تفسير ابن جزي = التسهيل لعلوم التنزيل

ابن جزي الكلبي

الجزء الأول

الجزء الأول [مقدمة التحقيق] مقدمة المحقق بسم الله الرّحمن الرّحيم الحمد لله وكفى وسلام على عباده الذين اصطفى. وبعد: فقد صحبت كتاب «التسهيل في علوم التنزيل» للعلامة الأندلسي المرحوم محمد بن أحمد بن جزي الكلبي المتوفي عام 741 هـ- منذ أكثر من ثلاثين سنة وأعجبت به لقوة عبارته وسهولة بيانه، وغزارة فوائده، ولكن الطبعة الأولى لهذا الكتاب قد مضى عليها أكثر من خمسين سنة وهي مملوءة بالأخطاء، وخاصة وأن المؤلف يعتمد على قراءة الإمام نافع المدني رحمه الله، ورواية ورش وهي القراءة المعتمدة في شمال أفريقيا عموما، وكأني بمن صححوا الكتاب في طبعته الأولى لم يلاحظوا الفروق بين قراءة ورش وبين قراءة عاصم المعتمدة في معظم بلاد المسلمين، في آسيا ومصر والحجاز والشام والعراق وسائر بلاد المشرق، يضاف إلى ذلك أن مستوى الطباعة والإخراج قد تطور كثيرا خلال السنوات الماضية، وقد عمدت بعض دور النشر إلى تصوير الطبعة الأولى بدون أي تصحيح أو تحقيق وتوزيعها في السوق، فكنت أتمنى لو تقيض لهذا الكتاب الجليل دار كريمة تتولى تنقيحه وتصويب الأخطاء الشائعة، خدمة لكتاب الله من جهة وتقديرا لهذا التفسير الجليل الذي أستطيع الجزم بأنه يفيد العالم والمثقف وطالب المعرفة، فهو قد اطلع ولخص المؤلفات الضخمة في التفسير كالتفسير الإمام «جامع البيان» للإمام الطبري الذي هو أعظم التفاسير على الإطلاق، وكل من كتب في هذا الموضوع فلا بدّ له من مطالعة الطبري، واستفاد من الكشاف للزمخشري وهناك تفسير ابن عطية وغيره ثم إنه قدّم له بمقدمة ضافية عن علوم القرآن. كل ذلك باختصار غير مخل. وشاء الله أن ألتقي بالأخ الحاج أحمد أكرم الطباع صاحب دار القلم العامرة وصارحته بأمنيتي الغالية، فلبّى ووافق على القيام بكل ما يلزم لإخراج هذا السفر النفيس، بأحسن صورة ممكنة، وعهد إلى هذا الفقير بتخريج الأحاديث الواردة خلال التفسير، وإصلاح ما بدا لي من أخطاء، فقمت بهذه المهمة وأنا في غاية السرور لهذا التوفيق الذي جاء على قدر وقد أعانني الله فأنجزت هذه المهمة ووضعت تراجم مختصرة لأهم الأعلام الواردة أسماؤهم ضمن جدول ألفبائي في آخر الكتاب، كما اقتبست من كتاب أستاذي الشيخ سعيد الأفغاني شيئا مما كتبه في مقدم كتاب حجة القراءات للإمام أبي زرعة عبد الرحمن بن محمد بن زنجله من رجال القرن الرابع الهجري وأوائل الخامس، وفيها بيان موجز لأئمة

القراء: رواتهم وتواريخ حياتهم بما يفيد القارئ العادي المثقف الذي يحتاج إلى معرفة هؤلاء الأعلام. وفي الختام لا أرى أني قد وفيت الكتاب حقه كما يجب، ولكني بذلت جهدي حسب الوقت المتاح لي، والكمال لله وحده، رحم الله المؤلف وأجزل مثوبته وجعل مقامه في عليين. آمين. وآخر دعوانا أن الحمد الله رب العالمين. بيروت في 1/ رجب/ 1416 هـ الموافق 24/ 11/ 1995 م. خادم أهل العلم عبد الله الخالدي

شرح حال المؤلف ابن جزي

شرح حال المؤلف ابن جزي رحمه الله هو محمد بن أحمد بن عبد الله بن يحيى بن عبد الرحمن بن يوسف بن جزي الكلبي الأندلسي. وردت ترجمته في الإحاطة للسان الدين بن الخطيب. كما ذكره صاحب نفح الطيب في ج/ 3/ 272 وقال عنه: فقد وهو يحرض الناس يوم معركة طريف 741 رحمه الله تعالى. نزل أجداده وقائدهم أبو الخطار الكلبي وهو الحسام بن ضرار في «بوله» أحد حصون الأندلس في «شنت مرية» مددا لأقاربهم من اليمنية حوالي عام 125/ هـ. وكان أحد أجداده قاضيا في جيّان ويدعى يحيى. وقد عكف الإمام محمد المذكور على طلب العلم واكتساب القوت الحلال، وكان عالما حافظا لكتاب الله، وله مشاركة قوية في علوم العربية والفقه، والأصول والقراءات والحديث والأدب والشعر، وقد كان واسع الإطلاع على التفاسير مستوعبا للأقوال جامعا للكتب، وكان في تدريسه ممتع المحاضرة، صحيح الإعتقاد، وخطب منذ نشأته بالجامع الأعظم في بلده، ثم استمر شأوه في ارتفاع، ماضيا على سنن الأصالة والنبالة، وأورث ذلك لابنه عبد الله كاتب رحلة ابن بطوطة. مشايخه وتلاميذه. قرأ ابن جزي على أبي جعفر بن الزبير وهو أجل أساتذته، وأخذ عنه العربية والفقه والحديث والقرآن. كما روى عن ابن عصفور، وروى أيضا القرآن عن القارئ المكثر أبي عبد الله بن الكمّاد وغيرهم كثير. تلاميذه: وأخذ عنه أبناؤه محمد وأبو بكر أحمد وعبد الله، ولسان الدين بن الخطيب وابراهيم الخزرجي، وكان أشهر أولاده أبو عبد الله محمد الذي أخذ عن أبيه، وصار فيما بعد كاتبا مجيدا، وذا رأي فقيها، عالما، بصيرا بالحديث والأصول. مؤلفاته: ترك كثيرا من الآثار في مختلف فنون العلوم كالفقه والحديث والتصوف والقراءات، وكان ينظم الشعر أيضا في التصوف.

ومن أهم كتبه: 1- وسيلة المسلم في تهذيب صحيح مسلم. 2- الأنوار السنية في الكلمات السنية. 3- كتاب الدعوات والأذكار المخرجة من صحيح الأخبار. 4- كتاب القوانين الفقهية المطبوع في بيروت، وهو من الكتب المعتبرة في الفقه، لأنه لخص آراء المذاهب الأربعة مع المقارنة فيما بينها. وقد حققه الأستاذ الجليل عبد العزيز سيد الأهل ومنه استفدنا هذه النبذة في ترجمة المؤلف. 5- وأخيرا كتاب التسهيل لعلوم التنزيل. وهو هذا الكتاب الذي بين أيدينا. وهو ربما كان أفضل آثاره. وقد ذكرت عنه في مقدمة التحقيق ما فيه الكفاية. رحم الله المؤلف، ما أروع بيانه وأوجز كلامه وأغزر فوائده.

بسم الله الرّحمن الرّحيم قال الشيخ الفقيه الإمام العالم العلم العلامة، فريد دهره، ووحيد عصره، أبو عبد الله محمد المدعو بالقاسم بن أحمد بن محمد بن جزيّ الكلبي، رضي الله عنه وأرضاه وجعل الجنة مأواه، بحرمة النبي الأوّاه: الحمد لله العزيز الوهاب، مالك الملوك ورب الأرباب، هو الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ [الكهف: 1] ، هُدىً وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ [المؤمن: 54] ، وأودعه من العلوم النافعة، والبراهين القاطعة: غاية الحكمة وفصل الخطاب وخصصه من الخصائص العلية، واللطائف الخفية، والدلائل الجلية، والأسرار الربانية، العجب بكل عجب عجاب وجعله في الطبقة العليا من البيان، حتى أعجز الإنسان والجان، واعترف علماء أرباب اللسان بما تضمنه من الفصاحة والبراعة والبلاغة والإعراب والإغراب ويسر حفظه في الصدور، وضمن حفظه من التبديل والتغيير، فلم يتغير ولا يتغير على طول الدهور وتوالي الأحقاب وجعله قولا فصلا، وحكما عدلا، وآية بادية، ومعجزة باقية: يشاهدها من شهد الوحي ومن غاب وتقوم بها الحجة للمؤمن الأوّاب، والحجة على الكافر المرتاب وهدى الخلق بما شرع فيه من الأحكام، وبيّن الحلال والحرام، وعلّم من شعائر الإسلام، وصرّف من النواهي والأوامر والمواعظ والزواجر، والبشارة بالثواب، والنذارة بالعقاب، وجعل أهل القرآن أهل الله وخاصته، واصطفاهم من عباده، وأورثهم الجنة وحسن المآب. فسبحان مولانا الكريم الذي خصنا بكتابه، وشرفنا بخطابه، فيا له من نعمة سابغة، وحجة بالغة، أوزعنا الله الكريم القيام بواجب شكرها، وتوفية حقها، ومعرفة قدرها، وَما تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ [هود: 88] ، هُوَ رَبِّي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ، عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتابِ [الرعد: 30] . وصلاة الله وسلامه، وتحياته وبركاته وإكرامه، على من دلنا على الله، وبلغنا رسالة الله، وجاءنا بالقرآن العظيم، وبالآيات والذكر الحكيم، وجاهد في الله حق الجهاد، وبذل جهده في الحرص على نجاة العباد، وعلم ونصح وبيّن وأوضح حتى قامت الحجة، ولاحت المحجة، وتبين الرشد من الغيّ، وظهر طريق الحق والصواب، وانقشعت ظلمات الشك والارتياب. ذلك: سيدنا ومولانا محمد النبي الأمي، القرشي الهاشمي، المختار من لباب اللباب، والمصطفى من أطهر الأنساب، وأشرف الأحساب، الذي أيده الله بالمعجزات الظاهرة والجنود القاهرة، والسيوف الباترة الغضاب، وجمع له بين شرف الدنيا والآخرة، وجعله قائدا للغرّ المحجلين والوجوه الناضرة، فهو أوّل من يشفع يوم الحساب، وأوّل من يدخل الجنة ويقرع الباب، فصلى الله عليه وعلى آله الطيبين، وأصحابه الأكرمين، خير أهل

وأصحاب، صلاة زاكية نامية، لا يحصر مقدارها العدّ والحساب، ولا يبلغ إلى أدنى وصفها ألسنة البلغاء ولا أقلام الكتاب. أما بعد فإنّ علم القرآن العظيم: هو أرفع العلوم قدرا، وأجلها خطرا، وأعظمها أجرا، وأشرفها. ذكرا وإن الله أنعم عليّ بأن شغلني بخدمة القرآن، وتعلّمه وتعليمه، وشغفني بتفهم معانيه وتحصيل علومه، فاطلعت على ما صنف العلماء رضي الله عنهم في تفسير القرآن من التصانيف المختلفة الأوصاف، المتباينة الأصناف، فمنهم من آثر الاختصار، ومنهم من طوّل حتى كثّر الأسفار، ومنهم من تكلم في بعض فنون العلم دون بعض ومنهم من اعتمد على نقل أقوال الناس، ومنهم من عوّل على النظر والتحقيق والتدقيق، وكل أحد سلك طريقا نحاه، وذهب مذهبا ارتضاه، وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى [النساء: 95] ، فرغبت في سلوك طريقهم، والانخراط في مساق فريقهم، وصنفت هذا الكتاب في تفسير القرآن العظيم، وسائر ما يتعلق به من العلوم، وسلكت مسلكا نافعا، إذ جعلته وجيزا جامعا، قصدت به أربع مقاصد: تتضمن أربع فوائد: الفائدة الأولى: جمع كثير من العلم، في كتاب صغير الحجم تسهيلا على الطالبين، وتقريبا على الراغبين فلقد احتوى هذا الكتاب على ما تضمنته الدواوين الطويلة من العلم، ولكن بعد تلخيصها وتمحيصها، وتنقيح فصولها، وحذف حشوها وفضولها ولقد أودعته من كل فنّ من فنون علم القرآن: اللباب المرغوب فيه، دون القشر المرغوب عنه، من غير إفراط ولا تفريط. ثم إني عزمت على إيجاز العبارة، وإفراط الاختصار، وترك التطويل والتكرار. الفائدة الثانية: ذكر نكت عجيبة، وفوائد غريبة، قلما توجد في كتاب لأنها من بنات صدري، وينابيع ذكرى. ومما أخذته عن شيوخي رضي الله عنهم، أو مما التقطته من مستظرفات النوادر، الواقعة في غرائب الدفاتر. الفائدة الثالثة: إيضاح المشكلات، إما بحل العقد المقفلات، وإما بحسن العبارة ورفع الاحتمالات، وبيان المجملات. الفائدة الرابعة: تحقيق أقوال المفسرين، السقيم منها والصحيح، وتمييز الراجح من المرجوح. وذلك أن أقوال الناس على مراتب: فمنها الصحيح الذي يعوّل عليه، ومنها الباطل الذي لا يلتفت إليه، ومنها ما يحتمل الصحة والفساد. ثم إنّ هذا الاحتمال قد يكون متساويا أو متفاوتا، والتفاوت قد يكون قليلا أو كثيرا، وإني جعلت لهذه الأقسام عبارات مختلفة، تعرف بها كل مرتبة وكل قول فأدناها ما أصرح بأنه خطأ أو باطل، ثم ما أقول فيه إنه ضعيف أو بعيد، ثم ما أقول إنّ غيره أرجح أو أقوى أو أظهر أو أشهر ثم ما أقدّم غيره عليه إشعارا بترجيح المتقدّم أو بالقول فيه: قيل كذا، قصدا للخروج من عهدته، وأما إذا صرحت باسم قائل القول فإني أفعل ذلك لأحد أمرين: إما للخروج عن عهدته، وإما

لنصرته إذا كان قائله ممن يقتدى به، على أني لست أنسب الأقوال إلى أصحابها إلّا قليلا، وذلك لقلة صحة إسنادها إليهم، أو لاختلاف الناقلين في نسبتها إليهم، وأما إذا ذكرت شيئا دون حكاية قوله عن أحد فذلك إشارة إلى أني أتقلده وأرتضيه سواء كان من تلقاء نفسي، أو مما أختاره من كلام غيري، وإذا كان القول في غاية السقوط والبطلان لم أذكره تنزيها للكتاب، وربما ذكرته تحذيرا منه، وهذا الذي من الترجيح والتصحيح مبنيّ على القواعد العلمية، أو ما تقتضيه اللغة العربية، وسنذكر بعد هذا بابا في موجبات الترجيح بين الأقوال إن شاء الله. وسميته كتاب التسهيل: لعلوم التنزيل وقدّمت في أوّله مقدّمتين: إحداهما في أبواب نافعة، وقواعد كلية جامعة والأخرى فيما كثر دوره من اللغات الواقعة. وأنا أرغب إلى الله العظيم الكريم: أن يجعل تصنيف هذا الكتاب عملا مبرورا. وسعيا مشكورا، ووسيلة توصلني إلى جنات النعيم، وتنقذني من عذاب الجحيم، ولا حول ولا قوة إلّا بالله العلي العظيم. [رحم الله المؤلف ما أوجز عبارته وأكثر فائدته وقد وفى بكل ما وعد به جزاه الله خيرا عن الدين وأهله]

المقدمة الأولى

المقدمة الأولى وفيها إثنا عشر بابا الباب الأوّل: في نزول القرآن على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من أوّل ما بعثه الله بمكة، وهو ابن أربعين سنة، إلى أن هاجر إلى المدينة، ثم نزل عليه بالمدينة إلى أن توفاه الله، فكانت مدّة نزوله عليه عشرون سنة، وقيل كانت ثلاثا وعشرين سنة على حسب الاختلاف في سنّه صلّى الله عليه وسلّم يوم توفي، هل كان ابن ستين سنة، أو ثلاث وستين سنة؟ وكان ربما تنزل عليه سورة كاملة، وربما تنزل عليه آيات مفترقات، فيضم عليه السلام بعضها إلى بعض حتى تكمل السورة. وأوّل ما نزل عليه من القرآن: صدر سورة العلق، ثم المدّثّر والمزمل، وقيل: أوّل ما نزل المدّثّر وقيل: فاتحة الكتاب، والأوّل هو الصحيح لما ورد في الحديث الصحيح، عن عائشة في حديثها الطويل في ابتداء الوحي قالت فيه: جاءه الملك وهو بغار حراء، قال اقرأ، قال ما أنا بقارئ، قال فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني، فقال اقرأ، قلت ما أنا بقارئ، قال فأخذني فغطني الثانية، حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني، فقال اقرأ، قلت ما أنا بقارئ، قال فأخذني وغطني الثالثة حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني، ثم قال: اقرأ بسم ربك الذي خلق. خلق الإنسان من علق. اقرأ وربك الأكرم. الذي علم بالقلم. علم الإنسان ما لم يعلم. فرجع بها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يرجف فؤاده، فقال زمّلوني زمّلوني، فزمّلوه حتى ذهب عنه ما يجد من الروع» «1» ، وفي رواية من طريق جابر بن عبد الله: فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم زمّلوني فأنزل الله تعالى يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ وآخر ما نزل إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ وقيل آية الزنى التي في البقرة، وقيل الآية قبلها. وكان القرآن على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم متفرقا في الصحف وفي صدور الرجال، فلما توفي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قعد عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه في بيته، فجمعه على ترتيب نزوله، ولو وجد مصحفه لكان فيه علم كبير، ولكنه لم يوجد. فلما قتل جماعة من الصحابة يوم اليمامة في قتال مسيلمة الكذاب أشار عمر بن الخطاب على أبي بكر الصديق رضي الله عنهما بجمع القرآن مخافة أن يذهب بموت القراء. فجمعه في صحف غير مرتّب السور وبقيت تلك الصحف عند أبي بكر، ثم عند عمر بعده، ثم عند بنته حفصة أم

_ (1) . أخرجه مسلم ج أول ص 139 كتاب الإيمان باب رقم 73.

المؤمنين، وانتشرت في خلال ذلك صحف كتبت في الآفاق عن الصحابة، وكان بينها اختلاف، فأشار حذيفة بن اليمان على عثمان بن عفان رضي الله عنهما، فجمع الناس على مصحف واحد خيفة من اختلافهم، فانتدب لذلك عثمان، وأمر زيد بن ثابت فجمعه، وجعل معه ثلاثة من قريش: عبد الله بن الزبير بن العوام، وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام، وسعيد بن العاصي بن أمية، وقال لهم إذا اختلفتم في شيء فاجعلوه بلغة قريش، وجعلوا المصحف الذي كان عند حفصة إماما في هذا الجمع الأخير، وكان عثمان رضي الله عنه يتعهدهم ويشاركهم في ذلك، فلما كمل المصحف نسخ عثمان رضي الله عنه منه نسخا ووجهها إلى الأمصار وأمر بما سواها أن تخرق أو تحرق «يروى بالحاء والخاء المنقوطة» فترتيب السور على ما هو الآن من فعل عثمان وزيد بن ثابت والذين كتبوا معه المصحف، وقد قيل إنه من فعل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وذلك ضعيف تردّه الآثار الواردة في ذلك. وأما نقط القرآن وشكله فأوّل من فعل ذلك الحجاج بن يوسف بأمر عبد الملك بن مروان وزاد الحجاج تحزيبه وقيل: أوّل من نقطه يحيى بن يعمر وقيل أبو الأسود الدؤلي، وأما وضع الأعشار فيه فقيل: إنّ الحجاج فعل ذلك وقيل بل أمر به المأمون العباسي. وأما أسماؤه فهي أربعة: القرآن، والفرقان، والكتاب، والذكر. وسائر ما يسمى صفات لا أسماء: كوصفه بالعظيم، والكريم، والمتين، والعزيز، والمجيد، وغير ذلك. فأما القرآن: فأصله مصدر قرأ، ثم أطلق على المقروء، وأما الفرقان: فمصدر أيضا معناه التفرقة بين الحق والباطل، وأما الكتاب: فمصدر ثم أطلق على المكتوب، وأما الذكر: فسمي القرآن به لما فيه من ذكر الله أو من التذكير والمواعظ، ويجوز في السورة من القرآن الهمز، وترك الهمز لغة قريش، وأما الآية فأصلها العلامة ثم سميت الجملة من القرآن بها لأنها علامة على صدق النبي صلّى الله عليه وسلّم. الباب الثاني: في السور المكية والمدنية. اعلم أنّ السور المكية هي التي نزلت بمكة ويعد منها كل ما نزل قبل الهجرة، وإن نزل بغير مكة، كما أنّ المدنية هي السورة التي نزلت بالمدينة ويعدّ منها كل ما نزل بعد الهجرة وإن نزل بغير المدينة، وتنقسم السور ثلاثة أقسام: قسم مدنية باتفاق، وهي اثنتان وعشرون سورة، وهي: البقرة، وآل عمران، والنساء، والمائدة، والأنفال، وبراءة، والنور، والأحزاب، والقتال، والفتح، والحجرات، والحديد، والمجادلة، والحشر، والممتحنة، والصف، والجمعة، والمنافقون، والتغابن، والطلاق، والتحريم، وإذا جاء نصر الله. وقسم فيها خلاف، هل هي مكية أو مدنية؟ وهي ثلاثة عشر سورة: أم القرآن والرعد، والنحل، والحج، والإنسان، والمطففون، والقدر ولم يكن، وإذا زلزلت، وأ رأيت، والإخلاص والمعوّذتين. وقسم مكية باتفاق، وهي سائر

[خصائص السور المكية والمدنية]

السور، وقد وقعت آيات مدنية في سور مكية، كما وقعت آيات مكية في سور مدنية، وذلك قليل، مختلف في أكثره. [خصائص السور المكية والمدنية] واعلم أنّ السور المكية نزل أكثرها في إثبات العقائد والردّ على المشركين، وفي قصص الأنبياء. وأنّ السور المدنية نزل أكثرها في الأحكام الشرعية، وفي الردّ على اليهود والنصارى، وذكر المنافقين، والفتوى في مسائل، وذكر غزوات النبي صلّى الله عليه وسلّم. وحيث ما ورد: يا أيها الذين آمنوا فهو مدني، وأما: يا أيها الناس، فقد وقع في المكيّ والمدنيّ. الباب الثالث: في المعاني والعلوم التي تضمنها القرآن. ولنتكلم في ذلك على الجملة والتفصيل. أما الجملة، فاعلم أنّ المقصود بالقرآن دعوة الخلق إلى عبادة الله وإلى الدخول في دينه، ثم إنّ هذا المقصد يقتضي أمرين، لا بد منها، وإليهما ترجع معاني القرآن كله: أحدهما بيان العبادة التي دعي الخلق إليها، والأخرى ذكر بواعث تبعثهم على الدخول فيها وتردّدهم إليها، فأما العبادة فتنقسم إلى نوعين، وهما أصول العقائد وأحكام الأعمال. وأما البواعث عليها فأمران وهما: الترغيب والترهيب، وأما على التفصيل فاعلم أنّ معاني القرآن سبعة: هي علم الربوبية، والنبوة، والمعاد، والأحكام، والوعد، والوعيد والقصص. فأما علم الربوبية: فمنه إثبات وجود الباري جل جلاله، والاستدلال عليه بمخلوقاته، فكل ما جاء في القرآن من التنبيه على المخلوقات، والاعتبار في خلقة الأرض والسموات، والحيوان والنبات. والريح والأمطار، والشمس والقمر، والليل والنهار، وغير ذلك من الموجودات، فهو دليل على خالقه، ومنه إثبات الوحدانية، والردّ على المشركين، والتعريف بصفات الله: من الحياة والعلم والقدرة والإرادة والسمع والبصر، وغير ذلك من أسمائه وصفاته، والتنزيه عما لا يليق به. وأما النبوّة: فإثبات نبوّة الأنبياء عليهم السلام على العموم، ونبوة محمد صلّى الله عليه واله وسلّم على الخصوص، وإثبات الكتب التي أنزلها الله عليهم، ووجود الملائكة الذين كان منهم وسائط بين الله وبينهم، والردّ على من كفر بشيء من ذلك، وينخرط في سلك هذا ما ورد في القرآن من تأنيس النبي صلّى الله عليه وسلّم وكرامته والثناء عليه، وسائر الأنبياء صلّى الله عليه وعليهم أجمعين. وأما المعاد فإثبات الحشر، وإقامة البراهين، والردّ على من خالف فيه، وذكر ما في الدار الآخرة من الجنة والنار، والحساب والميزان، وصحائف الأعمال وكثرة الأهوال، ونحو ذلك. وأما الأحكام: فهي الأوامر والنواهي وتنقسم خمسة أنواع: واجب، ومندوب، وحرام، ومكروه، ومباح. ومنها ما يتعلق بالأبدان: كالصلاة والصيام، وما يتعلق بالأموال

كالزكاة، وما يتعلق بالقلوب كالإخلاص والخوف والرجاء وغير ذلك. وأما الوعد: فمنه وعد بخير الدنيا من النصر والظهور وغير ذلك، ومنه وعد بخير الآخرة وهو الأكثر كأوصاف الجنة ونعيمها. وأما الوعيد: فمنه تخويف بالعقاب في الدنيا، ومنه تخويف بالعقاب في الآخرة وهو الأكثر: كأوصاف جهنم وعذابها. وأوصاف القيامة وأهوالها، وتأمّل القرآن تجد الوعد مقرونا بالوعيد، قد ذكر أحدهما على إثر ذكر الآخر، ليجمع بين الترغيب والترهيب، وليتبين أحدهما بالآخر، كما قيل: فبضدّها تتبين الأشياء وأما القصص: فهو ذكر أخبار الأنبياء المتقدّمين وغيرهم كقصة أصحاب الكهف، وذي القرنين. فإن قيل: ما الحكمة في تكرار قصص الأنبياء في القرآن؟ فالجواب من ثلاثة أوجه الأوّل: أنه ربما ذكر في سورة من أخبار الأنبياء ما لم يذكره في سورة أخرى، ففي كل واحدة منهما فائدة زائدة على الأخرى: الثاني: أنه ذكرت أخبار الأنبياء في مواضع على طريق الإطناب. وفي مواضع على طريق الإيجاز، لتظهر فصاحة القرآن في الطريقتين. الثالث: أن أخبار الأنبياء قصد بذكرها مقاصد فتعدّد ذكرها بتعدّد تلك المقاصد، فمن المقاصد بها إثبات نبوة الأنبياء المتقدّمين بذكر ما جرى على أيديهم من المعجزات، وذكر إهلاك من كذّبهم بأنواع من المهالك. ومنها إثبات النبوة لمحمد صلّى الله عليه وسلّم لإخباره بتلك الأخبار من غير تعلم من أحد. وإلى ذلك الإشارة بقوله تعالى: ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا [هود: 49] ومنها إثبات الوحدانية. ألا ترى أنه لما ذكر إهلاك الأمم الكافرة قال: فَما أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ [هود: 101] ومنها الاعتبار في قدرة الله وشدّة عقابه لمن كفر. ومنها تسلية النبي صلّى الله عليه وسلّم عن تكذيب قومه له بالتأسي بمن تقدّم من الأنبياء: كقوله: وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ [الأنعام: 34] ومنها تسليته عليه السلام ووعده بالنصر كما نصر الأنبياء الذين من قبله. ومنها تخويف الكفار بأن يعاقبوا كما عوقب الكفار الذين من قبلهم، إلى غير ذلك مما احتوت عليه أخبار الأنبياء من العجائب والمواعظ واحتجاج الأنبياء. وردّهم على الكفار وغير ذلك. فلما كانت أخبار الأنبياء تفيد فوائد كثيرة: ذكرت في مواضع كثيرة. ولكل مقام مقال. الباب الرابع: في فنون العلم التي تتعلق بالقرآن. اعلم أن الكلام على القرآن يستدعي الكلام في اثني عشر فنا من العلوم، وهي: التفسير، والقراءات، والأحكام، والنسخ، والحديث، والقصص، والتصوّف، وأصول الدين، وأصول الفقه، واللغة، والنحو، والبيان. فأما التفسير فهو المقصود بنفسه وسائر هذه الفنون أدوات تعين عليه أو تتعلق به أو تتفرع منه، ومعنى التفسير: شرح القرآن وبيان معناه، والإفصاح بما يقتضيه بنصه أو إشارته أو فحواه.

واعلم أنّ التفسير منه متفق عليه ومختلف فيه، ثم إنّ المختلف فيه على ثلاثة أنواع: الأوّل: اختلاف في العبارة، مع اتفاق في المعنى: فهذا عدّه كثير من المؤلفين خلافا، وليس في الحقيقة بخلاف لاتفاق معناه، وجعلناه نحن قولا واحدا، وعبّرنا عنه بأحد عبارات المتقدّمين، أو بما يقرب منها، أو بما يجمع معانيها. الثاني: اختلاف في التمثيل لكثرة الأمثلة الداخلة تحت معنى واحد، وليس مثال منها على خصوصه هو المراد، وإنما المراد المعنى العامّ التي تندرج تلك الأمثلة تحت عمومه، فهذا عدّه أيضا كثير من المؤلفين خلافا، وليس في الحقيقة بخلاف لأنّ كل قول منها مثال، وليس بكل المراد، ولم نعدّه نحن خلافا: بل عبّرنا عنه بعبارة عامّة تدخل تلك تحتها، وربما ذكرنا بعض تلك الأقوال على وجه التمثيل، مع التنبيه على العموم المقصود. الثالث: اختلاف المعنى فهذا هو الذي عددناه خلافا، ورجحنا فيه بين أقوال الناس حسبما ذكرناه في خطبة الكتاب. فإن قيل: ما الفرق بين التفسير والتأويل؟ فالجواب أن في ذلك ثلاثة أقوال: الأوّل أنهما بمعنى واحد. الثاني: أن التفسير للفظ، والتأويل للمعنى. الثالث: وهو الصواب: أن التفسير: هو الشرح، والتأويل: هو حمل الكلام على معنى غير المعنى الذي يقتضيه الظاهر، بموجب اقتضى أن يحمل على ذلك ويخرج على ظاهره وأما القراءات: فإنها بمنزلة الرواية في الحديث، فلا بد من ضبطها كما يضبط الحديث بروايته. ثم إنّ القراءات على قسمين: مشهورة. وشاذة. فالمشهورة: هي القراءات السبع وما جرى مجراها: كقراءة يعقوب، وابن محيصن. والشاذة ما سوى ذلك. وإنما بنينا هذا الكتاب على قراءة نافع «1» لوجهين: أحدهما أنها القراءة المستعملة في بلادنا بالأندلس وسائر بلاد المغرب. والأخرى اقتداء بالمدينة شرفها الله لأنها قراءة أهل المدينة. وقال مالك بن أنس: قراءة نافع سنة. وذكرنا من سائر القراءة ما فيها فائدة في المعنى والإعراب وغير ذلك. دون ما لا فائدة فيه زائدة. واستغنينا عن استيفاء القراءات لكونها مذكورة في الكتب المؤلفة فيها. وقد ألفنا فيها كتبا نفع الله بها. وأيضا فإنا لما عزمنا في هذا الكتاب على الاختصار حذفنا منه ما لا تدعو إليه الضرورة وقد ذكرنا في هذه المقدّمات بابا في قواعد أصول القراءات. وأما أحكام القرآن فهي ما ورد فيه من الأوامر والنواهي. والمسائل الفقهية. وقال بعض العلماء إنّ آيات الأحكام خمسمائة آية. وقد تنتهي إلى أكثر من ذلك إذا استقصى تتبعها في مواضعها. وقد صنف الناس في أحكام القرآن تصانيف كثيرة. ومن أحسن تصانيف المشارقة فيها: تأليف إسماعيل [بن إسحاق المالكي] القاضي وابن الحسن كباه «2»

_ (1) . وهي المعروفة اليوم في شمال افريقيا بقراءة ورش وهو ممن أخذ عن نافع المدني وانظر ترجمتهما في آخر الكتاب. (2) . كذا في النسخة المطبوعة.

ومن أحسن تصانيف أهل الأندلس تأليف القاضي الإمام أبي بكر بن العربي والقاضي الحافظ بن محمد بن عبد المنعم بن عبد الرحيم المعروف بابن الفرس. وأما النسخ فهو يتعلق بالأحكام لأنها محل النسخ إذ لا تنسخ الأخبار ولا بدّ من معرفة ما وقع في القرآن من الناسخ والمنسوخ، والمحكم وهو ما لم ينسخ، وقد صنف الناس في ناسخ القرآن ومنسوخه تصانيف كثيرة وأحسنها تأليف القاضي أبي بكر بن العربي. وقد ذكرنا في هذه المقدمات بابا في قواعد النسخ، وذكر ما تقرّر في القرآن من المنسوخ، وذكرنا سائره في مواضعه. وأما الحديث فيحتاج المفسر إلى روايته وحفظه لوجهين: الأوّل: أنّ كثيرا من الآيات في القرآن نزلت في قوم مخصوصين ونزلت بأسباب قضايا وقعت في زمن النبي صلّى الله عليه وسلّم من الغزوات والنوازل والسؤالات، ولا بدّ من معرفة ذلك ليعلم فيمن نزلت الآية وفيما نزلت ومتى نزلت فإنّ الناسخ يبنى على معرفة تاريخ النزول لأنّ المتأخر ناسخ للمتقدم. الثاني: أنه ورد عن النبي صلّى الله عليه وسلّم كثير من تفسير القرآن فيجب معرفته لأنّ قوله عليه السلام مقدم على أقوال الناس. وأما القصص فهي من جملة العلوم التي تضمنها القرآن فلا بد من تفسيره إلّا أنّ الضروري منه ما يتوقف التفسير عليه. وما سوى ذلك زائد مستغنى عنه وقد أكثر بعض المفسرين من حكاية القصص الصحيح وغير الصحيح. حتى أنهم ذكروا منه ما لا يجوز ذكره مما فيه تقصير بمنصب الأنبياء عليهم السلام أو حكاية ما يجب تنزيههم عنه. وأما نحن فاقتصرنا في هذا الكتاب من القصص على ما يتوقف التفسير عليه وعلى ما ورد منه في الحديث الصحيح. وأما التصوّف فله تعلق بالقرآن. لما ورد في القرآن من المعارف الإلهية ورياضة النفوس. وتنوير القلوب. وتطهيرها باكتساب الأخلاق الحميدة. واجتناب الأخلاق الذميمة. وقد تكلمت المتصوّفة في تفسير القرآن. فمنهم من أحسن وأجاد. ووصل بنور بصيرته إلى دقائق المعاني. ووقف على حقيقة المراد. ومنهم من توغل في الباطنية وحمل القرآن على ما لا تقتضيه اللغة العربية. وقد جمع أبو عبد الرحمن السلمي كلامهم في التفسير في كتاب سماه «الحقائق» وقال بعض العلماء: بل هي البواطل. وإذا انصفنا قلنا: فيه حقائق وبواطل. وقد ذكرنا هذا في كتاب ما يستحسن من الإشارات الصوفية. دون ما يعترض أو يقدح فيه. وتكلمنا أيضا على اثني عشر مقاما من [مقامات] التصوف في مواضعها من القرآن: فتكلمنا على الشكر في أم القرآن. لما بين الحمد والشكر من الاشتراك في المعنى. وتكلمنا على التقوى في قوله تعالى في البقرة هُدىً لِلْمُتَّقِينَ وعلى الذكر في قوله فيها فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ [البقرة: 153] وعلى الصبر في قوله تعالى: وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ [البقرة: 155] وعلى

التوحيد في قوله فيها: وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ [البقرة: 163] وعلى محبة الله في قوله فيها: وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ [البقرة: 165] وعلى التوكل في قوله في آل عمران: فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ [آل عمران: 159] وعلى المراقبة في قوله في النساء: إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً [النساء: 1] وعلى الخوف والرجاء في قوله في الأعراف: وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً [الأعراف: 56] وعلى التوبة في قوله في النور: وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً [النور: 31] وعلى الإخلاص في قوله في لم يكن: وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [البينة: 4] . وأما أصول الدين فيتعلق بالقرآن من طرفين: أحدهما: ما ورد في القرآن من إثبات العقائد وإقامة البراهين عليها. والردّ على أصناف الكفار. والآخر: أنّ الطوائف المختلفة من المسلمين تعلقوا بالقرآن وكل طائفة منهم تحتجّ لمذهبها بالقرآن وترد على من خالفها. وتزعم أنه خالف القرآن. ولا شك أنّ منهم المحق والمبطل. فمعرفة تفسير القرآن أن توصل في ذلك إلى التحقيق مع التشديد والتأييد من الله والتوفيق. وأما أصول الفقه فإنها من أدوات تفسير القرآن. على أنّ كثيرا من المفسرين لم يشتغلوا بها. وإنها لنعم العون على فهم المعاني وترجيح الأقوال. وما أحوج المفسر إلى معرفة النص. والظاهر. والمجمل. والمبين. والعام. والخاص. والمطلق. والمقيد. وفحوى الخطاب. ولحن الخطاب. ودليل الخطاب. وشروط النسخ. ووجوه التعارض. وأسباب الخلاف. وغير ذلك من علم الأصول. وأما اللغة فلا بد للمفسر من حفظ ما ورد في القرآن منها. وهي غريب القرآن وهي من فنون التفسير. وقد صنف الناس في غريب القرآن تصانيف كثيرة. وقد ذكرنا بعد هذه المقدّمة: مقدّمة في اللغات الكثيرة الدوران في القرآن. لئلا نحتاج أن نذكرها حيث وقعت فيطول الكتاب بكثرة تكرارها. وأما النحو فلا بد للمفسر من معرفته. فإنّ القرآن نزل بلسان العرب فيحتاج إلى معرفة اللسان. والنحو ينقسم إلى قسمين: أحدهما: عوامل الإعراب. وهي أحكام الكلام المركب. والآخر: التصريف وهي أحكام الكلمات من قبل تركيبها. وقد ذكرنا في هذا الكتاب من إعراب القرآن ما يحتاج إليه من المشكل والمختلف. أو ما يفيد فهم المعنى. أو ما يختلف المعنى باختلافه ولم نتعرض لما سوى ذلك من الإعراب السهل الذي لا يحتاج إليه إلّا المبتدئ فإنّ ذلك يطول بغير فائدة كبيرة. وأما علم البيان: فهو علم شريف تظهر به فصاحة القرآن. وقد ذكرنا منه في هذا الكتاب فوائد فائقة. ونكات مستحسنة رائقة. وجعلنا في المقدّمات بابا في أدوات البيان ليفهم به ما يرد منها مفرّقا في مواضعه من القرآن. الباب الخامس: في أسباب الخلاف بين المفسرين. والوجوه التي يرجح بها بين أقوالهم. فأما أسباب الخلاف فهي اثنا عشر: الأول: اختلاف القرآن. الثاني: اختلاف وجوه

الإعراب وإن اتفقت القراءات. الثالث: اختلاف اللغويين في معنى الكلمة. الرابع: اشتراك اللفظ بين معنيين فأكثر. الخامس: احتمال العموم والخصوص. السادس: احتمال الإطلاق أو التقييد. السابع: احتمال الحقيقة أو المجاز. الثامن: احتمال الإضمار أو الاستقلال. التاسع: احتمال الكلمة زائدة. العاشر: احتمال حمل الكلام على الترتيب وعلى التقديم والتأخير. الحادي عشر: احتمال أن يكون الحكم منسوخا أو محكما. الثاني عشر: اختلاف الرواية في التفسير عن النبي صلّى الله عليه واله وسلّم وعن السلف رضي الله عنهم. وأما وجوه الترجيح فهي اثنا عشر الأول: تفسير بعض القرآن ببعض، فإذا دل موضع من القرآن على المراد بموضع آخر حملناه عليه، ورجحنا القول بذلك على غيره من الأقوال. الثاني: حديث النبي صلّى الله عليه وسلّم: فإذا ورد عنه عليه السلام تفسير شيء من القرآن عوّلنا عليه. لا سيما إن ورد في الحديث الصحيح. الثالث: أن يكون القول قول الجمهور وأكثر المفسرين: فإنّ كثرة القائلين بالقول يقتضي ترجيحه. الرابع: أن يكون القول قول من يقتدى به من الصحابة كالخلفاء الأربعة، وعبد الله بن عباس: لقول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل» «1» . الخامس: أن يدل على صحة القول كلام العرب من اللغة والإعراب أو التصريف أو الاشتقاق. السادس: أن يشهد بصحة القول سياق الكلام ويدل عليه ما قبله أو ما بعده. السابع: أن يكون ذلك المعنى المتبادر إلى الذهن فإنّ ذلك دليل على ظهوره ورجحانه. الثامن: تقديم الحقيقة على المجاز. فإنّ الحقيقة أولى أن يحمل عليها اللفظ عند الأصوليين. وقد يترجح المجاز إذا كثر استعماله حتى يكون أغلب استعمالا من الحقيقة ويسمى مجازا راجحا والحقيقة مرجوحة. وقد اختلف العلماء أيهما يقدم: فمذهب أبي حنيفة تقديم الحقيقة لأنها الأصل ومذهب أبي يوسف تقديم المجاز الراجح لرجحانه. وقد يكون المجاز أفصح وأبرع فيكون أرجح. التاسع: تقديم العمومي على الخصوصي فإنّ العمومي أولى لأنه الأصل إلّا أن يدل دليل على التخصيص. العاشر: تقديم الإطلاق على التقييد، إلّا أن يدل دليل على التقييد. الحادي عشر: تقديم الاستقلال على الإضمار إلّا أن يدل دليل على الإضمار. الثاني عشر: حمل الكلام على ترتيبه إلّا أن يدل دليل على التقديم والتأخير. الباب السادس: في ذكر المفسرين. اعلم أن السلف الصالح انقسموا إلى فرقتين: فمنهم من فسر القرآن وتكلم في معانيه. وهم الأكثرون. ومنهم من توقف عن الكلام فيه احتياطا لما ورد من التشديد في ذلك. فقد قالت عائشة رضي الله عنها: ما كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يفسر من القرآن الآيات إلّا بعد علمه إياهن من جبريل. وقال صلّى الله عليه وسلّم: «من قال في القرآن برأيه وأصاب فقد أخطأ» «2» . وتأول المفسرون حديث عائشة رضي الله عنها بأنه

_ (1) . رواه أحمد في المسند عن ابن عباس ج 1 ص: 391. (2) . ذكره في التيسير ص 434/ 2 ج عن سمرة بن جندب وحسّنه وعزاه للشيخين والنسائي.

في مغيبات القرآن التي لا تعلم إلّا بتوقيف من الله تعالى. وتأول الحديث الآخر بأنه فيمن تكلم في القرآن بغير علم ولا أدوات لا فيمن تكلم فيما تقتضيه أدوات العلوم ونظر في أقوال العلماء المتقدّمين فإنّ هذا لم يقل في القرآن برأيه. واعلم أن المفسرين على طبقات فالطبقة الأولى: الصحابة رضي الله عنهم. وأكثرهم كلاما في التفسير ابن عباس. وكان علي بن أبي طالب رضي الله عنه يثني على تفسير ابن عباس. ويقول: كأنما ينظر إلى الغيب من ستر رقيق. وقال ابن عباس ما عندي من تفسير القرآن فهو عن عليّ بن أبي طالب. ويتلوهما عبد الله بن مسعود. وأبيّ بن كعب. وزيد بن ثابت. وعبد الله بن عمر بن الخطاب، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وكلما جاء من التفسير عن الصحابة فهو حسن. والطبقة الثانية: التابعون. وأحسنهم كلاما في التفسير الحسن بن أبي الحسن البصري. وسعيد بن جبير ومجاهد مولى ابن عباس. وعلقمة صاحب عبد الله بن مسعود. ويتلوهم: عكرمة. وقتادة. والسّدي. والضحاك بن مزاحم. وأبو صالح. وأبو العالية. ثم حمل تفسير القرآن عدول كل خلف، وألف الناس فيه: كالمفضل. وعبد الرزاق. وعبد بن حميد. والبخاري. وعلي بن أبي طلحة. وغيرهم. ثم إن محمدا بن جرير الطبري جمع أقوال المفسرين وأحسن النظر فيها. وممن صنف في التفسير أشياء: أبو بكر النقّاش. والثعلبي «1» . والماوردي. إلّا أن كلامهم يحتاج إلى تنقيح. وقد استدرك الناس على بعضهم. وصنف أبو محمد بن قتيبة في غريب القرآن ومشكله وكثير من علومه وصنف في معاني القرآن جماعة من النحويين: كأبي إسحاق الزجاج، وأبي علي الفارسي، وأبي جعفر النحاس. وأما أهل المغرب والأندلس فصنف القاضي منذر بن سعيد البلوطي كتابا في غريب القرآن وتفسيره. ثم صنف المقرئ أبو محمد مكي بن أبي طالب كتاب الهداية في تفسير القرآن. وكتابا في غريب القرآن. وكتابا في ناسخ القرآن ومنسوخه. وكتابا في إعراب القرآن. إلى غير ذلك من تآليفه. فإنها نحو ثمانين تأليفا: أكثرها في علوم القرآن والقراءات والتفسير وغير ذلك. وأما أبو عمرو الداني فتآليفه تنيف على مائة وعشرين. إلّا أن أكثرها في القرآن. ولم يؤلف في التفسير إلّا قليلا. وأما أبو العباس المهدي فمتقن التآليف. حسن الترتيب. جامع لفنون علوم القرآن: ثم جاء القاضيان أبو بكر بن العربي وأبو محمد عبد الحق بن عطية. فأبدع كل واحد وأجمل. واحتفل وأكمل. فأما ابن العربي فصنف كتاب «أنوار الفجر» في غاية الاحتفال والجمع لعلوم القرآن: فلما تلف تلافاه بكتاب «قانون التأويل» إلّا أنه اخترمته المنية قبل تخليصه وتلخيصه. وألف في سائر علوم القرآن تآليف مفيدة وأما ابن عطية فكتابه في التفسير أحسن التآليف وأعدلها. فإنه اطلع على تآليف من كان قبله فهذبها ولخصها. وهو مع ذلك حسن العبارة. مسدّد النظر، محافظ على السنة. ثم ختم علم القرآن

_ (1) . هو أحمد بن محمد بن إبراهيم المفسر. انظر وفيات الأعيان ج أول ص 79.

بالأندلس وسائر المغرب بشيخنا الأستاذ أبو جعفر بن الزبير. فلقد قطع عمره في خدمة القرآن وآتاه الله بسطة في علمه. وقوّة في فهمه. وله فيه تحقيق. ونظر دقيق. ومما بأيدينا من تأليف أهل المشرق تفسير أبو القاسم [محمود بن عمر] الزمخشري فمسدّد النظر بارع في الإعراب متقن في علم البيان. إلّا أنه ملأ كتابه من مذهب المعتزلة وشرهم. وحمل آيات القرآن على طريقتهم. فتكدر صفوه. وتمرّر حلوه. فخذ منه ما صفا ودع ما كدر. وأما القرنوي فكتابه مختصر. وفيه من التصوف نكت بديعة. وأما ابن الخطيب فتضمن كتابه ما في كتاب الزمخشري وزاد عليه إشباعا في قواعد علم الكلام. ونمقه بترتيب المسائل. وتدقيق النظر في بعض المواضع. وهو على الجملة كتاب كبير الحجم. ربما يحتاج إلى تلخيص، والله ينفع الجميع بخدمة كتابه. ويجزيهم أفضل ثوابه. الباب السنابع في الناسخ والمنسوخ: النسخ في اللغة: هو الإزالة والنقل. ومعناه في الشريعة: رفع الحكم الشرعي بعد ما نزل، ووقع في القرآن على ثلاثة أوجه: الأوّل: نسخ اللفظ والمعنى كقوله: (لا ترغبوا عن آبائكم فإنه كفر بكم) «1» . الثاني: نسخ اللفظ دون المعنى كقوله: (الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالا من الله والله عزيز حكيم) . الثالث: نسخ المعنى دون اللفظ وهو كثير وقع منه في القرآن على ما عدّ بعض العلماء مائتا موضع وثنتا عشرة مواضع منسوخة، إلّا أنهم عدوا التخصيص والتقييد نسخا، والاستثناء نسخا، وبين هذه الأشياء وبين النسخ: فروق معروفة، وسنتكلم على ذلك في مواضعه. ونقدّم هنا ما جاء من نسخ مسالمة الكفار والعفو عنهم والإعراض والصبر على أذاهم، بالأمر بقتالهم ليغني ذلك عن تكراره في مواضعه، فإنه وقع منه في القرآن مائة آية وأربع عشرة آية من أربع وخمسين آية، ففي البقرة وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً [البقرة: 83] وَلَنا أَعْمالُنا [البقرة: 139] وَلا تَعْتَدُوا [البقرة: 190] أي لا تبدءوا بالقتال وَلا تُقاتِلُوهُمْ [البقرة: 191] قُلْ قِتالٌ [البقرة: 217] لا إِكْراهَ [البقرة: 256] وفي آل عمران فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ [آل عمران: 20] مِنْهُمْ تُقاةً [آل عمران: 28] وفي النساء فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ [النساء: 63- 81] في موضعين فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً [النساء: 79] لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ [النساء: 83] إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ [النساء: 89] وفي المائدة وَلَا آمِّينَ [المائدة: 2] عَلَيْكَ الْبَلاغُ [المائدة: 3- 20] عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ [المائدة: 105] وفي الأنعام لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ [الأنعام: 66] ثُمَّ ذَرْهُمْ [الأنعام: 91] عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ [الأنعام: 104] وَأَعْرِضْ [الأنعام: 106] عَلَيْهِمْ حَفِيظاً [الأنعام: 107] وَلا تَسُبُّوا [الأنعام: 108] قدرهم في موضعين يا قَوْمِ اعْمَلُوا [الأنعام: 135] قُلِ انْتَظِرُوا [الأنعام: 158] لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ [الأنعام: 159] وفي الأعراف: وَأَعْرِضْ [الأعراف: 68] وَأُمْلِي لَهُمْ [الأعراف: 182] وفي الأنفال

_ (1) . ذكرها السيوطي في الإتقان ج 2 ص 25.

وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ [الأنفال: 72] يعني المجاهدين. وفي التوبة فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ [التوبة: 8] وفي يونس فَانْتَظِرُوا [يونس: 20] فَقُلْ لِي عَمَلِي [يونس: 41] وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ [يونس: 46] وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ [يونس: 65] لما يقتضي من الإمهال أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ [يونس: 99] فَمَنِ اهْتَدى [يونس: 108] لأن معناه الإمهال وَاصْبِرْ [يونس: 109] وفي هود إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ [هود: 12] أي تنذر ولا تجبر اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ [هود: 93] انْتَظِرُوا [هود: 122] وفي الرعد عَلَيْكَ الْبَلاغُ [الرعد: 42] وفي النحل إِلَّا الْبَلاغُ [النحل: 35] عَلَيْكَ الْبَلاغُ [النحل: 82] وَجادِلْهُمْ [النحل: 125] وَاصْبِرْ [النحل: 127] وفي الإسراء رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ [الإسراء: 25] وفي مريم وَأَنْذِرْهُمْ [مريم: 39] فَلْيَمْدُدْ [مريم: 75] وَلا تَعْجَلْ [مريم: 85] وفي طه قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ [طه: 135] وفي الحج وَإِنْ جادَلُوكَ [الحج: 68] وفي المؤمنين فَذَرْهُمْ [المؤمنين: 55] ادْفَعْ [المؤمنين: 97] وفي النور فَإِنْ تَوَلَّوْا [النور: 54] وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ [النور: 54] وفي النمل فَمَنِ اهْتَدى [النمل: 92] وفي القصص لَنا أَعْمالُنا [القصص: 55] وفي العنكبوت أَنَا نَذِيرٌ [العنكبوت: 50] لما يقتضي من عدم الإجبار، وفي الروم فَاصْبِرْ [الروم: 60] وفي لقمان وَمَنْ كَفَرَ [لقمان: 23] وفي السجدة وَانْتَظِرْ [السجدة: 30] وفي الأحزاب وَدَعْ أَذاهُمْ [الأحزاب: 48] وفي سبأ قُلْ لا تُسْئَلُونَ [سبأ: 25] وفي فاطر إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ [فاطر: 23] وفي يس فَلا يَحْزُنْكَ [ياسين: 76] وفي الصافات قَوْلُ وقَوْلُ [الصافات: 31] وما يليهما، وفي ص اصْبِرْ [ص: 17] أَنَا نَذِيرٌ [ص: 70] وفي الزمر إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ [الزمر: 3] لما فيه من الإمهال فَاعْبُدُوا ما شِئْتُمْ [الزمر: 15] يا قَوْمِ اعْمَلُوا [الزمر: 39] فَمَنِ اهْتَدى [الزمر: 41] أَنْتَ تَحْكُمُ [الزمر: 46] لأنّ فيه تفويضا، وفي المؤمن فَاصْبِرْ [المؤمن: 55- 76] في موضعين، وفي فصّلت ادْفَعْ [فصّلت: 34] وفي الشورى وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ [الشورى: 6] لَنا أَعْمالُنا [الشورى: 15] فَإِنْ أَعْرَضُوا [الشورى: 48] وفي الزخرف فَذَرْهُمْ [الزخرف: 13] فَاصْفَحْ [الزخرف: 89] وفي الدخان فَارْتَقِبْ [الدخان: 10] وفي الجاثية يَغْفِرُوا [الجاثية: 14] وفي الأحقاف فَاصْبِرْ [الأحقاف: 35] وفي القتال [محمد] فَإِمَّا مَنًّا [محمد: 4] وفي ق فَاصْبِرْ [ق: 39] وَما أَنْتَ [ق: 45] وفي الذاريات قَوْلٍ [الذاريات: 8] وفي الطور قُلْ تَرَبَّصُوا [الطور: 31] وَاصْبِرْ [الطور: 48] فَذَرْهُمْ [الطور: 45] وفي النجم فَأَعْرِضْ [النجم: 29] وفي القمر يَقُولُ وفي ن فَاصْبِرْ [ن: 48] سَنَسْتَدْرِجُهُمْ [ن: 44] وفي المعارج فَاصْبِرْ [المعارج: 5] فَذَرْهُمْ [المعارج: 42] وفي المزمّل وَاهْجُرْهُمْ [المزمّل: 10] وَذَرْنِي [المزمّل: 11] وفي المدّثّر ذَرْنِي [المدّثّر: 11] وفي الإنسان فَاصْبِرْ [الإنسان: 24] وفي الطارق فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ [الطارق: 17] وفي الغاشية لَسْتَ عَلَيْهِمْ

بِمُصَيْطِرٍ [الغاشية: 22] وفي الكافرين لَكُمْ دِينُكُمْ [الكافرين: 6] نسخ ذلك كلّه: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ [التوبة: 6] وكُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ [البقرة: 216] . الباب الثامن في جوامع القراءة، وهو على نوعين: مشهورة، وشاذة. فالمشهورة القراءات السبع، وهو حرف نافع المدني، وابن كثير المكي، وأبو عمرو بن العلاء البصري، وابن عامر الشامي، وعاصم، وحمزة والكسائي الكوفيين. ويجري مجراهم في الصحة والشهرة: يعقوب الحضرمي بن محيصن، ويزيد بن القعقاع. والشاذة ما سوى ذلك، وإنما سميت شاذة لعدم استقامتها في النقل، وقد تكون فصيحة اللفظ، أو قوية المعنى. ولا يجوز أن يقرأ بحرف إلّا بثلاث شروط: موافقته لمصحف عثمان بن عفان رضي الله عنه، وموافقته لكلام العرب ولو على بعض الوجوه أو في بعض اللغات، ونقله نقلا متواترا أو مستفيضا. واعلم أنّ اختلاف القرّاء على نوعين: أصول، وفرش الحروف. فأما الفرش: فهو ما لا يرجع إلى أصل مضطرد، ولا قانون كلي، وهو في وجهين: اختلاف على القراءة باختلاف المعنى، وباتفاق المعنى. وأما الأصول فالاختلاف فيها لا يغير المعنى. وهي ترجع إلى ثمان قواعد: الأولى: الهمزة: وهي في حروف المدّ الثلاث، ويزاد فيها على المدّ الطبيعي بسبب الهمزة والتقاء الساكنين. الثانية وأصله التحقيق ثم قد يحقق على سبعة أوجه: إبدال واو أو ياء أو ألف وتسهيل بين الهمزة والواو، وبين الهمزة والياء، وبين الهمزة والألف، وإسقاط. الثالثة: الإدغام، والإظهار، والأصل الإظهار، ثم يحدث الإدغام في المثلين، أو المتقاربين وفي كلمة، وفي كلمتين، وهو نوعان: إدغام كبير انفرد به أبو عمرو: وهو إدغام المتحرّك. وإدغام صغير لجميع القرّاء: وهو إدغام الساكن. الرابعة: الإمالة، وهي أن تنحو بالفتحة نحو الكسرة. وبالألف نحو الياء، والأصل الفتح، ويوجب الإمالة الكسرة والياء. الخامسة: الترقيق والتفخيم، والحروف على ثلاثة أقسام يفخم في كل حال، وهي حروف الاستعلاء السبعة ومفخم تارة ومرقق أخرى وهي الراء واللام والألف فأما الراء فأصلها التفخيم وترقق للكسر والياء، وأما اللّام فأصلها الترقيق وتفخم لحروف الأطباق وأما الألف فهي تابعة للتفخيم والترقيق لما قبلها، والمرقق على كل حال سائر الحروف. السادسة: الوقف، وهو على ثلاثة أنواع، سكون جائز في الحركات الثلاث وروم في المضموم والمكسور، وإشمام في المضموم خاصة. السابعة: مراعاة الخط في الوقف. الثامنة: إثبات الياءات وحذفها. الباب التاسع في الوقف، وهو أربعة أنوع: وقف تام، وحسن، وكاف، وقبيح، وذلك بالنظر إلى الإعراب والمعنى، فإن كان الكلام مفتقرا إلى ما بعده في إعرابه أو معناه، وما بعده مفتقرا إليه كذلك لم يجز إليه الفصل بين كل معمول وعامله، وبين كل ذي خبر وخبره، وبين كل ذي جواب وجوابه، وبين كل ذي موصول وصلته، وإن كان الكلام الأوّل مستقلا يفهم دون الثاني إلا أن الثاني غير مستقل إلا بما قبله، فالوقف على الأوّل كاف،

تنبيه

وذلك في التوابع والفضلات: كالحال، والتمييز، والاستثناء وشبه ذلك، إلا أنّ وصل المستثنى المتصل آكد من المنقطع، ووصل التوابع والحال إذا كانت أسماء مع ذات آكد من وصلها إذا كانت جملة، وإن كان الكلام مستقلا والثاني كذلك، فإن كانا في قصة واحدة فالوقف على الأوّل حسن، وإن كانا في قصتين مختلفتين فالوقف تامّ. وقد يختلف الوقف باختلاف الإعراب أو المعنى، وكذلك اختلف الناس في كثير من الوقف. من أقوالهم فيها: راجح، ومرجوح، وباطل، وقد يقف لبيان المراد وإن لم يتم الكلام. تنبيه هذا الذي ذكرنا من رعي الإعراب والمعنى في المواقف: استقرّ عليه العمل، وأخذ به شيوخ المقرئين، وكان الأوائل يراعون رؤوس الآيات، فيقفون عندها لأنها في القرآن كالفقر في النثر والقوافي في الشعر، ويؤكد ذلك ما أخرجه الترمذي عن أمّ سلمة رضي الله عنها أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يقطع قراءته يقول: الحمد لله رب العالمين ثم يقف، الرحمن الرحيم ثم يقف. الباب العاشر: في الفصاحة والبلاغة وأدوات البيان. أما الفصاحة فلها خمسة شروط: الأوّل أن تكون الألفاظ عربية لا مما أحدثه المولدون ولا مما غلطت فيه العامّة، الثاني أن تكون من الألفاظ المستعملة لا من الوحشية المستثقلة، الثالث أن تكون العبارة واقعة على المعنى موفية له لا قاصرة عنه، الرابع أن تكون العبارة سهلة سالمة من التعقيد. الخامس: أن يكون الكلام سالما من الحشو الذي لا يحتاج إليه. وأما البلاغة فهي سياق الكلام على ما يقتضيه الحال والمقال من الإيجاز والإطناب، ومن التهويل والتعظيم والتحقير، ومن التصريح والكناية والإشارة وشبه ذلك، بحيث يهز النفوس ويؤثر في القلوب، ويقود السامع إلى المراد أو يكاد. وأما أدوات البيان: فهي صناعة البديع، وهو تزيين الكلام كما يزين العلم الثوب، وقد وجدنا في القرآن منها اثنين وعشرين نوعا، ونبهنا على كل نوع في المواضع التي وقع فيها من القرآن وقد ذكرنا هنا أسماءها ونبين معناه: الأوّل: المجاز: وهو اللفظ المستعمل في غير مواضع له لعلاقة بينهما، وهو اثنا عشر نوعا: التشبيه والاستعارة، والزيادة، والنقصان، وتشبيه المجاور باسم مجاوره، والملابس باسم ملابسه، والكل، وإطلاق اسم الكل على البعض، وعكسه، والتسمية باعتبار ما يستقبل، والتسمية باعتبار ما مضى، وفي هذا خلاف هل هو حقيقة أو مجاز. واتفق أهل علم اللسان وأهل الأصول على وقوع المجاز في القرآن لأنّ القرآن نزل بلسان العرب وعادة فصحاء العرب استعمال المجاز، ولا وجه لمن منعه لأنّ الواقع منه في القرآن أكثر من أن يحصى. الثاني: الكناية: وهي العبارة عن الشيء فيما يلازمه من غير تصريح.

الثالث: الالتفات: وهو على ستة أنواع: خروج من التكلم إلى الخطاب أو الغيبة، وخروج من الخطاب إلى التكلم أو الغيبة، وخروج من الغيبة إلى التكلم أو الخطاب. الرابع: التمديد: وهو ذكر شيء بعد اندراجه في لفظ عامّ متقدّم، والقصد بالتجديد تعظيم المجدّد ذكره أو تحقيره، أو رفع الاحتمال. الخامس: الاعتراض: وهو إدراج كلام بين شيئين متلازمين: كالخبر والمخبر عنه، والصفة والموصوف، والمعطوف والمعطوف عليه، وإدخاله في أثناء كلام متصل. والقصد به تأكيد الكلام الذي أدرج فيه. السادس: التجنيس: وهو اتفاق اللفظ مع اختلاف المعنى، ثم الاتفاق قد يكون في الحروف والصيغة، أو في الحروف خاصة، أو في أكثر الحروف لا في جميعها، أو في الخط لا في اللفظ، وهو تجنيس التصحيف. السابع: الطباق: وهو ذكر الأشياء المتضادّة كالسواد والبياض والحياة والموت، والليل والنهار، وشبه ذلك. الثامن: المقابلة، وهو أن يجمع بين شيئين فصاعدا ثم يقابلهما بأشياء أخر. التاسع: المشاكلة: وهي أن تذكر الشيء بلفظ آخر لوقوعه في صحبته. العاشر: الترديد: وهو ردّ الكلام على آخره ويسمى في الشعر ردّ العجز على الصدر. الحادي عشر: لزوم ما لا يلزم: وهو أن يلتزم قبل حروف الرويّ حرفا آخر، وكذلك عند رؤوس الآيات. الثاني عشر: القلب: وهو أن يكون الكلام يصلح ابتداء قراءته من أوّله وآخره نحو دعد أو تعكس كلماته فتقدّم المؤخر منها وتؤخر المقدّم. الثالث عشر: التقسيم: وهو أن تقسم المذكور إلى أنواعه أو أجزائه. الرابع عشر: التتميم: وهو أن تزيد في الكلام ما يوضحه ويؤكده وإن كان مستقلا دون هذه الزيادة. الخامس عشر: التكرار: وهو أن تضع الظاهر موضع المضمر، فتكرّر الكلمة على وجه التعظيم أو التهويل، أو مدح المذكور أو ذمّه أو للبيان. السادس عشر: التهكم: وهو إخراج الكلام عن مقتضاه استهزاء بالمخاطب أو بالخبر، كذلك البشارة في موضع النذارة. السابع عشر: اللف والنشر وهو أن تلف في الذكر شيئين فأكثر، ثم تذكر متعلقات بها، وفيه طريقتان: أن تبدأ في ذكر المتعلقات بالأوّل، وأن تبدأ بالآخر. الثامن عشر: الجمع: وهو أن تجمع بين شيئين فأكثر في خبر واحد، وفي صف واحد وشبه ذلك. التاسع عشر: الترصيع: وهو أن تكون الألفاظ في آخر الكلام مستوفية الوزن، أو متقاربة مع الألفاظ التي في أوّله. العشرون: التشجيع: وهو أن يكون كلمات الآي على رويّ واحد. الحادي والعشرون: الاستطراد: وهو أن يتطرّق من كلام إلى كلام آخر بوجه يصل ما

بينهما، ويكون الكلام الثاني هو المقصود: كخروج الشاعر من السب إلى المدح بمعنى يتعلق بالطرفين، مع أنه قصد المدح. الثاني والعشرون: المبالغة: وقد تكون بصيغة الكلمة نحو صيغة فعال ومفعال وقد تكون بالمبالغة في الإخبار أو الوصف، فإن اشتدّت المبالغة فهو غلوّ وإغراب. وذلك مستكره عند أهل هذا الشأن. الباب الحادي عشر: في إعجاز القرآن وإقامة الدليل على أنه من عند الله عز وجل، ويدل على ذاك عشرة أوجه: الأوّل: فصاحته التي امتاز بها عن كلام المخلوقين. الثاني: نظمه العجيب وأسلوبه الغريب من قواطع آياته وفواصل كلماته. الثالث: عجز المخلوقين في زمان نزوله وبعد ذلك إلى الآن عن الإتيان بمثله. الرابع: ما أخبر فيه من أخبار الأمم السالفة والقرون الماضية ولم يكن النبي صلّى الله عليه وسلّم تعلم ذلك ولا قرأه في كتاب. الخامس: ما أخبر فيه من الغيوب المستقبلة فوقعت على حسب ما قال. السادس: ما فيه من التعريف بالباري جل جلاله. وذكر صفاته وأسمائه، وما يجوز عليه. وما يستحيل عليه، ودعوة الخلق إلى عبادته وتوحيده، وإقامة البراهين القاطعة، والحجج الواضحة، والردّ على أصناف الكفار، وذلك كله يعلم بالضرورة أنه لا يصل إليه بشر من تلقاء نفسه، بل بوحي من العليم الخبير، ولا يشك عاقل في صدق من عرف الله تلك المعرفة وعظم جلاله ذلك التعظيم ودعا عباد الله إلى صراطه المستقيم. السابع: ما شرع فيه من الأحكام وبين من الحلال والحرام، وهدى إليه من مصالح الدنيا والآخرة، وأرشد إليه من مكارم الأخلاق، وذلك غاية الحكمة وثمرة العلوم. الثامن: كونه محفوظا عن الزيادة والنقصان، محروسا عن التغيير والتبديل على طول الزمان، بخلاف سائر الكتب. التاسع: تيسيره للحفظ وذلك معلوم بالمعاينة. العاشر: كونه لا يمله قارئه ولا سامعه على كثرة الترديد، بخلاف سائر الكلام. الباب الثاني عشر: في فضل القرآن. وإنما نذكر منه ما ورد في الحديث الصحيح، فمن ذلك ما ورد عن أبي أمامة الباهلي قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «اقرءوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعا لأصحابه» «1» وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة والذي يقرؤه ويتعتع به وهو عليه شاق فله أجران» «2» وعن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن كمثل الأترجة: ريحها طيب وطعمها طيب، ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن مثل التمرة: لا ريح لها وطعمها طيب، ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن مثل الريحانة: ريحها طيب وطعمها مرّ، ومثل المنافق الذي لا يقرأ القرآن كمثل الحنظلة: ليس لها ريح وطعمها

_ (1) . رواه مسلم نقلا عن النووي في رياض الصالحين باب فضائل القرآن. (2) . متفق عليه نقلا عن النووي.

مرّ» «1» وعن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «استذكروا القرآن فلهو أشدّ تفصيا من صدور الرجال من النعم بعقلها» «2» وعن عثمان بن عفان رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «خيركم من تعلّم القرآن وعلّمه» «3» ، «فإنّ الله يرفع بهذا القرآن أقواما ويضع آخرين» «4» وعن ابن عباس قال: بينما جبريل قاعد عند النبي صلّى الله عليه وسلّم سمع نقيضا من فوقه فرفع رأسه، فقال: هذا باب من السماء فتح اليوم لم يفتح قط إلّا اليوم فنزل منه ملك فقال هذا ملك نزل إلى الأرض لم ينزل قط إلّا اليوم فسلم وقال أبشر بنورين أوتيتهما لم يؤتهما نبي قبلك: فاتحة الكتاب وخواتيم سورة البقرة» «5» وعن أبي أمامة الباهلي أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «اقرءوا البقرة فإنّ أخذها بركة، وتركها حسرة، ولا يستطيعها البطلة» «6» وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا تجعلوا بيوتكم مقابر إنّ الشيطان يفرّ من البيت الذي يقرأ فيه سورة البقرة» «7» وعن أبيّ بن كعب قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يا أبا المنذر أتدري أي آية من كتاب الله معك أعظم. قلت: الله لا إله إلّا هو الحي القيوم. فضرب في صدري، وقال ليهنك العلم يا أبا المنذر» «8» وعن النوّاس بن سمعان قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «يؤتى بالقرآن يوم القيامة وأهله الذين كانوا يعملون به تقدمه سورة البقرة وآل عمران- وضرب لهما رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ثلاثة أمثال ما نسيتهما بعد- قال وإنهما غمامتان أو ظلتان سوداوان بينهما شرق أو كأنهما حزقان من طير صواف تحاجّان عن صاحبهما» «9» وعن أبي الدرداء أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «من حفظ عشر آيات من أوّل سورة الكهف عصم من الدجال» «10» وعن أبي الدرداء أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «سورة قل هو الله أحد تعدل ثلث القرآن» «11» وعن عقبة بن عامر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ألم تر آيات أنزلت عليّ لم ير مثلهنّ قط: قل أعوذ برب الفلق، وقل أعوذ برب الناس» «12» .

