: إنَّ في جهنَّم بردًا هو الزمهريرُ، يُسقِطُ اللحمَ حتى يستغيثوا بِحَرِّ جهنم. وعن عبدِ الملكِ بنِ عُميرٍ، قال: بلغني أنَّ أهلَ النارِ سألوا خازنَها أن يخرجَهُم إلى جانبها فأُخرِجوا فقتلَهُم البَرْدُ والزمهريرُ، حتى رجعُوا إليها فدخلُوها ممَّا وجدُوا من البَرْدِ، وقد قال الله عزَّ وجلَّ: (لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا (24) إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا (25) جَزَاءً وِفَاقًا (26) . وقال اللَّه تعالى: (هَذَا فَلْيَذوقوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ) . قال ابنُ عباسٍ: الغسَّاقُ: الزَّمْهريرُ البارِدُ الذي يُحرِقُ من بَرْدهِ. وقال مجاهدٌ: هو الذي لا يستطيعون أن يذوقوه من بردِهِ. وقيلَ: إن الغسَّاَقَ الباردُ المنتن؛ أجارنا اللَهُ تعالى من جهنَّم بفضلِهِ وكرمِهِ.

اعلم أن تفاوتَ أهلِ النارِ في العذاب هو بحسبِ تفاوتِ أعمالِهِم التي دخلُوا بها النارَ، كما قال تعالى: (وَلِكَلٍّ دَرَجَاتٌ ممَا عَمِلُوا) . وقال تعالى: (جَزَاءً وِفَاقًا) ، قال ابنُ عباسٍ: وافقَ أعمالَهُم، - فليسَ عقابُ من تغلظ كفرُهُ وأفسدَ في الأرضِ ودعا إلى الكفرِ كمن ليس كذلك. قال تعالى: (الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ (88) . وقال تعالى: (وَيَوْمَ تَفوم السَّاعَة أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشدَّ الْعَذَابِ) .. وكذلك تفاوتُ عذابِ عصاةِ الموحدينَ في النارِ بحسبِ أعمالِهِم، فليس عقوبةُ أهلِ الكبائرِ كعقوبةِ أصحابِ الصغائرِ، وقد يخفف عن بعضِهِم العذابُ بحسناتٍ أُخرَ له أو بما شاءَ اللَّهُ من الأسبابِ، ولهذا يموتُ بعضُهم في النارِ، كما سيأتي ذكرُهُ فيما بعدُ، إن شاء الله تعالى. وأما الكفار إذا كانَ لهم حسنات في الدنيا من العدلِ والإحسانِ إلى الخلقِ فهل يخففُ عنهم بذلكَ من العذابِ في النارِ أم لا؟ هذا فيه قولان للسلفِ وغيرِهم: أحدُهُما: أنه يخففُ عنهم بذلك أيضًا، ورَوى ابنُ لهيعةَ عن عطاءِ بنِ دينار عن سعيدِ بن جبيرٍ معنى محذا القولِ، واختارَهُ ابنُ جرير الطبريُّ وغيرُهُ. وروى الأسودُ بنُ شيبانَ عن أبي نوفل قال: قالتْ عائشةُ: يا رسول الله أينَ عبدُ اللَّهِ بنُ جدعان؟ قال: "في النارِ" فجزعتْ عائشةُ واشتدَّ عليها، فلمَّا رأى رسولُ اللَّه - صلى الله عليه وسلم - ذلك قال: "يا عائشةُ ما يشتدُّ عليك من هذا؟ " قالت: بأبي أنتَ وأمِّي يا رسولَ اللَّه، إنه كان يطعمُ الطعامَ ويصلُ الرَّحمَ، قال: "إنه يهونُ

عليه بما قلتِ " خرَّجه الخرائطيُّ في كتابِ "مكارمِ الأخلاقِ " وهو مرسلٌ. وروى عامرُ بنُ مدركٍ الحارثيُّ عن عتبةَ بنِ اليقظانَ عن قيسِ بنِ مسلم. عن طارقِ بنِ شهابٍ، عن عبد اللَّه بنِ مسعودٍ قال: قالَ رسولُ اللَّه - صلى الله عليه وسلم -: "ما أحسنَ من محسنٍ كافرٍ أو مسلمٍ، إلا أثابَهُ اللَّه عزَّ وجلَّ في عاجلِ الدنيا أو ادخرَ له في الآخرةِ" قلنا: يا رسول اللَّه، ما إثابَةُ الكافرِ في الدنيا؟ قال: "إن كان قد وصلَ رحمًا أو تصدَّقَ بصدقة أو عملَ حسنةً أثابَهُ اللَّه المالَ والولدَ والصِّحة وأشباهَ ذلك " قلنا: فما إثابةُ الكافرِ في الآخرةِ، قال: "عذابًا دونَ العذابِ " ثم تلا: (أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ) . خرَّجه ابنُ أبي حاتمٍ، والخرائطيُّ والبزارُ في "مسندِهِ" والحاكمُ في "المستدرك" وقالَ: صحيح الإسنادِ، وخرَّجهُ البيهقيُّ في كتابِ "البعث والنشور" وقال: في إسناده نظر انتهى، وعتبةُ بنُ يقظانَ تكلَّم فيه بعضُهُم. وقد سبقتِ الأحاديثُ في تخفيف العذابِ عن أبي طالب بإحسانِهِ إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -. وخرَّج الطبرانيُّ بإسنادٍ ضعيفٍ عن أمِّ سلمة أنَّ الحارثَ بن هشامٍ أتى النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يومَ حجةِ الوداع: فقال: إنَّكَ تحثُّ على صل الرحم، والإحسانِ وإيواءِ اليتيم وإطعامِ الضعيفِ والمسكينِ، وكل هذا كان يفعلُه هشامُ ابنُ المغيرة، فما ظنُّك به يا رسول اللَّه؟ قال: "كلُّ قبرٍ لايشهدُ صاحبُه أن لا إله إلا اللَّه فهو حفرة من حفر النارِ، وقد وجدتُ عمِّي أبا طالبٍ في طمطامٍ من النارِ. فأخرَّجَه الله بمكانِهِ منِّي وإحسانِهِ إليَّ فجعله في ضحضاحٍ من النارِ". والقولُ الثاني: أن الكافرَ لا ينتفعُ في الآخرةِ بشيء من الحسناتِ بحالٍ،

ومن حجةِ أهلِ هذا القولِ قولُهُ تعالى: (وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً منثورًا) . وقولُهُ تعالى: (مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ) . ونحوُ هذه الآياتِ. وفي "صحيح مسلم " عن أنس عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنَّ اللَّه لا يظلم مؤمنًا حسنةً يعطَى بها في الدنيا وبجزى بها في الآخرةِ، وأمَّا الكافرُ فيطعَمُ بحسنات ما عملَ بها للهِ في الدُّنيا حتى إذا أفضَى إلى الآخرةِ لم تكنْ له حسنةٌ يُجزى بِهَا". وفي روايةٍ له أيضًا: "إنَّ الكافرَ إذا عملَ حسنةً أطعمَ بها طعمةً في الدنيا، وأما المؤمن فإنَّ اللَّه يدخرُ له حسناتِه في الآخرةِ، وبعقبُ له رزقًا في الدنيا على طاعتِهِ ". * * *

سورة التكوير

سُورَةُ التَّكْويرِ قوله تعالى: (وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ (6) روى الإمامُ أحمد بإسنادٍ فيه نظرٌ عن يَعْلى بن أميّةَ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "البحرُ هو جهنَّمُ " فقالُوا ليَعْلى، قال: ألا ترون أنَّ اللَّهَ عزَّ وجلَّ يقول: (نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سرَادِقُهَا) ، والذي نفسُ يعْلى بيده لا أدخلُها أبدًا حتى أُعرَضَ على اللَّهِ عزَّ وجلَّ، ولا يصيبُني منها قطرةٌ حتَّى ألقى اللَّهَ عزَّ وجلَّ. وهذا إن ثبتَ فالمرادُ به أن البحارَ تفجرُ يومَ القيامةِ فتصيرُ بحرًا واحدًا، ثم تسجرُ ويوقدُ عليها فتصيرُ نارًا وتزاد في نارِ جهنَّم. وقد فسَّر غيرُ واحد من السلفِ قولَه تعالى: (وَإِذَا الْبِحَارُ سجِّرَتْ) بنحوِ هذا. وروى المباركُ بنُ فضالةَ عن كثيرٍ أبي محمدٍ عن ابنِ عباسٍ، قال: تسجرُ حتى تصير نارًا. وروى مجاهدٌ عن شيخ من بجيلةَ عن ابنِ عباسٍ (وِإذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ) قال: تكورُ الشمسُ والقمرُ والنجومُ في البحرِ فيبعثُ اللَّهُ عليها ريحًا دبورًا فتنفخه حتى يرجعَ نارًا. خرَّجه ابنُ أبي الدنيا وابنُ أبي حاتمٍ. وخرَّج ابنُ أبي الدنيا وابنُ أبي حاتم أيضًا من طريقِ مجالدٍ، عن الشعبيِّ،

عن ابنِ عباس في قولِهِ تعالى: (وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ) قال: هو هذا البحرُ تنتثرُ الكواكبُ فيه وتكوَّرُ الشمسُ والقمرُ فيكونُ هو جهنَّمُ. ورَوى ابنُ جريرٍ بإسنادِهِ عن سعيدِ بن المسيبِ عن عليئّ أنه قال رجلٌ من اليهودِ: أينَ جهنم؟ قال: البحرُ، قال عليٌّ: ما أراه إلا صادقًا، قال تعالى: (وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ) ، وقال: (وِإذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ) . ورواه آدمُ بنُ أبي إياسٍ في "تفسيره" عن حمادِ بن سلمةَ عن داودَ بنِ أبي هندٍ عن سعيدِ بنِ المسيبِ، قال: قال عليٌّ ليهودي": أين جهنم؟ قال: تحتَ البحر، قالَ عليٌّ: صدق ثم قرأ: (وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ) . وخرَّجه في مواضعَ أُخرَ منه، وفيه ثُمَّ قرأ (وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ) . وخرَّج ابنُ أبي حاتم بإسنادِهِ عن أبي العاليةَ عن أبيِّ بنِ كعب - رضي الله عنه - (وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ) قال: قالتِ الجنُّ للإنسِ: نأتيكُم بالخبرِ، فانطلقُوا إلى البحرِ فإذا هو نارٌ تأججُ. وعن ابنِ لهيعةَ عن أبي قبيلٍ قال: إنَّ البحرَ الأخضرَ هو جهنَّمُ. وروى أبو نُعيمٍ بإسنادِهِ عن كعبٍ في قوله تعالى: (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ) ، قال: تبدلُ السماواتُ فتصيرُ جنانًا، وتبدلُ الأرضُ فيصير مكانَ البحرِ النارُ. وقد سبق عن ابنِ عباسٍ أنه قال: النارُ سبعةُ أبحرٍ مطبقةٌ. وروى عن عبد اللَّه بن عمرٍو - رضي الله عنهما - أنه قال: لا يتوضأ بماءِ البحر لأنه طبقُ جهنَّمَ. وكذا قال سعيدُ بنُ أبي الحسنِ أخو البصريّ: البحرُ طبقُ جهنَمَ.

وفي "سننِ أبي داود" عن عبدِ اللَّهِ بنِ عمرٍو - رضي الله عنهما - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يركبُ البحرَ إلا حاجٌّ أو معتمرٌ أو غازٍ في سبيلِ الله، فإنَّ تحت البحرِ نارًا وتحتَ النارِ بحرًا ". وخرَّج ابنُ أبي حاتم بإسنادِهِ عن معاويةَ بن سعيدٍ، قال: إنَّ هذا البحرَ - يعني بحر الروم - وسطَ الأرضِ، والأنهارُ كلّها تصبُّ فيه، والبحرُ الكبيرُ يصبُّ فيه، وأسفلُهُ آبارٌ كلها مطبقةٌ بالنحاسِ، فإذا كان يوم القيامةِ أسجرَ. وذكر ابنُ أبي الدنيا عن العباسِ بنِ يزيد البحراني، قال: سمعتُ الوليدَ ابنِ هشامٍ وقلتُ له": عمن أخذتَ هذا؟ قال: عن رجل من أهلِ الكتابِ أسلمَ فحسنَ إسلامُهُ، قال: لمَّا التقم الحوتُ يونسَ عليه السلامُ جالَ به الأبحرَ السبعة، فلمَّا كان آخر ذلك انْتهى به الحوتُ إلى قعرِ البحر، موضعٌ يلَي قعرَ جهنَّمَ، فسبحَ يونسُ في بطنِ الحوتِ، فسمعَ قارونُ تسبيحَهُ وهو في النارِ. وذكرَ بقية الخبر. وروى قيسُ بنُ الربيع عن عبيدِ المكتبِ، عن مجاهدٍ، عن ابنِ عمرَ - رضي الله عنهما - عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - "إنَّ جهنَّم محيطة بالدنيا، وإن الجنةَ مِنَ ورائه، فلذلك كان الصراطُ على جهنّم طريقًا إلى الجنة" غريبٌ منكرٌ. وقد رُوي عن بعضِهم ما يدلُّ على أن النارَ في السماءِ. وروى مجاهدٌ قال في قولهِ تعالى: (وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا توعَدُونَ) قال: الجنةُ والنارُ، وكذا قال جويبرٌ عن الضحاكِ. وروى عاصمٌ عن زرٍّ عن حذيفةَ أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "أوتيتُ بالبراقِ فلم نزايلْ

طرفَه أنا وجبريلُ حتَّى أتينا بيتَ المقدس. وفُتحتْ لنا أبوابُ السماءِ، ورأيتُ الجنةَ والنارَ" خرَّجه الإمامُ أحمدُ وغيرُه " قال في روايةِ المروزيِّ وفي حديثِ حذيفةَ أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "رأيتُ ليلةَ أسري بي الجنةَ والنارَ في السماءِ فقرأتُ هذه الآية: (وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ) فكأنَي لم أقرأها قط " وهو تصديقٌ لما قاله حذيفةُ، نقله عنه الخلالُ في كتابِ "السنة". وهذا اللفظُ الذي احتجَّ به الإمامُ أحمدُ لم نقفْ عليه بعدُ في حديثه وإنَّما رُوىَ عنه ما تقدَّم. ورُوي عن حذيفةَ أنه قال: واللَّهِ ما زال البراقُ حتَّى فُتحتْ لهما أبوابُ السماء ورأيا الجنةَ والنارَ، ووعدَ اللَّهُ الآخرةَ أجمعَ ولم يرفعْهُ، وهذا كلُّه ليسَ بصريح في أنَّه رأى النارَ في السماءِ كما لا يَخْفى. وأيضًا فعلى تقدير صحةِ ذلك اللفظ لا يدلُّ على أنَّ النارَ في السماءِ. وإنما يدلُّ على أنه رآها وهو في السماءِ والميتُ يرى في قبره الجنةَ والنارَ وليستِ الجنةُ في الأرضِ. وقد رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - في صلاةِ الكسوفِ الجنةَ والنارَ وهو في الأرض، وكذلك في بعضِ طرقِ حديثِ الإسراءِ - حديث أبي هريرة - أنَّه مرَّ على أرضِ الجنةِ والنارِ في مسيره إلى بيتِ المقدسِ، ولم يدلَّ شيءٌ من ذلك على أنَّ الجنةَ في الأرض، فحديثُ حذيفةَ إن ثبتَ أنه رأى الجنةَ والنارَ في السماءِ، فالسماءُ ظرفٌ للرؤيةِ لا للمرئيِّ، واللَّه أعلمُ. وفي حديثِ أبي هارون العبديِّ، وهو ضعيفٌ جدًّا عن أبي سعيد،

قوله تعالى: (وإذا الجحيم سعرت (12) وإذا الجنة أزلفت (13) علمت نفس ما أحضرت (14)

الخدريِّ في صفةِ الإسراءِ أنه - صلى الله عليه وسلم - رأى الجنةَ والنارَ فوق السماواتِ، ولو صحَّ لحُمل على ما ذكرناه أيضًا. وقد روى القاضي أبو يعْلى بإسناد جيدٍ عن أبي بكر المروذيِّ أن الإمامَ أحمدَ فسَّر له من القرآن آياب متعددة، فكانَ مما فسَّرهُ له قولهُ تعالى: (وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ) قال: أطباقُ النيران (وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ) ، قال: جهنَّم. وهذا يدلُّ على أن النارَ في الأرضِ، بخلافِ ما رواه الخلاَّلُ عن المروذيِّ. واللَّه أعلم. وأما المرويُّ عن مجاهدٍ، فقد تأوَّلَهُ بعضُهم على أنَّ المرادَ أن أعمالَ الجنةِ والنارِ مقدرة في السماءِ من الخيرِ والشرِّ، وقد صرَحَ بذلك مجاهدٌ في روايةِ أخرى عنه. وقد وردَ في بعضِ طرقِ حديثِ الإسراءِ أنه - صلى الله عليه وسلم - رأى جهنم في طريقِهِ إلى بيتِ المقدسِ، ورُوي عن عبادةَ بنِ الصامتِ أنه وقفَ على سورِ بيت المقدسِ الشرقيِّ يبْكي، وقال: ها هُنا أخبرنا رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أنه رأى جهنَّمَ. * * * قوله تعالى: (وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ (12) وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ (13) عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ (14) قال تعالى: (وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ (12) وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ (13) عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ (14) . وقُرئ (سُعِّرت و (سُعِرَت) بالتشديدِ والتخفيفِ. قال الزجاجُ: المعنى واحدٌ، إلا أنَّ معنى المشددِ أوقدتْ مرةً بعد مرةٍ.

قوله تعالى: (فلا أقسم بالخنس (15)

قال قتادةُ: (وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ) . أوقدتْ، وقال السُّديُّ: أحميتْ، وقال سعيدُ بنُ بشيرٍ عن قتادةَ: يسعرُهَا غضبُ اللَّهِ وخطايا بني آدمَ. خرَّجه ابنُ أبي حاتمٍ. وهذا يقتضى أنَّ تسعيرَ جهنَّم حيثُ سعرتْ إنما سعرتْ بخطايا بني آدمَ التي تقتضي غضبَ اللَّه عليهم، فتزدادُ جهنَم حينئذٍ تلهبًا وتسعُّرًا، وهذا كما أن بناءَ دورِ الجنةِ غرس الأشجارِ يحصلُ بأعمالِ بني آدمَ الصالحةِ من الذىِ وغيرِهِ، وكذلك حُسنُ ما فيها من الزوجاتِ وغيرهنَّ يتزايدُ بتحسبنِ الأعمالِ الصالحةِ، فكذلك جهنَّم تسعرُ وتزدادُ آلاتُ العذابِ فيها بكثرةِ ذنوبِ بني آدم وخطاياهم وغضبِ الربِّ تعالى عليهم. نعوذُ باللَّه من غضبِ اللَّه ومن النارِ وما قرَّب إليها من قولٍ وعملٍ بِمنِّهِ وكرمِهِ. * * * قوله تعالى: (فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (15) انخنستُ: أي: توارَيْتُ، واختفيتُ منه، وتأخَّرتُ عنه، ومنه: الوَسْواسُ الخنَّاسُ، وهو الشيطانُ، إذا غَفَلَ العبدُ عن ذِكْرِ اللَّهِ وَسْوَسَ له، فإذا ذَكَر اللَّه خنَسَ وتأخر. ومنه سُميِّتِ النجومُ خُنَّسًا، قال تعالى: (فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (15) .

وانخِناسُها: رُجُوعُها وتوارِيها تحت ضوء الشَّمسِ. وقيل: اختفاؤها بالنهار. * * *

سورة الانفطار

سُورَةُ الانْفِطَارِ قوله تعالى: (فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ (8) وقولُهُ @ك@ي@ا: "إن خلقَ أحدِكُم يُجمعُ في بطنِ أمِّه أربعينَ يومًا نطفةً" قد رُوي تفسيرُهُ عن ابنِ مسعودٍ. روى الأعمشُ عن خيثَمةَ، عن ابنِ مسعودٍ، قال: إن النطفةَ إذا وقعتْ في الرَّحِمِ، طارتْ في كلِّ شعرٍ وظُفر، فتمكثُ أربعينَ يومًا، ثم تنحدِرُ في الرَّحِمِ فتكونُ علقةً، قال: فذلكَ جمعُها. خرَّجه ابنُ أبي حاتمٍ وغيرُه. ورويَ تفسيرُ الجمع مرفوعًا بمعنى آخرَ، فخرَّج الطبرانيُّ، وابنُ منده في كتابِ "التوحيد" من حديثِ مالكِ بنِ الحويرثِ أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنَّ اللَّه تعالى إذا أرادَ خلقَ عبد، فجامعَ الرجلُ المرأةَ، طارَ ماؤهُ في كل عِرْقٍ وعضو منها، فإذا كان يومُ السابع جمعه اللَّهُ، ثم أحضرَهُ كلَّ عرق له دونَ آدم: (فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ (8) . وقال ابنُ منده: إسنادهُ متصل مشهور على رسم أبي عيسى والنسائي وغيرِهما. وخرَّجَ ابنُ جريرٍ وابنُ أبي حاتم، والطبراني من روايةِ مُطَهَّرِ بنِ الهيثم،

عن موسى بن عليّ بنِ رباح، عن أبيه، عن جدِّه أنَّ النبى - صلى الله عليه وسلم - قال لجدِّه: "يا فلانُ، ما وُلِدَ لك؟ " قال: يا رسولَ اللَّه، وما عَسَى أن يولَدَ لي؟ إمَّا غلامٌ وإمَّا جارية، قال: "فمَنْ يشبُه؟ " قال: من عسى أن يشبه؟ يشبه أمَّه أو أباه، قال: فقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "لا تقولن كذا، إن النطفةَ إذا استقرتْ في الرحِمِ، أحضرها الله كل نسبٍ بينها وبين آدمَ، أما قرأت هذه الآيةَ: (فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ) . قال: "سلكك " وهذا إسناد ضعيفٌ. ومطهرُ بنُ الهيثم ضعيص جدا، وقال البخاريُّ: هو حديثٌ لم يصح. وذكر بإسنادِهِ عن موسى بن علي عن أبيه أن أباهُ لم يُسلِم إلا في عهدِ أبي بكرٍ الصدِّيقِ يعني: أنه لا صحبةَ له. ويشهدُ لهذا المعنى قول النبى - صلى الله عليه وسلم - للذي قال له: ولَدتِ امرأتي غُلامًا أسودَ: "لعله نزعه عرقٌ ". * * *

سورة المطففين

سُورَةُ المُطَفِّفينَ قوله تعالى (كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (7) روى عطيةُ عن ابنِ عباسٍ، قال: الجنةُ في السماء السابعةِ، ويجعلُها اللهُ حيثُ يشاءُ يومَ القيامةِ، وجهنَّم في الأرضِ السابعةِ. خرَّجه أبو نُعيمٍ. وخرَّج ابنُ منده من حديثِ أبي يحيى القتاتِ عن مجاهد، قال: قلتُ لابنِ عباسٍ: أين الجنَّةُ؟ قال: فوقَ سبع سماوات، قلتُ: فأين النارُ؟ قال: تحتَ سبع أبحرٍ مطبقةٍ. وروى البيهقيُّ بإسنادِ فيه ضعف عن أبي الزعراءَ عن ابنِ مسعودٍ، قال: الجنَّة في السماءِ السابعةِ العُليا، والنارُ في الأرضِ السابعةِ السفلَى، ثمَّ قرأ: (إِن كِتَابَ الأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ) و (إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ) . وخرَّجه ابنُ منده وعنده: "فإذا كان يومُ القيامةِ جعلَها اللَهُ حيثُ شاءَ". وقال محمدُ بنُ عبد الله بن أبي يعقوبَ، عن بشرِ بنِ شغافٍ، عن عبدِ اللَّهِ بنِ سلامٍ، قال: إن الجنًّةَ في السماءِ، وإن النارَ في الأرضِ. خرَّجه ابنُ خزيمةَ وابنُ أبي الدنيا. ورَوى ابنُ أبي الدنيا بإسنادِهِ، عن قتادة، قال: كانُوا يقولونَ: إنَّ الجنَّةَ في السمواتِ السبع، وإنَّ جهنَّم لفي الأرضينَ السبع. وروى ورقاءُ عن ابنِ أبي نجيح عن مجاهد:

(وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا توعَدُونَ) . قال: الجنةُ في السماءِ، وقد استدلَّ بعضُهم لهذا بأنَّ اللَّهَ تعالى أخبرَ أنَّ الكفارَ يُعرضونَ على النارِ غدوًّا وعشيًّا - يعني في مدةِ البرزخ - وأخبر أنه لا تُفتَّح لهم أبوابُ السماءِ، فدلَّ على أنَّ النارَ في الأرضِ، وقال تعالى: (كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (7) . وفي حديثِ البراء بنِ عازبٍ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في صفةِ قبضِ الروح، قال في روح الكافرِ: "حتَّى ينتهُوا بها إلى السماءِ الدنيا فيستفتحونَ فلا يُفتحُ له " ثم قرأ رسولُ اللَّه - صلى الله عليه وسلم - ّ: (لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ) . قال: "يقولُ الله تعالى: اكتُبُوا كتابَه في سجين في الأرضِ السُّفلى" قال: "فتُطرحُ روحُه طرحًا". خرَّجه الإمامُ أحمدُ وغيرُه. وعن أبي هريرة عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في صفةِ قبضِ الروح وقال في روح الكافرِ: "فتخرجُ كأنتنِ ريح جيفةٍ، فينطلقونَ به إلى بابِ الأرضِ فيقولونَ. ما أنتنُ هذه الريحَ، كلما أتَوا على أرضٍ قالُوا ذلكَ، حتى يأتُوا به إلى أرواح الكفار". خرَّجه ابنُ حبانَ والحاكمُ وغيرُهما. وقال عبدُ اللَّهِ بنُ عمرِو بنِ العاصِ في: أرواحُ الكفارِ في الأرضِ السابعةِ. * * *

قوله تعالى: (كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون (14) كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون (15) ثم إنهم لصالو الجحيم (16)

قوله تعالى: (كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14) كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ (16) ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (17) وأعظمُ عذابِ أهلِ النارِ حجابُهم عن اللَّه عزَّ وجلَّ، وإبعادُهم عنه. وإعراضُه عنهم، وسخطُه عليهم، كما أنَّ رضوانَ اللَّه على أهلِ الجنةِ أفضلُ من كلِّ نعيم الجنة، وتجليه لهم ورؤيتهم إيَّاهُ أعظمُ من جميع أنواع نعيم الجنةِ، قال اللَّه تعالى: (كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14) كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ (16) ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (17) . فدْكر اللَّهُ تعالى ثلاثةَ أنواعٍ من العذابِ: حجابُهم عنه، ثم صليهم الجحيمَ، ثم توبيخُهم بتكذيبِهِم به في الدنيا. ووصفَهُم بالرانِ على قلوبِهِم، وهو صدأُ الذنوب الذي سوَّد قلوبَهُم، فلم يصلْ إليها بعدَ ذلك في الدنيا شيءٌ من معرفةِ اللًّهِ ولا منْ إجلالِهِ ومهابتِهِ وخشيتِهِ ومحبتِهِ، فكما حجبتْ قلوبُهم في الدنيا عن اللَّهِ حجبوا في الآخرةِ عن رؤيتِهِ، وهذا بخلافِ حالِ أهلِ الجنةِ. قال اللَّه تعالى: (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ) ، والذي أحسنوا هم أهلُ الإحسانِ، والإحسانُ أن يعبدَ العبدُ ربَّهُ كانّه يراهُ، كما فسَّره النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - لما سأله عنه جبريلُ عليه السلام، فجعلَ جزاء الإحسانِ الحسنى: وهو الجنَّةُ، والزيادةُ: وهي النظرُ إلى وجهِ اللَّه عزَّ وجلَّ، كما فسَّرهُ بذلك رسولُ اللَّه - صلى الله عليه وسلم - في حديثِ صهيبٍ وغيرِهِ.

قال جعفرُ بنُ سليمانَ: سمعتُ أبا عمرانَ الجونيَّ قال: إنَّ اللَّه لم ينظرْ إلى إنسانٍ قطُّ إلا رحِمَهُ، ولو نظرَ إلى أهلِ النارِ لرحمَهُم، ولكن قضَى أن لا ينظرَ إليهم. وقال أحمدُ بنُ أبي الحواريِّ: حدثنا أحمدُ بنُ موسى عن أبي مريم، قال: يقول أهلُ النارِ: إلهَنا ارضَ عنَّا وعذبْنا بأيِّ نوعٍ شئتَ من عذابِكَ، فإن غضبَك أشدُّ علينا من العذابِ الذي نحنُ فيه، قال أحمدُ: فحدثتُ سليمانَ ابنَ أبي سليمانَ، فقال: ليس هذا كلامُ أهلِ النارِ، هذا كلامُ المطيعينَ للَّه. قال: فحدثتُ به أبا سليمانَ، فقالَ: صدق سليمانُ بنُ أبي سليمانَ - وسليمانُ وهو ولدُ أبي سليمانَ الدرانى، وكان عارفًا كبيرَ القدرِ رحمه اللَّهُ - وما قاله حقّ، فإنَّ أهلَ النارِ جهالٌ لا يتفطنونَ لهذا، وإن كان في نفسِهِ حقًّا، وإنَّما يعرفُ هذا مَنْ عرفَ اللَّهَ وأطاعَهُ، ولعل هذا يصدرُ من بعضِ من يدخلُ النارَ من عصاةِ الموحدينَ، كما أن بعضَهُم يستغيثُ باللَّهِ لا يستغيثُ بغيره، فيخرجُ منها، وبعضُهم يخرجُ منها برجائِهِ للَّه وحدَهُ، وبعضُ من يؤمرُ به إلى النارِ يتشفع إلى اللَّه بمعرفتِهِ فينجيهِ منها. قال أبو العباس بنِ مسروقٍ: سمعتُ سويدَ بنَ سعيد يقولُ: سمعتُ الفضيلَ بنَ عياضٍ، يقول: يوقفُ رجل بين يدي اللَّهِ عزَّ وجلَّ، لا يكونُ معه حسنة، فيقول اللَّهُ عزَّ وجلَّ: اذهبْ هل تعرفُ أحدًا من الصالحينَ أغفرُ لكَ بمعرفتهِ، فيذهبُ فيدورُ مقدارَ ثلاثين سنة فلا يرى أحدًا يعرفُهُ، فيرجعُ إلى اللَّه عزَّ وجلَّ، فيقولُ: يا ربِّ لا أرى أحدًا، فيقولُ اللَّه عزَّ وجلَّ: اذهبُوا به إلى النارِ، فتتعلقُ به الزبانيةُ يجرُّونه، فيقول: يا ربِّ إن كنتَ تغفر لي بمعرفة المخلوقينَ فإني بوحدانيتِكَ أنت أحقُّ أن تغفرَ لي، فيقولُ اللَّه - عز وجل -

للزبانية: ردُّوا عارفي لأنه يعرفني واخلعُوا عليه خلعَ كرامتي، ودعَوه يتبحبح في رياضِ الجنَّةِ، فإنه عارفٌ بي وأنا له معروف. * * * قالَ الله تعالى لمحي حقِّ الفجارِ: (كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14) كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ (16) ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (17) . فوصفَهُم بأنَّ كسبَهُم رانَ على قلوبِهِم، والرانُ هو ما يعلُو على القلبِ من الذنوبِ من ظلمةِ المعاصي وقسوتِها، ثمَّ ذكرَ جزاءَهُم على ذلكَ وهو ثلاثةُ أنواع: الحجابُ عن ربِّهم، ثم صَلْيُ الجحيمِ، ثم التوبيخُ. فأعظم عذاب أهلِ النارِ حجابُهم عن ربِّهم عزَّ وجلَّ، ولمَّا كانتْ قلوبُهم في الدنيا مظلمة قاسيةٌ لا يصلُ إليها شيءٌ من نورِ الإيمانِ وحقائقُ العرفانِ كان جزاؤهم على ذلكَ في الآخرةِ حجابَهم عن رؤية الرحمنِ. قالَ بعضُ العارفين: " من عرفَ اللَّهَ في الدنيا، عرِفَهُ بقدرِ تعرُّفِهِ إليه. وتجلَّى له في الآخرةِ بقدرِ معرفتِهِ إياه في الدُّنيا فرأوه في الدنيا رؤيةَ الأسرارِ. ورأَوه في الآخرةِ رؤيةَ الأبصارِ، فمنْ لا يراهُ في الدنيا بسرهِ لسرهِ، لا يراهُ في الآخرةِ بعينه " انتهى. فخوفُ العارفينَ في الدنيا من احتجابِهِ عن بصائرِهِم، وفي الآخرةِ من احتجابهم عن أبصارِهِم ونواظرِهِم. وكتبَ الأوزاعيُّ إلى أخ له: "أما بعد: فإنَّه قدْ أحيطَ بك من كل جانبٍ،

واعلمْ أنّه يسَارُ بك في كلِّ يومٍ وليلةٍ، فاحذرِ اللَّهَ والمقامَ بين يديه، وأن يكونَ آخرَ عهدكَ به السلامُ ". وكان عتبةُ الغلامُ يبكي بالليلِ ويقولُ: "قطعَ ذكرُ العرضِ على اللَّهِ أوصالَ المحبينَ " ثم يحشرجُ البكاء حشرجةَ الموتِ ويقولُ: "تراك مولاي تعذِّبُ محبَّك وأنتَ الحيُّ الكريمُ " وباتَ ليلةً بالساحل قائِمًا يردِّدُ هذه الكلماتِ لا يزيدُ عليها ويبْكي حتى أصبح: "إن تعذِّبْني فإنِّى محبٌّ لك، وإن ترحمْني فإني محبٌّ لك ". وكان كهمسُ يقولُ فى الليلِ: "أتراكَ تعذِّبنى وأنت قرةُ عينى يا حبيبَ قلبَاه ". وكان أبو سليمانَ يبْكي ويقولُ: "لئنْ طالبني بذنوبى لأطالبنَّهُ بعفوه، ولئنْ طالبَني ببخلي لأطالبنَّه بجودِهِ، ولئنْ أدخلني النارَ، لأخبرنَّ أهلَ النارِ أنَّى كنت أحبُّه ". ومما يخافُه العارفونَ فواتَ الرِّضا عنهم، وإن وجَدُوا العفوَ أو تركَ العقوبةِ، فإنَّ الرّضا أحبُّ إليهم من نعيم الجنةِ كلِّه مع الإعراضِ وعدمِ التقريبِ والزُّلفى، وقد قال سبحانه وتعالى: (وَمَسَاكنَ طَيبَةً فِى جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكبَرُ) يعني: أكبرَ من نعيم الجنةِ. وفي "الصحيح " عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنَّ اللهَ يقولُ لأهلِ الجنةِ: ألا أُعْطِيكُمْ أفْضَلَ من ذلكَ؟ قالوا: وما أفْضَلُ من ذلك؟ قال: أُحل عليكمْ رضْواني فلا أسْخطُ عليكم بعدَه أبدًا ". * * *

قوله تعالى: (ختامه مسك)

قوله تعالى: (خِتَامُهُ مِسْكٌ) وقد قيل في تاويل قولِهِ تعالى: (خِتَامُهُ مِسْكٌ) . إنَّ المُرادَ بالختامِ ما يَبْقى، في سُفْلِ الشرابِ منَ الثُّفْلِ، وهذا يدلُّ على أنَّ أنهارَها تجْرِي على المسْكِ، ولذلك يرسُبُ منه في الإناءِ في آخرِ الشَّرابِ، كما يرسُبُ الطيْنُ في آنيةِ الماءِ في الدُنيا. * * *

سورة البروج

سُورَةُ البُرُوجِ قوله تعالى: (وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ (3) يوم عرفة له فضائل متعددة: منها: أنه قد قيلَ: إنَّه الشَّفع الذي أقسَمَ اللَّه به في كتابِهِ، وأنَّ الوتْرَ يومُ النَّحْرِ، وقد رُوي هذا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من حديثِ جابرِ، خرَّجَهُ الإمامُ أحمد والنسائيُّ في "تفسيره" وقيل: إنَّه الشاهدُ الذي أقسمَ اللَّهُ به، في كتابِهِ، فقال تعالى: (وَشَاهِد وَمَشْهُود) وفي "المسندِ" عن أبي هريرة مرفوعًا وموقوفًا: "الشاهدُ يومُ عَرَفةَ، والمشهودُ: يومُ الجُمُعة " وخرَّجه الترمذيُّ مرفوعًا. ورُوي ذلك عن على من قولِهِ. وخرَّجه الطبرانيُّ من حديثِ أبي مالكٍ الأشعريِّ مرفوعًا: "الشاهد: يومُ الجُمُعةِ، والمشهودُ: يومُ عرفَة" وعلى هذا فإذا وقعَ يومُ عرفة في يومِ جُمُعة فقد اجتمع في ذلك اليوم شاهدٌ ومشهودٌ. * * *

قوله تعالى: (وهو الغفور الودود (14)

قوله تعالى: (وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (14) قال عليٌّ بنُ أبي طلحةَ عن ابنِ عباسٍ في قولِهِ تعالى: (الْوَدُودُ) قال: يقولُ: "الحبيبُ ". خرَّجه ابنُ أبي حاتمٍ في "تفسير". وفي حديثِ أبي جعفر الرازيِّ عن الربيع بنِ أثسٍ عن أبي العاليةَ أو غيره عن أبي هريرةَ في قصةِ الإسراءِ الطويلةِ في ذكرِ سدرةِ المنتهى، قال: "فغشاها نورُ الخالقِ وغشيتْها الملائكةُ مثلُ الغربانِ حينَ يقعْنَ على الشجرةِ من حبِّ اللَّهِ جلَ ثناؤهُ ". قال الجوزجانيُّ: حدثنا أبو صالح أنَّ معاويةَ حدَّثه عن يزيد بن ميسرةَ أنه سمعَ أبا الدرداءِ يقولُ: لما أهبطَ اللَّهُ آدمَ إلى الأرضِ قال له: "يا آدمُ أحِبَّني وحبِّبني إلى خلقِي ولا تَسْتَطِيعُ ذلك إلا بي ولكنِّي إذا رأيتُك حريصًا على ذلك أعنتُك عليه، فإذا فعلتَ ذلك فخُذْ به اللذةَ والنضرة وقرةَ العينِ والطمأنينة. قال خليد العصريُّ: "يا إخوتَاهُ، هلْ منكُم من أحدٍ لا يحبُّ أن يلَقى حبيبَه؛ ألا فأحبُّوا ربَّكم عزَّ وجلَّ وسيرُوا إليه سيْرًا جميلاً لا مصعدًا ولا مميلاً". وخرَّج ابنُ أبي الدنيا من طريقِ ابن لهيعةَ حدَّثني عبدُ الحميدِ بنُ عبدِ اللَّهِ ابنِ إبراهيمَ القرشيُّ عن أبيه قالَ: لما نزلَ بالعباسِ بنِ عبدِ المطلبِ الموتُ قال لابنِهِ عبدِ اللَّه: "إنِّي موصيكَ بحبِّ اللَّهِ وحبِّ طاعتِهِ، وخوفِ اللَّهِ وخوفِ معصيتِه، وإنَّك إذا كنتَ كذلك لم تكره الموتَ متى أتاك ". قال أحمدُ بنُ أبي الحواريِّ: حدثنا أبو صالح الخراساني، قال: حدثنا

إسحاقُ بنُ نجيح عن إسماعيلَ الكنديّ قال: جاءَ رجلٌ من البصرةِ إلى طاووسَ ليسمعَ منه فوافاهُ مريضًا فجلسَ عند رأسِهِ يبْكي. فقال: ما يبكيك؟ قال: "واللَّهِ ما أبْكي على قرابة بيني وبينك ولا على دُنيا جئتُ أطلبُها منكَ، ولكنْ على العلم الذي جئتُ أطلبُه منكَ يفوتُني ". قال له طاووسُ: "إنِّي موصيكَ بثلاثِ كلماتٍ إنْ حفظتَهُن علمتَ علمَ الأولينَ، وعلمَ الآخرينَ، وعلمَ ما كانَ، وعلمَ ما يكونُ: خَفِ اللَّهَ حتى لا يكونَ عندكَ شيءٌ أخوفَ منه، وارْجُ اللَّهَ حتى لا يكونَ عندكَ شيءٌ أرجا منه، وأحبَّ اللَّهَ حتى لا يكونَ شيءٌ أحبَّ إليك منه ". فإذا فعلتَ ذلك علمتَ علمَ الأولين والآخرِينَ، وعلمَ ما كانَ وعلمَ ما يكون " فقال: "لا جرم لا سألتُ أحدًا بعدك عن شيءٍ بقيتُ ". وعن إبراهيم بن الأشعثِ قال: "سمعتُ الفضيلَ بنَ عياضٍ يقولُ: مرَّ عيسى عليه السلامُ بثلاثةٍ من الناسِ نحلتْ أجسامُهم وتغيرتْ ألوانُهم، فقال: ما الذي بلغَ بكُم ما أرى؟ قالوا: الخوفُ من النيرانِ. قال: مخلوقًا خِفتُم وحق على اللَّهِ أن يؤمنَ الخائفَ، ثم جاوزَهُم إلى ثلاثةٍ أُخر، فإذا هُم أشدُّ تغيرًا وأنحلُ أجسامًا، فقال: ما الذي بلغَ بكُم ما أري؟ قالوا: الشوقُ إلى الجنَّةِ، قال: مخلوقًا اشتقْتُم وحقٌّ على اللَّهِ أن يعطيكم ما رجوتُم، ثم جاوزَهُم إلى ثلاثةٍ أُخر فإذا هم أشدُّ تغيرًا وأنحل أجسامًا، كأنَّ على وجوهِهِم المرَايا من النور، فقالَ: ما الذي بلغَ بكُم ما أرى؟ قالوا: حبُّ اللَّهِ عزَّ وجلَّ، قال: أنتم المقربونَ، أنتم المقرَّبونَ، أنتُم المقربون ". وروى إبراهيمُ بنُ الجنيدِ بإسنادِهِ عن كعبِ قال: أوحى اللَّهُ إلى موسى

عليه السلام: "إن إبراهيم عليه السلامُ لم يحبَّني أحدٌ من خلقي كحبِّه إياي ". وعن أبي حازمِ القيساريِّ قال: مكتوبٌ في الإنجيلِ: "يا عيسى، الحقُّ والحقَّ أقول: إنَي أحَبُّ إلى عبدِي من نفسِهِ التي بين جنبيه ". وعن ابنِ عيينةَ عن رجلٍ: عن يحيى بن أبي كثير اليمانيّ، قال: نظرْنَا فلم نجدْ شيئًا يتلذذُ به المتلذذون أفضلَ من حبِّ اللَّهِ عزَّ وجلَّ وطلبِ مرضاتِهِ. وعن سعيد بن عامر عن محمدِ بنِ ليث عن بعضِ أصحابهِ قال: كان حكيمُ بنُ حزامِ يطوفُ بالبيتِ ويقول: لا إله إلا الله، نعم الربُّ ونِعْمَ الإلهُ. أحبه وأخشاه. وعن بكرِ المزنيِّ قال: ما فاقَ أبو بكرٍ أصحابَ محمد - صلى الله عليه وسلم - بصومٍ ولا صلاة، ولكنْ بشيءِ وقرَ في قلبِهِ. قال إبراهيمُ: بلغني عن ابنِ عُليَّة أنه قال: في عقيبِ هذا الحديثِ: الذي كان في قلبِهِ الحبُّ للهِ عزَ وجل، والنصيحةُ في خلقِهِ. قال ابنُ أبي الدنيا حدَّثنا هارونُ بن سفيانَ حدَّثنا عبدُ اللَّهِ بن صالح أخبرني بعضُ أهلِ البصرةِ، قال: لمَّا استَقضى سوَّارٌ بالبصرة، كتبَ إليه أخٌ له كان يطلبُ العلمَ معه وكان ببعضِ الثغورِ: "أمَّا بعدُ، أوصيك بتقوى اللهِ الذي جعلَ التقوى عِوَضًا من كلِّ فائتِ منَ الدنيا، ولم يجعلْ شيئًا من الدنيا يكونُ عِوَضًا من التَّقوى، فإنَّ التقوى عقدةُ كل عاقلِ مستبصرٍ، إليها يستروِحُ، وبها يستن، ولم يظفرْ أحد في عاجلِ هذه الدنيا وآجلِ الآخرةِ بمثلِ ما ظفرَ به أولياءُ الله الذين شربُوا بكأس حبِّه، فكانتْ قرةَ أعينهم فيه،

ولكنهم أعملُوا أنفسهم في جسيم الأدبِ وأراضوها رياضةَ الأصحابِ الصادقينَ، فطلَّقُوها عن فضولِ الشهواتِ وألزمُوها القوتَ المقلق، وجعلُوا الجوعَ والعطشَ شِعارًا لها برهةً من الزمان، حتى انقادتْ وأذعنِت وعزفتْ لهم عن فضولِ الحطامِ، فلمَّا ظعنَ حبُّ فضولِ الدنيا من قلوبِهم، وزايلتْها أهواءُهم وانقعطتْ أمانِيهم وصارتِ الآخرةُ نصبَ أعينهم ومنتهى أملِهم. ورَّثَ اللُّه قلوبَهم نورَ الحكمة، وقلَّدها قلائدَ العصمةِ، وجعلَهم دعاةً لمعالم الدين يلمُّون منه الشعثَ، ويشعبون منه الصدعَ. لم يلبثُوا إلا يسيرًا حتَّى جاءهم من اللهِ موعدٌ صادقٌ اختصَّ به العاملينَ له، والعاملينَ به دونَ من سواهم، فإذا سرك أن تسمعَ صفةَ الأبرارِ الأتقياءِ، فصفةُ هؤلاءِ فاستمِعْ، وشمائلَهُم الطيبةَ فاتبعْ، وإياكَ يا سوارُ وبنياتِ الطريقِ والسلامُ ". وخرَّج أبو نُعيمٍ بإسناده عن الربيع بنِ برةَ عن الحسنِ في قولهِ تعالى: (يَا أَيَّتهَا النَّفْسُ الْمطْمَئِنَّة) قال: "النفسُ المؤمنة اطمأنَّتْ إلى اللَّه واطمأنَّ إليها، وأحبَّتْ لقاءَ الله، وأحبَّ لقاءهَا، ورضيتْ عن اللَّهِ ورضي عنها، فأمرَ بقبضِ رُوحِهَا، فغفرَ لها وأدخلها الجنةَ، وجعلها من عباده الصالحين ". وروى ابنُ أبي الدنيا بإسنادِهِ عن مسمع بنِ عاصم عن نعيم بنِ صبيح السعديِّ قال: "هممُ الأبرارِ متصلةٌ بمحبةِ الرحمنِ، وقلوبُهم تنظرُ إلى مواضع العزِّ من الآخرةِ بنورِ أبصارِهم ". وقال مسمعٌ: سمعتُ عابدًا من أهلِ البحرينِ يقول في جوفِ الليل: "قرةَ عيني وسرورَ قلبي، ما الذي أسقطنِي من عينِكَ يا مانحَ العصم، ثم صرخَ وبكى، ثمَّ نادَى: طوبى لقلوبٍ ملأتْهَا خشيتُكَ، واستولتْ عليها محبّتكَ، فمحبتُكَ مانعةٌ لها من كُلِّ لذَّه غيرَ مناجاتِكَ، والاجتهادِ في خدمتكَ،

وخشيتُك قاطعةٌ لها عن سبيل كُلِّ معصية خوفا لحلول سخطكَ، ثم بكى وقال: يا إخوتاهُ، ابكوا على فوت خير الآخرةِ، حيث لا رجعةَ ولا حيلة. وبإسناده عن أيوبَ بن حوطٍ عن قتادةَ قال: كان في حضر عتتْ، شيخٌ يقال له: سوادُ بنُ محمدٍ كان لا يقدر أن يسمعَ القرآنَ من شدةِ خوفه وكان يقولُ: سيدُ الأعمالِ التقوى. ثم البذلُ، ثم بعدَ البذلِ الشكرُ، ثم بعدَ الشكرِ الرِّضا، ثم بعدَ الرِّضا التعظيمُ، ثم بعد التعظيم الحبُّ للَّه والإجلالُ له ". ومعنى هذا أن درجة الحبِّ المستحبةَ التي ذكرناها في أوَّلِ الكتابِ متأخرةٌ عن درجةِ الشكرِ والرِّضا والتعظيم والبذلِ. أما الواجبةُ فإنها تدخلُ في التقوى كما سبقَ بيانُه. * * *

سورة الفجر

سُورَةُ الفَجْرِ قوله تعالى: (وَلَيَالٍ عَشْرٍ (2) في حديثِ ابنِ عُمَرَ المرفوع: "ما مِنْ أيامٍ أعظمُ عندَ اللهِ ولا أحب إليه العمَلُ فيهنَّ من هذه الأيام العَشْرِ" وفي "صحيح ابنِ حبانَ " عن جابرٍ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما مِنْ أيامٍ أفضلُ عندَ اللَهِ من أيام عشْرِ ذي الحجةِ". ورويناه من وَجهٍ آخرَ بزيادةٍ، وهي: "ولا لياليَ أفْضَلُ من لياليهن) . قيل: يا رسول اللَّه، هُنَّ أفضْلُ منْ عِدتهنَّ جهادًا في سبيل اللَّه؟ قال: "هُنَّ أفضلُ من عِدتهنَّ جهادًا فى سبيلِ اللهِ، إلا من عُفِّرَ وجهُه تعْفيرًا، وما منْ يَومٍ أفضلُ من يومِ عرفة" خرَّجه الحافظ أبو موسى المدينيُّ منْ جهةِ أبي نُعيمٍ الحافظِ بالإسنادِ الذي خرَّجه به ابنُ حبَّانَ. وخرَّجَه البزار وغيرُه من حديثِ جابرٍ أيضًا عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: "أفضَلُ أيام الدنيا أيامُ العشْرِ". قالُوا: يا رسول اللَّه، ولا مثلُهُنَّ في سبيلِ اللَّه؟ قال: "ولا مثْلُهُنَّ في سبيلِ اللَّهِ، إلا مَنْ عُفرَ وجهُه بالترابِ ". ورُوي مرْسَلاً وقيل: إنَّه أصحُّ، وقد سبق ما رُوي عن ابنِ عُمرَ: قال: ليس يوم أعْظمُ عندَ اللَّهِ من يومِ الجمعة، ليْسَ العشْرَ. وهو يدلُّ على أنَّ أيامَ العشْرِ أفضَلُ من يومِ الجُمُعة الذي هو أفضَلُ الأيامِ.

وقال سهيلُ بنُ أبي صالح، عن أبيه، عن كعبٍ، قال: اختارَ اللَّهُ الزمانَ. فأحبُّ الزَّمانِ إلى اللَّهِ الشهرُ الحرامُ، وأحبُّ الأشهرِ الحُرُمِ إلى اللهِ ذو الحجَّةِ، وأحبُّ ذي الحجَّة إلى اللَّه العشرُ الأُوَلِ. ورواه بعضُهم عن سُهيلٍ عن أبيه، عنْ أبي هريرة، ورفعه، ولا يصحُّ ذلك، وقال مسروقٌ في قولهِ تعالى: (وَلَيَالٍ عَشْرٍ) : هي أفضلُ أيَّامِ السنَةِ. خرَّجه عبدُ الرزاقِ وغيرُهُ، وأيضًا فأيَّامُ هذا العشْرِ يشْتملُ على يوم عرفة. وقد رُوي أنه أفضَلُ أيَّامِ الدنيا، كما جاء في حديثِ جابر الذي ذكرناه وفيه: "يومُ النَّحْرِ". وفي حديثِ عبدِ اللَّه بنِ قُرْطٍ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، أنه قال: " أعظمُ الأيامِ عندَ اللَّه يومُ النَحْرِ، ثمَّ يومُ القَر ". خرَّجه الإمامُ أحمدُ وأبو داود وغيرُهما، وهذا كلُّه يدلُّ على أن عشْرَ ذي الحجَّةِ أفْضلُ من غير من الأيَّامِ منْ غيرِ استثناءٍ، هذا في أيامِهِ. فأمَّا لياليه فمنَ المتأخِّرينَ منْ زعمَ أنَّ ليالي عشْرِ رمضانَ أفضلُ منْ لياليه. لاشْتمالِهَا على ليلةِ القدرِ، وهذا بعيد جدًّا. ولو صحَّ حديثُ أبي هريرة: "قيامُ كلِّ ليلةٍ منها بقيام ليلة القدر" لكان صريحًا في تفضيلِ لياليه على ليالي عشْرِ رمضانَ، فإنَّ عشْرَ رمضانَ فُضِّلَ بليلةٍ واحدةٍ فيه، وهذا جميعُ لياليه متَساوية لها في القيام على هذا الحديثِ. ولكنَّ حديثَ جابر الذي خرَّجه أبو موسى صريح في تفضيلِ لياليه كتفضيلِ أيَّامِهِ أيضًا، والأيَّامُ إذا أُطلِقَتْ دخلتْ فيها الليالي تبعًا، وكذلك الليالي تدْخُلُ

أيَّامُها تبعًا. وقد أقسَمَ اللَّه تعالى بلياليه، فقال: (وَالْفَجْرِ (1) وَلَيَالٍ عَشْرٍ (2) . وهذا يدلُّ على فضيلةِ لياليه أيضًا، لكنْ لم يثبُتْ أنَّ لياليه ولا شيئًا منها يعدلُ ليلةَ القدْرِ. وقد زعمَ طوائفُ منْ أصحابِنا أنَّ ليلةَ الجمعة أفضلُ من ليلةِ القدْرِ، ولكنْ لا يصحُّ ذلك عن أحمد، فعلى قولِ هؤلاءِ لا يُسْتبْعَدُ تفضْيلُ ليالي هذا العشْرِ على ليلةِ القدرِ. والتحقيقُ ما قالَهُ بعضُ أعيان المتأخِّرينَ منَ العلماءِ، أنْ يقُال: مجموعُ هذا العشْرِ أفضْلُ من مجموع عشْرِ رمضانَ، وإنْ كان في عشْرِ رمضان ليلةٌ لا يَفْضل عليها غيرُها، واللَّه أعلم. وما تقدَّم عنْ كعبٍ يدلُّ على أنَّ شهرَ ذي الحجَّةِ أفضْلُ الأشهرِ الحُرُمِ الأربعة، وكذا قال سعيدُ بنُ جبير، راوي هذا الحديثِ عن ابنِ عباسٍ: "ما من الشهورِ شهرٌ أعْظمُ حُرْمة منْ ذي الحجَّةِ". وفي "مسندِ البزَّارِ" عن أبي سعيد الخدريِّ، عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - قال: " سيِّدُ الشهورِ رمضانُ، وأعْظمها حُرْمةً ذو الحجَّةِ". وفي إسنادِهِ ضعْفٌ. وفي "مسندِ الإمامِ أحمدَ"، عن أبي سعيدٍ الخدريّ أيضا: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال في حجة الوداع في خطبتِه يومَ النَّحْرِ: "ألا إنَّ أحْرَمَ الأيام يومُكُم هذا، ألا وإنَّ أحْرَمَ الشُّهورِ شهرُكُم هذا، ألا وإنَّ أحرَمَ البلادِ بلدُكُم هذا".

ورُوي ذلك أيضًا عن جابرٍ، ووابصةَ بنِ معبدٍ، ونُبيطِ بنِ شَريطٍ. وغيرِهم، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهذا كلُّه يدلُّ على أنَّ شهرَ ذي الحجَّة أفضلُ الأشهرِ الحُرُمِ، حيثُ كان أشدَّهَا حُرْمةً. وقد رُوي عن الحسنِ: أنًّ أفضلها المحرَّم، وسنذكرُهُ عند ذِكْرِ شهرِ المُحَرَّم، إن شاء اللَّه تعالى. وأمَّا من قال: إنَّ أفضلَها رجبٌ فقولُهُ مرْدُود. ولِعَشْرِ ذي الحجة فضائلُ أُخرُ غيرَ ما تقدَّم. فمنْ فضائلِه: أنَّ اللَّه تعالى أقسَمَ به جُملةً، وببعضِه خُصوصًا، قال تعالى: (وَالْفَجْرِ (1) وَلَيَالٍ عَشْرٍ (2) . فأمَّا الفجرُ فقيل: إنه أراد جنسَ الفجر، وقيل: المرادُ طلوعُ الفجر، أو صلاةُ الفجر، أو النَّهارُ كلُّه. فيه اختلافٌ بين المفُسّرين، وقيلَ: إنه أريد به فَجْرٌ مُعَيَّنٌ. ثُمَّ قيل: إنه أُرِيدَ به فجرُ أوَّلِ يومٍ من عَشر ذي الحجَّة. وقيل: بل أرِيدَ به فجرُ آخرِ يومٍ منه، وهو يومُ النَّحْرِ، وعلى جميع هذه الأقوالِ، فالعَشْرُ يشتملُ على الفجرِ الذي أقْسَمَ اللَّهُ به. وأمَّا "الليالي العشر" فهي عشر ذي الحجة، هذا الصحيحُ الذي عليه جُمهور المُفسِّرين منَ السلفِ وغيرِهم، وهو الصحيحُ عن ابنِ عباس. روي عنه مِنْ غيرِ وجه والروايةُ عنه: "أنه عشرُ رمضان " إسنادُها ضعيف. وفيه حديثٌ مرفوعٌ خرَّجه الإمامُ أحمدُ، والنسائيُّ في "التفسيرِ" منْ روايةِ زيدِ بنِ الحُبابِ حدَّثنا عيَّاشُ بنُ عُقبة، حدَّثنا خيرُ بنُ نُعيم، عن أبي الزُّبير، عن جابر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "العَشْرُ عشْرُ الأضْحَى، والوَتْرُ يومُ عرفة، والشَّفع يومُ النَّحْرِ" وهو إسناد حسنٌ.

وكذا فسَّر "الشَّفع " و"الوتْرَ" ابنُ عباسٍ في روايةِ عكرمةَ وغيرِهِ. وفسَّرهما أيضًا بذلك عكرمةُ والضحاكُ وغيرُ واحدٍ، وقد قيل في "الشَّفْع " و"الوتْرِ" أقوالٌ كثيرةٌ، وأكثرها لا يخرجُ عن أنْ يكونَ العشرُ أو بعضُه مُشتملاً على "الشفْع " و"الوترِ" أو أحدِهِما، كقولِ من قال: "هي الصلاةُ منها شفع ومنها وترٌ". وقد خرَّجَه الإمامُ أحمدُ والترمذيُّ من حديث عمرانِ بن حُصينٍ. عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وقولُ منْ قال: هي المخلوقات منها شفغْ ومنها وَتْر، يدخلُ فيها أيامُ العَشْرِ. وقولُ مَنْ قال: الشفعُ الخلْقُ كلُّه، والوِتْرُ الله، فإنَّ أيامَ العشْرِ منْ جُمْلةِ المخلوقاتِ. ومنْ فضائِلِه أيضًا: أنه من جملة الأربعين التي واعدها اللَّه عزَّ وجلَّ لمُوسى عليه السلام قال الله تعالى: (وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاثِينَ لَيْلَةً) ، ولكن هل عَشْرُ ذي الحجَّة خاتمةُ الأربعينَ، فيكونُ هو العشْرُ الذي أُتِمَّ به الثَّلاثون، أمْ هو أوَّلُ الأربعين، فيكونُ مِنْ جُملةِ الثلاثينَ التي أُتِمَّتْ بعشر؟ فيه اختلاف بينَ المفسرين. روى عبدُ الرزاقِ، عن معمر، عن يزيدَ بنِ أبي زيادٍ، عنْ مُجاهدٍ. قال: ما منْ عملٍ في أيَّامِ السنة أفضلُ منه في العَشْرِ من ذي الحجَّة، وهي العشْرُ التي أَتمَّهَا اللَهُ لموسى عليه السلام ". ومنْ فضائِلِهِ: أنَّه خاتمةُ الأشهرِ المعلوماتِ، أشهرُ الحجِّ التي قال اللَّه فيها: (الْحَجُّ أَشْهُرٌ معْلُومَاتٌ) ، وهي شوَّال، وذو القعْدة، وعَشْرٌ من ذي الحجَةِ.

وروي ذلك عن عُمرَ، وابنِه عبدِ اللَّه، وعلي، وابنِ مسعود، وابنِ عباسٍ. وابنِ الزُّبيرِ وغيرِهِم، وهو قولُ أكثر التابعينَ، ومذهبُ الشافعيَ، وأحمدَ وأبي حنيفةَ وأبي يوسُف وأبي ثور وغيرِهم، لكنَّ الشافعي وطائفةً أخْرجوا منه يومَ النَّحْرِ، وأدخله فيه الأكثرون، لأنَّه يومُ الحجِّ الأكبرِ، وفيه يقعُ أكثرُ أفعال مناسكِ الحجِّ. وقالتْ طائفة: ذو الحِجَّةِ كلُّه منْ أشهرِ الحجِّ. وهو قولُ مالكٍ، والشافعيّ في القديمِ، ورواه عن ابنِ عمرَ أيضًا. وروي عن طائفة من السلفِ، وفيه حديث مرفوعٌ خرَّجه الطبرانيُّ. لكنه لا يصحُّ. والكلامُ في هذه المسألةِ يطولُ، وليس هذا موضعه. ومن فضائِلِهِ: أنَّه الأيَّامُ المعلوماتُ التي شرع اللَّه ذِكْرَه فيها على ما رزَقَ من بهيمةِ الأنعامِ، قال اللَّهُ تعالى: (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27) لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ) . وجمهورُ العلماءِ على أنَّ هذه الأيامَ المعلوماتِ هي عشْرُ ذي الحجَّةِ، منهم ابنُ عمرَ، وابنُ عباسٍ والحسنُ وعطاء ومجاهد وعكرمةُ وقتادةُ والنَخعي، وهو قولُ أبي حنيفةَ والشافعيِّ وأحمدَ في المشهورِ عنه. ورُوي عن أبي موسى الأشعريِّ: أنَّ الأيامَ المعلوماتِ هي تسعْ ذي الحجَّة غير يومِ النحرِ، وأنَّه قال: لا يُرَدُّ فيهنَّ الدعاءُ. خرَّجه جعفر الفرْيابيُّ وغيرُه. وقالتْ طائفة: هي أيامُ الذبْح. ورُوي عن طائفةٍ من السلفِ. وهو قولُ مالكٍ، وأبي يوسفَ، وجعلوا ذِكْرَ اللَّهِ فيها ذِكْرَه على الذبح، وهو قولُ ابنِ عُمرَ - رضي الله عنهما -، ونقل المرُّوْذيُّ عن أحمدَ أنه استحسنه، والقولُ الأولُ أظْهرُ.

وذكْرُ الله على بهيمةِ الأنعام لا يختصُّ بحالِ ذبْحِها، كما قال تعالى: (كذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكبِّرُوا اللهَ عَلَى مَا هَدَاكمْ) . وقالَ تعالى: (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ) ، وأيضًا فقد قال اللَهُ تعالى بعد هذا: (فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ (28) ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (29) . فجعل هذا كلَّه بعْدَ ذِكْرِه في الأيام المعلوماتِ وقضاءِ التَفَثِ، وهو شعثُ الحج، وغبارُهُ ونصَبُهُ. والطًوافُ بالبيتِ إنَّما يكونُ في يوم النحر وما بعدَه. ولا يكونُ قبْله وقد جعلَ الله سبحانه هذا مُرَتبًا على ذِكرهِ في الأيامِ المعلوماتِ بلفظةِ "ثُم" فدل على أن المرادَ بالأيام المعلوماتِ ما قبْل يومِ النَحْرِ. وهو عشْرُ ذي الحجة. وأما قوله تعالى: (وَيَذْكرُوا اسْمَ اللًهِ فِي أَيام مَّعْلُومَات عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ) فقيل: إن المرادَ ذكْرُهُ عند ذَبْحها، وهو حاصل بذكْر في يوم النحر، فإنه أفضلُ أيامِ النَحْرِ، والأصح أنه إنما أريد ذِكْرُه شُكْرًا على نعمة تسخيرِ بهيمة الأنعام لعباده، فإن للَّه تعالى على عباده في بهيمة الأنعامِ نعمًا كثيرةً قد عدَّد بعْضها في مواضعَ منَ القرآنِ. والحاج لهم خصوصية في ذلك عن غيرِهم؛ فإنهم يسيرونَ عليها إلى الحرم، لقضاءِ نُسكهم، كما قال تعالى: (وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ) وقال تعالى: (وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ) ويأكلون من لحومِهَا، ويَشْربون من ألبانِها، وينتفعون بأصْوافِهَا وأوبارِها وأشعارِها.

ويختصُّ عشْرُ ذي الحجَّة في حقِّ الحاجِّ بأنَّه زمنُ سَوْقهِم للهَدْي الذي به يكمُلُ فضلُ الحجِّ، ويأكلون منْ لُحُومه في آخر العشْرِ، وهو يومُ النحْر. وأفضلُ سوْقِ الهَدْي من الميقاتِ، ويُشعرُ ويُقلَّدُ عندَ الإحرامِ، وتقارنُهُ التلبيةُ، وهي مِنْ الذِّكر للَّه في الأيَّام المعلومات. وفي الحديث: "أفضل الحجِّ العَجُّ والثَّجُّ " وفي حديثٍ آخر: "عجُّوا التَّكْبيرَ عجًّا، وثُجُّوا الإبل ثجًّا ". فيكون كثرةُ ذِكْر اللَّه في أيَّامِ العشْرِ شكْرًا على هذه النّعمة المختصَّةِ ببهيمة الأنعام، التي بعضُها يتعلَّق بدين الحاجِّ، وبعضُها بِدُنياهم. وأفضلُ الأعْمالِ ما كثُرَ ذِكْرُ اللَّه تعالى فيها، منها خُصُوصًا الحج، وقد أمر اللَّه تعالى بِذكْرِه كثيرًا في أيام الحجّ، قال تعالى: (فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ (198) ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (199) ، فهذا الذِّكْرُ يكونُ في عشْرِ ذي الحجَّةِ. ثمَّ قال تعالى: (فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا) ، وهذا يقعُ في يومِ النَّحْرِ، وهو خاتمةُ العشْرِ أيضا. ثم أمرَ بذكْى بعد العشْرِ في الأيام المعدوداتِ، وهي أيامُ التشريق. وفي "السنن " عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنَّما جُعِلَ الطَّوافُ بالبيتِ، والسعْيُ بيْنَ الصفا والمروةِ، ورميُ الجمار، لإقامة ذكْرِ اللَّه عزَّ وجلَّ ".

وفي "مسند الإمامِ أحمدَ" عن معاذِ بنِ أنس: أن رجلاً قال: يا رسول اللَّه، أيُّ الجهادِ أعظمُ أجْرًا؟ قال: "أكثرُهُم للَّه ذِكرًا" قال: فأيُّ الصائمين أعْظمُ أجْرًا؟ قال: "كثرُهُم للهِ ذِكْرًا". قال: ثم ذكر الصلاة، والزكاة، والحج، والصدقة كلُّ ذلك ورسولُ اللَّه - صلى الله عليه وسلم - يقول: " أكثرُهُم للَّه ذِكرًا". فقال أبو بكر؛ يا أبا حفص، ذهب الذَّاكرون بكُلِّ خيرٍ، فقال رسولُ اللَّه - صلى الله عليه وسلم -: "أجَل ". وقد خرَّجه ابنُ المباركِ، وابنُ أبي الدنيا من وجوهٍ أُخَر مُرْسلةٍ، وفي بعْضِها: أي الحاجّ خير؟ قال: "أكثرهم ذكرًا للَّه " وفي بعْضِها: أيُّ الحاجِّ أعظمُ أجْرًا؟ قال: "أكثرهُم للهِ ذِكرًا" وذكر بقيةَ الأعمالِ بمعْنى ما تقدم، فهذا كُلُّه بالنسبةِ إلى الحاج. فأمَّا أهلُ الأمصارِ فإنَّهم يشاركون الحاجَّ في عشْرِ ذي الحجَّة، في الذكر. وإعدادِ الهَدْي، فأمَّا إعدادُ الهَدْي فإنَّ العشْر تُعَدُّ فيه الأضاحي، كما يسُوقُ أهلُ الموسم الهَدْي، ويُشاركونهم في بعضِ إحرامِهِمْ، فإنَّ منْ دخلَ عليه العَشْرُ وأرادَ أنْ يُضحي، فلا يأخُذْ منْ شعرِهِ ولا منْ أظفارِهِ شيئًا، كما روتْ ذلك أمُّ سلمة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. خرَّج حديثَها مسلمٌ، وأخذَ بذلك الشافعي، وأحمدُ، وعامَّةُ فقهاءِ الحديثِ. ومنهم منْ شرَطَ أنْ يكونَ قد اشترى هدْيَه قبْلَ العشْرِ. وأكْثرُهُم لم يَشْرُطوا ذلك. وخالف فيه مالكٌ، وأبو حنيفة، وكثير من الفقهاءِ، وقالوا: لا يُكره شيءٌ

قوله تعالى: (والشفع والوتر (3)

من ذلك، واستدلُّوا بحديث عائشةَ: "كُنْتُ أفتِلُ قلائدَ الهدْي لرسولِ اللَّه - صلى الله عليه وسلم - فلا يُحَرَّم عليه شيء أحلَّهَ اللَّهُ له ". وأجابَ كئيرٌ منْ أهلِ القولِ الأولِ: بأنه يُجْمع بين الحديثينِ، فيؤخَذُ بحديثِ أمّ سلمةَ فيمن يُريد أن يُضحّي في مصره، وبحديثِ عائشةَ فيمن أرْسلَ بهَدْيه مع غيرِهِ، وأقام في بلدِهِ. وكان ابنُ عمرَ إذا ضَحَّى يومَ النَّحْرِ حَلَقَ رأسه، ونصَّ أحمدُ على ذلك. * * * قوله تعالى: (وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (3) قال تعالى: (وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ) والشَّفع ضدُّ الوتْرِ: فالوترُ: الفردُ والشَّفع الزَّوْج. ولهذا فُسِّرَ "الشَّفع " في الآية بالخَلْقِ، لأنَّ الخلقَ كُلَّهُ زوج، قال تعالى: (وَمِن كلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ) ، وقال: (سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ (36) . وفُسِّر "الوِتْرُ" باللَّه - عزَّ وجلَّ - لأنَّه وِتْر يُحبُّ الوِتْر. * * * قوله تعالى (كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (21) وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22) وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى (23) يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي (24) .