_ (1) . متفق عليه نقلا عن النووي. (2) . رواه أحمد في مسنده ص 522/ 1. (3) . رواه البخاري عن رياض الصالحين. (4) . رواه مسلم عن عمر بن الخطاب عن رياض الصالحين. (5) . رواه مسلم نقلا عن رياض الصالحين. [.....] (6) . رواه أحمد 5/ 314. (7) . رواه مسلم ص 539/ 1 من كتاب صلاة المسافرين. (8) . رواه مسلم ص 556/ 1. (9) . رواه مسلم ص 554/ 1. (10) . رواه مسلم. (11) رواه مسلم ص 556/ 1. (12) رواه مسلم ص 558/ 1.

المقدمة الثانية

المقدمة الثانية في تفسير معاني اللغات نذكر في هذه المقدمة الكلمات التي يكثر دورها في القرآن، أو تقع في موضعين فأكثر من الأسماء والأفعال والحروف، وإنما جمعناها في هذا الباب لثلاثة فوائد: أحدها: تفسيرها للحفظ فإنها وقعت في القرآن متفرّقة فجمعها أسهل لحفظها، والثانية: ليكون هذا الباب كالأصول الجامعة لمعاني التفسير لما أن تآليف القرآن جمعت فيها الأصول المطردة والكثيرة الدور، والثالثة: الاقتصار فنستغني بذكرها هنا عن ذكرها في مواضعها من القرآن خوف التطويل بتكرارها، وربما نبهنا على بعضها للحاجة إلى ذلك، ورتبناها في هذا الكتاب على حروف المعجم، فمن لم يجد تفسير كلمة في موضعها من القرآن: فلينظر في هذا الباب، واعتبرنا في هذه الحروف: الحرف الذي يكون فاء الكلمة وهو الأصلي دون الحروف الزائدة في أوّل الكلمات. حرف الهمزة آية لها معنيان أحدهما: علامة وبرهان والثاني: آية من القرآن، وهي كلام متصل إلى الفاصلة، والفواصل هي رؤوس الآيات أتى بقصر الهمزة معناه جاء، ومضارعه يأتي، ومصدره إتيان، واسم الفاعل منه آت، واسم المفعول منه مأتي، ومنه قوله تعالى آتى بمدّ الهمزة معناه أعطى، ومضارعه يؤتي، واسم الفاعل مؤت، ومنه والمؤتون الزكاة أبى يأبى أي امتنع أثر الشيء بقيته وأمارته، وجمعه آثار والأثر أيضا الحديث، وأثارة من علم بقية، وأثاروا الأرض حرثوها وأثر الرجل الشيء يؤثره فضّله إثم ذنب، ومنه آثم وأثيم أي مذنب أجر ثواب وبمعنى الأجرة، ومنه استأجره وعلى أن تأجرني، وأما استجارك فأجره ويجركم من عذاب أليم، ومن يجيرني من الله، وهو يجير ولا يجار عليه: فذلك كله من الجوار بمعنى التأمين آمن إيمانا أي صدق، والإيمان في اللغة التصديق مطلقا، وفي الشرع التصديق بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، والمؤمن في الشرع المصدّق بهذه الأمور، والمؤمن اسم الله تعالى: أي المصدّق لنفسه وقيل إنه من الأمن: أي يؤمن أوليائه من عذابه، وأمن بقصر الهمزة وكسر الميم أمنا وأمانة: ضدّ الخوف وأمن من الأمانة، وأمّن غيره من التأمين أليم مؤلم أي موجع ومنه تألمون إمام له أربعة معان: القدوة والكتاب، والطريق، وجمع أمّ أي تابع، وهي للمتقين إماما أمّة لها أربعة معان: الجماعة من الناس، والدين والحين، والإمام أي القدوة أميّ لا يقرأ ولا يكتب، ولذلك وصف العرب بالأميين أم لها معنيان الوالدة،

والأصل، وأمّ القرى مكة أخرى مؤنثة آخر وآخر آل له معنيان الأهل، ومنه آل لوط، والأتباع والجنود، ومنه آل فرعون أمس اليوم الذي قبل يومك والزمان الماضي إناه: وقته، وجمعه إنا ومنه آناء الليل أمر له معنيان: أحدهما: طلب الفعل على الوجوب أو الندب أو الإباحة، وقد تأتي صفة الأمر لغير الطلب، والتهديد، والتعجيز، والتعجب والخبر، والثاني: بمعنى الشأن والصفة، وقد يراد به العذاب، ومنه جاء أمرنا إسرائيل هو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليه السلام وهو والد الأسباط واليهود ذريتهم إياب رجوع ومنه مآب أي مرجع، ورجل أوّاب كثير الرجوع إلى الله، والتأويب التسبيح، «يا جبال أوّبي» [سبأ: 10] إفك أشدّ الكذب، والأفاك: الكذاب، وأفك الرجل عن الشيء: أي صرف عنه، ومنه تؤفكون أوى الرجل إلى الموضع بالقصر، وآواه غيره بالمدّ، ومنه المأوى أف كلمة شر آلاء الله نعمه، ومنه آلاء ربكما أسف له معنيان: الحزن، والغضب، ومنه: فلما آسفونا أسوة بكسر الهمزة وضمها قدوة أسى الرجل يأسى أسا: أي حزن، ومنه: فلا تأس، وكيف آسى أذان بالقصر إعلام بالشيء ومنه الأذان بالصلاة، والآذان بالمدّ: جمع أذن إذن الله بمعنى العلم والإرادة والإباحة، وأذنت بالشيء أعلمت به بكسر الذال، وآذنت به غيري بالمدّ إصر له معنيان، الذنب، والعهد. وأصرّ على الذنب يصرّ إصرارا: دام عليه ولم يتب منه. أيد أي قوّة، ومنه أيدناه، وبنيناها بأيد، والأيدي جمع يد، فهمزتها زائدة أكل بضم الهمزة اسم المأكول، ويجوز فيه ضم الهمزة وإسكانها، والأكل بضم الهمزة المصدر أيلة غيضة أثاث متاع البيت أجاج مرّ أرائك أسرّة واحدها أريكة آنية له معنيان أحدهما: جمع إناء، ومنه: آنية من فضة، وشديدة الحر، ومنه: عين آنية، ووزن الأولى أفعلة، والثانية فاعلة ومذكرها آن أحد له معنيان واحد، ومنه: الله أحد واسم جنس بمعنى إنسان أيّان معناه متى أنى بمعنى كيف ومتى وأين للحصر إن المكسورة المخففة أربعة أنواع شرطية ونافية وزائدة ومخففة من الثقيلة أن المفتوحة المخففة أربعة أنواع مصدرية وزائدة ومخففة من الثقيلة وعبارة عن القول إنما نوعان ظرف زمان مستقبل ومعناها الشرط وقد تخلو عن الشرط ومجانبة إذا لها معنيان: ظرف زمان ماضي وسببية للتقليل أو العاطفة لها خمسة معان: الشك، والإبهام، والإباحة، والتخيير، والناصبة للفعل بمعنى إلى أو إلّا أم استفهامية وقد يكون فيها معنى الإنكار والإضراب وتكون متصلة للمعادلة بين ما قبلها وما بعدها ومنفصلة مما قبلها إما المكسورة المشدّدة للتنويع، والشك والتخيير، وقد تكون مركبة من إن الشرطية وما الزائدة إلّا المفتوحة المشدّدة أداة استثناء وتكون للإيجاب بعد غير الواجب، وتكون مركبة من إن الشرطية ولا النافية أيّ المشدّدة سبعة أنواع: شرطية، واستفهامية وموصولة، ومنادى، وصفة، وظرفية إذا أضيفت إلى ظرف، ومصدرية إذا أضيفت إلى مصدر إي المكسورة المخففة ومعناها التصديق إلى معناه انتهاء الغاية، وقيل تكون بمعنى مع الهمزة للاستفهام، والتقرير، والتوبيخ، والتسوية، وللمتكلم وأملية، وزائدة للبناء) «1» .

_ (1) . انظر المغني اللبيب ج 1/ 18.

حرف الباء

حرف الباء باري خالق، ومنه البرية أي الخلق بعث له معنيان بعث الرسل وبعث الموتى من القبور بسط الله الرزق وسعه ومعنى قبض وقدر الرزق: أي ضيقه، ومن أسماء الله تعالى: القابض والباسط، وبسطة: زيادة بشّر: من البشارة وهي الإعلام بالخير قبل وروده، وقد يكون للشر إذا ذكر معها، ويجوز في الفعل التشديد والتخفيف، ومنه المبشر والبشير، واستبشر بالشيء فرح به بعد: له معنيان ضدّ القرب والفعل منه بعد بضم العين، والهلاك والفعل منه بكسرها ومنه كما بعدت ثمود بلاء: له معنيان: العذاب، والاختبار ومنه أيضا ونبلوكم برّ: له معنيان: الكرامة ومنه برّ الوالدين وأن تبروهم، والتقوى، والجمع لخصال الخير ومنه: البرّ من اتقى، ورجل بارّ وبرّ والجمع أبرار والبرّ من أسماء الله تعالى بات: معروف ومصدره بيات وبيّت الأمر دبّره بالليل بغتة: فجأة بروج: جمع برج وهو الحصن، وبروج السماء منازل الشمس والقمر بين: ظرف وبين يدي الشيء ما تقدّم قبله، والبين الفراق والاجتماع لأنه من الأضداد بينات: براهين من المعجزة وغيرها ومبيّنة من البيان يبين: من البيان وله معنيان: بيّن غير متعد، ومبين لغيره بدا: يبدو بغير همز: ظهر، وأبديته: أظهرته، والبادي أيضا من البداية، ومنه: بادون في الإعراب بدأ: بالهمزة من الابتداء ويقال بدأ الخلق وأبدأه، وقد جاء القرآن بالوجهين بغي: له معنيان: العدوان على الناس، والحسد، والبغاء بكسر الباء: الزنا، ومنه: امرأة بغيّ أي زانية، وابتغاء الشيء وبغاه: أي طلبه بثّ: الحديث وغيره نشره، والمبثوث: المنتشر، مبثوثة متفرقة، والبثّ: الحزن الشديد، ومنه أشكو بثي بوّأ: أنزل الرجل ومنه: بوّأكم في الأرض، ولنبوأنهم، ومبوّأ بوار: هلك، ومنه قوما بورا أي هلكى باء: بالشيء رجع به، وقد يقال بمعنى اعترف بأساء: الفقر والبؤس والشدّة والمحنة، والبائس: الفقير من البؤس، والبأس: القتال والشجاعة، والمكروه، وبأس الله عذابه وبئس كلمة ذمّ برزخ: شيء بين شيئين، والبرزخ ما بين الموت والقيامة بديع: له معنيان جميل، ومبدع أي خالق الشيء ابتداء بسر: عبس ومنه: باسرة بصير: من أبصر، يقال: أبصرته وبصرته، والبصائر: البراهين جمع بصيرة برز: ظهر ومنه: بارزة وبارزون بطش: أخذ بشدّة بخس: نقص بعل: له معنيان زوج المرأة وجمعه بعولة، والبعل أيضا: الرب، وقيل اسم صنم، ومنه: أتدعون بعلا بهجة: حسن، وبهيج حسن مبلسون جمع مبلس وهو البائس، وقيل: الساكت الذي انقطعت حجته، وقيل: الحزين النادم، منه يبلس ومنه اشتق إبليس بهت: انقطعت حجته تبارك: من البركة، وهي الكثرة والنماء، وقيل: تقدّس بلى: جواب يقتضي إثبات الشيء بل: معناها الإضراب عما قبلها الباء: للإلصاق، ولنقل الفعل في التعدّي، وللقسم، وللتعليل، وللمصاحبة، وللاستعانة، وظرفية وزائدة. حرف التاء تلا يتلو: له معنيان: قرأ، واتبع تقوى: مصدر مشتق من الوقاية فالتاء بدل من الواو معناه: الخوف والتزام طاعة الله وترك معاصيه، فهو جامع لكل خير تاب:

حرف الثاء

يتوب رجع توبة وتوبا فهو تائب، وتوّاب: كثير التوبة، وتوّاب: اسم الله تعالى: أي كثير التوبة على عباده، وتاب الله على العبد: ألهمه التوبة وقبل توبته تباب: خسران، وتب: خسر تبار: هلاك، ومنه متبرّ أترفوا: أنعموا، والمترفون: المنعمون في الدنيا. حرف الثاء ثمود قبيلة من العرب الأقدمين ثوى: في الموضع: أقام فيه ومنه مثوى ثبور: هلاك، ومنه: دعوا هنالك ثبورا أي صاحوا هلاكا ثمر: ما يؤكل مما تنبت الأرض ويقال بالفتح والضم ثقفوا: أخذوا وظفر بهم، ومنه: فإمّا تثقفنّهم في الحرب ثاقب: مضيء ثم: بالفتح ظرف، وبالضم حرف عطف يقتضي الترتيب والمهلة، وقد يرد لغير الترتيب، كالتأكيد، وترتيب الأخبار. حرف الجيم جعل له أربعة معان: صيّر، وألقى، وخلق، وأنشأ يفعل كذا جناح: الطائر: معروف وجناح الإنسان إبطه، ومنه: اضمم إليك جناحك، ولا جناح: لا إثم فمعناه الإباحة، وجنح للشيء مال إليه لا جرم: لا بد اجتبى: أختار جدال: مخالفة ومخاصمة واحتجاج تجأرون: تصيحون بالدعاء جواري: جمع جارية وهي السفينة أجرم: فهو مجرم، له معنيان: الكفر، والعصيان جنة: الجنون، وقد جاء بمعنى الملائكة جانّ: له معنيان: الجن والحية الصغيرة جنة: بالفتح البستان، وبالكسر الجنون، وبالضم الترس وما أشبهه مما يستتر به، ومنه استعير: أيمانهم جنة جاثية: أي على ركبهم لا يستطيعون مما هم فيه وقوله جثيا جمع جاث الجرز: الأرض التي لا نبات فيها جاثمين: باركين على ركبهم جبار: اسم الله تعالى له معنيان: قهار، ومتكبر. وقد يكون من الجبر للكسير وشبهه، والجبار أيضا الظالم أجداث: قبور جزى: له معنيان من الجزاء بالخير والشر وبمعنى أغنى، ومنه: لا تجزي نفس. وأما أجزأ بالهمز فمعناه: كفى جرح: له معنيان من الجروح وبمعنى الكسب والعمل، ومنه: جرحتم بالنهار، واجترحوا السيئات. ولذلك سميت كلاب الصيد: جوارح لأنها كواسب لأهلها جنب: له معنيان: من الجنابة وبمعنى البعد. ومنه: عن جنب. حرف الحاء حمد هو الثناء، سواء كان جزاء على نعمة أو ابتداء، والشكر إنما يكون جزاء، فالحمد من هذا الوجه أعم، والشكر باللسان والقلب والجوارح، ولا يكون الحمد إلّا باللسان، فالشكر من هذا الوجه أعم حميد: اسم الله تعالى أي بمعنى محمود حكمة: عقل أو علم، وقيل في الكتاب والحكمة هي السنة حكيم: اسم الله من الحكمة، ومن الحكم بين العباد، أو من إحكام الأمور وإتقانها حليم: الحلم: العقل وقد يقال بمعنى العفو، والأحلام العقول، والحليم من أسماء الله تعالى، قيل الذي لا يعجل بالعقوبة على من عصاه، وقيل: معناه العفو عن الذنوب، والأحلام ما يرى في النوم حبط: بطل وأحبطه الله أبطله حنيف: مسلم وموحد الله، وقيل حاجّ،

وقيل مختتن، والجمع حنفاء محصنين ومحصنات: الإحصان له أربع معان: الإسلام والحرّية، والعفاف، والتزوّج وليحصنكم من بأسكم: بغيكم حجة: بالضم: دليل وبرهان وحاجّ فلان فلانا: جادله، وحجة عليه: بالحجة، والحج بالفتح والكسر: القصد، ومنه أخذ: حجّ البيت، وحجة بالكسر: سنة، وجمعها حجج حطة: أي حط عنا ذنوبنا، وقيل: كلمة بالعبرانية تفسيرها لا إله إلّا الله حضر: بالضاد من الحضور، ومنه محضرون، وشرب محتضر، وبالظاء: من المنع، ومنه: وما كان عطاء ربك محظورا، وكهشيم المحتظر، وبالذال من الحذر وهو الخوف، ومنه: إنّ عذاب ربك كان محذورا حفظ: العلم: وعيه وحفظ الشيء حراسته، والحفيظ: اسم الله تعالى، قيل معناه العليم، وقيل حافظ الخلق كالئهم من المهالك حاق: بهم أي حل بهم حبل: من الله ومن الناس، أي عهد، وحبل الله القرآن وأصله بالحبل المعروف حسب: بكسر السين: ظن، مضارعه بالفتح والكسر وحسب بالفتح: من العدد ومضارعه بالضم، ومنه الحساب والحسبان، وحسبانا من السماء: أي مرام، وإحداها: حسبانة حساب: من الظن والعدد، وبغير حساب: يحتمل الوجهين، وأن يكون من المحاسبة أن لا يحاسب عليه، ومن التقدير: أي بغير تضييق، وعطاء حسابا: أي كافيا حسيب: اسم الله تعالى، فيه أربعة أقوال: كافي، وعالم، وقادر، ومحاسب حسبك الله: أي كافيك حزن: تأسف على ماض أو حال الخوف ترفع في المستقبل، ويقال حزن بكسر الزاي، وحزنه غيره، وأحزنه أيضا حصير: مجلس من الحصر، وأحصر عن الشيء: حبس عنه، وحسير بالسين: كليل حصيد: هو ما يحصد من الزرع وغيره، واستعير: قائم وحصيد، أي باق وذاهب حميم: له معنيان: الصديق، والماء الحار محيص: مهرب حجر: له أربعة معان: الحرام، والعقل، ومنازل ثمود، وحجر الكعبة حمل: بكسر الحاء: ما على ظهر الدابة وغيرها، ويستعار للذنوب، وبالفتح: ما في بطن المرأة، وجمعه أحمال إحسان: له ثلاث معان: فعل الحسنات، والإنعام على الناس، ومراقبة الله تعالى المشار إليها في قوله صلّى الله عليه وسلّم: «الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه» «1» حق: له أربعة معان: الصدق، والعدل في الحكم، والشيء الثابت، والأمر الواجب والحق: اسم الله تعالى: أي الواجب الوجود حاصب: أي ريح شديدة سمّيت بذلك لأنها ترمي بالحصباء أي الحصى، والحاصب أيضا: الحجارة حلية: حلى حرج: ضيق أو مشقة حول: له معنيان: العام، والحيلة، وحولا بكسر الحاء: انتقالا حرث: الأرض مصدر، ثم استعمل بمعنى الأرض والزرع والجنات حس: بغير ألف قتل ومنه: إذ تحسونهم، وأحس من الحس حرم: بضمتين محرمون بالحج حقب: بضمتين، وأحقاب جمع حقب، وهو مدّة من الدهر يقال إنه:

_ (1) . من حديث مشهور رواه مسلم عن عمر بن الخطاب. انظره في الأربعين النووية.

حرف الخاء

ثمانون سنة حفّ: الشيء بالشيء أطاف به من جوانبه، ومنه: حففناهما بنخل، والملائكة حافين حل: بالمكان يحل بالضم والكسر، وحلّ من إحرامه يحل بالكسر لا غير حطام: فتات، والحطام ما تحطم من عيون الزرع اليابس. حرف الخاء خلق له معنيان: من الخلقة ومن الخالق اسم الله، وكذا الخلاق. وخلّق الرجل: كذب ومنه: تخلقون إفكا. واختلاق: أي كذب خلاق: نصيب خير: ضدّ الشر، وله أربعة معان: العمل الصالح والمال، والخيرة، والتفضيل بين شيئين خلا: له معنيان: من الخلوة، وبمعنى ذهب ومنه: أمّة قد خلت خطيئة: ذنب، وجمعه خطايا وخطيات، والفعل منه خطىء فهو خاطئ، وأما الخطأ بغير عمد فالفعل منه: أخطأ خاسئين: مطرودين من قولك: خسأت الكلب ومنه: اخسئوا فيها خلف: بفتح الخاء وإسكان اللام، وله معنيان وراء، ومن خلف خلفه: بشر، فإذا خلفه بخير قيل بفتح اللام خلاف: له معنيان من المخالفة، وبمعنى بعد، أو دون، ومنه: بمقعدهم خلاف رسول الله خوّل: أعطى خلة: بضم الخاء: مودّة، ومنه الخليل، وجمعه أخلّاء خلال: له معنيان: وداد، ومنه: لا بيع فيه ولا خلال، وبمعنى: بين، ومنه: خلال الديار، وخلالكم خرّ: يخرّ سقط على وجهه خامدون: هالكون، وأصله: من خمود النار خطب: الخطب: سبب الأمر والخطب أيضا الأمر العظيم. وخطبة النساء بالكسر، وخطبة الخطيب بالضم يخرصون: يكذبون، ومنه: يخرصون والخرص أيضا: التقدير وقيل: يخرصون منه: أي يقولون بالظن من غير تحقيق خوّان: كثير الخيانة مختال: من الخيلاء مخمصة: من الخمص وهو الجوع أخدان: جمع خدن وهو الخليل خراج: وخرج: أي أجرة وعطية. حرف الدال دين له خمسة معان: الملة، والعادة، والجزاء، والحساب، والقهر دأب: له معنيان: عادة، وجدّ، وملازمة، ومنه: سبع سنين دأبا: متتابعة للزراعة من قولك: دأبت على الشيء: دمت عليه أدنى: له معنيان: أقرب من الدنوّ، وأقل فهو من: الداني، الحقير دار السلام: الجنة دوائر: صروف الدهر، واحدها دائرة، ومنه دائرة السّوء دعاء: له خمسة معان: الطلب من الله، والعبادة، ومنه: تدعون من دون الله، والتمني: ولهم فيها ما يدّعون، والنداء: ادعوا شهداءكم، والدعوة إلى الشيء: ادع إلى سبيل ربك دابة: كل ما يدب فيجمع جميع الحيوان دحور: إبعاد، ومنه المدحور: المطرود دعّ: بتشديد العين، يدعّ: أي دفع بعنف، ومنه يدّع اليتيم، ويدّعون إلى نار جهنم دعا درأ: دفع، ومنه يدرؤون مدرارا: من: درّ المطر، إذا صب داخرين: صاغرين دكّت: الأرض: أي: دقت جبالها حتى استوت مع وجه الأرض ومنه: جعله دكّا: أي مستويا مع الأرض. حرف الذال ذكر له أربعة معان: ضد النسيان،

حرف الراء

والذكر باللسان، والقرآن، ومنه: نزلنا الذكر، والشرف ومذكّر مفعّل من الذكر ذنوب: بضم الذال: جمع ذنب، وبالفتح النصيب، ومنه ذنوبا مثل ذنوب أصحابهم: أي نصيبا من العذاب، والذنوب أيضا: الدلو ذبح: بكسر الذال: المذبوح، وبالفتح: المصدر ذرأ: خلق ونشر ذلول: مذللة للعمل من الفك «1» ومنه: ذللناهم لهم، ورجل ذلول: من الذل بالضم، وذللت قطوفها أدنيت أذقان: جمع ذقن. حرف الراء ربّ له أربعة معان: الإله، والسيد، والمالك الشيء، والمصلح للأمر ريب: شك، ومنه: ارتابوا. ومريب، وريب المنون: حوادث الدهر رجع: يستعمل متعديا بمعنى ردّ وغير متعد، والمرجع: اسم مصدر أو زمان أو مكان من الرجوع رعى: له معنيان: من النظر، ومن رعي الغنم روح: له أربعة معان: للنفس التي بها الحياة: يسألونك عن الروح، والوحي: ينزّل الملائكة بالروح، وجبريل: نزل به الروح الأمين، وملك عظيم: تنزّل الملائكة والروح، وروح بفتح الراء: رائحة طيبة، والريحان: الرزق، وقيل الشجر المعروف ركام: بعضه فوق بعض، ومنه مركوم، ويركمه رجا: طمع وقد يستعمل في الخوف، ومنه لا يرجون لقاءنا رجال: جمع رجل، وجمع راجل: أي غير راكب، ومنه: يأتوك رجالا، ومثله: بخيلك ورجلك رفث: له معنيان:

_ (1) . كذا في الأصل ولعل الصواب: الذل. الجماع، والكلام بهذا المعنى رجز: عذاب: والرجز فاهجر: فهي الأوثان والرجس بالسين: النجس حقيقة، أو مجازا، وقد يستعمل بمعنى العذاب رهب: خوف، ومنه: يرهبون رؤوف: من الرأفة وهي الرحمة إلّا أنّ الرأفة في دفع المكروه، والرحمة في دفع المكروه وفعل الجميل، فهي أعم من الرأفة مرضاة: مفعلة من الرضا راسيات: ثابتات، ومنه: قيل للجبال: رواسي، ومنه: مرساها رغدا: أي كثيرا ربوة: مكان مرتفع ربا: هو في اللغة الزيادة، ومنه: ويربي الصدقات، وربت الأرض: انفتحت أرحام: جمع رحم، وهو فرج المرأة «2» ويستعمل أيضا في القرابة أرجئه: أخره، ومنه: ترجي ويرجون، ويجوز فيه الهمز وتركه رأى: من رؤية العين يتعدّى إلى واحد، ومن رؤية القلب بمعنى العلم: يتعدّى إلى مفعولين تربص: انتظر رفات: فتات. أرذل العمر: الهرم، والأرذلون: من الرذالة رقي: من الرقية بفتح القاف، ومنه: وقيل من راق، ورقي في السلم بالكسر في الماضي والفتح في المستقبل أرداكم: أهلككم، والردى الهلاك، ومنه: تردين، وتردى رجفة: زلزلة وشدّة. حرف الزاي زبر بضمتين ككتب، والزبور: كتاب داود عليه السلام زخرف: زينة، والزخرف أيضا: الذهب زكاة: له في اللغة معنيان: الزكاة، والطهارة، ثم استعمله الشرع في (2) . بل الصواب هو مقر الجنين في أسفل بطن المرأة.

حرف السين

إعطاء المال، وهو من الزيادة، لأنه يبارك له فيه فيزيد، أو من الطهارة لأنه يطهره من الذنوب، وزكيت الرجل: أثنيت عليه، وزكا هو مخففة أي: صار زكيا زوج: له ثلاث معان: الرجل، والمرأة، وقد يقال زوجة، والمعنى: الصنف والنوع، ومنه: أزواج من نبات، ومن كل زوج كريم زلّ: له معنيان: زلّ القدم عن الموضع، وفعل الزلل زاغ: عن الشيء زيغا: مال عنه، وأزاغه غيره: أماله زلفى: قربى، وأزلفت: قربت، وزلفا من الليل: ساعات زعم: أي ادّعى، ولم يوافقه غيره، قال ابن عباس: زعم كناية عن كذب زعيم: ضامن تزجي: تسوق زلزلة الأرض: اهتزازها، وتستعمل بمعنى الشدّة والخوف، ومنه: زلزلوا زجرة واحدة: صيحة بمعنى نفخة الصور، والزجرة: الصيحة بشدّة وانتهار، وازدجر: من الزجر. حرف السين أسباط جمع سبط وهم ذرية يعقوب عليه السلام كان له اثنا عشر ولدا ذكرا، فأعقب كل واحد منهم عقبا. والأسباط في بني إسرائيل كالقبائل في العرب سبيل: هو الطريق، وجمعه سبل، ثم استعمل في طريق الخير والشر، وسبيل الله: الجهاد. وابن السبيل، الضيف وقيل القريب سوّى: بالتشديد له معنيان: من التسوية بين الأشياء وجعلها سواء، وبمعنى أتقن وأحسن، ومنه: فسوّاك فعدلك سواء: بالفتح والهمز من التسوية بين الأشياء، وسواء الجحيم: وسطها، وسواء الصراط قصد الطريق سوى: بالكسر والضم مع ترك الهمزة استثناء، وقد يكون من التسوية سفهاء: جمع سفيه وهو الناقص العقل، وأصل السّفه: الحمق ولذلك قيل لمبذر المال: سفيه، وللكفار والمنافقين: سفهاء سلوى: طائر يشبه السماني، وكان ينزل على بني إسرائيل مع المنّ سأل: له معنيان طلب الشيء، والاستفهام عنه، وسال بغير همز: من المعنيين المذكورين، ومن السيل سبحان: تنزيه، وسبحان الله: أي نزهته عما لا يليق به من الصاحبة والولد والشركاء والأنداد وصفات الحدوث وجميع العيوب والنقائص سار: يسير مشى ليلا أو نهارا سرى يسري: مشي ليلا، ويقال أيضا: أسرى بألف سخر: يسخر بالكسر في الماضي والفتح في المضارع: أي استهزأ، وسخر بالتشديد من التسخير سخريّا: بضم السين من السخرة وهي تكليف الأعمال، وبالكسر من الاستهزاء سلطان: له معنيان البرهان، والقوة، ومنه: لا تنفذون إلا بسلطان. سام يسوم: أي كلف الأمر وألزمه ومنه يسومونكم سوء العذاب وأصله من سوم السلعة في البيع سئم: يسأم: أي ملّ، ومنه: وهم لا يسأمون سنة: أي عادة سلف: الأمر: أي تقدّم، وأسلفه الرجل: أي قدّمه، ومنه: هنيئا بما أسلفتم سرّاء: فعلاء من: السرور سارع: إلى الشيء: بادر إليه سوءة: عورة، والسوء: ما يسوء بالفتح والضم، والسوأى: فعلاء من السوء، وسيء بهم: فعل بهم السوء سنة: بفتح السين: عام، ولامها محذوفة وجمعها سنون وقد تقال بمعنى الحفظ «1» والجدب سنة: بكسر

_ (1) . صوابها القحط.

حرف الشين

السين: ابتداء النوم وفاؤها واو محذوفة لأنها من الوسن سلك: يسلك: له معنيان: أدخل ومنه اسلك يدك وسلكه ينابيع، ومنه: سلوك الطريق، أسفار جمع سفر بفتحتين وجمع سفر وهو الكتاب. ساح يسيح فسيحوا في الأرض. والسائحون: الصائمون سوّل: بتشديد الواو: زيّن، ومنه: سوّلت لكم أنفسكم أمرا سرابيل: جمع سربال وهو القميص سبأ: قبيلة من العرب سموم: شدّة الحر سلام: له ثلاثة معان: التحية، والسلامة، والقول الحسن، ومنه: إذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما سلام: اسم الله تعالى معناه: السلامة من كل نقص، فهو من أسماء التنزيه، وقيل: سلّم العباد من المهالك، وقيل: ذو السلام على المؤمنين في الجنة سلّم: بفتحتين: انقياد وإلقاء باليد، وهو أيضا: بيع سلّم: بفتح السين وإسكان اللام: صلح ومهادنة سلّم: بكسر السين وإسكان اللام ومعناه الإسلام، وبضم السين وفتح اللام مشدّدة: هو الذي يصعد فيه أسلم يسلم له ثلاث معان: الدخول في الإسلام، والإخلاص لله، والانقياد، ومنه: فلما أسلما سعى يسعى، له ثلاث معان: عمل عملا، ومنه: وأن ليس للإنسان إلّا ما سعى، ومشى، ومنه: فاسعوا إلى ذكر الله، وأسرع في مشيه، ومنه: رجل يسعى سكن يسكن له معنيان: من السكون ضد الحركة، ومن السكنى في الموضع سكينة: وقار وطمأنينة سائغ: سهل الشرب لا يغصّ به من شربه سابغات: دروع واسعات أساطير الأوّلين: ما كتبه المتقدّمون مسيطر: أي مسلط، وأم هم المسيطرون: الأرباب سندس: وإستبرق: ثياب حرير، قيل: السندس رقيق الديباج، والإستبرق: صفيقه سحقا: بعدا، ومنه مكان سحيق: أي بعيد سعير: جهنم، وسعرت: أوقدت سبب: وجمعه أسباب له خمسة معان: الحبل، ومنه: فليمدد بسبب إلى السماء، والاستعارة من الحبل في المودّة والقرابة، ومنه: وتقطعت بهم الأسباب، والطريق ومنه: فأتبع سببا، والباب ومنه: أسباب السموات، وسبب الأمر: موجبه. حرف الشين شعر بالأمر يشعر: أي علمه، والشعور: العلم من طريق الحس، ومنه: لا يشعرون شهد يشهد له معنيان: من الشهادة على الشيء، ومن الحضور، ومنه الشهادة في سبيل الله شكرا: قد تقدّم في الحمد والشكر، والشكور: اسم الله المجازي لعباده على أعمالهم بجزيل الثواب، وقيل: المثني على العباد شرى: أي باع، وقد يكون بمعنى اشترى شقاق: عداوة ومعاندة، ومنه: ومن يشاقق الله شهاب: كوكب، وقد يطلق على شعلة النار شجر: هو كل ما ينبت في الأرض، وشجر بينهم: أي اختلفوا فيه شنآن: عداوة وشر، ويجوز فيه فتح النون وإسكانها شرع الله الأمر: أي أمر به، والشريعة والشرعة: الملة، وشرعة الماء: في الدواب «1» ، شعائر الله: معالم دينه، واحدها شعيرة أو شعارة شرك: له معنيان: من الإشراك، وهو أيضا النصيب، ومنه: أم لهم شرك

_ (1) . في الكلام نقص والله أعلم. شرعة الماء: هي مكان الورود والشرب.

حرف الصاد

في السموات شركاء: جمع شريك مشحون: أي مملوء. حرف الصاد صراط هو في اللغة: الطريق ثم استعمل في القرآن بمعنى: الطريقة الدينية، وأصله بالسين ثم قلبت صادا لحرف الإطباق بعدها، وفيه ثلاث لغات: بالصاد، والسين، وبين الصاد والزاي صلاة: إذا كانت من الله فمعناها رحمة، وإذا كانت من المخلوق فلها معنيين: الدعاء، والأفعال المعلومة صوم: أصله في اللغة: الإمساك مطلقا، ثم استعمل شرعا في الإمساك عن الطعام والشراب، وقد جاء بمعنى الصمت في قوله: إني نذرت للرحمن صوما، لأنه إمساك عن الكلام صدقة: يطلق على الزكاة الواجبة، وعلى التطوّع، ومنه: إن المصدّقين والمصدقات، وأما: «أإنك لمن المصدّقين» بالتخفيف فهو من التصديق صدقة: بضم الدال صداق المرأة، ومنه: وآتوا النساء صدقاتهنّ نحلة. والصدق في القول: ضدّ الكذب، والصدق في الفعل صدق النية فيه، والصدق في القصد: العزم الصادق صعد يصعد: أي ارتفع، وأصعد بالألف يصعد بالضم: أي أبعد في الهروب، ومنه: إذ تصعدون، صعيدا طيبا: أي ترابا، والصعيد: وجه الأرض صدّ: له معنيان فالمتعدّي بمعنى: منع غيره من شيء، ومصدره صدّ، ومضارعه بالضم، وغيره بمعنى أعرض ومصدره صدود صار له معنيان: من الانتقال ومنه: تصير الأمور، والمصير، وبمعنى: ضم، ومضارعه يصور ومنه: فصرّهن إليك صاعقة: له ثلاثة معان: الموت، وكل بلاء يصيب، وقطعة نار تنزل من شدّة الرعد والمطر، وجمعها صواعق صواع: مكيال وهو السقاية والصاع، وسواع بالسين اسم صنم صابئين: قوم يعبدون الملائكة ويقولون: إنها بنات الله. وقيل: إنهم يرون تأثير الكواكب. وفيه لغتان. الهمز وتركه. من صبأ إلى الشيء: إذا مال إليه تصطلون: تفتعلون من: صبأ بالنار إذا تسخن بها، والطاء بدل من التاء اصطفى: أي اختار. وأصله من الصفي. أي اتخذه صفيا صغار: بفتح الصاد ذلة. ومنه صاغرون. والصغير ضدّ الكبير صدف عن الشيء يصدف أعرض عنه صريخ: مغيث ومنه: ما أنا بمصرخكم صلصال: طين يابس. فإذا مسته النار فهو فخّار صرح: قصر وهو أيضا: البناء العالي. حرف الضاد ضرب له أربعة معان: من الضرب باليد وشبهه. ومن ضرب الأمثال. ومن السفر. ومنه: ضربتم في الأرض. ومن الالتزام. ومنه: ضربت عليهم الذلة. أي ألزموها، وضربنا على آذانهم: أي ألقينا عليهم النوم. و «أفنضرب عنكم الذكر» أي نمسك عنكم الذكر ضاعف الشيء: كثّره. ويجوز فيه التشديد وضعف الشيء بكسر الضاد مثلاه، وقيل: مثله. والضعف أيضا: العذاب. والضعف: بالضم ويجوز فيه الفتح ضرّ بفتح الضاد وضمها بمعنى واحد. وكذلك الضير بالياء. ومنه: لا يضركم كيدهم. والضرّ: ما يصيب من المرض وشبهه ضحى: أوّل النهار. والفعل منه: أضحى. وأما ضحي بكسر الحاء يضحى في المضارع. فمعناه: برز للشمس وأصابه حرّها. ومنه: لا تظمأ

حرف الطاء

فيها ولا تضحى ضيف: يقال للواحد والاثنين والجماعة ضيق: بكسر الضاد مصدر. وبفتحها مع إسكان الياء: تخفيف من ضيّق المشدّد: كميّت وميت. حرف الطاء طبع ختم، والخاتم الطابع طول: بفتح الطاء: فضل أو غنى طائر: له معنيان: من الطيران ومن الطيرة طوى: قيل اسم الوادي، وقيل معناه: مرتين، أي قدس الوادي مرتين طهارة: له معنيان: الطهارة بالماء، ومنه: جنبا فاطّهروا، والماء الطهور، وهو المطهر، والطهارة من القبائح والرذائل، ومنه: أناس يتطهرون. طيّب: له معنيان: اللذيذ، والحلال طوفان: السيل العظيم طاغوت: أصنام وشياطين، ويكون مفردا أو جمعا، والطاغوت أيضا: رؤوس النصارى على قول طباق: بعضها على بعض، وطبقا عن طبق: حالا بعد حال طور: جبل وهو الطور طفق: يفعل كذا: أي جعل يفعله طائفين: من الطواف، وطائف من الشيطان: لمم، وقرئ طيف. حرف الظاء ظهر الأمر: بدا، وأظهره غيره: أبداه، وظهير: معين ظاهر الرجل من امرأته، وتظاهر، وتظهّر: أي قال لها: أنت عليّ كظهر أمي، وهو الظاهر ظهر البيت: أعلاه، وظهرته: أي ارتفعت عليه، ومنه: فما استطاعوا أن يظهروه ظلم: وقع في القرآن على ثلاثة معان: الكفر، والمعاصي، وظلم الناس: أي التعدي عليهم ظنّ: له ثلاثة معان: التحقيق، وغلبة أحد الاعتقادين، والتهمة ظمئ: عطش ظلال: جمع ظل، وظلل بالضم جمع: ظلة، وهي ما كان من فوقه، وظلّ بالنهار: بمنزلة بات بالليل. حرف العين عاذ بالله يعوذ أي: استجار به ليدفع عنه ما يخاف، ويقال أيضا: استعاذ يستعيذ، ومنه عذت بربي، ومعاذ الله العالمين: جمع عالم، وهو عند المتكلمين: كل موجود سوى الله تعالى، وقيل: العالمين: الإنس والجن والملائكة، فجمعه جمع العقلاء، وقيل: الإنس خاصة، لقوله، أتأتون الذكران من العالمين يعمهون: يتحيرون في ضلالهم، والعمه: الحيرة عدل يعدل: ضدّ جار، وعدل عن الحق، عدولا، وعدلت فلانا بفلان: سويت بينهما، ومنه: أو عدل ذلك صياما عزيز: اسم الله تعالى، معناه: الغالب، وعزّ: غلب، ومنه: وعزّني في الخطاب، والغلبة ترجع إلى القوّة والقدرة، ومنه: فعززنا بثالث: أي قوّينا، وقيل العزيز العديم المثل عفا: له أربعة معان: عفا عن الذنب: أي صفح عنه، وعفا: أسقط حقه، ومنه: إلّا أن يعفون أو يعفو الذي، وعفا القوم: كثروا، ومنه: حتى عفوا، وعفا المنزل: إذا درس عفو: له ثلاث معان، العفو عن الذنب، والإسقاط، والسهل من غير كلفة: ومنه: ماذا ينفقون قل: العفو عين: بكسر العين وإسكان الياء: وهو جمع عيناء عنت: معناه الهلاك أو المشقة، ومنه: ولو شاء الله لأعنتكم: أي أهلككم، أو ضيّق عليكم، والعنت أيضا: الزنا، ومنه: ذلك لمن خشي العنت منكم، وأمّا: عنت الوجوه: فليس من هذا، لأنّ لامه واو فهو

حرف الغين

من عنا يعنو: إذا خضع عاقب: له معنيان: من العقوبة على الذنب، ومن العقبى، ومنه: وإن فاتكم شيء من أزواجكم إلى الكفار فعاقبتم: أي أصبتم عقبا أعجاز نخل: أصولها، أعجز الشيء: إذا فات ولم يقدر عليه، ومنه: وما هم بمعجزين، وما كان الله ليعجزه من شيء، وأما معاجزين بالألف: فمعناه مسابقين عال: يعيل عيلة: أي افتقر ومنه: ووجدك عائلا، وعال يعول، عدل عن الحق، وعال يعول أيضا: كثر عياله، والأشهر أن يقال في هذا المعنى: أعال بالألف عرج: يعرج بفتح الراء في الماضي، وضمها في المضارع صعد وارتقى ومنه: المعارج، وعرج بالكسر في الماضي والفتح في المستقبل: صار أعرج عتبى: معناه الرضى، ومنه: فما هم من المعتبين، ولا هم يستعتبون، العتاب: العذل أعد: بالألف يعدّ الشيء: هيأه، وعدّ بغير الألف من العدد عرش: سرير الملك، ومنه: ورفع أبويه على العرش، أهكذا عرشك؟ وعرش الله: فوق السماء، وتعرشون: تبنون، وعلى عروشها: سقوفها عورة: أصل معناه: الانكشاف فيما يكره كشفه، ولذلك قيل: عورة الإنسان عورات، أي: أوقات انكشاف، وبيوتنا عورة: أي خالية معرّضة للسراق عاقر: له معنيان: المرأة العقيم، واسم فاعل من: عقر الحيوان عبر: يعبر، له معنيان: من عبارة الرؤيا ومنه: إن كنتم للرؤيا تعبرون، ومن الجواز على الموضع، ومنه: عابر سبيل عمون: جمع عم، وهو صفة على وزن فعل بكسر العين من العمى في البصر أو في البصيرة علا يعلو: تكبر، ومنه: قوما عالين، وعلا في الأرض، والعليّ اسم الله، والمتعالي، والأعلى: من العلوّ بمعنى الجلال والعظمة، وقيل: بمعنى التنزيه عما لا يليق به عزب الشيء: غاب، ومنه: لا يعزب عن ربك: أي لا يخفى عنه عصبة: جماعة من العشرة إلى الأربعين علقة: واحدة العلق: وهو الدم عاصف: ريح شديدة عصف: ورق الزرع. حرف الغين غشاوة غطاء إما حقيقة أو مجازا غمام: هو السحاب غلف: جمع أغلف، وهو كل شيء جعلته في غلاف: أي قلوبنا محجوبة غرفة: بضم الغين لها معنيان: المسكن المرتفع، والغرفة من الماء بالضم وبالفتح: المرة الواحدة غادر: ترك، ومنه: لم نغادر غلّ يغل: من الغلول، وهو الخيانة، والأخذ من المغنم بغير حق، والغلّ: الحقد أغلال: جمع غل بالضم، وهو ما بجعل في العنق، ومنه: مغلولة غلا يغلو من الغلو وهو مجاوزة الحد والإفراط، ومنه: لا تغلوا في دينكم أي: لا تجاوزوا الحدّ غائط: المكان المنخفض، ثم استعمل في حاجة الإنسان غشي الأمر يغشى بالكسر في الماضي والفتح في المضارع معناه: غطى حسّا ومعنى، ومنه: والليل إذا يغشى لأنه يغطي بظلامه، وينقل بالهمزة والتشديد، فيقال غشّى وأغشى: ومن فوقهم غواش يعني ما يغشاهم من العذاب أو يصيبهم، ومنه: غاشية من عذاب الله، والغاشية أيضا: القيامة لأنها تغشى الخلق غبر له معنيان: ذهب وبقي، ومنه: عجوزا في الغابرين: أي في الهالكين أو في الباقين في العذاب غرور: بضم الغين.

حرف الفاء

وبفتحها: اسم فاعل مبالغة، ويراد به إبليس غاض الشيء: نقص، ومنه: وغيض الماء. وتغيض الأرحام. وغاظ بالظاء يغيظ من: الغيظ غور: غاير من غار الماء إذا ذهب غرام: عذاب ومنه: إنا لمغرمون، والمغرم: غرم المال ومنه: من مغرم مثقلون. حرف الفاء فرقان مفرّق بين الحق الباطل. ومنه: يجعل لكم فرقانا: أي تفرقة. لذلك سمي القرآن بالفرقان فئة جماعة من الناس فصال فطام من الرضاع فضل له معنيان: الإحسان. والربح في التجارة وغيرها. ومنه: يبتغون من فضل الله فسق أصله الخروج وتارة يرد بمعنى الكفر. وتارة بمعنى العصيان فتنة لها ثلاثة معان: الكفر. والاختبار. والتعذيب فاء يفيء أي رجع فلك بضم الفاء: سفينة. ويستوي فيه المفرد والجمع فلك بفتحتين: القطب الذي تدور به الكواكب فزع له معنيان: الخوف من الإسراع. ومنه: إذا فزعوا فلا فوت فرح له معنيان: السرور والبطر فاحشة وفحشاء: هي كل ما يقبح ذكره من المعاصي فرض له معنيان: الوجوب. والتقدير فتح له معنيان: فتح الأبواب. ومنه: فتح البلاد وشبهها. والحكم ومنه: افتح بيننا وبين قومنا. ويقال للقاضي: فاتح. واسم الله الفتاح، قيل: الحاكم. وقيل: خالق الفتح والنصر انفضوا تفرقوا فطره خلقه ابتداء. ومنه: فاطر السموات والأرض. وفطرة الله: التي خلق الخلق عليها. وأفطر بالألف: من الطعام فطور شقوق. ومنه انفطرت أي: انشقت. ويتفطّرن فجّ طريق واسع وجمعه: فجاج فار التنور يقال: لكل شيء هاج وعلا حتى فاض. ومنه: وهي تفور. وقولهم: فارت القدر فوج جماعة من الناس وجمعه: أفواج فاكهين من التلذذ بالفاكهة أو من الفكهة وهي السرور واللهو فؤاد هو القلب، وجمعه أفئدة استفز يستفز: أي استخف فقه فهم. ومنه: لا يفقهون. وما نفقه كثيرا في حرف جر بمعنى الظرفية. وقد تكون للتعليل. وقد تكون بمعنى مع. وقيل: بمعنى على الفاء لها ثلاثة أنواع: عاطفة. ورابطة. وناصبة للفعل بإضمار أن. ومعناها: الترتيب والتعقيب والسبب. حرف القاف قرآن القرآن العزيز. ومصدره قرأ: أي تلا. ومنه: إنّ علينا جمعه وقرآنه قنوت له خمسة معان: العبادة، والطاعة والقيام في الصلاة، والدعاء، والسكوت قضاء له سبعة معان: الحكم. والأمر. والقدر السابق. وفعل الشيء، والفراغ منه، والموت، والإعلام بالشيء، ومنه: قضينا إليه ذلك الأمر قدر له خمسة معان: من القدرة، ومن التقدير، ومن المقدار، ومن القدر، والقضاء، وبمعنى التضييق نحو: فقدر عليه رزقه، وقد يشدّ الفعل ويخفف. والقدر بفتح الدال وإسكانها القضاء والمقدار وبالفتح لا غير من القضاء قام له معنيان: من القيام على الرجلين، ومن القيام بالأمر بتقديره وإصلاحه، ومنه: الرجال قوّامون على النساء، وقام الأمر: ظهر واستقام، ومنه: الدين القيّم دينا قيّما له ثلاثة معان: أقام الرجل غيره من القيام، ومن التقويم ومنه: جدارا يريد أن ينقض فأقامه، وأقام في

حرف الكاف

الموضع: سكن، ومنه، مقيم: أي دائم قيوم اسم الله تعالى وزنه فيعول وهو بناء مبالغة من القيام على الأمور: معناه مدبر الخلائق في الدنيا وفي الآخرة ومنه: قائم على كل نفس: له معنيان: مصدر قام على اختلاف معانيه، وبمعنى قوام الأمر وملاكه، وقيم بغير ألف: جمع قيمة قرض سلف والفعل منه أقرض يقرض أقسط بألف قسطا: عدلا في الحكم، ومنه يحب المقسطين، وقسط بغير ألف: جار، ومنه: وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطبا مقاليد فيه قولان: خزائن، مفاتح قدّس يقدس من التنزيه والطهارة، وقيل من التعظيم، والقدوس: اسم الله تعالى فعول من النزاهة عما لا يليق به قال يقول من القول، وقد يكون بمعنى الظن ومصدره قول، وقال يقيل: من القائلة، ومنه أو هم قائلون، وأحسن مقيلا قفّى أتبع، وأصله من القفا، يقال: أقفوته، إذا حبيت «1» في أثره وقفّيته بالتشديد إذا سقت شيئا في أثره، ومنه: وقفينا من بعده بالرسل قرن جماعة من الناس، وجمعه: قرون قواعد البيت: أساسه، واحدها قاعدة، والقواعد من النساء: واحدة قاعد، وهي العجوز قربان ما يتقرّب به إلى الله تعالى من الذبائح وغيرها، وقربان أيضا: من القرابة قلى يقلي: أبغض، ومنه: وما قلى، ولعملكم من القالين اقترف اكتسب حسنة أو سيئة قصص له معنيان: من الحديث، ومن قص الأثر، ومنه: على آثارهما قصصا، وقصيّه قررت «2» به عينا، قرر بالكسر في

_ (1) . كذا في الأصل ولعلها خطأ والصواب: جئت. [.....] (2) . قرّ: لم أجدها في القاموس إلّا مشدّدة، والله أعلم. الماضي والفتح في المضارع قسطاس ميزان قتر وقترة: غبار، وعبارة عن تغير الوجه، وقتور من التقتير قارعة داهية وأمر عظيم قبس شعلة نار قنط يئس من الخير قرطاس صحيفة وجمعه قراطيس. حرف الكاف كافر له معنيان: من الكفر وهو الجحود، وبمعنى الزرع، ومنه: أعجب الكفار نباته أي الزراع، وتكفير الذنوب غفرانها كرّة رجعة كبر بكسر الباء في السن يكبر بالفتح في المضارع، وكبر الأمر بالضم في المضارع والماضي، وكبر بضم الكاف وفتح الباء: جمع كبرى، وكبّار بالضم والتشديد: كبير مبالغة، والكبر: التكبر، وكبر الشيء بكسر الكاف وضمها: معظمه، والكبرياء: الملك والعظمة، والمتكبر: اسم الله تعالى من الكبرياء وبمعنى العظمة كفل يكفل: أي ضم الصبيّ وحضنه، وأكفلنيها: اجعلني كافلها كفيل نصيب «3» كلالة هي أن يموت الرجل ولا ولد له ولا والد كاد قارب الأمر ولم يفعله، فإذا نفي اقتضى الإثبات كريم من الكرم وهو الحسب والجلالة والفضل، وكريم: اسم الله تعالى، أي محسن أكنة أغطية وأكنان جمع: كنّ، وهو ما وقى من الحر والبرد كهل هو الذي انتهى شبابه أكمام الثمار والنخيل جمع كم، وهو ما تكون الثمرة فيه قبل خروجها أكب الرجل على وجهه فهو مكب، وكبّه غيره بغير (3) . وقد فسرها المؤلف في سورة النحل: 91 بمعنى: رقيب.

حرف اللام

ألف كهف غار كيد هو من المخلوق احتيال، ومن الله مشيئة أمر ينزل بالعبد من حيث لا يشعر كسفا بفتح السين جمع كسفة، وهي القطعة من الشيء، وبالسكون كذلك أو مفرد كبتوا أي أهلكوا: أي يكبتهم، ثم يهلكهم، أو يخذلهم أكمه هو الذي ولد أعمى كان على نوعين: تامّة بمعنى حضر أو حدث أو وقع، وهي ترفع الفاعل. وناقصة ترفع الاسم وتنصب الخبر، وتقتضي ثبوت الخبر للمخبر عنه في زمانها، وقد تأتي بمعنى الدوام في مثل قوله: وكان الله غفورا رحيما، وكان ربك قديرا، وشبه ذلك، وهو كثير في القرآن، ومعناه: لم يزل ولا يزال موصوفا بذلك الوصف كأنّ معناها التشبيه كي معناها التعليل كم معناها التكثير، وهي خبرية واستفهامية كأيّن بمعنى كم، وهي عند سيبويه كاف التشبيه دخلت على أي كلا حرف ردع وزجر، وقيل: إنها تكون للنفي: أي ليس الأمر كما ظننت، وقيل: إنها استفتاح كلام بمعنى: إلّا الكاف بمعنى التشبيه وبمعنى التعليل، وقيل إنها تكون زائدة. حرف اللام لبس الأمر أي خلطه بفتح الباء في الماضي، وكسرها في المستقبل ألباب عقول، وهو جمع لب، لبث في المكان أقام فيه لمز يلمز أي عاب الشيء لؤلؤ جوهر «1» لغو الكلام الباطل منه، والفحش، ولغو اليمين: ما لا يلزم لها بفتح الهاء من اللهو،

_ (1) . هو نوع من المجوهرات وتستخرج من المحار في قعر البحر. ومضارعه يلهو، ولهى عن الشيء بالكسر والياء يلهى بالفتح. إذا أعرض عنه وألهاه الشيء. إذا أشغله، ومنه لا تلهكم أموالكم لطيف اسم الله تعالى، قيل: معناه رفيق، وقيل خبير بخفيات الأمور لدى ولدن معناها عند ليت معناها التمني لعل معناها الترجي في المحبوبات، والتوقع للمكروهات، وأشكل ذلك في حق الله تعالى، فقيل جاءت في القرآن على منهاج كلام العرب وبالنظر إلى المخاطب: أي ذلك مما يرتجى عندكم أي يتوقع، وقد يكون معناها التعليل، أو مقاربة الأمر فلا إشكال لولا لها معنيان: التمني، وامتناع شيء لامتناع غيره لما لها معنيان: النفي وهي الجازمة، ووجود شيء لوجود غيره، وأما «لما» بالتخفيف، فهي لام التأكيد دخلت على ما، وقال الكوفيون: هي بمعنى إلّا الموجبة بعد النفي لا ثلاثة أنواع: نافية وناهية، وزائدة اللام خمسة أنواع لام الجر، ولام كي، ولام الأمر، ولام التأكيد في القسم وغيره وهي المفتوحة، ثم إن لام الجر لها ثلاثة معان. الملك، والاستحقاق، والتعليل. وقد تأتي للتعدّي إذا ضعف العامل، وقد تأتي بمعنى عند، نحو: أقم الصلاة لدلوك الشمس، ولام كي معناها: التشبيه والتعليل، وقد تأتي بمعنى الصيرورة والعاقبة، نحو: فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوّا. وقد تأتي بمعنى أن المصدرية، ومنه: يريد الله ليبين لكم. حرف الميم مرض الجسد معروف، ومرض القلب الشك في الإيمان، والبغض في الدين المنّ شبه العسل، والسلوى طائر، والمنّ أيضا:

حرف النون

الإنعام، والمنّ أيضا: العطية، والمنّ أيضا: القطع، ومنه: أجر غير ممنون أماني جمع أمنية ولها ثلاثة معان: ما تتمناه النفس، والتلاوة، والكذب، وكذلك تمنى، له هذه المعاني الثلاثة ملأ القوم: أشرفهم، وذوو الرأي منهم مثل بفتح الميم والمثلثة، لها أربعة معان: الشبيه والنظير ومن المثل المضروب، وأصله من التشبيه، ومثل الشيء حاله وصفته، والمثل الكلام الذي يتمثل به، ومثل الشيء بكسر الميم: شبهه مرية شك، ومنه: الممترين أي الشاكين، لا تمار. من المراء وهو: الجدال أملي لهم: أمهلهم وزادهم مهاد فراش مدّ يمدّ: أي أملى، وقد تكون بمعنى زاد مثل أمدّ بألف من المداد مضغة قطعة لحم إملاق فقر مرد فهو مارد: من العتو والضلال مكانة بمعنى مكان أي من التمكين والعز، ومنه مكين مواخر فواعل من المخر يقال مخرت السفينة إذا جرت تشق الماء مجيد من المجد وهو الكرم والشرف مقت هو الذم أو البغض على ما فعل من القبيح معين ماء كثير جار، وهو من قولك معن الماء: إذا كثر، وقيل: هو مشتق من العين، ووزنه مفعول، فالميم زائدة مارج مختلط، والمارج: لهب النار، من قولك مرج الشيء إذا اضطرب، وقيل: من الاختلاط أي خلط نوعين من النار مرج البحرين، أي خلى بينهما، وقيل: خلطهما، وقيل: فاض أحدهما في الآخر مهل فيه قولان: درديّ الزيت، وما أذيب من النحاس منون له معنيان: الموت، والدهر مسّ له معنيان: اللمس باليد وغيره، والجنون من لها أربعة أنواع: شرطية، وموصولة، واستفهامية، ونكرة موصوفة ما إذا كانت اسما فلها ستة أنواع: شرطية، وموصولة، واستفهامية، وموصوفة، وصفة، وتعجبية، وإذا كانت حرفا فلها خمسة أنواع: نافية ومصدرية وزائدة وكافيّة ومبهمة من لها ستة أنواع: لابتداء الغاية، ولجملة الغاية، وللتبعيض، ولبيان الجنس والتعليل، وزائدة مهما اسم شرط. حرف النون نظر له معنيان: من النظر، ومن الانتظار، فإذا كان من الانتظار تعدّى بغير حرف، ومن نظر العين يتعدّى بإلى ومن نظر القلب يتعدّى بفي أنظر بالألف أخّر، ومنه أنظرني، ومن المنظرين ونظرة إلى ميسرة نضرة بالضاد من التنعم، ومنه: وجوه يومئذ ناضرة أي ناعمة، وأمّا: إلى ربها ناظرة، فمن النظر نعمة بفتح النون من النعيم وبكسرها من الإنعام أنعام هي: الإبل، والبقر، والغنم. دون سائر البهائم ويجوز تذكيرها وتأنيثها. ويقال لها أيضا نعم، ونعم كلمة مدح، ويجوز فيها كسر النون وفتحها، وإسكان العين وكسرها نعم بفتح العين والنون كلمة تصديق وموافقة على ما قبلها بالنفي أو الإثبات، بخلاف بلى: فإنها للإثبات خاصة، ويجوز في نعم فتح العين وكسرها ندّ هو المضاهي والمماثل والمعانت «1» ، وجمعه أنداد أنذر أعلم بالمكروه قبل وقوعه، ومنه. نذير، ومنذر، والمنذرين، وكيف كان نذير: أي إنذاري فهو مصدر، ومنه عذابي ونذر، والنذر بغير ألف ومنه نذر، ثم من نذر: فليوفوا نذورهم نكال له

_ (1) . كذا ولعل الصواب: معاند.

حرف الهاء

معنيان: العقوبة. والعبرة نجّي بتشديد الجيم له معنيان: من النجاة ومن النجوة: وهو الموضع المرتفع ومنه: ننجيك ببدنك على قول نجوى معناه: كلام خفي، ومنه: ناجي وقرّبناه نجيا، وقيل: إنه يكون بمعنى الجماعة من الناس في قوله: وإذ هم نجوى، وقد يجمع ذلك على حذف مضاف تقديره وإذ هم أصحاب نجوى نسيان له معنيان: الذهول، ومنه: إن نسينا أو أخطأنا، والترك، ومنه: نسوا الله فنسيهم نسخ له معنيان: الكتابة، ومنه: نستنسخ ما كنتم تعملون، والإزالة، ومنه: ما ننسخ من آية أو ننسها نصر بالصاد المهملة معروف، وبالسين اسم صنم: ويعوق ونسرا، أو اسم طائر أيضا نشوز بالزاي: له معنيان: شرّ بين الرجل والمرأة، وارتفاع، ومنه: انشزوا أي: قوموا من المكان نزل بضمتين: رزق، وهو ما يطعم الضيف نأى بعد ومنه: ينأون عنه نكص رجع إلى وراء نفر نفورا عن الشيء ونفر ينفر بضم المضارع، ومنه: نفرت الدابة، ونفر ينفر بكسر المضارع نفيرا: أتى، أسرع، وجد، ومنه: انفروا في سبيل الله نبأ خبر، ومنه اشتق النبيء بالهمز، وترك الهمز تخفيفا، وقيل: إنه عند من ترك مشتق من النبوة، وهي الارتفاع نطفة أي نقطة من ماء، ومنه: خلقكم من نطفة يعني: من المني أناب إلى الشيء: رجع ومال إليه، ومنه: منيب نفذ ينفذ أي: تم وانقطع نهر بفتح الهاء الوادي ويجوز الإسكان. وأمّا السائل فلا تنهر: فهو من الانتهار، وهو الزجر منير من النور، وهو الضوء حسا أو معنى نصب بضمتين وبضم النون وإسكان الصاد، وبفتح النون وإسكان الصاد بمعنى واحد، وهو حجر أو صنم كان المشركون يذبحون عنده وجمعه أنصاب نصب بفتحتين تعب، ومسّني الشيطان بنصب: أي بلاء وشر نقم الشيء ينقمه أي كرهه وعابه نضيد أي منصوب بعضه إلى بعض نكير إنكار، ويقال نكر الشيء وأنكره نسل بمعنى أسرع ومنه: ينسلون، من النسلان وهو الإسراع في المشي مع قرب الخطا. حرف الهاء الهدى له معنيان: الإرشاد والبيان، ومن البيان: فأما ثمود فهديناهم، والإرشاد قد يكون إلى الطريق، إلى الدين، وبمعنى التوفيق والإلهام هدي بفتح الهاء وإسكان الدال: ما يهدى إلى الكعبة من البهائم هاد يهود: أي تاب، ومنه: هدنا إليك، والذين هادوا: أي تهوّدوا أي صاروا يهودا وأصله من قولهم: هدنا إليك هود له معنيان: اسم نبي عاد عليه السلام وبمعنى اليهود، ومنه كونوا هودا هوى النفس: مقصور وهو ما تحبه وتميل إليه، والفعل منه: بكسر الواو في الماضي وفتحها في المضارع والهواء بالمدّ والهمز: ما بين السماء والأرض، وأفئدتهم هواء: أي متحرّقة لا تعي شيئا وهوى يهوي بالفتح في الماضي والكسر في المضارع: وقع من علو، ويقال أيضا: بمعنى الميل، ومنه: أفئدة من الناس تهوي إليهم هاجر خرج من بلاده، ومنه سمي المهاجرون هجر من الهجران، ومنه الهجر أيضا، وهو فحش الكلام، وقد يقال في هذا أهجر بالألف أهلّ لغير الله به أي صيّح، والإهلال: الصياح، وفي النية أي أريد به

حرف الواو

غير الله مهيمن عليه شاهد، وقيل: مؤتمن، والمهيمن. اسم الله القائم على خلقه بأعمالهم وآجالهم وأرزاقهم، وقيل الشهيد، وقيل: الرقيب هوان، هون أي ذل مهين بضم الميم أي مفعل مشتق من الهوان: أي مذل، وأما مهين، بفتح الميم فمعناه: ضعيف أو ذليل. حرف الواو وقود النار بفتح الواو: ما توقد به من الحطب وشبهه، والوقود بالضم المصدر وجه له معنيان: الجارحة، والجهة، وأما وجه الله: ففي قوله: ابتغاء وجه الله أي طلب رضاه، وفي قوله: كل شيء هالك إلّا وجهه، ويبقى وجه ربك: قيل: الوجه الذات، وقيل: صفة كاليدين، وهو من المتشابه وعد يعد وعدا بالخير، وقد يقال: في الشر وأوعد بالألف يوعد وعيدا بالشر لا غير ودّ يودّ له معنيان: من المودة والمحبة، وبمعنى تمنى: ودّوا لو تكفرون، والودّ بالضم: المحبة، وودّ: اسم صنم بضم الواو وفتحها ودود اسم الله تعالى أي محب لأوليائه، وقيل محبوب ويل كلمة شر، وقيل: إن الويل واد في جهنم وجب له معنيان: من وجوب الحق، وبمعنى سقط، كقولهم: وجب الحائط إذا سقط، ومنه وجبت جنوبها وسط وأوسط له معنيان: من التوسط بين الشيئين، وبمعنى الخيار والأحسن وسع يسع سعة: من الاتساع ضد الضيق، والسعة الغنى، والواسع اسم الله تعالى: أي واسع العلم والقدرة والغنى والرحمة واسع جواد موسع غنّي أي: واسع الحال وهو ضدّ المقتر: وإنا لموسعون قيل: أغنياء، وقيل قادرون، وإلّا وسعها: طاقتها ولى له معنيان: أدبر، وجعل واليا، وتولى له ثلاث معان: أدبر، وأعرض بالبدن أو بالقلب، وصار واليا، واتخذ وليا، ومنه: ومن يتولى الله ورسوله وليّ ناصر، والولي اسم الله، قيل: ناصر، وقيل: متولي أمر الخلائق مولى له سبعة معان: السيد والأعظم، والناصر، والوالي أي القريب، والمالك والمعتق، وبمعنى أولى، ومنه: النار مولاكم ولج يلج أي دخل، ومنه: ما يلج في الأرض، وأولج: أدخل، ومنه: يولج الليل في النهار وهن يهن: ضعف، ومنه: وهن العظم، والوهن الضعف ورد الماء يرده: إذا جاء إليه وأورده غيره، وأرسلوا واردهم، الذي يتقدّمهم إلى الماء فيسقي لهم أوزعني أي ألهمني ووفقني يوزعون يدفعون وليد صبي والجمع: ولدان وجل يوجل وجلا: خاف. ومنه: لا توجل أوجس وجد في نفسه وأضمر وارى يواري: أي يستر ومنه: يواري سوأة أخيه، وما ووري عنهما، وتواروا أي استتروا واستخفوا وطئ يطأ. له ثلاث معان: جماع المرأة. ومن الوطء بالأقدام. ومنه: أرضا لم تطؤها. والإهلاك. ومنه: لم تعلموهم أن تطؤهم وقر بفتح الواو وهو الصمم والثقل في الأذن. والوقر بكسر الواو: الحمل. ومنه: فالحاملات وقرا ودق هو المطر واصب أي دائم وكيل كفيل بالأمر. وقيل: كاف وزر بفتحتين أي: ملجأ وزير أي معين. وأصله من الوزر بمعنى: الثقل. لأنّ الوزير يحمل عن الملك أثقاله وسوس الشيطان إلى الإنسان: ألقى في نفسه. والوسواس:

حرف الياء

الشيطان أوحى يوحي وحيا، له ثلاث معان: كلام الملك من الله للأنبياء. ومنه قيل للقرآن: وحي. وبمعنى الإلهام، ومنه: أوحى ربك إلى النحل، وبمعنى الإشارة. ومنه: فأوحى إليهم أن سبحوا: أي أشار وعى العلم يعي: حفظه. ومنه: أذن واعية، وأوعى بالألف: يوعي جمع المال في وعاء. ومنه: جمع فأوعى. حرف الياء يمين له أربعة معان: اليد اليمين. وبمعنى القوّة. وبمعنى الحلف «1» . وأيمن أي إلى الجهة اليمين يسير له معنيان قليل، ومنه: كيل يسير، وهين، ومنه: ذلك على الله يسير، واليسر: ضدّ العسر يئس أي انقطع رجاؤه، ومنه: لا تيئسوا من روح

_ (1) . والمعنى الرابع هو البركة. ومنه اليمن كما في القاموس للفيروزآبادي. الله، وإنه ليؤوس وأما: أفلم ييئس الذين آمنوا: فمعناه ألم يعلم يم هو البحر ميسر هو القمار في النرد والشطرنج وغير ذلك. وهو مأخوذ من يسر لي كذا إذا وجب. واليسر بفتح الياء والسين: الرجل الذي يشتغل بالميسر. وجمعه أيسار. وميسر العرب أنهم كانوا لهم عشرة قداح، وهم الأزلام لكل واحد منها نصيب معلوم، من ناقة ينحرونها. وبعضها لا نصيب له. ويجزئونها عشرة أجزاء ثم يدخلون الأزلام في خريطة ويضعونها على يد عدل. ثم يدخل يده فيها فيخرج باسم رجل قدحا. فمن خرج له قدح له نصيب: أخذ ذلك النصيب. ومن خرج له قدح لا نصيب له: غرم ثمن الناقة كلها ينبوع أي عين من ماء والجمع ينابيع.

الكلام على الاستعاذة في عشرة فوائد من فنون مختلفة

الكلام على الاستعاذة في عشرة فوائد من فنون مختلفة الأولى: لفظ التعوّذ على خمسة أوجه: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم وهو المروي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمختار عند القراء. وأعوذ بالله العظيم من الشيطان الرجيم، وأعوذ بالله القويّ من الشيطان الغويّ. أعوذ بالله المجيد من الشيطان المريد. وهي محدثة: وأعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم. وهو مرويّ عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم الثانية: يؤمر القارئ بالاستعاذة قبل القراءة سواء ابتدأ بأول سورة أو جزء سورة على الندب الثالثة: يجهر بالاستعاذة عند الجمهور وهو المختار. وروي الإخفاء عن حمزة ونافع الرابعة لا يتعوّذ في الصلاة عند مالك. ويتعوّذ في أوّل ركعة عند الشافعي وأبي حنيفة. وفي كل ركعة عند قوم. فحجة مالك عمل أهل المدينة وحجة قول غيره: قول الله تعالى: فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ [النحل: 98] وذلك يعم الصلاة وغيرها الخامسة: إنما جاء أعوذ بالمضارع دون الماضي لأنّ معنى الاستعاذة لا يتعلق إلّا بالمستقبل لأنها كالدعاء وإنما جاء بهمزة المتكلم وحده مشاكلة للأمر به في قوله: «فاستعذ» السادسة: الشيطان: يحتمل أن يراد به الجنس فتكون الاستعاذة من جميع الشياطين، أو العهد فتكون الاستعاذة من إبليس. وهو من شطن إذا بعد فالنون أصلية والياء زائدة. وزنه فيعال. وقيل من شاط إذا هاج فالنون زائدة. والياء أصلية ووزنه فعلان. وإن سميت به لم ينصرف على الثاني لزيادة الألف والنون، وانصرف على الأوّل السابعة: الرجيم فعيل بمعنى مفعول، ويحتمل معنيين: أن يكون بمعنى لعين وطريد. وهذا يناسب إبليس لقوله وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ [الملك: 5] والأوّل أظهر الثامنة: من استعاذ بالله صادقا أعاذه فعليك بالصدق ألا ترى امرأة عمران لما أعاذت مريم وذرّيتها عصمها الله. ففي الحديث الصحيح أنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: «ما من مولود إلّا نخسه الشيطان فيستهل صارخا إلّا ابن مريم وأمه «1» » التاسعة: الشيطان عدوّ. وحذر الله منه إذ لا مطمع في زوال علة عداوته. وهو يجري من ابن آدم مجرى الدم. فيأمره أوّلا بالكفر ويشككه في الإيمان فإن قدر عليه وإلّا أمره بالمعاصي. فإن أطاعه وإلّا ثبطه عن الطاعة. فإن سلم من ذلك أفسدها عليه بالرياء والعجب العاشرة القواطع عن الله أربعة: الشيطان، والنفس، والدنيا، والخلق. فعلاج الشيطان: الاستعاذة والمخالفة له، وعلاج النفس: بالقهر، وعلاج الدنيا: بالزهد، وعلاج الخلق: بالانقباض والعزلة.