قال اللَّه عزَّ وجلَّ: (كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (21) وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22) وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى (23) يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي (24) . وقال تعالى: (فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى (34) يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ مَا سَعَى (35) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى (36) . قال الربيعُ بنُ أنسٍ في قولِهِ: (وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَن يَرَى) قال: كُشِفَ عنْها غِطَاؤها. وقال تعالى: (كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (5) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (6) ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ (7) . وروى العلاءُ بنُ خالد الكاهليُّ، عن أبي وائل، عن ابنِ مسعودٍ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "يُؤتى يومئذ بجهنَّم لها سبْعون ألفَ زِمامٍ، مع كلِّ زمامٍ سبْعون ألفَ ملَك يجرُّونها" خرَّجه مسلمٌ من طريقِ حفصِ بنِ غياث، عن العلاءِ به. وخرَّجه الترمذيُّ من طريقِ سفيانَ عن العلاءِ موقوفًا على ابنِ مسعودٍ، ورجَّح وقْفه العقيليُّ والدارقطنيُّ. وخرَّج ابنُ أبي حاتم منْ طريقِ عُبيدِ اللَّهِ بنِ الوليدِ الوصافيُّ، عن عطيةَ. عن أبي سعيدٍ الخدريّ، قال: لما نزلتْ هذه الآية: (وَجِيءَ يَوْمَئذٍ بِجَهَنَّمَ) تغيَّر لونُ النبى - صلى الله عليه وسلم - وعُرِفَ ذلك في وجْههِ حتَّى اشتدَّ ذلك على أصحابِهِ، فسألوه فقال: "إنه جاءني جبريلُ فأقْرأني هذه الآيةَ " قال: "كيف يُجاءُ بها؟

قال: يَجيءُ بها سبْعونَ ألفَ ملَكٍ يقودونها بسبعينَ ألف زمامٍ تشرد مرة، لو تُركتْ لأحرقتْ أهلَ الجمع ومَنْ عليه، ثم تُعْرضُ جهنَّم فتقول: ما لي وما لكَ يا محمد، لقد حرَّمَ اللَّه لحْمَك عليَّ، فلا يبقى أحدٌ إلا قال: نفْسِي نفْسِي، ومحمدٌ - صلى الله عليه وسلم - يقول: أُمَّتي أُمَّتي " الوصافيُّ شيح صالحٌ لا يحفظ فكثرتِ المناكيرُ في حديثِهِ. وخرَّج أبو يعلى الموصليُّ من حديثِ أبي الهيثم، عن أبي سعيدٍ الخدريَ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا جَمَع اللَّهُ الناسَ في صعيدٍ واحدٍ، يومَ القيامةِ أقبلتِ النارُ. يركبُ بعضُها بعضًا، وخزنتها يكفونها، وهي تقول: وعزةِ ربي لتخلُنَّ بيني وبين أزواجي أو لأغشينَّ الناسَ عنقًا واحدًا، فيقولون: مَنْ أزواجُكِ؟ فتقولُ: كل متكبِّرٍ جبَارٍ". وخرَّج الإمامُ أحمدُ والترمذيُّ من حديثِ الأعمشِ عن أبي صالح، عن أبي هُريرةَ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "يخرجُ يومَ القيامةِ عنقٌ من النارِ لها عينانِ تُبْصرانِ. وأذنانِ تَسمعانِ، ولسان ينطقُ، تقولُ: إني وُكِّلتُ بثلاثةٍ: بكُل جبارٍ عنيدٍ، وبكلِّ مَنْ دعا مع اللَّه إلهًا آخرَ، وبالمصوِّرين " وصحَّحه الترمذيُّ وقد قِيل: إنه ليسَ بمحفوظ بهذا الإسنادِ، وإنَّما يرويه الأعمشُ عن عطيةَ عن أبي سعيدٍ، فقد روى الأعمشُ وغيرُ واحد عن أبي سعيدٍ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "يخرجُ عنقٌ من النارِ يتكلمُ، يقولُ: وُكَلتُ اليومَ بثلاثةٍ: بكلّ جبارٍ عنيدٍ، ومن جَعَلَ مع اللهِ إلهًا آخرَ، ومنْ قتَلَ نفْسًا بغير نفسٍ، فتنطوي عليهم فتقذفهم في غمراتِ جهنَّم " خرَّجه الإمامُ أحمد، وخرَّجه البزار، ولفظُه: "يخرجُ عنق من النارِ يتكلَّمُ بلسانٍ طلقٍ ذلقٍ،

لها عينانِ تُبصرُ بهما، ولها لسان تتكلَّم به، فتقولُ: إني أمرتُ بِمَنْ جعلَ مع اللَّه إلهًا آخر، وبكُلِّ جبار عنيد، وبِكُلِّ من قتل نفْسًا بغير نفسٍ، فتنطلقُ بهم قبْلَ سائرِ الناسِ بخمسمائة عامٍ " وقد رُوي عن عطية عن أبي سعيدٍ موقوفًا. وروى ابنُ لهيعةَ، عن خالدِ بنِ أبي عمرانَ، عن القاسم، عن عائشة عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "يخرجُ عنقٌ من النارِ، فتنطوي عليهم وتتغيَّظُ عليهم، ويقول ذلك العنقُ: وُكلتُ بثلاثةٍ، وُكِّلتُ بثلاثةٍ، وُكِّلتُ بثلاثةٍ، وُكِّلتُ بمن دعا مع الله إلهًا آخر، ووكِّلتُ بمن لا يؤمن بيوم الحسابِ، ووكِّلتُ بكلِّ جبار عنيدٍ، فتنطوي عليهم، فتطرحُهُم في غمراتِ جهنَّم " خرَّجه الإمامُ أحمدُ. ورُوي عن شهرِ بنِ حوشب عن أسماءَ بنتِ يزيدَ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "يخرجُ عنقٌ من النارِ فيظلّ الخلاتق كلَّهم، فيقولُ: أمرتُ بكلِّ جبارٍ عنيدٍ، ومن زعم أنَه عزيزٌ كريم ومن دعا مع اللَّه إلهًا آخر". ورواهُ أبو المنهالِ سيارُ بنُ سلامةَ عن شهرِ بنِ حوشبٍ عن ابنِ عباسٍ موقوفًا، قالَ: إذا كان يومُ القيامة خرجَ عنق من النارِ فأشرفتْ على الخلائقِ لها عينانِ تبصرانِ ولسان فصيحٌ تقولُ: إني وُكِّلتُ بكلِّ جبارٍ عنيد. فتلقُطُهم من الصفوفِ فتحبسهم في نارِ جهنَّم، ثم تخرجُ ثانيًا فتقولُ: إنِّي وكلتُ بمن آذَى اللَّه ورسولَه فلتقطُهم من الصفوف فتحبسُهُم في نارِ جهنَّم. ثم تخرجُ ثالثةً، قال أبو المنهالِ: أحسبُ أنها قالتْ: إني وُكِّلتُ اليومَ بأصحابِ التصاويرِ فتلقطُهُم من الصفوفِ فتحبسهم في نارِ جهنَّم. وفي حديثِ الصورِ الطويلِ الذي خرَّجه إسحاقُ بنُ راهويه وأبو يعْلَى الموصليُّ وغيرُهما بإسنادٍ فيه ضعف عن أبي هريرة عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: "ثم يأمرُ

اللَّهُ تعالى جهنَّم فيخرجُ منها عنق ساطعة مظلمة فيقولُ: (وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ) إلى قوله: (أَفَلَمْ تَكونُوا تَعْقِلُونَ) ". وخرَّج ابنُ أبي الدنيا من طريقِ الشعبيِّ، عن أبي هريرة، قال: "يُؤتَى بجهنَّم تقاد بسبعينَ ألف زمامٍ آخذٌ بكلِّ زمامِ سبعونَ ألفَ ملك، وهي تمايلُ عليهم حتَّى توقف عن يمينِ العرشِ، ويلقي اللَهُ عليها الذل يومئذٍ، فيوحِي اللَّهُ إليها ما هذا الذلُّ؟ فتقول: يا ربِّ أخافُ أن يكونَ لك فيَّ نقمةٌ، فيوحي اللَّهُ إليها: إنما خلقتُكِ نقمة وليس لي فيك نقمةٌ، ويوحي اللَّهُ إليها فتزفرُ زفرةً لا تبقي دمعةً في عين إلا جرتْ، ثم تزفرُ أخرى فلا يَبْقَى ملَكٌ مقربٌ ولا نبي مرسلٌ إلا صعقَ، إلا نبيكم نبي الرحمة - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: "ياربِّ أُمَّتي أُمَّتي". وروى عبدُ اللَّه بنُ الإمامِ أحمدَ بإسنادِهِ عن أبي عبدِ اللَّه الجدليِّ، عن عبادة بن الصامتِ وكدب قالا: يخرجُ عنقٌ من النارِ فيقولُ: أمرتُ بثلاثة: بمن جعلَ مع اللَّه إلهًا آخر، وبكلِّ جبارٍ عنيدٍ، وبكُل معتد، ألا إني أعرفُ بالرجلِ من الوالد بولدِهِ والمولودِ بوالدِهِ. * * * [قالَ البخاريُّ] : حدثنا أبو اليمانِ: نا شُعَيْبٌ، عن الزُّهريِّ: أخبرني سعيدُ بنُ المسيب وعطاءُ بنُ يزيد الليثي، أن أبا هريرة أخبرهما أنَّ الناس قالوا: يا رسول اللَّه: هل نَرَى ربَّنا يومَ القيامة؟ قال: "هل تُمَارُون في القمر ليْلةَ البدْرِ ليس دُونَه سحابٌ " قالوا: لا يا رسول اللَّه، قال: "هل تُمارُون في رؤيةِ

الشمس ليس دونها سحابٌ؟ " قالوا: لا. قال: "فإنكم ترونه كذلك، يُحْشرُ الناسُ يومَ القيامةِ، فيقولُ: مَنْ كان يعبدُ شيئا فليتَبعْهُ، فمنهم من يتبعُ الشمس، ومنهم من يتبع القمر، ومنهم من يتبع الطواغيت، وتبقى هذه الأمَّةُ فيها منافقوها، فيأتيهم اللهُ، فيقولُ: أنا ربُّكم، فيقولون: هذا مكانُنا حتى يأتينا ربُّنا، فإذا جاء ربُّنا عرفْنَاه، فيأتيهم الله عزَّ وجلَّ فيقول: أنا ربُّكم فيقولون: أنت ربُّنا، فيدعوهم، ويُضْربُ الصراطُ بيْنَ ظهراني جهتم، فأكونُ أول من يجُوزُ من الرسلِ بأمَّته، ولا يتكلَّمُ يومئذ أحدٌ إلا الرسل، وكلامُ الرسلِ يومئذ: اللَّهمَّ سلِّم سلِّم، وفي جهنم كلاليبُ مثلُ شوْكِ السَّعدانِ، هل رأيتُم شوْك السَّعْدان؟! قالوا: نعم. قال: "فإنها مثلُ شوْكِ السَّعْدان، كير أنه لا يعلمُ قدرَ عِظَمها إلا اللَّهُ، تخطفُ الناسَ بأعمالهم، فمنهم من يُوبقُ بعملِهِ، ومنهم من يُخَرْدَلُ، ثمَ ينْجُوا، حتى إذا أراد اللَّه رحمةَ من أرادَ منْ أهل النار، اْمرَ اللَهُ عزَّ وجلَّ الملائكةَ أنْ يُخْرِجوا من النَّارِ منْ كان يعبُدُ اللَّه، فيُخْرِجُوهم ويعرفُونَهُم بآثارِ السجود. وحرَّم اللَّهُ عزَّ وجلَّ على النارِ أن تأكل أثر السجودِ، فيخْرُجون من النَارِ، فكُل ابنِ آدمَ تأكله النارُ إلا أثرَ السجودِ، فيخْرُجُون من النَّارِ قد امتحشوا، فيُصبُّ عليهم ماءُ الحياةِ فينبتونَ كما تنبُتُ الحبَّةُ في حميلِ السيل ". وفي الحديث: دليلٌ على أنَّ المشركينَ الذين كانوا يعبدونَ في الدنيا من دون اللَّه آلهة يتبعون المهتَهم التي كانوا يعبدون يوم القيامة، فيردنهم النار. كما قال تعالى في حقِّ فرعون: (يَقْدُمُ قوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ) . ويبقى من كان يعبدُ اللَّهَ وحدَه ظاهرًا، مؤمنًا كان أو منافقًا، فهؤلاءِ

ينظرونَ من كانُوا يعبدونه في الدنيا، وهو اللَّهُ وحدَه لا شريكَ له. ففي هذا الحديث: أنَّ اللَّه يأتيهم أولَ مرة فلا يعرفونه، ثم يأتيهم في المرة الثانية فيعرفونه. وقد دلَّ القرآن على ما دلَّ عليه هذا الحديث في مواضعَ، كقوله (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ) وقال: (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ) وقال: (وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22) . ولم يتأولِ الصحابة ولا التابعونَ شيئًا من ذلك، ولا أخرجُوه عن مدلوله. بل رُوي عنهم ما يدلُّ على تقريرِه والإيمانِ به وإمرارِه كما جاء. وقد رُوي عن الإمامِ أحمدَ، أنه قال في مجيئِهِ: هو مجيءُ أمرِهِ. وهذا مما تفرَّدَ به حنبلٌ عنه. فمن أصحَابنا من قال: وهِمَ حنبلٌ فيما رَوى، وهو خلافُ مذهبه المعروفِ المتواتر عنه. وكان أبو بكر الخلاَّلُ وصاحبُه لا يثبتان بما تفرد به حنبلٌ، عن أحمدَ روايةً. ومن متأخرِيهم من قال: هو روايةٌ عنه، بتأويلِ كلِّ ما كان من جنسِ المجيءِ والإتيانِ ونحوهِما. ومنهم من قال: إنَّما قال ذلك إلزامًا لمن ناظرَهُ في القرآن، فإنهم استدلُّوا

على خلقِهِ بمجيءِ القرآنِ، فقال: إنَّما يجيءُ ثوابُهُ، كقولِهِ: (وَجَاءَ رَبُّكَ) . أي: كما تقولون أنتم في مجيءِ اللَّه أنه مجيءُ أمر. وهذا أصحُّ المسالكِ في هذا المرويِّ. وأصحابُنا في هذا على ثلاثِ فرقٍ: فمنهم من يثبتُ المجيءَ والإتيانَ، ويصرحُ بلوازمِ ذلك في المخلوقاتِ. وربما ذكروه عن أحمدَ من وجوهٍ لا تصحُّ أسانيدُها عنه. ومنهم من يتأول ذلك على مجيء أمره. ومنهم من يقرُّ ذلك، ويُمِرُّه كما جاء، ولا يفسِّره، ويقولُ: هو مجيءٌ وإتيانٌ يليقُ بجلالِ اللَّه وعظمتِهِ سبحانه. وهذا هو الصحيحُ عن أحمدَ، ومن قبلَه منَ السلفِ، وهو قولُ إسحاقَ وغيرِه من الأئمةِ. وكان السلفُ ينسبونَ تأويلَ هذه الآياتِ والأحاديثِ الصحيحةِ إلى الجهميةِ. لأن جهمًا وأصحابَهُ أولُ منِ اشتُهِرَ عنهم أنَّ اللَّه تعالى منزهٌ عما دلتْ عليه هذه النصوصُ بأدلةِ العقولِ التي سمَّوْها أدلةً قطعيةً هي المحكماتُ. وجعلُوا ألفاظ الكتاب والسنة هي المتشابهاتُ، فعرضُوا ما فِيهَا على تلكَ الخيالاتِ، فقبِلُوا ما دلَّتْ على ثبوتِهِ بزعمهم، وردُّوا ما دلتْ على نفيه بزعمهم، ووافقَهم على ذلك سائرُ طوائفِ أهلِ الكلامِ من المعتزلةِ وغيرِهم. وزعمُوا أنَّ ظاهرَ ما يدلُّ عليه الكتابُ والسنةُ تشبيهٌ وتجسيمٌ وضلالٌ. واشتقُّوا من ذلك لمن آمنَ بما أنزل اللَّهُ على رسولِهِ أسماءً ما أنزلَ اللَّه بها من

سلطان، بل هي افتراءٌ على اللَّه، ينفِّرون بها عن الإيمانِ باللَّه ورسولِهِ. وزعمُوا أنَّ ما وردَ في الكتابِ والسنة من ذلك - مع كثرتِهِ وانتشارِهِ - من بابِ التوسع والتجوزِ، وأنه يحملُ على مجازاتِ اللغةِ المستبعدةَ، وهذا من أعظم أبوابِ القدح في الشريعةِ المحكمة المطهرةِ، وهو من جنسِ حملِ الباطنيةِ نصوصَ الإخبارِ عن الغيوبِ كالمعادِ والجنَّة والنارِ على التوسع والمجازِ دونَ الحقيقةِ، وحملِهم نصوصَ الأمرِ والنهي على مثلِ ذلك، وهذا كلُّه مروق عن دينِ الإسلام. ولم ينهَ علماءُ السلفِ الصالح وأئمةُ الإسلامِ كالشافعيِّ وأحمدَ وغيرِهما عن الكلامِ وحذَّرُوا عنه، إلا خوفًا من الوقوع في مثلِ ذلك، ولو علمَ هؤلاءِ الأئمةُ أنَّ حملَ النصوصِ على ظاهرِها كفر لوجبَ عليهم تبيينُ ذلك وتحذير الأُمَّة منه " فإنَّ ذلك من تمامِ نصيحة المسلمين، فكيفَ كان ينصحونَ الأُمَّةَ فيما يتعلقُ بالأحكامِ العملية ويدَعُون نصيحتَهم فيما يتعلقُ بأصولِ الاعتقاداتِ، هذا من أبطلِ الباطلِ. قال أبو عبد الرحمنِ السلميّ الصوفيُّ: سمعتُ عبد الرحمن بن محمد بن جابر السلميَّ يقول: سمعتُ محمدَ بنَ عقيلِ بنِ الأزهرِ الفقيهَ يقولُ: جاء رجلٌ إلى المزني يسأله عن شيءِ من الكلامِ، فقال: إنِّي أكرهُ هذا، بل أنْهى عنه، كما نهَى عنه الشافعي؛ فإني سمعتُ الشافعيَّ يقولُ: سئلَ الليث عن الكلامِ والتوحيد، فقال مالكٌ: محالٌ أن يُظنَّ بالنبى - صلى الله عليه وسلم - أنه علَّم أُمته الاستنجاءَ ولم يعَلمْهُمُ التوحيدَ، فالتوحيدُ ما قاله النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "أمرتُ أن أقاتلَ الناسَ حتى يقولُوا: لا إله إلا اللَّه، فإذا قالُوها عصموا مني دماءَهم وأموالَهم "

فما عصَم الدمَ والمالَ فهو حقيقةُ التوحيدِ. انتهى. وقد صحَّ عن ابنِ عباسٍ أنه أنكر على من استنكرَ شيئًا من هذه النصوصِ، وزعمَ أنَّ اللَّه منزهٌ عما تدلُّ عليه. فروى عبدُ الرزاقِ في "كتابِهِ " عن معمر، عن ابنِ طاووسَ، عن أبيه. قال: سمعتُ رجلاً يحدِّثُ ابنَ عباسٍ بحديثِ أبي هريرة: "تحاجَّتِ الجنةُ والنارُ"، وفيه: "فلا تمتلئُ حتَى يضع رِجْله " - أو قال: "قدمَهَ فيها" قال: فقامَ رجلٌ فانتفضَ، فقال ابنُ عباسٍ: ما فرقُ هؤلاءِ، يجدونَ رقةً عند محكمِهِ، ويهلكُون عند متشابهه. وخرَّجه إسحاقُ بنُ راهويه في "مسندِهِ " عن عبدِ الرزاق. ولو كانَ لذلكَ عندَهُ تأويل لذكرهُ للناسِ ولم يسعْه كتمانُه. وقد قابَل هؤلاءِ المتكلمينَ طوائف آخرون، فتكلَّموا في تقريرِ هذه النصوصِ بأدلة عقلية، وردُّوا على النفاةِ، ووسَّعوا القولَ في ذلك، وبيَّنوا أن لازَم النَّفْي التعطيلُ المحضُ. وأما طريقةُ أئمة أهلِ الحديثِ وسلفِ الأمَّة: فهي الكفُّ عن الكلامِ في ذلك من الطرفينِ، وإقرارُ النصوصِ، وإمرارِها كما جاءتْ، ونفي الكيفيةِ عنها والتمثيلِ. وقد قال الخطابيُّ في "الأعلامِ": مذهبُ السلفِ في أحاديثِ الصفاتِ: الإيمانُ، وإجراؤها على ظاهرِها، ونفيُ الكيفيةِ عنها.

ومن قال: الظاهرُ منها غيرُ مرادٍ، قيلَ له: الظاهرُ ظاهرانِ: ظاهرٌ يليقُ بالمخلوقينِ ويختصُّ بهم، فهو غيرُ مراد، وظاهرٌ يليقُ بذي الجلالِ والإكرامِ. فهو مرادٌ، ونفيهُ تعطيلٌ. ولقد قال بعضُ أئمةِ الكلامِ والفلسفةِ من شيوخ الصوفيةِ الذي يحسنُ به الظنَّ المتكلمونَ: إن المتكلمينَ بالغُوا في تنزيهِ اللَّهِ عن مشابهةِ الأجسامِ. فوقعُوا في تشبيهه بالمعاني، والمعانِي محدَثةٌ كالأجسامِ، فلم يخرجُوا عن تشبيهه بالمخلوقاتِ. وهذا كلُّه إنَّما أتى من ظنِّ أن تفاصيلَ معرفةِ الجائزِ على اللَّه والمستحيلِ عليه يُؤخذُ من أدلةِ العقولِ، ولا يُؤخذُ مما جاءَ به الرسولُ. وأمَّا أهلُ العلم والإيمانِ، فيعلَمون أنَّ ذلك كلَّه متلقًى مما جاء به الرسولُ - صلى الله عليه وسلم - وأنَّ ما جاءَ به من ذلك عن ربِّه فهو الحقُّ الذي لا مزيدَ عليه، ولا عدولَ عنه، وأنه لا سبيل لتلقي الهُدى إلا منه، وأنه ليس في كتاب اللَّه ولا سنة رسولِهِ الصحيحة ما ظاهرُه كفرٌ أو تشبيهٌ أو مستحيلٌ، بل كلُّ ما أثبته اللَّهُ لنفسِهِ، أو أثبته له رسولُهُ - صلى الله عليه وسلم -، فإنه حق وصدقٌ، يجبُ اعتقادُ ثبوتِهِ مع نفْي التمثيلِ عنه، فكما أنَّ اللَّهَ ليس كمثلِهِ شيء في ذاتِهِ، فكذلك في صفاتِهِ. وما أُشكلَ فهمُهُ من ذلك، فإنه يقالُ فيه ما مدَح اللَّه الراسخينَ من أهل المحلم، أنهم يقولون عند المتشابهاتِ: (آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا) . وما أمر به رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - في متشابِهِ الكتابِ، أنه يُردُّ إلى عالمِهِ، واللَّهُ يقول الحقَّ ويهدي السبيلَ.

وكلمةُ السلفِ وأئمةِ أهلِ الحديثِ متفقة على أنَّ آياتِ الصفاتِ وأحاديثَها الصحيحةَ كلَّها تُمَر كما جاءتْ، من غير تشبيهٍ ولا تمثيلٍ، ولا تحريفٍ ولا تعطيلٍ. قال أبو هلالٍ: سأل رجل الحسنَ عن شيءٍ من صفة الربِّ عزَّ وجلَّ. فقال: أمِرُّوها بلا مثال. وقال وكيع: أدركتُ إسماعيلَ بنَ أبي خالد وسفيانَ ومِسْعرًا، يحدِّثون بهذه الأحاديثِ، ولا يفسِّرون شيئًا. وقال الأوزاعيُّ: سُئلَ مكحولٌ والزهريُّ عن تفسيرِ هذه الأحاديثِ، فقالا: أمِرَّها على ما جاءتْ. وقال الوليدُ بنُ مسلم: سألتُ الأوزاعيَّ ومالكًا وسفيانَ وليثًا عن هذه الأحاديثِ التي فيها الصفةُ والقرآنُ، فقالوا: أمِرُّوها بلا كيفٍ. وقال ابنُ عيينةَ: ما وصفَ اللَّهُ به نفسَهُ فقراءتُهُ تفسيرُه، ليسَ لأحدٍ أن يفسرَهُ إلا اللَّهُ عزَّ وجلَّ. وكلامُ السلفِ في مثلِ هذا كثير جدًّا. وقال أشهبُ: سمعتُ مالكًا يقولُ: إيَّاكم وأهلَ البدع. فقيلَ: يا أبا عبد اللَّه، وما البدعُ؟ قال: أهلُ البدع الذين يتكلمونَ في أسماءِ اللَّه وصفاتِهِ وعلمِهِ وقدرتِهِ ولا يسكتونَ عما سكتَ عنه الصحابةُ والتابعونَ لهم بإحسانٍ. خرَّجه أبو عبد الرحمن السلميُّ الصوفيُّ في كتابِ "ذمِّ الكلامِ ".

وروى - أيضًا - باسانيدِهِ ذمَّ الكلامِ وأهلِهِ عن مالكٍ، وأبي حنيفةَ، وأبي يوسُفَ، ومحمدٍ وابن مهدي، وأبي عبيدِ، والشافعيِّ، والمزنيِّ، وابن خزيمة. وذكر ابنُ خزيمةَ النهيَ عنه عن مالكٌ والثوريِّ والأوزاعي والشافعي وأبي حنيفةَ وصاحبيه وأحمدَ وإسحاقَ وابنِ المبارك ويحعى بنِ يحيى ومحمد بنِ يحى الذُّهليِّ. وروى السلميّ - أيضًا - النهيَ عن الكلامِ وذمَّه عن الجنيدِ وإبراهيم الخواصِ. فتبيَّنَ بذلك أن النهي عن الكلامِ إجماعٌ من جميع أئمةِ الدين من المتقدمينَ من الفقهاءِ وأهلِ الحديثِ والصوفيةِ، وأنه قولُ أبي حنيفةَ ومالكٍ والشافعيَ وأحمد وإسحاقَ وأبي عبيدٍ وغيرِهم من أئمة المسلمينَ. ومن جملة صفاتِ اللَّه التي نؤمن بها، وتُمَرُّ كما جاءتْ عندهم: قولُه تعالى: (وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا) ونحو ذلك مما دلَّ على إتيانه ومجيئهِ يومَ القيامة. وقد نصَّ على ذلكَ أحمدُ وإسحاقُ وغيرُهما. وعندهما: أن ذلك من أفعالِ اللَّه الاختياريةِ التي يفعلُها بمشيئَتِهِ واختيار. وكذلك قالَه الفضيلُ بنُ عياضٍ وغيرُه من مشايخ الصوفيةِ أهلِ المعرفةِ. وقد ذكرَ حربٌ الكرْمانيُّ أنه أدركَ على هذا القولِ كلَّ مَن أخذَ عنه العلمَ في البلدانِ، وسمى منهُم: أحمدَ وإسحاقَ والحميدي وسعيدَ بنَ منصورٍ. وكذلكَ ذكرَه أبو الحسنِ الأشعريِّ في كتابِهِ المسمَّى بـ "الإبانة"، وهو من أجلِّ كتبِهِ، وعليه يعتمدُ العلماءُ وينقلُون منه، كالبيهقي وأبي عثمان الصابونيِّ

وأبي القاسم ابنِ عساكرٍ وغيرِهم. وقد شرحَهُ القاضي أبو بكرِ ابنُ الباقلانيِّ. وقد ذكرَ الأشعريُّ في بعص كتبِهِ أن طريقةَ المتكلمينَ في الاستدلالِ على قدَمِ الصانع وحدوثِ العالَم بالجواهرِ والأجسامِ والأعراضِ محرمةٌ عندَ علماء المسلمين. وقد رُوي ذمُّ ذلك وإنكارُه ونسبتُه إلى الفلاسفة عن أبي حنيفةَ. وقال ابن سريج: توحيدُ أهلِ العلم وجماعةِ المسلمين: الشهادتان. وتوحيدُ أهلِ الباطنِ من المسلمينَ: الخوضُ في الأعراضِ والأجسامِ، وإنَّما بُعِث النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بإنكارِ ذلك. خرَّجه أبو عبد الرحمن السلمي. وكذلك ذكره الخطابيُّ في رسالتهِ في "الغنية عن الكلامِ وأهلِهِ ". وهذا يدلُّ على أن ما يؤخذُ من كلامِهِ في كثيرٍ من كتبِهِ مما يخالفُ ذلك ويوافقُ طريقةَ المتكلمينَ فقد رجعَ عنه، فإن نفيَ كثيرٍ من الصفاتِ إنما هو مبنيٌ على ثبوتِ هذه الطريقةِ. قال الخطابيُّ في هذه الرسالةِ في هذه الطريقةِ في إثباتِ الصانع: إنما هو شيءٌ أخذهُ المتكلمونَ عن الفلاسفةِ، وإنما سلكتِ الفلاسفةُ هذه الطريقةَ لأنهم لا يُثبتون النبوَّاتِ ولا يرون لها حقيقةً، فكان أقوى شيءٍ عندَهم في الدلالةِ على إثباتِ هذه الأمورِ ما تعلَّقوا به من الاستدلالِ بهذه الأشياءِ، فأمَّا مثبتو النبوَّاتِ، فقد أغناهم اللَّهُ عن ذلك، وكفاهم كلفةَ المؤنةِ في ركوبِ هذه الطريقةِ المتعرِّجةِ التي لا يُؤمَنُ العنتُ على مَن ركبَها، والإبداع والانقطاعُ

على سالِكها. ثم ذكرَ أن الطريقَ الصحيحةَ في ذلك: الاستدلالُ بالصنعةِ على صانعها. كما تضمَّنه القرآنُ، وندب إلى الاستدلالِ به في مواضعَ، وبه تشهدُ الفطرُ السليمةُ المستقيمةُ. ثم ذكر طريقتَهم التي استدلُّوا بها، وما فيها من الاضطراب والفسادِ والتناقضِ والاختلافِ. ثم قال: فلا تشتغلْ - رحمكَ اللَّهُ - بكلامهِم، ولا تغترَّ بكثرةِ مقالاتهم. فإنَّها سريعةُ التهافتِ، كثيرةُ التناقضِ، وما من كلامٍ تسمعُه لفرقة منهم إلا ولخصومِهِم عليه كلامٌ يوازيه ويفارقُه، فكل بكلٍّ معارضٌ، وبعضهم ببعضٍ مقابلٌ. قال: وإنَّما يكونُ تقدُّمُ الواحدِ منهم وفلجه على خصمِهِ بقدرِ حظّه من الثبات والحذقِ في صنعةِ الجدالِ والكلامِ، وأكثرُ ما يظهرُ به بعضُهم على بعضٍ إَنّما هو إلزامٌ من طريقِ الجدلِ على أصولِ مؤصلة لهم، ومناقضات على مقالاتٍ حفظُوها عليْهم [. . .] (1) تقودها وطردها، فمَّنَ تقاعدَ عن شيءَّ مَنها سمَّوْه من طريقِ [. . .] (1) جعلوه مبطلاً، وحكموا بالفلج لخصمِه عليه. والجدلُ لا يقومُ به حقٌّ [. . .] (1) به حجة. وقد يكون الخصمانِ على مقالتينِ مختلفتينِ، كلاهما باطل، ويكونُ الحقُّ في ثالث غيرهما، فمناقضةُ أحدِهما صاحبَه غيرُ مصحِّح مذهبَه، وإن كانَّ مَفسدًا به قولَ خصمِهِ، لأنهما مجتمعان معًا في الخطأ.

_ (1) بياض بالأصل.

مشتركان فيه، كقول الشاعر: حُجَج تهَافَتُ كالزَّجاج (1) تخَالُها. . . حقًّا وكُلٌّ واهِن مكسُورُ ومتى كان الأمرُ كذلك، فإنَّ أحدًا من الفريقينِ لا يعتمدُ في مقالتِه التي نصرَها أصلاً صحيحًا، وإنَّما هو أوضاع وآراءُ تتكافأ وتتقابلُ، فيكثر المقالُ، ويدومُ الاختلافُ، ويقلُّ الصوابُ، كما قال تعالى: (وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا) ، فأخبرَ تعالى أنَّ ما كثرَ فيه الاختلافُ فليسَ من عندِهِ، وهو من أدلِّ الدليلِ على أنَّ مذاهبَ المتكلمين مذاهبُ فاسدة، لكثرة ما يوجدُ فيها من الاختلافِ المفضي بهم إلى التكفيرِ والتضليلِ. وذكرَ بقيةَ الرسالةَ، وهي حسنة متضمِّنة لفوائدَ جليلةٍ، وإنما ذكرْنا هذا القدرَ منها ليتبيَّن به أنَ القواعدَ العقليةَ التي يدَّعي أهلُها أنه قطعيات لا تقبلُ الاحتمالَ، فتردُّ لأجلِها - بزعمِهم - نصوصُ الكتابِ والسنةِ وتصرفُ عن مدلولاتها، إنما هي عندَ الراسخينَ شبهاتٌ جهلياتٌ، لا تساوِي سماعَها، ولا قراءتَها، فضلاً عن أنْ يُردَّ لأجلها ما جاءَ عن اللَّه ورسولِهِ، أو يحرفَ شيء من ذلك عن مواضعِهِ. وإنَّما القطعياتُ ما جاءَ عن اللَّهِ ورسولِهِ من الآياتِ المحكماتِ البينات. والنصوصِ الواضحاتِ، فتردُّ إليها المتشابهاتُ، وجميعُ كتبِ اللَّه المنزلةِ متفقة على معنًى واحدٍ، وإن ما فيها محكماتٌ ومتشابهاتٌ، فالراسخونَ في العلم يؤمنونَ بذلك كلِّه، ويردونَ المتشابهَ إلى المحكم، ويكلُون ما أُشْكِلَ عليهم

_ (1) الزجاج: رعاع الناس.

فهمُه إلى عالمِهِ، والذين في قلوبِهِم زيغٌ يتبعونَ ما تشابَهُ منه ابتغاءَ الفتنة وابتغاءَ تأويلِهِ، فيضربونَ كتابَ اللَّه بعضَه ببعض، ويردُّون المحكمَ. ويتمسكونَ بالمتشابهِ ابتغاءَ الفتنةِ، ويحرّفون المحكمَ عن مواضعِه، ويعتمدونَ على شبهاتٍ وخيالاتٍ لا حقيقةَ لها، بلْ هي من وساوسِ الشيطانِ وخيالاتِهِ، يقذفُها في القلوبِ. فأهلُ العلم والإيمانِ يمتثلون في هذه الشبهاتِ ما أمرُوا به من الاستعاذةِ باللَّه، والانتهاء عما ألقاه الشيطانُ، وقد جعلَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - ذلك من علاماتِ الإيمانِ، وغيرُهم فيصغونَ إلى تلك الشبهاتِ، ويعبرون عنها بألفاظ مشتبهات، لا حرمةَ لها في نفسها وليس لها معنىً يصحُّ، فيجعلون تلك الألفاظ - محكمةً لا تقبلُ التأويلَ، فيردُّون كلامَ الله ورسولِهِ إليها، ويعرضونه عليها، ويحرّفونه عن مواضعِه لأجلها. هذه طريقةُ طوائف أهلِ البدع المحضةِ من الجهميةِ والخوارج والروافضِ والمعتزلةِ ومن أشبَههُم، وقد وقعَ في شيء من ذلك كثيرٌ من المتأخرينَ المنتسبين إلى السنة من أهلِ الحديثِ والفقهِ والتصوفِ من أصحابِنا وغيرِهم في بعضِ الأشياءِ دونَ بعضٍ. وأمَّا السلفُ وأئمةُ أهلِ الحديثِ، فعلى الطريقةِ الأولى، وهي الإيمانُ بجميع ما أثبتَهُ اللَهُ لنفسه في كتابِهِ، أو صحَّ عن رسولِ اللَّه - صلى الله عليه وسلم - أنه أثبتَه له، مع نفي التمثيلِ والكيفيةِ عنه، كما قالَه ربيعةُ ومالكٌ وغيرُهما من أئمةِ الهدى في الاستواء، ورُوي عن أمِّ سلمةَ أمِّ المؤمنين، وقال مثلَ ذلك غيرُهم من العلماء في النزولِ، وكذلك القولُ في سائر الصفاتِ، واللهُ سبحانه وتعالى الموفقُ.

وقولُه - صلى الله عليه وسلم -:، فأكون أولَ من يجوزُ بأمَّتِه حتى يقطع الجسرَ بأمَّتِه. وروي: "يجيزُ"، وهما لغتان، يقال: جُزتُ الوادِي وأجزتُه، وهما بمعنىً. وعن الأصمعى، قال: أجزته: قطعتُه، وجزته: مشيتُ عليه. وقولُه: "منهم الموبَقُ بعملِه" أي: الهالك. وقولُه: "ومنهم المخردلُ"، هو بالدالِ المهملةِ والمعجمةِ -: لغتانِ مشهورتانِ، والمعنى: المقطَّعُ، والمراد - واللَّه أعلم -: أن منهم من يهلكُ فيقعُ في النارِ، ومنهم من تقطعه الكلاليب التي على جسرِ جهنَّم، ثم لا ينجوُ ولا يقع في النارِ. وقيل: معناه أنه ينقطعُ عن النجاةِ واللحاقِ بالناجينِ. والمقصودُ من تخريج الحديثِ بطولهِ في هذا البابِ: أنَّ أهلَ التوحيدِ لا تأكل النار منهم مواضعَ سجودِهِم، وذلك دليلٌ على فضلِ السجودِ عندَ اللهِ وعظمتِهِ، حيث حرَم على النارِ أن تأكل مواضعَ سجودِ أهلِ التوحيدِ. واستدل بذلك بعضُ من يقول: إنَّ تارك الصلاةِ كافرٌ، فإنَه تأكلُه النارُ كلَّه، فلا يبقى حالُه حالَ عصاةِ الموحدينَ. وهذا فيمَنْ لم يصل للهِ صلاةً قطُّ ظاهرٌ. وقولُه: "امتُحِشوا" أي: احترقوا، وضُبطت هذه الكلمة بفتح التاءِ والحاءِ. وفي بعضِ النسخ بضم التاء وكسرِ الحاءِ.

و"الحِبَّةُ" بكسر الحاء، قال الأصمعي: كُلُّ نبتٍ له حبٌّ فاسْمُ جميع ذلك الحبِّ الحِبَّةُ، وقال الفراء: الحِبةُ: بذور البقلِ، وقال أبو عمروٍ: الحِبَّةُ نبت ينبت في الحشيش صغارٌ. وقال الكسائيُّ: الحِبَّةُ بذرُ الرياحين، واحدتها حبَّةٌ، وأما الحِنطة فهو الحبُّ لا غير، يعني الفتح. و"الحميل ": ما حمله السيل من كل شيءٍ، فهو حميلٌ بمعنى محمول. كقتيل بمعنى مقتول. * * *

سورة البلد

سُورَةُ البَلَدِ قوله تعالى: (فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11) رَوى عطيةُ عن ابنِ عمرَ في قولِهِ تعالى: (فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11) . قال: جبلُ زلزالٍ في جهنَّمَ. وروى ابن أبي حاتمم بإسناده عن كعب، قال: اقتحام العقبة في كتاب اللَّه - يعني: قوله: (فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ) - سبعين درجة في النار. وعن ضمرة قال: سمعت أبا رجاء قال: بلغني أن العقبة التي ذكر اللَّه في كتابه: مطلعها سبعة آلاف سنة، ومهبطها سبعة آلاف سنة. وعن عطية، عن ابن عمر، قال في العقبة: "جبل في جهنم، أفلا أجاوزه بعتق رقبة؟! ". وعن مقاتل بن حيان، قال: هي عقبة في جهنم، قيل: بأي شيء تقطع؟ قال: رقبة. وفي "الصحيحين "، ولفظه للبخاري عن ابن عمر قال: رأيت في المنام أنه جاءني ملكان في يد كل واحد منهما مقمعة من حديد، ثم لقيني ملك في يده مقمعة من حديد، قالوا: لن تُرعَ، نِعْمَ الرجلُ أنت لو كنت

قوله تعالى: (ألم نجعل له عينين (8) ولسانا وشفتين (9)

تكثر الصلاة من الليل، فانطلقوا بي، حتى وقفوا بي على شفير جهنم، فإذا هي مطوية كطي البئر، لها قرون كقرون البئر، بين كل قرنين ملك بيده مقمعة من حديد، وإذا فيها رجال معلقون بالسلاسل رءوسهم أسفلهم. وعرفت رجالاً من قريش، فانصرفوا بي عن ذات اليمين، فقصصتها على حفصة، فقصتها حفصة على رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -، فقال: "إن عبد الله رجل صالح". * * * قوله تعالى: (أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (8) وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ (9) قال اللَّه عزَّ وجلَّ: (يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ (8) . وقال عزَّ وجلَّ: (قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (23) . وقال: (وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (78) . وقال: (أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (8) وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ (9) . قال مجاهدٌ: هذه نعَمٌ من اللَّه متظاهرة يقرِّرُكَ بها كيما تشكر. وقرأ الفُضيلُ ليلةً هذه الآية، فبكى، فسُئلَ عن بكائِهِ، فقال: هل بِتَّ ليلةً شاكرًا للَّه أن جعلَ لك عينينِ تُبصر بهما؟ هل بِتَّ ليلةً شاكرًا للَّه أنْ جعلَ لك لسانًا تنطقُ به؟ وجعلَ يعدِّدُ من هذا الضَّرْبِ. وروى ابنُ أبي الدنيا بإسنادِهِ عن سلمانَ الفارسيِّ، قال: إنَّ رجلاً بُسِطَ له

منَ الدنيا، فانتُزِعَ ما في يديه، فجعل يحمَدُ اللَّه عزَّ وجلَّ، ويُثني عليه. حتَّى لم يكنْ له فراشٌ إلا بوري فجعلَ يحمدُ اللَّهَ، ويُثني عليه، وبُسِطَ لآخرَ من الدنيا، فقال لصاحبِ البُوري (1) : أرأيتك أنتَ على ما تحمدُ اللَّهَ عزَّ وجلَّ؟ قال: أحْمَدُهُ على ما لو أُعْطِيتُ به ما أعْطيَ الخلْقُ، لم أُغطِهِمْ إيَّاه. قال: وما ذاك؟ قال: أرأيت بصرَك؟ أرأيتَ لسانَك؟ أرأيتَ يديك؟ أرأيتَ رجلَيْك؟ وبإسنادِهِ عن أبي الدرداءِ أنه كان يقولُ: الصحَّةُ غِنى الجسدِ. وعن يونسَ بنِ عبيدٍ: أنَّ رجلاً شكا إليه ضيقَ حالِهِ، فقال له يونسُ: أيسُرُّك أنَّ لك ببصرِك هذا الذي تُبْصِرُ به مائةَ ألف درهم؟ قال الرجل: لا. قال: فبرجليك؟ قال: لا، قال: فذكَّره نِعَمَ اللَّه عليه، فقال يونسُ: أرى عندك مِئين ألوفٍ وأنت تشكو الحاجةَ. وعن وهبِ بنِ مُنبِّهٍ، قال: مكتوبٌ في حكمةِ آلِ داودَ: العافيةُ المُلك الخفيُ. وعن بكرٍ المزنيِّ، قال: يا ابنَ آدمَ، إنْ أردتَ أنْ تعلم قدرَ ما أنعم اللَّه عليك، فغمِّض عينيك. وفي بعض الآثارِ: كم منْ نِعمَةٍ للَّه في عرقٍ ساكنٍ. وفي "صحيح البخاري" عن ابنِ عباسٍ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "نعْمتانِ مغْبُون فيهما كثيرٌ من الناسِ: الصحَّةُ والفراغُ ".

_ (1) البوري: هو الحصير المنسوج.

سورة الشمس

سُورَةُ الشَّمْسِ قال الله عز وجل: (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10) والمعنى قد أفلحَ من زكَّى نفسَهُ بطاعةِ اللَّه، وخابَ من دسَّاها بالمعاصي. فالطاعةُ تُزكِّي النفسَ وتُطهرُها، فترتفعُ، والمعاصي تُدسِّي النَّفْسَ، وتقمعُها، فتنخفضُ، وتصيرُ كالذي يُدسُّ في التراب. * * *

سورة الضحى

سُورَةُ الضُّحَى قوله تعالى: (وَالضُّحَى (1) وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى (2) مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى (3) وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى (4) وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى (5) أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى (6) وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى (7) وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى (8) فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ (9) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ (10) وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (11) وقال في سورةِ الضُّحى: لما توالى فيها قسَمانِ، وجوابَانِ مثبتان، وجوابان نافيانِ، فالقسمانِ: (وَالضُّحَى (1) وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى (2) . والجوابان النافيان: (مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى) . والجوابان المثبتان: (وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى (4) وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى (5) . ثم قررَ بنعمٍ ثلاث، وأتبعهنَّ بوصايا ثلاث: كل واحدة من الوصايا شكرُ النعمةِ التي قوبِلَتْ بها. فإحداهنَّ: (أَلَمْ يَجِدْكَ يَثِيمًا فَآوَى) وجوابها: (فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ) . والثانية: (وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى) فقابلها بقولِهِ: (وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ) . وهذا لأنَّ السائلَ ضالٌّ يبغي الهُدى. والثالثةُ: (وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى) فقابَلها بقوله: (وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ) . وإنَّما قال: (وَمَا قَلَى) ولم يقلْ: وما قلاكَ، لأن القِلَى بغضٌ بعدَ حبٍّ.

قوله تعالى: (ووجدك ضالا فهدى)

وذلك لا يجوز على اللَّهِ تعالى. والمعنى: وما قلى أحدًا قط، ثم قال: (وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لكَ مِنَ الأُولَى) ولم يقلْ: خير على الإطلاقِ، وإنَّما المعنى خير لك ولمن آمن بك. وقوله: (فَآوَى) ولم يقلْ: فآواك، لأنه أرادَ: آوى بك إلى يومِ القيامةِ. * * * قوله تعالى: (وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى) وقال لنبيه - صلى الله عليه وسلم -: (وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى) . والمرادُ وجدَك غيرَ عالم بما علَّمَك من الكتابِ والحكمةِ، كما قالَ تعالى: (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ) فالإنسانُ يُولدُ مفطورًا على قبولِ الحقّ، فإنْ هداه اللَّهُ سبَّبَ له منْ يعلمُهُ الهُدى، فصارَ مهتديًا بالفعلِ بعدَ أن كان مهتديًا بالقوَّةِ، وإنْ خذَلَهُ قيَّضَ له من يعلِمُهُ ما يُغيرُ فطرتَه، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: "كلُّ مولود يولد على الفطرةِ، فأبواه يُهَوِّدَانِهِ ويُنصرانِهِ ويمجِّسانِهِ ". * * *

سورة الشرح

سُورَةُ الشَّرْح قوله تعالى: (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (6) وقولُهُ - صلى الله عليه وسلم -: "فإنَّ مع العسرِ يُسرًا" هو مُنتزعٌ من قولِهِ تعالى: (سَيَجْعَل اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يسْرًا) . وقولُه عزَّ وجلَّ: (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (6) . وخرَّج البزارُ في "مسندِهِ " وابنُ أبي حاتمٍ - واللفظُ له - من حديثِ أنسٍ عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "لو جاءَ العُسْرُ، فدخلَ هذا الجُحْر، لجاءَ اليسرُ حتَى يدخلَ عليه فيُخْرِجَه "، فأنزل اللَّهُ عزَّ وجلَّ: (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (6) . وروى ابنُ جريرٍ وغيرُه من حديثِ الحسنِ مرسلاً نحوَه، وفي حديثِه: فقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "لن يَغْلِبَ عُسْرٌ يُسرينِ ". وروى ابنُ أبي الدنيا بإسنادِهِ عن ابنِ مسعود، قال: " لو أنَّ العسرَ دخلَ في جحرٍ لجاءَ اليسرُ حتَّى يدخل معه، ثم قال: قال اللَّهُ تعالى: (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (6) . وبإسنادِهِ أنَّ أبا عبيدةَ حُصِرَ فكتبَ إليه عمرُ يقول: مهما ينزل بامرئٍ شدَّة

يجعلُ اللَّه له بعدَها فرجًا، وإنَه لن يَغْلِبَ عسرٌ يسرينِ، وإنه يقول: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (200) . ومن لطائف أسرارِ اقترانِ الفرج بالكربِ واليُسرِ بالعسرِ: أن الكربَ إذا اشتدَّ وعَظُمَ وتناهى، حصلَ للعبدِ الإياسُ من كَشْفِهِ من جهةِ المخلوقين. وتعلَّقَ قلبُه بالله وحدَهُ، وهذا هو حقيقةُ التوكُلِ على اللَّه، وهو من أعظم الأسبابِ التي تُطلَبُ بها الحوائجُ، فإنَّ اللَّهَ يكفي من توكَّل عليه"، كما قال: (وَمَن يَتَوَكلْ عَلَى اللهِ فَهوَ حَسْبُهُ) . وروى آدمُ بنُ أبي إياسٍ في "تفسيره" بإسنادِهِ عن محمدِ بنِ إسحاقَ قال: جاء مالكٌ الأشجعي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: أُسِرَ ابْنِي عوفٌ، فقالَ له: "أرسل إليه: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأمرُكَ أن تُكثِرَ من قولِ: لا حول ولا قوة إلا باللَّهِ "، فأتاه الرسولُ فأخبرَه، فأكبَّ عوفٌ يقول: لا حول ولا قوة إلا باللَّه، وكانوا قد شدُّوه بالقدِّ فسقطَ القدُّ عنه، فخرجَ فإذا هو بناقةٍ لهم فركبَها، فأقبلَ فإذا هو بسَرح القومِ الذي كانوا شدُّوه، فصاح بهم، فاتبعَ آخرُها أوَّلَها،، فلم يفجأ أبويه إلا وهو ينادي بالبابِ، فقال أبوه: عوف وربِّ الكعبةِ، فقالتْ أُمُّه: واسوأتاه، عوفٌ كئيبٌ يالمُ لما فيه منَ القدِّ، فاستبقَ الأبُ والخادمُ إليه، فإذا عوفٌ قدْ ملأ الفناءَ إبلاً، فقصَّ على أبيه أمرَه وأمرَ الإبلِ فأتى أبوه رسولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فأخبره بخبرِ عوف وخبرِ الإبل، فقال له رسولُ اللَّه - صلى الله عليه وسلم -: "اصنع بها ما أحببتَ، وما كنتَ صانعًا لإبلك ". ونزل: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ) .

قال الفُضيلُ: واللَّه لو يئستَ من الخلقِ حتَّى لا تريدَ منهم شيئًا، لأعطاكَ مولاكَ كُلَّ ما تُريد. وذكر إبراهيمُ بنُ أدهم عن بعضِهم، قال: ما سألَ السائلون مسألةً هي ألحفُ منْ أن يقولَ العبدُ: ما شاء اللَّهُ، قال: يعني بذلك التَّفويضَ إلى اللَّه عزَ وجلَ. وقال سعيدُ بنُ سالمٍ القداح: بلغني أنَّ موسى عليه السلامُ كانتْ له إلى اللَّهِ حاجةٌ، فطلبَها، فأبطاتْ عليه، فقال: ما شاء اللَّه، فإذا حاجتُه بيْنَ يديه، فعجبَ، فأوحى اللَّهُ إليه: أما علمتَ أنَّ قولَك: "ما شاءَ اللَهُ " أنجحُ ما طُلِبتْ به الحوائج. وأيضًا فإنَّ المؤمنَ إذا استبطأ الفرَجَ، وأيسَ منه بعدَ كثرةِ دعائِهِ، وتضرُّعِه. ولم يظهرْ عليه أثرُ الإجابةِ يرجعُ إلى نفسِهِ باللائمةِ، وقال لها: إنَّما أُتيتُ من قِبَلكِ، ولو كان فيكِ خير لأُجِبتُ، وهذا اللومُ أحبُّ إلى اللَّه من كثيرٍ من الطًّاعاتِ، فإنَّه يُوجبُ انكسارَ العبدِ لمولاهُ واعترافَهُ له بأنَّه أهل لما نزلَ به من البلاءِ، وأنه ليسَ بأهل لإجابةِ الدعاءِ، فلذلك تُسرعُ إليه حينئذ إجابةُ الدعاء وتفريجُ الكربِ، فإنه تعالى عندَ المنكسرةِ قلوبُهم من أجلِه. قال وهبٌ: تعبَّدَ رجل زمانًا، ثمَّ بدت له إلى اللَّهِ حاجةٌ، فصامَ سبعينَ سبتًا، يأكلُ في كُلِّ سبتٍ إحدى عشرةَ تمرةً، ثم سألَ اللَّهَ حاجتَهُ فلم يُعطَها، فرجعَ إلى نفسِهِ فقال: منكِ أُتيتُ، لو كان فيكِ خير أعطيتِ حاجتَك، فنزلَ إليه عندَ ذلك ملَكٌ، فقال: يا ابنَ آدمَ ساعتُك هذه خير من عبادتِك التي مضت، وقد قضى اللَّه حاجتَك. خرَّجه ابنُ أبي الدنيا.

ولبعضِ المتقدمين في هذا المعنى: عسى ما ترى أن لا يدوم وأن ترى. . . له فرجَّاً ممَّا ألحَّ به الدَّهرُ عسى فرَج يأتي به اللَّهُ إنَه. . . لهُ كُل يومٍ في خَليقتِهِ أَمْرُ إذا لاح عسر فارج يسرًا فإنَّه. . . قضى اللَّهُ أنَّ العُسرَ يتبعُهُ اليُسر * * *

سورة التين

سُورَةُ التِّينِ قوله تعالى (ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ (5) وفي "الصحيح ": "أن إبراهيمَ عليه السلامُ إذا شفَعَ في أبيه، قيل له: يا إبراهيمُ انظرْ ما وراءَك، فإذا هو بذيخ ملطَّخ فيُؤخَذُ بقوائِمِهِ ويُلقى في النَارِ"، والذيخُ: الضبعُ الذكرُ. وقال أبو العالية في قولهِ تعالى: (ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ) قال: في النَّارِ في صورةِ خنزيرٍ. خرَّجَه ابنُ أبي حاتمٍ. قال ابنُ مسعود: إذا أرادَ اللَّه تعالى أنْ لا يُخْرِجَ منها أحدًا غيَرَ صورَهم وألوانَهم فلا يُعرفُ منهم أحدٌ. * * *

سورة العلق

سُورَةُ العَلَقِ قوله تعالى: (أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى (9) عَبْدًا إِذَا صَلَّى (10) [قالَ البخاريُّ] : قال ابنُ عباسٍ: حدثني أبو سفيانَ في حديثِ هرقلَ. فقال: يأمرنا - يعني: النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - بالصَّلاةِ والصِّدْقِ والعفافِ. حديث أبي سفيانَ هذا قد خرَّجَه البخاريُّ بتمامِهِ في أولِ كتابِهِ، وهو يدلُّ على أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - كان أهمُّ ما يأمرُ به أُمته الصلاةَ، كما يأمرُهم بالصدق والعفافِ، واشتهر ذلك حتى شاعَ بين الملَلِ المخالفينَ له في دِينه، فإنَّ أبا سفيان كان حينَ قال ذلك مُشْرِكًا، وكان هِرقْلُ نَصْرانيًا، ولم يزل - صلى الله عليه وسلم - منذ بُعث يأمر بالصدقِ والعفافِ، ولم يزلْ يصلي - أيضًا - قبل أن تُفْرَض الصلاة. وأولُ ما أُنزل عليه سورةُ: (اقْرَأْ بِاسْم رَبِّكَ) ، وفي آخرها: (أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى (9) عَبْدًا إِذَا صَلَّى (10) . إلى قوله: (كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ (19) . وقد نَزَلَتْ هذه الآياتُ بسببِ قولِ أبي جَهْلٍ: لئن رأيتُ محمدًا ساجدًا عندَ البيتِ لأطأنَّ على عنُقِهِ. وقد خرَّج هذا الحديثَ مسلم في "صحيحهِ "، وقد ذَكَرنا في أولِ كتابِ:

"الوضوءِ" حديثَ أسامةَ، أن جبريلَ نزَل على النبي - صلى الله عليه وسلم - في أولِ الأمرِ، فعلَّمه الوضوءَ والصلاة. وذكر ابنُ إسحاقَ: أنَّ الصلاةَ افتُرضتْ عليه حينئذِ، وكانَ هو - صلى الله عليه وسلم - وخديجةُ يُصلِّيان. والمرادُ: جنسُ الصلاةِ، لا الصلواتِ الخمسِ. والأحاديثُ الدالةُ على أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كانَ يصلي بمكةَ قبلَ الإسراءِ كثيرة. لكن قد قيلَ: إنَّه كان قد فُرض عليه ركعتانِ في أولِ النَّهارِ وركعتان في آخرِه فقط، ثم افتُرِضَتْ عليه الصلواتُ الخمس ليلةَ الإسراءِ، قاله مُقاتل وغيرُه. وقالَ قتادةُ: كان بدءُ الصلاةِ ركعتينِ بالغَداةِ، وركعتينِ بالعَشيِّ. وإنَّما أرادَ هؤلاء: أنَّ ذلك كان فرضًا قبل افتراضِ الصلواتِ الخمسِ ليلةَ الإسراءِ. وقد زعم بعضُهم: أن هذا هو مُرادُ عائشةَ بقولِها: فُرضَت الصلاةُ ركعتين ركعتين، وقالوا: إنَّ الصلواتِ الخمس فُرضَتْ أوَّلَ ما فُرضَتْ أربعًا وثلاثًا وركعتين على وجهِها. وضعَّف الأكثرون ذلك، وقالُوا: إنما أرادتْ عائشةُ فرضَ الصلواتِ الخمس ركعتينِ ركعتينِ سِوى المغربِ.

وقد ورد من حديثِ عَفيفٍ الكنْدي، أنَّه رأى النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يُصلي بمكةَ حين زالت الشمسُ ومعه علي وخديجةُ، وأن العباسَ قال له: ليس على هذا الدِّينِ أحدٌ غيرُهم. وقد خرَّجه الإمامُ أحمدُ والنسائيُّ في "خصائص عليٍّ". وقد طعن في إسناده البخاريُّ في "تاريخه " والعُقيلي وغيرُ واحدٍ. وقد خرَّج الترمذي من حديث أنسٍ، قال: بُعثَ النبي - صلى الله عليه وسلم - يومَ الاثنينِ، وصلى عليٌّ يومَ الثُّلاثاء. " وإسناد ضعيف. وقد خرَّجه الحاكم من حديث بُريدةَ، وصحَّحَه. وفيه فى ليلٌ على أنَّ الصلاةَ شُرعت من ابتداء النبوة، لكنَّ الصلواتِ الخمسِ لم تُفرض قبلَ الإسراء بغيرِ خلافٍ. وروى الرَّبيعُ، عن الشافعي، قال: سمعتُ ممن أثق بخبره وعلمه يذكر أنَّ اللَّهَ تعالى أنزل فرضًا في الصلاة، ثم نسخه بفرض غيره، ثم نسخ الثاني بالفرضِ في الصلواتِ الخمسِ. قال الشافعي: كأنَّه يعني قولَ الله عز وجل: (يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ) ثم نسخه في

السورةِ معهُ بقوله: (إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِن ثُلُتَي اللَّيْلِ) الآية. إلى قوله: (فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرآنِ) ، فنُسِخَ قيامُ الليل، أو نصفه، أو أقل، أو أكثر بما تيسَّر. قالَ الشافعيُّ: ويقال نُسخ ما وُصف في المزمل بقولهِ اللَّهِ عزَّ وجل: (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ) ودلوكُ الشمس: زَوالُها (إِلَى غَسَقِ اللَّيْل) العَتمَة (وَقُرانَ الْفَجْرِ) الصبح (وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ) فأعلمه أنَّ صلاةَ الليل نافلةٌ لا فريضة، وأن الفرائض فيما ذكرَ من ليلٍ أو نهار. قال: ويُقال في قولِ اللَّه عزَّ وجلَّ: (فَسُبْحَانَ اللهِ حِينَ تُمْسُون) المغربُ والعشاءُ (وَحِينَ تُصْبِحُونَ) الصبحُ (وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَعَشِيا) العصرُ (وَحِينَ تُظْهِرُونَ) الظهرُ. انتهى. وقد رُوي عن طائفةٍ من السَّلفِ تفسيرُ هاتينِ الآيتينِ بنحوِ ما قالَه الشافعي، فكلُّ آيةٍ منهما متضمِّنةٌ لذكر الصلواتِ الخمسِ، ولكنَّهما نزلتا بمكةَ بعدَ الإسراءِ. واللَّهُ أعلم. وقد أجمعَ العلماءُ على أنَّ الصلواتِ الخمسِ إنَما فُرضَتْ ليلةَ الإسراءِ. واختلفوا في وقتِ الإسراء: فقيل: كانَ بعدَ البعثةِ بخمسةَ عشرَ شهرًا، وهذا القولُ بعيدٌ جدًّا. وقيل: إنَّه كان قبلَ الهجرةِ بثلاثِ سنين، وهو أشهرُ. وقيل: قبلَ الهجرةِ بسنةٍ واحدةٍ. وقيل: قبلَها بستةِ أشهرٍ.

وقيل: كانَ بعدَ البعثةِ بخمسِ سنين، ورجحه بعضُهم، قال: لأنَّه لا خلاف أن خديجة صلَّت معه بعد فرض الصلاة، ولا خلاف أنها توفيَتْ قبل الهجرة بمدةٍ، قيل: بثلاث سنين، وقيل: بخمس، وقد أجمع العلماءُ على أن فرض الصلاة كان ليلةَ الإسراء. قلت: حكايته الإجماعَ على صلاة خديجةَ معه بعد فَرض الصلاةِ غَلَط مَحْضْ، ولم يَقُل هذا أحَدٌ ممن يُعْتَدُّ بقوله. وقد خرج أبو يَعلَى الموصلي والطبرانيُّ من حديث إسماعيلَ بن مُجالدٍ، عن أبيه عن الشَّعبي، عن جابر، أن رسولَ اللَّه - صلى الله عليه وسلم - سُئل عن خديجةَ؛ فإنها ماتت قبل أنْ تَنزل الفرائض والأحكام؟ فقال: "أبصرتها على نهر من أنهار الجنة، وفي بيت من قَصَب، لا لغو فيه ولا نَصَبٌ ". وروى الزُّبيرُ بنُ بكَّارِ، بإسنادِ ضعيفٍ، عن يُونُسَ عن ابنِ شهابٍ، عن عُروَةَ، عن عائشةُ، قالت: تُوفِّيتْ خديجةُ قبل أن تُفرض الصلاةُ. وقد فرَّق بعضهم بين الإسراء والمعراج، فجعل المعراج إلى السماوات كما ذكره اللَّه في سورة النَّجم، وجعل الإسراء إلى بيت المقدسِ خاصةً، كما ذَكَره اللَّه في سورة (سبحان) وزَعَم أنهما كانا في ليلتين مختلفتين، وأن الصلوات قُرضت ليلةَ المعراج لا ليلةَ الإسراء. وهذا هو الذي ذكره محمدُ بن سَعْدٍ في "طبقاته " عن الواقديِّ بأسانيدَ له متعددة، وذَكَر أن المعراج إلى السماء كان ليلةَ السبت لسبعَ عشرةَ خَلَتْ من شهر رمضانَ قبل الهجرة بثمانيةَ عشرَ شهرًا من المسجد الحرام، وتلك الليلةَ فرُضت الصلواتُ الخمس، ونزل جبريل فصلى برسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -

قوله تعالى: (فليدع ناديه (17) سندع الزبانية (18)

الصلوات في مواقيتها، وأن الإسراء إلى بيت المقدس كان ليلةَ سبعَ عشرةَ من شهر ربيع الأولِ قبل الهجرة بسنةٍ، من شِعْبِ أبي طالب. وما بوَّب عليه البخاري أن الصلوات فرضت في الإسراء يدل على أن الإسراء عنده والمعراج واحد. واللَّه أعلم. * * * قوله تعالى: (فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ (17) سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ (18) قال اللَّهُ تعالَى: (فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ (17) سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ (18) . قال أبو هريرةَ: الزبانيةُ: الملائكةُ. وقال عطاء: هم الملائكةُ الغلاظُ الشدادُ. وقال مقاتل: هم خزنةُ جهنَّمَ. وقال قتادةُ: الزبانيةُ في كلامِ العربِ: الشرطُ. وقالَ عبدُ اللَّهِ بنُ الحارثِ: الزبانيةُ رؤوسُهُم في الأرضِ وأرجلُهُم في السماءِ، خرَّجَهُ ابنُ أبي حاتم وخرجَ أيضًا بإسناده عن المنهالِ بنِ عمرو قالَ: إذا قالَ اللَّهُ تعالَى: (خُذُوهُ فَغلُّوهُ) ابتدرهُ سبعونَ ألفَ ملك، وإن الملكَ منهم ليقولُ هكذا، يعني: يفتحُ يديهِ، فيلقي سبعينَ ألفًا في النارِ. * * *

سورة القدر

سُورَةُ القَدْرِ قوله تعالى: (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3) تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (4) سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ (5) في "الصحيحينِ " عن أبي سعيد الخُدريّ - رضي الله عنه -، قال: كانَ رسول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يعتكِفُ في العشرِ الأوسطِ من رمضانَ، فاعتكفَ عامًا، حتَّى إذا كانتْ ليلةُ إحدى وعشرينَ، وهي الليلةُ التي يخرُجُ في صبيحتها من اعتكافِهِ. قال: "من كانَ اعتكفَ معي فليعتَكِفِ العشرَ الأواخِر، وقد أريتُ هذه الليلةَ ثم أنسيتُها، وقد رأيتُني أسجدُ في ماء وطين من صبيحتِها، فالتمسُوهَا في العشرِ الأواخرِ، والتمسوها في كلِّ وتر". فمطرتِ السَّماءُ تلكَ الليلةَ، وكان المسجدُ على عريشٍ، فوكفَ المسجدُ. فبصُرتْ عيناي رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - على جبهتهِ أثرُ الماءِ والطِّينِ من صُبح إحدى وعشرين، هذا الحديثُ يدل على أنَّ النبىَّ - صلى الله عليه وسلم - كان يعتكفُ العشرَ الأوسطَ من شهرِ رمضانَ؛ لابتغاءِ ليلةِ القدرِ فيه، وهذا السِّياقُ يقتضِي أنَّ ذلك تكرَّر منه - صلى الله عليه وسلم. وفي روايةٍ في "الصحيحينِ " في هذا الحديثِ: أنه اعتكفَ العشرَ الأوَل،

ثم اعتكفَ العشرَ الأوسطَ، ثم قالَ: "إني أُتيتُ، قيلَ لي: إنها في العشر الأواخر - فمن أحبَّ منكُم أن يعتكفَ فليعتِكفْ "، فاعتكفَ الناسُ معه. وهذا يدلُّ على أنَّ ذلكَ منه قبلَ أن يتبين لهُ أنَّها في العشر الأواخر، ثم لمَّا تبين له ذلك اعتكفَ العشرَ الأواخرَ حتَّى قبضَه اللَّه عزَّ وجلَّ، كما رواه عنه عائشة وأبو هريرة وغيرُهما. ورُوي أنَّ عمرَ - رضي الله عنه - جمعَ جماعةً من الصحابةِ، فسألهم عن ليلةِ القدرِ، فقالَ بعضُهم: كنَّا نراها في العشرِ الأوسطِ، ثم بلغنا أنها في العشرِ الأواخر. وخرَّج ابنُ أبي عاصم في كتاب "الصيام " وغيرُه من حديث خالدِ بن محدُوج، عن أنيى: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "التمسُوها في أوَل ليْلَةٍ، أو في تسعٍ، أو في أربع عشرةَ". وخالدٌ هذا فيه ضعفٌ، وهذا يدلُّ على أنَّها تُطلبُ في ليلتين من العشرِ الأوَل، وفي ليلة من العشر الأوسطِ، وهي أربع عشرةَ، وقد سبق من حديث واثلة بن الأسقع مرفوعًا: "إن الإنجيلَ أنزِل لثلاث عشرة من رمضانَ ". وقد ورد الأمر بطلب ليلةِ القدْر في النصفِ الأواخرِ من رمضانَ. وفي أفراد ما بقي من العشرِ الأوسطِ من هذا النصف، وهما ليلتانِ: ليلةُ سبعَ عشرةَ، وليلةُ تسعَ عشرةَ. أمَّا الأولُ: فخرَّجه الطبراني، من حديثِ عبدِ اللَّهِ بن أُنيسٍ، أنه سألَ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - عن ليلةِ القدر، فقالَ: "رأيتُها ونسيتُها، فتحرَّها في النّصفِ الأواخرِ". ثم عادَ فسالهُ، فقال: "التمسْها في ليلةِ ثلاثٍ وعشرين تَمضِي من الشهرِ". .

ولهذا المعنى - واللَّهُ أعلمُ - كان أبيّ بن كَعب يقنُتُ في الوتر في ليالي النصف الأواخرِ؛ لأنَّه يُرجى فيه ليلةُ القدرِ. وأيضًا فكُلُّ زمانٍ فاضلٍ من ليلٍ أو نهار، فإنّ آخرَه أفضلُ من أوَّلِه، كيومِ عرفَةَ، ويومِ الجُمعة، وكذلك الليلُ والنَّهار عمومًا؛ آخِرُهُ أفضل من أوَّلهِ. ولذلك كانتِ الصلاةُ الوسطَى صلاةَ العصْر، كما دلَّتِ الأحاديثُ الصحيحةُ عليه، وآثار السَّلفِ الكثيرةُ تدُلُّ عليهِ، وكذلكَ عشرُ ذي الحجةِ والمحرمِ " آخرُهما أفضلُ من أوَّلهِمَا. وأمَّا الثاني: ففي "سننِ أبي داود" عن ابنِ مسعودٍ مرفوعًا: "اطلُبُوها ليلةَ سبع عشرةَ مِن رَمضانَ، وليلةَ إحدَى وعشرين، وليلةَ ثلاثٍ وعشرين "، ثم سكتْ. وفي روايةٍ: "ليلةَ تسعَ عشرةَ"، وقيلَ: إنَّ الصحيحَ وقْفُه على ابنِ مسعودٍ، فقد صحَّ عنه أنَّه قال: تحرُّوا ليلةَ القدْرِ ليلةَ سبعَ عشرةَ، صباحيَّةَ بدرٍ، أو إحدى وعشرين، وفي روايةٍ عنه، قالَ: "ليلةَ سبعَ عشرةَ، فإنْ لم يكن ففي تسعَ عشرةَ". وخرَّج الطبرانيُّ من روايةِ أبي المُهزِّم، وهو ضعيف، عن أبي هريرةَ مرفوعًا، قال: "التمسُوا ليلةَ القدْرِ في سبعَ عشرةَ أو تسعَ عشرةَ، أو إحدى وعشرين. أو ثلاثٍ وعشرين، أو خمسٍ وعشرين، أو سبع وعشرين، أو تسعٍ وعشرين ". ففي هذا الحديثِ: التماسُها في أفرادِ النصفِ الثاني كلها، ويروى من حديثِ عائشةَ - رضي الله عنها -: أنَّ النَّبيَ - صلى الله عليه وسلم - كانَ إذا كان ليلةَ تسعَ عشرةَ من رمضانَ شدَّ المئزرَ وهجرَ الفراشَ حتى يُفطرَ. قال البخاريُّ: تفرَّد به عُمرُ بن مسكينٍ، ولا يتابع عليهِ، وقد رُويَ عن

طائفة من الصحابةِ. إنَّها تُطلبُ ليلةَ سبعَ عشرةَ، وقالُوا: إن صبيحتَها كانَ يومَ بدرٍ، رويَ عن علي، وابنِ مسعودٍ، وزيدِ بنِ أرقمَ، وزيدِ بنِ ثابتٍ، وعمرِو ابنِ حريثٍ، ومنهم من رُويَ عنه، أنَّها ليلةُ تسعَ عشرةَ. رُوي عن علي، وابنِ مسعودٍ، وزيدِ بن أرقمَ. والمشهورُ عندَ أهلِ السِّيرِ والمغازي: أنَّ ليلةَ بدْرٍ كانتْ ليلةَ سبعَ عشرةَ. وكانت ليلةَ جُمعةٍ، وروي ذلك عن علي، وابنِ عباسٍ وغيرهما، وعن ابنِ عباسٍ، رواية ضعيفة أنَّها كانت ليلةَ الاثنين. وكان زيد بن ثابتٍ لا يُحيي ليلةً من رمضان، كما يُحيى ليلةَ سبعَ عشرةَ. ويقول: إنَّ اللَّه فرَّق في صبيحتها بين الحقِّ والباطلِ، وأذلَّ في صبيحتها أئمةَ الكفرِ. وحكى الإمامُ أحمدُ هذا القولَ عن أهل المدينة: أنَّ ليلةَ القدْر تُطلبُ ليلةَ سبعَ عشرةَ، قال في رواية أبي داود فيمن قال لامرأته: أنت طالقٌ ليلة القدر، قال: يعتزلُها إذا دخلَ العشرُ، وقبل العشر، أهلُ المدينة يرونها في السبع عشرةَ، إلا أنَّ المثبتَ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في العشْرِ الأواخر. وحكي عن عامر بن عبدِ اللَّهِ بن الزُّبيرِ: أنَّه كانَ يُواصِلُ ليلةَ سبعَ عشرةَ. وعن أهلِ مكةَ أنَّهمُ كانُوا لا ينامونَ فيها، ويعتمرونَ. وحُكِيَ عن أبي يوسُفَ ومحمد، صاحِبي أبي حنيفةَ: أنَّ ليلةَ القدْرِ في النصفِ الأواخرِ من رمضانَ من غيرِ تعيينٍ لها بليلةٍ، وإن كانتْ في نفسِ الأمرِ عندَ اللَّهِ مُعينةً. ورويَ عن عبدِ الرحمنِ بنِ الحارثِ بنِ هشامٍ، قالَ: ليلةُ القدْرِ ليلةُ سبعَ عشرةَ، ليلةُ جمعة. خرَّجه ابنُ أبي شيبة. وظاهرُه أنَّها إنما تكونُ ليلةَ القدرِ إذا كانتْ ليلةَ جمعةٍ، لتُوافق ليلةَ بدرٍ، وروَى أبو الشيخ الأصبهاني بإسنادٍ

جَيِّدٍ، عن الحسنِ، قالَ: إنَّ غلامًا لعثمانَ بنَ أبي العاص، قالَ لهُ: يا سيِّدي، إن البحرَ يعذُبُ في هذا الشهر في ليلةٍ، قال: فإذا كانتْ تلك الليلةُ فأعلِمني، قال: فلما كانتْ تلكَ الليلةُ أذنَه، فنظرُوا فوجدوه عذبًا، فإذا هي ليلةُ سبعَ عشرةَ. ورُويَ من حديثِ جابرٍ، قالَ: كان رسولُ اللَّه - صلى الله عليه وسلم - يأتي قُباءً صبيحةَ سبعَ عشرةَ من رمضانَ، أيَّ يومٍ كان. خرَّجَه أبو موسى المدينيّ. وقد قيلَ: إنَّ المعراجَ كانَ فيها أيضًا، ذكرَ ابنُ سعدٍ، عن الواقديّ، عن أشياخِهِ: أنَّ المعراجَ كانَ ليلةَ السبتِ لسبعَ عشرةَ خلتْ من رمضانَ قبلَ الهجرة إلى السماءِ، وأن الإسراءَ كان ليلةَ سبعَ عشرةَ من ربيع الأوَّل قبلَ الهجرةِ بسنةٍ إلى بيتِ المقدسِ، وهذا على قولِ مَن فرَّق بين المعراج والإسراءِ؛ فجعلَ المعراجَ إلى السَّماء، كما ذُكر في سورةِ النجم؛ والإسراءَ إلى بيتِ المقدسِ خاصَّةً، كما ذُكرَ في سورةِ سبحانَ. وقد قيلَ: إنَّ ابتداءَ نبوَّةِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - كان في سابعَ عشرَ رمضان، قال أبو جعفر محمد بن علي الباقر: نزلَ جبريلُ على رسولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ليلةَ السبتِ وليلةَ الأحدِ، ثم ظهر له بحراءَ برسالةِ اللَّهِ عزَّ وجلَّ يومَ الاثنين لسبعَ عشرةَ خلتْ من رمضانَ. وأصحُّ ما روي في الحوادث في هذه الليلة أنَّها ليلةُ بدْرٍ. كما سبقَ أنَّها كانتْ ليلةَ سبعَ عشرَة. وقيلَ: تسعَ عشرةَ، والمشهورُ أنَّها كانتْ ليلةَ سبعَ عشرةَ، كما تقدَّمَ. وصبيحتُها هو يومُ الفرقانِ، يوم التقى الجمعانِ، وسُمِّي يومُ الفرقانِ؛ لأنَّ اللَّهَ تعالى فرَّق فيه بينَ الحقِّ والباطلِ، وأظهرَ الحقَّ وأهلَهُ على الباطلِ وحزْبهِ،

وعلَتْ كلمةُ اللَّهِ وتوحيدُه، وَذُلَّ أعداؤهُ من المشركينَ وأهلِ الكتاب، وكان ذلكَ في السنةِ الثانيةِ من الهجرةِ؛ فإن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قدمَ المدينةَ في ربيع الأولِ في أول سنةٍ من سني الهجرةِ، ولم يُفرضْ رمضان في ذلكَ العامِ، ثم صامَ عاشوراءَ، وفُرضَ عليه رمضانُ في ثاني سنةٍ، فهو أوَّل رمضان صامهُ وصامَه المسلمون معه. ثم خرَجَ النبي - صلى الله عليه وسلم - لطلبِ عيرٍ من قريش قدمتْ من الشامِ إلى المدينةِ في يوم السبتِ لاثنتي عشرةَ ليلةً خلتْ من رمضانَ، وأفطرَ - صلى الله عليه وسلم - في خروجهِ إليها. قال ابنُ المُسيّب: قال عُمر: غزونَا مع رسولِ اللَّه - صلى الله عليه وسلم - غزوتينِ في رمضانَ يومَ بدْرٍ، ويومَ الفتح، وأفطرنَا فيهما، وكان سببُ خروجِه حاجةَ أصحابِه، خصوصًا المهاجرين (الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (8) . وكانتْ هذه العِيرُ فيها أموالٌ كثيرةٌ لأعدائِهِم الكفار الذينَ أخرجُوهم من ديارِهم وأموالِهم ظُلمًا وعُدوانًا، كما قالَ اللَّهُ تعالى: (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ) . فقصدَ النَبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أن يأخذ أموالَ هؤلاء الكفار الظالمين المعتدين على أولياءِ اللَّهِ وحزبه وجندهِ، فيردَّها على أولياءِ اللَّه وحزبهِ المظلومينَ المخرجينَ من ديارِهِم وأموالِهِم ليتقوُّوا بها على عبادةِ اللَّهِ وطاعتِهِ وجهادِ أعدائِهِ، وهذا مما أحلَّه اللَّهُ لهذه الأمَّة؛ فإنَّه أحلَّ لهم الغنائمَ، ولم تحل لأحدٍ قبلَهم، وكان عدَّةُ من معهُ ثلثمائة وبضعةَ عشرَ، وكانوا على عدَّةِ أصحابِ طالُوتَ الذين جازُوا معه النهرَ، وما جازَه معه إلا مؤمنٌ.