_ (1) . رواه أحمد عن أبي هريرة بلفظ قريب منه.

الكلام على البسملة

الكلام على البسملة فيه عشر فوائد. الأولى: ليست البسملة عند مالك آية من الفاتحة ولا من غيرها، إلّا في النمل خاصة، وهي عند الشافعي آية من الفاتحة، وعند ابن عباس آية من أوّل كل سورة، فحجة مالك ما ورد في الحديث الصحيح: أنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: «أنزلت عليّ سورة ليس في التوراة ولا في الإنجيل ولا في القرآن مثلها، ثم قال: الحمد لله رب العالمين» فبدأ بها دون البسملة، وما ورد في الحديث الصحيح: «إنّ الله يقول: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين: يقول العبد الحمد لله رب العالمين «1» » فبدأ بها دون البسملة: وحجة الشافعي ما ورد في الحديث أنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم كان يقرأ. بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين وحجة ابن عباس ثبوت البسملة مع كل سورة في المصحف الثانية: إذا ابتدأت أوّل سورة بسملت إلّا براءة. وسنذكر علة سقوطها من براءة في موضعه، وإذا ابتدأت جزء سورة فأنت مخير بين البسملة وتركها عند أبي عمرو الداني، وتترك البسملة عند غيره، وإذا أتممت سورة وابتدأت أخرى، فاختلف القرّاء في البسملة وتركها الثالثة: لا يبسمل في الصلاة عند مالك، ويبسمل عند الشافعي جهرا في الجهر، وسرّا في السرّ، وعند أبي حنيفة سرّا في الجهر والسرّ فحجة مالك من وجهين: أحدهما أنه ليست عنده آية في الفاتحة حسبما ذكرنا «والآخر ما ورد في الحديث الصحيح عن أنس أنه قال: «صلّيت عند رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وأبي بكر وعمر وعثمان فكانوا يستفتحون بالحمد لله رب العالمين، لا يذكرون بسم الله الرحمن الرحيم في أوّل الفاتحة ولا في آخرها» «2» ، وحجة الشافعي من وجهين: أحدهما أنّ البسملة عنده آية من الفاتحة، والأخرى ما ورد في الحديث من قراءتها حسبما ذكرنا الرابعة: كانوا يكتبون: «باسمك اللهم» حتى نزلت «بسم الله مجراها» «3» فكتبوا: «بسم الله» ، حتى نزلت: أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ فكتبوا: «بسم الله الرحمن» ، حتى نزل: «إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم» فكتبوها، وحذفت الألف في بسم الله لكثرة الاستعمال الخامسة: الباء من بسم الله: متعلقة باسم محذوف عند البصريين والتقدير: ابتداء كائن بسم الله فموضعها رفع، وعند الكوفيين تتعلق بفعل تقديره أبدأ أو أتلو فموضعها نصب وينبغي أن يقدّر متأخرا لوجهين: أحدهما: إفادة الحصر والاختصاص، والأخرى: تقديم اسم الله اعتناء كما قدم في بسم الله مجراها السادسة: الاسم مشتق من السموّ عند البصريين فلامه واو «محذوفة» ، وعند الكوفيين: مشتق من السمة وهي العلامة، ففاؤه محذوفة، ودليل البصريين التصغير والتكبير لأنهما يردّان الكلمات إلى أصولها، وقول الكوفيين أظهر في المعنى، لأنّ الاسم علامة على المسمى السابعة: قولك «الله» اسم مرتجل جامد «والألف واللام فيه لازمة لا للتعريف، وقيل: إنه مشتق من التأله وهو التعبد، وقيل: من الولهان: وهي الحيرة لتحير

_ (1) . رواه مسلم عن أبي هريرة. (2) . رواه أحمد ج 3 ص 264. (3) . مجراها: تقرأ بالإمالة نحو الياء.

العقول في شأنه، وقيل: أصله إله من غير ألف ولام، ثم حذفت الهمزة من أوّله على غير قياس، ثم أدخلت الألف واللام عليه، وقيل: أصله الإله بالألف واللام ثم حذفت الهمزة، ونقلت حركتها إلى اللام كما نقلت إلى الأرض وشبهه، فاجتمع لامان، فأدغمت إحداهما في الأخرى، وفخم للتعظيم إلّا إذا كان قبله كسرة الثامنة: الرحمن الرحيم صفتان من الرحم ومعناهما الإحسان فهي صفة فعل وقيل: إرادة الإحسان، فهي صفة ذات التاسعة: الرحمن الرحيم على ما روي عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أنّ الرحمن في الدنيا والرحيم في الآخرة، وقيل: الرحمن عام في رحمة المؤمنين والكافرين لقوله: وكان بالمؤمنين رحيما فالرحمن أعمّ وأبلغ، وقيل: الرحمن أبلغ لوقوعه بعده، على طريقة الارتقاء إلى الأعلى العاشرة إنما قدّم الرحمن لوجهين: اختصاصه بالله، وجريانه مجرى الأسماء التي ليست بصفات. انتهى والله أعلم.

تمهيد في القراءات وتأريخها

تمهيد في القراءات وتأريخها رغبة مني في إعطاء القارئ لمحة موجزة عن القراءات وشيوخ القراء لم أر أفضل من نقل ما كتبه أستاذنا الجليل المرحوم الشيخ سعيد الأفغاني الدمشقي في مقدمته الرائعة الجامعة لكتاب «حجة القراءات» للإمام أبي زرعة عبد الرحمن بن محمد بن زنجلة المتوفي في أوائل القرن الخامس الهجري وفيها أفاض بقلمه وبيانه كل ما يهمّ العالم والمثقف حول موضوع القراءات والقراء، لذلك اقتبست منها موجزا مفيدا ورأيت إضافته لهذا السفر الجليل من تفسير الإمام بن جزي ليكون جامعا لأقصى ما يمكن من الفائدة والله من وراء القصد وهو يهدي السبيل «1» . «تضافرت جهود أهل العلم والفكر وأولي العبقريات النادرة في هذه الأمة العظيمة، على خدمة اللغة العربية من أنحاء شتى متقاربة حينا ومتباعدة حينا، من حيث كانت لغة القرآن الكريم مصدر التشريع والتنظيم الكافلين خير الناس قاطبة. ونمت من هذه الجهود المباركة- فيما نمى- علوم اللغة العربية: من نحو وصرف ولغة وبلاغة وفقه لغة ... وفن الاحتجاج للقراءات الذي نقدم اليوم إحدى ثمراته، هو أحد الفنون التي اشتغل العلماء بها خدمة للقرآن العظيم، ولا بد من عرض تاريخي موجز للقراءات ثم للاحتجاج لها يكون تمهيدا وتزويدا للقارئ قبل الكلام على الكتاب ومؤلفه. لم يكن كتبة الوحي الذين كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يملي عليهم كلما أوحي إليه شيء، من قبيلة واحدة، بل كانوا من قبائل عدة فيهم القرشي وغيره. وكان الناس- على اختلاف قبائلهم ولهجاتهم- في سعة من أمرهم في قراءة القرآن: كلّ يقرؤه بلحن قومه، حتى إذا آنس أحدهم اختلافا في قراءة سمعها من إنسان عما أقرأه الرسول، هرع إليه شاكيا، فسمع الرسول من كلّ قراءته فأقره عليها قائلا: (هكذا أنزلت) «2» . وكان التغيير لا يعدو تنوع أداء أحيانا من حيث الإمالة أو الترقيق لبعض الحروف أو التفخيم، أو ضبط المضارع الرباعي مثل (ننزل) أو (ننزّل) تخفيفا أو تشديدا، أو تغاير لفظين والمعنى واحد ... إلى آخر ما أحصوا من أحوال أطلقوا عليها (خلافا) وما هي

_ (1) . كتاب «حجة القراءات» المذكور مطبوع في مؤسسة الرسالة بيروت 1399 هـ 1879 م. (2) . انظر مثلا الجامع الصحيح للبخاري تر كيف لبّب عمر بن الخطاب هشام بن حكيم لما سمعه يقرأ سورة الفرقان على حروف لم يقرئها الرسول لعمر، فقاده إلى الرسول فلما سمع من هشام قال: (كذلك أنزلت) ، ولما سمعها من عمر قال: (كذلك أنزلت، إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف فاقرؤوا ما تيسر منه) - 6/ 227 الطبعة الشعبية.

مدخل في أعلام القراءات الأربعة عشر ورواتهم

بخلاف، إذ لم تكن تؤدي إلى نقض معنى أو تغيير حكم. وكلها مسندة إسنادا صحيحا إلى رسول الله تعدّد السامعوها منه، وعرفوا من أمر هذه الرخصة ما لم يكونوا على علم به «1» . واندرجت هذه الوجوه الكثيرة في القراءة في تعبير «الأحرف السبعة» الواردة في الحديث، أريد بها التعدد والكثرة لا تحديد العدد سبعة. كثرت الوجوه المتواترة عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في القراءة، وتفرق الصحابة في الأمصار، كلّ يقرئ أهل مصره بما سمع على لهجته، وتعارف الناس هذه الوجوه واللهجات، ولم ينكر أحد على أخيه قراءته.. حتى إذا امتد الزمان قليلا وكثر الآخذون عن الصحابة، وقع بين أتباعهم شيء من خلاف أو تنافس أو إنكار، فخشي الأجلاء من الصحابة مغبته مع الزمن، فحملوا الخليفة الثالث عثمان بن عفان على معالجة الأمر ففعل، وكان من رأيه المبارك كتابة مصاحف يجتمع عليها قراء الصحابة وكتبة الوحي، وهؤلاء وأولئك كثيرون متوافرون.. حتى إذا وقع خلاف كتبوه على لغة قريش، وكذلك كان. مدخل في أعلام القراءات الأربعة عشر ورواتهم جرى اصطلاح المؤلفين في فن القراءات على إطلاق كلمة (قراءة) على ما ينسب إلى إمام من أئمة القراء مما اجتمعت عليه الروايات والطرق عنه، وكلمة (رواية) على ما ينسب إلى الآخذ عن هذا الإمام ولو بوساطة، وكلمة (طريق) على ما ينسب للآخذ عن الراوي ولو سفل «2» . ولكل إمام صاحب قراءة رواة كثيرون رووا عنه، ولكل راو طرق متعددة. وأنا مثبت لك تراجم موجزة لأعلام القراءة بادئا بالقراء السبعة فبقية العشرة فبقية الأربعة عشر، ذاكرا لكل إمام منهم راويين من رواته، معرفا بهم جميعا بما لا يخرج عن ألفاظ شيخ هذا الفن ومحرره الإمام شمس الدين بن الجزري في كتابيه المشهورين: (النشر في القراءات العشر) و (غاية النهاية في طبقات القراء) «3» مع ذكر وفياتهم بما لا يكون فيه إطالة، ليكون القارئ على إلمام بشيء عن هؤلاء الأعلام. القرّاء السّبعة 1- نافع المدني: بن عبد الرحمن بن أبي نعيم، أبو رويم الليثي بالولاء (70- 169

_ (1) . كان من كلام عبد الله بن مسعود لما خرج من الكوفة لجماعة أصحابه المودّعين: (.. ولقد رأيتنا نتنازع فيه عند رسول الله فيأمرنا نقرأ عليه فيخبرنا أن كلنا محسن ولو أعلم أحدا أعلم بما أنزل الله على رسوله مني لطلبته حتى ازداد علمه إلى علمي، ولقد قرأت من لسان رسول الله سبعين سورة، وقد كنت علمت أنه يعرض عليه القرآن في كل رمضان، حتى كان عام قبض، فعرض عليه مرتين، فكان إذا فرغ أقرأ عليه فيخبرني أني محسن «فمن قرأ على قراءتي فلا يدعنّها رغبة عنها، ومن قرأ على شيء من هذه الحروف فلا يدعنّه رغبة عنه، فإن من جحد بآية جحد به كله» . (2) . انظر (إتحاف فضلاء البشر ص 88) و (غيث النفع بذيل شرح بن القاصح على الشاطبية ص 14) . (3) . مع إضافة يسيرة من (بغية الوعاة) للسيوطي حينا، و (الأعلام) للزركلي أحيانا. [.....]

هـ) أحد الأعلام، ثقة صالح، أصله من أصبهان، وكان أسود اللون حالكا صبيح الوجه، حسن الخلق، فيه دعابة. أخذ القراءة عرضا عن جماعة من تابعي أهل المدينة عن عبد الرحمن بن هرمز الأعرج، وأبي جعفر القارئ، وعبد الرحمن بن القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق، والزهري وغيرهم. وبلغ شيوخه السبعين. روى القراءة عنه عرضا وسماعا جماعة منهم الإمام مالك بن أنس صاحب المذهب، وقالون من أهل المدينة، والأصمعي وأبو عمرو بن العلاء من أهل البصرة، وورش والليث بن سعد من أهل مصر، وأبو مسهر الدمشقي وخويلد بن معدان من أهل الشام، وكردم المغربي، والغاز بن قيس الأندلسي ... وغيرهم خلق كثير من مختلف الأمصار. أقرأ الناس سبعين سنة ونيفا وانتهت إليه رئاسة القراءة بالمدينة وتمسك أهلها بقراءته، وكان الإمام مالك يقول: (قراءة أهل المدينة سنة) ، قيل له: (قراءة نافع) ؟ قال: (نعم) . وكانت أحب القراءات إلى الإمام أحمد بن حنبل. كان نافع عالما بوجوه القراءات، متبعا لآثار الأئمة الماضين ببلده، زاهدا، جوادا، صلّى في مسجد النبي صلّى الله عليه وسلّم ستين سنة. قالون: أبو موسى، بن مينا الزرقي مولى بني زهرة (120- 220 هـ) . قارئ المدينة ونحويها، يقال إنه ربيب نافع، وقد اختص به كثيرا وهو الذي لقبه قالون (بمعنى جيد في الرومية) لجودة قراءته. كان جد جده من سبي الروم. سئل: (كم قرأت على نافع) ؟ فأجاب: (ما لا أحصيه كثرة) حتى قال له نافع: (إلى كم تقرأ عليّ؟ اجلس إلى اسطوانة حتى أرسل إليك من يقرأ) . قرأ عليه جماعة، وكان أصمّ يقرئ القرآن وينظر إلى شفتي القارئ ويرد عليه اللحن والخطأ. ورش: عثمان بن سعيد القبطي المصري مولى قريش (110- 197 هـ) شيخ القراء المحققين، وإمام أهل الأداء المرتلين، انتهت إليه رئاسة الإقراء بالديار المصرية. رحل إلى نافع فعرض عليه القرآن عدة ختمات في سنة 155. وله اختيار خالف فيه نافعا، وكان ثقة حجة، جيد القراءة، حسن الصوت، إذا قرأ يهمز ويمد ويشدّد ويبين الأعراب، لا يمله سامعه. كان قصيرا أشقر أزرق أبيض اللون، يلبس ثيابا قصارا فشبهه نافع ب (الورشان) الطائر المعروف، ثم خفّف فقيل: ورش. 2- ابن كثير المكي: عبد الله، أبو معبد العطار الداري الفارسي الأصل، إمام أهل مكة في القراءة (45- 120 هـ) . روى عن عدد من الصحابة لقيهم: عبد الله بن الزبير وأبي أيوب الأنصاري، وأنس بن مالك وغيرهم. وأخذ القراءة عرضا على درباس مولى بن عباس ومجاهد بن جبر وعبد الله بن السائب وغيرهم. وروى القراءة عنه جماعة منهم حماد بن زيد وحماد بن سلمة والخليل بن أحمد

وعيسى بن عمر الثقفي وأبو عمرو بن العلاء وسفيان بن عيينة وغيرهم. كان فصيحا بليغا مفوّها طويلا جسيما عليه السكينة والوقار. قال أبو عمرو بن العلاء: (ختمت على ابن كثير بعد ما ختمت على مجاهد، وكان ابن كثير أعلم بالعربية من مجاهد) . ولم يزل ابن كثير هو الإمام المجتمع عليه في القراءة بمكة حتى مات. البزي: أحمد بن محمد بن عبد الله، أبو الحسن البزي مقرئ مكة ومؤذن المسجد الحرام (170- 250 هـ) فارسي الأصل، أستاذ محقق ضابط متقن. قرأ على أبيه وعلى عبد الله بن زياد وعكرمة بن سليمان ووهب بن واضح. وقرأ عليه جماعة وروى عنه القراءة قنبل. قنبل: محمد بن عبد الرحمن المخزومي بالولاء، أبو عمر المكي الملقب بقنبل (195- 291 هـ) . شيخ القراء بالحجاز، أخذ القراءة عرضا عن أحمد بن محمد النبّال وخلفه بالقيام بها بمكة، وروى القراءة عن البزي. روى القراءة عنه جماعة كثيرة منهم أبو ربيعة محمد بن إسحاق وابن مجاهد وابن شنبوذ وغيرهم. انتهت إليه رئاسة الإقراء بالحجاز، ورحل الناس إليه من الأقطار، وكان على الشرطة بمكة لأنه كان لا يليها إلا رجل من أهل الفضل والخير والصلاح ليكون على صواب فيما يأتيه من الحدود والأحكام فحمدت سيرته. ولما طعن في السن قطع الإقراء، ومات بعد ذلك بسبع سنوات عن 96 سنة. 3- أبو عمرو بن العلاء: زبان بن العلاء التميمي المازني البصري (68- 154 هـ) . إمام العربية والإقراء مع الصدق والثقة والزهد، ليس في السبعة أكثر شيوخا منه. توجه مع أبيه لما هرب من الحجاج، فقرأ بمكة والمدينة، وقرأ أيضا بالكوفة والبصرة على جماعة كثيرة. سمع أنس بن مالك وغيره، وقرأ على الحسن البصري وأبي العالية وسعيد بن جبير وعاصم بن أبي النجود وعبد الله بن أبي إسحاق الحضرمي وابن كثير المكي وعكرمة مولى ابن عباس وابن محيصن ونصر بن عاصم ويزيد بن القعقاع المدني ويحيى بن يعمر. روى القراءة عنه عرضا جماعة كثيرة منهم مشهورون جدا مثل أبي زيد الأنصاري والأصمعي وعيسى بن عمر ويحيى اليزيدي وسيبويه. كانت دفاتره ملء بيت إلى السقف. مر الحسن البصري بأبي عمرو وحلقته متوافرة والناس عكوف فقال: (لا إله إلا الله، كادت العلماء أن يكونوا أربابا، كل عز لم يؤكد بعلم فإلى ذل يؤول) . وراجت قراءته بين العلماء ثم بين العامة. وقد شهد بن الجزري أن (القراءة التي عليها الناس اليوم) المائة التاسعة للهجرة بالشام والحجاز واليمن ومصر هي قراءة أبي عمرو، فلا تكاد تجد أحدا

يلقن القرآن إلّا على حرفه خاصة في الفرش. وقد صحت فراسة شعبة حين قال: (انظر ما يقرأ أبو عمرو مما يختار لنفسه فإنه سيصير للناس إسنادا) . وكان يونس بن حبيب يقول: (لو قسم علم أبي عمرو وزهده على مائة إنسان لكانوا كلهم علماء زهادا والله لو رآه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لسرّه ما هو عليه) . حفص الدوري: هو ابن عمر بن العزيز، أبو عمر الأزدي البغدادي النحوي الضرير (246 هـ) . إمام القراءة وشيخ الناس في زمانه، ثقة ثبت كبير ضابط. أول من جمع القراءات، وقرأ بالسبعة وبالشواذ وسمع من ذلك شيئا كثيرا. قرأ على الكسائي، وأخذ قراءة نافع عن إسماعيل بن جعفر، وقراءة يزيد بن القعقاع عن بن جمّاز. وقراءة حمزة عن محمد بن سعدان، ولأبي بكر عن عاصم، وعن يحيى اليزيدي قراءة أبي عمرو.. وغيرهم. وأخذ عنه القراءة جمع كبير، قال أبو داود: رأيت أحمد بن حنبل يكتب عن أبي عمر الدوري. السوسي: صالح بن زياد، أبو شعيب السوسي الرقي (261 هـ) مقرئ ضابط محرر ثقة. أخذ القراءة عرضا وسماعا عن أبي محمد اليزيدي (قراءة أبي عمرو) ، وقرأ على حفص قراءة عاصم. وأخذ عنه القراءة جماعة. مات وقد قارب السبعين. 4- ابن عامر الدمشقي: عبد الله أبو عمران اليحصبي (8- 118 هـ) . إمام أهل الشام في القراءة، وإليه انتهت مشيخة الإقراء فيها. أخذ القراءة عرضا عن الصحابي الجليل أبي الدرداء مقرئ أهل الشام، وعلى المغيرة بن أبي شهاب عن عثمان بن عفان، وعلى قراءته أهل الشام والجزيرة تلاوة وصلاة وتلقينا إلى قريب الخمسمائة. تولى قضاء دمشق بعد أبي إدريس الخولاني وإمامة الجامع بدمشق وكان ناظرا على عمارته حتى فرغ، لا يرى فيه بدعة إلا غيّرها، وائتمّ به الخليفة عمر بن عبد العزيز. كان إماما عالما ثقة فيما أتاه، متقنا لما وعاه، عارفا فهما قيما فيما جاء به، صادقا فيما نقله، من أفاضل المسلمين وخيار التابعين وأجلة الراوين. روى القراءة عنه جماعة منهم يحيى بن الحارث الذماري وهو الذي خلفه في القيام بالقراءة، وأخوه عبد الرحمن بن عامر وخلاد بن يزيد وغيرهم. هشام بن عمار: أبو الوليد السلمي الدمشقي (153- 245 هـ) . إمام أهل دمشق وخطيبهم ومحدثهم ومقرئهم ومفتيهم. أخذ القراءة عرضا عن أيوب بن تميم وعراك بن خالد وسويد بن عبد العزيز وغيرهم. وروى القراءة عنه أبو عبيد القاسم بن سلّام قبل وفاته بنحو أربعين سنة، وأحمد بن يزيد الحلواني وخلق كثير. لما توفي أيوب بن تميم رجعت القراءة في الشام إلى ابن ذكوان

وهشام. وكان هشام مشهورا بالعقل والفصاحة والعلم والرواية والدراية. رزق كبر السن وصحة العقل والرأي فارتحل الناس إليه في القراءات والحديث. ابن ذكوان: أبو عمرو عبد الله بن أحمد الفهري الدمشقي (173- 242 هـ) . الإمام الأستاذ المشهور الراوي الثقة، شيخ الإقراء بالشام وإمام جامع دمشق. أخذ القراءة عن أيوب بن تميم وخلفه في القيام بها بدمشق. وقرأ على الكسائي لما قدم الشام، وروى الحروف سماعا عن إسحاق بن المسيبي عن نافع. وروى عنه جماعة. ألف كتاب (أقسام القرآن وجوابها) و (ما يجب على قارئ القرآن عند حركة لسانه) . قال أبو زرعة الدمشقي وهو من تلاميذه: لم يكن بالعراق ولا بالحجاز ولا بالشام ولا بمصر ولا بخراسان في زمان ابن ذكوان أقرأ منه. 5- عاصم بن أبي النجود الكوفي: أبو بكر بن بهدلة الحناط مولى بني أسد (127 هـ) . شيخ الإقراء بالكوفة، جمع بين الفصاحة والإتقان والتحرير والتجويد، أحسن الناس صوتا بالقرآن، قال أبو بكر بن عياش: لا أحصي ما سمعت أبا إسحاق السبيعي يقول: ما رأيت أحدا أقرأ للقرآن من عاصم. أخذ القراءة عرضا عن زر بن حبيش وأبي عبد الرحمن السلمي وأبي عمرو الشيباني. روى القراءة عنه أبان بن تغلب وحفص بن سليمان وحماد بن زيد وأبو بكر بن عياش وجماعة. وروى عنه حروفا من القرآن أبو عمرو بن العلاء والخليل بن أحمد وحمزة الزيات. قال راويته حفص قال لي عاصم: (ما كان من القراءة التي أقرأتك بها فهي القراءة التي قرأت بها على أبي عبد الرحمن السلمي عن علي بن أبي طالب، وما كان من القراءة التي أقرأتها أبا بكر بن عياش فهي القراءة التي كنت أعرضها على زر بن حبيش عن ابن مسعود) . لم يكن عاصم يعدّ فواتح السور (الم، حم، كهيعص، طه، آيات على خلاف مذهب الكوفيين، وكان أحمد بن حنبل لا يفضل على قراءة عاصم إلا قراءة أهل المدينة. شعبة: أبو بكر بن عياش الأسدي النهشلي الكوفي الحناط (95- 193 هـ) . الإمام العلم راوي عاصم، عرض عليه القرآن ثلاث مرات، وعلى عطاء بن السائب وأسلم المنقري. وأخذ عنه جماعة، وأخذ عنه الحروف آخرون منهم الكسائي وخلاد الصيرفي. عمر دهرا إلا أنه قطع الإقراء قبل موته بسبع سنوات. وكان من أئمة السنة، وهو صاحب الكلمة المشهورة في أبي بكر الصديق: (ما فضلكم أبو بكر بكثير صلاة ولا صيام، ولكن بشيء وقر في صدره) . ذكر أبو عبد الله النخعي ويحيى بن معين (أنه لم يفرش لأبي بكر بن عياش فراش خمسين سنة) . وهو الذي يريده المصنف بقوله: وقرأ أبو بكر. حفص بن سليمان: أبو عمر الأسدي الكوفي البزار (90- 180- هـ) . أعلم

أصحاب عاصم بقراءته. كان ربيبه بن زوجته، ثقة في الإقراء، ثبت، ضابط. بروايته يقرأ أهل المشرق اليوم. أقرأ ببغداد ومكة والكوفة، وهو الذي أخذ على الناس قراءة عاصم تلاوة. قال يحيى بن معين: الرواية الصحيحة التي رويت عن قراءة عاصم هي رواية حفص بن سليمان. 6- حمزة بن حبيب الزيات: أبو عمارة الكوفي التيمي بالولاء (80- 156 هـ) . حبر القرآن، إمام الناس بعد عاصم والأعمش، زاهد عابد خاشع، قيم بالعربية والفرائض. أخذ القراءة عرضا عن سليمان الأعمش وحمران بن أعين وأبي إسحاق السبيعي وجعفر بن محمد الصادق، واختار مذهب حمران الذي يقرأ قراءة بن مسعود ولا يخالف مصحف عثمان. روى عنه القراءة كثيرون منهم إبراهيم بن أدهم والحسين الجعفي وسليم بن عيسى أضبط أصحابه، والكسائي أجل أصحابه ويحيى بن زياد الفراء ويحيى بن المبارك اليزيدي وغيرهم. وروى عنه رواة الإفراط في المد والهمز مع تكلف جعل الإمام أحمد بن حنبل يكره قراءة حمزة. وكان حمزة نفسه ينهاهم عن ذلك. خلف بن هشام: أبو محمد الأسدي البزار البغدادي (150- 229 هـ) . الإمام العلم، أحد القراء العشرة، وأحد الرواة عن سليم عن حمزة، ثقة كبير، زاهد عالم عابد. أخذ القرآن عرضا عن سليم بن عيسى وعبد الرحمن بن أبي حماد عن حمزة، وأبي زيد الأنصاري عن المفضل الضبي. وروى الحروف عن إسحاق المسيبي ويحيى بن آدم، وروى رواية ابن قتيبة عن عبيد بن عقيل من طريق بن شنبوذ المطوعي أداء وسماعا، وسمع من الكسائي ولم يقرأ عليه القرآن. روى القراءة عنه عرضا وسماعا ورّاقه أحمد بن إبراهيم وأحمد بن يزيد الحلواني. كان خلف يأخذ بمذهب حمزة إلا أنه خالفه في مائة وعشرين حرفا في اختياره. مات ببغداد وهو مختف من الجهمية. خلاد: أبو عيسى بن خالد الشيباني بالولاء، الصيرفي الكوفي (220 هـ) . إمام في القراءة ثقة عارف محقق أستاذ. أخذ القراءة عن سليم وهو من أضبط أصحابه وأجلهم، ورواها عن حسين بن علي الجعفي عن أبي بكر، وعن أبي بكر نفسه عن عاصم. روى القراءة عنه عرضا أحمد بن يزيد الحلواني والقاسم الوزان وهو أنبل أصحابه وآخرون. 7- الكسائي: أبو الحسن علي بن حمزة، فارسي الأصل، أسدي الولاء (119- 189) . انتهت إليه رئاسة الإقراء بالكوفة بعد حمزة الزيات. أخذ القراءة عرضا عن حمزة أربع مرات وعليه اعتماده وعن محمد بن أبي ليلى وعيسى بن عمر الهمداني، وروى الحروف عن أبي بكر بن عياش، وعن إسماعيل ويعقوب ابني جعفر قراءة نافع، وعن

بقية العشرة

المفضل الضبيّ. ورحل إلى البصرة فأخذ اللغة عن الخليل. أخذ القراءة عرضا وسماعا جمع منهم إبراهيم بن زاذان وحفص الدوري وأبو عبيد القاسم بن سلام وقتيبة بن مهران وخلف بن هشام البزار ويحيى بن زياد الفرّاء وغيرهم، وروى عنه الحروف يعقوب الحضرمي. ذكر أبو عبيد في كتاب (القراءات) أن الكسائي (كان يتخيّر القراءات فأخذ من قراءة حمزة ببعض وترك بعضا، وكان من أهل القراءة وهي كانت علمه وصناعته، ولم يجالس أحدا كان أضبط ولا أقوم بها منه. وكانت قراءته متوسطة غير خارجة عن آثار من تقدم من الأئمة إلا أن الناس كانوا يكثرون عليه حتى لا يضبط الأخذ عليهم، فيجمعهم ويجلس على كرسي ويتلو القرآن من أوله إلى آخره وهم يسمعون ويضبطون عنه حتى المقاطع والمبادي، وربما وقع منه خطأ فيأمرهم بمحوه من كتبهم) . ألف كتبا كثيرة في اللغة والنحو والقراءة منها: معاني القرآن، القراءات، مقطوع القرآن وموصوله، الهاءات. مات بقرية (بنويه) من عمل (الريّ) هو ومحمد بن الحسن القاضي صاحب أبي حنيفة مع الرشيد متوجّها إلى خراسان، فقال الرشيد: (دفنا الفقه والنحو بالريّ) وكان إمام الكوفيين في العربية. أبو الحارث: الليث بن خالد البغدادي (240 هـ) . ثقة معروف حاذق ضابط. عرض القراءة على الكسائي وهو من جلة أصحابه، وروى الحروف عن حمزة بن القاسم الأحول وعن اليزيدي. روى القراءة عنه عرضا وسماعا سلمة بن عاصم صاحب الفراء وغيره. الدوري: حفص بن عمر، أبو عمر الأزدي البغدادي النحوي الضرير (246 هـ) . نزيل (سامرا) ، إمام القراءة وشيخ الناس في زمانه، ثقة ثبت كبير ضابط، أول من جمع القراءات. رحل في طلبها وقرأ بجميع الحروف السبعة وبالشواذ، وسمع من ذلك شيئا كثيرا. قرأ على إسماعيل بن جعفر عن نافع وعن أبي جعفر، وعلى الكسائي لنفسه، ولأبي بكر عن عاصم وغيرهم. وروى القراءة عنه وقرأ عليه جماعة منهم الإمام الطبري المفسر المؤرخ. ورئي أحمد بن حنبل يكتب عنه. بقية العشرة 8- أبو جعفر يزيد بن القعقاع: المخزومي المدني القارئ (130 هـ) إمام تابعي مشهور، صالح متعبد كبير القدر. عرض القراءة على مولاه عبد الله بن عياش وعبد الله بن عباس وأبي هريرة، وروى عنهم وصلّى بابن عمر وأقرأ الناس. روى القراءة عنه نافع وسليمان بن مسلم بن جماز. وعيسى بن وردان وجماعة.

كان إمام أهل المدينة في القراءة فسمي القارئ. وشهد أبو الزناد أنه (لم يكن أحد أقرأ للسنة منه، وكان يقدم في زمانه على عبد الرحمن بن هرمز الأعرج) . عيسى بن وردان: أبو الحارث المدني الحذاء (160 هـ) . إمام مقرئ حاذق وراو محقق ضابط، عرض على أبي جعفر وشيبة، ثم عرض على نافع وهو من جلة أصحابه وشاركه في الإسناد. عرض عليه إسماعيل بن جعفر وقالون. ابن جماز سليمان بن مسلم بن جماز، أبو الربيع الزهري بالولاء، المدني (توفي بعد سنة 170 هـ) . مقرئ جليل ضابط، عرض على أبي جعفر وشيبة ثم على نافع، وأقرأ بحرف أبي جعفر وشيبة. عرض عليه إسماعيل بن جعفر وقتيبة بن مهران. 9- يعقوب الحضرميّ: بن إسحاق بن زيد بن عبد الله بن أبي إسحاق، أبو محمد مولى الحضرميين (117- 205 هـ) . إمام أهل البصرة ومقرئها، ثقة عالم صالح ديّن، إليه انتهت رئاسة القراءة بعد أبي عمرو، أعلم الناس بمذاهب النحويين في القراءات. أخذ القراءة عرضا عن جماعة منهم سلام الطويل ومهدي بن ميمون، وروى عن سلام حروف أبي عمرو بالإدغام، وسمع الحروف من الكسائي ومحمد بن زريق الكوفي عن عاصم، وسمع من حمزة حروفا، وقرأ على شهاب بن شرنقة قراءة أبي الأسود الدؤلي عن علي بن أبي طالب، وقراءته على أبي الأشهب عن أبي رجاء عن أبي موسى في غاية العلو. روى القراءة عنه عرضا جماعة كثيرة منهم أبو حاتم السجستاني وأبو عمر الدوري، قال السجستاني: (هو أعلم من رأيت بالحروف والاختلاف في القرآن، وعلله ومذاهبه ومذاهب النحو، وأروى الناس لحروف القرآن ولحديث الفقهاء) . وائتم به في اختياره عامة البصريين بعد أبي عمرو، ولا يقرأ إمام الجامع بالبصرة إلا بقراءته حتى المائة التاسعة زمن ابن الجزري الذي استنكر قول من عد قراءته من الشواذ فقال: (فليعلم أنه لا فرق بين قراءة يعقوب وقراءة غيره من السبعة عند أئمة المحققين، وهو الحق الذي لا محيد عنه) . وبلغ من جاهه في البصرة أنه كان يحبس ويطلق. رويس: محمد بن المتوكل أبو عبد الله اللؤلؤي البصري (- 238 هـ) . مقرئ حاذق ضابط مشهور جليل. أخذ القراءة عرضا عن يعقوب الحضرمي وختم عليه ختمات، وهو من أحذق أصحابه. روى القراءة عنه عرضا محمد بن هارون التمار والإمام أبو عبد الله الزبيري. كان يأخذ على المبتدئين بتحقيق الهمزتين معا في مثل «أأنذرتهم» و «جاء أجلهم» ، وكان يأخذ على الماهر بتخفيف الهمزة الثانية. روح بن عبد المؤمن: أبو الحسن البصري النحوي الهذلي بالولاء (- 234 هـ) . مقرئ جليل، ثقة ضابط مشهور من أجل أصحاب يعقوب، عرض عليه، وروى الحروف عن جماعة عن أبي عمرو. وعرض عليه جماعة منهم أحمد بن يزيد الحلواني.

فائدة

10- خلف بن هشام البزار: راوية حمزة (تقدمت ترجمته) . إسحاق الوراق: أبو يعقوب المروزي ثم البغدادي (- 286 هـ) . وراق خلف وراوي اختياره عنه، ثقة قيم بالقراءة، ضابط. قرأ على خلف اختياره وقام به بعده، وعلى الوليد بن مسلم. وقرأ عليه جماعة منهم بن شنبوذ. إدريس الحداد: أبو الحسن بن عبد الكريم البغدادي (189- 292 هـ) . إمام ضابط متقن ثقة، قرأ على خلف اختياره وروايته، وعلى محمد بن حبيب الشموني. وروى القراءة عنه سماعا بن مجاهد، وعرضا محمد بن أحمد بن شنبوذ وابن مقسم وأبو بكر النقاش وجماعة. فائدة ذكر العلامة الشيخ محمد الطاهر بن عاشور في مقدمة تفسيره (التحرير والتنوير 1/ 57 طبعة سنة 1964) ما يلي: «القراءات التي يقرأ بها اليوم في بلاد الإسلام من هذه القراءات العشر هي: 1- قراءة نافع برواية قالون: في بعض القطر التونسي وبعض القطر المصري، وفي ليبية. وبرواية ورش: في بعض القطر التونسي وبعض القطر المصري، وفي جميع القطر الجزائري، وجميع المغرب الأقصى وما يتبعه من البلاد، والسودان. 2- وقراءة عاصم برواية حفص عنه: في جميع الشرق من العراق والشام وغالب البلاد المصرية، [وجزيرة العرب] والهند، وباكستان، وتركية والأفغان. 3- وقراءة أبي عمرو البصري: فيما بلغني يقرأ بها في السودان المجاور لمصر (- 1 هـ) «1» .

_ (1) . قلت: كانت قراءة أبي عمرو غالبة على الأمصار الإسلامية. قال بن الجزري في أهل المائة التاسعة: «القراءة التي عليها الناس اليوم بالشام والحجاز واليمن ومصر هي قراءة أبي عمرو، فلا تكاد تجد أحدا يلقن القرآن إلا على حرفه، خاصة في الفرش» . والظاهر أن تقلب القراءات على مصر ما يتبع قراءة القارئ المقتدى به عند أهل المصر، فقد ذكر بن الجزري بعد ما تقدم أن الشام كانت تقرأ بحرف بن عامر إلى حدود الخمسمائة، فتركوا ذلك لأن شخصا قدم من أهل العراق وكان يلقن الناس بالجامع الأموي على قراءة أبي عمرو، فاجتمع عليه خلق واشتهرت هذه القراءة عنه وأقام سنين كذا بلغني وإلا فما أعلم السبب في إعراض أهل الشام عن قراءة ابن عامر وأخذهم بقراءة أبي عمرو. وأنا أعد ذلك من كرامات شعبة» . وكان قد نقل قبل أسطر قول شعبة الذي مر بك: «أنظر ما يقرأ أبو عمرو مما يختار لنفسه فإنه سيصير للناس إسنادا» - النشر 1/ 291. هذا وعلمت من فاضل سوداني أن قراءة أبي عمرو يقرأ بها في السودان اليوم في الخرطوم إلى (كسلا) ، إلى شمال أريتيريا، وفي شرقي (تشاد) . وحدثني آخر من أهل المدينة أنه اقتدى بتاجر بخاري صلّى في الحرم المدني فقرأ قراءة ابن كثير برواية الدوري، فلما سألوه قال: إنها قراءة أهل بلاده.

بقية الأربعة عشر

بقية الأربعة عشر 11- ابن محيصن: محمد بن عبد الرحمن السهمي بالولاء المكي (- 123 هـ) . مقرئ أهل مكة مع ابن كثير، ثقة، أعلم قراء مكة بالعربية وأقواهم عليها. عرض على مجاهد بن جبر ودرباس مولى ابن عباس وسعيد بن جبير. عرض عليه شبل بن عباد وأبو عمرو بن العلاء، وسمع منه حروفا إسماعيل بن مسلم المكي وعيسى بن عمر البصري. ولولا ما في قراءته من مخالفة المصحف لألحق بالقراءات المشهورة. قال ابن مجاهد: «كان لابن محيصن اختيار في القراءة على مذهب العربية، فخرج به عن إجماع أهل بلده، فرغب الناس عن قراءته وأجمعوا على قراءة ابن كثير لاتباعه» . البزي: أحد راويي ابن كثير أيضا، تقدمت ترجمته. ابن شنبوذ: محمد بن أحمد بن أيوب، أبو الحسن البغدادي (- 328 هـ) . شيخ الإقراء بالعراق، أستاذ، كبير، رحالة في طلب العلم، مع الثقة والخير والصلاح والعلم وقوة الحفظ. أخذ القراءة عرضا عن أحمد بن إبراهيم وراق خلف، وعن إبراهيم الحربي وقنبل وجماعة في أمصار عدة. وقرأ عليه جماعة كثيرة منهم أبو بكر بن مقسم والمعافى بن زكريا. وكانت العلاقة ساءت بينه وبين بن مجاهد فلم يقرئ من قرأ على بن مجاهد، ويقول فيه: (لم تغبّر قدماه في هذا العلم) . وكان يجوّز القراءة بالشاذ وهو ما خالف رسم المصحف، وعقد له بسبب ذلك مجلس استتيب به فاعترف وكتب عليه محضر بذلك. 12- اليزيدي: يحيى بن المبارك، الإمام أبو محمد العدويّ بالولاء، البصري (128- 202 هـ) . نحوي مقرئ ثقة علامة كبير في النحو والعربية والقراءة. أخذ القراءة عرضا عن أبي عمرو بن العلاء وخلفه بالقيام بها، وأخذ عن حمزة. روى القراءة عنه أولاده محمد وعبد الله وإبراهيم وإسماعيل، وأبو عمر الدوري وسليمان بن أيوب بن الحكم وسليمان بن خلاد وجماعة، وروى عنه الحروف أبو عبيد القاسم بن سلام. وله اختيار خالف فيه أبا عمرو في حروف يسيرة وهو أضبط أصحاب أبي عمرو عنه. وتصدى لروايتها عنه والاشتغال بها. قيل أنه أملى عشرة آلاف ورقة عن أبي عمرو خاصة. وكثيرا ما ينقل أبو زرعة في هذا الكتاب حججه في مثل قوله: وحجته ذكرها اليزيدي.. أو: وحجة أخرى ذكرها اليزيدي وهي.. سليمان: أبو أيوب بن الحكم الخياط البغدادي صاحب البصري (- 235 هـ) .

مقرئ جليل ثقة صدوق، حافظ لما يكتب عنه. قرأ على اليزيدي، وقرأ عليه أحمد بن حرب المعدل وجماعة. أحمد بن فرج: أبو جعفر الضرير البغدادي المفسر (- 303 هـ) . ثقة كبير، قرأ على الدوري تلميذ اليزيدي بجميع ما عنده من القراءات، وعلى عبد الرحمن بن واقد وعلى البزي وعمر بن شبة. وقرأ عليه جماعة منهم بن مقسم وابن مجاهد وابن شنبوذ. قارب التسعين. 13- الحسن البصري: أبو سعيد بن يسار (21- 110 هـ) . إمام زمانه علما وعملا، أشهر من أن يعرّف. وقرأ على حطان بن عبد الله الرقاشي عن أبي موسى الأشعري، وعن أبي العالية عن أبيّ بن كعب وزيد بن ثابت وعمر بن الخطاب. روى عنه أبو عمرو بن العلاء وسلام الطويل ويونس بن عبيد وعيسى بن عمر النحوي. قال الشافعي: لو أشاء أقول إن القرآن نزل بلغة الحسن لقلت، لفصاحته. شجاع بن أبي نصر البلخي: أبو نعيم البغدادي الزاهد (120- 190 هـ) . ثقة كبير. عرض على أبي عمرو بن العلاء وهو من جلة أصحابه وسمع من عيسى بن عمر. روى القراءة عنه أبو عبيد القاسم بن سلام وأبو عمر الدوري وغيرهما. سئل عنه الإمام أحمد بن حنبل فقال: «بخ بخ، وأين مثله اليوم» . الدوري: أحد راويي أبي عمرو بن العلاء أيضا، تقدمت ترجمته. 14- الأعمش: سليمان بن مهران، أبو محمد الكوفي مولي بني أسد (60- 148 هـ) . الإمام الجليل، مقرئ الأئمة، صاحب نوادر. أخذ القراءة عرضا عن إبراهيم النخعي وزر بن حبيش وعاصم بن أبي النجود ومجاهد بن جبر وأبي العالية الرياحي وغيرهم. روى القراءة عنه عرضا وسماعا حمزة الزيات ومحمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى وجماعة. وروى عنه الحروف محمد بن عبد الله المعروف بزاهر ومحمد بن ميمون. قال هشام: (ما رأيت في الكوفة أقرأ لكتاب الله من الأعمش) . وكان يقول: «إن الله زيّن بالقرآن أقواما، وإني ممن زينه الله بالقرآن، ولولا ذلك لكان على عنقي دنّ أطوف به في سكك الكوفة» . الحسن بن سعيد المطوعي: أبو العباس العباداني البصري العمري (- 371 هـ) . إمام عارف ثقة في القراءة. رحل فيها إلى الأقطار فقرأ على إدريس بن عبد الكريم

ومحمد الأصبهاني ويوسف الواسطي والحسن بن حبيب الدمشقي وابن مجاهد ويموت بن المزرع وابن شنبوذ وجماعة. وقرأ عليه جماعة، وعمّر حتى جاوز المائة فانتهى إليه علو الإسناد في القراءات. له كتاب معرفة اللامات وتفسيرها. أبو الفرج الشنبوذي: محمد بن أحمد إبراهيم الشطوي البغدادي (300- 388 هـ) . أستاذ من أئمة القراءة، مشهور نبيل حافظ حاذق، رحل ولقي الشيوخ وأكثر وتبحر في التفسير. أخذ القراءة عرضا عن ابن مجاهد وأبي بكر النقاش وأبي الحسن بن شنبوذ (ولازمه فنسب إليه) وغيرهم. وقرأ عليه جماعة واشتهر اسمه، وطال عمره مع علمه بالتفسير وعلل القراءات» اه.

سورة الفاتحة

سورة الفاتحة وهي سبع آيات (سورة أم القرآن) وتسمى سورة الحمد لله، وفاتحة الكتاب، والواقية، والشافية، والسبع المثاني. وفيها عشرون فائدة، سوى ما تقدّم في اللغات من تفسير ألفاظها، واختلف هل هي مكية أو مدنية؟ ولا خلاف أن الفاتحة سبع آيات، إلّا أنّ الشافعي يعدّ البسملة آية منها، والمالكيّ يسقطها، ويعدّ أنعمت عليهم آية. الفائدة الأولى: قراءة الفاتحة في الصلاة واجبة عند مالك والشافعي، خلافا لأبي حنيفة وحجتهما قوله صلّى الله عليه واله وسلّم للذي علمه الصلاة: «اقرأ ما تيسر من القرآن» «1» . الفائدة الثانية: اختلف هل أوّل الفاتحة على إضمار القول تعليما للعباد: أي قولوا: الحمد لله، أو هو ابتداء كلام الله، ولا بدّ من إضمار القول في: «إياك نعبد» وما بعده. الفائدة الثالثة: الحمد أعمّ من الشكر لأنّ الشكر لا يكون إلّا جزاء على نعمة، والحمد يكون جزاء كالشكر، ويكون ثناء ابتداء، كما أنّ الشكر قد يكون أعم من الحمد، لأن الحمد باللسان والشكر باللسان والقلب، والجوارح. فإذا فهمت عموم الحمد: علمت أنّ قولك: الحمد لله يقتضي الثناء عليه لما هو من الجلال والعظمة والوحدانية والعزة والإفضال والعلم والمقدرة والحكمة وغير ذلك من الصفات، ويتضمن معاني أسمائه الحسنى التسعة والتسعين، ويقتضي شكره والثناء عليه بكل نعمة أعطى ورحمة أولى جميع خلقه في الآخرة والأولى، فيا لها من كلمة جمعت ما تضيق عنه المجلدات، واتفق دون عدّه عقول الخلائق، ويكفيك أن الله جعلها أوّل كتابه، وآخر دعوى أهل الجنة. الفائدة الرابعة: الشكر باللسان هو الثناء على المنعم والتحدث بالنعم، قال رسول الله

_ (1) . ذكر المناوي في التيسير حديثا عن أنس بن مالك: «أفضل القرآن: الحمد لله رب العالمين» وعزاه للحاكم والبيهقي في شعب الإيمان وذكر الشافعي في الأم حديثا بسنده إلى عبادة بن الصامت: «لا صلاة لمن لم يقرأ فاتحة الكتاب» .

صلّى الله عليه واله وسلّم: «التحدّث بالنعم شكر» «1» والشكر بالجوارح هو العمل بطاعة الله وترك معاصيه، والشكر بالقلب هو معرفة مقدار النعمة. والعلم بأنها من الله وحده، والعلم بأنها تفضل لا باستحقاق العبد. وأعلم أن النعم التي يجب الشكر عليها لا تحصى، ولكنها تنحصر في ثلاثة أقسام: نعم دنيوية: كالعافية والمال، ونعم دينية: كالعلم، والتقوى. ونعم أخروية: وهي جزاؤه بالثواب الكثير على العمل القليل في العمر القصير. والناس في الشكر على مقامين: منهم من يشكر على النعم الواصلة إليه خاصة، ومنهم من يشكر الله عن جميع خلقه على النعم الواصلة إلى جميعهم، والشكر على ثلاث درجات: فدرجات العوام الشكر على النعم، ودرجة الخواص الشكر على النعم والنقم وعلى كل حال، ودرجة خواص الخواص أن يغيب عن النعمة بمشاهدة المنعم، قال رجل لإبراهيم بن أدهم: الفقراء إذا منعوا شكروا. وإذا أعطوا آثروا «2» ومن فضيلة الشكر أنه من صفات الحق، ومن صفات الخلق فإنّ من أسماء الله: الشاكر والشكور، وقد فسرتهما في اللغة. الفائدة الخامسة: قولنا: «الحمد لله رب العالمين» أفضل عند المحققين من لا إله إلّا الله لوجهين: أحدهما ما خرّجه النسائي عن رسول الله صلّى الله عليه واله وسلّم: «من قال لا إله إلّا الله كتب له عشرون حسنة، ومن قال الحمد لله رب العالمين كتب له ثلاثون حسنة» والثاني: أنّ التوحيد الذي يقتضيه لا إله إلّا الله حاصل في قولك «رب العالمين» وزادت بقولك الحمد لله، وفيه من المعاني ما قدّمنا، وأما قول رسول الله صلّى الله عليه واله وسلّم: «أفضل ما قلته أنا والنبيون من قبلي لا إله إلّا الله» «3» ، فإنما ذلك للتوحيد الذي يقتضيه، وقد شاركتها الحمد لله رب العالمين في ذلك وزادت عليها، وهذا المؤمن يقولها لطلب الثواب، أما لمن دخل في الإسلام فيتعين عليه لا إله إلّا الله. الفائدة السادسة: الرب وزنه فعل بكسر العين ثم أدغم، ومعانيه أربعة: الإله، والسيد، والمالك، والمصلح. وكلها في رب العالمين، إلّا أن الأرجح معنى الإله: لاختصاصه لله تعالى، كما أنّ الأرجح في العالمين: أن يراد به كل موجود سوى الله تعالى، فيعم جميع المخلوقات. الفائدة السابعة: ملك قراءة الجماعة بغير ألف من الملك، وقرأ عاصم والكسائي

_ (1) . أورده العجلوني في كشف الخفاء ص 298 ج 1 بلفظ: «التحدث بالنعمة شكر» وعزاه لأحمد والطبراني عن النعمان بن بشير. (2) . كذا بالأصل، والكلام فيه نقص والحكاية معروفة عن حدّ الشكر. (3) . هو جزء من حديث: أفضل الدعاء دعاء يوم عرفة وأفضل ما قلت ... عزاه العجلوني في كشف الخفاء لمالك مرسلا وللترمذي من حديث عمرو بن شعيب.

بالألف والتقدير على هذا: مالك مجيء يوم الدين، أو مالك الأمر يوم الدين، وقراءة الجماعة أرجح من ثلاثة أوجه. الأوّل: أنّ الملك أعظم من المالك إذ قد يوصف كل أحد بالمالك لماله، وأما الملك فهو سيد الناس، والثاني: قوله: وله الملك يوم ينفخ في الصور والثالث: أنها لا تقتضي حذفا، والأخرى تقتضيه لأنّ تقديرها مالك الأمر، أو مالك مجيء يوم الدين، والحذف على خلاف الأصل. وأمّا قراءة الجماعة فإضافة ملك إلى يوم الدين فهي على طريقة الاتساع، وأجري الظرف مجرى المفعول به، والمعنى على الظرفية: أي الملك في يوم الدين، ويجوز أن يكون المعنى ملك الأمور يوم الدين، فيكون فيه حذف. وقد رويت القراءتان في الحديث عن رسول الله صلّى الله عليه واله وسلّم، وقد قرئ ملك بوجوه كثيرة إلّا أنها شاذة. الفائدة الثامنة: الرحمن، الرحيم، مالك: صفات، فإن قيل: كيف جرّ مالك ومالك صفة للمعرفة، وإضافة اسم الفاعل غير محضة؟ فالجواب: أنها تكون غير محضة إذا كان بمعنى الحال أو الاستقبال، وأما هذا فهو مستمر دائما فإضافته محضة. الفائدة التاسعة: هو يوم القيامة ويصلح هنا في معاني الحساب والجزاء والقهر، ومنه إنا لمدينون. الفائدة العاشرة: إياك في الموضعين مفعول بالفعل الذي بعده، وإنما قدّم ليفيد الحصر فإنّ تقديم المعمولات يقتضي الحصر، فاقتضى قول العبد إياك نعبد أن يعبد الله وحده لا شريك له، واقتضى قوله: «وإياك نستعين» اعترافا بالعجز والفقر وأنا لا نستعين إلّا بالله وحده. الفائدة الحادية عشرة: إياك نستعين: أي نطلب العون منك على العبادة وعلى جميع أمورنا، وفي هذا دليل على بطلان قول القدرية والجبرية، وأنّ الحق بين ذلك. الفائدة الثانية عشرة: اهدنا: دعاء بالهدى. فإن قيل كيف يطلب المؤمنون الهدى وهو حاصل لهم؟ فالجواب إن ذلك طلب للثبات عليه إلى الموت، أو الزيادة منه فإنّ الارتقاء في المقامات لا نهاية له. الفائدة الثالثة عشرة: قدم الحمد والثناء على الدعاء لأنّ تلك السنة في الدعاء وشأن الطلب أن يأتي بعد المدح، وذلك أقرب للإجابة. وكذلك قدّم الرحمن على ملك يوم الدين لأنّ رحمة الله سبقت غضبه، وكذلك قدّم إياك نعبد على إياك نستعين لأنّ تقديم الوسيلة قبل طلب الحاجة. الفائدة الرابعة عشرة: ذكر الله تعالى في أوّل هذه السورة على طريق الغيبة، ثم على

الخطاب في إياك نعبد وما بعده، وذلك يسمى الالتفات، وفيه إشارة إلى أنّ العبد إذا ذكر الله تقرّب منه فصار من أهل الحضور فناداه. الفائدة الخامسة عشرة: الصراط في اللغة الطريق المحسوس الذي يمشى، ثم استعير للطريق الذي يكون الإنسان عليها من الخير والشر، ومعنى المستقيم القويم الذي لا عوج فيه، فالصراط المستقيم الإسلام، وقيل القرآن، والمعنيان متقاربان، لأنّ القرآن يضمن شرائع الإسلام وكلاهما مروي عن النبي صلّى الله عليه واله وسلّم وقرئ الصراط بالصاد والسين وبين الصاد والزاي، وقد قيل إنه قرئ بزاي خالصة، والأصل فيه السين، وإنما أبدلوا منها صادا لموافقة الطاء في الاستعلاء والإطباق، وأما الزاي فلموافقة الطاء في الجهر. الفائدة السادسة عشرة: الذين أنعمت عليهم: قال ابن عباس: هم النبيون والصديقون والشهداء والصالحون. وقيل: المؤمنون وقيل الصحابة، وقيل قوم موسى وعيسى قبل أن يغيروا، والأوّل أرجح لعمومه، ولقوله: مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ [النساء: 69] . الفائدة السابعة عشرة: إعراب غير المغضوب بدل، ويبعد النعت لأنّ إضافته غير مخصوصة وهو قد جرى عن معرفة وقرئ بالنصب على الاستثناء أو الحال. الفائدة الثامنة عشرة: إسناد أنعمت عليهم إلى الله. والغضب لما لم يسم فاعله على وجه التأدب: كقوله: وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ [الشعراء: 80] وعليهم أوّل في موضع نصب، والثاني في موضع رفع. الفائدة التاسعة عشرة: المغضوب عليهم اليهود، والضالين: النصارى، قال ابن عباس وابن مسعود وغيرهما، وقد روي ذلك عن النبي صلّى الله عليه واله وسلّم، وقيل ذلك عام في كل مغضوب عليه، وكل ضال، والأول أرجح لأربعة أوجه روايته عن النبي صلّى الله عليه وسلّم وجلالة قائله وذكر ولا في قوله: ولا الضالين دليل على تغاير الطائفتين وأن الغضب صفة اليهود في مواضع من القرآن: كقوله فَباؤُ بِغَضَبٍ [البقرة: 90] ، والضلال صفة النصارى لاختلاف أقوالهم الفاسدة في عيسى بن مريم عليه السلام، ولقول الله فيه: قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ [المائدة: 77] . الفائدة العشرون: هذه السورة جمعت معاني القرآن العظيم كله فكأنها نسخة مختصرة منه فتأملها بعد تحصيل الباب السادس من المقدّمة الأولى تعلم ذلك في الألوهية حاصلا في قوله: الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم، والدار الآخرة: في قوله مالك يوم الدين، والعبادات كلها من الاعتقادات والأحكام التي تقتضيها الأوامر والنواهي: في قوله

إياك نعبد والشريعة كلها في قوله: الصراط المستقيم، والأنبياء وغيرهم في قوله الذين أنعمت عليهم، وذكر طوائف الكفار في قوله غير المغضوب عليهم ولا الضالين. خاتمة: أمر بالتأمين عند خاتمة الفاتحة للدعاء الذي فيها، وقولك: آمين اسم فعل معناه: اللهم استجب، وقيل: هو من أسماء الله، ويجوز فيه مدّ الهمزة وقصرها، ولا يجوز تشديد الميم، وليؤمن في الصلاة المأموم والفذ والإمام إذا أسرّ، واختلفوا إذا جهر.

سورة البقرة

سورة البقرة مدنية إلا آية 281 فنزلت بمنى في حجة الوداع وآياتها مائتان وست وثمانون وهي أول سورة نزلت بالمدينة بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (سورة البقرة) الم اختلف فيه وفي سائر حروف الهجاء في أوائل حروف السور، وهي: المص، والر، والمر، وكهيعص، وطه، وطسم، وطس، ويس، وص، وق، وحم، وحم عسق، ون. فقال قوم: لا تفسر لأنها من المتشابه الذي لا يعلم تأويله إلّا الله، قال أبو بكر الصديق: لله في كل كتاب سرّ، وسرّه في القرآن فواتح السور، وقال قوم تفسر، ثم اختلفوا فيها، فقيل: هي أسماء الله، وقيل: أشياء أقسم الله بها، وقيل: هي حروف مقطعة من كلمات: فالألف من الله، واللام من جبريل، والميم من محمد صلّى الله عليه واله وسلّم، ومثل ذلك في سائرها، وإعراب هذه الحروف يختلف بالاختلاف في معناها فيتصور أن تكون في موضع رفع أو نصب أو خفض. فالرفع على أنها مبتدأ أو خبر ابتداء مضمر، والنصب على أنها مفعول بفعل مضمر، والخفض على قول من جعلها مقسما بها كقولك: الله لأفعلن ذلِكَ الْكِتابُ هو هنا القرآن، وقيل: التوراة والإنجيل، وقيل: اللوح المحفوظ وهو الصحيح الذي يدل عليه سياق الكلام ويشهد له مواضع من القرآن. والمقصود منها إثبات أن القرآن من عند الله كقوله: تَنْزِيلُ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ [السجدة: 2] يعني القرآن باتفاق، وخبر ذلك: لا ريب فيه، وقيل: خبره الكتاب فعلى هذا «ذلك الكتاب» جملة مستقلة فيوقف عليه لا رَيْبَ فِيهِ أي: لا شك أنه من عند الله في نفس الأمر في اعتقاد أهل الحق، ولم يعتبر أهل الباطل، وخبر لا ريب: فيه، فيوقف عليه، وقيل: خبرها محذوف فيوقف على «لا ريب» . والأول أرجح لتعيّنه في قوله: «لا ريب» في مواضع أخر. فإن قيل: فهلا قدم قوله فيه على الريب كقوله: «لا فيها غول» ؟ فالجواب: أنه إنما قصد نفي الريب عنه. ولو قدم فيه: لكان إشارة إلى أن ثمّ كتاب آخر فيه ريب، كما أن «لا فيها غول» إشارة إلى أن خمر الدنيا فيها غول، وهذا المعنى يبعد قصده فلا يقدم الخبر.

[سورة البقرة (2) : الآيات 3 إلى 8]

هُدىً هنا بمعنى الإرشاد لتخصيصه بالمتقين، ولو كان بمعنى البيان لعم كقوله: هُدىً لِلنَّاسِ. وإعرابه: خبر ابتداء، أو مبتدأ وخبره: فيه، عند ما يقف على لا ريب، أو منصوب على الحال والعامل فيه الإشارة لِلْمُتَّقِينَ مفتعلين من التقوى، وقد تقدّم معناه في الكتاب، فنتكلم عن التقوى في ثلاثة فصول. الأوّل: في فضائلها المستنبطة من القرآن، وهي خمس عشرة: الهدى كقوله: هُدىً لِلْمُتَّقِينَ [البقرة: 2] والنصرة، لقوله: إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا [النحل: 128] والولاية لقوله: اللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ [الجاثية: 18] والمحبة لقوله: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ [براءة: 4] والمغفرة لقوله: إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً [الأنفال: 29] والمخرج من الغم والرزق من حيث لا يحتسب لقوله: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً [الطلاق: 2] الآية وتيسير الأمور لقوله: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً [الطلاق: 4] وغفران الذنوب وإعظام الأجور لقوله: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً [الطلاق: 5] وتقبل الأعمال لقوله: إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ [المائدة: 27] والفلاح لقوله: وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [البقرة: 189] والبشرى لقوله: هُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ [يونس: 64] ودخول الجنة لقوله: إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ [القلم: 34] والنجاة من النار لقوله: ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا [مريم: 72] . الفصل الثاني: البواعث على التقوى عشرة: خوف العقاب الأخروي، وخوف العقاب الدنيوي، ورجاء الثواب الدنيوي، ورجاء الثواب الأخروي، وخوف الحساب، والحياء من نظر الله، وهو مقام المراقبة، والشكر على نعمه بطاعته، والعلم لقوله: إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ [فاطر: 28] وتعظيم جلال الله، وهو مقام الهيبة، وصدق المحبة لقول القائل: - تعصي الإله وأنت تظهر حبه ... هذا لعمري في القياس بديع لو كان حبك صادقا لأطعته ... إن المحب لمن يحب مطيع ولله درّ القائل: - قالت وقد سألت عن حال عاشقها: ... لله صفه ولا تنقص ولا تزد فقلت: لو كان يظن الموت من ظمإ ... وقلت: قف عن ورود الماء لم يرد الفصل الثالث: درجات التقوى خمس: أن يتقي العبد الكفر، وذلك مقام الإسلام، وأن يتقي المعاصي والحرمات وهو مقام التوبة، وأن يتقي الشبهات، وهو مقام الورع، وأن يتقي المباحات وهو مقام الزهد، وأن يتقي حضور غير الله على قلبه، وهو مقام المشاهدة الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ فيه قولان: يؤمنون بالأمور المغيبات كالآخرة وغيرها، فالغيب على

هذا بمعنى الغائب إما تسمية بالمصدر كعدل، وإما تخفيفا في فعيل: كميت، والآخر: يؤمنون في حال غيبهم، أي باطنا وظاهرا، وبالغيب: على القول الأوّل: يتعلق بيؤمنون، وعلى الثاني: في موضع الحال، ويجوز في الذين أن يكون خفضا على النعت، أو نصبا على إضمار فعل، أو رفعا على أنه خبر مبتدأ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ إقامتها: علمها من قولك: قامت السوق «1» ، وشبه ذلك، والكمال: المحافظة عليها في أوقاتها، بالإخلاص لله في فعلها، وتوفية شروطها، وأركانها، وفضائلها، وسننها، وحضور القلب الخشوع فيها، وملازمة الجماعة في الفرائض والإكثار من النوافل. وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ فيه ثلاثة أقوال: الزكاة لاقترانها مع الصلاة، والثاني: أنه التطوّع، والثالث: العموم، وهو الأرجح: لأنه لا دليل على التخصيص، وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ هل هم المذكورون قبل فيكون من عطف الصفات، أو غيرهم وهم من أسلم من أهل الكتاب، فيكون عطفا للمغايرة، أو مبتدأ وخبره الجملة بعد بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ القرآن وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ التوراة والإنجيل وغيرهما من كتب الله عز وجل إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا فيمن سبق القدر أنه لا يؤمن كأبي جهل، فإن كان الذين للجنس: فلفظها عام يراد به الخصوص، وإن كان للعهد فهو إشارة إلى قوم بأعيانهم، وقد اختلف فيهم فقيل: المراد من قتل ببدر من كفار قريش، وقيل: المراد حييّ بن أخطب وكعب بن الأشرف اليهوديان سَواءٌ خبر إن وأَنْذَرْتَهُمْ فاعل به لأنه في تقدير المصدر، وسواء مبتدأ، وأنذرتهم خبره أو العكس وهو أحسن، ولا يُؤْمِنُونَ على هذه الوجوه: استئنافا للبيان، أو للتأكيد، أو خبر بعد خبر، أو تكون الجملة اعتراضا، ولا يؤمنون الخبر، والهمزة فيء أنذرتهم لمعنى التسوية قد انسلخت من معنى الاستفهام خَتَمَ الآية تعليل لعدم إيمانهم، وهو عبارة عن إضلالهم، فهو مجاز وقيل: حقيقة، وأن القلب كالكف ينقبض مع زيادة الضلال إصبعا إصبعا حتى يختم عليه، والأوّل أبرع، وعَلى سَمْعِهِمْ معطوف على قلوبهم، فيوقف عليه، وقيل الوقف على قلوبهم، والسمع راجع إلى ما بعده، والأوّل أرجح لقوله: «وختم على سمعه وقلبه» [الجاثية: 23] غِشاوَةٌ مجاز باتفاق، وفيه دليل على وقوع المجاز في القرآن خلافا لمن منعه، ووحد السمع لأنه مصدر في الأصل، والمصادر لا تجمع ومِنَ النَّاسِ أصل الناس أناس لأنه مشتق من الإنس

_ (1) . المراد بإقامة الصلاة: عدم التهاون بها. راجع تفسير الطبري.

[سورة البقرة (2) : الآيات 9 إلى 13]

وهو اسم جمع وحذفت الهمزة مع لام التعريف تخفيفا مَنْ يَقُولُ إن كان اللام في الناس للجنس فمن موصوفة وإن جعلتها للعهد فمن موصولة، وأفرد الضمير في يقول رعيا للفظ: ومن وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ هم المنافقون، وكانوا جماعة من الأوس والخزرج، رأسهم عبد الله بن أبيّ بن سلول، يظهرون الإسلام ويسرّون الكفر، ويسمى الآن من كان كذلك: زنديقا، وهم في الآخرة مخلدون في النار، وأما في الدنيا إن لم تقم عليهم بينة فحكمهم كالمسلمين في دمائهم وأموالهم، وإن شهد على معتقدهم شاهدان عدلان، فمذهب مالك: القتل، دون الاستتابة، ومذهب الشافعي الاستتابة وترك القتل، فإن قيل: كيف جاء قولهم «آمنا» جملة فعلية «وما هم بمؤمنين» جملة اسمية فهلا طابقتها؟ فالجواب: أن قولهم «1» «وما هم بمؤمنين» أبلغ وآكد في الإيمان عنهم من لو قال: ما آمنوا، فإن قيل: لم جاء قولهم: آمنا مقيدا بالله وباليوم الآخر، وما هم بمؤمنين مطلقا؟ فالجواب أنه يحتمل وجهين: التقييد فتركه لدلالة الأوّل عليه، والإطلاق، وهو أعم في سلبهم من الإيمان يُخادِعُونَ أي يفعلون فعل المخادع، ويرومون الخدع بإظهار خلاف ما يسرون، وقيل: معناه يخدعون رسول الله صلّى الله عليه واله وسلّم، والأوّل أظهر وَما يَخْدَعُونَ إِلَّا أنفسهم أي وبال فعلهم راجع عليهم، وقرئ: وما يخدعون بفتح الياء من غير ألف «2» من خدع وهو أبلغ في المعنى، لأنه يقال خادع إذا رام الخداع، وخدع إذا تم له وَما يَشْعُرُونَ حذف معموله أي: لا يشعرون أنهم يخدعون أنفسهم. فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يحتمل أن يكون حقيقة، وهو الألم الذي يجدونه من الخوف وغيره، وأن يكون مجازا بمعنى الشك أو الحسد فَزادَهُمُ يحتمل الدعاء والخبر يَكْذِبُونَ بالتشديد أي يكذبون الرسول صلّى الله عليه واله وسلّم وقرئ: بالتخفيف أي يكذبون «3» في قولهم آمنا لا تُفْسِدُوا أي بالكفر والنميمة وإيقاع الشر وغير ذلك إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ يحتمل أن يكون جحود الكفر لقولهم آمنا، أو اعتقاد أمنهم على إصلاح كَما آمَنَ النَّاسُ أصحاب النبي صلّى الله عليه واله وسلّم، والكاف يحتمل أن تكون للتشبيه أو للتعليل، وما يحتمل أن تكون كافة كما هي وربما أن تكون مصدرية أَنُؤْمِنُ إنكار منهم وتقبيح هُمُ السُّفَهاءُ ردّ عليهم وإناطة السفه بهم، وكذلك هم المفسدون، وجاء بالألف واللام ليفيد حصر السفه

_ (1) . الأصح أن يقول: قوله بإعادة الضمير إلى الله. (2) . وهي قراءة حفص عن عاصم المشهورة في مصر وبلاد المشرق وانظر كتاب الحجة في القراءات السبع لابن خالويه ص: 68. (3) . وهي قراءة حفص عن عاصم المشهورة في مصر وبلاد المشرق وانظر كتاب الحجة في القراءات السبع لابن خالويه ص: 68.