وفي "سنن أبي داودَ" من حديثِ عبدِ اللَّهِ بن عمرو، قالَ: خرجَ رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يومَ بدر في ثلاثمائةِ وخمسةَ عشرَ من المقاتلةِ، كما خرجَ طالُوت، فدعا لهم رسولُ اللَّه - صلى الله عليه وسلم - حينَ خرجُوا، فقالَ: "اللهمَّ، إنَّهم حُفَاةٌ فاحْملهُم، وإنَّهم عُراةٌ فاكسُهُم، وإنهم جياعٌ فأشبعْهُم ". ففتحَ اللَّهُ يومَ بدرٍ، فانقلبُوا حينَ انقلبوا وما فيهم رجلٌ إلا وقد رجع بجملِ أو جملين، واكتسوا وشبعُوا، وكان أصحابُ النبي - صلى الله عليه وسلم - حين خرجُوا على غايةٍ من قلَّة الظهرِ والزاد؛ فإنَّهم لم يخرجوا مستعدين لحربٍ، ولا لقتالٍ، إنَّما خرجُوا لطلبِ العير، فكانَ معهُم نحو سبعينَ بعيرًا يعتقبونها بينهم، كُل ثلاثة على بعير. وكان للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم - زميلان، فكانوا يعتقبونَ على بعير واحدِ، فكان زميلاه يقولان لَهُ: يا رسولَ اللَّه، اركبْ حتَّى نمشيَ عنك، فيقولُ: ما أنتما بأقوَى على المشي منِّي، ولا أنا بأغنى عن الأجرِ منكُما، ولم يكنْ معهُمَا إلا فرسانِ، وقِيلَ: ثلاثة، وقيل: فر سٌ واحدٌ للمقدادِ. وبلغَ المشركينَ خروجُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - لطلبِ العيرِ، فأخذَ أبو سُفيان بالعِير نحو الساحلِ، وبعثَ إلى أهلِ مكَّة يخبرُهُم الخيرُ، ويطلبُ منهم أن ينفروا لحمايةِ عِيرهم، فخرجُوا مستصرخين، وخرجَ أشرافُهم ورؤساؤُهم، وسارُوا نحوَ بدْرٍ، واستشارَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - المسلمينَ في القتالِ فتكلَّم المهاجرونَ فسكتَ عنهُم. وإنما كانَ قصدُه الأنصارَ لأنَه ظنَّ أنَهم لم يبايعوه إلا على نُصْرته على من قصدهُ في ديارِهِم، فقام سعد بنُ عُبادةَ، فقالَ: إيَّانا تريدُ، يعني الأنصارَ. والذي نفسِي بيدِه، لو أَمرتَنا أن نَخِيضَها البحرَ لأخضناها، ولو أمرْتنا أن

نضربَ أكبادَها إلى برك الغمادِ لفعلنا، وقال له المقدادُ: لا نقُول لكَ كمَا قالَ بنو إسرائيل لموسى: (فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ) ولكن نقاتلُ عن يمينِكَ وشمالك، وبينَ يديكَ، ومِن خلفكَ. فَسُرَّ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بذلك وأجمعَ على القتالِ. وبات تلكَ الليلةَ، ليلةَ الجمعةِ سابعَ عشرَ رمضانَ قائمًا يُصلّى ويبكِي ويدعُو اللَّه ويستنصرُهُ على أعدائِهِ. وفي "المسندِ" عن عليِّ بنِ أبي طالبٍ، قالَ: "لَقَدْ رأيتُنا وما فينا إلا نائمٌ، إلا رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - تحتَ شجرة يُصلِّي ويبكي حتَى أصبحَ ". وفيه عنه أيضًا، قال: أصابنا طَشٌّ من مطرٍ، يعني ليلَةَ بدْرٍ، فانطلقنا تحتَ الشَّجرِ والحَجَفِ نستظلُّ بها من المطرِ، وبات رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يدعو ربَّهُ، ويقول: "إن تُهْلكْ هذه الفئةَ لا تُعْبَدْ". فلمَّا أن طلعَ الفجر نادى: الصلاةَ عبادَ اللَّهِ، فجاءَ الناسُ من تحت الشَّجر والحجفِ، فصلَّى بنا رسولُ اللَّه - صلى الله عليه وسلم -. وحثَّ على القتال. وأمدَّ اللَّهُ تعالى نبيَّهُ والمؤمنينَ بنصرٍ من عندِه وبجند من جندِه، كما قالَ تعالى: (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ (9) وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ) .

وفي "صحيح البخاريِّ " أنَّ جبريلَ قالَ للنبي - صلى الله عليه وسلم -: "ما تَعُدُّون أهلَ بدرٍ فيكم؟ قال: " مِن أفْضَل المسلمين " أو كلمة نحْوَهَا، قال: وكذلك مَن شهِدَ بدْرًا من الملائكة". وقال اللَّهُ تعالى: (وَلَقَدْ نَصَرَكمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ) . وقال: (فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى) . ورُوي أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - لما رآهمُ قالَ: "اللهمََّ، إن هؤلاءِ قُريشٌ قد جاءتْ بخُيلائها يُكَذبون رسولَك، فانجِزْ لي ما وَعدْتَنِي ". فأتاه جبريلُ، فقال: "خُذْ قبضةً من تُراب فارمهم بها"، فأخذَ قبضةً من حصْباءِ الوادي فرمَى بها نحوَهم، وقال: "شاهتِ الوُجُوه " فلم يبقَ مُشركٌ إلا دخلَ في عينيهِ ومنْخرِه وفمه شيءٌ، ثم كانتِ الهزيمةُ. وقال حكيمُ بنُ حزامٍ: سمعنا يومَ بدرٍ صوتًا وقع من السَّماء كأنَّه صوتُ حصاةٍ على طَسْتٍ، فرمى رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - تلكَ الرَّميةَ، فانهزمنا، ولما قدمَ الخبرُ على أهلِ مكةَ قالُوا لمن أتاهُم بالخبرِ: كيفَ حالُ الناسِ؟ قال: لا شيءَ، واللَّهِ إن كانَ إلا أن لقيناهُم فمنحناهم أكتافنا. يقتلُونا ويأسرُونا كيفَ شاؤُوا، وأيْمُ اللَّهِ، مع ذلكَ ما لمتُ النَّاسَ، لقينا رجالاً على خيلٍ بُلق بين السَّماءِ والأرضِ ما يقومُ لها شيءٌ. وقتلَ الله صَّنَاديدَ كفارِ قريشٍ يومئذٍ، منهم عُتبةُ بنُ ربيعةَ، وشيبةُ. والوليدُ بنُ عتبةَ، وأبو جهلٍ، وغيرُهم، وأسرُوا منهم سبعينَ، وقصَّة بدرٍ يطولُ استقصاؤها، وهي مشهورةٌ في التفسيرِ وكتبِ الصحاح والسنن والمسانيدِ والمغازي والتواريخ وغيرها، وإنما المقصودُ هاهنا التنبيةُ على بعضِ مقاصدها.

وكان عدوُّ اللَّه إبليسُ قد جاء إلى المشركينَ في صورةِ سُراقةَ بن مالكٍ. وكانت يدُهُ في يدِ الحارث بن هشامٍ، وجعل يُشجعهم ويعدُهم ويمنَيهم، فلمَّا رأى الملائكةَ هربَ وألقى نفسه في البحر. وقد أخبرَ اللَّهُ عن ذلك بقوله تعالى: (وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ (48) . وفي "الموطأ" حديثٌ مرسلٌ عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما رُؤِي الشَّيطانُ أحقرَ ولا أدحَر ولا أصغرَ من يوم عرفَةَ، إلا ما أُرِي يوْمَ بدر". قيل: وما رأى يومَ بدرٍ؟ قال: "رأى جبريلَ يزعُ الملائكة"، فإبليس عدوُّ اللَّهِ يسعَى جهدَه في إطفاءِ نورِ اللَّه وتوحيدهِ، ويُغرِي بذلك أولياءَه من الكفَّار والمنافقين، فلمَّا عجزَ عن ذلكَ بنصرِ اللَّهِ نبيَّه وإظهارِ دينه على الدِّينِ كُلِّه، رضِيَ بإلقاءِ الفتن بين المسلمينَ. واجْتَزَى منهُم بمحقرَاتِ الذنوبِ حيثُ عجزَ عن ردِّهم عن دينهِم؛ كما قالَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ الشيطانَ قد أيسَ أن يعبدهُ المصلُّونَ في جزيرةِ العربِ، ولكن في التحريشِ بينَهمُ ". خرَّجهُ مسلمٌ من حديثِ جابرٍ، وخرَّج الإمامُ أحمدُ والنسائيُّ والترمذيُّ وابنُ ماجةَ من حديثِ عمروِ بنِ الأحوصِ، قالَ: سمعتُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يقولُ في حجةِ الوداع: "ألا أنَّ الشَّيطانَ قد أيسَ أن يُعبدَ في بلدكُم هذا أبدًا، ولكنْ سيكونُ له طاعةٌ في بعضِ ما تحتقرُون من أعمالُكم، فيرضَى بها".

وفي "صحيح الحاكم " عن ابنِ عبَّاس أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - خطبَ في حجةِ الوداع، فقال: "إنَّ الشيطان قد يئس أن يُعبدَ بأَّرَضكم، ولكنَّه يرضَى أن يُطاعَ فيما سِوى ذلكَ؛ فيما تحاقرونَ من أعمالِكم؛ فيرضَى بها فاحذَروا. يا أيُّها الناسُ، إنِّي قد تركتُ فيكم ما إنْ اعتصمتُم به فلن تضِلُّوا أبدًا: كتابَ اللَّه، وسُنَّةَ نبيِّه - صلى الله عليه وسلم - ". ولم يعظم على إبليسَ شيء أكبرُ مِن بعثةِ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، وانشارِ دعوته في مشارق الأرض ومغاربها، فإنَّه أيسَ أن تعودَ أمّته كلُّهم إلى الشرك الاكبر. قال سعيدُ بنُ جُبَير: لمَّا رأى إبليسُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قائمًا بمكَةَ يصلِّي رَنَّ، ولمَّا افتتح النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - مكَّةَ رَنَّ رنَّةً أخرى؛ اجتمعتْ إليه ذريته، فقال: ايئسوا أن تردوا أمَّة محمد - صلى الله عليه وسلم - إلى الشرك بعدَ يومكم هذا، ولكن افتنُوهم في دينهم. وأفشُوا فيهم النوحَ والشِّعرَ. خرَّجَه ابنُ أبي الدنيا. وخرَّج الطبرانيّ بإسنادِه، عن مجاهدٍ، عن أبي هريرة، قال: "إنَّ إبليسَ رَنَّ لمَّا أُنزلتْ فاتحةُ الكتابِ، وأُنزِلَتْ بالمدينةِ". والمعروفُ هذا عن مجاهدٍ من قوله، قال: رنَّ إبليسُ أربعَ رنَّاتٍ: حينَ لُعنَ، وحينَ أُهبطَ من الجنَّة، وحينَ بُعثَ محمدٌ - صلى الله عليه وسلم -، وحين أُنزلت فاتحةُ الكتاب، وأُنزلتْ بالمدينة. خرَّجه وكيعٌ وغيرُه. وقال بعضُ التابعين: لمَّا أُنزلتْ هذه الآية ُ: (وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ) الآية. بكى إبليسُ، يشيرُ إلى شدَّةِ حزنهِ بنزولِها، لما فيها من الفرح لأهلِ الذنوبِ، فهو لا يزالُ في همٍّ وغمٍّ وحُزنٍ منذُ بُعثَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - لما رأى منه ومن أمَّتهِ ما يُهمُّه ويُغِيظُه.

قال ثابت: لمَّا بُعثَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -، قال إبليسُ لشياطينه: لقد حدثَ أمر فانظرُوا ما هُو، فانطلقُوا، ثم جاؤُوه، فقالُوا: ما ندري، قال إبليسُ: أنا آتيكم بالخبر، فذهبَ وجاءَ، قالَ: قد بُعثَ محمد - صلى الله عليه وسلم -، فجعل يُرسِلُ شياطينَه إلى أصحابِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فيجيؤون بصُحفهم ليسَ فيها شيء، فقال: ما لكُم لا تُصيبون منهم شيئًا؛ قالوا: ما صحِبْنا قوما قطُّ مثلَ هؤلاءِ؛ نُصيبُ منهم ثم يقومونَ إلى الصلاةِ، فيُمْحَى ذلك، قالَ: رُويدًا! إنَّهُم عسَى أنْ يفتحَ اللَّهُ لهُمُ الدنيا، هنالكَ تُصِيبُون حاجَتكم منُهم. وعن الحسنِ، قالَ: قالَ إبليسُ: سَوَّلتُ لأمَّةِ محمدٍ المعاصِي، فقطعُوا ظهرِي بالاستغفارِ، فسوَّلتُ لهم ذنوبًا لا يستغفرونَ منها، يعني الأهواءَ. ولا يزالُ إبليسُ يرى في مواسم المغفرة والعتقِ من النار ما يسُوءُه؛ فيومُ عرفةَ لا يُرى أصغرَ ولا أحقرَ ولا أدحَر فيه منه؛ لما يرى من تنزُلِ الرَّحمةِ وتجاوُزِ اللَّهِ عن الذُّنوبِ العظامِ، إلا ما رُؤي يومَ بدْرٍ. وَرُويَ أنَّه لمَّا رأى نزولَ المغفرةِ للأمَّةِ في حجَّةِ الوداع يومَ النَّحرِ بالمزدلفةِ. أهوَى يحثِي على رأسِهِ الترابَ، ويدعوُ بالويل والثبور، فتبسَّم النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - ممَّا رأى من جزع الخبيثِ، وفي شهرِ رمضانَ يلطفُ اللَهُ بأمَّةِ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - فيغلُّ فيه الشياطينَ ومردةَ الجنّ حتَّى لا يقدروا على ما كانُوا يقدرونَ عليه في غيره من تسويل الذنوب، ولهذا تقل المعاصي في شهر رمضان في الأمَّة لذلك. ففي "الصحيحين " عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: "إذا دَخلَ رمضانُ فُتحتْ أبوابُ السَّماءِ، وغُلِّقتْ أبوابُ جهنَّم، وسُلسلت الشَّياطينُ "،

ولمسلم: "فُتحتْ أبوابُ الرَّحمةِ"، وله أيضًا عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: "إذا جاء رمضان فتِّحت أبوابُ الجنَّةِ، وغُلِّقتْ أبوابُ النّار، وصُفِّدتِ الشياطينُ ". وخرَّج منه البخاري ذِكرَ فتح أبوابِ الجنَةِ. وللترمذي وابن ماجةَ عنه عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ِ، قال: "إذا كان أوَّلُ ليلةٍ من شهر رمضانَ صُفِّدتِ الشَّياطينُ ومردةُ الجنِّ، وغُلِّقتْ أبوابُ النَّارِ، فلم يُفتح منها باب؛ وفُتحت أبوابُ الجنَّة، فلم يُغلَقْ منها بابٌ؛ ويُنادِي منادٍ: يا باغيَ الخير أقبلْ، ويا باغيَ الشر أقصِرْ، وللَّهِ عُتقاءُ من النّارِ، وذلك في كُلِّ ليلة". وفي رواية للنسائي: "وتُغَلُّ فيه مردةُ الشياطينِ ". وللإمامِ أحمد عن أبي هريرةَ - رضي الله عنه - عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "أُعطِيتْ أمَّتي في رمضانَ خمسَ خصالٍ، لم تُعْطَه أمةٌ قبلَهم: خُلُوفُ فم الصَّائم أطيبُ عندَ اللَّه مِن ريح المِسْكِ، وتستغفرُ لهم الملاِئكةُ حتَى يُفطِروا، ويُزيِّنُ اللَهُ عزَّ وجل كُل يوم جنَّته، ثم يقولُ: يُوشِكُ عِبادِي الصالحون أن يُلقُوا عنهم المؤونَةَ والأذَى ويصيرُوا إليك، وتُصفَّدُ فيه مردةُ الشّياطينِ، فلا يخلُصُون فيه إلى ما كانوا يخلُصُون إليه في غيره، ويُغفرُ لهم في آخرِ ليلة". قيل: يا رسولَ اللَّه، أهِي ليلةُ القَدْرِ؟ قال: "لا، ولكنَّ العاملَ إنَّما يُوفَّى أجرَه إذا قضَى عملَه ". وفي ليلة القدر تنتشرُ الملائكةُ في الأرض، فيبطُلُ سُلطانُ الشَّياطِين، كما قال اللَّه تعالى: (تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (4) سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ (5) . وفي "المسند" عن أبي هريرة - رضي الله عنه - النبي - صلى الله عليه وسلم -

أنه قال: "الملائكةُ تلك الليلة في الأرض أكثرُ من عدَدِ الحَصى". وفي "صحيح ابن حبَّان "، عن جابرٍ - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في ليلةِ القدْرِ: "لا يخرجٌ شيطانُها حتَّى يخرُجَ فجرُها". وفي "المسند" من حديث عُبادةَ بن الصَّامت، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَه قال في ليلة القدر: "لا يَحِلّ لكَوكبِ أن يُرْمَى به فيها حتَّى يُصبحَ، وأن أمَارَتَها أنَّ الشَّمسَ تخرُجُ صبيحتَها مُستويةً ليسَ لهَا شُعاعٌ مثلَ القمرِ ليلةَ البدْرِ، لا يحلُّ للشَّيطانِ أن يخرجُ معها يومئذ". ورُوِي عن ابن عبَّاسٍ ضى، قال: إنَّ الشيطان يطلُعُ مع الشَّمسِ كُلَّ يومٍ إلا ليلةَ القدرِ، وذلك أنَّها تطلُع لا شعاعَ لها. وقال مجاهدٌ في قوله تعالى: (سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ) ، قال: سلام أن يحدُثَ فيها داءٌ أو يستطيعَ شيطانٌ العملَ فيها، وعنه قال: ليلةُ القدْرِ ليلة سالمة لا يحدثُ فيها داءٌ، ولا يُرسلُ فيها شيطان، وعنه قال: هي سالمةٌ لا يستطيعُ الشيطانُ أن يعملَ فيها سُوءًا، ولا يُحدثُ فيها أذىً. وعن الضحَّاك عن ابن عباس، قال: في تلك الليلة تصفدُ مردةُ الجنِّ، وتُغَلُّ عفاريتُ الجنِّ، وتُفتحُ فيها أبوابُ السماءِ كلُّها، ويقبلُ اللَّهُ فيها التوبةَ لكُلِّ تائبٍ؛ فلذلك قال: (سَلامٌ هِيَ حَتَى مَطْلَعِ الْفَجْرِ) . ويُروى عن أبي بن كعبٍ - رضي الله عنه -، قال: لا يستطيعُ الشَّيطانُ أن يُصيبَ فيها أحدًا بخبلٍ أو داءٍ أو ضربٍ من ضُرُوبِ الفسادِ، ولا ينفُذُ فيها سِحْرُ ساحِرٍ. ويُروى بإسنادٍ ضعيفٍ عن أنسً مرفوعًا: "أنَّه لا تَسْرِي نجومُها، ولا تنبحُ كلابُها". وكل هذا يدُل على كفِّ الشياطين فيها عن انتشارِهم في الأرض،

ومنعِهم من استراقِ السَّمع فيها من السَّماء. ابنَ آدَم، لو عرفتَ قدْرَ نفسكَ ما أهنتَها بالمعاصِي، أنتَ المختارُ من المخلوقات، ولك أُعدَّتِ الجنَّة، إن اتقيتَ فهي أقطاعُ المتقين، والدنيا أقطاعُ إبليس، فهو فيها من المنظرينَ، فكيفَ رضِيتَ لنفسِكَ بالإعراض عن أقطاعِكَ ومزاحمةِ إبليسَ على أقطاعِه، وأن تكونَ غدًا مَعَهُ في النَّار من جملة أتباعِهِ؛ إنَّما طردناهُ عن السَّماء لأجلك حيثُ تكبَّر عن السّجود لأبيك، وطلبْنا قربكَ " لتكونَ من خاصتنا وحزبنا، فعاديْتَنا وواليْتَ عَدُوَّنا. (أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا (50) . * * *

سورة الزلزلة

سُورَة الزَّلزَلَة قوله تعالى: (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8) وخرجَ ابنُ أبي حاتمٍ من حديثِ ابنِ لَهيعةَ، قالَ: حدثني عطاءُ ابنُ دينارٍ. عن سعيدِ بنِ جُبير في قولِ اللَّه عزَّ وجلَّ: (فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ) قالَ: كان المسلمونَ يرونَ أنَّهُم لا يُؤجرونَ على الشَّيءِ القليلِ إذا أَعطؤه، فيجيءُ المسكينُ، فيستقلُّون أن يُعطوه تمرةً وكِسرةً وجُوزةً ونحوَ ذلك، فيردُّونه، ويقولونَ: ما هذا بشيء، إنما نُؤجر على ما نُعطِي ونحنُ نحبُّه. وكانَ آخرونَ يرونَ أنَّهم لا يُلامونَ على الذَّنبِ اليسيرِ مثل الكذبةِ والنظرةِ والغيبةِ وأشباه ذلكَ، يقولونَ: إنَّما وعدَ اللَّهُ النارَ على الكبائرِ، فرغَّبهم اللَّهُ في القليلِ من الخيرِ أن يعملُوه، فإنَّه يُوشِكُ أن يكُثر، وحذرهُمُ اليسيرَ من الشرِّ، فإنَّه يُوشِكُ أن يكثُرَ فنزلتْ: (فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَةٍ) يعني: وزنَ أصغرِ النمل (خَيْرًا يَرَهُ) يعني في كتابِهِ، ويسُرُّهُ ذلكَ قال: يُكتب لكلِّ برً وفاجرٍ بكلِّ سيئةٍ سيئةٌ واحدةٌ، وبكلِّ حسنةٍ عشرُ حسناتٍ، فإذَا كانَ يومُ القيامةِ، ضاعفَ اللَّهُ حسناتِ المؤمنِ أيضًا بكلِّ واحده عشرًا، فيمحُو عنه بكلِّ حسنةٍ عشرَ سيئاتٍ، فمن زادتْ حسناتُه على سيئاتهِ مثقالَ ذرَّ، دخل الجنة. وظاهرُ هذا أنه تقعُ المقاصةُ بين الحسناتِ والسيئاتِ، ثم تسقطُ الحسناتُ

المقابلةُ للسيئاتِ، ويُنظرُ إلى ما يفضُلُ منها بعدَ المقاصةِ، وهذا يُوافقُ قولَ منْ قال: بأنَّ من رجحتْ حسناتُه على سيئاته بحسنة واحد أُثيبَ بتلكَ الحسنةِ خاصة، وسقطَ باقِي حسناتِهِ في مقابلةِ سيئاتِهِ، خلافًا لمن قالَ: يُثابُ بالجميع، وتسقُط سيئاته كأنَّها لم تكنْ. وهذا في الكبائرِ، أمَّا الصغائرُ، فإنَه قد تُمحى بالأعمالِ الصالحةِ مع بقاءِ ثوابهِا، كما قالَ - صلى الله عليه وسلم -: "ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا، ويرفعُ به الدرجاتِ: إسباغُ الوضوء على المكارِهِ، وكثرةُ الخطا إلى المساجدِ، وانتظارُ الصلاةِ بعدَ الصلاةِ". فأثبتَ لهذهِ الأعمالِ تكفيرَ الخطَايا ورفعَ الدرجات. وكذلكَ قولُه - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ قالَ: لا إلهَ إلا الله وحدَه لا شريكَ له مائة مرة، كتبَ له مانةُ حسنةٍ، ومُحيتْ عنه مِائة سينةٍ، وكانتْ لة عدلَ عشرَ رقابٍ ". فهذَا يدل على أن الذكرَ يمحُو السيئاتِ، ويبقَى ثوابه لِعاملِهِ مضاعَفًا. وكذلك سيئاتُ التائبِ توبةً نصُوحًا تُكفرُ عنهُ، وتبقى له حسناتُه، كما قالَ اللَّهُ تعالى: (حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ (16) . وقالَ عزَّ وجل: (وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (33) لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (34) لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (35) .

فلمَّا وصفَ هؤلاءِ بالتَّقوى والإحسانِ، دلَّ على أنَّهم ليسُوا بمصرِّين على الذُّنوبِ، بلَ هم تائبونَ مِنْهَا. وقوله: (لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا) يدخلُ فيه الكبائرُ. لأنها أسوأُ الأعمالِ، وقالَ: (وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا) فرتَّبَ على التقوى المتضمنةِ لفعلِ الواجباتِ وتركِ المحرَّمات. تكفيرَ السيئاتِ وتعظيمَ الأجرِ، وأخبرَ اللَّهُ عَن المؤمنين المتفكِّرين في خلق السماواتِ والأرض أنَّهم قالُوا: (رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ (193) . وأخبرَ أنَّه استجابَ لهم ذلكَ، وأنَّه كفَّر عنهم سيئاتِهم، وأدخلهم الجناتِ. وقولُه: (فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا) فخصَّ الذنوبَ بالمغفرةِ. والسيئات بالتَّكفيرِ، فقد يقالُ: السيئاتُ تخصُّ الصغائرَ، والذنوبُ يرادُ بها الكبائر، فالسيئاتُ تكفر، لأن اللَّه جعل لها كفاراتٍ في الدنيا شرعيةً وقدريةً، والذنوبُ تحتاجُ إلى مغفرة تقي صاحبَها مِنْ شرِّها، والمغفرةُ والتكفيرُ متقاربانِ، فإنَّ المغفرةَ قد قيل: إنها سَتْرُ الذُّنوبِ، وقيلَ: وقايةُ شر الذنبِ مع سترِهِ، ولهذا يسمَّى ما سترَ الرأسَ ووقاهُ في الحربِ: مِغْفَرًا، ولا يسمَّى كلُّ ساترٍ للرأس مغفرًا، وقد أخبرَ اللَّهُ عن الملائكةِ أنَّهم يدعونَ للمؤمنينَ التائبينَ بالمغفرةِ ووقايةِ السيئاتِ والتكفيرِ مِنْ هذا الجنس، لأنَّ أصلَ الكفرِ السترُ والتغطيةُ أيضًا. وقد فرَّق بعضُ المتأخرينَ بينهما بأنَّ التكفيرَ محوُ أثرِ الذَّنب، حتَى كأنَّه لم

يكنْ، والمغفرة تتضمن - مع ذلكَ - إفضالَ اللهِ على العبد وإكرامه، وفي هذا نظر. * * * دخلتِ امرأةٌ على عائشةَ، قد شُلَّت يدُها فقالتْ: يا أمَّ المؤمنينَ، بتُّ البارحةَ صحيحةَ اليدِ وأصبحتُ شلاء!! قالتْ عائشةُ: وما ذاك؟ قالتْ: كان لي أبوانِ موسرانِ، كانَ أبي يعطي الزكاةَ، ويُقْرِي الضيفَ، ويعطِي السائلَ، ولا يحقرُ من الخيرِ شيئًا إلا فعلَهُ، وكانتْ أمِّي امرأةً بخيلةً ممسكةً، لا تصنعُ في مالِهَا خَيرًا، فمات أبي ثم ماتتْ أمِّي بعدَ شهرين، فرأيتُ البارحةَ في منامِي أبي، وعندَهُ ثوبانِ أصفرانِ، بينَ يديه نهرٌ جار، قلتُ: يا أبته ما هذا؟ قال يا بنية: من يعملُ في هذه الدنيا خيرًا يره، هذا أعطانيه اللَهُ تعالى. قلتُ: فما فعلتْ أمِّي؟ قالَ: وقد ماتتْ أمُّكِ؟ قلتُ: نَعم، قالَ: هيهات عُدلت عنا، فاذهبي فالتمسيها ذاتَ الشمالِ، فالتفتُّ عن شمالِي فإذا أنا بأمِّي قائمةٌ عريانةٌ مؤتزرةٌ بخرقةٍ، بيدِها شُحيمةٌ تنادي: وا لهفاه وا حزناه وا عطشاه!! فإذا بلغَهَا الجهدُ دلكتْ تلك الشحيمةَ براحتِهَا ثم لحسَتها، وإذا بينَ يديها نهر جارٍ، قلتُ: أيا أُمَّاه! ما لكِ تنادينَ العطشَ وبين يديكِ نهرٌ جارٍ؟ قالت: لا أتركُ أن أشربَ منه، قلتُ: أفلا أسقيكِ؟ قالتْ: وددتُ أنكِ فعلتِ، فغرفتُ لها غرفةً فسقيتُها، فلمَّا شربتْ نادَى مناد من ذاتِ اليمينِ: ألا من سَقَى هذه المرأةَ شُلَّت يمينُهُ، مرتينِ، فأصبحتُ شلاء اليمينِ، لا أستطيعُ أن أعملَ بيمِيني. قالتْ لها عائشةُ: وعرَفْتِ الخرقةَ؟ قالتْ: نعم يا أمَّ المؤمنينَ، وهي التي

رأيتُها عليْهَا، ما رأيتُ أمي تصدَّقت بشيءٍ قط، إلا أنَّ أبي نحر ذاتَ يومٍ ثورًا، فجاءَهُ سائلٌ فعمدتْ أمِّي إلى عظم عليه شُحيمةٌ فناولتها إياهُ، وما رأيتُها تصدقتْ بشيءٍ إلا أنَّ سائلاً جاء يسألُ، فعمدت أمِّي إلى خرقةٍ فناولتْها إياهُ. فكبَّرتْ عائشةُ - رضي الله عنها - وقالتْ: صدقَ اللَّهُ، وبلَّغَ رسولُهُ - صلى الله عليه وسلم - (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8) . أخرَّجَه الحافظ أبو موسى المديني في كتابه "الترغيب والترهيب " من طريق أبي الشيخ الأصبهاني الحافظ، بإسناد حسن. * * *

سورة التكاثر

سُورَةُ التَّكَاثُرِ قوله تعالى: (ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (8) هذه النعم مما يُسئلُ الإنسانُ عن شكرها يومَ القيامة، ويُطالب به، كما قالَ عزَّ وجلَّ: (ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (8) . وخرَج الترمذيُّ وابنُ حبَّانَ من حديث أبي هريرة عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قالَ: "إنَ أوَّلَ ما يُسألُ عنه العبد يومَ القيامة مِن النعيم، فيقولُ له: ألم نصحَّ لك جِسمَكِ ونُرْويكَ من الماءِ الباردِ؟ ". وقال ابنُ مسعودٍ - رضي الله عنه -: النعيمُ: الأمنُ والصحةُ. ورويَ عنه مرفوعًا. وقال علي بن أبي طلحةَ عن ابنِ عباسٍ في قولهِ: (ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ) ، قال: النعيمُ: صحَّةُ الأبدانِ والأسماع والأبصارِ، يسألُ اللَّهُ العبادَ: فيما استعملُوها؟ وهو أعلمُ بذلك منهم، وهو قولُه تعالى: (إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا (36) . وخرَّجَ الطبرانيُّ من روايةِ أيوبَ بنِ عُتبةَ - وفيه ضعفٌ - عن عطاءٍ، عن ابنِ عمرَ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: "من قالَ: لا إلهَ إلا اللَهُ، كانَ لهُ بها عهدٌ عندَ اللَّهِ، ومن قالَ: سبحانَ اللَهِ وبحمدِهِ، كتِبَ له بها مائةُ ألفِ حسنةٍ، وأربعةٌ وعشرونَ ألف حسنةٍ" فقالَ رجلٌ: كيفَ نَهلِكُ بعدَ هذا يا رسولَ اللَّهِ؟ قال: "إنَّ الرجلَ ليأتي يومَ

القيامة بالعملِ، لو وُضِعَ على جبلٍ لأثقله، فتقومُ النِّعمَةُ مِن نِعم اللَّهِ، فتكاد أن تستنفدَ ذلك كلَّه، إلا أن يتطاول اللَّه برحمته ". وروى ابنُ أبي الدنيا بإسنادٍ فيه ضعف - أيضًا - عن أنسٍ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "يُؤتى بالنعمِ يومَ القيامةِ، وبالحسناتِ والسيئاتِ، فيقولُ الله لنعمةِ مِنْ نعمهِ: خذي حقكِ من حسناتِهِ فما تتركُ له حسنةً إلا ذهبتْ بِهَا". وبإسناده عن وهبِ بنِ منبهٍ، قالَ: عبدَ اللَّهَ عابدٌ خمسينَ عامًا، فأوحى اللَّهُ عزَّ وجلَّ إليه: إنِّي قد غفرتُ لكَ، قال: يا ربِّ، وما تغفرُ لي ولم أذنبْ؟ فأذِنَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ لعرْقٍ في عنقه فضرب عليه، فلم ينم، ولم يُصلِّ، ثم سكنَ وقامَ، فأتاه مَلَكٌ، فشكا إليه ما لقيَ من ضربان العرقِ، فقالَ الملكُ: إنَّ ربَّك عزَّ وجلَّ يقول: "عبادتُك خمسين سنة تعدلُ سكون ذا العرقِ ". وخرَّج الحاكمُ هذا المعنى مرفوعًا من روايةِ سليمانَ بنِ هرمٍ القرشيِّ عن محمدِ بنِ المنكدرِ عن جابر عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: أن جبريل أخبرهُ أن عابدًا عبدَ اللَّهَ على رأسِ جبلٍ في البحرِ خمسَ مائةِ سنةَ، ثم سأل ربَّه أن يقبضهُ وهو ساجد، قال: فنحنُ نمُرُّ عليهِ إذا هبطْنَا وإذا عرَجنا، ونجدُ في العلمِ أنه يُبعث يومَ القيامةِ، فيوقف بينَ يدي الله عزَّ وجلَّ، فيقول الربُّ عزَّ وجلَّ: أدخلوا عبدي الجنةَ برحمتِي، فيقولُ العبدُ: يا ربِّ، بعملِي، ثلاثَ مرَّاتٍ، ثم يقولُ اللَّهُ للملائكةِ: قايسُوا عبدِي بنعمَتي عليه وبعملِهِ، فيجدونَ نعمةَ البصرِ قد أحاطتْ بعبادَة خمسِ مائةِ سنةٍ، وبقيتْ نِعَمُ الجسدِ لهُ، فيقولُ: أدخلوا عَبْديَ النارَ، فيُجرُّ إلى النارِ، فينادِي رَبَّه: برحمتكَ أدخلني الجنةَ، برحمتكَ،

فيدخلُه الجنةَ، قالَ جبريلُ: إنما الأشياء برحمةِ اللَّهِ يا محمد. وسُليمانُ بن هرمٍ، قال العقيليُّ: هو مجهولٌ وحديثُه غيرُ محفوظ. وروى الخرائطيُّ بإسناد فيه نظرٌ، عن عبدِ اللَهِ بن عمرٍو مرفرعًا: "يُؤتَى بالعبدِ يومَ القيامةِ، فيُوقَفُ بين يدي اللَّهِ، فيقولُ لملائكتهِ: انظرُوا في عملِ عبدِي ونعمتِي عليهِ، فينظرونَ فيقولونَ: ولا بقدْرِ نعمةٍ واحدةٍ من نِعَمكَ عليهِ، فيقولُ: انظروا في عملِهِ سيِّئه وصالحِهِ، فينظرونَ فيجدونَ كَفَافًا، فيقولُ: عبدِي، قد قبلتُ حسناتِك، وغفرتُ لك سيِّئاتِكَ، وقد وهبتُ لكَ نِعَمِي فيمَا بينَ ذلكَ ". * * *

سورة الهمزة

سُورَةُ الهُمَزَةِ قالّ اللَّهٍ تعالّى: (كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ (4) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ (5) نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ (6) الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ (7) قال محمدُ بنُ كعبٍ القرظيّ في قولهِ: (تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ) قال: تأكُلهُ النارُ إلى فؤادِهِ، فإذا بلغتْ فؤادَهُ أنشئ خلقُهُ. عن ثابتٍ البنانيِّ أنه قرأ هذه الآيةَ ثم قال: تحرقُهُم إلى الأفئدةِ وهم أحياءٌ لقد بلغَ منهم العذابُ ثم يبكي. وقال اللَّه عزَّ وجلَّ: (وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ (27) لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ (28) لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ (29) . قال صالحُ بن حيانَ عن ابنِ بريدةَ في قولهْ (لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ) قالَ: تأكلُ العظمَ واللحمَ والمخَّ ولا تذرُهُ على ذلك. وقال السديُّ: لا تُبقي من جلودِهم شيئًا ولا تذرُهُم من العذابِ. وقالَ أبو سنانَ: لا تذرُهُم إذا بُدِّلُوا خلقًا جديدًا. وقالَ أبو رزينٍ في قولهِ: (لَوَّاحَةٌ للْبَشَرِ) قال: تلفحُ وجههُ لفحةً تدعه أشدَّ سوادًا من الليلِ، قال قتادةُ (لَوَّاحَةٌ للْبَشَرِ) : حراقةٌ للجلدِ. خرَّجَه كلَّهُ ابنُ أبي حاتمٍ وغيره. وقال اللَّهُ تعالَى: (كَلَّا إِنَّهَا لَظَى (15) نَزَّاعَةً لِلشَّوَى (16) . قال: تحرقُ كلَّ شيءٍ منهُ ويبقى فؤادُهُ يصيحُ. وعن ابنِ زيدٍ قالَ: تقطَّعُ عظامُهُم ثم

قوله تعالى: (إنها عليهم مؤصدة (8)

يجددُ خلقُهم وتبدلُ جلودُهم. وروى ابنُ مهاجرٍ عن مجاهدٍ في قوله: (نَزاعَةً لِّلشَوَى) تنزعُ الجلدَ، وعنه قالَ: تنزعُ اللحمَ ما دونَ العظم. * * * قوله تعالى: (إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ (8) وقد وصفَ اللَهُ أبوابَها أنها مغلقة على أهلِهَا فقالَ: (إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ (8) وقال تعالَى: (عَلَيْهِمْ نَارٌ مُؤْصَدَةٌ) . قال مجاهدٌ: هي بلغةِ قريشٍ: أصدَ البابَ أغلقَهُ يعني قولَهُ: (مُّؤْصَدَةٌ) وقالَ مقاتل: يعني أبوابها مطبقةً عليهم، فلا يفتحُ لها باب، ولا يخرجُ منها غمٌ، ولا يدخلُ فيها روحٌ آخرَ الأبدِ. وقد وردَ في ذلك حديثٌ مرفوعٌ خرَّجهُ ابنُ مردويه من طريقِ شجاع بنِ أشرسَ حدثنا شريكٌ، عن عاصم، عن أبي صالح، عن أبي هريرةَ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - (إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ) قال: "مطبقة"، ولكن رفعَهُ لا يصح. وقد خرَّجَهُ آدمُ بنُ أبي إياسٍ في "تفسيره" عن شريكٍ بهذا الإسنادِ موقوفًا عن أبي هريرةَ، ورواهُ إسماعيلُ بنُ أبي خالدٍ عن أبي صالح من قولهِ ولم يذكرْ فيهِ أبا هريرةَ، وكذا قالَ عطاء الخراساني وغيرُه في "المؤصدةِ" أنها المطبقةُ. وعن الضحاكِ قالَ: حائطٌ لا بابَ لهُ، ومرادُه - واللهُ أعلمُ - أن الأبوابَ أطبقتْ فصار الجدارُ كانه لا بابَ لهُ، وقولُه تعالى: (إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ (8) فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ (9) . معناه: أطبقت عليهم بعمدٍ، قال قتادة: وكذلك

هو في قراءةِ عبدِ اللَّهِ بعمد بالباءِ، قال عطيةُ: هي عمدٌ من حديدٍ في النارِ. وقالَ مقاتلٌ: أطبقتِ الأبوابُ عليهم ثم شدتْ بأوتادٍ من حديد حتى يرجعَ عليهم غمُّها وحرهُا. وعلى هذا فقوله: (مُمَدَّدَةٍ) صفة للعمدِ يعني أن العمدَ التي أوثقتْ بها الأبوابُ ممددة مطولة، والممدودُ الطويلُ أرسخُ وأثبتُ من القصيرِ. وفي "تفسيرِ العوفيِّ " عن ابنِ عباس في قولهِ: (فِي عَمَد مُّمَدَّدَةٍ) قالَ: هيَ عليهم مغلقةٌ أدخلهُم في عمد فمدتْ عليهِم بعمادٍ وفي أعناقِهم السلاسلُ فسدتْ به الأبوابَ وقيلَ: إن الممددةَ صفةٌ للأبوابِ. رواه شبيبُ بنُ بشير عن عكرمةَ عن ابنِ عباسِ وقيلَ: المرادُ بالعمدِ الممددةِ: القيودُ الطوالِ. رواهُ إسماعيلُ بنُ أبي خالدِ عن أبي صالح، ورواهُ أبو خبابُ الكلبيُّ عن زبيدٍ عن إبراهيمَ، قالَ: قالَ عبدُ اللَّهِ بنُ مسعودِ في قولهِ تعالى: (فِي عَمَدٍ مُّمَدَّدَة) قالَ: هيَ الأدهمُ، وقد تقدَّم أن عبدَ اللَّهِ كانَ يقرؤُهَا بعمد والأدْهَمُ: القيدُ. وكذا قالَ ابنُ زيد في قولِه: (فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ) قالَ: في عمدٍ من حديدٍ مغلولينَ فيه، وتلك العمدُ من نارِ قد احترقتْ من النارِ فهي ممددة لهم. وقيلَ: إن المرادَ بالعمدِ الممددةِ: الزمانُ الذي لا انقطاعَ له. قاله أبو فاطمةَ. وقال السدي: من قراهَا (فِي عَمَد) يعني بالفتح فهيَ عمد من نار، ومن قرأهَا في (عُمُد) يعني بالضَمِّ فهو أجل ممدود. وقال سعيدُ بنُ بشير عن قتادةَ: (مُّؤْصَدَة) أي: مطبقةٌ أطبقَهَا اللَّهُ عليهم فلا ضوءَ فيها ولا فرجَ ولا خروجَ منها آخرَ الأبدِ.

وهذا الإطباقُ نوعانِ: أحدُهما: خاصٌّ لمن يدخلُ في النارِ أو مَن يريدُ التضييقَ عليهِ، أجارنا اللَّهُ من ذلكَ، قال أبو توبة اليزنيّ: إنَّ في النارِ أقوامًا مؤصدةٌ عليهم كما يطبقُ الحقُّ على طبقِهِ، خرَّجَه ابنُ أبي حاتمٍ. والثاني: الإطباقُ العامُّ وهو إطباقُ النارِ على أهلِها المخلدينَ فِيهَا. وقد قالَ سفيانُ وغيرُه في قولِهِ تعالى: (لا يَحْزنهُمُ الْفَزَعُ الأَكبَرُ) قالوا: هو طبقُ النارِ على أهلِها. وفي حديثِ مسكينَ أبي فاطمةَ عن اليمانِ بنِ يزيدِ، عن محمدِ بن حميرِ. عن محمدِ بنِ عليِّ، عن أبيهِ، عن جدّهِ عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - في خروج الموحدينَ من النارِ، قالَ: "ثم يبعثُ اللَهُ ملائكةً معهمُ مساميرُ من نارِ وأطباقُ من نار، فيطبقونَهَا على من بقي فيها ويسمرونَها بتلكَ المساميرِ، يتناساهمُ الجبارُ على عرشِهِ من رحمته، ويشتغلُ عنهم أهلُ الجنةِ بنعيمِهم ولذاتِهم " خرَّجهُ الإسماعيليُّ وغيره، وهو حديثٌ منكر؛ قاله الدارقطنيُّ. وروى ابنُ أبي حاتمٍ بإسنادِهِ عن سعيدِ بنِ جبيرِ، قالَ: ينادِيَ رجلٌ في شعبِ من شعابِ النارِ مقدارَ ألف عامِ، يا حَنَّان يا مَنَّان، فيقولُ اللَّهُ تعالى: يا جبريلُ أخرجْ عبدِي، فيجدُها مطبقةٌ، فيقولُ: يا رب إنَّها عليهم مطبقة مؤصدةٌ. وقال قتادةُ عن أبي أيوبَ العتكيُّ عن عبدِ اللَّهِ بنِ عمرِو: إذَا أجابَ اللَّهُ أهلَ النارِ بقوله: (اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تكَتِمُونِ) أطبقتْ عليهم. فيئسَ القومُ بعدَ تلكَ الكلمةِ، وإن كانَ إلا الزفيرُ والشهيقُ.

وقال أبو الزعراء عن ابنِ مسعودٍ: وإذا قيلَ لهمُ: (اخْسَئوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ) أطبقتْ عليهم فلم يخرجْ منهم أحد. وقال أبو عمرانَ الجوني: إذا كانَ يومَ القيامةِْ أمرَ اللَّهُ بكلِّ جبارٍ عنيدٍ. وكلِّ شيطانٍ مريدٍ، وبكلِّ من يخافُ في الدنيا شره العبيدِ، فأوثقُوا بالحديدِ. ثم أمرَ بهم إلى جهنَم التي لا تبيدُ، ثم أوصدَهَا عليهم ملائكةُ ربِّ العبيدِ. قالَ: فلا واللَّه لا تستقرّ أقدامُهم على قرارِ أبدًا، ولا واللَّهِ لا ينظرونَ فيها إلى أديمِ سماءٍ أبدًا، ولا واللَّهِ لا تلتقي جفونُ أعينهِم على غمضِ نومٍ أبدًا. ولا واللَّهِ لا يذوقونَ فيها باردُ شرابِ أبدًا. وفي معنى إطباقِ النارِ على أهلِهَا يقولُ بعضُ السلفِ - رضي الله عنهم -: ألبسُوا النضيجَ من النحاسِ، ومنعوا خروجَ الأنفاسِ، فالأنفاسُ في أجوافِهِم تترددُ، والنيرانُ على أبدانِهم توقدُ، قد أطبقتْ عليهم الأبوابُ وغضبَ عليهم ربُّ الأربابِ، وأنشدَ بعضُهم في هذا المعنى: لو أبصرتْ عيناكَ أهلَ الشَّقَا. . . سِيقُوا إلى النارِ وقدْ أُحرِقُوا يَصْلَونَها حينَ عَصَوا ربهم. . . وخالفُوا الرسلَ وما صدَّقُوا تقولُ أخرَاهُم لأولاهُمُ. . . في لجج المهلِ وقد أغْرِقُوا قد كنتمُ حذرتمُ حرهَا. . . لكنْ من النيرانِ لم تَفْرَقُوا وجيءَ بالنيرانِ مزمُومةً. . . شَرَارُهَا مِنْ حولِهَا محرقُ وقيلَ للنيرانِ أنْ أحرِقي. . . وقيلَ للخزانِ أنْ أطبقُوا - وقد وردَْ في بعضِ أحاديثِ الشفاعةِ فتحُ بابِ النارِ، فخرجَ الطبرانيُّ من

روايةِ الغباسِ بنِ عوسجةَ، حدثني مطر أبو مُوسى مولَى آل طلحةَ، عن أبي هريرةَ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّى آتي جهنَّم فأضربُ بابَها، فيفتحُ لي فأدخُلها، فأحمدُ اللَّهَ بمحامد ما حمَدهُ بها أحدٌ قبلي مثلَهَا ولا يحمدُه أحدٌ بعدي، ثم أخرجُ منها من قالَ: لا إلهَ إلا اللَهُ مخلصًا، فيقومُ إليَّ ناسٌ من قريشٍ فينتسبونَ إليَّ، فأعرف نسبَهُم ولا أعرفُ وجوهَهُم فاتركهم في النارِ" إسنادُه ضعيفٌ. * * *

سورة الفيل

سُورَةُ الفِيلِ قوله تعالى: (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ (1) أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (2) وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ (3) تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ (4) فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ (5) كانت قصَّةُ الفيلِ توطِئةً لنبوَّتِهِ وتقدمَةً لظُهوره وبعثتِهِ - صلى الله عليه وسلم -، وقد قصَّ اللَّه تعالى ذلك في كتابه فقال: (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ (1) أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (2) وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ (3) تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ (4) فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ (5) . فقوله: (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ) استفهامُ تقريرٍ لِمن سمع هذا الخطابَ، وهذا يدُلُّ على اشتهارِ ذلكَ بينهم ومعرفتِهم به، وأنَّه ممّاً لا يخفَى علمُه على العربِ، خصوصًا قريش وأهل مكَّةَ، وهذا أمر اشتهرَ بينهُم وتعارفُوه، وقالوا فيه الأشعارَ السَّائرةَ. وقد قالتْ عائشة - رضي الله عنها -: رأيتُ قائدَ الفيلِ وسَائِسَهُ بمكَّةَ أعميينِ يستطعمانِ. وفي هذه القصَّة ما يدلُّ على تعظيم مكَّةَ، واحترامِها واحترامِ بيتِ اللَّه الذي فيها، وولادةُ النًّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - عقيبَ ذلك تدُلُّ على نبوَّته ورسالتهِ، فإنَّه - صلى الله عليه وسلم - بعثَ بتعظيمِ هذا البيتِ وحجِّه والصلاة إليهِ، وكانَ هذا البلدُ هو موطِنه ومولده. فاضطرَّه قومُهُ عندَ دعوتِهِم إلى اللًّهِ تعالى إلى الخُروج منه كُرهًا بما نالوه منه

مِنَ الأذَى، ثم إن اللَّه تعالى ظفَّرهُ بهم، وأدخلهُ عليهم قهرًا، فملكَ البلدَ عنوةً، وملكَ رقابَ أهلهِ، ثمَّ منَّ عليهِم وأطلقهم وعفا عنهم، فكانَ في تسليطِ نبيِّه - صلى الله عليه وسلم - على هذا البلدِ وتمليكهِ إياه ولأمَّتهِ منْ بعدِهِ ما دلَّ على صحَّةِ نبوَّتهِ، فإنَّ اللَّهَ حبسَ عنه من يُريدُه بالأذى وأهلكهُ، ثم سلَّطَ عليه رسولهُ وأمَّتهُ كما قال - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ اللَّه حبسَ عن مكَّةَ الفيلَ وسلَّطَ عليها رسولهُ والمؤمنينَ ". فإنَّ الرسولَ - صلى الله عليه وسلم - وأُمته إنَّما كان قصدُهم تعظيمَ البيتِ وتكريمهُ واحترامَهُ. ولهذا أنكرَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يومَ الفتح على منْ قال: اليومَ تُستحلُّ الكعبةُ، وقال: "اليومَ تُعظَّمُ الكعبةُ". وقد كان أهلُ الجاهليةِ غيَّروا دينَ إبراهيمَ وإسماعيلَ بما ابتدَعوه من الشِّركِ وتغييرِ بعضِ مناسكِ الحجِّ، فسلَّطَ اللَّهُ رسولهُ وأُمته على مكَّةَ فطهرُوها مِن ذلك كله، وردُّوا الأمرَ إلى دينِ إبراهيمَ الحنيفِ، وهو الذي دعا لهم مع ابنه إسماعيلَ عند بناءِ البيت أن يبعثَ اللَّه فيهم رسولاَ منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمةَ، فبعثَ اللَّهُ فيهم محمَّدًا - صلى الله عليه وسلم - من ولدِ إسماعيلَ بهذه الصِّفةِ، فطهَّرَ البيتَ وما حولَه من الشِّركِ، وردَّ الأمرَ إلى دينِ إبراهيمَ الحنيفِ، والتوحيد الذي لأجلهِ بُنيَ البيتُ، كما قال تعالى: (وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (26) . وأمَّا تسليطُ القرامطةِ على البيتِ بعد ذلك، فإنَّما كانَ عقوبةً بسببِ ذنوبِ النَّاسِ، ولم يصلُوا إلى هدمِهِ ونقضِهِ ومنع النَّاسِ من حجّهِ وزيارتِهِ، كما كان يفعلُ أصحابُ الفيلِ لو قدرُوا على هدمِهِ وصرفِ النَّاسِ عن حجِّهِ،

والقرامطةُ أخذُوا الحجرَ والبابَ، وقتلوا الحاجَّ وسلبُوهم أموالَهم، ولم يتمكّنوا من منع النَّاسِ من حجِّهِ بالكُليَّةِ، ولا قدرُوا على هدمِهِ بالكليةِ، كما كانَ أصحابُ الفيلِ يقصدُونهُ، ثم أذَلَّهم اللَّهُ بعدَ ذلكَ وخذلَهم وهتكَ أستارَهُم، وكشفَ أسرارَهُم. والبيتُ المُعظَّمُ باقٍ على حالِهِ من التَّعظيم، والزّيارة، والحجِّ والاعتمارِ. والصلاةِ إليه، لم يبطُلْ شيء من ذلك عنه بحمدِ اللَّهَ ومنِّهِ، وغايةُ أمرِهم أنَّهم أخافُوا حاجَّ العراقِ حتَّى انقطعُوا بعضَ السِّنين، ثم عادُوا، ولم يزلِ الَلَّهُ يمتحنُ عبادَهُ المؤمنينَ بما يشاءُ من المحن، ولكن دينه قائم محفوظٌ لا يزالُ تقومُ به أُمَّة من أُمَّةِ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - لا يضرُّهُم منْ خذلَهم حتَّى يأتِيَ أمر اللَّهِ وهُمْ على ذلك، كما قال تعالى: (يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (32) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (33) . وقد أخبرَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّ هذا البيتَ يُحجّ ويُعتمرُ بعدَ خروج يأجوج ومأجوجَ، ولا يزالُ كذلك حتَّى تُخرّبهُ الحبشة، ويلقونَ حجارتهُ في البحر، وذلك بعدَ أنْ يبعثَ اللَّهُ ريحًا طيِّبةً تقبضُ أرواحَ المؤمنينَ كلِّهم، فلا يبقى في الأرضِ مؤمنٌ، ويسرَى بالقرآنِ من الصدُورِ والمصاحِفِ، فلا يبقَى في الأرضِ قراَنٌ، ولا إيمانٌ، ولا شيء مِن الخيرِ، فبعدَ ذلك تقومُ السَّاعةُ، ولا تقومُ إلا على شرارِ النَّاسِ. * * *

سورة الماعون

سُورَةُ المَاعُون قوله تعالى: (فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ (5) وقد وردتْ آثار كثيرة عن السلفِ في تاركِ الصلاةِ عمدًا، أنَّه لا تُقبلُ منه صلاةٌ، كما رُوي عن الصدِّيقِ - رضي الله عنه -، أنَّه قالَ لعُمرَ في وصيتهِ له: إنَّ للَّهِ حقًّا باللَّيلِ لا يقبلُهُ بالنهارِ، وحقًّا بالنهارِ لا يقبلُهُ باللَّيلِ. يشيرُ إلى صلواتِ اللَّيلِ والنهارِ. وفي حديب مرفوع: "ثلاثةٌ لا يُقبلُ لهُمْ صلاة"، ذكرَ منهم: "الذي لا يأتي الصلاةَ إلا دبارًا" - يعني: بعدَ فواتِ الوقتِ. خرَّجه أبو داود وابنُ ماجةَ من حديثِ عبدِ اللَّه بن عمرو - مرفوعًا. وفي إسنادهِ ضعفٌ. ولكن مجرد نفي القبولِ لا يستلزمُ عدمَ وجوبِ الفعلِ، كصلاةِ السَّكرانِ في مدةِ الأربعينِ، وصلاةِ الآبقِ والمرأةِ التي زوجُها عليها ساخطٌ. فإنْ قِيلَ: فقد قالَ تعالى: (فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ (5) . وفسَّره الصحابةُ بإضاعةِ مواقيتها. وكذَا قالَ ابنُ مسعودٍ في المحافظةِ على الصلاةِ: أي المحافظة على مواقيتها، وأنَّ تركَها كفر.

ففرقُوا بين تركِها وبينَ صلاتِها بعدَ وقتِها. وقدْ أمرَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بالصلاةِ خلفَ منْ أخبرَ أنه يضيعُ الصلاةَ ويُصلِّيها لغيرِ وقتِها، وهذا يدلُّ على أنَّ صلاتَهم صحيحةٌ. وقد سُئِلَ عنِ الأمراءِ وقتَالِهم؟ قالَ: "لا، مَا صَلَّوا، وكانتْ علَى هذا الوجهِ ". فدلَّ على إجزائِها. قيل: السهوُ عن مواقيتِ الصَّلاةِ لا يستلزمُ تعمد التأخيرِ عنِ الوقتِ الحاضرِ، فإنَّه قدْ يقعُ على وجهِ التهاونِ بتأخيرِ الصلاةِ حتَّى يفوتَ الوقتُ - أحيانًا - عن غيرِ تعمدٍ لذلك، وقد يكونُ تأخيرُها إلى وقتِ الكراهةِ، أو إلى الوقتِ المشتركِ الذي يجمعُ فيه أهلُ الأعذارِ عندَ جمهورِ العلماءِ، وغيرُهم على رأي طائفة من المدنيين. وهذه الصلاةُ كلُّها مجزِئةٌ، ولا يكونُ المصلِّي لها كالتاركِ بالاتفاقِ - وقد سُئَلَ سعيدُ بنُ جُبير، عن قوله: (فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ) . فدخلَ المسجدَ، فرأَى قومَّاً قد أخَّروا الصلاةَ، لا يُتمُّونَ رُكُوعًا ولا سجُودًا، فقالَ: الذي سألْتَني عنهُم هُم هؤلاء. وهذه الصلاةُ مثلُ الصلاةِ التي سمَّاها النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "صلاة المنافقين ". وهكذا كانتْ صلاةُ الأمراءِ الذين أمرَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بالصلاةِ خلفهم نافلةً، فإنَّهم كانوا يُؤخِّرُون العصرَ إلى اصفرارِ الشَّمسِ، ورُبَّما أخَّرُوا الصلاتينِ إلى ذلك الوقتِ، وهو تأخير إلى الوقتِ المشتركِ لأهلِ الأعذارِ، وكغيرِهم عندَ طائفةٍ من العلماءِ. فليسَ حُكمهُم حكمَ منْ تركَ الصلاةَ؛ فإنَّ التاركَ هو المُؤخِّرُ عمدًا إلى

وقتِ مُجمع على أنَّه غيرُ جائز، كتأخيرِ صلاةِ اللَّيلِ إلى النهارِ، وصلاةِ النهارِ إلى اللَّيلِ عمدًا، وتأخيرِ الصبح إلى بعدِ طلوع الشمسِ عمدًا. * * *

سورة النصر

سُورَةُ النَّصْرِ قوله تعالى: (إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا (3) جاءَ في حديثٍ أنَّها: "تَعْدِل ربعَ القرآنِ ". وهيَ مدنية بالاتفاقِ؛ بمعْنَى: أنَّهَا نَزَلَتْ بَعْدَ الهِجْرَةِ إلى المدينةِ، وهِيَ مِنْ أواخرِ ما نَزَلَ. وفي "صحيح مسلم " عَن ابنِ عبَّاسٍ قالَ: آخرُ سورةٍ نَزَلَت من القرآنِ جميعًا: (إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ) . واختُلفَ في وقتِ نزولِهَا، فقيلَ: نزلتْ في السَّنَة الَّتي تُوفِّيَ فيهَا رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -. وفي "مسندِ الإمامِ أحمدَ" عَنْ محمدِ بنِ فُضيلٍ عَنْ عطاء عَنْ سعيدِ بنِ جبيرٍ عَنْ ابنِ عباسٍ قالَ: لما نزلَتْ: (إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ) قالَ رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: "نُعِيَتْ إليَّ نفسي " بأنَّه مقبوضٌ في تلكَ السنة. عطاءٌ هو ابنُ السائب اختلطَ بآخِرَةٍ.

ويشهدُ لهُ مَا أخرجَهُ البزارُ في "مسندِهِ " والبيهقي مِنْ حديثِ موسى بنِ عبيدةَ عَنْ عبدِ اللَّهِ بنِ دينار وصدقةَ بنِ يسار عَنْ ابنِ عُمَرَ قال: نزلتْ هذه السورةُ علَى رسول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بمنًى، وهوَ في أوسطِ أيامِ التشريقِ في حَجَّةِ الوداع (إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ) فَعَرِفَ أنَّه الوداعُ، فأمرَ براحلتِهِ القصواءَ، فرُحلتْ لَهُ، ثمَّ ركبَ، فوقفَ للناسِ بالعقبةِ، فحمدَ اللَّهَ وأثنَى عليهِ - وذكرَ خطبةً طويلة". هذا إسنادٌ ضعيفٌ جدًّا، ومُوسى بنُ عبيدةَ قال أحمدُ: لا تحلُّ عِنْدِي الروايةُ عنْهُ. وعنْ قتادةَ قال: عاشَ رسول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بَعْدَهَا سنتينِ. وهذا يَقْتَضِي أَنَّها نزلتْ قَبْلَ الفتح، وهذا هو الظاهرُ لأنَّ قولَهُ: (إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ) يَدُلُّ دلالةً ظاهرة على أنَّ الفتحَ لم يكنْ قَدْ جاءَ بعدُ، لأنَّ "إذَا" ظرفٌ لِمَا يُستقبلُ مِنَ الزَّمانِ، هذا هو المعروفُ في استعمَالِهَا، وإنْ كانَ قَدْ قِيلَ: إنَّها تَجيءُ للماضِي كقولِهِ: (وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انفَضُّوا إِلَيْهَا) . وقوله: (وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ) . وقدْ أُجيبَ عَنْ ذلكَ بأنَّه أُريدَ أَنَّ هذا شأنُهم ودأبهُم، لم يُرِدْ بِهِ الماضي بِخُصُوصِهِ، وسنذكرُ أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال بعد نزول هذهِ السورةِ: "جاءَ نصرُ اللَّهِ والفتح، وجاءَ أهلُ اليمنِ ". ومجيءُ أهْلِ اليَمَنِ كانَ قبلَ حَجَّةِ الوداع.

قولُه تعالى: (إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ) . أمَّا نصرُ اللَّهِ فهُوَ معونتُه علَى الأعداءِ حتَّى غَلَبَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - العربَ كلَّهم، واستولَى عليهِم مِنْ قريشٍ وهوازنَ وغيرِهم، وذكرَ النقَاشُ عنْ ابنِ عبَّاسٍ أنَّ النصرَ: هو صُلْحُ الحديبيةِ. وأمَّا الفتحُ فقيلَ: هُوَ فتحُ مكةَ بخصوصِهَا، قالَ ابنُ عبَّاسٍ وغيرُه: لأنَّ العربَ كانتْ تنتظرُ بإسلامِهَا ظهورَ النبي - صلى الله عليه وسلم - على مكةَ. وفي "صحيح البخاريِّ " عَنْ عمرِو بنِ سلمةَ قالَ: لمَّا كانَ الفتحُ بادَرَ كُلُّ قومٍ بإسلامِهِم إلى رسولِ اللَّه - صلى الله عليه وسلم - وكانتِ الأحياءُ تلوَّمُ بإسلامِهَا فتحَ مكةَ فيقولونَ: دعُوهُ وقومَه، فإنْ ظهرَ عليهِم فهوَ نبي - صلى الله عليه وسلم -. وعن الحسنِ قالَ: لمَّا فتحَ رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مكةَ، قالتِ العربُ: أمَّا إذا ظَفَر محمدٌ بأهلِ مكةَ، وقدْ أجارَهُمُ اللَّهُ مِنْ أصحابِ الفيلِ فليسَ لكم به يدانِ، فدخلُوا في دينِ اللَّهِ أفواجًا. وقيلَ: إنَّ الفتحَ يَعُمُّ مكةَ وغيرَها مما فُتِحَ بَعْدَهَا من الحصونِ والمدائنِ. كالطائفِ وغيرِها مِنْ مُدنِ الحجازِ واليمنِ وغيرِ ذلكَ، وهُوَ الذي ذكرهُ ابنُ عطيةَ. وقولُهُ: (وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللهِ أَفْوَاجًا) . المرادُ بالنَّاسِ العمومُ على قولِ الجمهورِ، وعَنْ مقاتل: أنَّهم أهل اليمنِ. وفي "مسندِ الإمامِ أحمدَ" مِنْ طريقِ شعبةَ عَنْ عمرِو بن مرةَ عَنْ أبي البَخْتريِّ عن أبي سعيد الخدري عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: لمّا نزلتْ هذه السورةُ:

(إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ) ، قالَ: قرأَهَا رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - حتَّى خَتَمَها فقالَ: "الناسُ حَيِّزٌ وأنا وأصحابي حَيِّزٌ"، وقال: "لا هِجْرَةَ بعد الفتح، ولكنْ جِهَاد ونيَّة". وأنَّ مروانَ كذَّبه فصدَّق رافعُ بنُ خديج وزيدُ بنُ ثابتٍ أبا سعيدٍ على ما قالَ. وهذا يُستدلُ بِهِ علَى أَن المرادَ بالفتح فتحُ مكةَ، فقدْ ثبتَ في "الصحيحينِ " منْ حديثِ ابنِ عباسٍ أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ يومَ الفتح: "لا هجرةَ، ولكنْ جهاد ونيَّة". وأيضًا فالفتحُ المطلقُ هوَ فتحُ مكةَ كَمَا في قولِهِ: (لا يَسْتَوِي مِنكم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ) ، ولهذا قالَ: "الناسُ حَيِّزٌ وأنا وأصحابي حَيِّزٌ". وروى النسائيُّ مِنْ طريقِ هلالِ بنِ خَبَّابٍ عنْ عكرمةَ عنْ ابنِ عباس قالَ: لمَّا نزلتْ: (إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ) إلَى آخرِ السورةِ قال: نُعِيَتْ اسولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - نفسُهُ حينَ أُنزلتْ فأخَذَ في أشدِّ مَا كانَ اجتهادًا في أمرِ الآخرةِ، وقالَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بعدَ ذلكَ: "جاءَ الفتحُ، وجاءَ نصرُ اللهِ، وجاءَ أهلُ اليمنِ ". فقالَ رجلٌ: يا رسول اللَّهِ، ومَا أهلُ اليمنِ؟ قالَ: "قوم رقيقة قلوبُهم، لينةٌ قلوبهم. الإيمانُ يمانٍ، والحكمةُ يمانية والفقهُ يمانٍ ". وروى ابنُ جريرٍ منْ طريقِ الحسينِ بنِ عيسى الحنفيِّ عنْ معمرٍ عن الزهريِّ عنْ أبي حازمٍ عن ابنِ عباسٍ قالَ: بينما رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - في المدينةِ إذْ قالَ: "اللَّهُ أكبرُ اللَّهُ أكبرُ، جاءَ نصرُ اللهِ والفتح، جاءَ أهلُ اليمنِ "، قيل: يا رسولَ الله،

وما أهلُ اليمنِ؟ قالَ: "قومٌ رقيقةٌ قلوبُهم، لينةٌ طباعُهُم، الإيمانُ يمانٍ، والفقهُ يمانٍ، والحكمةُ يمانيةٌ ". ورواه أيضًا مِنْ طريقِ عبدِ الأعْلَى عَنْ معمرٍ عَنْ عكرمةَ مرسَلاً، وكذا هُوَ في "تفسيرِ عبدِ الرزاقِ ": عَنْ معمرٍ أخبرَنِي مَنْ سَمِعَ عكرمةَ فأرسَلَهُ. وهذَا لا يدلُّ على اختصاصِ أهلِ اليمنِ بالنَّاسِ المذكورينَ في الآيةِ وإنَّما يدلُّ علَى أنَّهُم داخلونَ في ذلكَ فإنَّ الناسَ أعمُّ مِنْ أهلِ اليمنِ. قال ابنُ عَبْدِ البَرِّ: لم يَمُتْ رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وفي العَرَبِ رجُلٌ كافرٌ بَلْ دَخَلَ الكُلُّ في الإسْلامِ بعد حُنين والطائفِ، منهم مَنْ قَدِمَ، ومنهم مَنْ قدِمَ وافدُهُ، ثُمَّ كانَ بعدُ من الردةِ ما كانَ، ورجَعُوا كُلُّهم إلى الدينِ. قالَ ابنُ عطيةَ: المرادُ - واللَّهُ أعلمُ -: العربُ عبدةُ الأوثانِ، وأمَّا نصارَى بني تغلبٍ فمَا أرَاهُم أسلَمُوا قط في حياةِ رسولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لكنْ أَعْطوا الجزيةَ. والأفواجُ: الجماعةُ إثْرَ الجماعَةِ كَمَا قالَ اللَّهُ تعالَى: (كُلَّمَا أُلْقِي فِيهَا فَوجٌ) وفي "المسندِ" مِنْ طريقِ الأوزاعيِّ حدَّثَني أبو عمَّارٍ حدَّثني جارٌ لجابرِ بنِ عبدِ اللَّهِ قال: قَدِمْتُ مِنْ سَفَرٍ فَجَاءَنِي جابرُ بنُ عبدِ اللهِ يُسَلِّمُ عليّ، فجعلتُ أحدِّثُه عَنْ افتراقِ النَاسِ ومَا أحْدَثُوا، فجَعَلَ جابِرُ يَبكِي، ثُمَّ قَالَ: سمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: "إنَّ النَّاسَ دخَلوا في دينِ الله أفْوَاجًا، وسيخرجونَ منهُ أفْواجًا ".

وقوله: (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ) . فيه قولانِ حكاهُمَا ابنُ الجَوزِي. أحدُهُما: أنَّ المرادَ به الصلاةُ، نَقَلَهُ عَنْ ابنِ عَبَّاسٍ. والثاني: التسبيحُ المعروفُ. وفي الباءِ في "بحمدِ" قولانِ: أحدُهُما: أَنَّها للمُصَاحبةِ فالحمدُ مُضافٌ إلى المفعولِ، أَيْ فسبِّحْهُ حامدًا لَهُ، والمعْنَى: أجْمعُ بينَ. تسْبيحِهِ وهُوَ تنزيهُهُ عَمَّا لا يليقُ بِهِ مِنَ النَّقَائِصِ. وبين تحمِيدِهِ وهوَ إثباتُ ما يليقُ بِهِ مِنَ المَحَامِدِ. والثاني: أَنَّها للاستعانَةِ، والحمدُ مُضَافٌ إلى الفَاعِلِ، أي سبِّحْهُ بما حَمِد به نفسَهُ إذْ ليسَ كُل تسبيح بمحمود كَمَا أنّ تسبيحَ المعتزلةِ يقْتَضِي تعطيلَ كثيرٍ من الصفاتِ، كَمَا كانَ بشرُ المَرِيسيُّ يقولُ: سبحانَ ربي الأسْفَل. وقولُه: (وَاسْتَغْفِرْهُ) . أي اطلبْ مغفرَتَهُ، والمغفرةُ هِيَ وقايةُ شَرِّ الذنبِ لا مجردُ سَتْر. والفرقُ بَيْنَ العفوِ والمغفرةِ أنَّ العفْوَ محوُ أثرِ الذنبِ، وقدْ يكونُ بَعْدَ عقوبةٍ بخلافِ المغفرةِ فإنَّها لا تكونُ مَعَ العقوبةِ. وقولُه: (إِنَّهُ كانَ تَوَابًا) . إشارةٌ إلى أنَّه سُبْحَانَهُ يَقْبَلُ توبةَ المستغفرينَ المنيبينَ إليهِ، فَهُوَ ترغيبٌ في الاستغفارِ، وحَثٌّ على التوبةِ، وقَدْ فَهِمَ طائفةٌ مِنَ الصحَابَةِ - رضي الله عنهم - أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أُمِرَ بالتسبيح والتحميدِ والاستغفارِ عندَ مجيءِ نصرِ اللَّهِ والفتح، شُكرًا للَّهِ

على هذهِ النعمةِ، كَمَا صَلَّى النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يومَ فتح مكةَ ثماني ركعاتٍ، وكذلكَ صَلَّى سعد يومَ فتح المدائنِ، وكانتْ تُسَمَّى: صلاةُ الفتح. وأمَّا عُمَرُ وابنُ عباسٍ فَقَالا: بلْ كانَ مجيءُ النَّصرِ والفتح علامةَ اقترابِ أجلهِ، وانقضاءِ عُمرِه، فأُمِرَ أنْ يختمَ عملَه بذلكَ، ويتهيأ للقاءِ اللَّهِ، والقدومِ عليهِ على أكْمَلِ أحوالِهِ وأتمِّها، فإنَّه لمَّا جاءَ نصرُ اللَّهِ والفتحُ بحيثُ صارت مكة دارَ إسلام، وكذلكَ جزيرةُ العربِ كُلُّها، ولمْ يبْقَ بِهَا كافر، ودخلَ الناسُ في دينِ اللَّهِ أفواجًا. وقد بلَّغ رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - رسالاتِ ربِّه، وعلَّمَ أمتَهُ مناسكَهُم وعباداتِهم، وتركَهُم على البيضاءِ، ليلُها كنهارِهَا، ولم يبقَ لهُ من الدُّنيا حاجةً، فحينئذ تهيّأ للنَّقلةِ إلى الآخرةِ فإنَّها خير لَهُ مِنَ الأُولى، ولهذَا نزلتْ: (الْيَومَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكمْ) بِعَرَفةَ. وعلَّمَ الأمةَ مناسِكَهُم، وقالَ لَهُم: "لَعَلِّي لا أراكم بَعْدَ عامِي هَذا". وقالَ لَهُم: "هَلْ بَلَّغتُ؟ "، قالُوا: نَعَمْ، وأشهدَ اللَّهَ عليهم بذلكَ، وودعًّ النَاسَ فقالُوا: هذه حَجَّةُ الوداع. وقدْ خُيِّرَ - صلى الله عليه وسلم - بينَ الدنيا وبين لقاء ربِّه، فكانَ آخرَ ما سُمِعَ منه: "اللهمَّ الرفيقَ الأعْلَى". ونظيرُ هذا الفهم الذي فهمَهُ عمرُ مِنْ هذهِ السورةِ ما فهمَهُ أبو بكر مِنْ

قولِ النبى - صلى الله عليه وسلم - في خطْبَتِهِ: "إن عبْدًا خير بينَ الدنيا وبين لقاءِ ربهِ، فاختارَ لقاءَ رِّبهِ ". وقدْ سَبَقَ مِنْ حديثِ ابنِ عباسٍ ما يدل على ذلكَ. وفي "صحيح البخاريِّ " مِنْ حديثِ سعيدِ بنِ جبيرٍ عنْ ابنِ عبَّاسٍ قالَ: كانَ عمرُ يُدخِلُني مَعَ أشياخ بدرٍ فكان بعضَهُم وجَدَ في نفسهِ فقالَ: لِمَ تُدْخلُ هذا مَعَنَا ولنا أبناءٌ مثلُه؟ فقالَ عمرُ: إنَه ممِّن قَدْ عَلِمتم، فدعاهُم ذاتَ يومٍ فأدْخَلَهُ معهُم، فما رأيتُ أنَّه دَعَاني فيهِم يومئذٍ إلا لِيُريَهم، فقالَ: ما تقولونَ في قولِ اللهِ عزَّ وجلَّ: (إِذَا جَاءَ نَصْر اللَّهِ وَالْفَتْحُ) ؟ فقالَ بعضُهُم: أمِرنا أنْ نحْمِدَ اللَّهَ ونستَغْفره إذا جاءَ نصرُنا وفتِحَ عليْنَا، وسكتَ بعضُهُم فلمْ يَقل شيئًا! فقال لي: أكذاكَ تقولُ يا ابنَ عباسٍ؟ فقلت: لا، قال: ما تقولُ؟ قلتُ: هو أجلُ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أعْلَمَهُ لهُ قالَ: (إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفتحُ) فذاكَ علامَةُ اجَلِكَ، (فَسَبِّحْ بِحَمْد رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَّابًا) فقالَ عمرُ بنُ الخطاب: ما أعلمُ منها إلا ما تقول وقد رُويتْ هذه القصةُ عن ابن عباسٍ منْ غيرِ وجهٍ. وفي "المسندِ" عنْ أبي رزينٍ عن ابنِ عباسٍ قالَ: لمَّا نزلتْ: (إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ) عَلِمَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أنَه قد نُعيتْ إليه نفسُه. وقد سَبقَ منْ حديثِ ابنِ عباسٍ أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - لمَّا نَزَلتْ هذه السورةُ أخذَ في أشدِّ ما كانَ اجتهادًا في أمرِ الآخرةِ.