[سورة البقرة (2) : الآيات 14 إلى 17]

والفساد فيهم، وأكده بإن وبألا التي تقتضي الاستئناف وتنبيه المخاطب قالُوا آمَنَّا كذبوا خوفا من المؤمنين خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ هم رؤساء الكفر، وقيل: شياطين الجن، وهو بعيد. وتعدّي خلا بإلى ضمن معنى مشوا وذهبوا أو ركنوا، وقيل: إلى بمعنى مع، أو بمعنى الباء وجه قولهم إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ بجملة اسمية مبالغة وتأكيد، بخلاف قولهم: آمنا، فإنه جاء بالفعل لضعف إيمانهم اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ فيه ثلاثة أقوال: تسمية للعقوبة باسم الذنب: كقوله «ومكروا ومكر الله» وقيل: يملي لهم بدليل قوله: «ويمدّهم» وقيل يفعل بهم في الآخرة ما يظهر لهم أنه استهزأ بهم كما جاء في سورة الحديد: 13 ارْجِعُوا وَراءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً الآية وَيَمُدُّهُمْ يزيدهم، وقيل يملي لهم، وقد ذكروا يعمهون اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ عبارة عن تركهم الهدى مع تمكنهم منه ووقوعهم في الضلالة، فهو مجاز بديع فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ ترشيح للمجاز، لمّا ذكر الشر ذكر ما يتبعه من الربح والخسران، وإسناد عدم الربح إلى التجارة مجاز أيضا لأن الرابح أو الخاسر هو التاجر وَما كانُوا مُهْتَدِينَ في هذا الشراء، أو على الإطلاق. وقال الزمخشري: نفى الربح في قوله: فما ربحت، ونفى سلامة رأس المال في قوله: وما كانوا مهتدين مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ إن كان المثل هنا بمعنى حالهم وصفتهم فالكاف للتشبيه وإن كان المثل بمعنى التشبيه فالكاف زائدة اسْتَوْقَدَ أي أوقد، وقيل: طلب الوقود على الأصل في استفعل فَلَمَّا أَضاءَتْ إن تعدّى فما حوله مفعول به، وإن لم يتعدّ فما زائدة أو ظرفية ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ أي أذهبه، وهذه الجملة جواب لما محذوف تقديره: طفيت النار، وذهب الله بنورهم: جملة مستأنفة والضمير عائد على المنافقين، فعلى هذا يكون «الذي» على بابه من الإفراد، والأرجح أنه أعيد ضمير الجماعة لأنه لم يقصد بالذي: واحد بعينه إنما المقصود التشبيه بمن استوقد نارا سواء كان واحدا أو جماعة، ثم أعيد الضمير بالجمع ليطابق المشبه، لأنهم جماعة، فإن قيل: ما وجه تشبيه المنافقين بصاحب النار التي أضاءت ثم أظلمت؟ فالجواب من ثلاثة أوجه: أحدها: أن منفعتهم في الدنيا بدعوى الإيمان شبيه بالنور، وعذابهم في الآخرة شبيه بالظلمة بعده، والثاني: أن استخفاء كفرهم كالنور، وفضيحتهم كالظلمة، والثالث: أنّ ذلك فيمن آمن منهم ثم كفر، فإيمانه نور، وكفره بعده ظلمة، ويرجح هذا قوله: «ذلك بأنهم آمنوا ثم كفروا» فإن قيل: لم قال:

[سورة البقرة (2) : الآيات 18 إلى 19]

ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ ولم يقل: أذهب الله نورهم، مشاكلة لقوله: فَلَمَّا أَضاءَتْ فالجواب: أن إذهاب النور أبلغ لأنه إذهاب للقليل والكثير، بخلاف الضوء فإنه يطلق على الكثير صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ يحتمل أن يراد به المنافقون، والمستوقد المشبه بهم، وهذه الأوصاف مجاز عبارة عن عدم انتفاعهم بسمعهم وأبصارهم وكلامهم، وليس المراد فقد الحواس فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ إن أريد به المنافقون: فمعناه لا يرجعون إلى الهدى، وإن أريد به أصحاب النار: فمعناه أنهم متحيرون في الظلمة، لا يرجعون ولا يهتدون إلى الطريق أَوْ كَصَيِّبٍ عطف على الذي استوقد، والتقدير: أو كصاحب صيب، أو للتنويع لأن هذا مثل آخر ضربه الله للمنافقين، والصيب: المطر، وأصله صيوب، ووزنه فعيل، وهو مشتق من قولك صاب يصوب، وفي قوله مِنَ السَّماءِ إشارة إلى قوته وشدّة انصبابه، قال ابن مسعود: إنّ رجلين من المنافقين هربا إلى المشركين، فأصابهما هذا المطر وأيقنا بالهلاك، فعزما على الإيمان، ورجعا إلى النبي صلّى الله عليه واله وسلّم وحسن إسلامهما، فضرب الله ما أنزل فيهما مثلا للمنافقين، وقيل: المعنى تشبيه المنافقين في حيرتهم في الدين وفي خوفهم على أنفسهم بمن أصابه مطر فيه ظلمات ورعد وبرق، فضلّ عن الطريق وخاف الهلاك على نفسه، وهذا التشبيه على الجملة، وقيل: إنّ التشبيه على التفصيل، فالمطر مثل للقرآن أو الإسلام، والظلمات مثل لما فيه من الإشكال على المنافقين، والرعد مثل لما فيه من الوعيد والزجر لهم، والبرق مثل لما فيه من البراهين الواضحة، فإن قيل: لم قال رعد وبرق بالإفراد، ولم يجمعه كما جمع ظلمات؟ فالجواب: أن الرعد والبرق مصدران، والمصدر لا يجمع، ويحتمل أن يكونا اسمين وجمعهما «1» لأنهما في الأصل مصدران يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ أي من أجل الصواعق، قال ابن مسعود: كانوا يجعلون أصابعهم في آذانهم، لئلا يسمعوا القرآن في مجلس النبي صلّى الله عليه واله وسلّم. فهو على هذا حقيقة في المنافقين، والصواعق على هذا ما يكرهون من القرآن، والموت هو ما يتخوفونه فهما مجازان، وقيل: لأنه راجع لأصحاب المطر المشبه بهم فهو حقيقة فيهم، والصواعق على هذا حقيقة، وهي التي تكون من المطر من شدة الرعد، ونزول قطعة نار والموت أيضا حقيقة. وقيل: إنه راجع للمنافقين على وجه التشبيه لهم في خوفهم بمن جعل أصابعه في آذانه من شدة الخوف من المطر والرعد، فإن قيل: لم قال أصابعهم ولم يقل أناملهم والأنامل هي التي تجعل في الآذان؟ فالجواب أن ذكر الأصابع أبلغ لأنها أعظم من الأنامل، ولذلك جمعها مع أن الذي يجعل في الآذان السبابة خاصة وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ أي لا يفوتونه بل هم تحت قهره، وهو قادر على عقابهم

_ (1) . ربما كان الأصل: ولم يجمعهما.

[سورة البقرة (2) : الآيات 20 إلى 21]

يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ إن رجع الضمير إلى أصحاب المطر وهم الذين شبه بهم المنافقين: فهو بيّن في المعنى، وإن رجع إلى المنافقين: فهو تشبيه بمن أصابه البرق على وجهين: أحدهما: تكاد براهين القرآن تلوح لهم كما يضيء البرق، وهذا مناسب لتمثيل البراهين بالبرق حسبما تقدم، والآخر: يكاد زجر القرآن ووعيده يأخذهم كما يكاد البرق يخطف أبصار أصحاب المطر المشبه بهم كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ إن رجع إلى أصحاب المطر فالمعنى أنهم يمشون بضوء البرق إذا لاح لهم، وإن رجع إلى المنافقين فالمعنى أنه يلوح لهم من الحق ما يقربون به من الإيمان وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا إن رجع إلى أصحاب المطر فالمعنى أنهم إذا زال عنهم الضوء وقفوا متحيرين لا يعرفون الطريق، وإن رجع إلى المنافقين: فالمعنى أنه إذا ذهب عنهم ما لاح لهم من الإيمان: ثبتوا على كفرهم، وقيل: إنّ المعنى كلما صلحت أحوالهم في الدنيا قالوا هذا دين مبارك فهذا مثل الضوء، وإذا أصابتهم شدّة أو مصيبة عابوا الدين وسخطوا: فهذا مثل الظلمة، فإن قيل: لم قال مع الإضاءة كلما، ومع الظلام إذا؟ فالجواب أنهم لما كانوا حراصا على المشي ذكر معه كلما، لأنها تقتضي التكرار والكثرة وَلَوْ شاءَ اللَّهُ الآية: إن رجع إلى أصحاب المطر: فالمعنى لو شاء الله لأذهب سمعهم بالرعد وأبصارهم بالبرق، وإن رجع إلى المنافقين: فالمعنى لو شاء الله لأوقع بهم العذاب والفضيحة، وجاءت العبارة عن ذلك بإذهاب سمعهم وأبصارهم، والباء للتعدية كما هي في قوله تعالى: ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ يا أَيُّهَا النَّاسُ الآية لما قدّم اختلاف الناس في الدين وذكر ثلاث طوائف: المؤمنين، والكافرين والمنافقين: أتبع ذلك بدعوة الخلق إلى عبادة الله، وجاء بالدعوة عامة للجميع لأنّ النبي صلّى الله عليه واله وسلّم بعث إلى جميع الناس اعْبُدُوا رَبَّكُمُ يدخل فيه الإيمان به سبحانه وتوحيده وطاعته، فالأمر بالإيمان به لمن كان جاحدا، والأمر بالتوحيد لمن كان مشركا، والأمر بالطاعة لمن كان مؤمنا لَعَلَّكُمْ يتعلق بخلقكم: أي خلقكم لتتقوه كقوله: وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات: 56] أو بفعل مقدّر من معنى الكلام أي: دعوتكم إلى عبادة الله لعلكم تتقون، وهذا أحسن. وقيل: يتعلق بقوله: «اعبدوا» وهذا ضعيف. وإن كانت لعل للترجي فتأويله أنه في حق المخلوقين، جريا على عادة كلام العرب، وإن كانت للمقاربة أو التعليل فلا إشكال، والأظهر فيها أنها لمقاربة الأمر نحو: عسى، فإذا قالها الله: فمعناها أطباع العباد، وهكذا القول فيها حيث ما وردت في كلام الله تعالى: الْأَرْضَ فِراشاً تمثيل لما كانوا يقعدون وينامون عليها كالفراش فهو مجاز وكذلك السماء بناء مِنَ الثَّمَراتِ من للتبعيض أو لبيان الجنس، لأنّ الثمرات هو المأكول من الفواكه وغيرها

فوائد ثلاث

والباء في به سببية، أو كقولك: كتبت بالقلم لأنّ الماء سبب في خروج الثمرات بقدرة الله تعالى فَلا تَجْعَلُوا لا ناهية أو نافية، وانتصب الفعل بإضمار أن بعد الفاء في جواب اعبدوا، والأوّل أظهر أَنْداداً «1» يراد به هنا الشركاء المعبودون مع الله جلّ وعلا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ حذف مفعوله مبالغة وبلاغة أي: وأنتم تعلمون وحدانيته بما ذكر لكم من البراهين، وفي ذلك بيان لقبح كفرهم بعد معرفتهم بالحق، ويتعلق قوله بلا تجعلوا بما تقدّم من البراهين، ويحتمل أن يتعلق بقوله: «اعبدوا» والأوّل أظهر. فوائد ثلاث الأولى: هذه الآية ضمنت دعوة الخلق إلى عبادة الله بطريقين: أحدهما: إقامة البراهين بخلقتهم وخلقة السموات والأرض والمطر والسموات. والآخر: ملاطفة جميلة بذكر ما لله عليهم من الحقوق ومن الإنعام، فذكر أوّلا ربوبيته لهم، ثم ذكر خلقته لهم وآبائهم، لأنّ الخالق يستحق أن يعبد، ثم ذكر ما أنعم الله به عليهم من جعل الأرض فراشا والسماء بناء، ومن إنزال المطر، وإخراج الثمرات، لأنّ المنعم يستحق أن يعبد ويشكر، وانظر قوله: جعل لكم، ورزقا لكم: يدلك على ذلك لتخصيصه ذلك بهم في ملاطفة وخطاب بديع. الثانية: المقصود الأعظم من هذه الآية: الأمر بتوحيد الله وترك ما عبد من دونه لقوله في آخرها: فلا تجعلوا لله أندادا، وذلك هو الذين يترجم عنه بقولنا: لا إله إلّا الله، فيقتضي ذلك الأمر بالدخول في دين الإسلام الذي قاعدته التوحيد، وقول لا إله إلّا الله تكون في القرآن ذكر المخلوقات «2» ، والتنبيه على الاعتبار في الأرض والسموات والحيوان والنبات والرياح والأمطار والشمس والقمر والليل والنهار، وذلك أنها تدلّ بالعقل على عشرة أمور. وهي: أنّ الله موجود، لأنّ الصنعة دليل على الصانع لا محالة، وأنه واحد لا شريك له، لأنه لا خالق إلّا هو أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ [النحل: 17] وأنه حيّ قدير عالم مريد، لأنّ هذه الصفات الأربع من شروط الصانع. إذ لا تصدر صنعة عمن عدم صفة منها، وأنه قديم لأنه صانع للمحدثات، فيستحيل أن يكون مثلها في الحدوث، وأنه باق، لأنّ ما ثبت قدمه استحال عدمه، وأنه حكيم، لأنّ آثار حكمته ظاهرة في إتقانه للمخلوقات وتدبيره للملكوت، وأنه رحيم، لأن في كل ما خلق منافع لبني آدم سخر لهم ما في السموات وما في الأرض. وأكثر ما يأتي ذكر المخلوقات في القرآن في معرض الاستدلال على وجوده تعالى وعلى وحدانيته، فإن قيل لم قصر الخطاب بقوله لعلكم تتقون على

_ (1) . جمع ند ومعناه: النظير، والشبيه. (2) . ربما في الكلام نقص. والله أعلم.

[سورة البقرة (2) : الآيات 23 إلى 24]

المخاطبين دون الذين من قبلهم، مع أنه أمر الجميع بالتقوى؟ فالجواب: أنه لم يقصره عليهم ولكنه غلّب المخاطبين على الغائبين في اللفظ، والمراد الجميع، فإن قيل: هلا قال لعلكم تعبدون مناسبة لقوله اعبدوا؟ فالجواب أنّ التقوى غاية العبادة وكمالها، فكان قوله: لعلكم تتقون أبلغ وأوقع في النفوس وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ الآية إثبات لنبوّة محمد صلّى الله عليه واله وسلّم بإقامة الدليل على أنّ القرآن جاء به من عند الله، فلما قدّم إثبات الألوهية أعقبها بإثبات النبوّة، فإن قيل: كيف قال إن كنتم في ريب، ومعلوم أنهم كانوا في ريب وفي تكذيب؟ فالجواب أنه ذكر حرف إن إشارة إلى أنّ الريب بعيد عند العقلاء في مثل هذا الأمر الساطع البرهان، فلذلك وضع حرف التوقع والاحتمال في الأمر الواقع، لبعد وقوع الريب وقبحه عند العقلاء وكما قال تعالى لا رَيْبَ فِيهِ عَلى عَبْدِنا هو النبي صلّى الله عليه واله وسلّم، والعبودية على وجهين: عامة، وهي التي بمعنى الملك، وخاصة وهي التي يراد بها التشريف والتخصيص، وهي من أوصاف أشراف العباد. ولله در القائل: لا تدعني إلّا بيا عبدها ... فإنّه أشرف أسمائي فَأْتُوا بِسُورَةٍ أمر يراد به التعجيز مِنْ مِثْلِهِ الضمير عائد على ما أنزلنا وهو القرآن، ومن لبيان الجنس، وقيل يعود على النبي صلّى الله عليه واله وسلّم، فمن على هذا: لابتداء الغاية من بشر مثله، والأول أرجح لتعيينه في يونس وهود، وبمعنى مثله في فصاحته وفيما تضمنه من العلوم والحكم العجيبة والبراهين الواضحة شُهَداءَكُمْ آلهتكم أو أعوانكم أو من يشهد لكم مِنْ دُونِ اللَّهِ أي غير الله، وقيل: هو من الدين الحقير، فهو مقلوب اللفظ وَلَنْ تَفْعَلُوا اعتراض بين الشرط وجوابه فيه مبالغة وبلاغة، وهو إخبار ظهير «1» مصداقه في الوجود إذ لم يقدر أحد أن يأتي بمثل القرآن، مع فصاحة العرب في زمان نزوله، وتصرفهم في الكلام، وحرصهم على التكذيب، وفي الإخبار بذلك معجزة أخرى، وقد اختلف في عجز الخلق عنه على قولين: أحدهما: أنه ليس في قدرتهم الإتيان بمثله وهو الصحيح، والثاني: أنه كان في قدرتهم وصرفوا عنه، والإعجاز حاصل على الوجهين، وقد بيّنا سائر وجوه إعجازه في المقدّمة فَاتَّقُوا النَّارَ أي فآمنوا لتنجوا من النار، وعبر باللازم عن ملازمه، لأن ذكر النار أبلغ في التفخيم والتهويل والتخويف وَقُودُهَا حطبها الْحِجارَةُ قال ابن مسعود: هي حجارة الكبريت لسرعة اتقادها وشدّة حرها وقبح رائحتها، وقيل الحجارة المعبودة، وقيل الحجارة على الإطلاق أُعِدَّتْ دليل على أنها قد خلقت، وهو مذهب الجماعة وأهل السنة، خلافا لمن قال: إنها تخلق يوم القيامة، وكذلك الجنة وَبَشِّرِ يحتمل أن تكون خطابا للنبي صلّى الله عليه واله وسلّم، أو خطابا لكل

_ (1) . والصواب: ظهر.

أحد، ورجّح الزمخشري هذا لأنه أفخم الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ دليل على أن الإيمان خلاف العمل لعطفه عليه، خلافا لمن قال: الإيمان اعتقاد، وقول، وعمل، وفيه دليل على أن السعادة بالإيمان مع الأعمال، خلافا للمرجئة تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ أي تحت أشجارها وتحت مبانيها، وهي أنهار الماء واللبن والخمر والعسل وهكذا تفسيره وقع، وروي أن أنهار الجنة تجري في غير أخدود مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً من الأولى: للغاية أو للتبعيض أو لبيان الجنس، ومن الثانية: لبيان الجنس، مِنْ قَبْلُ أي في الدنيا، بدليل قولهم: «إنا كنا قبل في أهلنا مشفقين» [الطور: 26] في الدنيا، فإن ثمر الجنة أجناس ثمر الدنيا، وإن كانت خيرا منها في المطعم والمنظر وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً أي يشبه ثمر الدنيا في جنسه، وقيل يشبه بعضه بعضا في المنظر ويختلف في المطعم، والضمير المجرور يعود على المرزوق الذي يدل عليه المعنى مُطَهَّرَةٌ من الحيض وسائر الأقذار، ويحتمل أن يريد طهارة الطيب وطيب الأخلاق لا يَسْتَحْيِي تأوّل قوم أن معناه لا يترك، لأنهم زعموا أنّ الحياء مستحيل على الله لأنه عندهم انكسار يمنع من الوقوع في أمر، وليس كذلك وإنما هو كرم وفضيلة تمنع من الوقوع فيما يعاب، ويردّ عليهم قوله صلّى الله عليه واله وسلّم: «إنّ الله حيي كريم يستحي من العبد إذا رفع إليه يديه أن يردّهما صفرا» «1» أَنْ يَضْرِبَ سبب الآية أنه لما ذكر في القرآن الذباب والنمل والعنكبوت، عاب الكفار على ذلك، وقيل: المثلين المتقدّمين في المنافقين تكلموا في ذلك فنزلت الآية ردّا عليهم «2» مَثَلًا ما بَعُوضَةً إعراب بعوضة مفعول بيضرب، ومثلا حال، أو: مثلا مفعول، وبعوضة بدل منه أو عطف بيان، أو هما مفعولان بيضرب لأنها على هذا المعنى تتعدّى إلى مفعولين، وما صفة للنكرة أو زائدة فَما فَوْقَها في الكبر، وقيل: في الصغر، والأول أصح فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ لأنه لا يستحيل على الله أن يذكر ما شاء، ولأن ذكر تلك الأشياء فيه حكمة: وضرب أمثال، وبيان للناس، ولأنّ الصادق جاء بها من عند الله ماذا أَرادَ اللَّهُ لفظه الاستفهام، ومعناه الاستبعاد والاستهزاء والتكذيب، وفي إعراب ماذا: وجهان أن تكون ما مبتدأ، وذا خبره وهي موصولة، وأن تكون كلمة مركبة في موضع نصب على المفعول بأراد، ومثلا منصوب على الحال أو التمييز يُضِلُّ بِهِ من كلام الله جوابا للذين قالوا: ماذا أراد الله بهذا مثلا، وهو أيضا تفسير لما أراد الله

_ (1) . ذكره المناوي في التيسير وعزاه لأحمد وأبي داود والترمذي وابن ماجة وإسناده جيد عن سلمان الفارسي. [.....] (2) . في الكلام تشويش ولعل الصواب: سبب الآية أنه لما ذكر في القرآن الذباب والنمل والعنكبوت عاب الكفار على ذلك [وقالوا: ما بال العنكبوت والذباب يذكران] فنزلت الآية عليهم. راجع الطبري في تفسير الآية المذكورة.

[سورة البقرة (2) : الآيات 27 إلى 29]

بضرب المثل من الهدى والضلال عَهْدَ اللَّهِ مطلق في العهود وكذلك ما بعده من القطع والفساد، ويحتمل أن يشار بنقض عهد الله إلى اليهود، لأنهم نقضوا العهد الذي أخذ الله عليهم في الإيمان بمحمد صلّى الله عليه واله وسلّم، ويشار بقطع ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ إلى قريش لأنهم قطعوا الأرحام التي بينهم وبين المؤمنين، ويشار بالفساد في الأرض إلى المنافقين لأن الفساد من أفعالهم، حسبما تقدّم في وصفهم مِيثاقِهِ الضمير للعهد أو لله تعالى كَيْفَ تَكْفُرُونَ موضعها الاستفهام، ومعناها هنا: الإنكار والتوبيخ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً أي معدومين أي: في أصلاب الآباء، أو نطفا في الأرحام فأحياكم أي أخرجكم إلى الدنيا ثُمَّ يُمِيتُكُمْ الموت المعروف ثُمَّ يُحْيِيكُمْ بالبعث ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ للجزاء، وقيل: الحياة الأولى حين أخرجهم من صلب آدم لأخذ العهد، وقيل: في الحياة الثانية إنها في القبور، والراجح القول الأول لتعينه في قوله: وَهُوَ الَّذِي أَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ [الحج: 66] . فوائد ثلاثة الأولى: هذه الآية في معرض الردّ على الكفار، وإقامة البرهان على بطلان قولهم، فإن قيل: إنما يصح الاحتجاج عليهم بما يعترفون به، فكيف يحتج عليهم بالبعث وهم منكرون له؟ فالجواب أنه ألزموا من ثبوت ما اعترفوا به من الحياة والموت ثبوت البعث، لأن القدرة صالحة لذلك كله. الثانية: قوله وَكُنْتُمْ أَمْواتاً في موضع الحال، فإن قيل: كيف جاز ترك قد وهي لازمة مع الفعل الماضي إذا كان في موضع الحال فالجواب: أنه قد جاء بعد الماضي مستقبل، والمراد مجموع الكلام. كأنه يقول: وحالهم هذه. فلذلك لم تلزم قد. الثالثة: عطف فأحياكم بالفاء لأنّ الحياة إثر العدم ولا تراخي بينهما، وعطف ثم يميتكم وثم يحييكم بثم للتراخي الذي بينهما خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ دليل على إباحة الانتفاع بما في الأرض ثُمَّ اسْتَوى أي قصد لها والسماء هنا جنس ولأجل ذلك أعاد عليها بعد ضمير الجماعة فسوّاهنّ أي أتقن خلقهن: كقوله: فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ [الانفطار: 7] ، وقيل جعلهنّ سواء. (فائدة) هذه الآية تقتضي أنه خلق السماء بعد الأرض، وقوله: وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها [النازعات: 30] ظاهره خلاف ذلك، والجواب من وجهين: أحدهما: أنّ الأرض خلقت قبل السماء، ودحيت بعد ذلك فلا تعارض، والآخر: تكون ثم لترتيب الأخبار لِلْمَلائِكَةِ جمع ملك واختلف في وزنه فقيل: فعل فالميم أصلية، ووزن ملائكة على هذا

[سورة البقرة (2) : الآيات 35 إلى 39]

مفاعلة وقيل: هي من الألوكة وهي الرسالة، فوزنه مفعل ووزنه مألك ثم حذفت الهمزة ووزن ملائكة على هذا مفاعلة، ثم قلبت وأخرت الهمزة فصار مفاعلة وذلك بعيد خَلِيفَةً هو آدم عليه السلام لأنّ الله استخلفه في الأرض، وقيل ذريته لأنّ بعضهم يخلف بعضا، والأوّل أرجح، ولو أراد الثاني لقال خلفاء أَتَجْعَلُ فِيها الآية: سؤال محض لأنهم استبعدوا أن يستخلف الله من يعصيه، وليس فيه اعتراض لأنّ الملائكة منزهون عنه، وإنما علموا أنّ بني آدم يفسدون بإعلام الله إياهم بذلك، وقيل: كان في الأرض جنّ فأفسدوا، فبعث الله إليهم ملائكة فقتلتهم. فقاس الملائكة بني آدم عليهم وَنَحْنُ نُسَبِّحُ اعتراف، والتزام للتسبيح لا افتخار بِحَمْدِكَ أي حامدين لك والتقدير: نسبح متلبسين بحمدك، فهو في موضع الحال وَنُقَدِّسُ لَكَ يحتمل أن تكون الكاف مفعولا، ودخلت عليها اللام كقولك. ضربت لزيدا، وأن يكون المفعول محذوفا، أي نقدسك على معنى: ننزهك أو نعظمك، وتكون اللام في ذلك للتعليل أي لأجلك، أو يكون التقدير: نقدس أنفسنا أي نطهرها لك ما لا تَعْلَمُونَ أي ما يكون في بني آدم من الأنبياء والأولياء وغير ذلك من المصالح والحكمة الْأَسْماءَ كُلَّها أي أسماء بني آدم وأسماء أجناس الأشياء كتسمية القمر والشجر وغير ذلك ثُمَّ عَرَضَهُمْ أي عرض المسميات، وبيّن أشخاص بني آدم وأجناس الأشياء أَنْبِئُونِي أمر على وجه التعجيز إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ أي في قولكم: إنّ الخليفة يفسد في الأرض ويسفك الدماء، وقيل: إن كنتم صادقين في جواب السؤال والمعرفة بالأسماء لا عِلْمَ لَنا اعتراف أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ أي أنبئ الملائكة بأسماء ذريتك أو بأسماء أجناس الأشياء اسْجُدُوا لِآدَمَ السجود على وجه التحية وقيل: عبادة لله، وآدم كالقبلة فسجدوا روي أنّ من أوّل من سجد إسرافيل، ولذلك جازاه الله بولاية اللوح المحفوظ إِلَّا إِبْلِيسَ استثناء متصل عند من قال: إنه كان ملكا. ومنقطع عند من قال: كان من الجن «1» اسْتَكْبَرَ لقوله: أنا خير منه وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ قيل: كفر بإباءته من السجود، وذلك بناء على أن المعصية كفر. والأظهر: أنه كفر باعتراضه على الله في أمره بالسجود لآدم، وليس كفره كفر جحود لاعترافه بالربوبية وَزَوْجُكَ هي حواء خلقها الله من ضلع آدم، ويقال زوجة، وزوج هنا أفصح الْجَنَّةَ هي جنة الخلد عند الجماعة وعند

_ (1) . وهو الأصح لأن الملائكة منزهون عن المعصية.

[سورة البقرة (2) : الآيات 40 إلى 41]

أهل السنة، خلافا لمن قال: هي غيرها لا تَقْرَبا النهي عن القرب يقتضي النهي عن الأكل بطريق الأولى، وإنما نهى عن القرب سدّا للذريعة، فهذا أصل في سدّ الذرائع الشَّجَرَةَ قيل هي شجرة العنب، وقيل شجرة التين «1» ، وقيل الحنطة، وذلك مفتقر إلى نقل صحيح، واللفظ مبهم فَتَكُونا عطف على تقربا، أو نصب بإضمار أن بعد الفاء في جواب النهي فَأَزَلَّهُمَا متعدّ من أزل القدم، وأزالهما بالألف من الزوال عَنْها الضمير عائد على الجنة، أو على الشجرة فتكون عن سببية على هذا. فائدة: اختلفوا في أكل آدم من الشجرة فالأظهر أنه كان على وجه النسيان: لقوله تعالى: فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً [طه: 115] وقيل سكر من خمر الجنة فحينئذ أكل منها، وهذا باطل لأن خمر الجنة لا تسكر، وقيل: أكل عمدا وهي معصية صغرى، وهذا عند من أجاز على الأنبياء الصغائر، وقيل: تأوّل آدم أن النهي: كان عن شجرة معينة فأكل من غيرها من جنسها، وقيل: لما حلف له إبليس صدقه لأنه ظنّ أنه لا يحلف أحد كذبا اهْبِطُوا خطاب لآدم وزوجه وإبليس بدليل: بعضكم لبعض عدوّ مُسْتَقَرٌّ موضع استقرار وهو في مدّة الحياة، وقيل في بطن الأرض بعد الموت وَمَتاعٌ ما يتمتع به إِلى حِينٍ إلى الموت فَتَلَقَّى أي أخذ وقيل على قراءة الجماعة «2» ، وقرأ ابن كثير بنصب آدم ورفع الكلمات، فتلقى على هذا من اللقاء كَلِماتٍ هي قوله: رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ، بدليل ورودها في الأعراف: 23 وقيل غير ذلك اهْبِطُوا كرر ليناط به ما بعده، ويحتمل أن يكون أحد الهبوطين من السماء، والآخر من الجنة، وأن يكون هذا الثاني لذرية آدم لقوله: فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ إن شرطية وما زائدة للتأكيد، والهدى هنا: يراد به كتاب الله ورسالته فَمَنْ تَبِعَ شرط، وهو جواب الشرط الأوّل، وقيل: فلا خوف جواب الشرطين يا بَنِي إِسْرائِيلَ لما قدم دعوة الناس عموما وذكر مبدأهم: دعا بني إسرائيل خصوصا وهم اليهود، وجرى الكلام معهم من هنا إلى حزب سيقول السفهاء فتارة دعاهم بالملاطفة وذكر الإنعام عليهم وعلى آبائهم، وتارة بالتخويف، وتارة بإقامة الحجة وتوبيخهم على سوء أعمالهم، وذكر العقوبات التي عاقبهم بها. فذكر من النعم عليهم عشرة أشياء، وهي: وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ [البقرة: 49] ، وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ [البقرة: 50] ، وبَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ [البقرة: 56] ،

_ (1) . ورد في الأبريز للسيد عبد العزيز الدباغ أنها شجرة التين بغير شك. (2) . في الكلام نقص والله أعلم.

وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ [البقرة: 57] ، وَأَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى [البقرة: 57] ، ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ [البقرة: 52] ، فَتابَ عَلَيْكُمْ [البقرة: 54] ، نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ [البقرة: 58] ، وَإِذْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَالْفُرْقانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [البقرة: 53] ، فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً [البقرة: 60] . وذكر من سوء أفعالهم عشرة أشياء: قولهم سمعنا وعصينا، واتخذتم العجل، وقالوا أرنا الله جهرة، وبدل الذين ظلموا ولن نصبر على طعام واحد، ويحرفونه، وتوليتم من بعد ذلك، وقست قلوبكم، وكفرهم بآيات الله، وقتلهم الأنبياء بغير حق. وذكر من عقوباتهم عشرة أشياء: ضربت عليهم الذلة والمسكنة وباؤوا بغضب من الله، ويعطوا الجزية، واقتلوا أنفسكم، وكونوا قردة، وأنزلنا عليهم رجزا من السماء، وأخذتكم الصاعقة، وجعلنا قلوبهم قاسية، وحرمنا عليهم طيبات أحلت لهم، وهذا كله جزاء لآبائهم المتقدمين، وخوطب [به] المعاصرون لمحمد صلّى الله عليه واله وسلّم لأنهم متبعون لهم راضون بأحوالهم، وقد وبخ العاندين لمحمد صلّى الله عليه واله وسلّم بتوبيخات أخر، وهي: كتمانهم أمر محمد صلّى الله عليه واله وسلّم مع معرفتهم به، ويحرّفون الكلم ويقولون هذا من عند الله، وتقتلون أنفسكم، وتخرجون فريقا منكم من ديارهم، وحرصهم على الحياة وعداوتهم لجبريل واتباعهم للسحر، وقولهم نحن أبناء الله، وقولهم يد الله مغلولة. نِعْمَتِيَ اسم جنس فهي مفردة بمعنى الجمع، ومعناه: عام في جميع النعم التي على بني إسرائيل مما اشترك فيه معهم غيرهم أو اختصهم به كالمن والسلوى، وللمفسرين فيه أقوال تحمل على أنها أمثلة، واللفظ يعم النعم جميعا بِعَهْدِي مطلق في كل ما أخذ عليهم من العهود وقيل: الإيمان بمحمد صلّى الله عليه واله وسلّم، وذلك قويّ لأنه مقصود الكلام بِعَهْدِكُمْ دخول الجنة وَإِيَّايَ مفعول بفعل مضمر مؤخر لانفصال الضمير، وليفيد الحصر يفسره فارهبون، ولا يصح أن يعمل فيه فارهبون لأنه قد أخذ معموله، وكذلك إياي فاتقون بِما أَنْزَلْتُ يعني القرآن مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ أي مصدّقا للتوراة، وتصديق القرآن للتوراة وغيرها، وتصديق محمد صلّى الله عليه واله وسلّم للأنبياء والمتقدمين له ثلاث معان: أحدها: أنهم أخبروا به ثم ظهر كما قالوا فتبين صدقهم في الإخبار به، والآخر: أنه صلّى الله عليه واله وسلّم أخبر أنهم أنبياء وأنزل عليهم الكتب، فهو مصدق لهم أي شاهد بصدقهم، والثالث: أنه وافقهم فيما في كتبهم من التوحيد وذكر الدار الآخرة وغير ذلك من عقائد الشرائع فهو مصدق لهم لاتفاقهم في الإيمان بذلك وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ الضمير عائد على القرآن، وهذا نهي عن المسابقة إلى الكفر به، ولا يقتضي إباحة الكفر في ثاني حال لأن هذا مفهوم معطل بل يقتضي الأمر بمبادرتهم إلى الإيمان به لما يجدون من ذكره، ولما يعرفون من علامته، وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلًا:

[سورة البقرة (2) : الآيات 42 إلى 47]

الاشتراء هنا استعارة في الاستبدال: كقوله: اشتروا الضلالة بالهدى، والآيات هنا هي الإيمان بمحمد صلّى الله عليه واله وسلّم، والثمن القليل ما ينتفعون به في الدنيا من بقاء رئاستهم، وأخذ الرشا على تغيير أمر محمد صلّى الله عليه واله وسلّم، وغير ذلك، وقيل: كانوا يعلمون دينهم بالأجرة فنهوا عن ذلك، واحتج الحنفية بهذه الآية على منع الإجارة على تعليم القرآن الْحَقَّ بِالْباطِلِ الحق هنا يراد به نبوّة محمد صلّى الله عليه واله وسلّم، والباطل الكفر به، وقيل: الحق التوراة، والباطل ما زادوا فيها. وَتَكْتُمُونَ معطوف على النهي، أو منصوب بإضمار أن في جواب النهي، والواو بمعنى الجمع، والأوّل أرجح، لأنّ العطف يقتضي النهي عن كل واحد من الفعلين، بخلاف النصب بالواو، فإنه إنما يقتضي النهي عن الجمع بين الشيئين، لا النهي عن كل واحد على انفراده وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أي تعلمون أنه حق الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ يراد بها صلاة المسلمين وزكاتهم، فهو يقتضي الأمر بالدخول في الإسلام وَارْكَعُوا خصص الركوع بعد ذكر الصلاة لأنّ صلاة اليهود بلا ركوع فكأنه أمر بصلاة المسلمين التي فيها الركوع، وقيل: اركعوا للخضوع والانقياد مَعَ الرَّاكِعِينَ مع المسلمين فيقتضي ذلك الأمر بالدخول في دينهم، وقيل: الأمر بالصلاة مع الجماعة. أَتَأْمُرُونَ تقريع وتوبيخ لليهود بِالْبِرِّ عام في أنواعه فوبخهم على أمر الناس وتركهم له، وقيل: كان الأحبار يأمرون من نصحوه في السر باتباع محمد صلّى الله عليه واله وسلّم، ولا يتبعونه، وقال ابن عباس: بل كانوا يأمرون باتباع التوراة، ويخالفون في جحدهم منها صفة محمد صلّى الله عليه واله وسلّم تَنْسَوْنَ أي تتركون، وهذا تقريع تَتْلُونَ الْكِتابَ حجة عليهم أَفَلا تَعْقِلُونَ توبيخ وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ قيل: معناه استعينوا بها على مصائب الدنيا، وقد روي أنّ رسول الله صلّى الله عليه واله وسلّم «كان إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة» «1» ونعي إلى ابن عباس أخوه فقام إلى الصلاة فصلّى ركعتين وقرأ الآية، وقيل: استعينوا بهما على طلب الآخرة، وقيل: الصبر هنا الصوم، وقيل: الصلاة هنا الدعاء وَإِنَّها الضمير عائد على العبادة التي تضمنها الصبر والصلاة، أو على الاستعانة أو على الصلاة لَكَبِيرَةٌ أي شاقة صعبة يَظُنُّونَ هنا: يتيقنون عَلَى الْعالَمِينَ أي أهل زمانهم، وقيل: تفضيل من وجه مّا هو كثرة الأنبياء وغير ذلك

_ (1) . ذكره المناوي في التيسير ج 2 ص 245 بلفظ: «كان إذا حزبه أمر صلى» وعزاه لأحمد وأبي داود عن حذيفة بن اليمان.

[سورة البقرة (2) : الآيات 48 إلى 50]

لا تَجْزِي لا تغني. وشيئا مفعول به أو صفة لمصدر محذوف، والجملة في موضع الصفة، وحذف الضمير أي فيه وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ ليس نفي الشفاعة مطلقا، فإنّ مذهب أهل الحق ثبوت الشفاعة لسيدنا محمد صلّى الله عليه واله وسلّم لقوله تعالى: مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ [البقرة: 255] ولقوله: ما مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ [يونس: 3] ولقوله: وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ [سبأ: 23] وانظر ما ورد أنّ رسول الله صلّى الله عليه واله وسلّم يستأذن في الشفاعة فيقال له: اشفع تشفع. فكل ما ورد في القرآن من نفي الشفاعة مطلقا يحمل على هذا لأنّ المطلق يحمل على المقيد، فليس في هذه الآيات المطلقة دليل للمعتزلة على نفي الشفاعة عَدْلٌ هنا فدية وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ جمع لأنّ النفس المذكورة يراد بها نفوس وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ تقديره: اذكروا إذ نجيناكم أي: نجينا آباءكم، وجاء الخطاب للمعاصرين للنبي صلّى الله عليه واله وسلّم منهم لأنهم ذرّيتهم وعلى دينهم ومتبعون لهم، فحكمهم كحكمهم، وكذلك فيما بعد هذا من تعداد النعم، لأن الإنعام على الآباء إنعام على الأبناء، ومن ذكر مساويهم لأنّ ذرّيتهم راضون بها مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ المراد من فرعون واله، وحذف لدلالة المعنى، وآل فرعون هم جنوده وأشياعه وآل دينه لا قرابته خاصة، ويقال إنّ اسمه الوليد بن مصعب، وهو من ذرّية عمليق، ويقال فرعون لكل من ولي مصر، وأصل آل: ثم هل أبدلت من الهاء همزة وأبدل من الهمزة ألف. فائدة: كل ما ذكره في هذه الصور من الأخبار معجزات للنبي صلّى الله عليه واله وسلّم لأنه أخبر بها من غير تعلم يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ أي يلزمونهم به، وهو استعارة من السوم في البيع، وفسر سوء العذاب بقوله: يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ ولذلك لم يعطفه هنا، وأما حيث عطفه في سورة إبراهيم فيحتمل أن يراد بسوء العذاب غير ذلك بل فيكون عطف مغايرة، أو أراد به ذلك، وعطف لاختلاف اللفظة، وكان سبب قتل فرعون لأبناء بني إسرائيل «1» وقيل إنّ آل فرعون تذاكروا وعد الله لإبراهيم بأن يجعل في ذرّيته ملوكا وأنبياء فحسدوهم على ذلك، وروي أنه وكل بالنساء رجالا يحفظون من تحمل منهنّ، وقيل: بل وكّل على ذلك القوابل، ولأجل هذا قيل معنى يستحيون: يفتشون الحياة ضدّ الموت فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ فصلناه وجعلناه فرقا اثنى عشر طريقا، على عدد الأسباط، والباء سببية أو للمصاحبة، والبحر المذكور هنا: هو بحر القلزم «2» وَإِذْ واعَدْنا مُوسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً هي شهر ذي القعدة وعشر ذي الحجة، وإنما

_ (1) . ويعرف الآن بالبحر الأحمر. (2) . في الكلام هنا نقص، وتكملته من الطبري: أن فرعون رأى رؤيا هالته فعبرها له الكهنة بأنه: يولد في بني إسرائيل غلام يكون هلاك فرعون على يده. فأمر عند ذلك بذبح الصبيان من مواليد بني إسرائيل كما هو مشهور.

[سورة البقرة (2) : الآيات 59 إلى 61]

خصّ الليالي بالذكر لأنّ العام بها «1» ، والأيام تابعة لها، والمراد أربعين ليلة بأيامها اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ اتخذتموه إلها، فحذف لدلالة المعنى مِنْ بَعْدِهِ أي بعد غيبته في الطور الْكِتابَ هنا التوراة وَالْفُرْقانَ أي المفرق بين الحق والباطل، وهو صفة للتوراة، عطف عليها لاختلاف اللفظ، وقيل الفرقان هنا فرق البحر، وقيل آتينا موسى التوراة وآتينا محمدا الفرقان «وهذا بعيد لما فيه من الحذف من غير دليل عليه فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أي يقتل بعضكم بعضا كقوله: «سلموا على أنفسكم» ، وروي أنّ الظلام ألقي عليهم فقتل بعضهم بعضا، حتى بلغ القتلى سبعون ألفا فعفى الله عنهم. وإنما خص هنا اسم الباري لأنّ فيه توبيخا للذين عبدوا العجل كأنه يقول كيف عبدتم غير الذي برأكم، ومعنى الباري: الخالق فَتابَ عَلَيْكُمْ قبله محذوف لدلالة الكلام عليه، وهو فحوى الخطاب، أي: ففعلتم ما أمرتم به من القتل فتاب عليكم لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ تعدى باللام لأنه تضمن معنى الانقياد جَهْرَةً عيانا الصَّاعِقَةُ الموت، وكانوا سبعين وهم الذين اختارهم موسى وحملهم إلى الطور، فسمعوا كلام الله، ثم طلبوا الرؤية فعوقبوا لسوء أدبهم، وجراءتهم على الله، وَظَلَّلْنا أي جعلنا الغمام فوقهم كالظلة يقيهم حرّ الشمس، وكان ذلك في التيه، وكذا أنزل عليه فيه المنّ والسلوى تقدّم في اللغات «2» كُلُوا معمول لقول محذوف هذِهِ الْقَرْيَةَ بيت المقدس، وقيل أريحاء، وقيل قريب من بيت المقدس فَكُلُوا جاء هنا بالفاء التي للترتيب، لأن الأكل بعد الدخول، وجاء في الأعراف بالواو بعد قوله: اسكنوا، لأنّ الدخول لا يتأتى معه السجود، وقيل متواضعين حِطَّةٌ تقدّم في اللغات وَسَنَزِيدُ أي نزيدهم أجرا إلى المغفرة فَبَدَّلَ روي أنه قالوا: حنطة، وروي: حبة في شعرة الَّذِينَ ظَلَمُوا يعني المذكورين، وضع الظاهر موضع المضمر لقصد ذمّهم بالظلم،

_ (1) . لأن اليوم يبدأ عند العرب من غروب الشمس، فالليل يشمل النهار، والله أعلم. (2) . راجع المقدمة الثانية لفظة: سلوى.

[سورة البقرة (2) : الآيات 62 إلى 71]

وكرره زيادة في تقبيح أمرهم رِجْزاً روي أنهم أصابهم الطاعون فمات منهم سبعون ألفا اسْتَسْقى طلب السقيا لما عطشوا في التيه الْحَجَرَ كان مربعا ذراعا في ذراع: تفجر من كل جهة ثلاث عيون، وروي أنّ آدم كان أهبطه من الجنة، وقيل هو جنس غير معين، وذلك أبلغ في الإعجاز فَانْفَجَرَتْ قبله محذوف تقديره: فضربه فانفجرت مَشْرَبَهُمْ أي موضع شربهم، وكانوا اثني عشر سبطا لكل سبط عين كُلُوا أي من المنّ والسلوى، واشربوا من الماء المذكور فُومِها هي الثوم، وقيل: الحنطة أَدْنى من الدنيء الحقير، وقيل: أصله أدون، ثم قلب بتأخير عينه وتقديم لامه مِصْراً قيل البلد المعروف وصرف لسكون وسطه «1» . وقيل: هو غير معين فهو نكرة لما روي أنهم نزلوا بالشام. ضُرِبَتْ أي قضى عليهم بها، وألزموها. وجعله الزمخشري استعارة من ضرب القبة لأنها تعلو الإنسان وتحيط به الْمَسْكَنَةُ الفاقة، وقيل: الجزية ذلِكَ بِأَنَّهُمْ الإشارة إلى ضرب الذلة والمسكنة والغضب، والباء للتعليل بِآياتِ اللَّهِ الآيات المتلوات أو العلامات بِغَيْرِ الْحَقِّ معلوم أنه لا يقتل نبي إلّا بغير حق، وذلك أفصح [وقرأ نافع وحده: النبيئين] . فائدة: قال هنا بِغَيْرِ الْحَقِّ بالتعريف باللام للعهد، لأنه قد تقررت الموجبات لقتل النفس، وقال في الموضع الآخر من آل عمران «بغير حق» بالتنكير لاستغراق النفي، لأن تلك نزلت في المعاصرين لمحمد صلّى الله عليه واله وسلّم. ذلِكَ بِما عَصَوْا يحتمل أن يكون تأكيدا للأول، وتكون الإشارة بذلك إلى القتل والكفر، والباء للتعليل. أي اجترءوا على الكفر وقتل الأنبياء لما انهمكوا في العصيان والعدوان إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا الآية. قال ابن عباس: نسختها وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ [آل عمران: 85] وقيل معناها: أن هؤلاء الطوائف من آمن منهم إيمانا صحيحا فله أجره، فيكون في حق المؤمنين الثبات إلى الموت، وفي حق غيرهم الدخول في الإسلام، فلا نسخ، وقيل: إنها فيمن كان قبل بعث النبي صلّى الله عليه واله وسلّم فلا نسخ مَنْ آمَنَ مبتدأ، خبره: فلهم أجرهم. والجملة خبر أن، أو من آمن

_ (1) . أي لكون حرف الصاد ساكنا.

[سورة البقرة (2) : الآيات 72 إلى 76]

بدل، فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ خبر أن وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ لما جاء موسى بالتوراة أبوا أن يقبلوها فرفع الجبل فوقهم وقيل لهم: إن لم تأخذوها وقع عليكم بِقُوَّةٍ جدّ في العلم بالتوراة أو العمل بها اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ اصطادوا فيه الحوت وكان محرما عليهم كُونُوا قِرَدَةً عبارة عن مسخهم، وخاسئين صفة أو خبر ثان، ومعناه مبعدين كما يخسأ الكلب فَجَعَلْناها الضمير للفعلة وهي المسخ نَكالًا أي عقوبة لما تقدّم من ذنوبهم وما تأخر، وقيل: عبرة لمن تقدّم ومن تأخر أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قصتها أن رجلا من بني إسرائيل قتل قريبه ليرثه، وادّعى على قوم أنهم قتلوه، فأمرهم الله أن يذبحوا بقرة، ويضربوا القتيل ببعضها، ففعلوا فقام وأخبر بمن قتله، ثم عاد ميتا أَتَتَّخِذُنا هُزُواً جفاء وقلة أدب، وتكذيب فارِضٌ مسنة بِكْرٌ صغيرة عَوانٌ متوسطة بَيْنَ ذلِكَ أي بين ما ذكر، ولذلك قال ذلك مع الإشارة إلى شيئين: صَفْراءُ من الصفرة المفروقة، وقيل سوداء: وهو بعيد، والظاهر صفراء كلها. وقيل: القرن والظلف فقط، وهو بعيد فاقِعٌ شديد الصفرة تَسُرُّ النَّاظِرِينَ لحسن لونها، وقيل لسمنها ومنظرها كله لا ذَلُولٌ غير مذللة للعمل تُثِيرُ الْأَرْضَ أي تحرثها وهو داخل تحت النفي على الأصح وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ لا يسقى عليها مُسَلَّمَةٌ من العمل أو من العيوب لا شِيَةَ لا لمعة غير الصفرة، وهو من وشى ففاؤه واو محذوفة كعدة الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ العامل في الضرب جئت بالحق، وقيل: العامل فيه مضمر تقديره الآن تذبحوها، والأول أظهر فإن كان قولهم: أتتخذنا هزوا: هكذا فهذا تصديق وإن كان غير ذلك، فالمعنى الحق المبين وَما كادُوا لعصيانهم وكثرة سؤالهم، أو لغلاء البقرة، فقد جاء بأنها كانت ليتيم وأنهم اشتروها بوزنها ذهبا، أو لقلة وجود تلك الصفة، فقد روي أنهم لو ذبحوا أدنى بقرة أجزأت عنهم، ولكنه شدّدوا فشدّد عليهم وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً هو أوّل قصة البقرة فمرتبته التقديم (إن الله

يأمركم) قال الزمخشري: إنما أخر لتعدّد توبيخهم لقصتين وهما: ترك المسارعة إلى الأمر، وقتل النفس ولو قدّم لكان قصة واحدة بتوبيخ واحد فَادَّارَأْتُمْ أي اختلفتم وهو من المدارأة أي المدافعة ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ من أمر القتيل ومن قتله اضْرِبُوهُ القتيل أو قريبه بِبَعْضِها مطلقا، وقيل: الفخذ وقيل: اللسان، وقيل: الذنب كَذلِكَ إشارة إلى حياة القتيل، واستدلال بها على الإحياء للبعث، وقبله محذوف لا بدّ منه تقديره: ففعلوا ذلك فقام القتيل. فائدة: استدل المالكية بهذه القصة على قبول قول المقتول: فلان قتلني، وهو ضعيف، لأن هذا المقتول قام بعد موته ومعاينة الآخرة، وقصته معجزة للنبي صلّى الله عليه واله وسلّم، فلا يتأتى أن يكذب المقتول، بخلاف غيره، واستدلوا أيضا بها على أن: القاتل لا يرث، ولا دليل فيها على ذلك «1» قَسَتْ قُلُوبُكُمْ: خطابا لبني إسرائيل مِنْ بَعْدِ ذلِكَ أي بعد إحياء القتيل وما جرى في القصة من العجائب، وذلك بيان لقبح قسوة قلوبهم بعد ما رأوا تلك الآيات أَوْ أَشَدُّ عطف على موضع الكاف أو خبر ابتداء، أي: هي أشدّ، وأو هنا إما للإبهام أو للتخيير: كأن علم حالها مخيّر بين أن يشبهها بالحجارة، أو بما هو أشدّ قسوة كالحديد، أو التفضيل أي: فهم أقسى مع أن فعل القسوة ينبني منه أفعل، لكون أشدّ أدلّ على فرط القسوة وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ الآية تفضيل الحجارة على قلوبهم يَهْبِطُ أي يتردّى من علو إلى أسفل، والخشية عبارة عن انقيادها، وقيل: حقيقة وأن كل حجر يهبط فمن خشية الله أَفَتَطْمَعُونَ خطاب المؤمنين أن يُؤْمِنُوا يعني: اليهود، وتعدّى باللام لما تضمن معنى الانقياد فَرِيقٌ مِنْهُمْ السبعون الذي يسمع كلام الله على الطور ثم حرفوه، وقيل: بنو إسرائيل حرفوا التوراة مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ بيان لقبح حالهم قالوا آمنا قالها رجل ادعى الإسلام من اليهود، وقيل: قالوها ليدخلوا إلى المؤمنين ويسمعوا إلى أخبارهم أَتُحَدِّثُونَهُمْ توبيخ بِما فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فيه ثلاثة أوجه بما حكم عليهم من العقوبات، وبما في كتبهم من ذكر محمد صلّى الله عليه واله وسلّم، وبما فتح الله عليهم من الفتح والإنعام، وكل وجه حجة عليهم، ولذلك قالوا: لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ قيل: في الآخرة وقيل: أي في حكم ربكم

_ (1) . القاتل لا يرث بنص حديث نبوي: ليس لقاتل شيء. رواه أحمد عن عمر بن الخطاب.

[سورة البقرة (2) : الآيات 77 إلى 84]

وما أنزل في كتابه، فعنده بمعنى حكمه أَفَلا تَعْقِلُونَ من بقية كلامهم توبيخا لقولهم وَلا يَعْلَمُونَ الآية من كلام الله ردّا عليهم وفضيحة لهم وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ أي الذين لا يقرءون ولا يكتبون فهم لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ والمراد قوم من اليهود وقيل: من المجوس وهذا غير صحيح، لأنّ الكلام كله عن اليهود إِلَّا أَمانِيَّ تلاوة بغير فهم، أو أكاذيب، وما تتمناه النفوس بِأَيْدِيهِمْ تحقيق لافترائهم ثَمَناً قَلِيلًا عرض الدنيا من الرياسة والرشوة وغير ذلك مما يكسبون من الدنيا أو هي الذنوب أَيَّاماً مَعْدُودَةً أربعين يوما عدد عبادتهم العجل وقيل سبعة أيام أَتَّخَذْتُمْ الآية: تقرير يقتضي إبطال بَلى تحقيق لطول مكثهم في النار، لقولهم ما لا يعلمون مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً الآية: في الكفار لأنها ردّ على اليهود، ولقوله بعدها وَالَّذِينَ آمَنُوا فلا حجة فيها لمن قال بتخليد العصاة في النار لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ جواب لقسم يدل عليه الميثاق، وقيل: خبر بمعنى النهي، ويرجحه قراءة لا يعبدون وقيل: الأصل بأن: لا تَعْبُدُونَ ثم حذفت الباء وأن وَبِالْوالِدَيْنِ يتعلق بإحسان، أو بمحذوف تقديره: أحسنوا، ووكد بإحسانا وَذِي الْقُرْبى القرابة الْيَتامى جمع يتيم: وهو من فقد والده قبل البلوغ، واليتيم من سائر الحيوان من فقد أمه، وجاء الترتيب في هذه الآية بتقديم الأهم، فقدم الوالدين لحقهما الأعظم، ثم القرابة لأن فيهم أجر الإحسان وصلة الرحم، ثم اليتامى لقلة حيلتهم، ثم المساكين لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ لا يسفك بعضكم دم بعض، وإعرابه مثل لا تعبدون وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ لا يخرج بعضكم بعضا ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ بالميثاق واعترفتم بلزومه وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ بأخذ الميثاق عليكم هؤُلاءِ منصوب على التخصيص بفعل مضمر، وقيل: هؤلاء مبتدأ وخبره أنتم وتقتلون حالا لازمة تم بها المعنى تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ كانت قريظة حلفاء الأوس، والنضير: حلفاء الخزرج، وكان كل فريق يقاتل الآخر مع حلفائه، ويتقيه من موضعه إذا ظفر به تَظاهَرُونَ أي

تتعاونون تُفادُوهُمْ قرئ بالألف وحذفها والمعنى واحد. وكذلك أسارى بالألف وحذفها «1» جمع أسير وَهُوَ مُحَرَّمٌ الضمير للإخراج من ديارهم، وهو مبتدأ وخبره محرّم وإِخْراجُهُمْ بدل، والضمير للأمر والشأن، وإخراجهم: مبتدأ، ومحرّم خبره، والجملة خبر الضمير أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ فداؤهم الأسارى موافقة لما في كتبهم وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ القتل والإخراج من الديار مخالفة لما في كتبهم خِزْيٌ الجزية أو الهزيمة لقريظة والنضير وغيرهم، أو مطلق وَقَفَّيْنا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ أي جئنا من بعده بالرسل، وهو مأخوذ من القفا أي جاء بالثاني في قفا الأول الْبَيِّناتِ المعجزات من إحياء الموتى وغير ذلك بِرُوحِ الْقُدُسِ جبريل، وقيل الإنجيل، وقيل الاسم الذي كان يحيى به الموتى، والأول أرجح لقوله قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ ولقوله صلّى الله عليه واله وسلّم لحسان: اللهم أيده بروح القدس «2» تَقْتُلُونَ جاء مضارعا مبالغة لأنه أيد استحضاره في النفوس، أو لأنهم حاولوا قتل محمد صلّى الله عليه واله وسلّم لولا أنّ الله عصمه غُلْفٌ جمع أغلف: أي عليها غلاف، وهو الغشاء فلا تفقه بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ ردّا عليهم، وبيان أن عدم فقههم بسبب كفرهم فَقَلِيلًا أي إيمانا قليلا ما يُؤْمِنُونَ ما زائدة، ويجوز أن تكون القلة بمعنى العدم أو على أصلها لأن من دخل منهم في الإسلام قليل، أو لأنهم آمنوا ببعض الرسل وكفروا ببعض كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هو القرآن مُصَدِّقٌ تقدم أن له ثلاثة معان يَسْتَفْتِحُونَ أي ينتصرون على المشركين، إذا قاتلوهم قالوا: اللهم انصرنا بالنبي المبعوث في آخر الزمان، ويقولون لأعدائهم المشركين: قد أظل زمان نبي يخرج فنقتلكم معه قتل عاد وإرم، وقيل: يستفتحون أي يعرفون الناس النبي صلّى الله عليه واله وسلّم، والسين على هذا للمبالغة كما في استعجب واستسخر، وعلى الأول للطلب فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا القرآن والإسلام ومحمد صلّى الله عليه واله وسلّم، قال المبرّد: كفروا جوابا لما الأولى والثانية، وأعيدت الثانية لطول الكلام، ولقصد التأكيد، وقال الزّجّاج: كفروا جوابا

_ (1) . أي: أسرى. (2) . أخرجه البخاري في كتاب الصلاة باب 68/ 116/ 1 عن أبي هريرة.

[سورة البقرة (2) : الآيات 90 إلى 93]

لما الثانية، وحذف جواب الأولى للاستغناء عنه لذلك، وقال الفرّاء جواب لما الأولى فلما، وجواب الثانية كفر عَلَى الْكافِرِينَ أي عليهم يعني اليهود، ووضع الظاهر موضع المضمر ليدل أن اللعنة بسبب كفرهم، واللام للعهد أو للجنس، فيدخلون فيها مع غيرهم من الكفار بئسما فاعل بئس مضمر، وما مفسرة له، وأن يكفروا: هو المذموم وقال الفرّاء: بئسما مركب كحبّذا وقال الكاسي: ما مصدرية أي اشتراكهم فهي فاعلة اشْتَرَوْا هنا بمعنى باعوا أَنْ يَكْفُرُوا في موضع خبر ابتداء، أو مبتدأ كاسم المذموم في بئس أو مفعول من أجله، أو بدل من الضمير في به بِما أَنْزَلَ اللَّهُ القرآن أو التوراة لأنهم كفروا بما فيها من ذكر محمد صلّى الله عليه واله وسلّم أَنْ يُنَزِّلَ في موضع مفعول من أجله مِنْ فَضْلِهِ القرآن والرسالة مَنْ يَشاءُ يعني محمد صلّى الله عليه واله وسلّم، والمعنى أنهم إنما كفروا حسدا لمحمد صلّى الله عليه واله وسلّم لما تفضل الله عليه بالرسالة بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ لعبادتهم العجل، أو لقولهم: عزير ابن الله، أو لغير ذلك من قبائحهم بِما أَنْزَلَ اللَّهُ القرآن بِما وَراءَهُ أي بما بعده وهو القرآن فَلِمَ تَقْتُلُونَ ردّا عليهم فيما ادّعوا من الإيمان بالتوراة، وتكذيب لهم، وذكر الماضي بلفظ المستقبل إشارة إلى ثبوته، فكأنه دائم لما رضي هؤلاء به إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ شرطية بمعنى القدح في إيمانهم، وجوابها يدل عليه ما قبل، أو نافية فيوقف قبلها والأوّل أظهر بِالْبَيِّناتِ يعني المعجزات: كالعصا، وفلق البحر، وغير ذلك اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ ذكر هنا على وجه ألزم لهم، والإبطال بقولهم: (نؤمن بما أنزل علينا) وكذلك رفع الطور، وذكر قبل هذا على وجه تعداد النعم لقوله: ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ، وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ [البقرة: 52] وعطفه بثم في الموضعين إشارة إلى قبح ما فعلوه من ذلك مِنْ بَعْدِهِ الضمير لموسى عليه لسلام: أي من بعد غيبته في مناجاة الله على جبل الطور سَمِعْنا وَعَصَيْنا أي: سمعنا قولك وعصينا أمرك، ويحتمل أن يكونوا قالوه بلسان المقال، أو بلسان الحال وَأُشْرِبُوا عبارة عن تمكن حب العجل في قلوبهم، فهو مجاز، تشبيها بشرب الماء، أو بشرب الصبغ في الثوب وفي الكلام محذوف أي أشربوا حب العجل وقيل: إن موسى برد العجل بالمبرد ورمى برادته في الماء فشربوه، فالشرب على هذا حقيقة، ويردّ هذا قوله: في

[سورة البقرة (2) : الآيات 94 إلى 96]

قلوبهم بِكُفْرِهِمْ الباء سببية للتعليل، أو بمعنى المصابة يَأْمُرُكُمْ إسناد الأمر إلى إيمانهم، فهو مجاز على وجه التهكم، فهو كقولهم أصلاتك تأمرك؟ [هود: 87] كذلك إضافة الإيمان إليهم إِنْ كُنْتُمْ شرط أو نفي فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ بالقلب أو اللسان أو باللسان خاصة، وهذا أمر على وجه التعجيز والتبكيت، لأنه من علم أنه من أهل الجنة اشتاق إليها وروي أنهم لو تمنوا الموت لماتوا، وقيل: إن ذلك معجزة للنبي صلّى الله عليه واله وسلّم دامت طول حياته وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ إن قيل: لم قال في هذه السورة: ولن يتمنوه، وفي سورة الجمعة: ولا يتمنونه فنفى هنا بلن، وفي الجمعة بلا، فقال أستاذنا الشيخ أبو جعفر بن الزبير، الجواب أنه لما كان الشرط في المغفرة مستقبلا وهو قوله إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خالِصَةً جاء جوابه بلن التي تخص الاستقبال ولما كان الشرط في الجمعة حالا، وهو قوله إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لِلَّهِ جاء جوابه بلا: التي تدخل على الحال، أو تدخل على المستقبل بِما قَدَّمَتْ أي لسبب ذنوبهم وكفرهم عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ تهديد لهم وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا فيه وجهان: أحدهما: أن يكون عطفا على ما قبله فيوصل به، ولمعنى أن اليهود أحرص على الحياة من الناس ومن الذين أشركوا، فحمل على المعنى كأنه قال: أحرص من الناس ومن الذين أشركوا، وخص الذين أشركوا بالذكر بعد دخولهم في عموم الناس لأنهم لا يؤمنون بالآخرة بإفراط حبهم للحياة الدنيا. والآخر أن يكون من الذين أشركوا ابتداء كلام فيوقف على ما قبله، والمعنى: من الذين أشركوا قوم يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ فحذف الموصوف، وقيل: أراد به المجوس، لأنهم يقولون لملوكهم عش ألف سنة، والأوّل أظهر لأنّ الكلام إنما هو في اليهود، وعلى الثاني يخرج الكلام عنهم وَما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ الآية: فيها وجهان أحدهما: أن يكون هو عائد على أحدهم، وأن يعمر فاعل لمزحزحه، والآخر: أن يكون هو للتعمير وأن يعمر بدل مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ الآية: سببها أنّ اليهود قالوا للنبي صلّى الله عليه واله وسلّم: جبريل عدوّنا لأنه ملك الشدائد والعذاب فلذلك لا نؤمن به، ولو جاءك ميكائيل لآمنا بك لأنه ملك الأمطار والرحمة فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ فيه وجهان: الأوّل فإنّ الله نزل جبريل، والآخر فإن جبريل نزل القرآن، وهذا أظهر، لأنّ قوله: مصدّقا لما بين يديه من أوصاف القرآن، والمعنى: الردّ على اليهود بأحد وجهين: أحدهما من كان عدوّا لجبريل فلا ينبغي له أن يعاديه لأنه نزله على قلبك فهو مستحق للمحبة، ويؤكد هذا قوله وهدى وبشرى،

[سورة البقرة (2) : الآيات 103 إلى 108]

والثاني: من كان عدوّا لجبريل فإنما عاداه لأنه نزله على قلبك، فكان هذا تعليل لعداوتهم لجبريل وَجِبْرِيلَ، وَمِيكالَ ذكرا بعد الملائكة تجديدا للتشريف والتعظيم أَوَكُلَّما الواو للعطف، قال الأخفش: زائدة نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ نزلت في مالك بن الصيف اليهودي وكان قد قال: والله ما أخذ علينا عهد أن نؤمن بمحمد رسول يعني محمدا صلّى الله عليه واله وسلّم كِتابَ اللَّهِ يعني القرآن أو التوراة لما فيها من ذكر محمد صلّى الله عليه واله وسلّم أو المتقدّمين ما تَتْلُوا هو من القراءة أو الأتباع عَلى مُلْكِ أي في ملك أو عهد ملك سليمان وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ تبرئة له مما نسبوه إليه، وذلك أنّ سليمان عليه السلام دفن السحر ليذهبه فأخرجوه بعد موته، ونسبوه إليه، وقالت اليهود: إنما كان سليمان ساحرا، وقيل: إنّ الشياطين استرقوا السمع وألقوه إلى الكهان، فجمع سليمان ما كتبوا من ذلك ودفنه، فلما مات قالوا: ذلك علم سليمان وما كفر سليمان بتعليم السحر وبالعمل به أو بنسبته إلى سليمان عليه السلام وَما أُنْزِلَ نفي أو عطف على السحر عليهما، إلّا أنّ ذلك يردّه آخر الآية، وإن كانت معطوفة بمعنى الذي فالمعنى أنهما أنزل عليهما ضرب من السحر ابتلاء من الله لعباده، أو ليعرف فيحذر، وقرئ الملكين «بكسر اللام» وقال الحسن: هما علجان، فعلى هذا يتعين أن تكون ما غير نافية بِبابِلَ موضع معروف هارُوتَ وَمارُوتَ اسمان علمان بدل من الملكين أو عطف بيان إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ أي محنة، وذلك تحذير من السحر فَلا تَكْفُرْ أي بتعليم السحر، ومن هنا أخذ مالك أنّ الساحر: يقتل كفرا يُفَرِّقُونَ زوال العصمة أو المنع من الوطء يَضُرُّهُمْ أي في الآخرة عَلِمُوا أن اليهود والشياطين: أي اشتغلوا به، وذكر الشراء، لأنهم كانوا يعطون الأجرة عليه شَرَوْا هنا بمعنى باعوا لَمَثُوبَةٌ من الثواب وهو جواب: لَوْ أَنَّهُمْ وإنما جاء جوابها بجملة اسمية وعدل عن الفعلية لما في ذلك من الدلالة على إثبات الثواب واستقراره. وقيل: الجواب محذوف أي لأثيبوا لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ في الموضعين نفي لعلمهم لا تَقُولُوا راعِنا

[سورة البقرة (2) : الآيات 109 إلى 115]

كان المسلمون يقولون للنبي صلى الله عليه وآله وسلم: يا رسول الله راعنا، وذلك من المراعاة أي: راقبنا وانظرنا، فكان اليهود يقولونها: ويعنون بها معنى الرعونة على وجه الإذاية للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، وربما كانوا يقولونها على معنى النداء، فنهى الله المسلمين أن يقولوا هذه الكلمة لاشتراك معناها بين ما قصده المسلمون وقصده اليهود، فالنهي سدّا للذريعة، وأمروا أن يقولوا: انظرنا، لخلوّه عن ذلك الاحتمال المذموم، فهو من النظر والانتظار، وقيل: إنما نهى الله المسلمين عنها لما فيها من الجفاء وقلة التوقير وَاسْمَعُوا عطف على قولوا، لا على معمولها. والمعنى: الأمر بالطاعة والانقياد ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا جنس يعم نوعين: أهل الكتاب، والمشركين من العرب، ولذلك فسره بهما، ومعنى الآية أنهم: لا يحبون أن ينزل الله خيرا على المسلمين مِنْ خَيْرٍ من للتبعيض، وقيل: زائدة لتقدم النفي في قوله: ما يودّ بِرَحْمَتِهِ قيل: القرآن وقيل: النبوة وللعموم أولى، ومعنى الآية: الردّ على من كره الخير للمسلمين ما نَنْسَخْ نزل حكمه ولفظه أو أحدهما، وقرئ بضم النون أي نأمر بنسخه أَوْ نُنْسِها من النسيان، وهو ضدّ الذكر: أي ينساها النبي صلّى الله عليه واله وسلّم بإذن الله كقوله سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ [الأعلى: 6/ 7] أو بمعنى الترك: أي نتركها غير منزلة: أي غير منسوخة، وقرئ بالهمز بمعنى التأخير: أن نؤخر إنزالها أو نسخها بِخَيْرٍ في خفة العمل، أو في الثواب قَدِيرٌ استدلال على جواز النسخ لأنه من المقدورات، خلافا لليهود لعنهم الله فإنهم أحالوه «1» على الله. وهو جائز عقلا، وواقع شرعا فكما نسخت شريعتهم ما قبلها، نسخها ما بعدها تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ أي تطلبوا الآيات، ويحتمل السؤال عن العلم، والأوّل أرجح لما بعده، فإنه شبهه بسؤالهم لموسى، وهو قولهم له أرنا الله جهرة وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أي تمنوا، ونزلت الآية في حيي بن أخطب وأمية بن ياسر، وأشباههما من اليهود، الذين كانوا يحرصون على فتنة المسلمين، ويطمعون أن يردّوهم عن الإسلام حَسَداً مفعول من أجله، أو مصدر في موضع الحال، والعامل في ما قبله، فيجب وصله معه، وقيل: هو مصدر، والعامل فيه محذوف تقديره: يحسدونكم حسدا، فعلى هذا يوقف على ما قبله،

_ (1) . أحالوه: أي اعتبروه محالا لا يمكن حصوله. [.....]