وروى الخرائِطي في "كتابِ الشُّكْرِ" مِنْ طريقِ شاذِ بنِ فياضٍ عَن الحارثِ بنِ شبلٍ عنْ أمِّ النُّعمانِ الكِنديةِ عنْ عائشةَ قالتْ: لمَّا نزلتْ هذهِ الآيةُ: (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا) اجتهدَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في العبادةِ فقيلَ لهُ: يا رسول اللَّهِ، ما هذا الاجتهادُ؟ أليسَ قدْ غَفَر اللَّهُ لكَ ما تقدَّم من ذنبكَ وما تأخَّر؟! قال: "أفَلا اكونُ عَبْدًا شكُورًا "، إسنادُه ضعيفٌ. وروى البيهقيُّ مِنْ طريقِ سعيدِ بنِ سليمانَ عَنْ عبَّادِ بنِ العوامِ عَن هلالٍ بن خَبَّابٍ عنْ عكرمةَ عْن ابنِ عباسٍ قال: لمَّا نزلتْ: (إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ) دعَا رسول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فاطمةَ، وقال: "إنَّهُ قد نُعِيَتْ إليَّ نفسِي "، فَبكتْ، ثُمَّ ضَحِكَتْ، وقالتْ: أخبرني أنه قد نُعيَ إليه نفسه فبكيتُ، ثمَّ أخبرَنِي بأنَكِ أوَّل أهلي لِحَاقًا بي فَضحِكْتُ. وكان النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يكثرُ من التسبيح والتحميدِ والاستغفارِ بعدَ نزولِ هذهِ السورةِ، ففي "الصحيحينِ " عَنْ مسروقٍ عَنْ عائشةَ قالتْ: كانَ رسول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يكثرُ أنْ يقول في ركوعِهِ وسجودِهِ: "سبحانكَ اللهُمَّ رَبَّنا وبحمدِكَ اللهمَّ اغفرِ لِي " يتأول القرآنَ. وفي "المسنَدِ" و "صحيح مسلم " عنها قالتْ: كانَ رسول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يكثرُ في آخرِ أمر مِنْ قول: "سبحانَ اللَّهِ وبِحَمْدهِ، استغفرُ اللَّهَ وأَتُوبُ إليهِ ". وقالَ: "إنَّ ربي كانَ أخبَرَني أنِّي سَأرَى علامةً في أمتي، وأمَرَنِي إذا رأَيتُها أنْ أُسبِّحَ بحمدِهِ

وأستغفرَهُ إنَه كانَ توَّابًا، فَقَدْ رأيتُها: (إِذَا جَاءَ نَصْر اللَّهِ وَالْفَتْح) " السورةَ كلَّها. ورَوى ابنُ جريرٍ مِنْ طريقِ حفصٍ ثنا عاصم عَنِ الشعبيِّ عَن أمِّ سلمةَ قالتْ: كانَ رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - في آخرِ أمرِهِ لا يقومُ ولا يقعدُ ولا يذهبُ ولا يجيءُ إلا قالَ: "سبحان اللهِ وبحمدِهِ "، فقُلْتُ: يا رسولَ اللَّهِ، إنَّكَ تُكثرُ مِنْ: "سبحان اللَّهِ وبحمدِهِ "، لا تذهبُ ولا تجيءُ ولا تقومُ ولا تقعدُ إلا قلتَ: "سبحان اللهِ وبحمدِهِ " قالَ: "إني أُمرْتُ بهَا". فقالَ: (إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ) إلى آخرِ السورةِ. غريبٌ. وفي "المسندِ" عن أبي عبيدةَ عنْ عبدِ اللَّهِ بنِ مسعودٍ قالَ: لمَّا نزلتْ علَى رسولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: (إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْح) كانَ يُكثرُ إذَا قرأَهَا وركعَ أنْ يقولَ: "سبحانك اللهُمَّ ربنا وبِحَمْدِكَ، اللهُمَّ اغفرْ لي، إنَكَ أنتَ التوابُ الرحيمُ " ثَلاثًا. واعلمْ؛ أنْ التسبيحَ والتحميدَ فيهِ إثباتُ صِفَاتِ الكمالِ، ونفيُ النقائصِ والعيوبِ. والاستغفارُ يتضمنُ وقايةَ شرِّ الذنوبِ. فذاكَ حَق اللَّهِ، وهذَا حق عبدِهِ، ولَهِذا في خطبةِ الحَاجَةِ: "الحمدُ للَّهِ نحمدُهُ ونسْتعينُهُ ونسْتغفرُهُ ". وكانَ رجل في زمنِ الحسنِ البصريِّ مُعَتزِلٌ النَّاس فسالهُ الحسنُ عَنْ حالِهِ؟

فقالَ: إني أُصِبحُ بين نعمةٍ وذنْبٍ فأحدِثُ للنعمةِ حَمْدًا، وللذنبِ استغفارًا. فأنا مشغولٌ بذلكَ، فقالَ الحسنُ: الزمْ مَا أنتَ عليهِ، فأنتَ عنْدِي أفقهُ مِنَ الحسَنِ. والاستغفارُ: هوَ خاتمةُ الأعمالِ الصالحةِ، فلِهَذَا أُمرَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أنْ يجعلَهُ خاتمةَ عُمْره. كما يُشرعُ لمصلِّي المكتوبةِ أنْ يستغفرَ عَقِبَها ثلاثًا، وكَمَا يُشرعُ للمتهجِّدِ مِنَ الليلِ أنْ يستَغْفِرَ بالأسْحَارِ قالَ تعالَى: (وَبِالأَسحَارِ هُمْ يسنتَغْفِرُونَ) وقالَ: (وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ) ، وكَمَا يُشرعُ الاستغفارُ عُقَيْبَ الحجِّ قالَ تعالَى: (ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (199) . وكما يُشْرعُ ختمُ المجَالِسِ بالتسبيح والتحميد والاستغْفَارِ وهُوَ كفارةُ المجلسِ، وروي أنه يَخْتِمُ بِهِ الوضوءَ أيضًا. َ وسببُ هَذَا أنَّ العبادَ مُقصِّرُونَ عن القيام بحقوقِ اللَّهِ كَمَا يَنبْغِي، وأدائِهَا على الوجهِ اللائقِ بجلالهِ وعظمتِهِ، وإنَّما يؤدُّونَها علَى قَدْرِ مَا يطيقُونَهُ. فالعارفُ يَعْرِفُ أنَّ قَدْرَ الحقِّ أعْلَى وأجلُّ مِنْ ذلكَ، فهُوَ يَسْتَحِي مِنْ عملِهِ ويستغفرُ مِنْ تقصير فيهِ كَمَا يستغفرُ غيرُهُ مِنْ ذنوبِهِ وَغَفَلاتِهِ، وكُلَّما كانَ الشخصُ باللَّهِ أعرفَ كانَ له أخوف، وبرؤيةِ تقصيرهِ أبصرُ، ولهذا كانَ خاتمُ المرسلينَ وأعرفُهم بربَ العالمينَ - صلى الله عليه وسلم - يجتهدُ في الثناءِ على ربِّه، ثُمَّ يقولُ في

آخِرِ ثنائه: "لا أُحْصِى ثناءً عليكَ أنتَ كَمَا أَثنيتَ على نفسِكَ ". ومِنْ هذَا قولُ مالكِ بنِ دِيْنارٍ: لقدْ هَممْتُ أنْ أُوصِيَ إذَا متُّ أن أُقيد، ثُمَّ يُنْطلقُ بي كما يُنطلقُ بالعبدِ الآبقِ إلى سيِّدِهِ، فإذا سَألنَي؟ قلتُ: يا ربِّ، لم أرضَ لكَ نفسِي طَرفةَ عينٍ. وكان كَهْمَسُ يُصَلِّي كُلَّ يومٍ ألفَ ركْعَةٍ، فإذَا صَلَّى أخَذَ بلحيتِهِ، ثُمَّ يقولُ لنفسِهِ: قُومِي يا مَأْوى كُلَّ سوءٍ، فواللَّهِ مَا رضيتُك للَّهِ طَرْفَةَ عينٍ. فائدة: الاستغفارُ: يَرِدُ مجردًا، ويردُ مَقْرونًا بالتوبةِ، فإنْ وَردَ مجرَّدًا دَخلَ فيه طلبُ وقايةِ شرِّ الذنبِ الماضِي بالدعاءِ، والنَّدمِ عليهِ، وشرُّ وقايةِ الذنبِ المتوقع بالعزمِ علَى الإقلاع عنهُ. وهذَا الاستغفارُ الذي يمنعُ الإصْرارَ بقولِهِ: "ما أصَرَّ مَن اسْتغفر ولَو عادَ في اليوم سبعينَ مرَة". وبقولِهِ: " لا صَغيرةَ مع الإصرارِ، ولا كبيرةَ مع الاستغفارِ" خرَّجَهما ابنُ أبي الدنيا. وكذا في قولِهِ تعالَى: (الَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُم ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذنُوبِهِمْ) . وفي "الصحيح ": "أذنبَ عبدٌ ذنبًا. . . " الحديثَ. وهوَ المانعُ من العقوبةِ في قولهِ: (وَمَا كانَ اللَّه مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرونَ)

وإنْ وردَ مقرونًا بالتوبةِ اختصَّ بالنوع الأولِ، فإنْ لم يصحبْهُ الندمُ على الذنبِ الماضِي، بلْ كانَ سُؤالاً مُجرَّدًا فهو دعاءٌ محضٌ، وإن صَحِبَه ندمٌ فهو توبةٌ. والعزمُ على الإقلاع من تمامِ التوبةِ، والتوبةُ إذا قُبلتْ فهلْ تُقبلُ جَزْمًا أم ظاهرًا؟ فيه خلافٌ معروفٌ. فيقالُ: الاستغفارُ المجردُ هو التوبةُ مَعَ طلبِ المغفرةِ بالدعاء، والمقرونُ بالتوبةِ: هوَ طلبُ المغفرةِ بالدعاءِ فَقَط. وكذلك التوبةُ إنْ أُطلقتْ دخلَ فيها الانتهاء عن المحظورِ، وفِعْلُ المأمورِ ولهذا عَلَّقَ الفلاحَ عليها، وجعلَ مَنْ لم يَتُبْ ظالمًا، فالتوبةُ حينئذٍ تشملُ فعلَ كُلِّ مأمورٍ، وترك كُلِّ محظورٍ ولهذا كانتْ بدايةُ العبدِ ونهايتُهُ هي حقيقةُ دينِ الإسلامَ. وتارةً يُقرنُ بالتَّقْوَى، أو بالعملِ فتختصّ حينئذٍ بتركِ المحظورِ واللَّهُ أعلمُ. وفي فضائلِ الاستغفارِ أحاديثُ كثيرةٌ مِنْها: حديثُ: "جِلاءِ القلوبِ تلاوةُ القرآنِ والاستغفارُ". وحديثُ: "فإن تابَ واستغفرَ ونَزعَ صُقِلَ قَلبُهُ ". وحديثُ: "ابنَ آدمَ إنَّك لو بَلَغَتْ ذنوبُك عَنَانَ السماء، ثُمَّ استغفرتَنِي على ما كانَ

منْكَ، غفرتُ لكَ ولا أبَالِي ". وحديثُ ابنِ عمرَ: كنَّا نَعُدُّ لرسولِ اللَّه - صلى الله عليه وسلم - فى المجلسِ الواحد: "ربِّ اغفرْ لي، وتُبْ علي، إَّكَ التوابُ الغفورُ" مائةَ مرةٍ. وحديثُ أبي هريرةَ مرفوعًا: "إنِّي لأمشغفرُ اللَّهَ في اليوم كثرَ من سبعينَ مرةً، وأتوبُ إليهِ " خرَّجه البخاريُّ. ومنْ حديثِهِ مرْفُوعًا: "لَو لَم تُذنبُوا لَذَهبَ اللَهُ بكُم، ولجاء بقومٍ يُذنِبونَ ثم يستغفرون فيغفرُ لَهُمْ " خرَّجه مسلمٌ. وفي "المسندِ" من حديث عطيةَ عَنْ أبي سعيدِ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ قالَ حِين يَأوي إلى فَراشِهِ، أستغفرُ اللَّهَ الذي لا إله إلا هُو الحيَّ القَيومَ وأتُوبُ إِليهِ، غَفَر الله له ذُنُوبهُ، وإنْ كانتْ مِثَلَ زَبدِ البَحْرَ، وإن كانت مثل رَملِ عَالج، وإن كانت عدد ورق الشَّجَر". وحديثُ: "منْ كثرَ منَ الاستغفارِ جعلَ اللَهُ لهُ مِنْ كل هَمٍّ فرجا" خرَّجه - أحمدُ منْ حديثِ ابن عباس، ويعضدُهُ قولُه تعالَى: (اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفارًا) ، وقولُه: (وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا) .

قالَ رياح القيسيُّ: لي نيف وأربعونَ ذنبًا، قدِ استغفرتُ لكل ذنب مائةَ ألفِ مرَّةٍ. وقال الحسنُ: لا تملُّوا من الاستغفارِ. وقال بكر المُزَنيُّ: إنَّ أعمال بني آدمَ ترفعُ فإذا رفعت صحيفة فيها استغفار رُفعت بيضاءُ، وإذا رُفعتْ ليس فيها استغفارٌ رفعت سوداء. وعن الحسنِ قالَ: اكثِرُوا مِن الاستغفارِ في بُيُوتِكم، وعَلَى موائِدِكم، وفي طُرُقِكم، وفي أسواقِكُم، فإنَّكم ما تدرُون متى تَنْزِلُ المغفرةُ. وقال لقمان لابنه: أيْ بُنيَّ؛ عوِّد لسانَكَ: اللهَمَّ اغفرْ لِي، فإنَّ للَّهِ ساعاتٍ لا يردُّ فيهنَّ سائلاً. ورُئِيَ عمرُ بنُ عبدِ العزيزِ في النَّومِ فقيلَ لهُ: ما وجدَّتَ أفضلُ؟ قالَ: الاستغفار. * * *

سورة الإخلاص

سُورَةُ الإخْلاصِ قوله تعالى: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4) قال ابنُ رجبٍ - رحمه اللَّه تعالى -: "الكلامُ على سُورةِ الإخْلاصِ ". وفي موضع نزولِهَا قولانِ: أحدهما: أنها مكيةٌ. والثاني: مدنية، وذلك في فصولٍ في فضائِلِهَا وسببِ نزولِهَا وتفسيرهَا. أمَّا فضائِلُهَا فكثيرةٌ جِدًّا. مِنْهَا: أنَها نِسْبَةُ اللَّهِ عَزَّ وجلَّ. خرَّج الطبرانيُّ منْ طريقِ عثمانَ بنِ عبدِ الرحمنِ الطرائفيِّ عَنْ الوازع ابن نافع عن أبي سلمةَ عنْ أبي هريرةَ قال: قال رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: "لكُلِّ شيءٍ نسبةٌ، ونسبةُ اللَّهِ: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) . ليسَ بأجوفَ ". الوازعُ ضعيفٌ جدًّا، وعثمانُ يروي المناكيرَ، وسيأتي في سببِ نزولِهَا ما يشهدُ لَهُ. ومنها: أنَّها صفةُ الرحمنِ، وفي صحيح البخاريِ ومسلم من حديثِ عائشةَ، أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - بعثَ رجُلاً على سرية فكان يقرأُ لأصحابهِ في صَلاتِهِم فيَختمُ بـ (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) ، فلمَّا رجَعوا ذكَّرَوا ذلك للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فقال: "سلُوهُ: لأيِّ شيء يصنعُ ذلك؟ "، فسألُوهُ، فقال: لأنَّها صِفَةُ الرَّحمنِ، وأنا أُحبُّ أن

أَقرأَ بِهَا، فقالَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "أخبروهُ أن اللَّه يُحبُّهُ ". ومنهَا: أَنَّ حُبَّها يُوجبُ محبةَ اللَّهِ، لهذا الحديث المذكورِ آنفًا، ومنهُ قولُ ابنِ مسعودٍ: "مَنْ كانَ يحبُّ القرآنَ فهُوَ يحبُ اللَّهَ " َ. ومنها: أن حُبَّها يُوجبُ دُخولَ الجنَّةِ. ذكرَ البخاريُّ في "صحيحه " تَعْليقًا وقالَ: عبيدُ اللهِ عنْ ثابتٍ عن أنسٍ قالَ: كانَ رجُلٌ مِنَ الأنصارِ يؤُمُّهم في مسجدِ قُباءَ، وكانَ كلَّما افتتحَ سورةً يقرأُ بِهَا لهمْ في الصلاةِ ممَّا يقرأُ به، افتتح بـ (قلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) حتى يفرغُ مِنْها، ثُمَّ يقرأُ سُورةً أُخرَى مَعَهَا، وكانَ يصنعُ ذلكَ في كلِّ ركعةٍ، وذكرَ الحديثَ، وفيه: فقالَ النبي - صلى الله عليه وسلم -: "يا فلانُ، ما حملكَ على لزوم هذهِ السورةِ في كلِّ ركعةٍ؟ " فقال: إني أُحِبُّها، فقالَ: "حُبُّكَ إياهَا أدخلكَ الجنَّةَ". وخرَّجه الترمذيُّ في "جامعهِ " عن البخاريِّ عَنْ إسماعيلَ ابنِ أبي أويسٍ عنَ الدَّارَورْدِيِّ عَنْ عبيدِ اللَّهِ بنِ عبدِ الرحمنِ عنْ عبيدِ اللَّهِ بنِ عمرَ وغرَّبه. وقال: روى مباركُ بنُ فضالةَ عنْ ثابتٍ عنْ أنسٍ أن رجلاً قالَ: يا رسولَ اللَّهِ إنِّي أحبُّ هذه السورةَ: (قُلْ هٌوَ اللَّهُ أَحَدٌ) فقالَ: "إن حُبَّك إياها أدخلكَ الجنَّة" وقدْ خرَّجه أحمدُ في "المسندِ" عن أبي النضرِ عن مباركِ بنِ فضالَة بهِ. وروى مالكٌ عنْ عبيدِ اللَّهِ بنِ عبدِ الرحمنِ عنْ عبيدِ بنِ حُنينٍ قالَ: سمعتُ أبا هريرةَ يقولُ: أقْبلتُ مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، فسمعَ رجُلاً يقرأُ: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ)

فقالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "وجَبَتْ " قلت: وَمَا وجبَت؟ قالَ: "الجنةُ". وأخرجَهُ النسائيُّ والترمذيُّ وقالَ: حسنٌ صحيحٌ لا نعرفُه إلا مِنْ حديثِ مالك. وروَى أبو نُعيمٍ منْ طريقِ عمرِو بنِ مرزوقٍ عنْ شعبةَ عن مهاجرٍ سمعتُ رجلاً يقولُ: صحبتُ رسولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - في سفرٍ، فسمِعَ رَجُلاً يقرأُ: (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ) ، فقالَ: "قد بَرِئَ من الشِّرْك ". وسمعَ آخرَ يقرأُ: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) فقالَ: "غُفِرَ لهُ ". ومنْهَا: أنَّها تعْدِلُ ثلثَ القرآنِ ففي "صحيح البخاريِّ" منْ حديثِ أبي سعيدٍ أنَّ رجلاً سعَ رجُلاً يقرأُ: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) يُردِّدُها، فلمَّا أصبحَ جاءَ إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فذكرَ ذلكَ لهُ - وكانّ الرجلَ يتقالُّها - فقال رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -: "والذي نفسِي بيده إنَّها لتعدلُ ثُلُثَ القرآنِ ". وقدْ رُوِيَ عنْ أبي سعيدٍ عن أخي قتادةَ بنِ النعمانِ به. وفي "صحيح البخاريِّ " أيضًا مِنْ طريقِ الأعمشِ عنْ إبراهيمَ النخعيِّ والضَّحَّاكِ المشرقيِّ عنْ أبي سعيدٍ قال: قالَ رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لأصحابِهِ: "أيعجزُ أحدُكُم أنْ يَقْرَأ ثلثَ القرآنِ فِي ليلةٍ؟ " فشقَّ ذلكَ عليهِم وقالُوا: أيُّنا يطيقُ ذلك يا رسول اللَّه، فقالَ: "اللَّهُ الواحِدُ الصَّمدُ ثلثُ القرآنِ ". وفي "المسندِ" منْ طريقِ ابنِ لهيعةَ عن الحارثِ بنِ يزيدَ عنْ أبي الهيثم

عنْ أبي سعيدٍ قال: باتَ قتادةُ بنُ النعمان يقرأُ الليلَ كُلَّهُ بـ (قلْ هُوَ اللَهُ أَحَدٌ) فذُكِرَ ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقالَ: "والذي نفسِي بيدهِ لَتعْدِلُ نصفَ القرآنِ أو ثُلُثَهُ ". وفي "المسندِ" أيضًا مِنْ طريقِ ابنِ لهيعةَ، حدَّثَنَا حُييُّ بنُ عبد اللَّهِ عن أبي عبدِ الرحمنِ عنْ عبدِ اللَّهِ بنِ عمرٍو: أنَّ أبا أيوبَ الأنصاريًّ كانَ في مجلسٍ وهوَ يقولُ: ألا يسْتَطيعُ أحدُكُم أنْ يقومَ بثُلُثِ القرآنِ كلَّ ليلةٍ؟ فقالُوا: وهل يستطيعُ ذلكَ أحدٌ؟ قال: فإنَّ: (قلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) ، ثُلُثُ القرآنِ، قالَ: فجاءَ النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يسمعُ أبا أبوبَ. فقالَ: "صَدَق أبو أيوبَ ". ورَوَى يحيى بنُ سعيدٍ عنْ يزيدَ بنِ كيسانَ عنْ أبي حازمٍ - قالَ الترمذيُ: اسمُهُ سلمانَ - عنْ أبي هريرةَ قالَ: قالَ رسولُ اللَّه - صلى الله عليه وسلم -: "احشُدُوا، فإنَي سأقْرَأُ عليكُم ثُلُثَ القُرآنِ "، فحشدَ من حشدَ، ثُمَّ خرجَ نبي اللَّه - صلى الله عليه وسلم - فَقَرَا: (قُل هُوَ اللَّه أَحَدٌ) ، ثُمَّ دخلَ فقالَ بعضُنَا لِبعضٍ: قال رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -: "فإني ساقْرأُ عليكُم ثُلُثَ القرآنِ "، إنِّي لأرى هذا خبرًا جاءَهُ من السماء، ثُمَّ خرجَ نبي اللَّه - صلى الله عليه وسلم - فقال: "إني قُلتُ: سأقَرا عليكُم ثُلُثَ القُراَنِ، ألا إنها تعدلُ ثُلُث القُراَنِ ". أخرجَهُ مسلم. وروى الإمامُ أحمدُ عنْ عبدِ الرحمنِ بنِ مهديّ عنْ زائدةَ بنِ قدامةَ عنْ منصورِ عن هلالِ بنِ يسافٍ عن الربيع بنِ خثيمٍ عنْ عمرِو بنِ ميمونٍ عنْ عبدِ الرحمنِ بن أبي ليلَى عنْ امرأةٍ مِنَ الأنْصَارِ عنْ أبي أيوبَ عنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "أيَعْجزُ أحدُكُم أنْ يقرأ ثلثَ القرآنِ في ليلةٍ؟ فإنه مَنْ قرأ: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ) في ليلةٍ فقدْ قرأَ ليلتئذٍ ثلثَ القرآنِ ". ورواهُ النسائي والترمذيُّ عنْ بندار.

وروى الترمذيُ عنْ قتيبةَ أيضًا عَنْ ابنِ مهدي، فَهُوَ لَهُمَا عُشَاري ولأحمد تُسَاعي، وفي روايةِ الترمذيِّ عَنْ امرأةِ أبي أيوبَ عَنْ أبي أيوبَ بِهِ، وذكرَ اختلافًا في إسنادِهِ. وروى أحمدُ عن هُشَيم عنْ حصينٍ عن هلال بنِ يسافٍ عنْ عبدِ الرحمنِ بن أبي ليلَى عنْ أبيِّ بنِ كعبٍ أو رجلٍ منَ الأنصارِ قال: قال رسول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: "منْ قرأ: (قُلْ هُوَ اللَّه أَحَدٌ) فكأنَّما قَرَأَ بثلثِ القرآنِ ". ورواهُ النسائيُّ في "اليومِ والليلة" منْ طريقِ هُشيمٍ عنْ حصينٍ عن ابن أبي ليلَى بهِ منْ غيرِ ذكرِ هلال بنِ يسافٍ. وروى الإمامُ أحمدُ أيضًا عنْ وكيع عن سفيانَ عن أبي قيسٍ عن عمرِو بن ميمونٍ عنْ أبي مسعودٍ قال: قال رسول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: " (قلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) تعدِلُ ثلثَ القرآنِ " ورواهُ ابن ماجةَ والنسائيُّ في "اليومِ والليلةِ" من طُرُق. وفي بعضِ طرقِهِ وقفُه. ورواه أبُو نعيم منْ طريقِ مسعرٍ عنْ أبي قيسٍ عَنْ عمرِو بنِ ميمونٍ عنْ أبي مسعودٍ الأنصاريّ، كَذا قال. ومنْ طريقِ شعبةَ عنْ أبي إسحاقَ عنْ عمرِو بنِ ميمونٍ عنْ ابنِ مسعودٍ. وروَى أبو نُعيمٍ منْ طريقِ عليّ بنِ عاصم عنْ حصينٍ عنْ هلالِ بنِ يساف

عنْ ربيع بنِ خُثَيم عنْ ابنِ أبي ليلَى عنْ كعبِ بنِ عجرةَ عنْ النبي - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "منْ قرأ: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) في يوم وليلة ثلاثَ مرات كانتْ تعدِلُ ثلثَ القرآنِ ". ورواهُ شعبةُ عنْ عليِّ بنِ مدركٍ عنْ إبراهيمَ النخعيِّ عنْ الربيع بنِ خثيمِ عن ابنِ مسعودٍ عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم -. وروى أبو نُعيمٍ حدَّثنَا إبراهيمُ بنُ محمدِ بنِ يحيى، ثنَا أحمدُ بنُ حمدونَ ابنِ رستم، ثَنا عليٌّ بنُ إشْكَاب، ثنَا شجاعُ بنُ الوليدِ، ثنَا زيادُ بنُ خيثمةَ. عنْ محمدِ بنِ جحادةَ، عنْ الحسنِ عنْ أبي هريرةَ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - " (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) ثلثُ القرآنِ "، قالَ إبراهيمُ: هكذا حدَّثَني بهِ وكتبهُ لِي بخطِهِ وإنَّما يحفظُ الإسناد قراءةُ يس. وروى يوسفُ بنُ عطيةَ الصفارُّ: ثنَا هارونُ بنُ كثيرٍ، عنْ زيدِ بنِ أسلمَ عنْ أبيهِ عْن أبي أمامةَ عنْ أبيِّ بنِ كعبٍ قالَ: قالَ رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: "منْ قرَأ: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) فكأنَّما قرأَ ثلثَ القرآنِ، وكتبَ لهُ مِنَ الحسناتِ بعددِ من أشْرَكَ باللَّهِ وآمنَ بِهِ ". وفي "صحيح مسلم " منْ طريقِ قتادةَ عنْ سالم بنِ أبي الجعدِ عنْ معدان بنِ أبي طلحةَ عنْ أبي الدَّرْداءَ أنَّ رسولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "أيعجزُ أحدُكُم أنْ يقرأَ كلَّ يومٍ ثلثَ القرآنِ؟ " قالُوا: نعم، قالَ: "إنَ الله جزأَّ القُرآنَ ثلاثةَ أجزاء، فـ (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) ثلثُ القرآنِ ". ورَوَى أميةُ بنُ خالدٍ عَنْ ابنِ أخِي ابنِ شهابٍ عنْ عَمِّه عَنْ حميدِ بنِ

عبدِ الرحمنِ بن عوفٍ عَنْ أمهِ أمِّ كُلْثوم بنتِ عقبةَ بنِ أبي مُعَيْط قالَتْ: قالَ رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: " (قُلْ هُوَ اللَهُ أَحَدٌ) ثلثُ القرآنِ "، رواه أحمدُ والنسائيُّ في "اليومِ والليلةِ". ورواهُ أيْضا منْ طريقِ مالكٍ عَنِ الزُّهريّ عَنْ حميدٍ منْ قولهِ، ورواهُ أيضًا مِنْ طريقِ ابنِ إسحاقَ عَنِ الحارثِ بنِ فُضَيلٍ عَنِ الزهريِّ عَنْ حميدٍ أنَّ نَفرًا مِنْ أصحابِ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - حدَّثوه عَنِ النبي - صلى الله عليه وسلم - أنَّهُ قالَ: " (قُلْ هُوَ اللَّه أَحَدٌ) تعدِلُ ثلثَ القرآنِ لمن صلَّى بِهَا". وروى الحافظُ أبو يَعْلَى عَنْ قطنِ بنِ نُسيرٍ عنْ عبيسِ بنِ ميمون عنْ يزيدَ الرقاشيِّ عَنْ أنسٍ عنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "أمَا يستطيعُ أحدُكُم أنْ يقْرأَ: (قُلْ هُوَ اللَّه أَحَدٌ) ثلاثَ مرات في ليلةٍ فإنَّها تعدِلُ ثلثَ القرآنِ " إسنادُه ضعيفٌ. ويُستدلُّ بِهِ على أنَّ المرادَ بكونِهَا تعدِلُ ثلثَ القرآنِ، أجرَهُ وثوابَهُ، كما يُستدلُّ بحديثِ أبي الدرداءَ المتقدمِ علَى أنَّها جزءُ التوحيدِ مِنَ القرآنِ، وأنَّه - ثلاثةُ أجزاءٍ: تَوحيدٌ، وتَشْريعٌ، وقَصَصٌ. ومِنْها: أنَّ قراءَتَها تكفِي مِنَ الشرِّ، وتمنعهُ، وقدْ ثبتَ في "صحيح البخاريِّ " عنْ عائشةَ: "أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كانَ إذَا أوَى إلى فِراشِهِ قرأَها مع المعوذتينِ ومَسَحَ ما استطاعَ مِنَ جسدِهِ ". وروى أبو داودَ والترمذيُّ والنسائيُّ مِنْ طريقِ معاذِ بنِ عبدِ اللَّهِ بنِ خُبيبٍ عنْ أبيهِ

عَنِ النبيّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ لهُ: "قُلْ (قلْ هُوَ اللَّه أَحَدٌ) والمعوذتينِ حِينَ تُمِسي وحينَ تُصْبِحُ ثلاثًا تكفيكَ كُلَّ يوم " وصحَّحهُ الترمذيُّ. ورواهُ النسائيُّ مِنْ طريقٍ أُخرَى عنْ معاذ عنْ عبدِ اللَّهِ بنِ - خُبيبٍ عنْ أبيهِ عَنْ عقبةَ بنِ عامر فذكرهُ ولفظُه: "تَكْفِكَ كلَّ شيء". وقالَ البزارُ في "مسندهِ ": حدَّثنا إبراهيمُ الجوهريُّ: ثَنا غسانُ بنُ عبيدٍ عنْ أبي عمرانَ الجونيّ، عنْ أنسِ بنِ مالكٍ قالَ: قالَ رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: "إذَا وضعْتَ جنبكَ على الفراشِ، وقرأتَ فاتحةَ الكتابِ، و (قلْ هُوَ اللَّه أَحَدٌ) فقدْ أمنتَ مِنْ كلَ شيء إلا الموتَ ". ومنْهَا: أنَّها أفضلُ سورِ القرآنِ، فروى الدارميُّ في "مسندِه " عنْ أبي المغيرةَ عَنْ صفوانَ عنْ أيفعَ بنِ عبيد الكلاعيِّ قالَ: قالَ رجلٌ: يا رسولَ اللَّهِ، أيُّ سورِ القرآنِ أعظمُ؟ قال: " (قُلْ هُوَ اللَّه أَحَدٌ) ". وفي "المسندِ" منْ طريقِ معاذِ بنِ رفاعةَ عنْ عليِّ بنِ يزيدَ، عنْ القاسم. عنْ أبي أمامةَ، عنْ عقبةَ بنِ عامر قالَ: قالَ لي رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: "ألا أَعلمُكَ خيرَ ثلاثِ سورٍ أنزِلَتْ في التوراةِ والإنجيلِ والزَّبور والقُراَنِ العَظيم؟ " قلتُ: بَلَى. قالَ: "فَأَقرَأَنِي: (قُلْ هُوَ اللَّه أَحَدٌ) و (قلْ أَعُوذ بِرَبِّ الْفَلَقِ) و (قل أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ) " ثُمَّ قالَ لِي: "يا عقْبةُ، لا تنْسَهُن ولا تَبِتْ ليلة حَتَى تَقْرَأهُن". وروى الترمذيُّ بعضَ هذا الحديثِ وحسَّنهُ، ورواه أحمد أيضًا بطولِهِ منْ طريقِ

أُسيدِ بنِ عبدِ الرحمنِ الخثعميِّ عنْ فروةَ بنِ مجاهدٍ عنْ عقبةَ بنِ عامرٍ بِهِ. ومنْهَا: أنَّ الدعاءَ بها مستجابٌ، ففي السنن الأربعةِ عنْ عبدِ اللَّهِ بنِ بريدةَ عنْ أبيهِ أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - سَمِعَ رجلاً يصلِّي يَدْعُو يقولُ: اللهُمَّ إني أسألُك بأني أشهَدُ أن لا إله إلا أنتَ الأحَدُ الصّمدُ الذي لمْ يلدْ ولم يُولد، ولم يكن له كفوًا أحدٌ، قالَ: "والذي نفْسي بيدِهِ لقدْ سألَهُ باسمِهِ الأعظمَ، الَّذِي إذا سُئِلَ به أعطى، وإذا دُعِيَ بهِ أجابَ ". وقال الترمذي: حسن غريب. وفي "المسندِ" عن محجنِ بنِ الأدرع أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - دخلَ المسجدَ، فإذَا هو برجلٍ قدْ قَضَى صلاتَه وهوَ يتشهدُ وهُو يقولُ: اللهمَّ إنِّي أسألُكَ بأنّكَ الواحدُ الأحدُ الصّمدُ الَّذي لمْ يلدْ، ولمْ يولدْ، ولم يكنْ لهُ كُفُوًا أحدٌ، أن تغفرَ لي ذنوبِي إنَّكَ أنتَ الغفورُ الرحيمُ. فقالَ نبيُّ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ثلاثَ مراتٍ: "قدْ غُفِر لَهُ، قدْ غُفِر لَهُ، قَدْ غُفِر لَهُ ". وقدْ وردَ في تكرير قراءَتِها خمسينَ مرةً أو أكثرَ منْ ذلكَ، وعشرَ مراتٍ عقيبَ كُلِّ صلاةٍ أحاديثُ كثيرةٌ فيهَا ضعفٌ، وكذلكَ حديثُ معاويةَ بنِ معاويةَ الليثيِّ خرَّجَهُ الطبرانيُّ، وأبو يَعْلى من طرقٍ كُلِّها ضعيفةٌ فلم نذكُرْهَا. وأمَّا سببُ نزولِهَا: ففي "المسندِ" والترمذي عنْ أبي سعيدٍ الصَّاغَاني

محمدِ بنِ مبشرٍ عن أبي جعفرٍ الرازيّ عَنْ الربيع بنِ أنسٍ عنْ أبي العاليةَ عَنْ أبيِّ بنِ كعبٍ أنَّ المشركينَ قالُوا للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: انسبْ لنَا ربَّكَ يا محمدُ؛ فأنزل اللَّهُ: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) ورواه الترمذيُّ من طريق عبيد النله بن موسى، عن أبي جعفر عن الرَّبيع عن أبي العاليةِ مرسلاً. وقال: هذا أصحُّ من حديث أبي سعيد. ورواه أبو يعْلَي الموصليُّ والطبرانيُّ وابن جرير من طريق شريح بن يونسَ عن إسماعيل بن مجالدٍ عن مجالدٍ عن الشعبيِّ عن جابر: أنَّ أعرابيا جاءَ إلى رسول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فقال: انسبْ لنا ربَّكَ؟ فأنزل (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) إلى آخرِهَا، ورُوِيَ مُرْسًلاً. وروى عبيدُ بنُ إسحاقَ العطَّارُ عنْ قيسِ بنِ الربيع عنْ عاصمٍ عنْ أبي وائلٍ عَن ابنِ مسعودٍ قال: قالتْ قُريشٌ لرسول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: انسُبْ لنَا ربكَ فنزلتْ: (قُلْ هُوَ اللَهُ أَحَدٌ) قال الطبراني: ورواه الفريابيُّ وغيرُه عَنْ قيسٍ عنْ عاصم عنْ أبي وائلٍ مُرْسَلاً. وروى ابنُ أبي حاتم في "تفسيرِه": حدَّثنا أبو زرعةَ: ثنا العباس بنُ الوليدِة ثنا يزيدُ بنُ زريع: ثنا عليٌّ بنُ الحسينِ: ثنا أبو عبدِ اللَّهِ الحرشيّ: ثنا أبو خلفٍ عبدُ اللَّهِ بنِ عيسى: ثنا داودُ بنُ أبي هند، عنْ عكرمةَ، عنْ ابنِ عبَّاسٍ أنَّ اليهودَ جاءتْ إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - منهم حُييُّ بنُ أخطبَ وكعبُ بنُ الأشرفِ فقالُوا: يا محمدُ، صِفْ لنا الذي بَعَثَك؟ فأنزل اللَّه: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ) فيخرجُ منه الولدُ، (وَلَمْ يُولَدْ) فيخرجُ مِنْ شيءٍ.

وأما التفسيرُ: فقولُه: (قُلْ) هذا افتتاحٌ للسورةِ بالأمرِ بالقول، كما في المعوذتينِ وسورةِ الجنَ. وقدْ سُئلَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - عنِ المعوذتينِ فقال: "قِيلَ لي فقلتُ " وذلكَ إشارةٌ منهُ إلى أنَّه - صلى الله عليه وسلم - مبلغٌ مَحْضٌ لِمَا يُوحَى إليه، ليسَ فيه تصرفٌ لِمَا أوحاهُ اللَهُ إليه بزيادة ولا نقصٍ، وإنَّما هُوَ مُبَلِّغٌ لكلامِ ربِّه كَمَا أوحاهُ إليهِ فإذا قالَ: (قلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) كانَ امتثالاً للقول الذي قيلَ لهُ بلفظِهِ لا بمعناهُ، و (هُوَ) : اسمٌ مضمرٌ قيل إنَّه: ضميرُ الشأنِ، وقيل: لا. و (اللَّهُ أَحَدٌ) ن قيلَ: هو ضميرُ الشأنِ، فالجملةُ مبتدأ وخبرٌ. وإنْ قيلَ: لا، ففيه وجهانِ، أحدهما: أنَّ (هُوَ) مبتدأٌ، و (اللَّهُ أَحَدٌ) مبتدأ وخبرٌ، وهما خبرٌ للمبتدأ الأولِ، ولا حاجةَ فيه إلى رابطٍ لأنَّ الخبرَ هو المبتدأُ بعينِهِ. والثاني: أنَّ (هُوَ) مبتدا و (اللَّهُ) خبرُه و (أَحَدٌ) بدل منه. و (أَحَدٌ) : اسمٌ مِنْ أسماءِ اللَّه يُسمَّى اللَّهُ به، ولا يُسمَّى غيرُه من الأعيانِ فلا يسمَّى شيءٌ من الأشياءِ أحدًا في الإثباتِ إلا في الأعدادِ المطلقةِ. وإنما يُسمَّى به في النفْي وما أشبهَهُ من الاستفهامِ والنهيِّ، والشرطِ كقوله: (وَلَمْ يَكُن لَّه كفُوًا أَحَدٌ) ، وقولِهِ: (هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ) .

وقولِهِ: (فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا) ، وقوِلهِ: (وَإِنْ أَحَدٌ منَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ) ونحوه. والأحدُ: هو الواحدُ في إلاهيته ورُبُوبيته، وفسَّرهُ أهلُ الكلامِ، بما لا يتجزأُ ولا ينقَسِمُ، فإنْ أُريدَ بذلكَ أنًّه ليسَ مؤلفًا مركَّبًا منْ أجزاءٍ متفرقة فصحيحٌ، أو أنَّه غيرُ قابلٍ للقسمةِ فصحيحٌ، وإنْ أُريدَ أنَّه لا يتميَزُ منه شيءٌ عن شيءٍ، وهو المرادُ بالمجسمِ عندهم فباطلٌ. قال ابنُ عقيلٍ: الذي يَصِحُّ من قولِنا معَ إثباتِ الصفاتِ أنه واحد في إلاهيتِهِ لا غيرُ. والأحدُ هو الواحدُ. قالَ ابنُ الجوزيّ: قالَهُ ابنُ عباسٍ وأبو عبيدةَ، وفرَّقَ قومٌ بينهما. قال الخطابيُّ: الفرق بين الأحدِ والواحدِ: أنَّ "الواحد": هو المتفرد بذاته فلا يضاهيه أحد. و"الأحدُ": المنفردُ بصفاتِهِ ونعوتِهِ فلا يشاركُهُ فيها أحد. وقيلَ: بينهما فرق آخرُ، وهو أن الأحدَ في النفي نصٌ في العمومِ. بخلافِ الواحدِ فإنه محتملٌ للعمومِ وغيره، فتقولُ: ما في الدارِ أحدٌ، ولا يقالُ: بل اثنانِ، ويجوزُ أنْ يقالَ: ما في الدارِ واحدٌ، بل اثنانِ. وفرَّقَ بعضُ فقهاءِ الحنفيةِ بينهُما وقالَ: الأحديَةُ لا تحتملُ الجزئيةَ والعدديةَ بحالٍ. والواحدُ يحتملُها لأنَّه يقالُ: مائةٌ واحدةٌ وألفٌ واحدة، ولا يُقالُ: مائةٌ أحدٌ ولا ألفٌ أحدٌ.

وبُنيَ على ذلك مسألةُ محمدِ بنِ الحسنِ التي ذكرَهَا في "الجامع الكبيرِ": إذا كان لِرجلٍ أربعُ نسو فقالَ: واللَّهِ لا أقربُ واحدةً منْكُنَّ صارَ مُوليًا منهنَّ جميعًا، ولم يَجُزْ أن يقربَ واحدةً منهن إلا بكفارة، ولوْ قالَ: واللَّهِ لا أقربُ إحداكُن لم يصِر مُوليًا إلا منْ إحداهُنَّ والبيانُ إليهِ. وقال العسكريُّ: أصلُ أحدٍ أوحَدُ مثلُ أكبرِ، وإحْدى مثل كُبْرى، فلمَّا وقَعَا اسمينِ وكانا كثيرَي الاستعمالِ هرَبُوا إلى الكسرةِ ليخفَّ، وحذفُوا الواوَ ليفرقُوا بين الاسم والصفةِ، وذلك أنَّ أوحدَ اسمٌ وأكبر منه. والواحدُ فاعلٌ منْ وحَدَ يَحِدُ وهو واحدٌ مثل: وَعَدَ يَعِدُ فهو واعدٌ. سؤالٌ: قوله: (اللَّهُ أَحَدٌ) ولم يقل الأحد كما قال: (الصَّمَدُ) ؟ جوابه: أنَّ الصمدَ يُسمَّى به غيرُ اللَّهِ كما يأتِي ذكرُهُ، فأتى فيه بالألفِ واللامِ ليدلَّ على أنَّه - سبحانه - هو المستحقُ لكمالِ الصَّمَديّةِ، فإنَّ الألفَ واللام تأتي لاستغراقِ الجنسِ تارةَّ، ولاستغراقِ خصائصَ أخرى، كقولِهِ: زيدٌ هو الرجلُ أي: الكاملُ في صفاتِ الرجولةِ فكذلكَ قولُهُ: (اللَّهُ الصَّمَدُ) أى: الكاملُ في صفاتِ الصمديَّةِ. وأما الأحدُ فلم يَتَّسِمْ به غيرُ اللَّهِ فلمْ يحتجْ فيه إلى الألفِ واللامِ. قولُهُ: (اللَّهُ الصَّمَدُ) أعادَ الاسمَ المبتدأ تأكيدًا للجملةِ وخبرُة الصمدُ. وقيلَ: هو نعتٌ والخبرُ ما بعدَهُ. والصمدُ: اختلفتْ عِباراتُ السَّلفِ في معناه، وهي متقاربة أو متفقةٌ والمشهور منها قولان: أحدُهما: أنَّ الصمدَ هو السَّيدُ الذي تصْمُدُ إليه الخلقُ في حوائجِهِم

ومطالبِهِم وهو مرويٌ عَنْ ابنِ عباسٍ وغيرِه من السلفِ. قالَ ابنُ الأنباريِّ: لا خلافَ بينَ أهلِ اللغةِ أنَّ الصمدَ: السيدُ الذي ليس فوقَه أحد، الذي يصمُدُ إليه الناسُ في حوائجِهِم وأمورِهِم. وقالَ الزَّجَّاجُ: هو الذي ينتهِي إليه السُّؤددُ، فقدْ صَمَدَ له كلُّ شيءٍ. أي: قصدَ قصْدَهُ. وأنشدُوا: لقدْ بكَّرَ النَّاعي بِخَيْرِ بني أسَدْ. . . بعمرِو بنِ مَسْعودٍ وبالسَّيدِ الصَّمَدْ وأنشدوا أيضًا: عَلَوْتُهُ بُحسامٍ ثُمَّ قُلْتُ لَهُ. . . خُذْها حُذَيْفُ فأنتَ السيًدُ الصَمَدُ وفي "تفسيرِ ابنِ أبي حاتمٍ " بإسنادِهِ عن عكرمةَ عنِ ابنِ عباسٍ قال: الصمدُ: الذي تصمدُ إليه الأشياءُ إذا نزَلَ بهم كربةٌ، أو بلاء. وعن إبراهيمَ قال: الذي يَصْمُدُ إليه العبادُ في حوائجِهِم. وعنْ عليِّ بنِ أبي طلحةَ عنْ ابنِ عباسٍ، قالَ: الصمدُ: السيدُ الذي قدْ كَمُل في سؤدَدِهِ، والشَّرِيفُ الذي قدْ كَمُلَ في شرَفِهِ، والعظيمُ الذي قدْ كَمُلَ في عظمتِهِ، والحليمُ الذي قدْ كَمُلَ في حِلْمِهِ، والعليمُ الذي قد كَمُلَ في عِلْمِهِ، والحكيمُ الذي قدْ كَمُلَ في حكمتِهِ، وهو الذي قدْ كَمُلَ في أنواع الشرفِ والسُّؤددِ. وهو اللَّهُ - سبحانه - هذه صفتُهُ لا تنبغِي إلا له، ليس له كفوٌ وليسَ كمثلِهِ شيءٌ، سبحان اللَّهِ الواحدِ القهارِ. والقولُ الثاني: أنَّ الصمدَ الذي لا جوفَ له، وأنَّه الذي لا يأكلُ ولا يشربُ

والذي لا حشوَ له، وأنَّه الذي لا يدْخلُ فيه شيءٌ، ولا يخرجُ منه شيءٌ. ونحوُ هذه العباراتِ المتقاربةِ في المعنى. ورُوي ذلك عنْ ابنِ مسعودٍ، وقدْ سبقَ في حديثِ أبي هريرةَ المذكورِ في أوَّلِ تفسيرِ السورةِ: والصمدُ الذي ليسَ بأجوفَ. وروى ابنُ جريرٍ وابنُ أبي حاتمٍ منْ طريقِ عبيدِ اللَّهِ بنِ سعيدٍ - قائد الأعمشِ -: حدَّثني صالحُ بنُ حيانَ عنْ عبدِ اللَّهِ بنِ بريدةَ عنْ أبيه، قال: لا أعلمُ إلا أنَّه قدْ رفعَهُ: قال: "الصمد: الذي لا جوفَ له ". وعنْ أبي عبدِ الرحمنِ السُّلَمِيِّ عنْ ابنِ مسعودِ قال: الصمدُ ليسَ له حشاء. ورُوي عن ابن عباسِ أيضًا وعكرمةَ: الصمدُ الذي لا يَطْعَمُ. وعنه: الصمدُ: الذي لم يخرجْ منه شيءٌ. وعنِ الشعبيِّ: الصمدُ: الذي لا يأكلُ ولا يشربُ. وعنْ مجاهد: هو المصْمَتُ الذي لا جوفَ له. وقال طائفةٌ: الصمدُ: الذي لم يلدْ ولم يُولدْ، كأنَّهم جَعَلُوا ما بعدَهُ تفسيرًا له، وهو مما تقدَّم أنَّه الذي لم يَنْفَصِلْ منه شيء. ورويَ ذلك عن أبيّ بنِ كعبٍ والربيع بنِ أنسٍ. وتوجيهُ ذلك: الولادةُ والتوليدُ إنما يكونُ من أصلينِ، وما كانَ عينًا قائمًا بنفسه منَ المتولداتِ فلا بدَّ له من مادهِ يخرجُ منها، وما كانَ عرَضًا قائِمًا بغير فلا بذَ له منْ محل يقومُ به، فالأولُ: نفاهُ بقولِهِ: "أحدٌ" فإنَّ الأحدَ هو

الذي لا كفوَ له ولا نظيرَ فيمتنعُ أنْ يكونَ له صاحبة. والتولُّدُ إنَّما يكونُ بين شيئينِ، وكونُه تعالى أحَدًا، ليسَ أحدٌ كفوًا له يستلزمُ أنَّه لم يلدْ ولم يولدْ، لأنَّ الوالدَ والولدَ متماثلانِ متكافئانِ، وهو تعالى أحد لا كفوَ له. وأيضًا فالتولُّد يحتاجُ إلى زوجة وهي مكافئةٌ لزوجِهَا مِنْ وجهٍ، وذلك أيضًا ممتنعٌ. ولهذا قال تعالى: (أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ) . وقد فَسَّر مجاهدٌ "الكفوَ" هَاهُنا بالصَّاحبةِ. وأما الثاني؛ وهو: انفصالُ المادة فنفاهُ - سبحانه - بأنَّه الصمدُ، وهُوَ المتولدُ مِنْ أصلينِ، ربما يتكونُ منْ جزئينِ يَنْفصلانِ منْ الأصلينِ، كتولُّدِ الحيوانِ منْ أبيه وأمِّه بالمنيِّ الذي ينفصلُ منهُما، وكالنَّارِ المتولدةِ منْ بينِ الزِّندينِ سواءٌ كانا خشبينِ أو حجَرَينِ أو حَجَرًا وحديدًا. وهو - سبحانه - صمد لا يخرجُ منهُ شيءٌ منفصل عنه. والحيوانُ نوعانِ: متوالدٌ: وهوَ ما ولَدُهُ منْ جنسِهِ، وهو الإنسانُ وما يُخلقُ منْ أبوينِ منَ البهائم والطيرِ وغيرِهِما. ومتولِّدٌ: وهوَ ما يُخْلَقُ منْ غيرِ جنسِهِ كدودِ الفاكِهَةِ والخلِّ، وكالقَمْلِ المتولدِ من الوَسَخ، والفارِ والبراغيثِ وغيرِ ذلكَ ممَّا يُخلَق منَ التَّرابِ والماء. وإنَّما يتولدُ منْ أصلينِ أيْضًا كما خُلِقَ آدمُ من ترابٍ وماء. وإلا فالترابُ المحضُ الذي لم يَخْتَلِطْ به ما لا يُخلقُّ مَنه شيءٌ لا حيوانَ ولا نباتَ، والنباتُ جميعُه إنَّما يتولدُ منْ أصلينِ أيْضًا.

والمسيحُ - عليه السلامُ - خُلِقَ من مريمَ ونفخة جبريلَ، وهيَ حملتْ به كمَا تحملُ النساءُ وولدتْه، فلِهَذا يقالُ لهُ: ابنُ مريمَ، بخلافِ حواءَ فإنَّها خُلِقَتْ من ضِلْع آدمَ، فلا يُقالُ: إنَّه أبوهَا ولا هيَ ولدُهُ. وكذلك سائرُ المتولداتِ من غيرِهِما. كما أنَّ آدمَ لا يُقالُ: إنَّه ولدُ الترابِ ولا الطينِ، والمتولِّدُ منْ جنسِهِ أكملُ من المتولدِ من غيرِ جنْسِهِ، ولهذا كان خلقُ آدمَ أعجبَ منْ خَلْقِ أولادِهِ. فإذا نُزِّهَ الربُّ عنِ المادةِ العَلَقِ وهيَ التولدُ منْ النظيرِ، فتنزُّهُهُ عن تولدِهِ من غيرِ نظيرٍ أولى، كما أنَّ تنزيهَهُ عنِ الكفوِ تنزيهٌ له عنْ أنْ يكونَ غيرُهُ أفضلَ منه بطريقِ الأولى. فتبيَّنَ أنَّ ما يُقالُ: إنَّه متولدٌ من غيره منَ الأعْيانِ القائمة بنفسِهَا لا يكونُ إلا منْ مادةٍ تخرجُ منْ ذلكَ الوالدِ، ولا تكونُ إلا منْ أصلينِ، والربُّ تعالى صمَدٌ، فيمتنعُ أنْ يخرجَ منه شيءٌ وهو - سبحانه - لمْ يكنْ له صاحبةٌ فيمتنعْ أن يكونَ له ولدٌ. وأمَّا تولدُ الأعْراضِ كتولدِ الشعاع، وتولدِ العِلْم عنِ الفكرةِ والشبع عنِ الأكْلِ، والحرارةِ عن الحركةِ ونحوِ ذلك. فهذا ليسَ من تولدِ الأعْيانِ معَ أنَّ هذا لا بدَّ لهُ منْ محل، ولا بدَّ له من أصلينِ كالشعاع فإنَّه يحتاجُ إلى محاذَاةِ جسم نُوريٍّ لجسمٍ آخرَ يقابلُهُ فينعكِسُ عليه شعاعُهُ. فقد تَضَمَّنتْ هذه السورةُ العظيمةُ نفْيَ نوعينِ عنِ اللَّهِ تعالى: أحدُهُما: المماثلةُ، ودلَّ على نفيهَا قولُهُ تعالى: (وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ)

مع دلالةِ قولِهِ: (قلْ هُوَ اللَّه أَحَدٌ) على ذلكَ، لأنَّ أحَدِيتهُ تقتضِي أنَّه متفردٌ بذاتِه، وصفاتِهِ، فلا يشاركُهُ في ذلكَ أحدٌ. والثاني: نفْيُ النقائصِ والعيوبِ،، وقد نفَى منها التولُّدَ منَ الطرفينِ. وتضَمَّنتْ إثباتَ جميعَ صفاتِ الكمالِ بإثباتِ الأحديّةِ، فالصمديّةُ تُثبتُ الكمالَ المنافيَ للنقائصِ، والأحديّةُ تُثْبِتُ الانفرادَ بذلك. فإنَّ الأحديةَ تَقْتضِي انفرادَهُ بصفاتِهِ وامتيازَهُ عَنْ خَلْقِهِ بذاتِهِ وصفاتِهِ، والصمديةُ إثباتُ جميع صفاتِ الكمالِ ودوامِهَا وقِدَمِهَا، فإنَّ السيدَ الذي يُصْمَدُ إليه لا يكونُ إلا مُتَّصِفًا بجميع صفاتِ الكمالِ الَّتي استحقَّ لأجْلِهَا أنْ يكونَ صَمَدًا، وأنَّه لمْ يزلْ كذلك ولا يزالُ، فإنَّ صمديتَهُ مِنْ لوازمِ ذاتهِ لا تنفكُّ عنهُ بحالٍ. ومنْ هُنا فُسِّر الصمدُ بالسيدِ الذي قَدْ انتهى سؤُددُه، وفَسَّرَهُ عكرمةُ: بالذي لَيْسَ فوقَهُ أحدٌ. ورُويَ عَنْ عليٍّ وعنْ كَعْبٍ أَنَّه: الَّذي لا يكافِئُه أحدٌ في خَلْقِهِ. وعنْ أبي هريرةَ قالَ: هو المُسْتَغِني عَنْ كُلِّ أَحَدٍ، المحتاجُ إليه كُلُّ أحدٍ. وعنْ سعيدِ بن جبيرٍ قالَ: هو الكاملُ في جميع صفاتِهِ وأفعالِهِ. وعَنِ الربيع قالَ: هوَ الذي لا تعْتريهِ الآفاتُ. وعنْ مقاتلِ بنِ حيانَ قالَ: هوَ الذي لا عَيْبَ فِيهِ. وعنْ ابنِ كيسانَ: هوَ الذي لا يُوصفُ بصفَتِهِ أحدٌ. وعنْ قتادةَ: الصمدُ: البَاقِي بَعْدَ خَلقِه، وعَنْ مجاهدٍ ومَعْمَرٍ: هُوَ الدائمُ. وعَنْ مُرَّةَ الهمدانيِّ: هوَ الَّذي لا يَبْلى ولا يَفْنى.

وعنه أيضًا: هو الذي يحكمُ ما يريدُ، ويفعلُ ما يشاءُ؛ لا مُعَقِّبَ لحكمِهِ ولا رادَّ لقضائِهِ. فقد تَضَمَّنَتْ هذه السورةُْ العظيمةُ إثباتَ صفاتِ الكمالِ، ونفيَ النقائصِ والعيوب مِنْ خصائصِ المخلوقينَ مِنْ التولدِ والمماثلةِ. وإذا كانَ منزَّهًا عنْ أنْ يخرجَ منهُ مادةُ الولدِ الَّتي هي أشرفُ الموادِ فَلأنْ نُزِّهَ عَنْ خروج مادةِ غَيرِ الولدِ أوْلَى. وكذلكَ تنزيهُهُ نفسَهُ عَنْ أنْ يُولَدَ فلا يكونُ مِنْ مثلِهِ تنزيهٌ لهُ عنْ أنْ يكونَ مِنْ سائرِ الموادِ بطريقِ الأوْلَى. فمنْ أثبتَ للَّهِ ولدًا فقدْ شَتَمهُ وقدْ ثبتَ في "صحيح البخاريّ " عنْ أبي هريرةَ عنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "يقولُ اللَهُ - عزَّ وجلَ - كذبني ابنُ آدمَ ولم يكنْ له ذلكَ، وشَتَمني ولم يكنْ لهُ ذلكَ، فأمَّا تكذيبُهُ إيايَ فقولُه: لن يُعيدَني كما بدأني وليسَ أولُ الخلق بأهَونَ علي من إعادته، وأمَّا شَتمُهُ إيايَ فقوله: اتَخذ الله ولدًا، وأنا الأحدُ الصمدُ. لم أَلِدْ ولم أُولَدْ ولم يكن لي كُفوًا أحد". وفي "صحيح البخاري " أيضًا عن ابنِ عبَّاسٍ عَنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "قالَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ: كذبني ابنُ آدمَ وَلَم يكنْ له ذلكَ، وشتمني ولم يكنْ لَه ذلك، فأمَّا تكذيبُهُ إيايَ فزعَم أتي لا أقدِرُ أن أعيدَهُ كما كان، وأمَّا شتمهُ إيايَ فقوله: لي ولد، فسُبحاني أن أتَّخذَ صاحبة أو وَلدًا!. وقد ردَّ اللَّهُ علَى منْ زعمَ أنَّه لا يعيدُ الخلقَ، وعلَى منْ زعمَ أنَّ لهُ ولدًا

كما تَضَمَّنهُ هذا الحديثُ في قولهِ: (وَيَقُولُ الإِنسَانُ أَئِذَا مَا مِتُّ لَسَوفَ أُخْرَجُ حَيًّا) ، إلى قوله: (لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا (89) . وفي "صحيح البخاريَ " أيضًا عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "لا أحَدَ أصبرُ على أذىً سمعهُ مِنَ اللَّه، إنَهُم يجعلونَ لهُ ولَدًا وهو يرزقُهُم ويُعافِيهم ". فهذه السورةُ الكريمةُ تَضَمَّنتْ نَفْيَ مَا هوَ من خصائصِ آلهةِ المشركين عنْ رب العالمينَ؛ حيثُ جاءَ في سببِ النزول أنَّهُم سالُوا النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - عنْ ربِّه منْ أيّ شيءٍ هوَ؟ أمِنْ كذا، أم من كَذَا؟ أو ممَن وَرِثَ الدنيا؛ ولمن يُوَرَثُها؛ حيثُ كانوا قد اعتادُوا آلهةً يلدونَ، ويولدونَ، ويرِثُون ويُوَرّثونَ، وآلهةً من مواد مصنوعةٍ منها، فأنزل اللَهُ هذه السورةَ. وفي "المسندِ" من حديثِ أبيِّ بنِ كعبٍ بعدَ ذكرِ نزولهِا: لأنَّه ليسَ أحدٌ يولدُ لا يموتُ ولا أحدٌ يرِثُ إلا يُورَث، يقولُ: كل مَنْ عُبِدَ منْ دونِ اللَّهِ وقدْ وُلد مثلُ المسيح والعزيرِ وغيرِهما من الصالحينَ، ومثلُ الفراعنةِ المدعين الإلهية، فهذا مولودٌ يموت وهو وإنْ كانَ قد ورثَ من غيرِه ما هو فيه فإذا ماتَ وَرِثَهُ غيرُه واللَّه سبحانه حيٌّ لا يموتُ ولا يُورَثُ سبحانه وتعالى، واللَّهُ أعلمُ. سؤالٌ: نفى سبحانهُ الولادةَ قبلَ نفي التولدِ، والتولد أسبقُ وقوعًا من الولادِ في حقِّ مَنْ هو متولدٌ؟ وجوابه: أنَّ الولادةَ لم يَدَّعها أحد في حقِّه سبحانه وإنَّما ادّعَوا أنَّه وَلَدَ. فلذلكَ قَدَّم نفيَه لأنَّه المهمُّ المحتاجُ إلى نَفْيِهِ.

سؤالٌ آخرُ: كيفَ نَفَى أنْ يكونَ مولودًا ولم يعتقدْه أحَد؟ جوابُهُ: مِنْ وجهينِ، أحدُهُما: أَنَّهم سألوا عَمن وَرِثَ الدنيا ولِمنَ يورِّثُها. وهذا يُشعرُ بأن منهُم منْ اعتقدَ ذلكَ. والثاني: أنه نفى عَنْ نفسِهِ سبحانه خصائصَ آلهةِ المشركينَ فإنَّ منْهمُ مَنْ عبدَ المسيحَ، ومنْهُم منْ عبَدَ العزيرَ وهُمَا مولودانِ، ومنْهُم مَنْ عبدَ الملائكةَ والعجلَ وهيَ متولدات، وقد تقدَّم أن نفيَ الولادةِ تدلُّ علَى نفي المتولدِ بطريقِ الأَوْلى. فائدةٌ: قالَ ابنُ عطيةَ: (كفُوًا) خبرُ كانَ، واسمُهَا (أَحَدٌ) ، والظرفُ مَلغي، وسيبويه يستحسن أنْ يكونَ الظرفُ إذا تقدَّم خبرًا. ولكنْ قَدْ يجيءُ مُلْغى فى أماكنَ يقتَضِيَها المعنى كهذِهِ الآيةِ، وكقولِ الشاعرِ أنشدَهُ سيبويه: ما دامَ فيهنَّ فَصِيلٌ حيًّا ويُحتملُ أن يكونَ: (كفوًا) حالاً لما قُدِّمَ مِنْ كونِهِ وصفًا للنكرةِ كَمَا قالَ كثير لعزَّةَ: لميةَ موحِشًا طَلَلُ قالَ سيبويه: وهذا نَقْل في الكلامِ وبابُهُ الشِّعرُ. فهذه السورةُ تتضمنُ انفرادَهُ ووحدانيتَهُ، وائه منقطعُ النظيرِ، وأنَّهُ إنما نُزِّهَ عن أنْ يكونَ من أجناسِ المخلوقاتِ، لأنَّ أفرادَ كُل جنسٍ مِنْ هذهِ الأجناسِ متكافئة مماثلة، فالذهبُ يكافئُ الذهبَ، والإنسانُ يكافئُ الإنسانَ ويزاوجُهُ. ولهذا قالَ تعالَى: (وَمِن كُلِّ شَيْء خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ) ، فمَا مِنْ مخلوقٍ

إلا وله كفؤ، هو زوجُهُ، ونظيرُهُ، وعدلُهُ، ومثيلُهُ، فلوْ كانَ الحقُّ مِنْ جنسِ شيءٍ منْ هذهِ الأجناسِ لكانَ له كفوٌ وعدلٌ، وقدْ عُلِمَ انتفاؤُهُ بالشرع والعقلِ. فهذه السورةُ هِيَ نسبُ الرحمنِ وصفتُه، وهيَ التي أنزلَهَا اللَهُ في نفي مَا أضافَ إليه المبطلونَ من تمثيل، وتجسيم، وإثباتِ أصل وفرع، فدخَلَ فيها ما يقولُه مَنْ يقولُ من المشركينَ، والصابئةِ، وأهلِ الكتابِ، ومن دخلَ فيهم من منافِقِي هذهِ الأمةِ من تولدِ الملائكةِ أوِ العقولِ، أوِ النفوسِ، أوِ بعضِ الأنبياءِ، أو غيرِ الأنبياءِ. ودخلَ فيها ما يقولُه مَنْ يقولُ من المشركينَ وأهلِ الكتابِ من تولدِهِ عن غيرِه كالذينَ قالُوا في المسيح: إنَّه اللَهُ، والذينَ يقولونَ في الدجالِ: إنَهُ اللَّهُ، والذين يقولون ذلك في عليٍّ وغيرِه. ودخلَ ما يقولُه من يقولُ من المشركينَ وأهلِ الكتابِ من إثباتِ كفوٍ له في شيءٍ من الأشياءِ، مثل من يجعلُ له بتشبيهِهِ، أو بِتَجْسيمِهِ، كفوًا له أو يجعلُ لَهُ بعبادةِ غيرِه كُفؤا، أو يجعلُ لَهُ بإضافةِ بعضِ خلقِهِ إلى غيرِه كُفوًا فلا كفوَ لهُ في شيءٍ من صفاتِهِ، ولا في ربوبيتِهِ ولا في إلاهيته. فتضمنتْ هذه السورةُ تنزيهُهُ، وتقديسُهُ، عَنِ الأصولِ والفروع، والنظراءِ. والأمثالِ. وليسَ في المخلوقاتِ شيءٌ ألا ولا بدَّ أنْ يُنسبَ إلى بعضِ هذه الأعيانِ والمعانِي، فالحيوانُ من الآدمي وغيرِه لا بدَّ أنْ يكونَ له إما والد، وإمًّا مولودٌ، وإمَّا نظيرٌ هو كفؤُه، وكذلك الجنُّ، والملائكةُ، كما قالَ تعالى:

(وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكرُونَ) . قالَ بعضُ السلفِ: (لَعَلَّكُمْ تَذَكرُونَ) فتعلمونَ أنَّ خالقَ الأزواج واحدٌ. قالَ تعالَى: (وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ) ، قالَ مجاهد: كلّ شيءٍ خلَقهُ اللَّهُ فهو شفع قالَ تعالَى: (وَمِن كُلِّ شَيْء خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكرُونَ) . الكفرُ والإيمانُ، والهدى والضلالة، والشقاوةُ والسعادةُ، والليلُ والنهارُ. والسماءُ والأرْضُ، والبر والبحر، والشمسُ والقمرُ، والجنّ والإنسُ، والوترُ اللَّهُ تباركَ وتعالَى. وهو الذي ذكرهُ البخاريُّ في "صحيحِهِ " فإته يعتمدُ قولَ مجاهدٍ لأنَّه أصَح التفسيرِ، قالَ الثوريُّ: إذا جاءَكَ التفسيرُ عَنْ مُجاهدٍ فحسبُكَ به، واختارَهُ الشيخُ مجدُ الدينِ ابنِ تيميةَ. وحقيقةُ الكفؤ: هُوَ المُسَاوِي والمُقَاومُ، فلا كفوَ لَهُ تعالَى في ذاتِهِ، ولا في صِفَاتِهِ، ولا في أسمائِهِ، ولا في أفعالِهِ، ولا في ربوبيتِه، ولا فِي إلاهيتهِ. ولهذا كانَ الإيمانُ بالقدرِ نظامَ التوحيدِ، كَمَا قالَ ابنُ عبًّاسٍ، لأنَّ القدريةَ جعلُوا له كُفُوًا في الخلقِ. وأمَّا توحيدُ الإلَهيةِ فالشركُ فيهِ تارة يوجبُ الكفرَ والخروجَ مِنَ الملةِ. والخلودَ في النارِ، ومنهُ مَا هُو أصغرُ كالحلفِ بغيرِ اللَّهِ والنذرِ لهُ، وخشيةِ غيرِ اللَّهِ ورجائِهِ والتوكلِ عليهِ والذلِّ لَهُ وقولِ القائلِ: ما شاءَ اللَّهُ وشئْتَ. ومنهُ ابتغاءُ الرزق مِنْ عندِ غيرِ اللَّه، وحَمْدُ غيره علَى ما أعْطَى، والغنيةُ بذلكَ عَنْ حمدِهِ، ومنهُ العملُ لغيرِ اللَهِ وهو الرياءُ، وهوَ أقسام. ولهذا حرَّم التَّشَبهَ بأفْعَالِهِ بالتصويرِ، وحرَّم التسمي بأسمَائِهِ المختصةِ به

كاللَّهِ والرحمنِ والرَّبِّ. وإنما يجوزُ التسميةُ بِهِ مُضَافًا إلى غَيرِ مَنْ يعقلُ، وكذلك الجبَّارُ والمتكبرُ والقهارُ ونحوُ ذلكَ كالخلاقِ والرزَّاقِ والدائم، ومنه ملكُ الملوكِ، وقدْ جَعلَ ابنُ عقيلٍ التسميةَ بهذا مكروهَةً. قال ابنُ عقيلِ: كُل ما انفردَ بِهِ اللَهُ - عز وجل -: "اللَّه " و"رحمنِ " و"خالقٍ " لا يجوزُ التَّسمي بِهِ، وكلَّما وُجِدَ معنَاهُ في الآدَمِي فإنْ كانَ يوجدُ تكبرًا، كالملكِ العظيم والأعظم، وملكِ الملوكِ والجبارِ فمكروهٌ، والصوابُ الجزمُ بتحريمِهِ. فأمَّا مَا يتسمَّى بِهِ المخلوقونَ مِنْ أسمائِهِ كالسميع والبصيرِ والقديرِ والعليم والرحيم، فإن الإضافةَ قاطعةُ الشركةَ، وكذلكَ الوصفيةُ، فقولنا: زيدٌ سميع بصيرٌ لا يُفيدُ إلا صفةَ المخلوقِ وقولُنا: اللَّهُ سميع بصير يفيدُ صفتَهُ اللائقةَ بِهِ، فانقطعتْ المشابهة بوجْهٍ من الوجوهِ، ولهذا قالَ تعالى: (هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سمِيًّا) . وفيه قولان: أحدُهُما: نَفْيُ التسميةِ. والثاني: نَفْىُ المساواةِ وقدْ نَفَى سبحانه عن نفسهِ المثلية بقولِهِ: (لَيسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) ، ونفى عنه العدلَ والتسويةَ بقولِهِ: (ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ) ، وقولِهِ: (قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ (96) تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (97) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (98) . ونَفَى عنه النِّدَ بقولِهِ: (فَلا تَجْعَلُوا لِلًهِ أَندَادًا وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ) . وقولِهِ: (أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا) .

وفي الحديثِ: أيُّ الذّنبِ أعظمُ؟ قالَ: "أن تَجعل للهِ ندًّا وَهُوَ خلقكَ ". وقالَ للذي قالَ لهُ: ما شاءَ اللَّه وشئتَ: "أجعلتني للَّه ندًّا؟ ". وفي رواية: "أَجعلتني للَّه عدلاً". وقالَ كعب: السماواتُ السبعُ، والأرضونَ السبعُ، أُسسَت عَلَى هذه السورةِ (قُلْ هُوَ اللَّه أَحَدٌ) . ومعنى هذا - واللَّهُ أعلمُ - أن السماواتِ، والأرضَ، إنما خلقتْ بالحقِ. والعدلِ، والتوحيدِ؛ كمَا قالَ: (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (38) مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ) . ومِنْ شعرِ أميةَ بنِ أبي الصلتِ: وسبحانَ ربيِّ خالقِ النورِ لم يَلد. . . ولم يكُ مُولُودًا بذلكَ أشهَد وسبحانَهُ مِنْ كُلِّ إفكٍ وباطلٍ. . . وكيفَ يلدْ ذو العرشِ أمْ كيفَ يُولَد هو اللَّهُ بارِئُ الخلقِ والخلقُ كُلُّهم. . . إِمَاءٌ لَهُ طَوْعًا جميعًا وأَعْبَد هو الصمدُ اللَهُ الذي لَمْ يكنْ لَهُ. . . مِنَ الخلقِ كفوٌ قَدْ يُضَاهِيه مخلد وأنَّى يكونُ الخلقُ كالخالقِ الَّذي. . . يدومُ ويَبْقَى والخليقة تَنْفَد وليسَ بمخلوق على الدَّهْرِ جده. . . ومَنْ ذا عَلَى مَرِّ الحوادثِ يَخْلُد وَتفْنَى ولا يبْقَى سِوى القاهرِ الَّذي. . . يُميتُ ويُحيي دائِبًا ليس يَمْهَد. * * * آخرُه والحمدُ للَّهِ ربِّ العالمينَ.

§1/1