والأوّل أظهر وأرجح مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ يتعلق بحسدا وقيل: بيودّ فَاعْفُوا منسوخ بالسيف بِأَمْرِهِ يعني إباحة قتالهم أو وصول آجالهم وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ الآية: أي قالت اليهود: لن يدخل الجنة إلّا من كان يهوديا، وقالت النصارى: لن يدخل الجنة إلّا من كان نصرانيا هُوداً يعني اليهود، وهذه الكلمة جمع هائد أو مصدر وصف به، وقال الفرّاء: حذفت منه يا هودا على غير قياس أَمانِيُّهُمْ أكاذيبهم أو ما يتمنونه هاتُوا أمر على وجه التعجيز، والردّ عليهم، وهو من: هاتي، يهاتي، ولم ينطق به، وقيل: أصله آتوا، وأبدل من الهمزة هاء بَلى إيجاب لما نفوا أي يدخلها من ليس يهوديا، ولا نصرانيا مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ أي دخل في الإسلام وأخلص، وذكر الوجه لشرفه والمراد جملة الإنسان وَقالَتِ الْيَهُودُ الآية: سببها: اجتماع نصارى نجران مع يهود المدينة فذمّت كل طائفة الأخرى وَهُمْ يَتْلُونَ تقبيح لقولهم مع تلاوتهم الكتاب الذين لا يَعْلَمُونَ المشركون من العرب لأنهم لا كتاب لهم مَنَعَ مَساجِدَ اللَّهِ لفظه الاستفهام ومعناه: لا أحد أظلم منه حيث وقع قريش منعت الكعبة، أو النصارى منعوا بيت المقدس أو على العموم خائِفِينَ في حق قريش لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: لا يحج بعد هذا العام مشرك «1» في حق النصارى حربهم عند بيت المقدس أو الجزية خِزْيٌ في حق قريش غلبتهم وفتح مكة، وفي حق النصارى: فتح بيت المقدس أو الجزية فَأَيْنَما تُوَلُّوا في الحديث الصحيح أنهم صلوا ليلة في سفر إلى غير القبلة بسبب الظلمة فنزلت، وقيل: هي في نفل المسافر حيث ما توجهت به دابته، وقيل: هي راجعة إلى ما قبلها: أي إن منعتم من مساجد الله فصلوا حيث كنتم، وقيل: إنها احتجاج على من أنكر تحويل القبلة، فهي كقوله بعد هذا: قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ الآية والقول الأوّل هو الصحيح، ويؤخذ منه أن من أخطأ القبلة، فلا تجب عليه الإعادة، وهو مذهب مالك وَجْهُ اللَّهِ المراد به هنا رضاه كقوله: ابْتِغاءَ وَجْهِ اللَّهِ أي رضاه، وقيل: معناه الجهة التي وجهه إليها، وأما قوله:

_ (1) . رواه أحمد في مسنده عن أبي بكر الصديق ص 4 رقم 4.

[سورة البقرة (2) : الآيات 116 إلى 117]

كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [القصص: 88] وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ [الرحمن: 27] فهو من المتشابه الذي يجب التسليم له من غير تكييف، ويردّ علمه إلى الله، وقال الأصوليون: هو عبارة عن الذات أو عن الوجود، وقال بعضهم: هو صفة ثابتة بالسمع وَقالُوا اتَّخَذَ قالت اليهود: عزير ابن الله، وقالت النصارى: المسيح ابن الله، وقالت الصابئون وبعض العرب: الملائكة بنات الله سُبْحانَهُ تنزيه له عن قولهم بَلْ لَهُ الآية ردّ عليهم لأنّ الكل ملكه، والعبودية تنافي النبوة قانِتُونَ أي طائعون منقادون بَدِيعُ السَّماواتِ أي مخترعها وخالقها ابتداء وإذا قضى أمرا أي قدّره وأمضاه، قال ابن عطية: يتحد في الآية المعنيان، فعلى مذهب أهل السنة: قدر في الأزل وأمضى فيه، وعلى مذهب المعتزلة: أمضى عند الخلق والإيجاد، قلت: لا يكون قضى هنا بمعنى قدّر، لأن القدر قديم، وإذا: تقتضي الحدوث والاستقبال، وذلك يناقض القدم، وإنما قضى هنا بمعنى: أمضى أو فعل أو وجد كقوله: فقضاهنّ سبع سموات، وقد قيل إنه بمعنى ختم الأمر، وبمعنى حكم، والأمر هنا بمعنى الشيء، وهو واحد الأمور، وليس بمصدر أمر يأمر فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ قال الأصوليون: هذا عبارة عن نفوذ قدرة الله تعالى: وليس بقول حقيقي، لأنه إن كان قول: كن خطابا للشيء في حال عدمه، لم يصح لأن المعدوم لم يخاطب، وإن كان خطابا في حال وجوده لأنه قد كان، وتحصيل الحاصل غير مطلوب. وحمله المفسرون على حقيقته، وأجابوا عن ذلك بأربعة أجوبة: أحدها: أن الشيء الذي يقول له: كن فيكون هو موجود في علم الله وإنما يقول له: كن ليخرجه إلى العيان لنا، والثاني: أن قوله: كن لا يتقدّم على وجود الشيء ولا يتأخر عنه. قاله الطبري، والثالث: أنّ ذلك خطابا لمن كان موجودا على حالة، فيأمر بأن يكون على حالة أخرى كإحياء الموتى، ومسخ الكفار، وهذا ضعيف. لأنه تخصيص من غير مخصص. والرابع: أن معنى يقول له: يقول من أجله، فلا يلزم خطابه: والأوّل أحسن هذه الأجوبة، وقال ابن عطية: تلخيص المعتقد في هذه الآية أن الله عز وجل لم يزل آمرا للمعدومات بشرط وجودها، فكل ما في الآية مما يقتضي الاستقبال، فهو بحسب المأمورات إذ المحدثات تجيء بعد أن لم تكن، فيكون رفع على الاستثناء، قال سيبويه: معناه فهو يكون، قال غيره: يكون عطف على يقول، واختاره الطبري، وقال ابن عطية: وهو فاسد من جهة المعنى، ويقتضي أن القول مع التكوين والوجود، وفي هذا نظر وَقالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ هم هنا وفي الموضع الأول كفار العرب على الأصح، وقيل: هم اليهود والنصارى لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ لولا هنا عرض، والمعنى أنهم قالوا: لن نؤمن حتى يكلمنا الله أَوْ تَأْتِينا آيَةٌ أي دلالة من المعجزات كقولهم: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً [الإسراء: 9] وما بعده كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ يعني اليهود والنصارى على القول: بأن

[سورة البقرة (2) : الآيات 124 إلى 126]

الذين لا يعلمون كفار العرب، وأما على القول بأن الذين لا يعلمون اليهود والنصارى، فالذين من قبلهم هم أمم الأنبياء المتقدمين تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ الضمير للذين لا يعلمون، وللذين من قبلهم، وتشابه قلوبهم في الكفر أو في طلب ما لا يصح أن يطلب، وهو كقولهم: لولا يكلمنا الله قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ أخبر تعالى أنه قد بين الآيات لعنادهم إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ خطابا للنبي صلّى الله عليه واله وسلّم، والمراد بالحق التوحيد، وكل ما جاءت به الشريعة بَشِيراً وَنَذِيراً تبشر المؤمنين بالجنة، وتنذر الكافرين بالنار، وهذا معناه حيث وقع وَلا تُسْئَلُ بالجزم نهي «1» ، وسببها أن النبي صلّى الله عليه واله وسلّم سأل عن حال آبائه في الآخرة فنزلت، وقيل: إن ذلك على معنى التهويل كقولك: لا تسأل عن فلان لشدّة حاله، وقرأ غير نافع بضم التاء واللام: أي لا تسأل في القيامة عن ذنوبهم مِلَّتَهُمْ ذكرها مفردة وإن كانت ملتين لأنهما متفقتان في الكفر، فكأنهما ملة واحدة قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى لا ما عليه اليهود والنصارى، والمعنى: أن الذي أنت عليه يا محمد هو الهدى الحقيقي لأنه هدى من عند الله بخلاف ما يدّعيه اليهود والنصارى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ جمع هوى، ويعني به ما هم عليه من الأديان الفاسدة والأقوال المضلة لأنهم اتبعوها بغير حجة بل بهوى النفوس والضمير لليهود والنصارى، والخطاب لمحمد صلّى الله عليه وسلّم، وقد علم الله أنه لا يتبع أهواءهم، ولكن قال ذلك على وجه التهديد لو وقع ذلك، فهو على معنى الفرض والتقدير، ويحتمل أن يكون خطابا له صلّى الله عليه وسلّم، والمراد غيره الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يعني المسلمين، والكتاب على هذا: القرآن، وقيل: هم من أسلم من بني إسرائيل، والكتاب على هذا التوراة، ويحتمل العموم، ويكون الكتاب اسم جنس يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أي يقرءونه كما يجب من التدبر له والعمل به، وقيل: معناه يتبعونه حق إتباعه، بامتثال أوامره واجتناب نواهيه، والأوّل أظهر، فإن التلاوة وإن كانت تقال بمعنى القراءة، وبمعنى الاتباع فإنه أظهر في معنى القراءة، لا سيما إذا كانت تلاوة الكتاب، ويحتمل أن تكون هذه الجملة في موضع الحال، ويكون الخبر أولئك يؤمنون، وهذا أرجح، لأن مقصود الكلام الثناء عليهم بالإيمان، أو إقامة الحجة بإيمانهم على غيرهم ممن لم يؤمن يا بَنِي إِسْرائِيلَ الآية: تقدّم الكلام على نظيرتها وَإِذِ ابْتَلى أي

_ (1) . على قراءة المؤلف رحمه الله.

اختبر، فالعامل في إذ فعل مضمر تقديره أذكر، وقوله بِكَلِماتٍ قيل: مناسك الحج، وقيل: خصال الفطرة العشرة، وهي: المضمضة، والاستنشاق، والسواك، وقص الشارب، وإعفاء اللحية، وقص الأظافر، ونتف الإبطين، وحلق العانة، والختان، والاستنجاء، وقيل هي ثلاثون خصلة: عشرة ذكرت في براءة من قوله: التائبون العابدون، وعشرة في الأحزاب من قوله: إن المسلمين والمسلمات، وعشرة في المعارج من قوله: إلّا المصلين فَأَتَمَّهُنَّ أي عمل بهنّ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي استفهام أو رغبة عَهْدِي الإمامة الْبَيْتَ الكعبة مَثابَةً اسم مكان من قولك: ثاب إذا رجع، لأنّ الناس يرجعون إليه عاما بعد عام وَاتَّخِذُوا بالفتح إخبار عن المتبعين لإبراهيم عليه السلام، وبالكسر إخبار لهذه الأمّة «1» ، وافق قول عمر رضي الله عنه: لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى «2» ، وقيل أمر لإبراهيم وشيعته، وقيل لبني إسرائيل فهو على هذا عطف على قوله: اذكروا نعمتي، وهذا بعيد مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ هو الحجر الذي صعد به حين بناء الكعبة، وقيل المسجد الحرام وَعَهِدْنا عبارة عن الأمر والوصية طَهِّرا بَيْتِيَ عبارة عن بنيانه بنية خالصة كقوله: أسس على التقوى، وقيل: المعنى طهراه عن عبادة الأصنام لِلطَّائِفِينَ هم الذين يطوفون بالكعبة، وقيل: الغرباء القادمون على مكة، والأوّل أظهر وَالْعاكِفِينَ هم المعتكفون في المسجد، وقيل: المصلون، وقيل: المجاورون من الغرباء، وقيل: أهل مكة، والعكوف في اللغة: اللزوم بَلَداً يعني مكة آمِناً أي مما يصيب غيره من الخسف والعذاب، وقيل: آمنا من إغارة الناس على أهله، لأن العرب كان يغير بعضهم على بعض، وكانوا لا يتعرضون لأهل مكة، وهذا أرجح لقوله: أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ [القصص: 57] ، فإن قيل: لم قال في البقرة بَلَداً آمِناً فعرّف في إبراهيم [35] ونكّر في البقرة؟ أجيب عن ذلك بثلاثة أجوبة الجواب الأوّل: قاله أستاذنا الشيخ أبو جعفر بن الزبير، وهو أنه تقدّم في البقرة ذكر البيت في قوله: القواعد من البيت «3» ، وذكر البيت يقتضي بالملازمة ذكر البلد الذي هو فيه، فلم يحتج إلى تعريف، بخلاف آية إبراهيم، فإنها لم يتقدم قبلها ما يقتضي ذكر البلد ولا المعرفة به، فذكره بلام التعريف.

_ (1) . كما هي قراءة حفص. (2) . روى الإمام ابن جرير في تفسيره عن أنس بن مالك قول عمر للنبي صلّى الله عليه وسلّم: لو اتخذت المقام مصلّى فنزل قوله تعالى: وَاتَّخِذُوا ... (3) . الواقع أن القواعد من البيت ستأتي في الآية التالية مباشرة.

[سورة البقرة (2) : الآيات 127 إلى 135]

الجواب الثاني قاله السهيلي: وهو أن النبي صلّى الله عليه واله وسلّم كان بمكة حين نزلت آية إبراهيم، لأنها مكية فلذلك قال فيه: البلد بلام التعريف التي للحضور: كقولك: هذا الرجل، وهو حاضر، بخلاف آية البقرة، فإنها مدنية، ولم تكن مكة حاضرة حين نزولها، فلم يعرفها بلام الحضور، وفي هذا نظر لأن ذلك الكلام حكاية عن إبراهيم عليه السلام، فلا فرق بين نزوله بمكة أو المدينة «الجواب الثالث» قاله بعض المشارقة [وهو] أنه قال: هذا بلدا آمنا قبل أن يكون بلدا، فكأنه قال اجعل هذا الموضع بلدا آمنا، وقال: هذا البلد بعد ما صار بلدا. وهذا يقتضي أن إبراهيم دعا بهذا الدعاء مرتين، والظاهر أنه مرة واحدة حكي لفظه فيها على وجهين مَنْ آمَنَ بدل بعض من كل ومن كفر أي قال الله وأرزق من كفر لأنّ الله يرزق في الدنيا المؤمن والكافر رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا على حذف القول أي يقولان ذلك وَأَرِنا مَناسِكَنا علمنا موضع الحج وقيل: العبادات فِيهِمْ أي في ذرّيتنا رَسُولًا مِنْهُمْ هو محمد صلّى الله عليه واله وسلّم، ولذلك قال صلّى الله عليه واله وسلّم: أنا دعوة أبي إبراهيم «1» والضمير المجرور لذرية إبراهيم وإسماعيل وهم العرب الذين من نسل عدنان، وأما الذين من قحطان فاختلف هل هم من ذرّية إسماعيل أم لا آياتِكَ هنا القرآن وَالْحِكْمَةَ هنا هي السنة وَيُزَكِّيهِمْ أي يطهرهم من الكفر والذنوب سَفِهَ نَفْسَهُ منصوب على التشبيه بالمفعول به، وقيل: الأصل في نفسه ثم حذف الجار فانتصب وقيل: تمييز وَوَصَّى بِها أي بالكلمة والملة ويعقوب بالرفع عطف على إبراهيم، فهو موصي، وقرئ بالنصب عطفا على نبيه فهو موصى أَمْ كُنْتُمْ أم هنا منقطعة معناها الاستفهام والإنكار، وإسماعيل كان عمه، والعم يسمى أبا وَقالُوا كُونُوا أي قالت اليهود كونوا هودا وقالت النصارى كونوا نصارى بَلْ مِلَّةَ منصوب بإضمار فعل لا نُفَرِّقُ أي لا نؤمن بالبعض دون

_ (1) . رواه الإمام الطبري في تفسيره بسنده إلى العرباض بن سارية.

البعض، وهذا برهان، لأن كل من أتى بالمعجزة فهو نبيّ فالكفر ببعضهم والإيمان ببعضهم تناقض فَسَيَكْفِيكَهُمُ وعد ظهر مصداقه فقتل بني قريظة وأجلى بني النضير وغير ذلك صِبْغَةَ اللَّهِ أي دينه وهو استعارة من صبغ الثوب وغيره، ونصبه على الإغراء، وعلى المصدر من المعاني المتقدمة، أو بدل من ملة إبراهيم كَتَمَ شَهادَةً من الشهادة بأن الأنبياء على الحنيفية مِنَ اللَّهِ يتعلق بكتم أو كأن المعنى شهادة تخلصت له من الله. سَيَقُولُ ظاهره الإعلام بقولهم قبل وقوعه، إلّا أن ابن عباس قال: نزلت بعد قولهم السُّفَهاءُ هنا اليهود أو المشركون أو المنافقون ما وَلَّاهُمْ أي ما ولى المسلمين عَنْ قِبْلَتِهِمُ الأولى وهي بيت المقدس إلى الكعبة لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ ردّا عليهم لأنّ الله يحكم ما يريد، ويولي عباده حيث شاء، لأنّ الجهات كلها له وَكَذلِكَ بعد ما هديناكم جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً أي خيارا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ أي تشهدون يوم القيامة بإبلاغ الرسل إلى قومهم عَلَيْكُمْ شَهِيداً أي بأعمالكم، قال عليه الصلاة والسلام أقول كما قال أخي عيسى: وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ [المائدة: 117] الآية، فإن قيل: لم قدّم المجرور في قوله عليكم شهيدا وأخره في قوله: شهداء على الناس؟ فالجواب: أنّ تقديم المعمولات «1» يفيد الحصر، فقدّم المجرور في قوله: عليكم شهيدا: لاختصاص شهادة النبي صلّى الله عليه واله وسلّم بأمته، ولم يقدّمه في قوله شهداء على الناس لأنه لم يقصد الحصر الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها فيها قولان: أحدهما: أنها الكعبة، وهو قول ابن عباس. والآخر: هو بيت المقدس، وهو قول قتادة وعطاء والسدّي، وهذا مع ظاهر قوله: كنت عليها لأنّ النبي صلّى الله عليه واله وسلّم كان يصلي إلى بيت المقدس، ثم انصرف عنه إلى الكعبة،

_ (1) . المعمول: اصطلاح لدى أهل النحو وهو ما عدا الفعل والفاعل.

[سورة البقرة (2) : الآيات 144 إلى 148]

وأما قول ابن عباس: فتأويله بوجهين: الأوّل: أنّ: كنت بمعنى أنت، والثاني: قيل: إن النبي صلّى الله عليه واله وسلّم صلّى إلى الكعبة قبل بيت المقدس، وإعراب الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها مفعول بجعلنا، أو صفة للقبلة، ومعنى الآية على القولين: اختبار وفتنة للناس بأمر القبلة، وأما على قول قتادة: فإن الصلاة إلى بيت المقدس فتنة للعرب، لأنهم كانوا يعظمون الكعبة، أو فتنة لمن أنكر تحويلها، وتقديره على هذا: ما جعلنا صرف القبلة، أمّا على قول ابن عباس: فإنّ الصلاة إلى الكعبة فتنة لليهود لأنهم يعظمون بيت المقدس، وهم مع ذلك ينكرون النسخ، فأنكروا صرف القبلة، أو فتنة لضعفاء المسلمين حتى رجع بعضهم عن الإسلام حين صرفت القبلة لِنَعْلَمَ أي العلم الذي تقوم به الحجة على العبد وهو إذا ظهر في الوجود ما علمه الله يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ عبارة عن الارتداد عن الإسلام، وهو تشبيه بمن رجع يمشي إلى وراء وَإِنْ كانَتْ إن مخففة من الثقيلة واسم كان ضمير الفعلة وهي التحوّل عن القبلة إِيمانَكُمْ قيل صلاتكم إلى بيت المقدس واستدل به من قال إنّ الأعمال من الإيمان، وقيل: معناه ثبوتكم على الإيمان حين انقلب غيركم بسبب تحويل القبلة تَقَلُّبَ وَجْهِكَ كان النبي صلّى الله عليه واله وسلّم يرفع رأسه إلى السماء رجاء أن يؤمر بالصلاة إلى الكعبة شَطْرَ الْمَسْجِدِ جهة وَما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ خبر يتضمن النهي ووحدت قبلتهم، وإن كانت جهتين لاتحادهم في البطلان وَما بَعْضُهُمْ بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ لأنّ اليهود لعنهم الله يستقبلون المغرب والنصارى المشرق يَعْرِفُونَهُ أي يعرفون القرآن أو النبي صلّى الله عليه واله وسلّم أو أمر القبلة كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ مبالغة في وصف المعرفة، وقال عبد الله بن سلام معرفتي بالنبي صلّى الله عليه واله وسلّم أشدّ من معرفتي بابني لأنّ ابني قد يمكن فيه الشك لِكُلٍ أي لكل أحد أو لكل طائفةجْهَةٌ أي جهة، ولم تحذف الواو لأنه ظرف مكان، وقيل: إنه مصدر، وثبت فيه الواو على غير قياس وَمُوَلِّيها أي موليها وجهه وقرئ مولاها أي ولّاه الله إليها والمعنى أن الله جعل لكل أمة قبلةاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ أي بادروا إلى الأعمال الصالحات أْتِ بِكُمُ اللَّهُ أي

[سورة البقرة (2) : الآيات 149 إلى 152]

يبعثكم من قبوركم فَوَلِّ وَجْهَكَ الأمر كرر للتأكيد أو ليناط به ما بعده لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ الآية: معناها أنّ الصلاة إلى الكعبة تدفع حجة المعترضين من الناس، فإن أريد اليهود فحجتهم أنهم يجدون في كتبهم أنّ النبي صلّى الله عليه واله وسلّم يتحوّل إلى الكعبة، فلما صلّى إليها لم تبق لهم حجة على المسلمين، وإن أريد قريش فحجتهم أنهم قالوا: قبلة آبائه أولى به إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا أي من يتكلم بغير حجة ويعترض التحوّل إلى الكعبة، والاستثناء متصل لأنه استثناء من عموم الناس. ويحتمل الانقطاع على أن يكون استثناء ممن له حجة، فإن الذين ظلموا هم الذين ليس لهم حجة وَلِأُتِمَّ متعلق بمحذوف أي فعلت ذلك لأتمّ، أو معطوف على لئلّا يكون كَما أَرْسَلْنا متعلق بقوله لأتمّ، أو بقوله فاذكروني والأول أظهر، فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ. قال: سعيد بن المسيب: معناه اذكروني بالطاعة أذكركم بالثواب وقيل اذكروني بالدعاء والتسبيح ونحو ذلك، وقد أكثر المفسرون، لا سيما المتصوّفة في تفسير هذا الموضع بألفاظ لها معاني مخصوصة، ولا دليل على التخصيص، وبالجملة فهذه الآية بيان لشرف الذكر وبينها قول رسول الله صلّى الله عليه واله وسلّم كما يرويه عن ربه: «أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه حين يذكرني فإن ذكرني في نفسه: ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ: ذكرته في ملأ خير منهم» «1» . والذكر ثلاثة أنواع: ذكر بالقلب، وذكر باللسان، وبهما معا، واعلم أن الذكر أفضل الأعمال على الجملة، وإن ورد في بعض الأحاديث تفضيل غيره من الأعمال: كالصلاة وغيرها فإنّ ذلك لما فيها من معنى الذكر والحضور مع الله تعالى. والدليل على فضيلة الذكر من ثلاثة أوجه الأوّل النصوص الواردة بتفضيله على سائر الأعمال، قال رسول الله صلّى الله عليه واله وسلّم: «ألا أنبئكم بخير أعمالكم، وأزكاها عند مليككم، وأرفعها في درجاتكم، وخير لكم من أن تلقوا عدوّكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: ذكر الله» «2» . وسئل رسول الله صلّى الله

_ (1) . متفق عليه وعزاه المناوي في الإتحافات السنية بالأحاديث القدسية للبيهقي عن أبي هريرة وروى مسلم بعضه عن أنس. (2) . رواه الترمذي عن أبي الدرداء ص 459 ج 5.

[سورة البقرة (2) : آية 153]

عليه واله وسلّم: أي الأعمال أفضل؟ قال: ذكر الله، قيل الذكر أفضل أم الجهاد في سبيل الله؟ فقال: لو ضرب المجاهد بسيفه في الكفار حتى ينقطع سيفه ويختضب دما: لكان الذاكر أفضل منه «1» . الوجه الثاني: أنّ الله تعالى حيث ما أمر بالذكر، أو أثنى على الذكر: اشترط فيه الكثرة، فقال: اذكروا الله ذكرا كثيرا، والذاكرين الله كثيرا، ولم يشترط ذلك في سائر الأعمال الوجه الثالث: أنّ للذكر مزية هي له خاصة وليست لغيره: وهي الحضور في الحضرة العلية، والوصول إلى القرب بالذي عبر عنه ما ورد في الحديث من المجالسة والمعية، فإنّ الله تعالى يقول: أنا جليس من ذكرني «2» ، ويقول: «أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه إذا ذكرني» متفق عليه من حديث أبي هريرة. وفي رواية البيهقي: وأنا معه حين يذكرني. وللناس في المقصد بالذكر مقامان: فمقصد العامة اكتساب الأجور، ومقصد الخاصة القرب والحضور، وما بين المقامين بون بعيد. فكم بين من يأخذ أجره وهو من وراء حجاب، وبين من يقرب حتى يكون من خواص الأحباب. واعلم أن الذكر على أنواع كثيرة: فمنها التهليل، والتسبيح، والتكبير، والحمد، والحوقلة، والحسبلة، وذكر كل اسم من أسماء الله تعالى، والصلاة على النبي صلّى الله عليه واله وسلّم، والاستغفار، وغير ذلك. ولكل ذكر خاصيته وثمرته. وأما التهليل: فثمرته التوحيد: أعني التوحيد الخاص فإنّ التوحيد العام حاصل لكل مؤمن، وأما التكبير: فثمرته التعظيم والإجلال لذي الجلال، وأما الحمد والأسماء التي معناها الإحسان والرحمة كالرحمن الرحيم والكريم والغفار وشبه ذلك: فثمرتها ثلاث مقامات، وهي الشكر، وقوة الرجاء، والمحبة. فإنّ المحسن محبوب لا محالة. وأما الحوقلة والحسبلة: فثمرتها التوكل على الله والتفويض إلى الله، والثقة بالله: وأما الأسماء التي معناها الاطلاع والإدراك كالعليم والسميع والبصير والقريب وشبه ذلك: فثمرتها المراقبة. وأما الصلاة على النبي صلّى الله عليه واله وسلّم: فثمرتها شدّة المحبة فيه، والمحافظة على اتباع سنته، وأما الاستغفار: فثمرته الاستقامة على التقوى، والمحافظة على شروط التوبة مع إنكار القلب بسبب الذنوب المتقدّمة. ثم إنّ ثمرة الذكر التي تجمع الأسماء والصفات مجموعة في الذكر الفرد وهو قولنا: الله، الله. فهذا هو الغاية وإليه المنتهى اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ أي بمعونته وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتٌ قيل إنها نزلت في الشهداء المقتولين

_ (1) . رواه الترمذي في كتاب الدعاء ص 458 ج 5 عن أبي سعيد الخدري وأوله: أي العباد أفضل درجة عند الله يوم القيامة قال: الذاكرون الله كثيرا والذاكرات، قلت ومن الغازين في سبيل الله؟ قال لو ضرب» . (2) . قال عنه العجلوني في كشف الخفاء: رواه البيهقي في الشعب عن أبي بن كعب أوله: قال موسى عليه السلام يا رب: أقريب أنت فأناجيك أو بعيد فأناديك؟ فقيل له يا موسى: أنا ... » .

[سورة البقرة (2) : الآيات 158 إلى 163]

في غزوة بدر، وكانوا أربعة عشر رجلا لما قتلوا حزن عليهم أقاربهم، فنزلت الآية مبينة لمنزلة الشهداء عند الله وتسلية لأقاربهم، ولا يخصها نزولها فيهم بل حكمها على العموم في الشهداء وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ أي نختبركم، وحيث ما جاء الاختبار في حق الله فمعناه: أن يظهر في الوجود ما في علمه، لتقوم الحجة على العبد، وليس كاختبار الناس بعضهم بعضا، لأن الله يعلم ما كان وما يكون، والخطاب بهذا الابتلاء للمسلمين، وقيل: لكفار قريش، والأول أظهر لقوله بعد هذا وبشر الصابرين بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ من الأعداء وَالْجُوعِ بالجدب وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ بالخسارة وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَراتِ بالجوانح، وقيل ذلك كله بسبب الجهاد إِنَّا لِلَّهِ اللام للملك، والمالك يفعل في ملكه ما يشاء راجِعُونَ تذكروا الآخرة لتهون عليهم مصائب الدنيا، وفي الحديث الصحيح: أن رسول الله صلّى الله عليه واله وسلّم قال: من أصابته مصيبة فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم أجرني في مصيبتي وأخلف لي خيرا منها أخلف الله له خيرا مما أصابه. قالت أمّ سلمة فلما مات زوجي أبو سلمة قلت ذلك فأبدلني الله به رسول الله صلّى الله عليه واله وسلّم [أخرجه أحمد عن أم سلمة ج 6 ص 358] . فائدة: ورد ذكر الصبر من القرآن في أكثر من سبعين موضعا، وذلك لعظمة موقعه في الدين. قال بعض العلماء: كل الحسنات لها أجر محصور من عشرة أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلّا الصبر فإنه لا يحصر أجره، لقوله تعالى: إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ [الزمر: 10] . وذكر الله للصابرين ثمانية أنواع من الكرامة: أوّلها: المحبة، قال: وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ [آل عمران: 146] . والثاني: النصر قال: إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ [البقرة: 153] . والثالث: غرفات الجنة،. قال: يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِما صَبَرُوا [الفرقان: 75] والرابع: الأجر الجزيل قال: إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ [الفرقان: 4] والأربعة الأخرى المذكورة في هذه الآية، ففيها البشارة، قال: وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ [الزمر: 10] والصلاة والرحمة والهداية أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ والصابرون على أربعة أوجه: صبر على البلاء، وهو منع النفس من التسخيط والهلع والجزع. وصبر على النعم وهو تقييدها بالشكر، وعدم الطغيان، وعدم التكبر بها. وصبر على الطاعة بالمحافظة والدوام عليها. وصبر عن المعاصي بكف النفس عنها، وفوق الصبر التسليم وهو ترك الاعتراض والتسخيط ظاهرا، وترك الكراهة باطنا، وفوق التسليم: الرضا بالقضاء، وهو سرور النفس بفعل الله وهو صادر عن المحبة، وكل ما يفعل المحبوب محبوب إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ جبلان صغيران بمكة مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ أي معالم دينه واحدها شعيرة أو شعارة فَلا جُناحَ عَلَيْهِ إباحة للسعي بين

الصفا والمروة، والسعي بينهما واجب عند مالك والشافعي، وإنما جاء بلفظ يقتضي الإباحة لأن بعض الصحابة امتنعوا من السعي بينهما، لأنه كان في الجاهلية على الصفا صنم يقال له أساف، وعلى المروة صنم يقال له نائلة، فخافوا أن يكون السعي بينهما تعظيما للصنمين، فرفع الله ما وقع في نفوسهم من ذلك، ثم إنّ السعي بينهما للسنّة، قالت عائشة رضي الله عنها، «سن رسول الله صلّى الله عليه واله وسلّم السعي بين الصفا والمروة، وليس لأحد تركه، وقيل: إنّ الوجوب يؤخذ من قوله «شعائر الله» وهذا ضعيف لأنّ شعائر الله: منها واجبة، ومنها مندوبة، وقد قيل: إنّ السعي مندوب يَطَّوَّفَ أصله يتطوف ثم أدغمت التاء في الطاء وهذا الطواف يراد به السعي سبعة أشواط وَمَنْ تَطَوَّعَ عاما في أفعال البر، وخاصة في الوجوب من السنة أو معنى التطوّع بحج بعد حج الفريضة إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ أمر محمد صلّى الله عليه واله وسلّم في الكتاب التوراة هنا اللَّاعِنُونَ الملائكة والمؤمنون، وقيل: المخلوقات إلّا الثقلين، وقيل: البهائم لما يصيبهم من الجدب لذنوب الكاتمين للحق وبينوا أي شرط في توبتهم أن يبينوا لأنهم كتموا وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ هم المؤمنون فهو عموم يراد به الخصوص، لأنّ المؤمنين هم الذين يعتد بلعنهم للكافرين، وقيل يلعنهم جميع الناس خالِدِينَ فِيها أي في اللعنة، وقيل في النار وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ من أنظر إذا أخر، أي لا يؤخرون عن العذاب ولا يمهلون أو من نظر لقوله: «لا ينظر إليهم» إلّا أن يتعدّى بإلى وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ الواحد له ثلاثة معان كلها صحيحة في حق الله تعالى: أحدها: أنه لا ثاني له فهو نفي للعدد، والآخر: أنه لا شريك له، والثالث: أنه لا يتبعض ولا ينقسم، وقد فسر المراد به هنا في قوله لا إله إلّا هو. واعلم أن توحيد الخلق لله تعالى على ثلاث درجات الأولى: توحيد عامة المسلمين وهو الذي يعصم النفس من الهلك في الدنيا، وينجي من الخلود في النار في الآخرة وهو نفي الشركاء والأنداد، والصاحبة والأولاد، والأشباه والأضداد. الدرجة الثانية: توحيد الخاصة، وهو أن يرى الأفعال كلها صادرة من الله وحده ويشاهد ذلك بطريق المكاشفة لا بطريق الاستدلال الحاصل لكل مؤمن، وإنما مقام الخاص في التوحيد يغني «1» في القلب بعلم ضروري لا يحتاج إلى دليل، وثمرة هذا العلم الانقطاع إلى الله والتوكل عليه وحده واطراح جميع الخلق، فلا يرجو إلّا الله، ولا يخاف أحدا سواه إذ ليس يرى فاعلا إلّا إياه

_ (1) . لعل مراد المؤلف رحمه الله: يقع أو يحصل. والله أعلم.

[سورة البقرة (2) : الآيات 164 إلى 165]

ويرى جميع الخلق في قبضة القهر ليس بيدهم شيء من الأمر، فيطرح الأسباب وينبذ الأرباب، والدرجة الثالثة ألّا يرى في الوجود إلّا الله وحده فيغيب عن النظر إلى المخلوقات، حتى كأنها عنده معدومة. وهذا الذي تسميه الصوفية مقام الفناء بمعنى الغيبة عن الخلق حتى أنه قد يفنى عن نفسه، وعن توحيده: أي يغيب عن ذلك باستغراقه في مشاهدة الله إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الآية ذكر فيها ثمانية أصناف من المخلوقات تنبيها على ما فيها من العبر والاستدلال على التوحيد المذكور قبلها في قوله: وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ أي اختلاف وصفهما من الضياء والظلام والطول والقصر، وقيل إن أحدهما يخلف الآخر بِما يَنْفَعُ النَّاسَ من التجارة وغيرها وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ إرسالها من جهات مختلفة، وهي الجهات الأربع، وما بينهما وبصفات مختلفة فمنها ملقحة للشجر، وعقيم، وصر، وللنصر، وللهلاك. وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ اعلم أن محبة العبد لربه على درجتين: إحداهما: المحبة العامة التي لا يخلو منها كل مؤمن، وهي واجبة، والأخرى: المحبة الخاصة التي ينفرد بها العلماء الربانيون، والأولياء والأصفياء، وهي أعلى المقامات، وغاية المطلوبات، فإنّ سائر مقامات الصالحين: كالخوف، والرجاء، والتوكل، وغير ذلك فهي مبنية على حظوظ النفس، ألا ترى أن الخائف إنما يخاف على نفسه، وأن الراجي إنما يرجو منفعة نفسه بخلاف المحبة فإنها من أجل المحبوب فليست من المعاوضة، واعلم أنّ سبب محبة الله معرفته فتقوى المحبة على قدر قوّة المعرفة، وتضعف على قدر ضعف المعرفة، فإنّ الموجب للمحبة أحد أمرين: وكلاهما إذا اجتمع في شخص من خلق الله تعالى كان في غاية الكمال. الموجب الأوّل الحسن والجمال، والآخر الإحسان والإجمال، فأما الجمال فهو محبوب بالطبع، فإنّ الإنسان بالضرورة يحب كل ما يستحسن، والإجمال مثل جمال الله في حكمته البالغة وصنائعه البديعة، وصفاته الجميلة الساطعة الأنوار، التي تروق العقول وتهيج القلوب، وإنما يدرك جمال الله تعالى بالبصائر، لا بالأبصار، وأما الإحسان فقد جبلت القلوب على حب من أحسن إليها، وإحسان الله إلى عباده متواتر وإنعامه عليهم باطن وظاهر، وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها [إبراهيم: 34] ، ويكفيك أنه يحسن إلى المطيع والعاصي، والمؤمن والكافر، وكل إحسان ينسب إلى غيره فهو في الحقيقة منه، وهو المستحق للمحبة وحده.

[سورة البقرة (2) : الآيات 166 إلى 171]

واعلم أنّ محبة الله إذا تمكنت من القلب ظهرت آثارها على الجوارح من الجدّ في طاعته والنشاط لخدمته، والحرص على مرضاته والتلذذ بمناجاته، والرضا بقضائه، والشوق إلى لقائه والأنس بذكره، والاستيحاش من غيره، والفرار من الناس، والانفراد في الخلوات، وخروج الدنيا من القلب، ومحبة كل من يحبه الله وإيثاره على كل من سواه، قال الحارث المحاسبي: المحبة تسليمك إلى المحبوب بكليتك، ثم إيثارك له على نفسك وروحك، ثم موافقته سرا وجهرا، ثم علمك بتقصيرك في حبه ولو ترى «1» من رؤية العين والذين ظلموا مفعول، وجواب لو محذوف وهو العامل في أن التقدير لو ترى الذين ظلموا لعلمت أنّ القوّة لله أو لعلموا أنّ القوّة لله، ويرى بالياء، وهو على هذه القراءة من رؤيا القلب، والذين ظلموا فاعل، وأن القوّة مفعول يرى، وجواب لو محذوف والتقدير لو يرى الذين ظلموا أنّ القوّة لله لندموا، ولاستعظموا ما حل بهم إِذْ تَبَرَّأَ بدل من إذ يرون، أو استئناف والعامل فيه محذوف وتقديره اذكر الَّذِينَ اتُّبِعُوا هم الآلهة أو الشياطين أو الرؤساء من الكفار والعموم أولى الْأَسْبابُ هنا الوصلات من الأرحام والمودّات أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ أي سيادتهم «2» وقيل حسنتهم إذا لم تقبل منهم أو ما عملوا لآلهتهم كُلُوا أمر محمول على الإباحة حَلالًا حال مما في الأرض، أو مفعول بكلوا أو صفة لمفعول محذوف أي: شيئا حلالا طَيِّباً يحتمل أن يريد الحلال خُطُواتِ الشَّيْطانِ ما يأمر به، وأصله من خطوت الشيء. وقال المنذر بن سعيد: يحتمل أن يكون من الخطيئة ثم سهلت همزته، وقرئ بضم الطاء وإسكانها وهي لغتان بِالسُّوءِ وَالْفَحْشاءِ المعاصي وَأَنْ تَقُولُوا الإشراك وتحريم الحلال كالبحيرة وغير ذلك أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ ردّا على قولهم: بل نتبع الآية في كفار العرب. وقيل في اليهود: أنهم يتبعونهم ولو كانوا لا يَعْقِلُونَ فدخلت همزة الإنكار على واو الحال وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا الآية: في معناها قولان: الأوّل تشبيه الذين كفروا بالبهائم لقلة فهمهم وعدم استجابتهم لمن يدعوهم، ولا بد في هذا من محذوف، وفيه وجهان: أحدهما: أن يكون المحذوف أوّل الآية والتقدير

_ (1) . حسب قراءة المؤلف وهي قراءة نافع وأما في المصحف فحسب قراءة حفص: يرى. (2) . كذا في الأصل ولعل الصواب: سيئاتهم. [.....]

[سورة البقرة (2) : الآيات 172 إلى 173]

مثل داعي الذين كفروا إلى الإيمان كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ أي يصيح بِما لا يَسْمَعُ وهي البهائم التي لا تسمع إِلَّا دُعاءً وَنِداءً ولا يعقل معنى، والآخر: أن يكون المحذوف بعد ذلك، والتقدير: مثل الذين كفروا كمثل مدعوّ الذي ينعق. ويكون دعاء ونداء على الوجهين مفعولا: يسمع والنعيق: هو زجر الغنم، والصياح عليها، فعلى هذا القول شبه الكفار بالغنم وداعيهم بالذي يزجرها وهو يصيح عليها، الثاني: تشبيه الذين كفروا في دعائهم، وعبادتهم لأصنامهم بمن ينعق بما لا يسمع، لأنّ الأصنام لا تسمع شيئا، ويكون دعاء ونداء على هذا منعطف: أي أن الداعي يتعب نفسه بالدعاء أو النداء لمن لم يسمعه من غير فائدة، فعلى هذا شبه الكفار بالنعق صم وما بعده راجع إلى الكفار وذلك غير التآويل الأول ورفعوا على إضمار مبتدأ واشكروا الآية: دليل على وجوب الشكر لقوله: إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ الْمَيْتَةَ ما مات حتف أنفه، وهو عموم خص منه الحوت «1» والجراد، وأجاز مالك أكل الطافي من الحوت، ومنعه أبو حنيفة، ومنع مالك الجراد حتى تسيب في بيوتها بقطع عضو منها أو وضعها في الماء وغير ذلك، وأجازه عبد الحكم دون ذلك وَالدَّمَ يريد المسفوح لتقييده بذلك في سورة الأنعام، ولا خلاف في إباحة ما خالط اللحم من الدم وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ هو حرام سواء ذكّي أو لم يذكّ، وكذلك شحمه بإجماع، وإنما خص اللحم بالذكر، لأنه الغالب في الأكل ولأن الشحم تابع له، وكذلك من حلف أن لا يأكل لحما فأكل شحما حنث بخلاف العكس وَما أُهِلَّ بِهِ أي: صيح لأنهم كانوا يصيحون باسم من ذبح له، ثم استعمل في النية في الذبح لِغَيْرِ اللَّهِ الأصنام وشبهها اضْطُرَّ بالجوع أو بالإكراه، وهو مشتق من الضرورة ووزنه افتعل، وأبدل من التاء طاء غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ قيل: باغ على المسلمين، وعاد عليهم، ولذلك لم يرخص مالك في رواية عنه للعاصي بسفره أن يأكل لحم الميتة، والمشهور عنه الترخيص له، وقيل: غير باغ باستعمالها من غير اضطرار وقيل: باغ أي متزايد على إمساك رمقه. ولهذا لم يجز الشافعي للمضطر أن يشبع من الميتة. قال مالك: بل يشبع ويتزوّد فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ رفع للحرج، ويجب على المضطر أكل الميتة لئلا يقتل نفسه بالجوع وإنما تدل الآية على الإباحة لا على الوجوب، وقد اختلف هل يباح له ميتة بني آدم أم لا، فمنعه مالك وأجازه الشافعي لعموم الآية إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ اليهود ما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ أي أكلهم للدنيا يقودهم إلى النار،

_ (1) . بلغة المغرب يشمل أنواع السمك.

فوضع السبب موضع المسبب، وقيل: يأكلون النار في جهنم حقيقة وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ عبارة عن غضبه عليهم، وقيل: لا يكلمهم بما يحبون وَلا يُزَكِّيهِمْ لا يثني عليهم فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ تعجب من جرأتهم على ما يقودهم إلى النار أو من صبرهم على عذاب النار في الآخرة، وقيل: إنها استفهام، وأصبرهم بمعنى صبرهم، وهذا بعيد، وإنما حمل قائله عليه اعتقاده أن التعجب مستحيل على الله لأنه استعظام خفي سببه، وذلك لا يلزم فإنه في حق الله غير خفي السبب ذلِكَ إشارة إلى العذاب ورفعه بالابتداء أو بفعل مضمر بِأَنَّ اللَّهَ الباء سببية نَزَّلَ الْكِتابَ القرآن هنا بِالْحَقِّ أي بالواجب، أو بالإخبار الحق أي الصادق، والباء فيه سببية أو للمصاحبة الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتابِ اليهود والنصارى، والكتاب على هذا التوراة والإنجيل، وقيل: الذين اختلفوا العرب، والكتاب على هذا القرآن، ويحتمل جنس الكتاب في الموضعين لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ أي بعيد من الحق والاستقامة. لَيْسَ الْبِرَّ الآية: خطاب لأهل الكتاب لأن المغرب قبلة اليهود، والمشرق قبلة النصارى: أي إنما البر التوجه إلى الكعبة، وقيل خطاب للمؤمنين أي ليس البر الصلاة خاصة، بل البر جميع الأشياء المذكورة بعد هذا وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ لا يصح أن يكون خبرا عن البر فتأويله: لكن صاحب البر من آمن، أو لكن البرّ برّ من أمن أو يكون البر مصدرا وصف به وَآتَى الْمالَ صدقة التطوّع، وليست بالزكاة لقوله بعد ذلك: وآتى الزكاة عَلى حُبِّهِ الضمير عائد على المال لقوله وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ الآية وهو الراجح من طريق المعنى. وعود الضمير على الأقرب وهو على هذا تتميم وهو من أدوات البيان، وقيل يعود على مصدر آتى، وقيل على الله ذَوِي الْقُرْبى وما بعده ترتيب بتقديم الأهم فالأهم، والأفضل لأنّ الصدقة على القرابة صدقة وصلة بخلاف من بعدهم. ثم اليتامى لصغرهم وحاجتهم ثم المساكين للحاجة خاصة، وابن السبيل الغريب، وقيل الضعيف، والسائلين وإن كانوا غير محتاجين، وفي الرقاب عتقها وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ أي العهد مع الله ومع الناس وَالصَّابِرِينَ نصب على المدح بإضمار فعل فِي الْبَأْساءِ الفقر وَالضَّرَّاءِ المرض وَحِينَ الْبَأْسِ القتال صَدَقُوا في القول والفعل والعزيمة

[سورة البقرة (2) : الآيات 178 إلى 179]

كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ أي شرع لكم، وليس بمعنى فرض، لأنّ ولي المقتول مخيّر بين القصاص والدية والعفو، وقيل: بمعنى فرض أي: فرض على القاتل الانقياد للقصاص، وعلى ولي المقتول أن لا يتعداه إلى غيره كفعل الجهلة. وعلى الحاكم التمكين من القصاص الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى ظاهره اعتبار التساوي بين القاتل والمقتول في الحرية والذكورية، ولا يقتل حر بعبد، ولا ذكر بأنثى إلّا أن العلماء أجمعوا على قتل الذكر بالأنثى، وزاد قوم: أن يعطى أولياؤها حينئذ نصف الدية لأولياء الرجل المقتصّ منه خلافا لمالك وللشافعي وأبو حنيفة، وأما قتل الحرّ بالعبد فهو مذهب أبي حنيفة خلافا لمالك والشافعي، فعلى هذا لم يأخذ أبو حنيفة بشيء من ظاهر الآية لا في الذكورية ولا في الحرية لأنها عنده منسوخة، وأخذ مالك بظاهرها في الحرية كما في الذكورية، وتأويلها عنده: أن قوله: الحرّ بالحرّ والعبد بالعبد عموم يدخل فيه: الذكر بالذكر، والأنثى بالأنثى والأنثى بالذكر، والذكر بالأنثى، ثم تكرر قوله: والأنثى بالأنثى: تأكيد للتجديد، لأنّ بعض العرب إذا قتل منهم أنثى قتلوا بها ذكرا تكبرا وعدوانا، وقد يتوجّه قول مالك على نسخ جميعها، ثم يكون عدم قتل الحرّ بالعبد من السنة، وهو قوله صلّى الله عليه واله وسلّم: «لا يقتل حرّ بعبد» «1» ، والناسخ لها على القول بالنسخ: عموم قوله: النَّفْسَ بِالنَّفْسِ [المائدة: 45] على أن هذا ضعيف، لأنه إخبار عن حكم بني إسرائيل فَمَنْ عُفِيَ لَهُ الآية: فيها تأويلان: أحدهما: أن المعنى من قتل فعفي عنه فعليه أداء الدية بإحسان، وعلى أولياء المقتول اتباعه بها على وفاء، فعلى هذا: من كناية عن القاتل، وأخيه هو المقتول أو واليه، وعفي من العفو من القصاص، وأصله أن يتعدى بعن، وإنما تعدّى هنا باللام لأنه كقولك: تجاوزت لفلان عن ذنبه، وعلى الثاني: من أعطيته الدية فعليه اتباع المعروف، وعلى القاتل أداء بإحسان، فعلى هذا: من كناية عن أولياء المقتول، وأخيه هو القاتل أو عاقلته، وعفي بمعنى يسّر: كقوله: خذ العفو أي ما تيسر، ولا إشكال في تعدّي عفى باللام على هذا المعنى ذلِكَ تَخْفِيفٌ إشارة إلى جواز أخذ الدية، لأن بني إسرائيل لم يكن عندهم دية. وإنما هو القصاص فَمَنِ اعْتَدى أي قتل قاتل وليه بعد أن أخذ منه الدية عَذابٌ أَلِيمٌ القصاص منه وقيل: عذاب الآخرة وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ بمعنى قولهم: القتل أنفى للقتل أي أن القصاص يردع الناس عن القتل، وقيل: المعنى أن القصاص أقل قتلا، لأنه قتل واحد بواحد، بخلاف ما كان في

_ (1) . ذكره المناوي في التفسير وعزاه للبيهقي عن ابن عباس وقال: وبه أخذ الشافعي والجمهور وضعفه الذهبي وابن حجر وغيرهما.

[سورة البقرة (2) : الآيات 180 إلى 184]

الجاهلية من اقتتال قبيلتي القاتل والمقتول، حتى يقتل بسبب ذلك جماعة الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ كانت فرضا قبل الميراث ثم نسختها آية الميراث مع قوله صلّى الله عليه واله وسلّم: «لا وصية لوارث» «1» وبقيت الوصية مندوبة لمن لا يرث من الأقربين، وقيل: معناها الوصية بتوريث الوالدين والأقربين على حسب الفرائض، فلا تعارض بينها وبين المواريث، ولا نسخ، والأوّل أشهر كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ أي: فرض، والقصد بقوله: كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وبقوله: أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ تسهيل الصيام على المسلمين، وملاطفة جميلة، والذي كتب على الذين من قبلنا الصيام مطلقا، وقيل: كتب على الذين من قبلنا رمضان فبدلوه أَيَّاماً منصوب بالصيام وهو مصدر أو بمحذوف، ويبعد انتصابه بتتقون فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً الآية: إباحة للفطر مع المرض والسفر، وقد يجب الفطر إذا خاف الهلاك، وفي الكلام عند الجمهور محذوف يسمى فحوى الخطاب، والتقدير: فمن كان منكم مريضا أو على سفر فأفطر فعليه عدّة من أيام أخر، ولم يفعل الظاهرية «2» بهذا المحذوف فرأوا أنّ صيام المسافر والمريض لا يصح، وأوجبوا عليه عدّة من أيام أخر، وإن صام في رمضان، وهذا منهم جهل بكلام العرب، وليس في الآية ما يقتضي تحديد السفر، وبذلك قال الظاهرية، وحدّه في مشهور مذهب مالك: أربعة برد «3» وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ قيل: يطيقونه من غير مشقة فيفطرون ويكفرون. ثم نسخ جواز الإفطار بقوله: فمن شهد منكم الشهر فليصمه، وقيل: يطيقونه بمشقة كالشيخ الهرم، فيجوز له الفطر فلا نسخ على هذا، فَمَنْ تَطَوَّعَ أي صام ولم يأخذ بالفطر والكفارة، وذلك على القول بالنسخ، وقيل تطوّع بالزيادة في مقدار الإطعام، وذلك على القول بعدم النسخ. شَهْرُ رَمَضانَ مبتدأ أو خبر ابتداء مضمر أو بدل من الصيام أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ قال ابن عباس: أنزل القرآن جملة واحدة إلى السماء الدنيا في ليلة القدر من رمضان، ثم نزل به جبريل على النبي صلّى الله عليه واله وسلّم بطول عشرين سنة، وقيل: المعنى أنزل في

_ (1) . الحديث جزء من خطبة حجة الوداع وقد رواه أحمد عن عمرو بن خارجة ج 4 ص 256. (2) . أتباع الإمام داود الظاهري وابن حزم منهم أي مرحلتين وتقدران في أيامنا بمسافة 70 كلم. (3) . أتباع الإمام داود الظاهري وابن حزم منهم أي مرحلتين وتقدران في أيامنا بمسافة 70 كلم.

شأنه القرآن: كقولك أنزل القرآن في فلان، وقيل: المعنى ابتدأ فيه إنزال القرآن هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى أي: أن القرآن هدى للناس، ثم هو مع ذلك من مبينات الهدى، وذلك أن الهدى على نوعين: مطلق وموصوف بالبينات، فالهدى الأوّل هنا على الإطلاق، وقوله من البينات والهدى أي: وهو من الهدى المبين، فهو من عطف الصفات كقولك: فلان عالم وجليل من العلماء فَمَنْ شَهِدَ أي كان حاضرا غير مسافر، والشهر منصوب على الظرفية، واليسر والعسر على الإطلاق، وقيل: اليسر الفطر في السفر، والعسر الصوم فيه وَلِتُكْمِلُوا متعلق بمحذوف تقديره شرع، أو عطف على اليسر الْعِدَّةَ الأيام التي أفطر فيها وَلِتُكَبِّرُوا التكبير يوم العيد أو مطلقا أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ مقيد بمشيئة الله، وموافقة القدر، وهذا جواب من قال: كيف لا يستجاب الدعاء مع وعد الله بالاستجابة فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي أي امتثال ما دعوتهم إليه من الإيمان والطاعة أُحِلَّ لَكُمْ الآية: كان الأكل والجماع محرّما بعد النوم في ليل رمضان، فجرت لذلك قصة لعمر بن الخطاب رضي الله عنه ولصرمة بن مالك «1» ، فأحلهما الله تخفيفا على عباده الرَّفَثُ هنا الجماع، وإنما تعدّى بإلى لأنه في معنى الإفضاء هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ تشبيه بالثياب، لاشتمال كل واحد من الزوجين على الآخر، وهذا تعليل للإباحة تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ أي تأكلون وتجامعون بعد النوم في رمضان فَتابَ عَلَيْكُمْ وَعَفا عَنْكُمْ أي غفر ما وقعتم فيه من ذلك، وقيل: رفع عنكم ذلك الحكم بَاشِرُوهُنَّ إباحة ما كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ قيل: الولد يبتغى بالجماع، وقيل: الرخصة في الأكل والجماع لمن نام في ليل رمضان بعد منعه مِنَ الْفَجْرِ بيان للخيط الأبيض لا للأسود لأنّ الفجر ليس له سواد، والخيط هنا استعارة: يراد بالخيط الأبيض بياض الفجر، وبالخيط الأسود: سواد الليل، وروي أن قوله من الفجر: نزل بعد ذلك بيانا لهذا المعنى، لأنّ بعضهم جعل خيطا أبيض وخيطا أسود تحت وسادته، وأكل حتى تبين له، فقال له النبي صلّى الله عليه واله وسلّم: إنما هو بياض النهار وسواد الليل إِلَى اللَّيْلِ أي إلى أوّل الليل، وهو غروب الشمس. فمن أفطر قبل ذلك

_ (1) . في الطبري: أبو قيس بن صرمة من الخزرج. وقيل: صرمة بن أنس أو أبي أنس.

[سورة البقرة (2) : الآيات 188 إلى 189]

فعليه القضاء والكفارة، ومن شك هل غربت أم لا فأفطر، فعليه القضاء والكفارة وأيضا وقيل القضاء فقط، وقالت عائشة رضي الله عنها: «إلى الليل» يقتضي المنع من الوصال، وقد جاء ذلك في الحديث وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ تحريم للمباشرة حين الاعتكاف، قال الجمهور: المباشرة هنا الجماع فما دونه. وقيل الجماع فقط، فِي الْمَساجِدِ دليل على جواز الاعتكاف في كل مسجد خلافا لمن قال: لا اعتكاف إلّا في المسجد الحرام، ومسجد المدينة، وبيت المقدس: وفيه أيضا دليل على أن الاعتكاف لا يكون إلّا في المساجد، لا في غيرها خلافا لمن أجازه في غيرها من مفهوم الآية حُدُودُ اللَّهِ أحكامه التي أمر بالوقوف عندها فَلا تَقْرَبُوها أي لا تقربوا مخالفتها، واستدل بعضهم به على سدّ الذرائع لأنّ المقصود النهي عن المخالفة للحدود لقوله: تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوها [البقرة: 229] ، ثم نهى هنا عن مقاربة المخالفة سدّا للذريعة وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ أي لا يأكل بعضكم مال بعض بِالْباطِلِ كالقمار، والغصب، وجحد الحقوق وغير ذلك وَتُدْلُوا عطف على: لا تأكلوا، أو نصب بإضمار أن وهو من: أدلى الرجل بحجته إذا قام بها، والمعنى: نهى عن أن يحتج بحجة باطلة، ليصل بها إلى أكل مال الناس، وقيل: نهى عن رشوة الحكام بأموال للوصول إلى أكل أموال الناس، فالباء على الأوّل سببية، وعلى الثاني للإلصاق بِالْإِثْمِ الباء سببية أو للمصاحبة، والإثم على القول الأوّل في تدلوا: إقامة الحجة الباطلة كشهادة الزور، والأيمان الكاذبة، وعلى القول الثاني: الرشوة. يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ سببها أنهم سألوا عن الهلال، وما فائدته ومخالفته لحال الشمس، والهلال ليلتان من أوّل الشهر، وقيل: ثلاث، ثم يقال له قمر مَواقِيتُ جمع ميقات لمحل الديون والأكرية «1» والقضاء والعدد وغير ذلك. ثم ذكر الحج اهتماما بذكره، وإن كان قد دخل في المواقيت للناس وَلَيْسَ الْبِرُّ الآية: كان قوم إذا رجعوا من الحج لم يدخلوا بيوتهم من أبوابها، وإنما يدخلون من ظهورها، ويقولون: لا يحول بيننا وبين السماء شيء فنزلت الآية: إعلاما بأنّ ذلك ليس من البر، وإنما ذكر ذلك بعد ذكر الحج لأنه كان عندهم من تمام الحج، وقيل: المعنى ليس البر أن تسألوا عن الأهلة وغيرها مما لا فائدة لكم فيه، فتأتون الأمور على غير ما يجب، فعلى هذا البيوت وأبوابها وظهورها استعارة: يراد بالبيوت المسائل، وبظهورها السؤال عما لا يفيد، وأبوابها السؤال عما يحتاج إليه الْبِرَّ مَنِ اتَّقى تأويله مثل البر من آمن.

_ (1) . جمع كراء أي إجارة وجمعها أجور، والعدد جمع: عدّة.

[سورة البقرة (2) : الآيات 190 إلى 195]

الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ كان القتال غير مباح في أوّل الإسلام، ثم أمر بقتال الكفار الذين يقاتلون المسلمين دون من لم يقاتل، وذلك مقتضى هذه الآية، ثم أمر بقتال جميع الكفار في قوله: قاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً اقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ فهذه الآية منسوخة، وقيل: إنها محكمة وأنّ المعنى: قاتلوا الرجال الذين هم بحال من يقاتلونكم، دون النساء والصبيان الذين لا يقاتلونكم، والأوّل أرجح وأشهر وَلا تَعْتَدُوا أي بقتال من لم يقاتلكم على القول الأول، وبقتال النساء والصبيان على القول الثاني وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ أي من مكة، لأن قريشا أخرجوا منها المسلمين وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ أي فتنة المؤمن عن دينه أشدّ عليه من قتله، وقيل: كفر الكفار أشدّ من قتل المؤمنين لهم في الجهاد عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ منسوخ بقوله: حيث وجدتموهم، وهذا يقوّي نسخ الذين يقاتلونكم فَإِنِ انْتَهَوْا عن الكفر فأسلموا بدليل قوله: غَفُورٌ رَحِيمٌ. وإنما يغفر للكافر إذا أسلم لا تَكُونَ فِتْنَةٌ أي لا يبقى دين كفر الشَّهْرُ الْحَرامُ الآية: نزلت لما صدّ الكفار النبي صلّى الله عليه واله وسلّم عن دخول مكة للعمرة، عام الحديبية في شهر ذي الحجة، فدخلها في العام الذي بعده في شهر ذي القعدة، أي: الشهر الحرام الذي دخلتم فيه مكة بالشهر الحرام الذي صددتم فيه عن دخولها وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ أي حرمة الشهر والبلد حين دخلتموها قصاص بحرمة الشهر، والبلد حين صددتم عنها فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ تسمية للعقوبة باسم الذنب، أي: قاتلوا من قاتلكم، ولا تبالوا بحرمة من صدّكم عن دخول مكة تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ قال أبو أيوب الأنصاري: المعنى لا تشتغلوا بأموالكم عن الجهاد، وقيل: لا تتركوا النفقة في الجهاد خوف العيلة وقيل: لا تقنطوا من التوبة، وقيل: لا تقتحموا المهالك، والباء في بأيديكم زائدة، وقيل: التقدير لا تلقوا أنفسكم بأيديكم وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ أي: أكملوهما إذا ابتدأتم عملهما، قال ابن عباس: إتمامهما إكمال المناسك. وقال عليّ: إتمامهما أن تحرم بهما من دارك، ولا حجة فيه لمن أوجب العمرة لأن الأمر إنما هو بالإتمام لا بالابتداء فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ المشهور في اللغة: أحصره المرض، بالألف، وحصره العدوّ. وقيل: بالعكس، وقيل: هما بمعنى واحد، فقال

مالك: أحصرتم هنا بالمرض على مشهور اللغة، فأوجب عليه الهدي «1» ولم يوجبه على من حصره العدوّ، وقال الشافعي وأشهب: «2» يجب الهدي على من حصره العدو، وعمل الآية على ذلك، واستدلا بنحر النبي صلّى الله عليه واله وسلّم الهدي بالحديبية، وقال أبو حنيفة: يجب الهدي على المحصر بعدوّ وبمرض فَمَا اسْتَيْسَرَ أي فعليكم ما استيسر من الهدي وذلك شاة، وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ خطابا للمحصر وغيره فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً الآية: نزلت في كعب بن عجرة حين رآه النبي صلّى الله عليه واله وسلّم فقال له: لعلك يؤذيك هوامّ رأسك: احلق رأسك، وصم ثلاثة أيام وأطعم ستة مساكين أو أنسك بشاة «3» ، فمعنى الآية: أن من كان في الحج واضطره مرض أو قمل إلى حلق رأسه قبل يوم النحر جاز له حلقه وعليه صيام أو صدقة أو نسك حسبما تفسر في الحديث، وقاس الفقهاء على حلق الرأس سائر الأشياء التي يمنع الحاج منها إلّا الصيد، والوطء، وقصر الظاهرية ذلك على حلق الرأس، ولا بدّ في الآية من مضمر لا ينتقل الكلام عنه، وهو المسمى فحوى الخطاب، وتقديرها: فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه فحلق رأسه فعليه فدية فَإِذا أَمِنْتُمْ أي من المرض على قول مالك، ومن العدوّ على قول غيره، والمعنى: إذا كنتم بحال أمن سواء تقدم مرض أو خوف عدوّ أو لم يتقدم فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ التمتع عند مالك وغيره: هو أن يعتمر الإنسان في أشهر الحج، ثم يحج من عامه، فهو قد تمتع بإسقاط أحد السفرين للحج أو العمرة، وقال عبد الله بن الزبير: التمتع هو أن يحصر عن الحج بعدوّ حتى يفوته الحج، فيعتمر عمرة يتحلل بها من إحرامه، ثم يحج من قابل قضاء لحجته، فهو قد تمتع بفعل الممنوعات من الحج، في وقت تحلله بالعمرة إلى الحج القابل، وقيل: التمتع هو قران الحج والعمرة فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ شاة ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وقتها من إحرامه إلى يوم عرفة فإن فاته صام أيام التشريق إِذا رَجَعْتُمْ إلى بلادكم أو في الطريق تِلْكَ عَشَرَةٌ فائدته أن السبع تصام بعد الثلاثة فتكون عشرة، ورفع لئلا يتوهم أن السبعة بدل من الثلاثة، وقيل: هو مثل الفذلكة وهو قول الناس بعد الأعداد فذلك كذا، وقيل: كاملة في الثواب لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ يعني غير أهل مكة وذي طوى بإجماع، وقيل: أهل الحرم كله، وقيل: من كان دون الميقات، وقوله ذلك. إشارة إلى الهدي أو الصيام: أي إنما يجب

_ (1) . الهدي: هو ما يهدى من الإبل وغيرها ينحر في الحرم. (2) . هو أحد علماء المالكية أخذ عن مالك واسمه أشهب بن عبد العزيز بن داود القيسي المصري توفي 204 هـ بمصر. (3) . رواه البخاري ج 2/ 208 كتاب المحصر.

[سورة البقرة (2) : الآيات 197 إلى 200]

الهدي أو الصيام بدلا منه على الغرباء، لا على أهل مكة، وقيل: ذلك إشارة إلى التمتع. الْحَجُّ أَشْهُرٌ التقدير: أشهر الحج أشهر، أو الحج في أشهر وهي: شوّال، وذو القعدة، وذو الحجة، وقيل: العشر الأول منه، وينبني على ذلك أن من أخر طواف الإفاضة إلى آخر ذي الحجة: فعليه دم على القول بالعشر الأول، ولا دم عليه على قول بجميع الشهر، واختلف فيمن أحرم بالحج قبل هذه الأشهر، فأجازه مالك على كراهة. ولم يجزه الشافعي وداود لتعيين هذا الاسم كذلك فكأنها كوقت الصلاة فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ أي ألزم بالحج نفسه فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ الرفث: الجماع، وقيل الفحش من الكلام، والفسوق: المعاصي، والجدال: المراء مطلقا، وقيل: المجادلة في مواقيت الحج، وقيل: النسيء الذي كانت العرب تفعله وَتَزَوَّدُوا قيل: احملوا زادا في السفر، وقيل: تزوّدوا للآخرة بالتقوى، وهو الأرجح لما بعده فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ أي التجارة في أيام الحج أباحها الله تعالى، وقرأ ابن عباس: فضلا من ربكم في مواسم الحج أَفَضْتُمْ اندفعتم جملة واحدة مِنْ عَرَفاتٍ اسم علم للموقف، والتنوين فيه في مقابلة النون في جمع المذكر لا تنوين صرف، فإن فيه التعريف والتأنيث الْمَشْعَرِ الْحَرامِ أي المزدلفة، والوقوف بها سنة كَما هَداكُمْ الكاف للتعليل وَإِنْ كُنْتُمْ إن مخففة من الثقيلة، ولذلك جاء اللام في خبرها مِنْ قَبْلِهِ أي من قبل الهدى ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ فيه قولان: أحدهما: أنه أمر للجنس وهم قريش ومن تبعهم كانوا يقفون بالمزدلفة لأنها حرم، ولا يقفون بعرفة مع سائر الناس لأنها حلّ، ويقولون: نحن أهل الحرم لا نقف إلّا بالحرم، فأمرهم الله تعالى أن يقفوا بعرفة مع الناس ويفيضوا منها، وقد كان النبي صلى الله عليه واله وسلّم قبل ذلك يقف مع الناس بعرفة توفيقا من الله تعالى له، والقول الثاني: أنها خطاب لجميع الناس، ومعناها: أفيضوا من المزدلفة إلى منى، فثم: على هذا القول على بابها من الترتيب، وأما على القول الأوّل فليست للترتيب، بل للعطف خاصة، قال الزمخشري: هي كقولك: أحسن إلى الناس، ثم لا تحسن إلى غير كريم، فإن معناها التفاوت بين ما قبلها وما بعدها وأن ما بعدها أوكد قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ فرغتم من أعمال الحج كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ لأن الإنسان كثيرا ما يذكر آباءه، وقيل: كانت العرب يذكرون

[سورة البقرة (2) : الآيات 201 إلى 205]

آباءهم مفاخرة عند الجمرة، فأمروا بذكر الله عوضا من ذلك آتِنا فِي الدُّنْيا كان الكفار إنما يدعون بخير الدنيا خاصة، لأنهم لا يؤمنون بالآخرة حَسَنَةً قيل: العمل الصالح وقيل: المرأة الصالحة وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً الجنة نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا يحتمل أن تكون من سببية أي لهم نصيب من الحسنات التي اكتسبوها، والنصيب على هذا الثواب سَرِيعُ الْحِسابِ فيه وجهان: أحدهما أن يراد به سرعة مجيء يوم القيامة، لأن الله لا يحتاج إلى عدّة ولا فكرة وقيل لعليّ رضي الله عنه: كيف يحاسب الله الناس على كثرتهم؟ قال كما يرزقهم على كثرتهم فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ ثلاثة بعد يوم النحر، وهي أيام التشريق، والذكر فيها: التكبير في أدبار الصلوات، وعند الجمار وغير ذلك فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ أي انصرف في اليوم الثاني من أيام التشريق وَمَنْ تَأَخَّرَ إلى اليوم الثالث فرمى فيه بقية الجمار، وأما المتعجل فقيل: يترك رمي الجمار اليوم «1» ، وقيل: يقدّمها في اليوم الثاني فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ في الموضعين، قيل إنه إباحة للتعجل والتأخر، وقيل: إنه إخبار عن غفران الإثم وهو الذنب للحاج، سواء تعجل أو تأخر لِمَنِ اتَّقى أما على القول بأن معنى: فلا إثم عليه الإباحة، فالمعنى أن الإباحة في التعجيل والتأخر لمن اتقى أن يأثم فيهما، فقد أبيح له ذلك من غير إثم، وأمّا على القول: بأن معنى فلا إثم عليه إخبار بغفران الذنوب، فالمعنى أن الغفران إنما هو لمن اتقى الله في حجه، كقوله صلّى الله عليه واله وسلّم: «من حج هذا البيت، فلم يرفث، ولم يفسق: خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه» «2» فاللام متعلقة إمّا بالغفران أو بالإباحة المفهومين من الآية مَنْ يُعْجِبُكَ الآية قيل نزلت في الأخنس بن شريق، فإنه أظهر الإسلام، ثم خرج فقتل دواب المسلمين وأحرق لهم زرعا، وقيل: في المنافقين، وقيل: عامة في كل من كان على هذه الصفة فِي الْحَياةِ متعلق بقوله: يعجبك: أي يعجبك ما يقول أي يعجبك ما يقول في أمر الدنيا ويحتمل أن يتعلق بيعجبك وَيُشْهِدُ اللَّهَ أي يقول: الله أعلم أنّه لصادق. أَلَدُّ الْخِصامِ شديد الخصومة تَوَلَّى أدبر بجسده أو أعرض بقلبه، وقيل: صار واليا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ على القول بأنها في الأخنس، فإهلاك الحرث حرقه الزرع، وإهلاك النسل قتله الدواب، وعلى القول

_ (1) . الثالث. (2) . أخرجه أحمد في مسنده عن أبي هريرة ج 2 ص 640.

[سورة البقرة (2) : الآيات 206 إلى 211]

بالعموم: فالمعنى مبالغته في الفساد، وعبّر عن ذلك بإهلاك الحرث والنسل لأنهما قوام معيشة ابن آدم، فإنّ الحرث هو الزرع والفواكه وغير ذلك من النبات، والنسل هو الإبل والبقر والغنم وغير ذلك مما يتناسل أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ المعنى: أنه لا يطيع من أمره بالتقوى تكبرا والباء يحتمل أن تكون سببية أو بمعنى مع. وقال الزمخشري: هي كقولك: أخذ الأمير الناس بكذا أي ألزمهم إياه، فالمعنى حملته العزة على الإثم مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ أي يبيعها، قيل: نزلت في صهيب. وقيل: على العموم، وبيع النفس في الهجرة أو الجهاد، وقيل: في تغيير المنكر، وأنّ الذي قبلها فيمن غيّر عليه فلم ينزجر السِّلْمِ بفتح السين المسالمة، والمراد بها هنا عقد الذمة بالجزية، والأمر على هذا لأهل الكتاب، وخوطبوا بالذين آمنوا لإيمانهم بأنبيائهم وكتبهم المتقدمة، وقيل: هو الإسلام، وكذلك هو بكسر السين «1» ، فيكون الخطاب لأهل الكتاب، وعلى معنى الأمر لهم بالدخول في الإسلام، وقيل: إنها نزلت في قوم من اليهود أسلموا وأرادوا أن يعظموا السبت كما كانوا فالمعنى على هذا: ادخلوا في الإسلام، واتركوا سواه ويحتمل أن يكون الخطاب للمسلمين على معنى الأمر بالثبوت عليه، والدخول في جميع شرائعه من الأوامر والنواهي كَافَّةً عموم في المخاطبين، في شرائع الإسلام فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ تهديد لمن زل بعد البيان هَلْ يَنْظُرُونَ أي ينتظرون يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ تأويله عند المتأوّلين: يأتيهم عذاب الله في الآخرة، أو أمره في الدنيا، وهي عند السلف الصالح من المتشابه يجب الإيمان بها من غير تكييف ويحتمل أن لا تكون من المتشابه لأنّ قوله: ينظرون بمعنى يطلبون بجهلهم كقولهم: لولا يكلمنا الله فِي ظُلَلٍ جمع ظلة وهي: ما علاك من فوق، فإن كان ذلك لأمر الله فلا إشكال وإن كان لله فهو من المتشابه الْغَمامِ السحاب وَقُضِيَ الْأَمْرُ فرغ منه، وذلك كناية عن وقوع العذاب. سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ: على وجه التوبيخ لهم، وإقامة الحجة عليهم مِنْ آيَةٍ معجزات موسى، أو الدلالات على نبوّة محمد صلّى الله عليه واله وسلّم وَمَنْ يُبَدِّلْ وعيد وَيَسْخَرُونَ كفار قريش سخروا من فقراء المسلمين كبلال وصهيب وَالَّذِينَ اتَّقَوْا

_ (1) . كما هي رواية حفص عن عاصم الكوفي.

[سورة البقرة (2) : الآيات 215 إلى 218]

هم المؤمنون الذين سخر الكفار منهم فَوْقَهُمْ أي أحسن حالا منهم، ويحتمل فوقية المكان، لأنّ الجنة في السماء يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ إن أراد في الآخرة، ف مِنَ كناية عن المؤمنين، والمعنى ردّ على الكفار أي إن رزق الله الكفار في الدنيا، فإن المؤمنين يرزقون في الآخرة، وإن أراد في الدنيا فيحتمل أن يكون مِنَ كناية عن المؤمنين أي سيرزقهم، ففيه وعد لهم، وأن تكون كناية عن الكافرين أي أنّ رزقهم في الدنيا بمشيئة الله، لا على وجه الكرامة لهم بِغَيْرِ حِسابٍ إن كان للمؤمنين فيحتمل أن يريد بغير تضييق ومن حيث لا يحتسبون، أو لا يحاسبون عليه، وإن كان للكفار فمن غير تضييق أُمَّةً واحِدَةً أي متفقين في الدين، وقيل: كفارا في زمن نوح عليه السلام، وقيل: مؤمنين ما بين آدم ونوح، أو من كان مع نوح في السفينة وعلى ذلك يقدر: فاختلفوا بعد اتفاقهم، ويدل عليه أمّة واحدة فاختلفوا الْكِتابَ هنا: جنس أو في كل نبيّ وكتابه وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ الضمير المجرور يعود على الكتاب، أو على الضمير المجرور المتقدم، وقال الزمخشري: يعود على الحق، وأما الضمير في أوتوه، فيعود على الكتاب، المعنى: تقبيح الاختلاف بين الذين أوتوا الكتاب بعد أن جاءتهم البينات بَغْياً أي حسدا أو عدوانا، وهو مفعول من أجله، أو مصدر في موضع الحال فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا يعني أمّة محمد صلّى الله عليه واله وسلّم لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ أي للحق لما اختلفوا فيه فما بمعنى الذي وقبلها مضاف محذوف، والضمير في اختلفوا لجميع الناس، يريد اختلافهم في الأديان، فهدى الله المؤمنين لدين الحق، وتقدير الكلام: فهدى الله الذين آمنوا لإصابة ما اختلف فيه الناس من الحق، ومن في قوله من الحق لبيان الجنس أي جنس ما وقع فيه الخلاف بِإِذْنِهِ قيل: بعلمه، وقيل بأمره. أَمْ حَسِبْتُمْ: خطاب للمؤمنين على وجه التشجيع لهم، والأمر بالصبر على الشدائد وَلَمَّا يَأْتِكُمْ أي لا تدخلوا الجنة حتى يصيبكم مثل ما أصاب من كان قبلكم مَثَلُ الَّذِينَ أي حالهم وعبّر عنه بالمثل لأنه في شدته يضرب به المثل وَزُلْزِلُوا بالتخويف والشدائد ألا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ يحتمل أن يكون جوابا للذين قالوا: متى نصر الله؟ وأن يكون إخبارا مستأنفا، وقيل: إن الرسول قال ذلك لما قال الذين معه: متى نصر الله فَلِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إن أريد بالنفقة الزكاة، فذلك منسوخ والصواب أن المراد التطوّع

فلا نسخ، وقدم في الترتيب الأهم فالأهم، وورد السؤال على المنفق، والجواب عن مصرفه لأنه كان المقصود بالسؤال، وقد حصل الجواب عن المنفق في قوله: من خير. كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ: إن كان فرضا على الأعيان فنسخه وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً [التوبة: 122] فصار القتال فرض كفاية، وإن كان على الكفاية فلا نسخ كُرْهٌ مصدر ذكر للمبالغة، أو اسم مفعول كالخبز بمعنى المخبوز وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا حض على القتال. الشَّهْرِ الْحَرامِ: جنس وهو أربعة أشهر: رجب، وذو القعدة وذو الحجة، والمحرم قتال فيه بدل من الشهر وهو مقصود السؤال قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ «1» أي ممنوع ثم نسخه: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ، وذلك بعيد فإن حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ عموم في الأمكنة لا في الأزمنة، ويظهر أن ناسخه وقاتلوا المشركين كافة بعد ذكر الأشهر الحرم، فكان التقدير: قاتلوا فيها، ويدل عليه: فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ [التوبة: 36] ، ويحتمل أن يكون المراد وقوع القتال في الشهر الحرام: أي إباحته حسبما استقر في الشرع، فلا تكون الآية منسوخة، بل ناسخة لما كان في أوّل الإسلام، ومن تحريم القتال في الأشهر الحرم وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ابتداء، وما بعده معطوف عليه، وأكبر عند الله خبر الجميع، أي أن هذه الأفعال القبيحة التي فعلها الكفار: أعظم عند الله من القتال في الشهر الحرام الذي عيّر به الكفار المسلمين سرية عبد الله بن جحش، حين قاتل في أوّل يوم من رجب، وقد قيل: إنه ظن أنه آخر يوم من جمادى وَالْمَسْجِدِ عطف على سبيل الله حَتَّى يَرُدُّوكُمْ قال الزمخشري: حتى هنا للتعليل فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ ذهب مالك على أن المرتد يحبط عمله بنفس الارتداد، سواء رجع إلى الإسلام، أو مات على الارتداد. ومن ذلك انتقاض وضوئه، وبطلان صومه، وذهب الشافعي إلى أنه: لا يحبط إلّا إن مات كافرا لقوله: فيمت وهو كافر، وأجاب المالكية بقوله حبطت أعمالهم جزاء على الردة، وقوله: أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ جزاء على الموت على الكفر، وفي ذلك نظر إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا

_ (1) . كبير هنا بمعنى أمر كبير، أي منكر. راجع الطبري. [.....]

[سورة البقرة (2) : الآيات 219 إلى 220]

الآية: نزلت في عبد الله بن جحش وأصحابه الْخَمْرِ كل مسكر من العنب وغيره وَالْمَيْسِرِ القمار، وكان ميسر العرب بالقداح في لحم الجزور، ثم يدخل في ذلك النرد والشطرنج وغيرهما، وروي أن السائل عنهما كان حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه إِثْمٌ كَبِيرٌ نص في التحريم وأنهما من الكبائر «1» ، لأن الإثم حرام لقوله: قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم [الأعراف: 33] خلافا لمن قال: إنما حرمتها آية المائدة لا هذه الآية وَمَنافِعُ في الخمر التلذذ والطرب، وفي القمار: الاكتساب به. ولا يدل ذكر المنافع على الإباحة قال ابن عباس: المنافع قبل التحريم، والإثم بعده وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ تغليبا للإثم على المنفعة، وذلك أيضا بيان للتحريم قُلِ الْعَفْوَ أي السهل من غير مشقة، وقراءة الجماعة بالنصب بإضمار فعل مشاكلة للسؤال، على أن يكون ما مبتدأ، وذا خبره تَتَفَكَّرُونَ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ أي في أمرهما وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى كانوا قد تجنبوا اليتامى تورّعا، فنزلت إباحة مخالطتهم بالإصلاح لهم، فإن قيل: لم جاء ويسألونك بالواو ثلاث مرات، وبغير واو ثلاث مرات قبلها؟ فالجواب: أن سؤالهم عن المسائل الثلاث الأولى وقع في أوقات مفترقة فلم يأت بحرف عطف وجاءت الثلاثة الأخيرة بالواو لأنها كانتا متناسقة وَاللَّهُ يَعْلَمُ تحذير من الفساد، وهو أكل أموال اليتامى لَأَعْنَتَكُمْ لضيّق عليكم بالمنع من مخالطتهم، قال ابن عباس: لأهلككم بما سبق من أكلكم لأموال اليتامى وَلا تَنْكِحُوا أي لا تتزوّجوا، والنكاح مشترك بين الوطء والعقد الْمُشْرِكاتِ عبّاد الأوثان من العرب، فلا تتناول اليهود ولا النصارى المباح نكاحهن في المائدة، فلا تعارض بين الموضعين، ولا نسخ، خلافا لمن قال: آية المائدة نسخت هذه، ولمن قال: هذه نسخت آية المائدة فمنع نكاح الكتابيات، ونزول الآية بسبب مرثد الغنوي أراد أن يتزوّج امرأة مشركة وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ أي أمة لله، حرّة كانت أو مملوكة وقيل: أمة مملوكة خير من حرّة مشركة وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ في الجمال والمال وغير ذلك وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ أي لا تزوّجوهم نساءكم. وانعقد الإجماع على أن الكافر لا يتزوّج مسلمة، سواء كان كتابيا أو غيره، واستدل المالكية على وجوب الولاية في النكاح بقوله: ولا

_ (1) . هذه الآية تمهيد للتحريم بدليل استمرار بعض المسلمين على تناولها حتى نزلت آية المائدة: 90 والله أعلم.

[سورة البقرة (2) : الآيات 225 إلى 228]

تنكحوا المشركين لأنه أسند نكاح النساء إلى الرجال وَلَعَبْدٌ أي عبد لله، وقيل: مملوك أُولئِكَ المشركات والمشركون يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ إلى الكفر الموجب إلى النار بِإِذْنِهِ أي بإرادته أو علمه. وَيَسْئَلُونَكَ سأل عن ذلك عباد بن بشر وأسيد بن حضير قال لرسول الله صلّى الله عليه واله وسلّم ألا نجامع النساء في المحيض، خلافا لليهود هُوَ أَذىً مستقذر، وهذا تعليل لتحريم الجماع في المحيض فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ اجتنبوا جماعهن وقد فسر ذلك الحديث بقوله لتشدّ عليها إزارها، وشأنك بأعلاها حَتَّى يَطْهُرْنَ أي ينقطع عنهن الدم فَإِذا تَطَهَّرْنَ أي اغتسلن بالماء، وتعلق الحكم بالآية الأخيرة عند مالك والشافعي، فلا يجوز عندهما وطء حتى تغتسل، وبالغاية الأولى عند أبي حنيفة فأجاز الوطء عند انقطاع الدم وقبل الغسل، وقرئ حتى يطّهرن بالتشديد، ومعنى هذه الآية بالماء، فتكون الغايتان بمعنى واحد، وذلك حجة لمالك مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ قبل المرأة التَّوَّابِينَ من الذنوب الْمُتَطَهِّرِينَ بالماء أو من الذنوب حَرْثٌ لَكُمْ أي موضع حرث، وذلك تشبيه للجماع في إلقاء النطفة وانتظار الولد: بالحرث في إلقاء البذر وانتظار الزرع أَنَّى شِئْتُمْ أي: كيف شئتم من الهيئات أو من شئتم، لا أين شئتم لأنه يوهم الإتيان في الدبر، وقد افترى من نسب جوازه إلى مالك، وقد تبرأ هو من ذلك وقال: إنما الحرث في موضع الزرع وقدموا لِأَنْفُسِكُمْ أي الأعمال الصالحة عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ أي لا تكثروا الحلف بالله فتبدلوا اسمه، وأن تبروا على هذا علة للنهي، فهو مفعول من أجله: أي نهيتم عن كثرة الحلف كي تبروا، وقيل المعنى: لا تحلفوا على أن تبرّوا وتتقوا، وافعلوا البرّ والتقوى دون يمين، فأن تبروا على هذا هو المحلوف عليه، والعرضة على هذين القولين كقولك: فلان عرضة لفلان إذا أكثر التعرّض له، وقيل: عرضة ما منع، من قولك: عرض له أمر حال بينه وبين كذا، أي لا تمتنعوا بالحلف بالله من فعل البر والتقوى، ومن ذلك يمين أبي بكر الصديق أن لا ينفق على مسطح، فأن تبروا على هذا: علة لامتناعهم فهو مفعول من أجله، أو مفعول بعرضة، لأنها بمعنى مانع بِاللَّغْوِ الساقط وهو عند مالك قولك نعم والله، ولا والله، الجاري على اللسان من غير قصد، وفاقا للشافعي، وقيل أن يحلف على الشيء يظنه على ما حلف عليه، ثم يظهر خلافه وفاقا لأبي حنيفة وقال ابن عباس: اللغو الحلف حين الغضب، وقيل: اللغو اليمين على المعصية، والمؤاخذة العقاب أو وجوب الكفارة

[سورة البقرة (2) : آية 229]

بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ أي قصدت، فهو على خلاف اللغو، وقال ابن عباس: هو اليمين الغموس، وذلك أن يحلف على الكذب متعمدا، وهو حرام إجماعا، وليس فيه كفارة عند مالك خلافا للشافعي يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ يحلفون على ترك وطئهن وإنما تعدى بمن. لأنه تضمن معنى البعد منهن، ويدخل في عموم قوله الذين: كل حالف حرّا كان أو عبدا، إلّا أنّ مالك جعل مدّة إيلاء العبد شهرين، خلافا للشافعي، ويدخل في إطلاق الإيلاء اليمين بكل ما يلزم عنه حكم، خلافا للشافعي في قصر الإيلاء على الحلف بالله، ووجهه أنها اليمين الشرعية، ولا يكون موليا عند مالك والشافعي، إلّا إذا حلف على مدّة أكثر من أربعة أشهر، وعند أبي حنيفة أربعة أشهر فصاعدا، فإذا انقضت الأربعة الأشهر: وقف المولي عند مالك والشافعي، فإما فاء وإلّا طلّق، فإن أبى الطلاق: طلق عليه الحاكم، وقال أبو حنيفة: إذا انقضت الأربعة الأشهر: وقع الطلاق دون توقيف، ولفظ الآية يحتمل القولين فَإِنْ فاؤُ رجعوا إلى الوطء وكفّروا عن اليمين غَفُورٌ رَحِيمٌ أي يغفر ما في الأيمان من إضرار المرأة عَزَمُوا الطَّلاقَ العزيمة على قول مالك: التطليق أو الإباية فيطلق عليه الحاكم، وعند أبي حنيفة: ترك الفيء حتى تنقضي الأربعة الأشهر، والطلاق في الإيلاء رجعيّ عند مالك، بائن عند الشافعي وأبي حنيفة وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بيان للعدة، وهو عموم مخصوص خرجت منه الحامل بقوله تعالى: وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ [الطلاق: 4] . واليائسة والصغيرة بقوله: وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ الآية [الأحزاب: 49] . والتي لم يدخل بها بقوله: فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها [الأحزاب: 49] فيبقى حكمها في المدخول بها، وهي سن من تحيض وقد خص مالك منها الأمة، فجعل عدّتها قرءين ويتربصن خبر بمعنى الأمر ثَلاثَةَ قُرُوءٍ انتصب ثلاثة على أنه مفعول به هكذا قال الزمخشري، وقروء: جمع قرء وهو مشترك في اللغة بين الطهر والحيض، فحمله مالك والشافعي على الطهر لقول عائشة: الأقراء هي الأطهار، وحمله أبو حنيفة على الحيض لأنه الدليل على براءة الرحم، وذلك مقصود العدّة، ما خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحامِهِنَّ يعني الحمل والحيض، وبعولتهن جمع بعل، وهو هنا الزوج فِي ذلِكَ أي في زمان العدّة وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ من الاستمتاع وحسن المعاشرة دَرَجَةٌ في الكرامة وقيل: الإنفاق وقيل: كون الطلاق بيده الطَّلاقُ مَرَّتانِ بيان لعدد الطلاق الذي يرتجع منه

[سورة البقرة (2) : الآيات 230 إلى 232]

دون زوج آخر، وقيل: بيان لعدد الطلاق الذي يجوز إيقاعه، وهو طلاق السنة فَإِمْساكٌ ارتجاع، وهو مرفوع بالابتداء أو بالخبر بِمَعْرُوفٍ حسن المعاشرة وتوفية الحقوق أَوْ تَسْرِيحٌ هو تركها حتى تنقضي العدّة فتبين منه بِإِحْسانٍ المتعة «1» ، وقيل: التسريح هنا الطلقة الثالثة بعد الاثنتين، وروي في ذلك حديث ضعيف وهو بعيد لأنّ قوله تعالى بعد ذلك فَإِنْ طَلَّقَها هو الطلقة الثالثة، وعلى ذلك يكون تكرارا، والطلقة الرابعة لا معنى لها وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا الآية: نزلت بسبب ثابت بن قيس: اشتكت منه امرأته لرسول الله صلّى الله عليه واله وسلّم فقال لها أتردّين عليه حديقته، قالت: نعم فدعاه فطلقها على ذلك. وحكمها على العموم. وهو خطاب للأزواج في حكم الفدية، وهي الخلع، وظاهرها أنه: لا يجوز الخلع إلّا إذا خاف الزوجان أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ وذلك إذا ساء ما بينهما وقبحت معاشرتهما. ثم إنّ المخالعة على أربعة أحوال: الأوّل: أن تكون من غير ضرر من الزوج ولا من الزوجة: فأجازه مالك وغيره لقوله تعالى: فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ الآية [النساء: 4] ومنعها قوم لقوله تعالى: إلا أن يخافا أن لا يقيما حدود الله، والثاني: أن يكون الضرر منهما جميعا فمنعه مالك في المشهور لقوله تعالى: وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ [النساء: 19] وأجازه الشافعي لقوله تعالى إِلَّا أَنْ يَخافا أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ والثالث: أن يكون الضرر من الزوجة خاصة، فأجازه الجمهور لظاهر هذه الآية، والرابع: أن يكون الضرر من الزوج خاصة: فمنعه الجمهور لقوله تعالى: وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ الآية [النساء: 20] وأجازه أبو حنيفة مطلقا، وقوله في ذلك مخالف للكتاب والسنة فَإِنْ خِفْتُمْ خطاب للحكام والمتوسطين في هذا الأمر فَإِنْ طَلَّقَها هذه هي الطلقة الثالثة بعد الطلقتين المذكورتين في قوله: الطلاق مرتان حتى تنكح زوجا غيره أجمعت الأئمة على أن النكاح هنا هو العقد مع الدخول والوطء، لقوله صلّى الله عليه واله وسلّم للمطلقة ثلاثا حين أرادت الرجوع إلى مطلقها قبل أن يمسها الزوج الآخر: لا، حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك «2» وروي عن سعيد بن المسيب أن العقد يحلها دون وطء، وهو قول مرفوض لمخالفته للحديث، وخرقه للإجماع، وإنما تحل عند مالك إذا كان النكاح صحيحا لا شبهة فيه، والوطء مباحا في غير حيض ولا إحرام ولا اعتكاف ولا صيام، خلافا لابن الماجشون في الوطء غير المباح، وأما نكاح المحلل فحرام، ولا يحل

_ (1) . المقصود بها إعطاء المطلقة شيئا من المال أو الملابس تخفيفا لصدمة الطلاق. (2) . الحديث مشهور وقد رواه الطبري في تفسيره للآية بسنده: إلى أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها.

[سورة البقرة (2) : آية 233]

الزوجة لزوجها عند مالك، خلافا لأبي حنيفة والمعتبر في ذلك نية المحلل لا نية المرأة، ولا المحلل له، وقال قوم: من نوى التحليل منهم أفسد فَإِنْ طَلَّقَها يعني هذا الزوج الثاني فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أي على الزوجة والزوج الأوّل أَنْ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ أي أوامره فيما يجب من حقوق الزوجة وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ الآية خطاب للأزواج، وهي نهي عن أن يطول الرجل العدّة على المرأة مضارة منه لها، بل يرتجع قرب انقضاء العدّة، ثم يطلق بعد ذلك، ومعنى فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ في هذا الموضع: قاربن انقضاء العدّة، وليس المراد انقضاؤها، لأنه ليس بيده إمساك حينئذ، ومعنى أمسكوهنّ راجعوهنّ بمعروف هنا قبل: هو الإشهاد وقيل: النفقة وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ الآية: هذه الأخرى خطاب للأولياء، وبلوغ الأجل هنا: انقضاء العدّة فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أي لا تمنعوهن أن ينكحن أزواجهن أي: يراجعن الأزواج الذين طلقوهن، قال السهيلي: نزلت في معقل بن يسار كان له أخت، فطلقها زوجها ثم أراد مراجعتها وأرادت هي مراجعته، فمنعها أخوها، وقيل: نزلت في جابر بن عبد الله وذلك أنّ رجلا طلق أخته وتركها حتى تمت عدتها، ثم أراد مراجعتها فمنعها جابر وقال: تركتها وأنت أملك بها، لا زوّجتكها أبدا، فنزلت الآية، والمعروف هنا: العدل، وقيل: الإشهاد، وهذه الآية تقتضي ثبوت حق الولي في نكاح وليته خلافا لأبي حنيفة ذلِكَ يُوعَظُ بِهِ خطابا للنبي صلّى الله عليه واله وسلّم، ولكل واحد على حدته، ولذلك وحد ضمير الخطاب ذلِكُمْ أَزْكى لَكُمْ خطابا للمؤمنين والإشارة إلى ترك العضل، ومعنى أزكى أطيب للنفس، ومعنى أطهر: أي للدين والعرض وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ خبر بمعنى الأمر، وتقتضي الآية حكمين: الحكم الأوّل: من يرضع الولد؟ المرأة يجب عليها إرضاع ولدها ما دامت في عصمة والده، وإن كان والده قد مات وليس للولد مال: لزمها رضاعه في المشهور، وقيل أجرة رضاعه على بيت المال، وإن كانت مطلقة طلاقا بائنا: لم يلزمها رضاعه، لقوله تعالى: فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ [الطلاق: 6] إلّا أن تشاء هي فهي أحق به بأجرة المثل، فإن لم يقبل الطفل غيرها وجب عليها إرضاعه، وقال أبو ثور: يلزمها على الإطلاق لظاهر الآية وحملها على الوجوب، الحكم الثاني: مدة الرضاع وقد ذكرها في قوله: حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ وإنما وصفهما

[سورة البقرة (2) : الآيات 234 إلى 236]

بكاملين لأنه يجوز أن يقال في حول وبعض آخر: حولين، فرفع ذلك الاحتمال، وأباح الفطام قبل تمام الحولين بقوله تعالى: لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ واشترط أن يكون الفطام عن تراضي الأبوين بقوله: فَإِنْ أَرادا فِصالًا الآية، فإن لم يكن على الولد ضرر في الفطام فلا جناح عليهما، ومن دعا منهما إلى تمام الحولين: فذلك له، وأما بعد الحولين فمن دعا منهما إلى الفطام فذلك له، وقال ابن العباس: إنما يرضع حولين من مكث في البطن ستة أشهر، فمن مكث سبعة فرضاعه ثلاثة وعشرون شهرا، وإن مكث تسعة فرضاعه إحدى وعشرون، لقوله تعالى: وحمله وفصاله ثلاثون شهرا وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ في هذه النفقة والكسوة: قولان: أحدهما: أنها أجرة رضاع الولد، أوجبها الله للأم على الوالد، وهو قول الزمخشري وابن العربي، الثاني: أنها نفقة الزوجات على الإطلاق، وقال منذر بن سعيد البلوطي: هذه الآية نص في وجوب نفقة الرجل على زوجته، وعلى هذا حملها ابن الفرس بِالْمَعْرُوفِ أي: على قدر حال الزوج في ماله، والزوجة في منصبها، وقد بين ذلك بقوله لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها [الانعام: 152] لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها قرئ بفتح الراء لالتقاء الساكنين على النهي، وبرفعهما على الخبر، ومعناها النهي، ويحتمل على كل واحد من الوجهين أن يكون الفعل مسندا إلى الفاعل، فيكون ما قبل الآخر مكسورا قبل الإدغام، أو يكون مسندا إلى المفعول، فيكون مفتوحا، والمعنى على الوجهين: النهي عن إضرار أحد الوالدين بالآخر بسبب الولد، ويدخل في عموم النهي: وجوه الضرر كلها والباء في قوله بولدها وبولده: سببية، والمراد بقوله ولا مولود له الوالد، وإنما ذكره بهذا اللفظ إعلاما بأنّ الولد ينسب له لا للأم وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ اختلف في الوارث فقيل: وارث المولود له، وقيل: وارث الصبي لو مات، وقيل: هو الصبي نفسه، وقيل: من بقي من أبويه، واختلف في المراد بقوله: مثل ذلك فقال مالك وأصحابه: عدم المضارة، وذلك يجري مع كل قول في الوارث لأن ترك الضرر واجب على كل أحد وقيل المراد أجرة الرضاع في النفقة والكسوة ويختلف هذا القول بحسب الإختلاف في الوارث، فأما على القول بأنّ الوارث هو الصبي فلا إشكال لأن أجرة رضاعه في ماله، وأما على سائر الأقوال، فقيل: إن الآية منسوخة فلا تجب أجرة الرضاع على أحد غير الوالد، وقيل: إنها محكمة فتجب أجرة الرضاع على وارث الصبي لو مات، أو على وارث الوالد، وهو قول قتادة والحسن البصري وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا إباحة لاتخاذ الغير إِذا سَلَّمْتُمْ ما آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ أي دفعتم أجرة الرضاع وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً الآية: عموم في كل متوفى

عنها، سواء توفي زوجها قبل الدخول أو بعده، إلّا الحامل فعدتها وضع حملها، سواء وضعته قبل الأربعة الأشهر والعشر أو بعدها عند مالك والشافعي وجمهور العلماء، وقال عليّ بن أبي طالب: عدتها أبعد الأجلين، وخص مالك من ذلك الأمة فعدّتها في الوفاة شهران وخمس ليال، ويتربصن: معناه عن التزويج، وقيل: عن الزينة فيكون أمرا بالإحداد، وإعراب الذين مبتدأ، وخبره: يتربصن على تقدير أزواجهم يتربصن، وقيل التقدير: وأزواج الذين يتوفون منكم يتربصن، وقال الكوفيون: الخبر عن الذين متروك، والقصد الإخبار عن أزواجهم فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ من التزويج والزينة بِالْمَعْرُوفِ هنا إذا كان غير منكر وقيل معناه الإشهاد وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ الآية: إباحة التعريض بخطبة المرأة المعتدّة، ويقتضي ذلك النهي عن التصريح، ثم أباح ما يضمر في النفس بقوله: أو أكننتم في أنفسكم عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ أي تذكروهنّ في أنفسكم وبألسنتكم لم يخف عليكم وقيل: أي ستخطبونهنّ إن لم تنتهوا عن ذلك لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا أي لا تواعدوهنّ في العدة خفية بأن تتزوّجوهنّ بعد العدة، وقال مالك فيمن يخطب في العدّة ثم يتزوّج بعدها: فراقها أحب إليّ، ثم يكون خاطبا من الخطاب، وقال ابن القاسم: يجب فراقها إلّا أن تقولوا قولا معروفا استثناء منقطع، والقول المعروف: هو ما أبيح من التعريض: كقوله: إنكم لأكفاء كرام، وقوله: إنّ الله سيفعل معك خيرا، وشبه ذلك وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ الآية: نهي عن عقد النكاح قبل تمام العدّة، والكتاب هنا: القدر الذي شرع فيه من المدّة، ومن تزوّج امرأة في عدّتها يفرق بينهما اتفاقا، فإن دخل بها حرمت عليه على التأبيد عند مالك خلافا للشافعي وأبي حنيفة. لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ الآية: قيل: إنها إباحة للطلاق قبل الدخول، ولما نهي عن التزويج بمعنى الذوق، وأمر بالتزويج طلبا للعصمة ودوام الصحبة ظنّ قوم أنّ من طلق قبل البناء وقع في المنهي عنه، فنزلت الآية رافعة للجناح في ذلك، وقيل: إنها في بيان ما يلزم من الصداق والمتعة في الطلاق قبل الدخول، وذلك أنّ من طلق قبل الدخول فإن كان لم يفرض لها صداقا وذلك في نكاح التفويض: فلا شيء عليه من الصداق لقوله: لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ الآية، والمعنى: لا طلب عليكم بشيء من الصداق، ويؤمر بالمتعة لقوله تعالى: ومتعوهنّ وإن كان قد فرض لها: فعليه نصف الصداق لقوله تعالى: فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ ولا متعة عليه، لأنّ المتعة إنما ذكرت فيما لم يفرض لها بقوله: أو تفرضوا أو فيه بمعنى الواو وَمَتِّعُوهُنَّ أي أحسنوا إليهنّ، وأعطوهنّ شيئا عند الطلاق، والأمر بالمتعة

[سورة البقرة (2) : الآيات 237 إلى 238]

مندوب عند مالك، وواجب عند الشافعي عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ أي يمتع كل واحد على قدر ما يجد، والموسع الغني، الْمُقْتِرِ الضّيق الحال، وقرئ بإسكان دال قدره وفتحها، وهما بمعنى واحد وبالمعروف هنا: أي لا حمل فيه ولا تكلف على أحد الجانبين حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ تعلق الشافعي في وجوب المتعة بقوله: حقا، وتعلق مالك بالندب في قوله: على المحسنين لأنّ الإحسان تطوّع بما لا يلزم وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ بيان أن المطلقة قبل البناء لها نصف الصداق إذا كان فرض لها صداق مسمى، بخلاف نكاح التفويض إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ النون فيه نون جماعة النسوة: يريد المطلقات، والعفو هنا بمعنى الإسقاط، أي للمطلقات قبل الدخول نصف الصداق، إلّا أن يسقطنه، وإنما يجوز إسقاط المرأة إذا كانت مالكة أمر نفسها أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ قال ابن عباس ومالك وغيرهما: هو الوالي الذي تكون المرأة في حجره كالأب في ابنته المحجورة، والسيد في أمته، فيجوز له أن يسقط نصف الصداق الواجب لها بالطلاق قبل الدخول، وأجاز شريح إسقاط غير الأب من الأولياء، وقال علي بن أبي طالب والشافعي: الذي بيده عقدة النكاح هو الزوج، وعفوه أن يعطي النصف الذي سقط عنه من الصداق، ولا يجوز عندهما أن يسقط الأب النصف الواجب لابنته، وحجة مالك أن قوله الذي بيده عقدة النكاح في الحال والزوج ليس بيده بعد الطلاق عقدة النكاح وحجة الشافعي قوله تعالى: وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى فإن الزوج إذا تطوّع بإعطاء النصف الذي لا يلزمه فذلك فضل، وأما إسقاط الأب لحق ابنته فليس فيه تقوى لأنه إسقاط حق الغير وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ قيل إنه يعني إسقاط المرأة نصف صداقها أو دفع الرجل النصف الساقط عنه، واللفظ أعم من ذلك وَالصَّلاةِ الْوُسْطى جدّد ذكرها بعد دخولها في الصلاة اعتناء بها وهي الصبح عند مالك وأهل المدينة، والعصر عند عليّ بن أبي طالب لقوله: صلى الله عليه واله وسلم: شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر «1» ، وقيل: هي الظهر وقيل المغرب، وقيل هي: العشاء الآخرة، وقيل: الجمعة، وسميت وسطى لتوسطها في عدد الركعات، وعلى القول بأنها المغرب لأنها بين الركعتين والأربع، أو لتوسط وقتها، وعلى القول بأنها الصبح لأنها متوسطة بين الليل والنهار، وعلى القول بأنها الظهر أو الجمعة لأنها في وسط النهار، أو لفضلها من الوسط: وهو الخيار، وعلى هذا يجري اختلاف الأقوال فيها وَقُومُوا لِلَّهِ معناه في صلاتكم قانِتِينَ هنا ساكتين وكانوا يتكلمون في الصلاة حتى نزلت، قاله ابن مسعود، وزيد بن أرقم، وقيل: خاشعين، وقيل: طول القيام

_ (1) . الحديث مشهور وقد أخرجه أحمد في مسنده عن علي بن أبي طالب وغيره ج 1 ص 138.

[سورة البقرة (2) : الآيات 239 إلى 242]

فَإِنْ خِفْتُمْ أي من عدوّ أو سبع أو غير ذلك مما يخاف منه على النفس فَرِجالًا جمع راجل أي على رجليه أَوْ رُكْباناً جمع راكب: أي: صلوا كيف ما كنتم من ركوب أو غيره، وذلك في صلاة المسايفة «1» ، ولا تنقص منها عن ركعتين في السفر، وأربع في الحضر عند مالك فَإِذا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ الآية: قيل المعنى: إذا زال الخوف فصلوا الصلاة التي علمتموها وهي التامة، وقيل إذا أمنتم فاذكروا الله كما علمكم هذه الصلاة التي تجزئكم في حال الخوف، فالذكر على القول الأوّل في حال الصلاة، وعلى الثاني بمعنى الشكر وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ هذه الآية منسوخة ومعناها: أن الرجل إذا مات كان لزوجته أن تقيم في منزله سنة وينفق عليها من ماله، وذلك وصية لها ثم نسخ إقامتها سنة بالأربعة الأشهر والعشر، ونسخت النفقة بالربع أو الثمن الذي لها في الميراث حسبما ذكر في سورة النساء، وإعراب وصية مبتدأ، وأزواجهم خبر، أو مضمر تقديره: فعليهم وصية، وقرئت بالنصب على المصدر، تقديره: ليوصوا وصية، ومتاعا نصب على المصدر غَيْرَ إِخْراجٍ أي ليس لأولياء الميت إخراج المرأة فإن خرجت معناه إذا كان الخروج من قبل المرأة فلا جناح على أحد فيما فعلت في نفسها من تزوّج وزينة وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ عام في إمتاع كل مطلقة، وبعمومه أخذ أبو ثور، واستثنى الجمهور المطلقة قبل الدخول، وقد فرض لها بالآية المتقدمة منه، واستثنى مالك المختلعة والملاعنة حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ يدل على وجوب المتعة وهي الإحسان للمطلقات. لأن التقوى واجبة ولذلك قال بعضهم: نزلت مؤكدة للمتعة لأنه نزل قبلها حقا على المحسنين، فقال رجل: فإن لم أرد أن أحسن لم أمتع، فنزلت: حقا على المتقين. أَلَمْ تَرَ رؤية قلب إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ قوم من بني إسرائيل أمروا بالجهاد فخافوا الموت بالقتال، فخرجوا من ديارهم فرارا من ذلك، فأماتهم الله ليعرّفهم أنه لا ينجيهم من الموت شيء، وقيل: بل فرّوا من الطاعون وَهُمْ أُلُوفٌ جمع ألف، قيل ثمانون ألفا، وقيل: ثلاثون ألفا، وقيل: ثمانية آلاف، وقيل: هو من الألفة، وهو ضعيف فَقالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا عبارة عن إماتتهم، وقيل: إن ملكين صاحا بهم: موتوا فماتوا ثم

_ (1) . هكذا وجدت في الطبري أيضا ثم بينها بقوله: فهذا حين تأخذ السيوف بعضها بعضا. هذا في المطاردة.

[سورة البقرة (2) : الآيات 248 إلى 252]

أحياهم ليستوفوا آجالهم وَقاتِلُوا خطاب لهذه الأمّة، وقيل: للذين أماتهم الله ثم أحياهم مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ استفهام يراد به الطلب والحض على الإنفاق، وذكر لفظ القرض تقريبا للأفهام لأن المنفق ينتظر الثواب كما ينتظر المسلف ردّ ما أسلف، وروي أن الآية نزلت في أبي الدحداح حين تصدّق بحائط لم يكن له غيره قَرْضاً حَسَناً أي خالصا طيبا من حلال من غير منّ ولا أذى فَيُضاعِفَهُ قرئ بالتشديد والتخفيف، وبالرفع على الاستئناف أو عطفا على يقرض، وبالنصب في جواب الاستفهام أَضْعافاً كَثِيرَةً عشرة فما فوقها إلى سبعمائة يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ إخبار يراد به الترغيب في الإنفاق. أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ رؤية قلب، وكانوا قوما نالهم الذلة من أعدائهم، فطلبوا الإذن في القتال فلما أمروا به كرهوه لِنَبِيٍّ لَهُمُ قيل اسمه شمويل، وقيل شمعون هَلْ عَسَيْتُمْ أي: قاربتم، وأراد النبي المذكور أن يتوثق منهم، ويجوز في السين من عسيتم الكسر والفتح، وهو أفصح ولذلك انفرد نافع بالكسر، وأما إذا لم يتصل بعسى ضمير فلا يجوز فيها إلّا الفتح طالُوتَ مَلِكاً قال وهب بن منبه أوحى الله إلى نبيهم إذا دخل عليك رجل فنشّ «1» الدهن الذي في القرن فهو ملكهم، وقال السدّي: أرسل الله إلى نبيهم عصا، وقال له إذا دخل عليك رجل على طول هذه العصا فهو ملكهم فكان ذلك طالوت وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ روي أنه كان دباغا ولم يكن من بيت الملك، والواو في قوله ونحن واو الحال والواو في قوله: ولم يؤت لعطف الجملة على الأخرى بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ كان عالما بالعلوم وقيل: بالحروب وكان أطول رجل يصل إلى منكبه وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ رد عليهم في اعتقادهم أن الملك يستحق بالبيت أو المال أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ كان هذا التابوت قد تركه موسى عند يوشع فجعله يوشع في البرية، فبعث الله ملائكة حملته

_ (1) . نشّ بمعنى: خرج منه صوت كصوت اللحم عند ما يقلى.

[سورة البقرة (2) : الآيات 253 إلى 254]

فجعلته في دار طالوت، وفيه قصص كثيرة غير ثابتة فِيهِ سَكِينَةٌ قيل رمح فيه رأس ووجه كوجه الإنسان، وقيل طست من ذهب تغسل فيه قلوب الأنبياء وقيل رحمة، وقيل وقار وبقية قال ابن عباس: هي عصا موسى ورضاض الألواح، وقيل: العصا والنعلان وقيل: ألواح من التوراة آلُ مُوسى وَآلُ هارُونَ يعني: أقاربهما، قال الزمخشري: يعني الأنبياء من بني إسرائيل، ويحتمل أن يريد موسى وهارون، وأقحم الأهل فَصَلَ طالُوتُ أي خرج من موضعه إلى الجهاد بِنَهَرٍ قيل هو نهر في فلسطين فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ الآية: اختبر طاعتهم بمنعهم من الشرب باليد إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً رخص لهم في الغرفة باليد، وقرئ بفتح الغين وهو المصدر، وبضمها هو الاسم فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا قيل: كانوا ثمانين ألفا فشربوا منه كلهم إلّا ثلاثمائة وبضعة عشر: عدد أصحاب بدر، فأما من شرب فاشتد عليه العطش، وأما من لم يشرب فلم يعطش بِجالُوتَ وَجُنُودِهِ كان كافرا عدوّا لهم وهو ملك العمالقة، يظنون أي يوقنون وهم أهل البصائر من أصحابه قَتَلَ داوُدُ جالُوتَ كان داود في جند طالوت فقتل جالوت، فأعطاه الله ملك بني إسرائيل، وفي ذلك قصص كثيرة غير صحيحة وَالْحِكْمَةَ هنا النبوّة والزبور، وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشاءُ صنعة الدروع، ومنطق الطيور، وغير ذلك وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ الآية: منه على العباد بدفع بعضهم ببعض، وقرئ دفاع بالألف، ودفع بغير ألف، والمعنى متفق. تِلْكَ الرُّسُلُ الإشارة إلى جماعتهم فَضَّلْنا نص في التفضيل في الجملة من غير تعيين مفضول: كقوله صلّى الله عليه واله وسلّم: «لا تخيروا بين الأنبياء» «1» ، «ولا تفضلوني على يونس بن متى» «2» : فإنّ معناه النهي عن تعيين المفضول، لأنه تنقيص له،

_ (1) . رواه أحمد عن أبي سعيد الخدري ج 3 ص 40. (2) . وجدت في مسند أحمد حديثا عن عبد الله بن جعفر وابن عباس ونصه: ما ينبغي لنبي أن يقول: إني خير من يونس بن متى.

[سورة البقرة (2) : الآيات 255 إلى 258]

وذلك غيبة ممنوعة، وقد صرح صلّى الله عليه واله وسلّم بفضله على جميع الأنبياء بقوله «أنا سيد ولد آدم» «1» لا بفضله على واحد بعينه، فلا تعارض بين الحديثين مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ موسى عليه السلام وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ قيل: هو محمد صلّى الله عليه واله وسلّم لتفضيله على الأنبياء بأشياء كثيرة، وقيل: هو إدريس لقوله: وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا [مريم: 57] فالرفعة على هذا في المسافة وقيل: هو مطلق في كل من فضله الله منهم مِنْ بَعْدِهِمْ أي من بعد الأنبياء، والمعنى: بعد كل نبيّ لا بعد الجميع وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا كرره تأكيدا وليبنى عليه ما بعده أَنْفِقُوا يعم الزكاة والتطوّع لا بَيْعٌ فِيهِ أي: لا يتصرف أحد في ماله، والمراد: لا تقدرون فيه على تدارك ما فاتكم من الإنفاق في الدنيا ويدخل فيه نفي الفدية لأنه بشراء الإنسان نفسه وَلا خُلَّةٌ أي مودّة نافعة لأن كل أحد يومئذ مشغول بنفسه وَلا شَفاعَةٌ أي ليس في يوم القيامة شفاعة إلّا بإذن الله فهو في الحقيقة رحمة من الله للمشفوع فيه، وكرامة للشافع ليس فيها تحكم على الله، وعلى هذا يحمل ما ورد من نفي الشفاعة في القرآن أعني أن لا تقع إلّا بإذن الله فلا تعارض بينه وبين إثباتها، وحيث ما كان سياق الكلام في أهوال يوم القيامة، والتخويف بها نفيت الشفاعة على الإطلاق، ومبالغة في التهويل. وحيث ما كان سياق الكلام تعظيم الله نفيت الشفاعة إلّا بإذنه وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ قال عطاء بن دينار: الحمد لله الذي قال هكذا، ولم يقل: والظالمون هم الكافرون اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ هذه آية الكرسي وهي أعظم آية في القرآن حسبما ورد في الحديث، وجاء فيها فضل كبير في الحديث الصحيح وفي غيره لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ تنزيه لله تعالى عن الآفات البشرية، والفرق بين السنة والنوم: أن السنة هي ابتداء النوم لا نفسه: كقول القائل: في عينه سنة وليس بنائم مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ استفهام مراد به نفي الشفاعة إلّا بإذن الله، فهي في الحقيقة راجعة إليه يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ الضمير عائد على من يعقل ممن

_ (1) . أخرجه أحمد من حديث أبي هريرة 2/ 715.

[سورة البقرة (2) : آية 259]

تضمنه قوله: لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ والمعنى: يعلم ما كان قبلهم وما يكون بعدهم، وقال مجاهد: ما بين أيديهم الدنيا وما خلفهم الآخرة مِنْ عِلْمِهِ من معلوماته أي لا يعلم عباده من معلوماته إلّا ما شاء هو أن يعلموه وَسِعَ كُرْسِيُّهُ الكرسي مخلوق عظيم بين يدي العرش، وهو أعظم من السموات والأرض، وهو بالنسبة إلى العرش كأصغر شيء، وقيل: كرسيه علمه. وقيل: كرسيه ملكه وَلا يَؤُدُهُ أي لا يشغله ولا يشق عليه لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ المعنى: أن دين الإسلام في غاية الوضوح وظهور البراهين على صحته، بحيث لا يحتاج أن يكره أحد على الدخول فيه بل يدخل فيه كل ذي عقل سليم من تلقاء نفسه، دون إكراه ويدل على ذلك قوله: قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ أي قد تبين أن الإسلام رشد وأن الكفر غي، فلا يفتقر بعد بيانه إلى إكراه، وقيل: معناها الموادعة، وأن لا يكره أحد بالقتال على الدخول في الإسلام ثم نسخت بالقتال، وهذا ضعيف لأنها مدنية وإنما آية المسالمة وترك القتال بمكة بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى العروة في الأجرام هي: موضع الإمساك وشدّ الأيدي، وهي هنا تشبيه واستعارة في الإيمان لَا انْفِصامَ لَها لا انكسار لها ولا انفصال يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ أي: من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ جمع الطاغوت هنا وأفرد في غير هذا الموضع فكأنه اسم جنس لما عبد من دون الله، ولمن يضل الناس من الشياطين وبني آدم الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ هو نمروذ الملك وكان يدّعي الربوبية فقال لإبراهيم: من ربك؟ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فقال نمروذ: أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ وأحضر رجلين فقتل أحدهما وترك الآخر، فقال قد أحييت هذا وأمت هذا، فقال له إبراهيم: فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ، فَبُهِتَ أي انقطع وقامت عليه الحجة، فإن قيل: لم انتقل إبراهيم عن دليله الأوّل إلى هذا الدليل الثاني، والانتقال علامة الانقطاع؟ فالجواب: أنه لم ينقطع، ولكنه لما ذكر الدليل الأوّل وهو الإحياء والإماتة كان له حقيقة، وهو فعل الله ومجازا وهو فعل غيره فتعلق نمروذ بالمجاز غلطا منه أو مغالطة، فحينئذ انتقل إبراهيم إلى الدليل الثاني لأنه لا مجاز له، ولا يمكن الكافر عدول عنه أصلا أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ تقديره: أو رأيت مثل الذي فحذف لدلالة ألم تر عليه لأنّ كلتيهما كلمتا تعجب،

[سورة البقرة (2) : الآيات 260 إلى 263]

ويجوز أن يحمل على المعنى كأنه يقول: أرأيت كالذي حاج إبراهيم، أو كالذي مرّ على قرية وهذا المارّ قيل إنه عزير، وقيل الخضر، فقوله: أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللَّهُ ليس إنكارا للبعث ولا استبعادا ولكنه استعظام لقدرة الذي يحيي الموتى، أو سؤال عن كيفية الإحياء وصورته، لا شك في وقوعه، وذلك مقتضى كلمة أنّى فأراه الله ذلك عيانا ليزداد بصيرة، وقيل: بل كان كافرا وقالها إنكارا للبعث واستبعادا، فأراه الله الحياة بعد الموت في نفسه، وذلك أعظم برهان وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها أي خالية من الناس، وقال السدّي: سقطت سقوفها وهي العروش، ثم سقطت الحيطان على السقف أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللَّهُ ظاهر هذا اللفظ إحياء هذه القرية بالعمارة بعد الخراب، ولكن المعنى إحياء أهلها بعد موتهم لأنّ هذا الذي يمكن فيه الشك والإنكار ولذلك أراه الله الحياة بعد موته، والقرية كانت بيت المقدس لما أخربها بختنصر، وقيل: قرية الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف كَمْ لَبِثْتَ سؤال على وجه التقرير قالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ استقل مدّة موته، قيل: أماته الله غدوة يوم ثم بعثه قبل الغروب من يوم آخر بعد مائة عام فظنّ أنه يوم واحد، ثم رأى بقية من الشمس فخاف أن يكذب في قوله: يوما فقال: أو بعض يوم فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ وَشَرابِكَ قيل كان طعامه تينا وعنبا وأنّ شرابه كان عصيرا ولبنا لَمْ يَتَسَنَّهْ معناه: لم يتغير، بل بقي على حاله طول مائة عام، وذلك أعجوبة إلهية، واللفظ يحتمل أن يكون مشتقا من السنة، لأنّ لامها هاء، فتكون الهاء في يتسنه أصلية. أي لم يتغير السنون ويحتمل أن يكون مشتقا من قولك تسنن الشيء إذا فسد، ومنه الحمأ المسنون، ثم قلبت النون حرف علة كقولهم: قصيت أظفاري، ثم حذف حرف العلة للجازم، والهاء على هذا هاء السكت وَانْظُرْ إِلى حِمارِكَ قيل: بقي حماره حيا طول المائة عام، دون علف ولا ماء، وقيل: مات ثم أحياه الله، وهو ينظر إليه وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ التقدير: فعلنا بك هذا لتكون آية للناس، وروى أنه قام شابا على حالته يوم مات فوجد أولاده وأولادهم شيوخا وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ هي عظام نفسه، وقيل: عظام الحمار على القول بأنه مات ننشرها بالراء نحييها، وقرئ بالزاي، ومعناه نرفعها للإحياء قالَ أَعْلَمُ بهمزة قطع وضم الميم أي: قال الرجل ذلك اعترافا، وقرئ بألف وصل، والجزم على الأمر أي قال له الملك ذلك وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ الآية: قال الجمهور: لم يشك إبراهيم في إحياء الموتى، وإنما طلب المعاينة، لأنه رأى دابة قد أكلتها السباع والحيات

[سورة البقرة (2) : الآيات 264 إلى 268]

فسأل ذلك السؤال، ويدل على ذلك قوله: كيف، فإنها سؤال عن حال الإحياء وصورته لا عن وقوعه وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي أي بالمعاينة أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ قيل هي الديك، والطاوس، والحمام، والغراب، فقطعها وخلط أجزاءها ثم جعل من المجموع جزءا على كل جبل، وأمسك رأسها بيده، ثم قال: تعالين بإذن الله فتطايرت تلك الأجزاء حتى التأمت، وبقيت بلا رؤوس، ثم كرر النداء فجاءته تسعى حتى وضعت أجسادها في رؤوسها وطارت بإذن الله فَصُرْهُنَّ أي ضمهن، وقيل: قطّعهن على كل جبل، قيل: أربعة جبال، وقيل سبعة، وقيل: الجبال التي وصل إليها حينئذ من غير حصر بعدد فِي سَبِيلِ اللَّهِ ظاهره الجهاد، وقد يحمل على جميع وجوه البر كَمَثَلِ حَبَّةٍ كل ما يزرع ويقتات وأشهره: القمح» وفي الكلام حذف تقديره مثل نفقة الذين ينفقون كمثل حبة أو يقدر في آخر الكلام كمثل صاحب حبة أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ بيان أن الحسنة بسبعمائة كما جاء في الحديث أن رجلا جاء بناقة فقال هذه في سبيل الله فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لك بها يوم القيامة سبعمائة ناقة وَاللَّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ أي يزيده على سبعمائة وقيل هو تأكيد وبيان للسبعمائة، والأول أرجح، لأنه ورد في الحديث ما يدل عليه الَّذِينَ يُنْفِقُونَ الآية: قيل نزلت في عثمان، وقيل في عليّ وقيل في عبد الرحمن بن عوف مَنًّا وَلا أَذىً المن. ذكر النعمة على معنى التعديد لها والتقريع بها، والأذى السب قول معروف هو ردّ السائل بجميل من القول: كالدعاء له والتأنيس وَمَغْفِرَةٌ عفو عن السائل إذا وجد منه جفاء، وقيل: مغفرة من الله لسبب الردّ الجميل، والمعنى: تفضيل عدم العطاء إذا كان بقول معروف ومغفرة، على العطاء الذي يتبعه أذى لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ عقيدة أهل السنة أن السيئات لا تبطل الحسنات فقالوا في هذه الآية: إنّ الصدقة التي يعلم من صاحبها أنه يمن أو يؤذي لا تقبل منه، وقيل: إنّ المن والأذى دليل على أن نيته لم تكن خالصة، فلذلك بطلت صدقته كَالَّذِي يُنْفِقُ تمثيل لمن يمنّ ويؤذي بالذي ينفق رياء وهو غير مؤمن فَمَثَلُهُ أي مثل المرائي في نفقته كحجر عليه تراب يظنه من يراه أرضا منبتة طيبة، فإذا أنزل عليها المطر انكشف التراب، فيبقى الحجر لا منفعة فيه، فكذلك المرائي يظن أن له أجرا، فإذا كان يوم القيامة انكشف سره ولم تنفعه نفقته صَفْوانٍ حجر كبير وابِلٌ

[سورة البقرة (2) : الآيات 269 إلى 273]

مطر كثير صَلْداً أملس لا يَقْدِرُونَ أي لا يقدرون على الانتفاع بثواب شيء من إنفاقهم وهو كسبهم وَتَثْبِيتاً أي تيقنا وتحقيقا للثواب لأن أنفسهم لها بصائر تحملهم على الإنفاق، ويحتمل أن يكون معنى التثبيت أنهم يثبتون أنفسهم على الإيمان باحتمال المشقة في بذل المال، وانتصاب ابتغاء على المصدر في موضع الحال وعطف عليه وتثبيتا، ولا يصح في تثبيتا أن يكون مفعولا من أجله، لأن الإنفاق ليس من أجل التثبيت فامتنع ذلك في المعطوف عليه وهو ابتغاء كَمَثَلِ حَبَّةٍ تقديره: كمثل صاحب حبة أو يقدر ولا مثل نفقة الذي ينفقون بِرَبْوَةٍ لأن ارتفاع موضع الجنة أطيب لتربتها وهوائها فَطَلٌّ الطل الرقيق الخفيف، فالمعنى يكفي هذه الجنة لكرم أرضها أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ الآية: مثل ضرب للإنسان يعمل صالحا، حتى إذا كان عند آخر عمره ختم له بعمل السوء، أو مثل للكافر أو المنافق أو المرائي المتقدّم ذكره آنفا أو ذي المن والأذى، فإنّ كل واحد منهم يظن أنه ينتفع بعمله، فإذا كان وقت حاجة إليه لم يجد شيئا، فشبههم الله بمن كانت له جنة، ثم أصابتها الجائحة المهلكة، أحوج ما كان إليها لشيخوخته، وضعف ذريته، قالوا في قوله: وأصابه الكبر للحال إِعْصارٌ أي ريح فيها سموم محرقة مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ والطيبات هنا عند الجمهور: الجيد غير الرديء، فقيل: إنّ ذلك في الزكاة فيكون واجبا وقيل: في التطوع فيكون مندوبا لا واجبا لأنه كما يجوز التطوع بالقليل يجوز بالرديء وَمِمَّا أَخْرَجْنا من النبات والمعادن وغير ذلك وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ أي لا تقصدوا الرديء منه تنفقون في موضع الحال وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ الواو للحال. والمعنى: أنكم لا تأخذونه في حقوقكم وديونكم، إلّا أن تتسامحوا بأخذه وتغمضوا من قولك: أغمض فلان عن بعض حقه: إذا لم يستوفه وإذا غض بصره الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ الآية: دفع لما يوسوس به الشيطان من خوف الفقر، ففي ضمن ذلك حض على الإنفاق، ثم بين عداوة الشيطان بأمره بالفحشاء، وهي المعاصي، وقيل: الفحشاء البخل، والفاحش عند العرب البخيل، قال ابن عباس: في الآية اثنتان من الشيطان واثنتان من الله، والفضل هو الرزق والتوسعة يُؤْتِي الْحِكْمَةَ قيل:

[سورة البقرة (2) : الآيات 274 إلى 275]

هي المعرفة بالقرآن، وقيل: النبوة، وقيل: الإصابة في القول والعمل وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ الآية. ذكر نوعين، وهما ما يفعله الإنسان تبرعا، وما يفعله بعد إلزامه نفسه بالنذر، وفي قوله: فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وعد بالثواب، وقوله: وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ وعيد لمن يمنع الزكاة أو ينفق لغير الله إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ هي التطوع عند الجمهور لأنها يحسن إخفاؤها وإبداء الواجبة كالصلوات فَنِعِمَّا هِيَ ثناء على الإظهار، ثم حكم أن الإخفاء خير من ذلك الإبداء وما من نعما في موضع نصب تفسير للمضمر والتقدير: فنعم شيء إبداؤها لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ قيل: إنّ المسلمين كانوا لا يتصدقون على أهل الذمة، فنزلت الآية مبيحة للصدقة على من ليس على دين الإسلام، وذلك في التطوع، وأما الزكاة فلا تدفع لكافر أصلا، فالضمير في هداهم على هذا القول للكافر، وقيل: ليس عليك أن تهديهم لما أمروا به من الانفاق، وترك المن والأذى والرياء، والانفاق من الخبيث، إنما عليك أن تبلغهم والهدى بيد الله فالضمير على هذا للمسلمين وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ أي إن منفعته لكم لقوله: مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ [فصلت: 46] وَما تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ اللَّهِ قيل: إنه خبر عن الصحابة أنهم لا ينفقون إلّا ابتغاء وجه الله، ففيه تزكية لهم وشهادة بفضلهم، وقيل: ما تنفقون نفقة تقبل منكم إلّا ابتغاء وجه الله، ففي ذلك حض على الإخلاص لِلْفُقَراءِ متعلق بمحذوف تقديره: الانفاق للفقراء وهم هنا المهاجرون أُحْصِرُوا حبسوا بالعدو، وبالمرض فِي سَبِيلِ اللَّهِ يحتمل الجهاد والدخول في الإسلام ضَرْباً فِي الْأَرْضِ هو التصرف في التجارة وغيرها يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ أي يظن الجاهل بحالهم أنهم أغنياء لقلة سؤالهم. والتعفف هنا هو عن الطلب. ومن سببية، وقال ابن عطية: لبيان الجنس تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ علامة وجوههم وهي ظهور الجهد والفاقة، وقلة النعمة. وقيل: الخشوع وقيل: السجود لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً الإلحاف: هو الإلحاح في السؤال، والمعنى: أنهم إذا سألوا يتلطفون ولا يلحون، وقيل: هو نفي السؤال والإلحاح معا وباقي الآية وعد بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً تعميم

لوجوه الإنفاق وأوقاته، قال ابن عباس: نزلت في عليّ فإنه تصدق بدرهم بالليل وبدرهم بالنهار وبدرهم سرا وبدرهم علانية. وقال أبو هريرة: نزلت في علف الخيل الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا أي ينتفعون به، وعبر عن ذلك بالأكل لأنه أغلب المنافع. وسواء من أعطاه أو من أخذه، والربا في اللغة الزيادة، ثم استعمل في الشريعة في بيوعات ممنوعة أكثرها راجع إلى الزيادة، فإنّ غالب الربا في الجاهلية قولهم للغريم: أتقضي أم تربي، فكان الغريم يزيد في عدد المال، ويصبر الطالب عليه، ثم إن الربا على نوعين: ربا النسيئة، وربا التفاضل وكلاهما يكون في الذهب والفضة، وفي الطعام. فأما النسيئة فتحرم في بيع الذهب بالذهب وبيع الفضة بالفضة وفي بيع الذهب بالفضة، وهو الصرف، وفي الطعام «1» بالطعام مطلقا، وأما التفاضل: فإنما يحرم في بيع الجنس الواحد بجنسه من النقدين ومن الطعام، ومذهب مالك أنه يحرم التفاضل في المقتات المدخر من الطعام، ومذهب الشافعي أنه يحرم في كل طعام، ومذهب أبي حنيفة أنه يحرم في المكيل والموزون من الطعام وغيره لا يَقُومُونَ إِلَّا كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ أجمع المفسرون أن المعنى لا يقومون من قبورهم في البعث إلّا كالمجنون، ويتخبطه يتفعله من قولك: خبط يخبط، والمس الجنون، ومن تتعلق بيقوم ذلِكَ بِأَنَّهُمْ تعليل للعقاب الذي يصيبهم، وإنما هذا للكفار، لأن قولهم: إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا: ردّ على الشريعة وتكذيب للإثم وقد يأخذ العصاة بحظ من هذا الوعيد، فإن قيل: هلا قيل إنما الربا مثل البيع، لأنهم قاسوا الربا على البيع في الجواز، فالجواب: أن هذا مبالغة، فإنهم جعلوا الربا أصلا حتى شبهوا به البيع وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ عموم يخرج منه البيوع الممنوعة شرعا، وقد عددناها في الفقه ثمانين نوعا وَحَرَّمَ الرِّبا ردّ على الكفار وإنكار للتسوية بين البيع والربا، وفي ذلك دليل على أن القياس يهدمه النص، لأنه جعل الدليل على بطلان قياسهم تحليل الله وتحريمه فَلَهُ ما سَلَفَ أي له ما أخذ من الربا، أي لا يؤاخذ بما فعل منه قبل نزول التحريم وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ الضمير عائد على صاحب الربا، والمعنى أن الله يحكم فيه يوم القيامة، فلا تؤاخذوه في الدنيا، وقيل: الضمير عائد على الربا، والمعنى أن أمر الربا إلى الله في تحريم أو غير ذلك وَمَنْ عادَ الآية: يعني من عاد إلى فعل الربا وإلى القول: إنما البيع مثل الربا،

_ (1) . الطعام في اللغة هو الحبوب كالقمح والشعير.

[سورة البقرة (2) : الآيات 276 إلى 281]

ولذلك حكم عليه بالخلود في النار، لأن ذلك القول لا يصدر إلّا من كافر، فلا حجة فيها لمن قال بتخليد العصاة لكونها في الكفار يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا ينقصه ويذهبه وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ ينميها في الدنيا بالبركة، وفي الآخرة بمضاعفة الثواب كَفَّارٍ أَثِيمٍ أي من يجمع بين الكفر والإثم بفعل الربا، وهذا يدل على أن الآية في الكفار وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا سبب الآية أنه كان بين قريش وثقيف ربا في الجاهلية، فلما فتح رسول الله صلّى الله عليه واله وسلّم مكة قال في خطبته: «كل ربا كان في الجاهلية موضوع» «1» ، ثم إنّ ثقيف أرسلت تطلب الربا الذي كان لهم على قريش، فأبوا من دفعه وقالوا: قد وضع الربا. فتحاكموا إلى عتّاب بن أسيد أمير مكة، فكتب بذلك إلى رسول الله صلّى الله عليه واله وسلّم فنزلت الآية إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ شرط لمن خوطب به من قريش وغيرهم فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ أي إن لم تنتهوا عن الربا حوربتم ومعنى فأذنوا: اعلموا، وقرئ بالمد [آذنوا] أي أعلموا غيركم، ولما نزلت قالت ثقيف: لا طاقة لنا بحرب الله ورسوله لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ أي لا تظلمون بأخذ زيادة على رؤوس أموالكم، ولا تظلمون بالنقص منها وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ كان تامة بمعنى حضر ووقع، وقرئ ذا عسرة، أي إن كان الغريم ذا عسرة فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ حكم الله للمعسر بالإنظار إلى أن يوسر، وقد كان قبل ذلك يباع فيما عليه، ونظرة مصدر، معناه: التأخير، وهو مرفوع على أنه خبر ابتداء تقديره فالجواب: نظرة أو مبتدأ، وميسرة أيضا مصدر وقرئ بضم السين وفتحها وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ ندب الله إلى الصدقة على المعسر بإسقاط الدين عنه فذلك أفضل من إنظاره، وباقي الآية وعظ، وقيل إنّ آخر آية نزلت آية الربا، وقيل بل قوله: وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ، الآية. وقيل آية الدين المذكورة بعد إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ أي إذا عامل بعضكم بعضا بدين، وإنما ذكر الدين وإن كان مذكورا في تداينتم ليعود عليه الضمير في اكتبوه وليزول الاشتراك الذي في تداينتم، إذ يقال لمعنى الجزاء إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى دليل على أنه لا يجوز إلى أجل مجهول، وأجاز مالك البيع إلى الجذاذ والحصاد، لأنه

_ (1) . تحريم الربا كان ضمن خطبة حجة الوداع فانظرها في كتب السيرة وموضوع يعني: باطل.

معروف عند الناس، ومنعه الشافعي وأبو حنيفة، قال ابن عباس: نزلت الآية في السلم خاصة يعني: أن سلّم أهل المدينة كان سبب نزولها، قال مالك وهذا يجمع الدين كله، يعني: أنه يجوز التأخير في السلم والسلف وغيرهما فَاكْتُبُوهُ ذهب قوم إلى أن كتابة الدين واجبة بهذه الآية، وقال قوم: إنها منسوخة لقوله: فإن أمن بعضكم بعضا وقال قوم: إنها على الندب وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ قال قوم: يجب على الكاتب أن يكتب، وقال قوم نسخ ذلك بقوله: ولا يضار كاتب ولا شهيد، وقال آخرون: يجب عليه إذا لم يوجد كاتب سواه، وقال قوم: إنّ الأمر بذلك على الندب، ولذلك جاز أخذ الأجرة على كتب الوثائق بِالْعَدْلِ يتعلق عند ابن عطية بقوله: وليكتب، وعند الزمخشري بقوله: كاتب فعلى الأوّل: تكون الكتابة بالعدل، وإن كان الكاتب غير مرضيّ، وعلى الثاني: يجب أن يكون الكاتب مرضيا في نفسه، قال مالك: لا يكتب الوثائق إلّا عارف بها، عدل في نفسه مأمون وَلا يَأْبَ كاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ نهي عن الإباية، وهو يقوّي الوجوب كَما عَلَّمَهُ اللَّهُ يتعلق بقوله أن يكتب، والكاف للتشبيه أي: يكتب مثل ما علمه الله أو للتعليل: أي ينفع الناس بالكتابة كما علمه الله لقوله: أَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ [القصص: 77] وقيل: يتعلق بقوله بعدها فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ يقال أمللت الكتاب، وأمليته، فورد هنا على اللغة الواحدة، وفي قوله تملي عليه على الأخرى الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ لأنّ الشهادة إنما هي باعترافه، فإن كتب الوثيقة دون إملاله، ثم أقرّ بها جاز وَلا يَبْخَسْ أمر الله بالتقوى فيما يملي، ونهاه عن البخس وهو نقص الحق سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ السفيه الذي لا يحسن النظر في ماله، والضعيف الصغير وشبهه، والذي لا يستطيع أن يمل الأخرس وشبهه وَلِيُّهُ أبوه، أو وصيه، والضمير عائد على الذي عليه الحق وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ نص في رفض شهادة الكفار والصبيان والنساء، وأما العبيد فاللفظ يتناولهم، ولذلك أجاز ابن حنبل شهادتهم، ومنعها مالك والشافعي لنقص الرق فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ قال قوم: لا تجوز شهادة المرأتين إلّا مع الرجال، وقال معنى الآية: إن لم يكونا أي إن لم يوجدا وأجاز الجمهور أن المعنى إن لم يشهد رجلان، فرجل وامرأتان، وإنما يجوز عند مالك شهادة الرجل والمرأتين في الأموال لا في غيرها، وتجوز شهادة المرأتين دون رجل، فيما لا يطلع عليه الرجال كالولادة والاستهلال، وعيوب النساء، وارتفع رجل بفعل مضمر تقديره: فليكن رجل، فهو فاعل، أو تقديره: فليستشهد رجل فهو مفعول لم يسم فاعله، أو بالابتداء تقديره: فرجل وامرأتان يشهدون مِمَّنْ تَرْضَوْنَ صفة للرجل والمرأتين، وهو مشترط أيضا في الرجلين الشاهدين، لأن الرضا مشترط في الجميع وهو

[سورة البقرة (2) : الآيات 283 إلى 284]

العدالة، ومعناها اجتناب الذنوب الكبائر، وتوقي الصغائر مع المحافظة على المروءة أَنْ تَضِلَّ مفعول من أجله، والعامل فيه هو المقدر العامل في رجل وامرأتان والضلال في الشهادة هو نسيانها أو نسيان بعضها، وإنما جعل ضلال إحدى المرأتين مفعولا من أجله، وليس هو المراد، لأنه سبب لتذكير الأخرى لها وهو المراد، فأقيم السبب مقام المسبب، وقرئ: إن تضل: بكسر الهمزة على الشرط، وجوابه الفاء في فتذكر، ولذلك رفعه من كسر الهمزة، ونصبه من فتحها على العطف، وقرئ تذكر بالتشديد والتخفيف، والمعنى واحد وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ أي لا يمتنعون إِذا ما دُعُوا إلى أداء الشهادة، وقد ورد تفسيره بذلك عن النبي صلّى الله عليه واله وسلّم، واتفق العلماء أن أداء الشهادة واجب إذا دعي إليها، وقيل: إذا دعوا إلى تحصيل الشهادة وكتبها. وقيل: إلى الأمرين وَلا تَسْئَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ أي لا تملوا من الكتابة إذا ترددت وكثرت، سواء كان الحق صغيرا أو كبيرا، ونصب صغيرا على الحال ذلِكُمْ إشارة إلى الكتابة أَقْسَطُ من القسط وهو العدل (وأقوم) بمعنى أشد إقامة، وينبني أفعل فيهما من الرباعي وهو قليل وَأَدْنى أَلَّا تَرْتابُوا أي أقرب إلى عدم الشك في الشهادة إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً أن في موضع نصب على الاستثناء المنقطع، لأن الكلام المتقدم في الدين المؤجل، والمعنى: إباحة ترك الكتابة في التجارة الحاضرة، وهو ما يباع بالنقد وغيره، تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ يقتضي القبض والبينونة وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ ذهب قوم إلى وجوب الإشهاد على كل بيع صغيرا أو كبيرا، وهم الظاهرية، خلافا للجمهور. وذهب قوم إلى أنه منسوخ بقوله: فإن أمن بعضكم بعضا، وذهب قوم إلى أنه على الندب وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ يحتمل أن يكون كاتب فاعلا على تقدير كسر الراء المدغمة من يضارّ، والمعنى على هذا نهي للكاتب والشاهد أن يضارّ صاحب الحق أو الذي عليه الحق بالزيادة فيه أو النقصان منه، أو الامتناع من الكتابة أو الشهادة، ويحتمل أن يكون كاتب مفعولا لم يسم فاعله على تقدير فتح الراء المدغمة، ويقوي ذلك قراءة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، «لا يضارر» بالتفكيك وفتح الراء، والمعنى: النهي عن الإضرار بالكاتب والشاهد بإذايتهما بالقول أو بالفعل وَإِنْ تَفْعَلُوا أي إن وقعتم في الإضرار فَإِنَّهُ فُسُوقٌ حال بكم وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ إخبار على وجه الامتنان، وقيل: معناه الوعد بأن من اتقى علمه الله وألهمه وهذا المعنى صحيح، ولكن لفظ الآية لا يعطيه، لأنه لو كان كذلك لجزم يعلمكم في جواب اتقوا وَإِنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ الآية: لما

أمر الله تعالى بكتب الدين: جعل الرهن توثيقا للحق، عوضا عن الكتابة، حيث تتعذر الكتابة في السفر، وقال الظاهرية: لا يجوز الرهن إلّا في السفر لظاهر الآية. وأجازه مالك وغيره في الحضر لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم رهن درعه بالمدينة فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ يقتضي بينونة المرتهن بالرهن، وأجمع العلماء على صحة قبض المرتهن وقبض وكيله. وأجاز مالك والجمهور وضعه على يد عدل، والقبض للرهن شرط في الصحة عند الشافعي وغيره، لقوله تعالى: مَقْبُوضَةٌ وهو عند مالك شرط كمال لا صحة فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً الآية: أي إن أمن صاحب الحق المدين لحسن ظنه به، فليستغن عن الكتابة وعن الرهن، فأمر أولا بالكتابة، ثم بالرهن ثم بالائتمان، فللدين ثلاثة أحوال ثم أمر المديان بأداء الأمانة، ليكون عند ظن صاحبه به وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ محمول على الوجوب فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ معناه: قد تعلق به الإثم اللاحق من المعصية في كتمان الشهادة، وارتفع آثم بأنه خبر إن، وقلبه فاعل به، ويجوز أن يكون قلبه مبتدأ، وآثم خبره، وإنما أسند الإثم إلى القلب وإن كان جملة الكاتم هي الآثمة، لأن الكتمان من فعل القلب، إذ هو يضمرها، ولئلا يظن أن كتمان الشهادة من الآثام المتعلقة باللسان وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ الآية: مقتضاها المحاسبة على ما في نفوس العباد من الذنوب، سواء أبدوه أم أخفوه، ثم المعاقبة على ذلك لمن يشاء الله أو الغفران لمن شاء الله، وفي ذلك إشكال لمعارضته لقول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنّ الله تجاوز لأمتي ما حدثت به أنفسها» «1» ، ففي الحديث الصحيح عن أبي هريرة: أنه لما نزلت شق ذلك على الصحابة وقالوا هلكنا إن حوسبنا على خواطر أنفسنا، فقال لهم النبي صلّى الله عليه وسلّم: «قولوا سمعنا وأطعنا» ، فقالوها، فأنزل الله بعد ذلك: لا يكلف الله نفسا إلّا وسعها، فكشف الله عنهم الكربة، ونسخ بذلك هذه الآية، وقيل: هي في معنى كتم الشهادة وإبدائها، وذلك محاسب به، وقيل يحاسب الله خلقه على ما في نفوسهم، ثم يغفر للمؤمنين ويعذب الكافرين والمنافقين، والصحيح التأويل الأوّل لوروده في الصحيح، وقد ورد أيضا عن ابن عباس وغيره، فإن قيل: إنّ الآية خبر والأخبار لا يدخلها النسخ، فالجواب: أنّ النسخ إنما وقع في المؤاخذة والمحاسبة وذلك حكم يصح دخول النسخ فيه، فلفظ الآية خبر، ومعناها حكم فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ قرئ بجزمهما عطفا على يحاسبكم وبرفعهما «2» على تقدير فهو يغفر

_ (1) . أخرجه أحمد عن أبي هريرة ج 2 ص 561 وفيه: ما لم تكلم به. (2) . قرأ عاصم وابن عامر بالرفع والباقون بالجزم عطفا على: يحاسبكم.

[سورة البقرة (2) : آية 285]

آمَنَ الرَّسُولُ الآية سببها ما تقدّم في حديث أبي هريرة: لما قالوا سمعنا وأطعنا مدحهم الله بهذه الآية، وقدّم ذلك قبل كشف ما شق عليهم وَالْمُؤْمِنُونَ عطف على الرسول أو مبتدأ، فعلى الأوّل يوقف على المؤمنون وعلى الثاني يوقف على من ربّه والأوّل أحسن كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ إن كان المؤمنون معطوفا فكل عموم في الرسول والمؤمنون، وإن كان مبتدأ فكل عموم في المؤمنين ووحد الضمير في آمن على معنى أن كل واحد منهم آمن وَكُتُبِهِ قرئ «1» بالجمع أي كل كتاب أنزله الله، وقرئ بالتوحيد يريد القرآن أو الجنس لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ التقدير يقولون: لا نفرّق، والمعنى: لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وبين غيره في الإيمان بل نؤمن بجميعهم، ولسنا كاليهود والنصارى الذين يؤمنون ببعض ويكفرون ببعض وَقالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا حكاية عن قول المؤمنين على وجه المدح لهم غُفْرانَكَ مصدر، والعامل فيه مضمر ونصبه على المصدرية تقديره اغفر غفرانك، وقيل على المفعولية تقديره: نطلب غفرانك وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ إقرار بالبعث مع تذلل وانقياد، وهنا تمت حكاية كلام المؤمنين لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها إخبار من الله تعالى برفع تكليف ما لا يطاق، وهو جائز عقلا عند الأشعرية ومحال عقلا عند المعتزلة، واتفقوا على أنه لم يقع في الشريعة لَها ما كَسَبَتْ أي من الحسنات وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ أي من السيئات، وجاءت العبارة بلها في الحسنات لأنها مما ينتفع بالعبد به، وجاءت بعليها في السيئات لأنها مما يضر العبد، وإنما قال في الحسنات كسبت وفي الشرّ اكتسبت، لأنّ في الاكتساب ضرب من الاعتمال والمعالجة، حسبما تقتضيه صيغة افتعل فالسيئات فاعلها يتكلف مخالفة أمر الله، ويتعدّاه بخلاف الحسنات، فإنه فيها على الجادّة من غير تكلف أو لأنّ السيئات يجدّ في فعلها لميل النفس إليها، فجعلت لذلك مكتسبة، ولما لم يكن الإنسان في الحسنات كذلك: وصفت بما لا دلالة فيه على الاعتمال رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا أي قولوا ذلك في دعائكم ويحتمل أن يكون ذلك من بقية حكاية قولهم كما حكى عنهم قولهم: سَمِعْنا وَأَطَعْنا، والنسيان هنا هو ذهول القلب على الإنسان، والخطأ غير العمد فذلك معنى قوله صلّى الله عليه واله وسلّم: «رفع عن أمّتي الخطأ والنسيان» «2» وقد كان يجوز أن يأخذ به لولا أنّ الله رفعه وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً التكاليف الصعبة، وقد كانت لمن تقدّم من الأمم كقتل أنفسهم، وقرض أبدانهم، ورفعت عن هذه الأمة. قال تعالى: ويضع عنهم إصرهم. وقيل الإصر المسخ قردة وخنازير

_ (1) . قرأ حمزة والكسائي: وكتابه بالافراد والباقون بالجمع. [.....] (2) . قال المناوي في التيسير: رواه الطبراني عن ثوبان وهو حديث حسن وقيل بضعفه ولكنه يتقوى بكثرة شواهده.

وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ هذا الدعاء دليل على جواز تكليف ما لا يطاق لأنه لا يدعى برفع ما لا يجوز أن يقع. ثم إنّ الشرع دفع وقوعه. وتحقيق ذلك أنّ ما لا يطاق. أربعة أنواع: الأوّل: عقلي محض: كتكليف الإيمان لمن علم الله أنه لا يؤمن. فهذا جائز وواقع بالاتفاق. والثاني: عاديّ كالطيران في الهواء. والثالث: عقلي وعادي: كالجمع بين الضدّين، فهذان وقع الخلاف في جواز التكليف بهما، والاتفاق على عدم وقوعه، والرابع تكليف ما يشق ويصعب، فهذا جائز اتفاقا، فقد كلفه الله من تقدّم من الأمم، ورفعه عن هذه الأمّة وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا ألفاظ متقاربة المعنى وبينها من الفرق أنّ العفو ترك المؤاخذة بالذنب، والمغفرة تقتضي مع ذلك الستر، والرحمة تجمع ذلك مع التفضل بالإنعام مَوْلانا ولينا وسيدنا.

سورة آل عمران

سورة آل عمران مدنية وآياتها 200 نزلت بعد الأنفال بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (سورة آل عمران) نزل صدرها إلى نيف وثمانين آية لما قدم نصارى نجران المدينة المنوّرة يناظرون رسول الله صلّى الله عليه واله وسلّم في عيسى عليه السلام الم تقدّم الكلام على حروف الهجاء وقرأ الجمهور بفتح الميم هنا في الوصل لالتقاء الساكنين نحو من الناس، وقال الزمخشري: هي حركة الهمزة نقلت إلى الميم وهذا ضعيف لأنها ألف وصل تسقط في الدرج الْحَيُّ الْقَيُّومُ ردّ على النصارى في قولهم إنّ عيسى هو الله لأنهم زعموا أنه صلب، فليس بحيّ وليس بقيوم الْكِتابَ هنا هو القرآن بِالْحَقِّ أي تضمن الحق من الأخبار والأحكام وغيرها أو بالاستحقاق مُصَدِّقاً قد تقدّم في مصدّقا لما معكم بَيْنَ يَدَيْهِ الكتب المتقدّمة التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ أعجميان فلا يصح ما ذكره النحاة من اشتقاقهما ووزنهما وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ يعني القرآن وإنما كرر ذكره ليصفه بأنه الفارق بين الحق والباطل، ويحتمل أن يكون ذكره أولا على وجه الإثبات لإنزاله لقوله: مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ، ثم ذكره ثانيا: على وجه الامتنان بالهدى به، كما قال في التوراة والإنجيل هدى للناس، فكأنه قال: وأنزل الفرقان هدى للناس ثم حذف ذلك لدلالة الهدى الأول عليه، فلما اختلف قصد الكلام في الموضعين لم يكن ذلك تكرارا، وقيل: الفرقان هنا كل ما فرق بين الحق والباطل من كتاب وغيره، وقيل: هو الزبور، وهذا بعيد لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ خبر عن إحاطة علم الله بجميع الأشياء على التفصيل، وهذه صفة لم تكن لعيسى، ولا لغيره، ففي ذلك ردّ على النصارى هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ برهان على إثبات علم الله المذكور قبل، وفيه ردّ على النصارى لأن عيسى لا يقدر على التصوير، بل كان مصوّرا كسائر بني آدم كَيْفَ يَشاءُ من طول، وقصر، وحسن، وقبح، ولون وغير ذلك مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ المحكم من القرآن: هو البيّن المعنى، الثابت الحكم، والمتشابه: هو

الذي يحتاج إلى التأويل، أو يكون مستغلق المعنى: كحروف الهجاء، قال ابن عباس: المحكمات: الناسخات والحلال والحرام، والمتشابهات المنسوخات والمقدّم والمؤخر، وهو تمثيل لما قلنا هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ أي عمدة ما فيه ومعظمه فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ نزلت في نصارى نجران فإنهم قالوا للنبي صلّى الله عليه واله وسلّم: أليس في كتابك أن عيسى كلمة الله وروح منه؟ قال: نعم، قالوا: فحسبنا إذا، فهذا من المتشابه الذي اتبعوه، وقيل: نزلت في أبي ياسر بن أخطب اليهودي وأخيه حيي ثم يدخل في ذلك كل كافر أو مبتدع، أو جاهل يتبع المتشابه من القرآن ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ أي ليفتنوا به الناس وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ أي: يبتغون أن يتأوّلوه على ما تقتضي مذاهبهم، أو يبتغون أن يصلوا من معرفة تأويله إلى ما لا يصل إليه مخلوق وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ إخبار بانفراد الله بعلم تأويل المتشابه من القرآن، وذم لمن طلب علم ذلك من الناس وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مبتدأ مقطوع مما قبله، والمعنى أن الراسخين لا يعلمون تأويل المتشابه وإنما يقولون: آمنا به على وجه التسليم والانقياد والاعتراف بالعجز عن معرفته، وقيل: إنه معطوف على ما قبله، وأن المعنى أنهم يعلمون تأويله، وكلا القولين مروي عن ابن عباس، والقول الأول قول أبي بكر الصديق وعائشة، وعروة بن الزبير، وهو أرجح، وقال ابن عطية: المتشابه نوعان نوع انفرد الله بعلمه، ونوع يمكن وصول الخلق إليه. فيكون الراسخون ابتداء بالنظر إلى الأول، وعطفا بالنظر إلى الثاني كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا أي: المحكم والمتشابه من عند الله رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا حكاية عن الراسخين، ويحتمل أن يكون منقطعا على وجه التعليم والأوّل أرجح لاتصال الكلام، وأما قوله: وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ: فهو من كلام الله تعالى، لا حكاية قول الراسخين. إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ استدلال على البعث، ويحتمل أن يكون من تمام كلام الراسخين. أو منقطعا فهو من كلام الله كَدَأْبِ في موضع رفع أي دأب هؤلاء كدأب آلِ فِرْعَوْنَ وفي ذلك تهديد وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ عطف على آل فرعون، ويعني بهم قوم نوح وعاد وثمود وغيرهم، والضمير عائد على آل فرعون بِآياتِنا البراهين أو الكتاب سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ قرئ بتاء الخطاب ليهود المدينة، وقيل لكفار قريش، وقرئ «1» بالياء إخبارا عن

_ (1) . قرأ حمزة والكسائي: سيغلبون ويحشرون بالياء والباقون بالتاء.

[سورة آل عمران (3) : آية 13]

يهود المدينة، وقيل: عن قريش وهو صادق على كل قول، أما اليهود فغلبوا يوم قريظة والنضير وقينقاع، وأما قريش ففي بدر وغيرها. والأشهر أنها في بني قينقاع لأن رسول الله صلّى الله عليه واله وسلّم دعاهم إلى الإسلام بعد غزوة بدر، فقالوا له: لا يغرنك أنك قتلت نفرا من قريش لا يعرفون القتال فلو قاتلتنا لعرفت أنا نحن الناس، فنزلت الآية. ثم أخرجهم رسول الله صلّى الله عليه واله وسلّم من المدينة قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ قيل: خطاب للمؤمنين وقيل: لليهود، وقيل: لقريش والأول أرجح أنه لبني قينقاع الذين قيل لهم: ستغلبون. ففيه تهديد لهم وعبرة كما جرى لغيرهم فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا فِئَةٌ المسلمون والمشركون يوم بدر يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ قرئ: ترونهم بالتاء «1» خطابا لمن خوطب بقوله: قد كان لكم آية. والمعنى: ترون الكفار مثلي المؤمنين. ولكن الله أيد المسلمين بنصره على قدر عددهم، وقرئ بالياء. والفاعل في يرونهم المؤمنون، والمفعول به هم المشركون. والضمير في مثليهم للمؤمنين والمعنى على حسب ما تقدم. فإن قيل: إنّ الكفار كانوا يوم بدر أكثر من المسلمين فالجواب من وجهين أحدهما: أن الكفار كانوا ثلاثة أمثال المؤمنين، لأن الكفار كانوا قريبا من ألف، والمؤمنون ثلاثمائة وثلاثة عشر. ثم إنّ الله تعالى قلّل عدد الكفار في أعين المؤمنين حتى حسبوا أنهم مثلهم مرتين، ليتجاسروا على قتالهم، إذا ظهر لهم أنهم على ما أخبروا به من قتال الواحد للإثنين من قوله: فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ [الأنفال: 66] ، وهذا المعنى موافق لقوله تعالى: وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا [الأنفال: 44] ، والآخر أنه رجع قوم من الكفار حتى بقي منهم ستمائة وستة وعشرون رجلا، وذلك قدر عدد المسلمين مرتين، وقيل: إنّ الفاعل في يرونهم ضمير المشركين، والمفعول ضمير المؤمنين. وأن الضمير في مثليهم يحتمل أن يكون للمؤمنين والمفعول للمشركين. والمعنى على هذا أن الله كثر عدد المسلمين في أعين المشركين حتى حسب الكفار المؤمنين مثلي الكافرين أو مثلي المؤمنين. وهم أقل من ذلك وإنما كثرهم الله في أعينهم ليرهبوهم، ويرد هذا قوله تعالى، ويقللكم في أعينهم رَأْيَ الْعَيْنِ نصب على المصدرية، ومعناه معاينة ظاهرة لا شك فيها وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ أي أن النصر بمشيئة الله لا بالقلة ولا بالكثرة، فإن فئة المسلمين غلبت فئة الكافرين مع أنهم كانوا أكثر منهم زُيِّنَ لِلنَّاسِ قيل: المزين هو الله وقيل الشيطان. ولا تعارض بينهما فتزيين الله بالإيجاد والتهيئة للانتفاع، وإنشاء الجبلة على الميل إلى الدنيا. وتزيين الشيطان بالوسوسة والخديعة وَالْقَناطِيرِ جمع قنطار «2» ، وهو ألف ومائتا أوقية، وقيل: ألف

_ (1) . وهي قراءة نافع. (2) . القنطار 1200 أوقية. الأوقية: 40 درهما، الدرهم: 4 غرامات تقريبا:

[سورة آل عمران (3) : الآيات 20 إلى 26]

ومائتا مثقال، وكلاهما مروي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم الْمُقَنْطَرَةِ مبنية من لفظ القناطير وللتأكيد كقولهم: ألوف مؤلفة، وقيل: المضروبة دنانير أو دراهم الْمُسَوَّمَةِ الراعية من قولهم: سام الفرس وغيره إذا جال في المسارح، وقيل: المعلمة في وجوهها شيات فهي من السمات بمعنى العلامات وقيل: المعدة للجهاد ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا تحقير لها ليزهد فيها الناس قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ تفضيل للآخرة على الدنيا ليرغب فيها. وتمام الكلام في قوله: من ذلكم ثم ابتدأ قوله: لِلَّذِينَ اتَّقَوْا تفسيرا لذلك، فجنات على هذا مبتدأ وخبره لِلَّذِينَ اتَّقَوْا، وقيل: إن قوله لِلَّذِينَ اتَّقَوْا متعلق بما قبله. وتمام الكلام في قوله: عند ربهم، فجنات على هذا خبر مبتدأ مضمر وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ زيادة إلى نعيم الجنة، وهو أعظم من النعيم حسبما ورد في الحديث «1» الَّذِينَ يَقُولُونَ نعت للذين اتقوا، ورفع بالابتداء، أو نصب بإضمار فعل الصَّادِقِينَ في الأقوال والأفعال وَالْقانِتِينَ العابدين والمطيعين وَالْمُسْتَغْفِرِينَ الاستغفار هو طلب المغفرة قيل لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم: كيف نستغفر؟ فقال: قولوا اللهم اغفر لنا وارحمنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم بِالْأَسْحارِ جمع سحر وهو آخر الليل يقال: إنه الثلث الأخير، وهو الذي ورد أن الله يقول حينئذ: «من يستغفرني فأغفر له» شَهِدَ اللَّهُ الآية: شهادة من الله سبحانه لنفسه بالوحدانية وقيل: معناها إعلامه لعباده بذلك وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ عطف على اسم الله أي هم شهداء بالوحدانية، ويعني بأولي العلم: العارفين بالله الذين يقيمون البراهين على وحدانيته قائِماً منصوب على الحال من اسم الله أو من هو أو منصوب على المدح بِالْقِسْطِ بالعدل لا إِلهَ إِلَّا هُوَ إنما كرر التهليل لوجهين: أحدهما: أنه ذكر أولا الشهادة بالوحدانية، ثم ذكرها ثانيا بعد ثبوتها بالشهادة المتقدمة، والآخر: أن ذلك تعليم لعباده ليكثروا من قولها إِنَّ الدِّينَ بكسر الهمزة ابتداء، وبفتحها بدل من أنه، وهو بدل شيء من شيء، لأن التوحيد هو الإسلام وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ الآية: إخبار أنهم اختلفوا بعد معرفتهم بالحقائق من أجل البغي، وهو الحسد، والآية في اليهود، وقيل: في النصارى، وقيل: فيهما سَرِيعُ الْحِسابِ قد تقدّم معناه في البقرة وهو هنا تهديد، ولذلك وقع في جواب من يكفر فَإِنْ حَاجُّوكَ أي جادلوك في الدين،

_ (1) . رواه مسلم في كتاب صلاة المسافرين من حديث أبي هريرة وأدلة: ينزل ربنا ... 521/ 1.

والضمير لليهود ونصارى نجران أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ أي أخلصت نفسي وجملتي لِلَّهِ وعبّر بالوجه على الجملة ومعنى الآية: إقامة الحجة عليهم لأن من أسلم وجهه لله فهو على الحق بلا شك، فسقطت حجة من خالفه وَمَنِ اتَّبَعَنِ عطف على التاء في أسلمت ويجوز أن يكون مفعولا معه أَأَسْلَمْتُمْ تقرير بعد إقامة الحجة عليهم أي: قد جاءكم من البراهين ما يقتضي أن تسلموا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ أي: إنما عليك أن تبلغ رسالة ربك، فإذا أبلغتها فقد فعلت ما عليك، وقيل: إن فيها موادعة نسختها آية السيف إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ الآية: نزلت في اليهود والنصارى توبيخا لهم، ووعيدا على قبح أفعالهم، وأفعال أسلافهم الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ هم اليهود، والكتاب هنا التوراة، أو جنس يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللَّهِ قال ابن عباس: دخل رسول الله صلّى الله عليه واله وسلّم على جماعة من اليهود فيهم النعمان بن عمرو والحارث بن زيد، فقالوا له على أي دين أنت؟ فقال لهم: على دين إبراهيم، فقالوا: إنّ إبراهيم كان يهوديا، فقال لهم رسول الله صلّى الله عليه واله وسلّم: فهلمّوا إلى التوراة فهي بيننا وبينكم، فأبوا عليه فنزلت الآية، فكتاب الله على هذا التوراة، وقيل: هو القرآن: كان النبي صلّى الله عليه واله وسلّم يدعوهم إليه فيعرضون عنه ذلِكَ بِأَنَّهُمْ الإشارة إلى إعراضهم عن كتاب الله والباء سببية: والمعنى أن كفرهم بسبب اعتراضهم وأكاذيبهم، والأيام المعدودات قد ذكرت في البقرة فَكَيْفَ إِذا جَمَعْناهُمْ أي: كيف يكون حالهم يوم القيامة، والمعنى: تهويل واستعظام لما أعدّ لهم اللَّهُمَّ منادى، والميم فيه عوض من حرف النداء عند البصريين، ولذلك لا يجتمعان، وقال الكوفيون: أصله يا الله أمّنا بخير فالميم عندهم من أمّنا مالِكَ الْمُلْكِ منادى عند سيبويه، وأجاز الزجاج أن يكون صفة لاسم الله وقيل إنّ الآية نزلت ردّا على النصارى في قولهم: إنّ عيسى هو الله «لأن هذه الأوصاف ليست لعيسى، وقيل: لما أخبر النبي صلّى الله عليه وسلّم أن أمته يفتحون ملك كسرى وقيصر: استبعد ذلك المنافقون، فنزلت الآية بِيَدِكَ الْخَيْرُ قيل: المراد بيدك الخير والشر، فحذف أحدهما لدلالة الآخر عليه، وقيل: إنما خص الخير بالذكر، لأنّ الآية في معنى دعاء ورغبة

[سورة آل عمران (3) : الآيات 27 إلى 32]

فكأنه يقول: بيدك الخير فأجزل حظي منه تُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ قال عبد الله بن مسعود: هي النطفة تخرج من الرجل ميتة وهو حي، ويخرج الرجل منها حيا وهي ميتة، وقال عكرمة: هي إخراج الدجاجة من البيضة، والبيضة من الدجاجة، وقيل: يخرج الكافر من المؤمن والمؤمن من الكافر، فالحياة والموت على هذا استعارة، وفي ذكر الحي من الميت المطابقة، وهي من أدوات البيان، وفيه أيضا القلب لأنه قدم الحيّ على الميت، ثم عكس بِغَيْرِ حِسابٍ بغير تضييق وقيل: بغير محاسبة لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الآية. عامة في جميع الأعصار، وسببها ميل بعض الأنصار إلى بعض اليهود، وقيل: كتاب حاطب إلى مشركي قريش فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ تبرؤ ممن فعل ذلك، ووعيد على موالاة الكفار، وفي الكلام حذف تقديره: ليس من التقرب إلى الله في شيء، وموضع في شيء نصب على الحال من الضمير في ليس من الله، قاله ابن عطية إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ إباحة لموالاتهم إن خافوا منهم، والمراد موالاة في الظاهر مع البغضاء في الباطن تُقاةً وزنه فعلة بضم الفاء وفتح العين. وفاؤه واو، وأبدل منها تاء، ولامه ياء أبدل منها ألف، وهو منصوب على المصدرية، ويجوز أن ينصب على الحال من الضمير في تتقوا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ تخويف يَوْمَ تَجِدُ منصوب على الظرفية، والعامل فيه فعل مضمر تقديره: أذكروا أو خافوا وقيل: العامل فيه قدير، وقيل: المصير، وقيل: يحذركم وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ مبتدأ خبره تودّ، أو معطوف أَمَداً أي مسافة وَاللَّهُ رَؤُفٌ ذكر بعد التحذير تأنيسا لئلا يفرط [في] الخوف، أو لأن التحذير والتنبيه رأفة فَاتَّبِعُونِي جعل اتباع النبي صلّى الله عليه وسلّم علامة على محبة العبد لله تعالى وشرط في محبة الله للعبد ومغفرته له، وقيل إنّ الآية خطاب لنصارى نجران ومعناها على العموم في جميع الناس إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى الآية: لما مضى صدر من محاجة نصارى نجران أخذ يبين لهم ما اختلفوا فيه، وأشكل عليهم من أمر عيسى عليه السلام، وكيفية ولادته وبدأ بذكر آدم ونوح عليهما السلام تكميلا للأمر لأنهما أبوان لجميع الأنبياء، ثم ذكر إبراهيم تدريجا إلى ذكر عمران والد مريم أم عيسى عليه السلام، وقيل: إنّ عمران هنا هو والد موسى، وبينهما ألف وثمانمائة سنة، والأظهر أن المراد هنا والد مريم، لذكر قصتها بعد ذلك

[سورة آل عمران (3) : الآيات 37 إلى 40]

آلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ يحتمل أن يريد بآل: القرابة، أو الأتباع، وعلى الوجهين يدخل نبينا محمد صلّى الله عليه وسلّم في آل إبراهيم ذُرِّيَّةً بدل مما تقدم أو حال ووزنه فعلية منسوب إلى الذر أي النمل. لأن الله تعالى أخرج الخلق من صلب آدم كالذر، إِذْ قالَتِ العامل فيه محذوف تقديره: اذكروا، وقيل: عليم، وقال الزجّاج: العامل فيه معنى الاصطفاء امْرَأَتُ عِمْرانَ اسمها حنة بالنون، وهي أم مريم، وعمران هذا هو والد مريم نَذَرْتُ أي: جعلت نذرا عليّ أن يكون هذا الولد في بطني حبسا على خدمة بيتك، وهو بيت المقدس مُحَرَّراً أي عتيقا من كل شغل إلّا خدمة المسجد فَلَمَّا وَضَعَتْها الآية. كانوا لا يحررون الإناث للقيام بخدمة المساجد، فقالت: إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى تحسرا وتلهفا على ما فاتها من النذر الذي نذرت وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ قرئ وضعت بإسكان التاء وهو من كلام الله تعظيما لوضعها وقرئ بضم التاء «1» وإسكان العين وهو على هذا من كلامها وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى يحتمل أن يكون من كلام الله، فالمعنى ليس الذكر الذي طلبت كالأنثى التي وهبت لك، وأن يكون من كلامها فالمعنى: ليس الذكر كالأنثى في خدمة المساجد لأن الذكور كانوا يخدمونها دون الإناث سَمَّيْتُها مَرْيَمَ إنما قالت لربها سميتها مريم لأن مريم في لغتهم بمعنى العابدة، فأرادت بذلك التقرب إلى الله، ويؤخذ من هذا تسمية المولود يوم ولادته، وامتنع مريم من الصرف للتعريف والتأنيث، وفيه أيضا العجمة وَإِنِّي أُعِيذُها بِكَ ورد في الحديث «ما من مولود إلّا نخسه الشيطان يوم ولد فيستهل صارخا إلّا مريم وابنها» «2» ، لقوله: وإني أعيذها بك: الآية فَتَقَبَّلَها رَبُّها أي رضيها للمسجد مكان الذكر بِقَبُولٍ حَسَنٍ فيه وجهان: أحدهما: أن يكون مصدرا على غير المصدر، والآخر: أن يكون اسما لما يقبل به كالسعوط اسم لما يسعط به وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً عبارة عن حسن النشأة وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا «3» أي ضمها إلى إنفاقه وحضانته، والكافل هو الحاضن، وكان زكريا زوج خالتها، وقرئ كفلها بتشديد الفاء، ونصب زكريا: أي جعله الله كافلها الْمِحْرابَ في اللغة: أشرف المجالس، وبذلك سمي موضع الإمام، ويقال: إنّ زكريا بنى لها غرفة في المسجد، وهي المحراب هنا، وقيل: المحراب موضع العبادة وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً كان يجد عندها فاكهة الشتاء في الصيف وفاكهة

_ (1) . هي قراءة ابن عامر وأبو بكر والباقون سكون التاء. (2) . أخرجه أحمد في مسنده عن أبي هريرة ج 2 ص 362. (3) . وكفلها: بدون تشديد الفاء حسب قراءة المؤلف وهي قراءة نافع وغيره وقرأ عاصم وحمزة والكسائي بالتشديد.

[سورة آل عمران (3) : الآيات 41 إلى 44]

الصيف في الشتاء، ويقال: إنها لم ترضع ثديا قط، وكان الله يرزقها أَنَّى لَكِ هذا إشارة إلى مكان أي: كيف ومن أين؟ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ يحتمل أن يكون من كلام مريم أو من كلام الله تعالى هُنالِكَ إشارة إلى مكان، وقد يستعمل في الزمان، وهو الأظهر هنا أي: لما رأى زكريا كرامة الله تعالى لمريم: سأل من الله الولد فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ أنث رعاية للجماعة، وقرئ فناداه بالألف «1» على التذكير، وقيل: الذي ناداه جبريل وحده وإنما قيل الملائكة: لقولهم: فلان يركب الخيل، أي جنس الخيل وإن كان فرسا واحدا يحيى اسم سماه الله تعالى به قبل أن يولد، وهو اسم بالعبرانية صادف اشتقاقا وبناء في العربية، وهو لا ينصرف، فإن كان في الإعراب أعجميا ففيه التعريف والعجمة، وإن كان عربيا فالتعريف ووزن الفعل مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ أي مصدقا بعيسى عليه السلام مؤمنا به، وسمي عيسى كلمة الله، لأنه لم يوجد إلّا بكلمة الله وحدها وهي قوله: كن لا بسبب آخر وهو الوالد كسائر بني آدم وَسَيِّداً السيد، الذي يسود قومه أي يفوقهم في الشرف والفضل وَحَصُوراً أي لا يأتي النساء فقيل: خلقه الله كذلك، وقيل: كان يمسك نفسه، وقيل: الحصور الذي لا يأتي الذنوب أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ تعجّب استبعاد أن يكون له ولد مع شيخوخته، وعقم امرأته، ويقال: كان له تسع وتسعون سنة، ولامرأته ثمان وتسعون سنة، وفاستبعد ذلك في العادة، مع علمه بقدرة الله تعالى على ذلك، فسأله مع علمه بقدرة الله، واستبعده لأنه نادر في العادة، وقيل: سأله وهو شاب، وأجيب وهو شيخ، ولذلك استبعده كَذلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ أي مثل هذه الفعلة العجيبة، يفعل الله ما يشاء فالكاف لتشبيه أفعال الله العجيبة بهذه الفعلة، والإشارة بذلك إلى هبة الولد لزكريا، واسم الله مرفوع بالابتداء، أو كذلك خبره فيجب وصله معه، وقيل: الخبر يفعل الله ما يشاء، ويحتمل كذلك على هذا وجهين: أحدهما: أن يكون في موضع الحال من فاعل يفعل، والآخر: أن يكون في موضع خبر مبتدأ محذوف تقديره: الأمر كذلك، أو أنتما كذلك، وعلى هذا يوقف على كذلك والأول أرجح لاتصال الكلام، وارتباط قوله: يفعل ما يشاء مع ما قبله، ولأن له نظائر كثيرة في القرآن منها قوله: كَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ [هود: 102] اجْعَلْ لِي آيَةً أي: علامة على حمل المرأة آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ أي علامتك أن

_ (1) . قرأ حمزة والكسائي فناداه بألف مع الإمالة.

[سورة آل عمران (3) : الآيات 45 إلى 51]

لا تقدر على كلام الناس ثَلاثَةَ أَيَّامٍ بمنع لسانه عن ذلك مع إبقاء الكلام بذكر الله، ولذلك قال: وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً وإنما حبس لسانه عن الكلام تلك المدة ليخلص فيها لذكر الله شكرا على استجابة دعائه ولا يشغل لسانه بغير الشكر والذكر إِلَّا رَمْزاً إشارة باليد أو بالرأس أو غيرهما، فهو استثناء منقطع بِالْعَشِيِّ من زوال الشمس إلى غروبها، والإبكار من طلوع الفجر إلى الضحى. وَإِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ اختلف، هل المراد جبريل أو جمع من الملائكة؟ والعامل في إذ مضمر اصْطَفاكِ أولا حين تقبلك من أمك وَطَهَّرَكِ من كل عيب في خلق وخلق ودين وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ يحتمل أن يكون هذا الاصطفاء مخصوصا بأن وهب لها عيسى من غير أب، فيكون على نساء العالمين عاما، أو يكون الاصطفاء عاما فيخص من نساء العالمين خديجة وفاطمة، أو يكون المعنى: على نساء زمانها وقد قيل: بتفضيلها على الإطلاق، وقيل: إنها كانت نبية لتكليم الملائكة لها اقْنُتِي القنوت هنا بمعنى الطاعة والعبادة، وقيل: طول القيام في الصلاة وهو قول الأكثرين وَاسْجُدِي وَارْكَعِي أمرت بالصلاة فذكر القنوت والسجود لكونها من هيئة الصلاة وأركانها، ثم قيل لها: اركعي مع الراكعين بمعنى: ولتكن صلاتك مع المصلين، أو في الجماعة فلا يقتضي الكلام على هذا تقديم السجود على الركوع، لأنه لم يرد الركوع والسجود المنضمين في ركعة واحدة، وقيل أراد ذلك، وقدم السجود لأن الواو لا ترتب، ويحتمل أن تكون الصلاة في ملتهم بتقديم السجود على الركوع ذلِكَ إشارة إلى ما تقدم من القصص وهو خطاب للنبي صلّى الله عليه وسلّم ما كُنْتَ لَدَيْهِمْ احتجاجا على نبوته صلّى الله عليه وسلّم لكونه أخبر بهذه الأخبار وهو لم يحضر معهم يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أي أزلامهم، وهي قداحهم، وقيل: الأقلام التي كانوا يكتبون بها التوراة اقترعوا بها على كفالة مريم، حرصا عليها وتنافسا في كفالتها، وتدل الآية على جواز القرعة، وقد ثبتت أيضا من السنة أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ مبتدأ وخبر في موضع نصب بفعل تقديره: ينظرون أيهم يَخْتَصِمُونَ يختلفون فيمن يكفلها منهم إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ إذ بدل من إذ قالت، أو من إذ يختصمون، والعامل فيه مضمر اسْمُهُ أعاد الضمير المذكر على الكلمة، لأن المسمى بها ذكر الْمَسِيحُ قيل: هو مشتق من ساح في الأرض، فوزنه مفعل، وقال الأكثرون: من مسح لأنه مسح بالبركة فوزنه فعيل وإنما قال: عيسى ابن مريم والخطاب لمريم لينسبه إليها، إعلاما بأنه يولد من غير والد وَجِيهاً نصب على الحال، ووجاهته في الدنيا النبوة والتقديم على الناس، وفي الآخرة

الشفاعة وعلوّ الدرجة في الجنة فِي الْمَهْدِ في موضع الحال، وَكَهْلًا عطف عليه، والمعنى أنه يكلم الناس صغيرا آية تدل على براءة أمّه مما قذفها به اليهود، وتدل على نبوته، ويكلمهم أيضا كبيرا ففيه إعلام بعيشه إلى أن يبلغ سن الكهولة، وأوله: ثلاث وثلاثون سنة وقيل: أربعون وَيُعَلِّمُهُ عطف على يبشرك أو ويكلم الْكِتابَ هنا جنس، وقيل الخط باليد، والحكمة هنا العلوم الدينية، أو الإصابة في القول والفعل وَرَسُولًا حال معطوف على ويعلمه إذ التقدير: ومعلما الكتاب أو يضمر له فعل تقديره أرسل رسولا أو جاء رسولا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ أي أرسل إليهم عيسى عليه السلام مبينا لحكم التوراة أَنِّي تقديره بأني أَخْلُقُ بفتح الهمزة بدل من أني الأولى، أو من آية وبكسرها ابتداء كلام فَأَنْفُخُ فِيهِ ذكر هنا الضمير لأنه يعود على الطين، أو على الكاف من كهيئة، وأنث في المائدة «1» لأنه يعود على الهيئة فَيَكُونُ طَيْراً قيل: إنه لم يخلق غير الخفاش، وقرئ طيرا بياء ساكنة على الجمع، وبالألف وهمزة طائرا على الإفراد، ذكر بإذن الله: رفعا لوهم من توهم في عيسى الربوبية وَأُبْرِئُ روي أنه كان يجتمع إليه جماعة من العميان والبرصاء فيدعو لهم فيبرءون وَأُحْيِ الْمَوْتى روي أنه كان يضرب بعصاه الميت أو القبر فيقوم الميت ويكلمه، وروي أنه أحيى سام بن نوح وَأُنَبِّئُكُمْ كان يقول: يا فلان أكلت كذا وادخرت في بيتك كذا وَمُصَدِّقاً عطف على رسولا أو على موضع بآية من ربكم، لأنه في موضع الحال، وهو أحسن لأنه من جملة كلام عيسى فالتقدير: جئتكم بآية من ربكم، وجئتكم مصدقا وَلِأُحِلَّ لَكُمْ عطف على بآية من ربكم، وكانوا قد حرم عليهم الشحم ولحم الإبل وأشياء من الحيتان «2» والطير فأحل لهم عيسى بعض ذلك إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ ردّ على من نسب الربوبية لعيسى وانتهى كلام عيسى عليه السلام إلى قوله: صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ وابتداؤه من قوله: أني قد جئتكم، وكل ذلك يحتمل أن يكون مما

_ (1) . فتنفخ فيها وهنا قال: فيه. (2) . الحيتان المراد بها الأسماك عموما.

[سورة آل عمران (3) : الآيات 52 إلى 58]

ذكرت الملائكة لمريم، حكاية عن عيسى عليه السلام أنه سيقوله، ويحتمل أن يكون خطاب مريم قد انقطع ثم استؤنف الكلام من قوله ورسولا، على تقدير جاء عيسى رسولا: بأني قد جئتكم بآية من ربكم، ثم استمر كلامه إلى آخره فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسى أي علم علما ظاهرا كعلم ما يدرك بالحواس مَنْ أَنْصارِي طلب للنصرة، والأنصار جمع ناصر إِلَى اللَّهِ تقديره: من يضيف أنفسهم «1» في نصرتي إلى الله فلذلك قيل: إلى هنا بمعنى مع أو يتعلق بمحذوف تقديره ذاهبا أو ملتجئا إلى الله الْحَوارِيُّونَ حواري الرجل صفوته وخاصته، ولذلك قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لكل نبيّ حواريّ وإن حواريّ الزبير» «2» وقيل: إنّ الحواريين كانوا قصارين يحورون الثياب، أي: يبيضونها ولذلك سماهم الحواريين بِما أَنْزَلْتَ يريدون الإنجيل، والرسول هنا عيسى عليه السلام مَعَ الشَّاهِدِينَ أي مع الذين يشهدون بالحق من الأمم، وقيل: مع أمة محمد صلّى الله عليه وسلّم لأنهم يشهدون على الناس وَمَكَرُوا الضمير لكفار بني إسرائيل ومكرهم أنهم وكلوا بعيسى من يقتله غيلة وَمَكَرَ اللَّهُ أي رفع عيسى إلى السماء، وألقى شبهه على من أراد اغتياله حتى قتل عوضا منه «3» ، وعبر عن فعل الله بالمكر مشاكلة لقوله مكروا وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ أي أقواهم وهو فاعل ذلك بحق، والماكر من البشر فاعل بالباطل إِذْ قالَ اللَّهُ العامل فيه فعل مضمر، أو يمكر إِنِّي مُتَوَفِّيكَ قيل: وفاة موت، ثم أحياه الله في السماء، وقيل: رفع حيا، ووفاة الموت بعد أن ينزل إلى الأرض فيقتل الدجال، وقيل: يعني وفاة نوم وقيل: المعنى قابضك من الأرض إلى السماء وَرافِعُكَ إِلَيَّ أي إلى السماء وَمُطَهِّرُكَ أي من سوء جوارهم الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ هم المسلمون، وعلوهم على الكفرة بالحجة وبالسيف في غالب الأمر وقيل: الذين اتبعوك النصارى، والذين كفروا اليهود، فالآية مخبرة عن عزة النصارى على اليهود وإذلالهم لهم ذلِكَ نَتْلُوهُ إشارة إلى ما تقدم من الأخبار مِنَ الْآياتِ المتلوّات أو المعجزات الذِّكْرِ القرآن الْحَكِيمِ الناطق بالحكمة.

_ (1) . قوله: يضيف أنفسهم: يبدو في الكلام نقص أو خطأ. (2) . أخرجه أحمد في مسنده عن جابر بن عبد الله ج 3 ص 464. (3) . ذكر المؤلف في تفسير الآية 58 من سورة النساء قولا آخر هو أرجح من هذا فانظره هناك. [.....]

[سورة آل عمران (3) : الآيات 59 إلى 67]

إِنَّ مَثَلَ عِيسى الآية حجة على النصارى في قولهم: كيف يكون ابن دون أب، فمثّله الله بآدم الذي خلقه الله دون أم ولا أب، وذلك أغرب مما استبعدوه، فهو أقطع لقولهم خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ تفسير لحال آدم فيكون حكاية عن حال ماضية، والأصل لو قال: خلقه من تراب، ثم قال له كن فكان، لكنه وضع المضارع موضع الماضي ليصور في نفوس المخاطبين أن الأمر كأنه حاضر دائم الْحَقُّ خبر مبتدأ مضمر فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ أي في عيسى، وكان الذي حاجه فيه وفد نجران من النصارى، وكان لهم سيدان يقال لأحدهما: السيد، والآخر، العاقب نَبْتَهِلْ نلتعن والبهلة اللعنة أي نقول: لعنة الله على الكاذب منا ومنكم، هذا أصل الابتهال: ثم استعمل في كل دعاء يجتهد فيه، وإن لم يكن لعنة، ولما نزلت الآية أرسل رسول الله صلّى الله عليه واله وسلّم إلى علي وفاطمة والحسن والحسين، ودعا نصارى نجران إلى الملاعنة فخافوا أن يهلكهم الله أو يمسخهم الله قردة وخنازير، فأبوا من الملاعنة وأعطوا الجزية قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ خطاب لنصارى نجران، وقيل: اليهود سَواءٍ أي عدل ونصف أَلَّا نَعْبُدَ بدل من كلمة أو رفع على تقدير هي، ودعاهم صلّى الله تعالى عليه وعلى اله وسلّم إلى توحيد الله وترك ما عبدوه من دونه كالمسيح والأحبار والرهبان لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ قالت اليهود: كان إبراهيم يهوديا وقالت النصارى: كان نصرانيا، فنزلت الآية ردّا عليهم لأن ملة اليهود والنصارى إنما وقعت بعد موت إبراهيم بمدة طويلة ها أَنْتُمْ ها تنبيه، وقيل: بدل من همزة الاستفهام، وأنتم مبتدأ وهؤلاء خبره وحاججتم استئناف أو هؤلاء منصوب على التخصيص وحاججتم الخبر فِيما لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فيما نطقت به التوراة والإنجيل فِيما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ ما تقدم على ذلك من حال إبراهيم ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا ردّ على اليهود والنصارى وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ نفي للإشراك الذي هو عبادة الأوثان، ودخل في ذلك الإشراك الذي

[سورة آل عمران (3) : الآيات 68 إلى 74]

يتضمن دين اليهود والنصارى وَهذَا النَّبِيُّ عطف على الذين اتبعوه: أي محمد صلّى الله عليه وسلّم أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لأنه على دينه وَالَّذِينَ آمَنُوا أمة محمد صلّى الله عليه وسلّم وَدَّتْ طائِفَةٌ هم اليهود، دعوا حذيفة وعمارا ومعاذا إلى اليهودية وَما يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ أي لا يعود وبال الإضلال إلّا عليهم وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ أي تعلمون أن محمدا صلّى الله عليه وسلّم نبي لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ أي تخلطون: والحق نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم والباطل الكفر به آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ كان قوم من اليهود لعنهم الله أظهروا الإسلام أول النهار، ثم كفروا آخره ليخدعوا المسلمين فيقولوا: ما رجع هؤلاء إلّا عن علم، وقال السهيلي: إنّ هذه الطائفة هم عبد الله بن الصيف، وعدي بن زيد، والحارث بن عوف أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ يحتمل أن يكون من تمام الكلام الذي أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يقوله متصلا بقوله: إنّ الهدى هدى الله وأن يكون من كلام أهل الكتاب فيكون متصلا بقولهم: وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ، ويكون إنّ الهدى اعتراضا بين الكلامين، فعلى الأول يكون المعنى: كراهة أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم وقلتم ما قلتم، ودبرتم ما دبرتم من الخداع، فموضع أن يؤتى مفعول من أجله، أو منصوب بفعل مضمر تقديره: فلا تنكروا أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم من الكتاب والنبوة، وعلى الثاني فيكون المعنى. لا تؤمنوا أي لا تقروا بأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ واكتموا ذلك على من لم يتبع دينكم لئلا يدعوهم إلى الإسلام، فموضع أن يؤتى مفعول بتؤمنوا المضمن معنى تقروا، ويمكن أن يكون في موضع المفعول من أجله: أي لا تؤمنوا إلّا لمن تبع دينكم كراهية أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم أَوْ يُحاجُّوكُمْ عطف على أن يؤتى، وضمير الفاعل للمسلمين، وضمير المفعول لليهود إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ ردّ على اليهود في قولهم: لم يؤت أحدا مثل ما أوتي بنو إسرائيل من النبوة والشرف وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ الآية: إخبار أن أهل الكتاب على قسمين: أمين، وخائن. وذكر القنطار مثالا للكثير فمن أدّاه: أدّى ما دونه، وذكر الدينار مثالا للقليل، فمن منعه منع ما فوقه بطريق الأولى قائِماً يحتمل أن يكون من القيام الحقيقي بالجسد، أو من القيام بالأمر، وهو

[سورة آل عمران (3) : الآيات 81 إلى 88]

العزيمة عليه ذلِكَ بِأَنَّهُمْ الإشارة إلى خيانتهم والباء للتعليل لَيْسَ عَلَيْنا زعموا: بأنّ أموال الأمّيين وهم العرب حلال لهم الْكَذِبَ هنا قولهم، إنّ الله أحلها عليهم في التوراة، أو كذبهم على الإطلاق بَلى عليهم سبيل وتباعة ضمان في أموال الأمّيين بِعَهْدِهِ الضمير يعود على من أو على الله إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ الآية قيل: نزلت في اليهود لأنهم تركوا عهد الله في التوراة لأجل الدنيا، وقيل: نزلت بسبب خصومة بين الأشعث بن قيس وآخر، فأراد خصمه أن يحلف كاذبا وَإِنَّ مِنْهُمْ الضمير عائد على أهل الكتاب يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ أي يحرفون اللفظ أو المعنى لِتَحْسَبُوهُ الضمير يعود على ما دل عليه قوله: يلوون ألسنتهم، وهو الكلام المحرف. ما كانَ لِبَشَرٍ الآية: هذا النفي متسلط على ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ والمعنى: لا يدعي الربوبية من آتاه الله النبوّة، والإشارة إلى عيسى عليه السلام، ردّ على النصارى الذين قالوا: إنه الله، وقيل: إلى محمد صلّى الله عليه وسلّم، لأن اليهود قالوا يا محمد: تريد أن نعبدك كما عبدت النصارى عيسى؟ فقال: معاذ الله ما بذلك أمرت، ولا إليه دعوت رَبَّانِيِّينَ جمع رباني، وهو العالم، وقيل: الرباني الذي يربي الناس بصغار العلم قبل كباره «1» بِما كُنْتُمْ الباء سببية وما مصدرية تُعَلِّمُونَ بالتخفيف تعرفون. [وهي قراءة نافع وغيره] وقرئ بالتشديد من التعليم وَلا يَأْمُرَكُمْ بالرفع: استئناف، والفاعل الله أو البشر المذكور، وقرئ بالنصب «2» عطف على أن يؤتيه أو على ثم يقول، والفاعل على هذا البشر. وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ معنى الآية أنّ الله أخذ العهد والميثاق، على كل نبيّ أن يؤمن بمحمد صلّى الله عليه واله وسلّم، وينصره إن أدركه، وتضمن ذلك أخذ هذا الميثاق على أمم الأنبياء، واللام في قوله: لَما آتَيْتُكُمْ لام التوطئة، لأنّ أخذ الميثاق في

_ (1) . المقصود مسائل العلم وقضاياها الابتدائية ثم العالية بالتدريج. (2) . وهي قراءة عاصم وغيره.

معنى الاستخلاف، واللام في لتؤمنن جواب القسم، وما يحتمل أن تكون شرطية، ولتؤمنن سدّ مسدّ جواب القسم والشرط. وأن تكون موصولة بمعنى الذي آتيناكموه لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ والضمير في به ولتنصرنه عائد على الرسول أَأَقْرَرْتُمْ أي اعترفتم إِصْرِي عهدي فَاشْهَدُوا أي على أنفسكم وعلى أممكم بالتزام هذا العهد وَأَنَا مَعَكُمْ تأكيد للعهد بشهادة رب العزة جلّ جلاله بَعْدَ ذلِكَ أي من تولى عن الإيمان بهذا النبي صلّى الله عليه واله وسلّم بعد هذا الميثاق فهو فاسق مرتد متمرد في كفره أَفَغَيْرَ الهمزة للإنكار، والفاء عطفت جملة على جملة، وغير مفعول قدّم للاهتمام به أو للحصر وَلَهُ أَسْلَمَ أي انقاد واستسلم طَوْعاً وَكَرْهاً مصدر صدّر في موضع الحال، والطوع للمؤمنين والكره للكافر إذا عاين الموت، وقيل: عند أخذ الميثاق المتقدّم، وقيل: إقرار كل كافر بالصانع هو إسلامه كرها قُلْ آمَنَّا أمر النبيّ صلّى الله عليه واله وسلّم أن يخبر عن نفسه وعن أمّته بالإيمان وَما أُنْزِلَ عَلَيْنا تعدى هنا بَعْلِي مناسبة لقوله: قل، وفي البقرة بإلى لقوله: قولوا. لأنّ على حرف استعلاء يقتضي النزول من علو. ونزوله على هذا المعنى مختص بالنبي صلّى الله عليه واله وسلّم. وإلى حرف غاية وهو موصل إلى جميع الأمّة وَمَنْ يَبْتَغِ الآية: إبطال لجميع الأديان غير الإسلام، وقيل: نسخت: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالنَّصارى [البقرة: 62] الآية كَيْفَ سؤال، والمراد به هنا: استبعاد الهدى قَوْماً كَفَرُوا نزلت في الحرث بن سويد وغيره أسلموا ثم ارتدّوا ولحقوا بالكفار، ثم كتبوا إلى أهلهم هل لنا من توبة؟ فنزلة الآية إلى قوله: إلّا الذين تابوا، فرجعوا إلى الإسلام وقيل: نزلت في اليهود والنصارى شهدوا [ممن] بصفة النبي صلّى الله عليه واله وسلّم، وآمنوا به ثم كفروا به لما بعث، وشهدوا عطف على إيمانهم، لأنّ معناه بعد أن آمنوا، وقيل: الواو للحال، وقال ابن عطية: عطف على كفروا والواو لا ترتب وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ عموم بمعنى الخصوص في المؤمنين، أو على عمومه وتكون اللعنة في الآخرة خالِدِينَ فِيها الضمير عائد على اللعنة، وقيل: على النار وإن لم تكن ذكرت لأنّ

[سورة آل عمران (3) : الآيات 89 إلى 95]

المعنى يقتضيها ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً قيل: هم اليهود كفروا بعيسى بعد إيمانهم بموسى، ثم ازدادوا كفرا بكفرهم بمحمد صلّى الله عليه وسلّم. وقيل: كفروا بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم بعد أن كانوا مؤمنين قبل مبعثه، ثم ازدادوا كفرا بعداوتهم له وطعنهم عليه وقيل: هم الذين ارتدّوا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ قيل: ذلك عبارة عن موتهم على الكفر: أي ليس لهم توبة فتقبل، وذلك في قوم بأعيانهم ختم الله لهم بالكفر، وقيل: لن تقبل توبتهم مع إقامتهم على الكفر، فذلك عامّ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ جزم بالعذاب لكل من مات على الكفر. والواو في قوله: وَلَوِ افْتَدى بِهِ، قيل: زيادة وقيل: للعطف على محذوف، كأنه قال: لن يقبل من أحدهم لو تصدّق به ولو افتدى به وقيل: نفى أولا القبول جملة على الوجوه كلها، ثم خص الفدية بالنفي كقولك: أنا لا أفعل كذا أصلا ولو رغبت إليّ. لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ أي لن تكونوا من الأبرار، ولن تنالوا البر الكامل حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ من أموالكم ولما نزلت قال أبو طلحة: إنّ أحب أموالي إليّ بيرحاء، وإنها صدقة، وكان ابن عمر يتصدّق بالسكر ويقول: إني لأحبه. كُلُّ الطَّعامِ الآية إخبار أن الأطعمة كانت حلالا لبني إسرائيل إِلَّا ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ أبوهم يعقوب عَلى نَفْسِهِ وهو لحم الإبل ولبنها، ثم حرّمت عليهم أنواع من الأطعمة كالشحوم وغيرها، عقوبة لهم على معاصيهم، وفيها رد عليهم في قولهم: إنهم على ملة إبراهيم عليه السلام، وأن الأشياء التي هي محرمة كانت محرمة على إبراهيم، وفيها دليل على جواز النسخ ووقوعه لأن الله حرم عليهم تلك الأشياء بعد حلها، خلافا لليهود في قولهم: إنّ النسخ محال على هذه الأشياء، وفيها معجزة للنبي صلّى الله عليه وسلّم لإخباره بذلك من غير تعلم من أحد، وسبب تحريم إسرائيل لحوم الإبل على نفسه أنه مرض، فنذر إن شفاه الله. أن يحرم أحب الطعام إليه شكرا لله وتقرّبا إليه، ويؤخذ من ذلك أنه يجوز للأنبياء أن يحرموا على أنفسهم باجتهادهم فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ تعجيزا لليهود، وإقامة حجة عليهم، وروي أنهم لم يجسروا على إخراج التوراة فَمَنِ افْتَرى أي: من زعم بعد هذا البيان أن الشحم وغيره، كان محرما على بني إسرائيل قبل نزول التوراة فهو الظالم المكابر بالباطل صَدَقَ اللَّهُ أي الأمر كما وصف، لا كما تكذبون أنتم. ففيه تعريض بكذبهم فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ إلزام لهم أن يسلموا، كما ثبت أن ملة

[سورة آل عمران (3) : الآيات 96 إلى 97]

الإسلام هي ملة إبراهيم، التي لم يحرم فيها شيء مما هو محرم عليهم. إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ أي أول مسجد بني في الأرض، وقد سأل أبو ذر النبي صلّى الله عليه واله وسلّم، أي مسجد بني أول؟ قال: المسجد الحرام، ثم بيت المقدس «1» ، وقال عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه: المعنى أنه أول بيت وضع مباركا وهدى وقد كانت قبله بيوتا بِبَكَّةَ قيل: هي مكة والباء بدل من الميم، وقيل: مكة الحرم كله، وبكة المسجد وما حوله مُبارَكاً نصب على الحال والعامل فيه على قول عليّ: وضع مُبارَكاً على أنه حال من الضمير الذي فيه، وعلى القول الأول: هو حال من الضمير المجرور. والعامل فيه العامل المجرور من معنى الاستقرار فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ آيات البيت كثيرة. منها الحجر الذي هو مقام إبراهيم، وهو الذي قام عليه حين رفع القواعد من البيت، فكان كلما طال البناء ارتفع به الحجر في الهواء حتى أكمل البناء، وغرقت قدم إبراهيم في الحجر كأنها في طين، وذلك الأثر باق إلى اليوم، ومنها أن الطيور لا تعلوه، ومنها إهلاك أصحاب الفيل، ورد الجبابرة عنه، ونبع زمزم لهاجر أم إسماعيل بهمز جبريل بعقبه، وحفر عبد المطلب بعد دثورها وأن ماءها ينفع لما شرب له، إلى غير ذلك مَقامُ إِبْراهِيمَ قيل: إنه بدل من الآيات أو عطف بيان، وإنما جاز بدل الواحد من الجمع لأن المقام يحتوي على آيات كثيرة لدلالته على قدرة الله تعالى، وعلى نبوة إبراهيم وغير ذلك، وقيل: الآيات مقام إبراهيم، وأمن من دخله، فعلى هذا يكون قوله: ومن دخله عطفا، وعلى الأول استئنافا، وقيل: التقدير منهن مقام إبراهيم، فهو على هذا مبتدأ، والمقام هو الحجر المذكور، وقيل: البيت كله، وقيل: مكة كلها كانَ آمِناً أي آمنا من العذاب، فإنه كان في الجاهلية إذا فعل أحد جريمة ثم لجأ إلى البيت لا يطلب، ولا يعاقب، فأما في الإسلام فإنّ الحرم لا يمنع من الحدود، ولا من القصاص، وقال ابن عباس وأبو حنيفة: ذلك الحكم باق في الإسلام إلّا أن من وجب عليه حدّ أو قصاص فدخل الحرم لا يطعم ولا يباع منه حتى يخرج، وقيل: آمنا من النار. حِجُّ الْبَيْتِ بيان لوجوب الحج واختلف هل هو على الفور أو على التراخي؟ وفي الآية ردّ على اليهود لما زعموا أنهم على ملة إبراهيم. قيل لهم: إن كنتم صادقين فحجوا البيت الذي بناه إبراهيم ودعا الناس إليه مَنِ اسْتَطاعَ بدل من الناس، وقيل: فاعل بالمصدر، وهو حج وقيل: شرط مبتدأ أي: من استطاع فعليه الحج والاستطاعة عند مالك هي: القدرة على الوصول إلى مكة بصحة البدن، إما راجلا وإما راكبا، مع الزاد

_ (1) . أخرجه البخاري في كتاب الأنبياء ص 117 ج 4.

[سورة آل عمران (3) : الآيات 98 إلى 104]

المبلغ والطريق الآمن. وقيل: الاستطاعة الزاد والراحلة، وهو مذهب الشافعي وعبد الملك بن حبيب، وروي في ذلك حديث ضعيف وَمَنْ كَفَرَ قيل: المعنى من لم يحج، وعبر عنه بالكفر تغليظا كقوله صلّى الله عليه واله وسلم: «من ترك الصلاة فقد كفر، وقيل: أراد اليهود لأنهم لا يحجّون، وقيل: من زعم أن الحج ليس بواجب لِمَ تَكْفُرُونَ توبيخ اليهود لِمَ تَصُدُّونَ توبيخ أيضا. وكانوا يمنعون الناس من الإسلام ويرومون فتنة المسلمين عن دينهم سَبِيلِ اللَّهِ هنا الإسلام تَبْغُونَها عِوَجاً الضمير يعود على السبيل، أي تطلبون لها الاعوجاج وَأَنْتُمْ شُهَداءُ أي تشهدون أن الإسلام حق إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً الآية: لفظها عام والخطاب للأوس والخزرج إذ كان اليهود يريدون فتنتهم وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ إنكار واستبعاد حَقَّ تُقاتِهِ قيل: نسخها فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ، [التغابن/ 16] وقيل: لا نسخ إذ لا تعارض، فإنّ العباد أمروا بالتقوى على الكمال فيما استطاعوا تحرزا من الإكراه وشبهه وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ أي تمسكوا، والحبل هنا مستعار من الحبل الذي تشد عليه اليد، والمراد به هنا: القرآن، وقيل: الجماعة وَلا تَفَرَّقُوا نهي عن التدابر والتقاطع، إذ قد كان الأوس هموا بالقتال مع الخزرج، لما رام اليهود إيقاع الشر بينهم، ويحتمل أن يكون نهيا عن التفرق في أصول الدين، ولا يدخل في النهي الاختلاف في الفروع إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً كان بين الأوس والخزرج عداوة وحروب عظيمة، إلى أن جمعهم الله بالإسلام شَفا حُفْرَةٍ أي حرف حفرة وذلك تشبيه، لما كانوا عليه من الكفر والعداوة التي تقودهم إلى النار وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ الآية: دليل على أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب، وقوله: منكم: دليل على أنه فرض كفاية لأن من للتبعيض، وقيل: إنها لبيان الجنس، وأن المعنى: كونوا أمة. وتغيير المنكر يكون باليد وباللسان وبالقلب، على حسب الأحوال كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا هم اليهود والنصارى، نهى الله المسلمين أن يكونوا مثلهم، وورد في الحديث أنه عليه السلام قال: افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة، وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة كلها

[سورة آل عمران (3) : الآيات 117 إلى 121]

في النار إلّا واحدة، قيل ومن تلك الواحدة؟ قال: من كان على ما أنا وأصحابي عليه «1» . يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ العامل فيه محذوف وقيل: عذاب عظيم أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ أي يقال لهم: أكفرتم؟ والخطاب لمن ارتد عن الإسلام، وقيل: للخوارج، وقيل: لليهود لأنهم آمنوا بصفة النبي صلّى الله عليه واله وسلّم المذكورة في التوراة ثم كفروا به لما بعث كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ كان هنا هي التي تقتضي الدوام كقوله وكان الله غفورا رحيما، وقيل: كنتم في علم الله، وقيل: كنتم فيما وصفتم به في الكتب المتقدمة، وقيل: كنتم بمعنى أنتم، والخطاب لجميع المؤمنين، وقيل: للصحابة خاصة لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذىً أي بالكلام خاصة، وهو أهون المضرة يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ إخبار بغيب ظهر في الوجود صدقه ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ إخبار مستأنف غير معطوف على يولوكم، وفائدة ذلك أن توليهم الأدبار مقيد بوقت القتال، وعدم النصر على الإطلاق، وعطفت الجملة على جملة الشرط والجزاء، وثم لترتيب الأحوال لأن عدم نصرهم على الإطلاق أشد من توليهم الأدبار حين القتال إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ الحبل هنا العهد والذمة لَيْسُوا سَواءً أي: ليس أهل الكتاب مستويين في دينهم أُمَّةٌ قائِمَةٌ أي قائمة بالحق، وذلك فيمن أسلم من اليهود: كعبد الله بن سلام، وثعلبة بن سعيد وأخيه أسد وغيرهم وَهُمْ يَسْجُدُونَ يدل أن تلاوتهم للكتاب في الصلاة فَلَنْ يُكْفَرُوهُ [بالتاء حسب قراءة المؤلف] أي لن تحرموا ثوابه َلُ ما يُنْفِقُونَ الآية: تشبيه لنفقة الكافرين بزرع أهلكته ريح باردة، فلن ينتفع به أصحابه. فكذلك لا ينتفع الكفار

_ (1) . رواه أصحاب السنن الأربعة عن أبي هريرة كما أخرجه أحمد في المسند ج 2 ص 438.

[سورة آل عمران (3) : الآيات 122 إلى 132]

بما ينفقون. وفي الكلام حذف تقديره: مثل ما ينفقون كمثل مهلك ريح أو مثل إهلاك ما ينفقون كمثل إهلاك ريح، وإنما احتيج لهذا لأن ما ينفقون ليس تشبيها بالريح، إنما هو تشبيه بالزرع الذي أهلكته الريح رٌّ أي بردرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ أي عصوا الله فعاقبهم بإهلاك حرثهم ما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ الضمير للكفار، أو المنافقين، أو لأصحاب الحرث، والأول أرجح، لأن قوله أنفسهم يظلمون فعل حال يدل على أنه للحاضرين بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ أي أولياء من غيركم فالمعنى: نهي عن استخلاص الكفار وموالاتهم. وقيل: لعمر رضي الله عنه إن هنا رجلا من النصارى لا أحد أحسن خطا منه، أفلا يكتب عنك: قال إذا أتخذ بطانة من دون المؤمنين لا يَأْلُونَكُمْ خَبالًا أي: لا يقصرون في إفسادكم، والخبال: الفساد وَدُّوا ما عَنِتُّمْ أي تمنوا مضرتكم، وما مصدرية وهذه الجملة والتي قبلها صفة للبطانة أو استئناف وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ كُلِّهِ أي بكل كتاب أنزله الله، واليهود لا يؤمنون بقرآنكم عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ عبارة عن شدة الغيظ مع عدم القدرة على إنفاذه، والأنامل: جمع أنملة بضم الميم وفتحها مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ تقريع وإغاظة، وقيل: دعاء إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ الحسنة هنا: الخيرات من النصر والرزق وغير ذلك، والسيئة ضدها لا يَضُرُّكُمْ من الضير بمعنى الضرّ وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ نزلت في غزوة أحد، وكان غزو رسول الله صلّى الله عليه واله وسلّم للقتال صبيحة يوم السبت وخرج من المدينة يوم الجمعة بعد الصلاة وكان قد شاور أصحابه قبل الصلاة تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ تنزلهم وذلك يوم السبت حين حضر القتال، وقيل: ذلك يوم الجمعة بعد الصلاة حين خرج من المدينة، وذلك ضعيف لأنه لا يقال: غدوت فيما بعد الزوال إلّا على المجاز، وقيل: ذلك يوم الجمعة قبل الصلاة حين شاور الناس وذلك ضعيف لأنه لم يبوئ حينئذ مقاعد للقتال إلّا أن يراد أنه بوأهم بالتدبير حين المشاورة مَقاعِدَ مواضع وهو جمع مقعد طائِفَتانِ مِنْكُمْ هم بنو حارثة من الأوس وبنو سلمة من الخزرج، لما رأوا كثرة المشركين وقلة المؤمنين هموا بالانصراف فعصمهم الله ونهضوا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أَنْ تَفْشَلا الفشل في البدن هو الإعياء، والفشل في الرأي هو العجز

[سورة آل عمران (3) : الآيات 133 إلى 143]

والحيرة وفساد العزم وَاللَّهُ وَلِيُّهُما أي مثبتهما، وقال جابر بن عبد الله: ما وددنا أنها لم تنزل لقوله: والله وليهما وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ تذكير بنصر الله لهم يوم بدر لتقوى قلوبهم وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ الذلة هي قلة عددهم وضعف عددهم كانوا يوم بدر ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا، ولم يكن لهم إلّا فرس واحد، وكان المشركون ما بين التسعمائة والألف، وكان معهم مائة فرس. فقتل من المشركين سبعون وأسر منهم سبعون وانهزم سائرهم لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ متعلق بنصركم أو باتقوا والأول أظهر إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ كان هذا القول يوم بدر، وقيل: يوم أحد، فالعامل في إذ على الأول محذوف، وعلى الثاني: بدل من إذ غدوت أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ تقرير، جوابه بلى، وإنما جاوب المتكلم لصحة الأمر وبيانه كقوله: قل مَنْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ الضمير للمشركين، والفور السرعة: أي من ساعتهم وقيل: المعنى من سفرهم بِخَمْسَةِ آلافٍ بأكثر من العدد الذي يكفيكم ليزيد ذلك في قوتكم، فإن كان هذا يوم بدر، فقد قاتلت فيه الملائكة، وإن كان يوم أحد فقد شرط في قوله: إن تصبروا وتتقوا، فلما خالفوا الشرط لم تنزل الملائكة مُسَوِّمِينَ بفتح الواو وكسرها أي معلمين، أو معلمين أنفسهم أو خيلهم، وكانت سيما الملائكة يوم بدر عمائم بيضاء، إلّا جبريل فإنه كانت عمامته صفراء، وقيل: كانت عمائمهم صفر، وكانت خيلهم مجزوزة الأذناب وقيل: كانوا على خيل بلق وَما جَعَلَهُ الضمير عائد على الإنزال، أو الإمداد وَلِتَطْمَئِنَّ معطوف على بشرى لأن هذا الفعل بتأويل المصدر، وقيل: يتعلق بفعل مضمر يدل عليه جعله لِيَقْطَعَ يتعلق بقوله: ولقد نصركم الله أو بقوله: وما النصر لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ جملة اعتراضية بين المعطوفين، ونزلت لما دعا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في الصلاة على أحياء قبائل من العرب فترك الدعاء عليهم أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ معناه يسلمون أَضْعافاً مُضاعَفَةً كانوا يزيدون كل ما حل عاما بعد عام سارِعُوا بغير واو «1» استئناف، وبالواو عطف على ما تقدم

_ (1) . سارعوا بغير واو قراءة نافع وابن عامر.

[سورة آل عمران (3) : الآيات 144 إلى 150]

إِلى مَغْفِرَةٍ أي إلى الأعمال التي تستحقون بها المغفرة عَرْضُهَا قال ابن عباس: تقرن السموات والأرض بعضها إلى بعض، كما تقرن الثياب فذلك عرض الجنة، ولا يعلم طولها إلّا الله وقيل: ليس العرض هنا خلاف الطول، وإنما المعنى سعتها كسعة السموات والأرض فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ في العسر واليسر وَهُمْ يَعْلَمُونَ حذف مفعوله وتقديره: وهم يعلمون أنهم قد أذنبوا قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ خطاب للمؤمنين تأنيسا لهم وقيل: للكافرين تخويفا لهم فَانْظُروا من نظر العين عند الجمهور وقيل: هو بالكفر وَلا تَهِنُوا تقوية لقلوب المؤمنين وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إخبار بعلو كلمة الإسلام إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ الآية معناها: إن مسكم قتل أو جراح في أحد فقد مس الكفار مثله في بدر، وقيل: قد مس الكفار يوم أحد مثل ما مسكم فيه، فإنهم نالوا منكم ونلتم منهم، وذلك تسلية للمؤمنين بالتأسي نُداوِلُها تسلية أيضا عما جرى يوم أحد وَلِيَعْلَمَ متعلق بمحذوف تقديره: أصابكم ما أصابهم يوم أحد ليعلم والمعنى ليعلم ذلك علما ظاهرا لكم تقوم به الحجة شُهَداءَ من قتل من المسلمين يوم أحد وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ أي: يظهر، وقيل: يميز، وهو معطوف على ما تقدم من التعليلات لقصة أحد، والمعنى أن إدالة الكفار على المسلمين إنما هي لتمحيص المؤمنين، وأن نصر المؤمنين على الكفار إنما هو ليمحق الله الكافرين أي يهلكهم أَمْ حَسِبْتُمْ أم هنا منقطعة مقدرة ببل والهمزة عند سيبويه، وهذه الآية وما بعدها معاتبة لقوم من المؤمنين صدرت منهم أشياء يوم أحد تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ خوطب به قوم فاتتهم غزوة بدر، فتمنوا حضور قتال الكفار مع النبي صلّى الله عليه واله وسلّم ليستدركوا ما فاتهم من الجهاد، فعلى هذا إنما تمنوا الجهاد وهو سبب الموت، وقيل: إنما تمنوا الشهادة في سبيل الله وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ المعنى أن محمدا صلّى الله عليه وسلّم رسول كسائر الرسل قد بلغ الرسالة كما بلغوا فيجب عليكم التمسك بدينه في حياته وبعد موته، وسببها أنه صرخ صارخ يوم أحد: إنّ محمدا قد مات، فتزلزل بعض الناس أَفَإِنْ ماتَ دخلت

[سورة آل عمران (3) : الآيات 151 إلى 153]

ألف التوبيخ على جملة الشرط والجزاء، ودخلت الفاء لتربط الجملة الشرطية بالجملة التي قبلها، والمعنى أن موت رسول الله صلّى الله تعالى عليه وعلى اله وسلّم أو قتله لا يقتضي انقلاب أصحابه على أعقابهم، لأن شريعته قد تقررت وبراهينه قد صحت، فعاتبهم على تقدير أن لو صدر منهم انقلاب لو مات صلّى الله عليه وسلّم، أو قتل وقد علم أنه لا يقتل، ولكن ذكر ذلك لما صرخ به صارخ ووقع في نفوسهم الشَّاكِرِينَ قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: الثابتون على دينهم كِتاباً مُؤَجَّلًا نصب على المصدر لأنّ المعنى: كتب الموت كتابا، وقال ابن عطية: نصب على التمييز نُؤْتِهِ مِنْها في ثواب الدنيا، مقيد بالمشيئة بدليل قوله: عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ [الإسراء/ 18] وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ الفعل مسند، إلى ضمير النبيّ ومعه ربيون على هذا في موضع الحال، وقيل: إنه مسند إلى الربيين، فيكون ربيون على هذا مفعولا لما لم يسم فاعله فعلى الأوّل يوقف على قوله: قتل، ويترجح الأوّل: بما صرخ به الصارخ يوم أحد: إنّ محمدا قد مات، فضرب لهم المثل بنبيّ قتل، ويترجح الثاني بأنه لم يقتل قط نبي في محاربة رِبِّيُّونَ علماء مثل ربانيين، وقيل: جموع كثيرة فَما وَهَنُوا الضمير لرِبِّيُّونَ على إسناد القتل للنبي، وهو لم يق منهم على إسناد القتل إليهم وَمَا اسْتَكانُوا أي: لم يذلوا للكفار قال بعض النحاة: الاستكان مشتق من السكون، ووزنه افتعلوا مطلت فتحة الكاف فحدث عن مطلها ألف وذلك كالإشباع، وقيل: إنه من كان يكون، فوزنه استفعلوا، وقوله تعالى فما وهنوا وما بعده: تعريض لما صدر من بعض الناس يوم أحد وَثَبِّتْ أَقْدامَنا أي في الحرب ثَوابَ الدُّنْيا النصر ثَوابِ الْآخِرَةِ الجنة إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا هم المنافقون الذين قالوا في قضية أحد ما قالوا، وقيل: مشركوا قريش وقيل: اليهود الرُّعْبَ قيل: ألقى الله الرعب في قلوب المشركين بأحد، فرجعوا إلى مكة من غير سبب، وقيل: لما كانوا ببعض الطريق هموا بالرجوع ليستأصلوا المسلمين، فألقى الله الرعب في قلوبهم «1» ، فأمسكوا، والآية تتناول جميع الكفار

_ (1) . في السيرة: لقد خرج المسلمون وهم مثخنون بالجراح خلف القرشيين وأقاموا في مكان (حمراء الأسد) ثلاثة أيام فلما علم القرشيون بذلك انسحبوا عائدين إلى مكة. وسيذكرها المؤلف عند تفسيره للآية «172» من هذه السورة.

[سورة آل عمران (3) : الآيات 154 إلى 156]

لقوله صلّى الله عليه واله وسلّم: نصرت بالرعب وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ كان رسول الله صلّى الله عليه واله وسلّم قد وعد المسلمين عن الله بالنصر، فنصرهم الله أولا، وانهزم المشركون وقتل منهم اثنان وعشرون رجلا، وكان رسول الله صلّى الله عليه واله وسلّم، قد أمر الرماة أن يثبتوا في مكانهم ولا يبرحوا فلما رأوا المشركين قد انهزموا طمعوا في الغنيمة وأتبعوهم، وخالفوا ما أمروا به من الثبوت في مكانهم، فانقلبت الهزيمة على المسلمين إِذْ تَحُسُّونَهُمْ أي: تقتلونهم قتلا ذريعا يعني في أول الأمر وَتَنازَعْتُمْ وقع النزاع بين الرماة فثبت بعضهم كما أمروا ولم يثبت بعضهم وَعَصَيْتُمْ أي خالفتم ما أمرتم به من الثبوت، وجاءت المخاطبة في هذا لجميع المؤمنين وإن كان المخالف بعضهم وعظا للجميع، وسترا على من فعل ذلك وجواب إذ محذوف تقديره: لانهزمتم مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا الذين حرصوا على الغنيمة معه لِيَبْتَلِيَكُمْ معناه لينزل بكم ما نزل من القتل والتمحيص وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ إعلام بأن الذنب كان يستحق أكثر مما نزل بهم، لولا عفو الله عنهم، فمعناه لقد أبقى عليكم، وقيل: هو عفو عن الذنب إِذْ تُصْعِدُونَ العامل في إذ عفا، فيوصل إذ تصعدون مع ما قبله ويحتمل أن يكون العامل فيه مضمر وَلا تَلْوُونَ مبالغة في صفة الانهزام وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ كان رسول الله صلّى الله عليه واله وسلّم يقول: إليّ عباد الله، وهم يفرون فِي أُخْراكُمْ من خلفكم وفيه مدح للنبي صلّى الله عليه واله وسلّم فإنّ الأخرى هي موقف الأبطال فَأَثابَكُمْ أي جازاكم غَمًّا بِغَمٍّ قيل: أثابكم غما بسبب الغم الذي أدخلتموه على رسول الله صلّى الله عليه واله وسلّم وعلى المؤمنين إذ عصيتم وتنازعتم وقيل أثابكم غما متصلا بغم، وأحد الغمين: ما أصابهم من القتل والجراح والآخر: ما أرجف به من قتل رسول الله صلّى الله عليه واله وسلّم عَلى ما فاتَكُمْ من النصر والغنيمة وَلا ما أَصابَكُمْ من القتل والجراح والانهزام أَمَنَةً نُعاساً قال ابن مسعود: نعسنا يوم أحد، والنعاس في الحرب أمان من الله يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ هم المؤمنون المخلصون، غشيهم النعاس تأمينا لهم وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ هم المنافقون كانوا خائفين من أن يرجع إليهم أبو سفيان، والمشركون غَيْرَ الْحَقِّ معناه

يظنون أن الإسلام ليس بحق، وأن الله لا ينصرهم، وظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ بدل وهو على حذف الموصوف تقديره ظن المودة الجاهلية «1» ، أو الفرقة الجاهلية هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قالها عبد الله بن أبي بن سلول، والمعنى: ليس لنا رأي، ولا يسمع قولنا أو: لسنا على شيء من الأمر الحق، فيكون قولهم على هذا كفرا يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ ما لا يُبْدُونَ لَكَ يحتمل أن يريد الأقوال التي قالوها أو الكفر لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ قاله معتب بن قشير «2» ، ويحتمل من المعنى ما احتمل قول عبد الله بن أبي قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ الآية: رد عليهم، وإعلام بأن أجل كل إنسان إنما هو واحد، وأن من لم يقتل يموت بأجله، ولا يؤخر، وأن من كتب عليه القتل لا ينجيه منه شيء وَلِيَبْتَلِيَ يتعلق بفعل تقديره فعل بكم ذلك ليبتلي إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا الآية: نزلت فيمن فر يوم أحد اسْتَزَلَّهُمُ أي طلب منهم أن يزلوا، ويحتمل أن يكون معناه: أزلهم أي أوقعهم في الزلل بِبَعْضِ ما كَسَبُوا أي كانت لهم ذنوب عاقبهم الله عليها بأن مكن الشيطان من استزلالهم عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ أي غفر لهم ما وقعوا فيه من الفرار لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا أي المنافقين لِإِخْوانِهِمْ هي أخوة القرابة، لأن المنافقين كانوا من الأوس والخزرج، وكان أكثر المقتولين يوم أحد منهم، ولم يقتل من المهاجرين إلّا أربعة إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أي سافروا وإنما قال: إذا التي للاستقبال مع قالوا، لأنه على حكاية الحال الماضية أَوْ كانُوا غُزًّى جمع غاز وزنه فعّل بضم الفاء وتشديد العين لَوْ كانُوا عِنْدَنا اعتقاد منهم فاسد لأنهم ظنوا أن إخوانهم لو كانوا عندهم لم يموتوا ولم يقتلوا، وهذا قول من لا يؤمن بالقدر والأجل المحتوم، ويقرب منه مذهب المعتزلة في القول بالأجلين لِيَجْعَلَ متعلق بقالوا. أي قالوا ذلك فكان حسرة في قلوبهم، فاللام لام الصيرورة لبيان العاقبة ذلِكَ إشارة إلى قولهم واعتقادهم الفاسد الذي أوجب لهم الحسرة، لأن الذي يتيقن بالقدر والأجل تذهب عنه

_ (1) . ربما في النص تحريف، وفي الطبري يقول: ظن أهل الشرك. (2) . وهو أحد بني عمرو بن عوف وكان منافقا.

[سورة آل عمران (3) : الآيات 157 إلى 160]

الحسرة وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ رد على قولهم واعتقادهم وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ الآية إخبار أن مغفرة الله ورحمته لهم إذا قتلوا وماتوا في سبيل الله خير لهم مما يجمعون من الدنيا وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ الآية إخبار أن من مات أو قتل فإنه يحشر إلى الله فَبِما رَحْمَةٍ ما زائدة للتأكيد لانفضوا أي تفرقوا فَاعْفُ عَنْهُمْ فيما يختص بك وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ فيما يختص بحق الله وَشاوِرْهُمْ المشاورة مأمور بها شرعا، وإنما يشاور النبي صلّى الله تعالى عليه واله وسلّم الناس في الرأي في الحروب وغيرها، لا في الأحكام الشرعية، وقال ابن عباس: وشاورهم في بعض الأمر فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ التوكل هو الاعتماد على الله في تحصيل المنافع أو حفظها بعد حصولها، وفي دفع المضرات ورفعها بعد وقوعها، وهو من أعلى المقامات، لوجهين: أحدهما قوله إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ والآخر: الضمان الذي في قوله: وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ [الطلاق/ 3] وقد يكون واجبا لقوله تعالى: وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [المائدة/ 23] فجعله شرطا في الإيمان، والظاهر قوله جل جلاله، وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ [آل عمران/ 122] فإن الأمر محمول على الوجوب. وأعلم أن الناس في التوكل على ثلاثة مراتب: الأولى: أن يعتمد العبد على ربه، كاعتماد الإنسان على وكيله المأمون عنده الذي لا يشك في نصيحته له، وقيامه بمصالحه، والثانية: أن يكون العبد مع ربه كالطفل مع أمه، فإنه لا يعرف سواها، ولا يلجأ إلّا إليها، والثالثة: أن يكون العبد مع ربه: كالميت بين يدي الغاسل، قد أسلم نفسه إليه بالكلية، فصاحب الدرجة الأولى له حظ من النظر لنفسه، بخلاف صاحب الثانية، وصاحب الثانية له حظ من المراد والاختيار بخلاف صاحب الثالثة. وهذه الدرجات مبنيّة على التوحيد الخاص الذي تكلمنا عليه في قوله: وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ [البقرة/ 163] فهي تقوى بقوته، وتضعف بضعفه، فإن قيل: هل يشترط في التوكل ترك الأسباب أم لا؟ فالجواب: أن الأسباب على ثلاثة أقسام: أحدهما: سبب معلوم قطعا قد أجراه الله تعالى: فهذا لا يجوز تركه: كالأكل لدفع الجوع، واللباس لدفع البرد. والثاني: سبب مظنون: كالتجارة وطلب المعاش، وشبه ذلك، فهذا لا يقدم فعله في التوكل لأن التوكل من أعمال القلب، لا من أعمال البدن، ويجوز تركه لمن قوي عليه، «1» والثالث: سبب موهوم بعيد، فهذا يقدم فعله في التوكل،

_ (1) . رحم الله المصنف كيف غفل عن أن السعي مطلوب، وهو لا ينافي التوكل إلا لمن كان غافلا عن ربه الذي بيده نجاح الأسباب وفشلها.

[سورة آل عمران (3) : الآيات 161 إلى 165]

ثم إن فوق التوكل التفويض وهو الاستسلام لأمر الله تعالى بالكلية، فإن المتوكل له مراد واختيار، وهو يطلب مراده باعتماده على ربه، وأما المفوض فليس له مراد ولا اختيار، بل أسند المراد والاختيار إلى الله تعالى، فهو أكمل أدبا مع الله تعالى وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ هو من الغلول وهو أخذ الشيء خفية من المغانم وغيرها، وقرئ «1» بفتح الياء وضم الغين، ومعناه تبرئة النبي صلّى الله عليه وسلّم من الغلول، وسببها أنه فقدت من المغانم قطيفة حمراء، فقال بعض المنافقين: لعل رسول الله صلّى الله عليه واله وسلّم أخذها، وقرأ نافع وغيره بضم الياء وفتح الغين، أي ليس لأحد أن يغل نبيا: أي يخونه في المغانم، وخص النبي بالذكر وإن كان ذلك محظورا من الأمر، لشنعة الحال مع النبي لأن المعاصي تعظم بحضرته، وقيل معنى هذه القراءة: أن يوجد غالا كما تقول أحمدت الرجل، إذا أصبته محمودا، فعلى هذا القول يرجع معنى هذه القراءة، إلى معنى فتح الياء وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ وعيد لمن غل بأن يسوق يوم القيامة على رقبته الشيء الذي غل، وقد جاء ذلك مفسرا في الحديث قال رسول الله صلّى الله عليه واله وسلّم: لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته بعير لا ألفين أحدكم على رقبته فرس لا ألفين أحدكم على رقبته رقاع لا ألفين أحدكم على رقبته صامت، لا ألفين أحدكم على رقبته إنسان فيقول يا رسول الله أغثني فأقول لا أملك لك من الله شيئا قد بلغتك «2» أَفَمَنِ اتَّبَعَ الآية: فقيل: إن الذي أتبع رضوان الله. من لم يغلل، والذي باء بالسخط من غل، وقيل الذي أتبع الرضوان: من استشهد بأحد، والذي باء بالسخط: المنافقون الذين رجعوا عن الغزو هُمْ دَرَجاتٌ ذووا درجات، والمعنى تفاوت بين منازل أهل الرضوان وأهل السخط، أو التفاوت بين درجات أهل الرضوان فإن بعضهم فوق بعض، فكذلك درجات أهل السخط لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ الآية إخبار بفضل الله على المؤمنين ببعث رسول الله صلّى الله عليه واله وسلّم مِنْ أَنْفُسِهِمْ معناه في الجنس واللسان، فكونه من جنسهم يوجب الأنس به، وقلة الاستيحاش منه، وكونه بلسانهم يوجب حسن الفهم عنه، ولكونه منهم يعرفون حسبه وصدقه وأمانته صلّى الله تعالى عليه واله وسلّم ويكون، هو صلّى الله تعالى عليه واله وسلّم أشفق عليهم وأرحم بهم من الأجنبيين «3» أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ الآية. عتاب للمسلمين على كلامهم فيمن

_ (1) . هي قراءة عاصم وابن كثير وأبي عمرو. (2) . الحديث أخرجه أحمد بتفصيل عن أبي هريرة ج 2 ص 562. (3) . الأشهر جمع أجنبي على أجانب والمراد: أغراب.

[سورة آل عمران (3) : الآيات 166 إلى 172]

أصيب منهم يوم أحد، ودخلت ألف التوبيخ على واو العطف، والجملة معطوفة على ما تقدم من قصة أحد وعلى محذوف قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها قتل يوم أحد من المسلمين سبعون، وكان قد قتل من المشركين يوم بدر سبعون، وأسر سبعون قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ قيل: معناه أنهم عوقبوا بالهزيمة لمخالفتهم رسول الله صلّى الله عليه واله وسلّم حين أراد أن يقيم بالمدينة ولا يخرج إلى المشركين. فأبوا إلّا الخروج، وقيل: بل ذلك إشارة إلى عصيان الرماة حسبما تقدم يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ أي جمع المسلمين والمشركين يوم أحد وَقِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا الآية: كان رأي عبد الله بن أبي بن سلول أن لا يخرج المسلمون إلى المشركين، فلما طلب الخروج قوم من المسلمين، فخرج رسول الله صلّى الله عليه واله وسلّم: غضب عبد الله، وقال: أطاعهم وعصانا، فرجع ورجع معه ثلاثمائة رجل وخمسون فمشى في أثرهم عبد الله بن عمر بن حرام الأنصاري، وقال لهم: ارجعوا قاتلوا في سبيل الله، أو ادفعوا، فقال له عبد الله بن أبيّ: ما أرى أن يكون لو علمنا أنه يكون قتال لكنا معكم أَوِ ادْفَعُوا أي كثروا السواد، وإن لم تقاتلوا الَّذِينَ قالُوا بدل من الذين نافقوا، أو لإخوانهم في النسب، لأنهم كانوا من الأوس والخزرج قُلْ فَادْرَؤُا أي ادفعوا المعنى ردّ عليهم بَلْ أَحْياءٌ إعلام بأن حال الشهداء حال الأحياء من التمتع بأرزاق الجنة بخلاف سائر الأموات من المؤمنين، فإنهم لا يتمتعون بالأرزاق حتى يدخلوا الجنة يوم القيامة وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ المعنى: أنهم يفرحون بإخوانهم الذين بقوا في الدنيا من بعدهم لأنهم يرجون أن يستشهدوا مثلهم فينالوا مثل ما نالوا من الشهادة أَلَّا خَوْفٌ في موضع المفعول أو بدل من الذين يَسْتَبْشِرُونَ كرر ليذكر ما تعلق به من النعمة والفضل الَّذِينَ اسْتَجابُوا صفة للمؤمنين أو مبتدأ وخبره لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الآية، ونزلت في الذين خرجوا مع رسول الله صلّى الله عليه واله وسلّم في خلف المشركين بعد غزوة أحد، فبلغ بهم إلى «حمراء الأسد» وهي على ثمانية أميال من المدينة، وأقام بها ثلاثة أيام، وكانوا قد أصابتهم جراحات وشدائد، فتجلدوا وخرجوا فمدحهم الله بذلك الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ الآية: لما خرج رسول الله صلّى الله عليه

واله وسلّم إلى حمراء الأسد بعد أحد: بلغ ذلك أبا سفيان فمر عليه ركب من عبد القيس يريدون المدينة بالميرة فجعل لهم حمل بعير من زبيب على أن يثبطوا المسلمين عن إتباع المشركين، فخوفوهم بهم، فقالوا: حسبنا الله ونعم الوكيل فخرجوا، فالناس الأول ركب عبد القيس، والناس الثاني مشركو قريش وقيل: نادى أبو سفيان يوم أحد: موعدنا ببدر في القابل، فقال رسول الله صلّى الله عليه واله وسلّم: إن شاء الله فلما كان العام القابل خرج رسول الله صلّى الله عليه واله وسلّم إلى بدر للميعاد، فأرسل أبو سفيان نعيم بن مسعود الأشجعي ليثبط المسلمين، فعلى هذا الناس الأول نعيم، وإنما قيل له: الناس وهو واحد: لأنه من جنس الناس: كقولك ركبت الخيل إذا ركبت فرسا فَزادَهُمْ الفاعل ضمير المفعول، وهو إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم، والصحيح أن الإيمان يزيد وينقص، فمعناه هنا قوة يقينهم وثقتهم بالله حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ كلمة يدفع بها ما يخاف ويكره وهي التي قالها إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار، ومعنى حسبنا الله: كافينا وحده فلا نخاف غيره، ومعنى: ونعم الوكيل: ثناء على الله وأنه خير من يتوكل العبد عليه ويلجأ إليه فَانْقَلَبُوا أي رجعوا بنعمة السلامة وفضل الأجر وَاتَّبَعُوا رِضْوانَ اللَّهِ بخروجهم مع رسول الله صلّى الله عليه واله وسلّم ذلِكُمُ الشَّيْطانُ المراد هنا أبو سفيان، أو نعيم الذي أرسله أبو سفيان أبو إبليس، وذلكم مبتدأ، والشيطان خبره وما بعده مستأنف، أو الشيطان نعت وما بعده خبر يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ أي يخوفكم أيها المؤمنون أولياءه وهم الكفار، فالمفعول الأول محذوف ويدل عليه قوله: فلا تخافوهم وقرأ ابن مسعود وابن عباس يخوفكم أولياءه، وقيل المعنى يخوف المنافقين وهم أولياؤه من كفار قريش، فالمفعول الثاني على هذا محذوف وَلا يَحْزُنْكَ «1» تسلية للنبي صلّى الله عليه واله وسلّم، وقرأ [الباقون ما عدا نافع] بفتح الياء وضم الزاي حيث وقع مضارعا من حزن الثاني، وهو أشهر في اللغة من أحزن الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ أي يبادرون إلى أقواله وأفعاله وهم المنافقون والكفار إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الآية هم المذكورون قبل أو على العموم في جميع الكفار أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ أي نمهلهم أن مفعول يحسبن، وما اسم أن فحقها أن تكتب منفصلة وخير خبر: إنما نملي لهم، ما هنا كافة والمعنى ردّ عليهم أي أن الإملاء لهم ليس خيرا لهم إنما هو استدراج ليكتسبوا الإثم

_ (1) . حسب قراءة نافع في كل القرآن ما عدا: لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ [الأنبياء/ 103.

[سورة آل عمران (3) : الآيات 179 إلى 185]

ما كانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ الآية: خطاب للمؤمنين، والمعنى ما كان الله ليدع المؤمنين مختلطين بالمنافقين، ولكنه ميز هؤلاء من هؤلاء بما ظهر في غزوة أحد من الأقوال والأفعال، التي تدل على الإيمان أو على النفاق وَما كانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ أي ما كان الله ليطلعكم على ما في القلوب من الإيمان والنفاق، أو ما كان الله ليطلعكم على أنكم تغلبون أو تغلبون وَلكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي أي يختار من رسله من يشاء فيطلعهم على ما شاء من غيبه الَّذِينَ يَبْخَلُونَ يمنعون الزكاة وغيرها هُوَ خَيْراً هو فضل وخيرا مفعول ثان، والأول محذوف تقديره: لا يحسبن البخل خيرا لهم سَيُطَوَّقُونَ أي يلزمون إثم ما بخلوا به، وقيل: يجعل ما بخلوا به حية يطوّقها في عنقه يوم القيامة لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ الآية: لما نزلت: من ذا الذي يقرض الله: قال بعض اليهود وهو فنحاص، أو حيي بن أخطب أو غيرهما: إنما يستقرض الفقير من الغني، فالله فقير ونحن أغنياء، فنزلت هذه الآية، وكان ذلك القول اعتراضا على القرآن أوجبه قلة فهمهم، أو تحريفهم للمعاني، فإن كانوا قالوه باعتقاد فهو كفر [يضاف إلى كفرهم] ، وإن قالوه بغير اعتقاد: فهو استخفاف، وعناد سَنَكْتُبُ ما قالُوا أي تكتبه الملائكة في الصحف وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ أي قتل آبائهم للأنبياء، وأسند إليهم لأنهم راضون به، ومتبعون لمن فعله من آبائهم الَّذِينَ قالُوا صفة للذين، وليس صفة للعبيد حَتَّى يَأْتِيَنا بِقُرْبانٍ كانوا إذا أرادوا أن يعرفوا قبول الله لصدقة أو غيرها جعلوه في مكان، فتنزل نار من السماء فتحرقه، وإن لم تنزل فليس بمقبول، فزعموا أن الله جعل لهم ذلك علامة على صدق الرسل قُلْ قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ الآية: رد عليهم بأن الرسل قد جاءتهم بمعجزات توجب الإيمان بهم، وجاءوهم أيضا بالقربان الذي تأكله النار، ومع ذلك كذبوهم وقتلوهم، فذلك يدل عل أن كفرهم عناد، فإنهم كذبوا في قولهم: إن الله عهد إلينا فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ الآية تسلية للنبي صلّى الله عليه وسلّم بالتأسي بغيره فَمَنْ زُحْزِحَ أي نحي وأبعد لَتُبْلَوُنَّ الآية: خطاب للمسلمين، والبلاء في الأنفس بالموت والأمراض، وفي الأموال

[سورة آل عمران (3) : الآيات 195 إلى 200]

بالمصائب والإنفاق وَلَتَسْمَعُنَّ الآية: سببها قول اليهود: إن الله فقير، وسبهم للنبي صلّى الله عليه واله وسلّم وللمسلمين لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ قال ابن عباس: هي لليهود أخذ عليهم العهد في أمر محمد صلّى الله عليه واله وسلّم فكتموه، وهي عامة في كل من علمه الله علما الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا الآية: قال ابن عباس نزلت في أهل الكتاب سألهم النبي صلّى الله عليه وسلّم عن شيء فكتموه إياه وأخبروه بغيره فخرجوا وقد أروه أن قد أخبروه بما سألهم عنه، واستحمدوا إليه بذلك، وفرحوا بما أوتوا من كتمانهم إياه ما سألهم عنه، وقال أبو سعيد الخدري: نزلت في المنافقين: كانوا إذا خرج النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى الغزو تخلفوا عنه، وفرحوا بمقعدهم خلاف رسول الله، وإذا قدم النبي صلّى الله عليه وسلّم اعتذروا إليه، وأحبوا أن يحمدوا بما لم يفعلوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بالتاء «1» وفتح الباء: خطاب للنبي صلّى الله عليه واله وسلّم، وبالياء «2» وضم الباء: أسند الفعل للذين يفرحون: أي لا يحسبون أنفسهم بمفازة من العذاب، ومن قرأ: تحسبن بالتاء: فهو خطاب للنبي صلّى الله عليه واله وسلّم والذين يفرحون مفعول به، وبمفازة المفعول الثاني، وكرر فلا تحسبنهم: للتأكيد، ومن قرأ لا يحسبن بالياء من أسفل، فإنه حذف المفعولين، لدلالة مفعولي لا تحسبنهم عليهما وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ ذكر في البقرة قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ أي يذكرون الله على كل حال فكأن هذه الهيآت حصر لحال بني آدم، وقيل: إن ذلك في الصلاة: يصلون قياما فإن لم يستطيعوا صلوا قعودا، فإن لم يستطيعوا صلوا على جنوبهم رَبَّنا أي يقولون: ربنا ما خلقت هذا لغير فائدة بل خلقته وخلقت البشر، لينظروا فيه فيعرفونك سَمِعْنا مُنادِياً هو النبي صلّى الله عليه وسلّم ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ أي على ألسنة رسلك مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى من لبيان الجنس، وقيل زائدة لتقدّم النفي بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ النساء والرجال سواء في الأجور والخيرات وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ هم المهاجرون آذاهم المشركون

_ (1) . وهي قراءة عاصم وحمزة والكسائي. [.....] (2) . قرأ بها الباقون.

بمكة حتى خرجوا منها ثَواباً منصوبا على المصدرية لا يَغُرَّنَّكَ الآية تسلية للنبي صلّى الله عليه وسلّم أي: لا تظنوا أن حال الكفار في الدنيا دائمة فتهتموا لذلك، وأنزل لا يغرّنك منزلة لا يحزنك مَتاعٌ قَلِيلٌ أي تقلبهم في الدنيا قليل بالنظر إلى ما فاتهم في الآخرة نُزُلًا منصوب على الحال من جنات أو على المصدرية لِلْأَبْرارِ جمع بارّ وبرّ، ومعناه العاملون بالبرّ، وهي غاية التقوى والعمل الصالح، قال بعضهم: الأبرار هم الذين لا يؤذون أحدا وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ الآية قيل: نزلت في النجاشي ملك الحبشة، فإنه كان نصرانيا فأسلم، وقيل: في عبد الله بن سلام وغيره ممن أسلم من اليهود لا يَشْتَرُونَ مدح لهم، وفيه تعريض لذم غيرهم ممن اشترى بآيات الله ثمنا قليلا وصابروا أي صابروا عدوكم في القتال وَرابِطُوا أقيموا في الثغور مرابطين خيلكم مستعدين للجهاد، وقيل: هو مرابطة العبد فيما بينه وبين الله، أي معاهدته على فعل الطاعة وترك المعصية والأوّل أظهر، قال صلّى الله عليه واله وسلّم: «رباط يوم في سبيل الله خير من صيام شهر وقيامه» «1» وأما قوله في انتظار الصلاة فذلكم الرباط «2» فهو تشبيه بالرباط في سبيل الله لعظم أجره، والمرابط عند الفقهاء هو الذي يسكن الثغور فيرابط فيها وهي غير موطنه، فأما سكانها دائما بأهلهم ومعايشهم فليسوا مرابطين، ولكنهم حماة، حكاه ابن عطية.

_ (1) . أخرجه أحمد عن عثمان بلفظ: رباط يوم في سبيل الله تعالى خير من ألف يوم فيما سواه من المنازل ج 1 ص 79. (2) . أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة وأوله: ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات: رواه النووي في فضائل الوضوء.

سورة النساء

سورة النساء مدنية وآياتها 176 نزلت بعد الممتحنة (سورة النساء) بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ خطاب على العموم وقد تكلمنا على التقوى في أوّل البقرة مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ هو آدم عليه السلام زَوْجَها هي حوّاء خلقت من ضلع آدم وَبَثَّ نشر تَسائَلُونَ بِهِ أي يقول بعضكم لبعض: أسألك بالله أن تفعل كذا والْأَرْحامَ بالنصب عطفا على اسم الله أي: اتقوا الأرحام فلا تقطعوها، أو على موضع الجار والمجرور. وهو به، لأنّ موضعه نصب وقرئ بالخفض عطف على الضمير في به، وهو ضعيف عند البصريين، لأنّ الضمير المخفوض لا يعطف عليه إلّا بإعادة الخافض إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً إذا تحقق العبد بهذه الآية وأمثالها استفاد مقام المراقبة وهو مقام شريف أصله علم وحال، ثم يثمر حالين: أما العلم: فهو معرفة العبد بأنّ الله مطلع عليه، ناظر إليه يرى جميع أعماله، ويسمع جميع أقواله، ويعلم كل ما يخطر على باله، وأما الحال: فهي ملازمة هذا العلم للقلب بحيث يغلب عليه، ولا يغفل عنه، ولا يكفي العلم دون هذه الحال، فإذا حصل العلم والحال: كانت ثمرتها عند أصحاب اليمين: الحياء من الله، وهو يوجب بالضرورة ترك المعاصي والجدّ في الطاعات، وكانت ثمرتها عند المقرّبين: الشهادة التي توجب التعظيم والإجلال لذي الجلال، وإلى هاتين الثمرتين أشار رسول الله صلّى الله عليه واله وسلّم بقوله: «الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك» «1» فقوله أن تعبد الله كأنك تراه: إشارة إلى الثمرة الثانية، وهي المشاهدة الموجبة للتعظيم: كمن يشاهد ملكا عظيما، فإنه يعظمه إذ ذاك بالضرورة، وقوله فإن لم تكن تراه فإنه يراك: إشارة إلى الثمرة الأولى ومعناه إن لم تكن من أهل المشاهدة التي هي مقام المقرّبين، فأعلم أنه يراك، فكن من أهل الحياء الذي هو مقام أصحاب اليمين، فلما

_ (1) . جزء من الحديث المشهور أخرجه مسلم عن عمر بن الخطاب. راجع الأربعين النووية.

[سورة النساء (4) : آية 2]

فسر الإحسان أوّل مرة بالمقام الأعلى رأى أنّ كثيرا من الناس قد يعجزون عنه، فنزل عنه إلى المقام الآخر، واعلم أن المراقبة لا تستقيم حتى تتقدّم قبلها المشارطة والمرابطة، وتتأخر عنها المحاسبة والمعاقبة، فأما المشارطة: فهي اشتراط العبد على نفسه بالتزام الطاعة وترك المعاصي، وأما المرابطة فهي معاهدة العبد لربه على ذلك، ثم بعد المشارطة والمرابطة أول الأمر تكون المراقبة إلى آخره، وبعد ذلك يحاسب العبد نفسه على ما اشترطه وعاهد عليه، فإن وجد نفسه قد أوفى بما عاهد عليه الله: حمد الله، وإن وجد نفسه قد حل عقد المشارطة، ونقض عهد المرابطة، عاقب النفس عقابا بزجرها عن العودة إلى مثل ذلك، ثم عاد إلى المشارطة والمرابطة وحافظ على المراقبة، ثم اختبر بالمحاسبة، فهكذا يكون حتى يلقى الله تعالى وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ. خطاب للأوصياء، وقيل: للعرب الذين لا يورثون الصغير مع الكبير أمروا أن يورثوهم، وعلى القول بأنّ الخطاب للأوصياء، فالمراد أن يؤتوا اليتامى من أموالهم ما يأكلون ويلبسون في حال صغرهم، فيكون اليتيم على هذا حقيقة، وقيل: المراد دفع أموالهم إليهم إذا بلغوا، فيكون اليتيم على هذا مجاز، لأن اليتيم قد كبر وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ كان بعضهم يبدل الشاة السمينة من مال اليتيم بالمهزولة من ماله، والدرهم الطيب بالزائف، فنهوا عن ذلك. وقيل: المعنى لا تأكلوا أموالهم وهو الخبيث، وتدعوا مالكم وهو الطيب وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ المعنى: نهي أن يأكلوا أموال اليتامى مجموعة إلى أموالهم، وقيل: نهي عن خلط أموالهم بأموال اليتامى، ثم أباح ذلك بقوله وإن تخالطوهم فإخوانكم، وإنما تعدّى الفعل بإلى لأنه تضمن معنى الجمع والضم وقيل: بمعنى مع حُوباً أي ذنبا وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا الآية، قالت عائشة: نزلت في أولياء اليتامى الذين يعجبهم جمال أوليائهم، فيريدون أن يتزوّجوهن ويبخسوهن في الصداق لمكان ولايتهم عليهم، فقيل لهم: أقسطوا في مهورهن، فمن خاف أن لا يقسط فليتزوّج بما طاب له من الأجنبيات اللاتي يوفّيهن حقوقهن، وقال ابن عباس: إن العرب كانت تتحرج في أموال اليتامى ولا تتحرج في العدل بين النساء، فنزلت الآية في ذلك: أي كما تخافون أن لا تقسطوا في اليتامى: كذلك خافوا النساء، وقيل: إن الرجل منهم كان يتزوج العشرة أو أكثر، فإذا ضاق ماله أخذ مال اليتيم، فقيل لهم: إن خفتم أن لا تقسطوا في اليتامى فاقتصروا في النساء على ما طاب: أي ما حل، وإنما قال ما، ولم يقل من: لأنه أراد الجنس، وقال الزمخشري لأن الإناث من العقلاء يجري مجرى غير العقلاء، ومنه قوله: وما ملكت أيمانكم مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ لا

ينصرف «1» للعدل والوصف، وهي حال من ما طاب، وقال ابن عطية: بدل، وهي عدو له عن أعداد مكررة، ومعنى التكرار فيها أن الخطاب لجماعة، فيجوز لكل واحد منهم أن ينكح ما أراد من تلك الأعداد، فتكررت الأعداد بتكرار الناس، والمعنى أنكحوا اثنتين أو ثلاث أو أربعا في ذلك منع لما كان في الجاهلية من تزوج ما زاد على الأربع، وقال قوم لا يعبأ بقولهم: إنه يجوز الجمع بين تسع لأن مثنى وثلاث ورباع: يجمع فيه تسعة، وهذا خطأ، لأن المراد التخيير بين تلك الأعداد لا الجمع، ولو أراد الجمع لقال تسع ولم يعدل عن ذلك إلى ما هو أطول منه وأقل بيانا، وأيضا قد انعقد الإجماع على تحريم ما زاد على الرابعة فَواحِدَةً أي إن خفتم أن لا تعدلوا بين الاثنين أو الثلاث أو الأربع: فاقتصروا على واحدة، أو على ما ملكت أيمانكم من قليل أو كثير. رغبة في العدول. وانتصاب واحدة بفعل مضمر تقديره: فانكحوا واحدة ذلِكَ أَدْنى أَلَّا تَعُولُوا الإشارة إلى الاقتصار على الواحدة، والمعنى: أن ذلك أقرب إلى أن لا تعولوا ومعنى تعولوا: تميلوا، وقيل يكثر عيالكم وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ خطاب للأزواج، وقيل: للأولياء، لأن بعضهم كان يأكل صداق وليته، وقيل: نهي عن الشغار «2» نِحْلَةً أي عطية منكم لهن، أو عطية من الله، وقيل: معنى نحلة أي شرعة وديانة، وانتصابه على المصدر من معنى آتوهن أو على الحال من ضمير المخاطبين فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ الآية: إباحة للأزواج والأولياء على ما تقدم من الخلاف أن يأخذوا ما دفعوا للنساء من صدقاتهن عن طيب أنفسهن، والضمير في منه يعود على الصداق أو على الإيتاء هَنِيئاً مَرِيئاً عبارة عن التحليل ومبالغة في الإباحة، وهما صفتان من قولك هنؤ الطعام ومرؤ: إذا كان سائغا لا تنغيص فيه، وهما وصف للمصدر: أي أكلا هنيئا أو حال من ضمير الفاعل، وقيل: يوقف على فكلوه ويبدأ هَنِيئاً مَرِيئاً على الدعاء وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ قيل: هم أولاد الرجل وامرأته: أي لا تؤتوهم أموالكم للتبذير، وقيل: السفهاء المحجورون، وأموالكم. أموال المحجورين، وأضافها إلى المخاطبين لأنهم ناظرون عليها وتحت أيديهم قِياماً جمع قيمة، وقيل بمعنى قياما بألف، أي تقوم بها معايشكم وَارْزُقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ قيل: إنها فيمن تلزم الرجال نفقته من زوجته وأولاده، وقيل: في المحجورين يرزقون ويكسون من أموالهم

_ (1) . أي ممنوع من الصرف وهو اصطلاح نحوي معروف. (2) . هو الزواج بالتبادل فيعطي أحدهم شقيقته إلى الآخر ويأخذ بدلا منها شقيقة الآخر أو ابنته بدون مهر لأي منهما.

[سورة النساء (4) : الآيات 6 إلى 9]

وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفاً أي ادعوا لهم بخير، أو عدوهم وعدا جميلا: أي إن شئتم دفعنا لكم أموالكم وَابْتَلُوا الْيَتامى أي اختبروا رشدهم بَلَغُوا النِّكاحَ بلغوا مبلغ الرجال فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً الرشد: هو المعرفة بمصالحه وتدبير ماله، وإن لم يكن من أهل الدين، واشترط قوم الدين، واعتبر مالك البلوغ والرشد، وحينئذ يدفع المال، واعتبر أبو حنيفة البلوغ وحده ما لم يظهر سفه، وقوله مخالف للقرآن وَبِداراً أَنْ يَكْبَرُوا ومعناه: مبادرة لكبرهم أي أن الوصي يستغنم أكل مال اليتيم قبل أن يكبر، وموضع أن يكبروا نصب على المفعولية ببدارا أو على المفعول من أجله تقديره: مخافة أن يكبروا فَلْيَسْتَعْفِفْ أمر الوصي الغني أن يستعفف عن مال اليتيم ولا يأكل منه شيئا وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ قال عمر بن الخطاب: المعنى أن يستسلف الوصي الفقير من مال اليتيم، فإذا أيسر ردّه، وقيل: المراد أن يكون له أجرة بقدر عمله وخدمته، ومعنى: بالمعروف من غير إسراف، وقيل: نسختها إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً «1» فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ أمر بالتحرز والحرز فهو ندب، وقيل: فرض لِلرِّجالِ نَصِيبٌ الآية: سببها أن بعض العرب كانوا لا يورثون النساء، فنزلت الآية ليرث الرجال النساء نَصِيباً مَفْرُوضاً منصوب انتصاب المصدر المؤكد لقوله: «2» فريضة من الله، وقال الزمخشري: منصوب على التخصيص، أعني: بمعنى نصيبا وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ الآية: خطاب للوارثين أمروا أن يتصدقوا من الميراث على قرابتهم، وعلى اليتامى وعلى المساكين، فقيل: إن ذلك على الوجوب، وقيل: على الندب وهو الصحيح، وقيل: نسخ بآية المواريث وَلْيَخْشَ الَّذِينَ الآية معناها: الأمر لأولياء اليتامى أن يحسنوا إليهم في حفظ أموالهم، فيخافوا الله على أيتامهم كخوفهم على ذريتهم لو تركوهم ضعافا، ويقدروا ذلك في أنفسهم حتى لا يفعلوا خلاف الشفقة والرحمة، وقيل: الذي يجلسون إلى المريض فيأمروه أن يتصدّق بماله حتى يجحف بورثته، فأمروا أن يخشوا على الورثة كما يخشوا على أولادهم، وحذف مفعول وليخش، وخافوا جواب لو قَوْلًا سَدِيداً على القول الأول ملاطفة الوصي لليتيم بالكلام

_ (1) . في الآيتين 10، 11 التاليتين. (2) . في الآيتين 10، 11 التاليتين.

[سورة النساء (4) : آية 10]

الحسن، وعلى القول الثاني أن يقول للمورث: لا تشرف في وصيتك وارفق بورثتك إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً قيل نزلت في الذين لا يورثون الإناث، وقيل: في الأوصياء، ولفظها عام في كل من أكل مال اليتيم بغير حق إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً أي: أكلهم لمال اليتامى يؤول إلى دخولهم النار، وقيل: يأكلون النار في جهنم يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ هذه الآية نزلت بسبب بنات سعد بن الربيع، وقيل: بسبب جابر بن عبد الله، إذ عاده رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في مرضه، ورفعت ما كان في الجاهلية من توريث النساء والأطفال، وقيل: نسخت الوصية للوالدين والأقربين وإنما قال: يُوصِيكُمُ بلفظ الفعل الدائم ولم يقل أوصاكم تنبيها على ما مضى والشروع في حكم آخر وإنما قال يوصيكم الله بالاسم الظاهر، ولم يقل: يوصيكم لأنه أراد تعظيم الوصية، فجاء بالاسم الذي هو أعظم الأسماء وإنما قال: في أولادكم ولم يقل في أبنائكم، لأن الابن يقع على الابن من الرضاعة، وعلى ابن البنت، وعلى ابن الابن المتوفى وليسوا من الورثة لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ هذا بيان للوصية المذكورة، فإن قيل: هلا قال: للأنثيين مثل حظ الذكر، فالجواب: لأن الذكر مقدم فَإِنْ كُنَّ نِساءً إنما أنث ضمير الجماعة في كن، لأنه قصد الإناث، وأصله أن يعود على الأولاد لأنه يشمل الذكور والإناث، وقيل: يعود على المتروكات، وأجاز الزمخشري أن تكون كان تامة والضمير مبهم ونساء تفسير فَوْقَ اثْنَتَيْنِ ظاهره أكثر من اثنتين، ولذلك أجمع على أن للثلاث فما فوقهن الثلثان، وأما البنتان فاختلف فيهما، فقال ابن عباس: لهما النصف كالبنت الواحدة وقال الجمهور الثلثان، وتأولوا فوق اثنتين أن المراد ثنتان فما فوقهما، وقال قوم: إنما وجب لهما الثلثان بالسنة لا بالقرآن وقيل: بالقياس على الأختين وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً بالرفع فاعل، وكان تامة، وبالنصب خبر كان، وقوله تعالى: فَلَهَا النِّصْفُ نص على أن للبنت النصف إذا انفردت، ودليل على أن للابن جميع المال إذا انفرد لأن للذكر مثل حظ الأنثيين إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ الولد يقع على الذكر والأنثى، والواحد والاثنين والجماعة سواء كان للصلب، أو ولد ابن، وكلهم يرد الأبوين «1» إلى السدس وَوَرِثَهُ أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ لم يجعل الله للأم الثلث إلّا بشرطين أحدهما عدم الولد والآخر إحاطة الأبوين بالميراث ولذلك دخلت الواو لعطف أحد الشرطين على الآخر، وسكت عن حظ الأب استغناء بمفهومه، لأنه لا يبقى بعد الثلث إلّا

_ (1) . أي يحصر الولد حق الأبوين بالسدس فقط.

[سورة النساء (4) : الآيات 12 إلى 14]

الثلثان ولا وارث إلّا الأبوان، فاقتضى ذلك أن الأب يأخذ بقية المال وهو الثلثان فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ أجمع العلماء على أن ثلاثة من الأخوة يردّون الأم إلى السدس، واختلفوا في الاثنين فذهب الجمهور أنهما يردّانها إلى السدس، ومذهب ابن عباس أنهما لا يردّانها إليه، بل هما كالأخ الواحد. وحجته أن لفظ الإخوة لا يقع على الاثنين لأنه جمع لا تثنية، وأقل الجمع ثلاثة. وقال غيره: إن لفظ الجمع قد يقع على الاثنين. كقوله: وكنا لحكمهم شاهدين، وتسوروا المحراب، وأطراف النهار، واحتجوا بقوله صلّى الله عليه وسلّم: «الاثنان فما فوقهما جماعة» «1» ، وقال مالك: مضت السنة أن الإخوة اثنان فصاعدا، ومذهبه أن أقل الجمع اثنان، فعلى هذا: يحجب الأبوان من الثلث إلى السدس، سواء كانا شقيقين أو لأب أو لأم أو مختلفين، وسواء كانا ذكرين أو أنثيين أو ذكر أو أنثى، فإن كان معهما أب ورث بقية المال، ولم يكن للإخوة شيء عند الجمهور، فهم يحجبون الأم، ولا يرثون، وقال قوم: يأخذون السدس الذي حجبوه عن الأم، وإن لم يكن أب ورّثوا مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ قوله: من بعد يتعلق بالاستقرار المضمر في قوله: فلهنّ ثلثا ما ترك، أي: استقر لهنّ الثلثان من بعد وصية، ويمتنع أن يتعلق بترك، وفاعل يوصي الميت، وإنما قدمت الوصية على الدين، والدّين مقدم عليها في الشريعة: اهتماما بها، وتأكيدا للأمر بها، ولئلا يتهاون بها وأخّر الدين لأن صاحبه يتقاضاه، فلا يحتاج إلى تأكيد في الأمر بإخراجه وتخرج الوصية من الثلث، والدّين من رأس المال بعد الكفن وإنما ذكر الوصية والدين نكرتين: ليدل على أنهما قد يكونان، وقد لا يكونان فدل ذلك على وجوب الوصية أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً قيل: بالإنفاق إذا احتيج إليه، وقيل: بالشفاعة في الآخرة، ويحتمل أن يريد نفعا بالميراث من ماله، وهو أليق بسياق الكلام وَلَكُمْ نِصْفُ ما تَرَكَ أَزْواجُكُمْ الآية خطاب للرجال. وأجمع العلماء على ما تضمنته هذه الآية من ميراث الزوج والزوجة، وأن ميراث الزوجة تنفرد به إن كانت واحدة، ويقسم بينهن إن كن أكثر من واحدة، ولا ينقص عن ميراث الزوج والزوجة وسائر السهام، إلّا ما نقصه العول على مذهب جمهور العلماء، خلافا لابن عباس، فإنه لا يقول بالعول فإن قيل: لم كرر قوله: من بعد وصية، مع ميراث الزوج وميراث الزوجة، ولم يذكره قبل ذلك إلّا مرة واحدة في ميراث الأولاد والأبوين، فالجواب: أن الموروث في ميراث الزوج هو الزوجة، والموروث في ميراث الزوجة هو

_ (1) . روى ابن ماجة عن أبي موسى قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: اثنان فما فوقهما جماعة. ولكن قيل في رواية: صفيفان.

[سورة النساء (4) : الآيات 15 إلى 18]

الزوج، وكل واحدة قضية على انفرادها، فلذلك ذكر ذلك مع كل واحدة بخلاف الأولى، فإن الموروث فيها واحد، ذكر حكم ما يرث منه أولاده وأبواه، وهي قضية واحدة، فلذلك قال فيها: من بعد وصية مرة واحدة وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً الكلالة هي انقطاع عمود النسب وهو خلو الميت عن ولد ووالد، ويحتمل أن تطلق هنا على الميت الموروث، أو على الورثة، أو على القرابة، أو على المال: فإن كانت على الميت، فإعرابها خبر كان، ويورث في موضع الصفة أو يورث خبر كان، وكلالة حال من الضمير، في يورث أو تكون كان تامة وتورث في موضع الصفة وكلالة حال من الضمير وإن كانت للورثة فهي مصدر في موضع الحال، وإن كانت للقرابة فهي مفعول من أجله، وإن كانت للمال فهي مفعول ليورث، وكل وجه من هذه الوجوه على أن تكون كان تامة، ويورث في موضع الصفة، وأن تكون ناقصة ويورث خبرها وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ المراد هنا: الأخ للأم والأخت للأم بإجماع وقرأ سعد بن أبي وقاص: وله أخ أو أخت لأمه وذلك تفسير للمعنى فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ إذا كان الأخ للأم واحد فله السدس وكذلك إذا كانت الأخت للأم واحدة فهم شركاء في الثلث إذا كان الإخوة للأم اثنين فصاعدا: فلهما الثلث بالسواء بين الذكر والأنثى، لأن قوله: شركاء يقتضي التسوية بينهم، ولا خلاف في ذلك غَيْرَ مُضَارٍّ منصوب على الحال، والعامل فيه يوصي ومضار اسم فاعل، قال ابن عباس: الضرار في الوصية من الكبائر، ووجوه المضار كثيرة: منها الوصية لوارث، والوصية بأكثر من الثلث، أو بالثلث فرارا عن وارث محتاج، فإن علم أنه قصد بوصيته الإضرار رد ما زاد على الثلث اتفاقا، واختلف هل يرد الثلث على قولين في المذهب، والمشهور أنه ينفذ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ مصدر مؤكد لقوله: يوصيكم الله ويجوز أن ينتصب بغير مصدر تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ إشارة إلى ما تقدم من المواريث وغيرها وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ الآية: تعلق بها المعتزلة في قولهم: إن العصاة من المؤمنين يخلدون في النار، وتأولها الأشعرية على أنها في الكفار يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ هي هنا الزنا مِنْ نِسائِكُمْ أو من المسلمات لأن المسلمة تحدّ حدّ الزنا، وأما الكافر أو الكافرة فاختلف، هل يحدّ أو يعاقب؟ فَاسْتَشْهِدُوا

[سورة النساء (4) : الآيات 19 إلى 21]

عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ قيل: إنما جعل شهداء الزنا أربعة تغليظا على المدعي وسترا على العباد، وقيل: ليكون شاهدان على كل واحد من الزانيين فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ كانت عقوبة الزنا الإمساك في البيوت، ثم نسخ ذلك بالأذى المذكور بعد هذا، وهو السب والتوبيخ، وقيل: الإمساك للنساء، والأذى للرجال، فلا نسخ بينهما ورجحه ابن عطية بقوله: في الإمساك من نسائكم، وفي الأذى منكم، ثم نسخ الإمساك والأذى بالرجم للمحصن وبالجلد لغير المحصن، واستقر الأمر على ذلك، وأما الجلد فمذكور في سورة النور، وأما الرجم فقد كان في القرآن ثم نسخ لفظه وبقي حكمه، وقد رجم صلّى الله عليه وسلّم ما عزا الأسلمي وغيره فَأَعْرِضُوا عَنْهُما لما أمر بالأذى للزاني أمر بالإعراض عنه إذا تاب، وهو ترك الأذى إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ أي: إنما يقبل الله توبة من كان على هذه الصفة، وإذا تاب العبد توبة صحيحة بشروطها فيقطع بقبول الله لتوبته عند جمهور العلماء، وقال أبو المعالي: يغلب ذلك على الظن ولا يقطع به يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ أي بسفاهة وقلة تحصيل أداة إلى المعصية، وليس المعنى أنه يجهل أن ذلك الفعل يكون معصية، قال أبو العالية: أجمع الصحابة على أن كل معصية فهي بجهالة، سواء كانت عمدا أو جهلا ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ قيل: قبل المرض والموت. وقيل: قبل السياق، ومعاينة الملائكة، وفي هذا قال رسول الله صلّى الله عليه واله وسلّم: «إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر» «1» وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ الآية: في الذين يصرون على الذنوب إلى حين لا تقبل التوبة، وهو معاينة الموت فإن كانوا كفارا فهم مخلدون في النار بإجماع، وإن كانوا مسلمين فهم في مشيئة الله إن شاء عذبهم، وإن شاء غفر لهم. فقوله: أعتدنا لهم عذابا أليما ثابت في حق الكفار ومنسوخ في حق العصاة من المسلمين بقوله: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ، وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ [النساء: 48] فعذابهم مقيد بالمشيئة لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ قال ابن عباس: كانوا في الجاهلية إذا مات الرجل كان أولياؤه أحق بامرأته إن شاؤوا تزوّجها أحدهم، وإن شاؤوا زوّجوها من غيرهم، وإن شاؤوا منعوها التزوّج، فنزلت

_ (1) . رواه النووي في رياض الصالحين وعزاه للترمذي عن عبد الله بن عمر وقال: حديث حسن.

[سورة النساء (4) : آية 22]

الآية في ذلك، فمعنى الآية على هذا: لا يحل لكم أن تجعلوا النساء يورثن عن الرجال، كما يورث المال، وقيل: الخطاب للأزواج الذين يمسكون المرأة في العصمة، ليرثوا مالها من غير غبطة بها، وقيل: الخطاب للأولياء الذين يمنعون ولياتهم من التزوّج ليرثون دون الزوج وَلا تَعْضُلُوهُنَّ معطوف على أن ترثوا أو نهي والعضل المنع، قال ابن عباس: هي أيضا في أولياء الزوج الذين يمنعون زوجته من التزوّج بعد موته، إلّا أنّ قوله: ما آتيتموهن على هذا معناه ما آتاها الرجل الذي مات، وقال ابن عباس: هي في الأزواج الذين يمسكون المرأة ويسيئون عشرتها حتى تفتدي بصداقها، وهو ظاهر اللفظ في قوله: ما آتيتموهن، ويقويه قوله: وعاشروهن بالمعروف، فإن الأظهر فيه أن يكون في الأزواج، وقد يكون في غيرهم، وقيل: هي للأولياء إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ قيل: الفاحشة هنا الزنا، وقيل: نشوز المرأة وبغضها في زوجها، فإذا نشزت جاز له أن يأخذ ما آتاها من صداق أو غير ذلك من مالها، وهذا جائز على مذهب مالك في الخلع، إذا كان الضرر من المرأة، والزنا أصعب عل الزوج من النشوز، فيجوز له أخذ الفدية فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ الآية: معناها إن كرهتم النساء لوجه فاصبروا عليه، فعسى أن يجعل الله الخير في وجه آخر، وقيل: الخير الكثير الولد، والأحسن العموم، وهذا معنى قوله صلّى الله عليه وسلّم: «لا يفرك مؤمن مؤمنة، إن سخط منها خلقا رضي آخر» «1» وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ الآية: معناها المنع من أن يأخذ الرجل من المرأة فدية على الطلاق إن أراد أن يبدلها بأخرى، وعلى هذا جرى مذهب مالك وغيره في المنع من الفدية إذا كان الضرر وأرادت الفراق من الزوج، فقال قوم: إنّ هذه الآية منسوخة بقوله في البقرة: فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ، وقال قوم: هي ناسخة، والصحيح أنها غير ناسخة ولا منسوخة، فإنّ جواز الفدية على وجه ومنعها على وجه، فلا تعارض ولا نسخ قِنْطاراً مثال على جهة المبالغة في الكثرة، وقد استدلت به المرأة على جواز المغالاة في المهور حين نهى عمر بن الخطاب عن ذلك فقال عمر رضي الله عنه: امرأة أصابت، ورجل أخطأ، كل الناس أفقه منك يا عمر أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ كناية عن الجماع مِيثاقاً غَلِيظاً قيل: عقدة النكاح، وقيل: قوله: فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ [البقرة: 229] وقيل: الأمر بحسن العشرة وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ كان بعض العرب يتزوّج امرأة أبيه بعده فنزلت الآية

_ (1) . أخرجه مسلم عن أبي هريرة. في كتاب الرضاعة 2/ 1091.

[سورة النساء (4) : آية 23]

تحريما لذلك، فكل امرأة تزوّجها رجل حرمت على أولاده ما سفلوا، سواء دخل بها أو لم يدخل، فالنكاح في الآية بمعنى العقد، وما نكح: يعني النساء، وإنما أطلق عليهن ما، لأنّ المراد الجنس، فإن زنى رجل بامرأة فاختلف هل يحرم تزوجها على أولاده أم لا: فحرمه أبو حنيفة، وأجازه الشافعي، وفي المذهب قولان: واحتج من حرّمه بهذه الآية وحمل النكاح فيها على الوطء، وقال من أجازه: إنّ الآية لا تتناوله إذ النكاح فيها بمعنى العقد إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ أي إلّا ما فعلتم في الجاهلية من ذلك، وانقطع بالإسلام فقد عفى عنه فلا تؤاخذون به، ويدل على هذا قوله: إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً بعد قوله: إلّا ما قد سلف في المرأة الأخرى في الجمع بين الأختين قال ابن عباس: كانت العرب تحرم كل ما حرمته الشريعة إلّا امرأة الأب، والجمع بين الأختين، وقيل: المعنى إلّا ما قد سلف فانكحوه إن أمكنكم، وذلك غير ممكن فالمعنى: المبالغة في التحريم إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَمَقْتاً كان في هذه الآية تقتضي الدوام كقوله: إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً، وشبه ذلك وقال المبرد: هي زائدة وذلك خطأ لوجود خبرها منصوبا، وزاد هذا المقت على ما وصف من الزنا في قوله تعالى: إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَمَقْتاً وَساءَ سَبِيلًا: دلالة على أن هذا أقبح من الزنا حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الآية. معناها تحريم ما ذكر من النساء، والنساء المحرمات على التأبيد ثلاثة أصناف بالنسب، وبالرضاع، وبالمصاهرة. فأما النسب فيحرم به سبعة أصناف، وهي المذكورة في هذه الآية، وضابطها أنه يحرم على الرجل فصوله [فروعه] ما سفلت، وأصوله ما علت، وفصول أبويه ما سفلت وأول فصل من كل أصل متقدم على أبويه أُمَّهاتُكُمْ يدخل فيه الوالدة والجدة من قبل الأم والأب ما علون وَبَناتُكُمْ يدخل فيه البنت وبنت الابن وبنت البنت ما سفلن وَأَخَواتُكُمْ يدخل فيه الأخت الشقيقة أو لأب أو لأم وَعَمَّاتُكُمْ يدخل فيه أخت الوالد، وأخت الجد ما علا، سواء كانت شقيقة أو لأب أو لأم وَخالاتُكُمْ يدخل فيه أخت الأم وأخت الجدّ ما علت سواء كانت شقيقة أو لأب أو لأم وَبَناتُ الْأَخِ يدخل فيه كل من تناسل من الأخ الشقيق أو لأب أو لأم وَبَناتُ الْأُخْتِ يدخل فيه كل ما تناسل من الأخت الشقيقة أو لأب أو لأم وَأُمَّهاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ ذكر تعالى صنفين من الرضاعة وهم: الأم والأخت. وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب» «1» ، فاقتضى ذلك تحريم الأصناف السبعة التي تحرم من النسب، وهي الأم والبنت والأخت والعمة والخالة وبنت الأخ وبنت الأخت وتفصيل ذلك يطول، وفي الرضاع مسائل لم نذكرها لأنها ليس لها تعلق

_ (1) . رواه أحمد عن ابن عباس ج أول ص 422.

[سورة النساء (4) : آية 24]

بألفاظ الآية: وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ المحرمات بالمصاهرة أربع: وهن زوجة الأب، وزوجة الابن، وأم الزوجة، وبنت الزوجة، فأما الثلاث الأول فتحرم بالعقد دخل بها أم لم يدخل بها، وأما بنت الزوجة فلا تحرم إلّا بعد الدخول بأمها، فإن وطئها حرمت عليه بنتها بالإجماع، وإن تلذذ بها بما دون الوطء فحرّمها مالك والجمهور وإن عقد عليها ولم يدخل بها: لم تحرم بنتها إجماعا، وتحرم هذه الأربع بالرضاع كما تحرم بالنسب وَرَبائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ الربيبة هي بنت امرأة الرجل من غيره: سميت بذلك لأنه يربيها فلفظها فعيلة بمعنى مفعولة، وقوله: اللاتي في حجوركم على غالب الأمر إذ الأكثر أن تكون الربيبة في حجر زوج أمّها، وهي محرّمة سواء كانت في حجره أم لا، هذا عند الجمهور من العلماء إلّا ما روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه أجاز نكاحها إن لم تكن في حجره اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ اشترط الدخول في تحريم بنت الزوجة، ولم يشترط في غيرها، وعلى ذلك جمهور العلماء: إلّا ما روي عن علي بن أبي طالب أنه اشترط الدخول في تحريم الجميع، وقد انعقد الإجماع بعد ذلك وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الحلائل جمع حليلة وهي الزوجة الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ تخصيص ليخرج عنه زوجة الابن يتبناه الرجل، وهو أجنبي عنه كتزويج رسول الله صلّى الله عليه واله وسلّم زينب بنت جحش، امرأة زيد بن حارثة الكلبي الذي كان يقال له: زيد بن محمد صلّى الله تعالى عليه واله وسلّم وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ يقتضي تحريم الجمع بين الأختين سواء كانتا شقيقتين أو لأب أو لأم وذلك في الزوجتين، وأما الجمع بين الأختين المملوكتين في الوطء فمنعه مالك والشافعي وأبو حنيفة وغيرهم، ورأوا أنه داخل في عموم لفظ الأختين، وأجازه الظاهرية لأنهم قصروا الآية على الجمع بعقد النكاح، وأما الجمع بين الأختين في الملك دون وطء فجائز باتفاق إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ المعنى: إلّا ما فعلتم من ذلك في الجاهلية وانقطع بالإسلام فقد عفى عنكم فلا تؤاخذون به، وهذا أرجح الأقوال حسبما تقدم في الموضع الأول وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ المراد هنا ذوات الأزواج، وهو معطوف على المحرمات المذكورة قبله، والمعنى أنه لا يحل نكاح المرأة إذا كانت في عصمة الرجل إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ يريد السبايا في أشهر الأقوال، والاستثناء متصل، والمعنى: أن المرأة الكافرة ذا كان لها زوج، ثم سبيت: جاز لمن ملكها من المسلمين أن يطأها، وسبب ذلك أن رسول الله صلّى الله عليه واله وسلّم بعث جيشا إلى أوطاس، فأصابوا سبايا من العدوّ لهنّ أزواج من المشركين، فتأثم المسلمون من غشيانهنّ، فنزلت الآية مبيحة لذلك

[سورة النساء (4) : الآيات 25 إلى 28]

ومذهب مالك أن السبي يهدم النكاح سواء سبي الزوجان الكافران معا أو سبي أحدهما قبل الآخر، وقال ابن المواز: لا يهدم السبي النكاح كِتابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ منصوب على المصدرية: أي كتب الله عليكم كتابا وهو تحريم ما حرم وهو عند الكوفيين منصوب على الإغراء وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ معناه: أحلّ لكم تزويج من سوى ما حرم من النساء، وعطف أحل على الفعل المضمر الذي نصب كتاب الله، والفاعل هو الله أي كتب الله عليكم تحريم من ذكر، وأحل لكم ما وراء ذلكم أَنْ تَبْتَغُوا مفعول من أجله، أو بدل مما وراء ذلكم، وحذف مفعوله وهو النساء مُحْصِنِينَ هنا العفة ونصبه على الحال من الفاعل في تبتغوا غَيْرَ مُسافِحِينَ أي غير زناة، والسفاح هو الزنا فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً قال ابن عباس وغيره: معناها إذا استمتعتم بالزوجة ووقع الوطء فقد وجب إعطاء الأجر، وهو الصداق كاملا. وقيل: إنها في نكاح المتعة وهو النكاح إلى أجل من غير ميراث، وكان جائزا في أول الإسلام فنزلت هذه الآية في وجوب الصداق فيه، ثم حرم عند جمهور العلماء، فالآية على هذا منسوخة بالخبر الثابت في تحريم نكاح المتعة، وقيل نسختها آية الفرائض لأن نكاح المتعة لا ميراث فيه، وقيل: نسختها وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ [المؤمنون: 5] وروي عن ابن عباس جواز نكاح المتعة، وروي أنه رجع عنه وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ من قال: إن الآية المتقدمة في مهور النساء فمعنى هذه جواز ما يتراضون به من حط النساء من الصداق، أو تأخيره بعد استقرار الفريضة ومن قال: إن الآية في نكاح المتعة. فمعنى هذا جواز ما يتراضون به من زيادة في مدة المتعة وزيادة في الأجر. وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ معناها إباحة تزويج الفتيات، وهنّ الإماء للرجل إذا لم يجد طولا للمحصنات، والطول هنا هو السعة في المال، والمحصنات هنا يراد بهنّ الحرائر غير المملوكات. ومذهب مالك وأكثر أصحابه أنه: لا يجوز للحر نكاح أمة إلّا بشرطين: أحدهما: عدم الطول وهو ألا يجد ما يتزوج به حرة، والآخر: خوف العنت، وهو الزنا لقوله بعد هذا: ذلك لمن خشي العنت منكم، وأجاز ابن القاسم نكاحهن دون الشرطين على القول بأن دليل الخطاب لا يعتبر، واتفقوا على اشتراط الإسلام في الأمة التي تتزوج لقوله تعالى: مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ إلّا أهل العراق فلم يشترطوه، وإعراب طولا: مفعولا بالاستطاعة، وأن ينكح بدل منه وهو في موضع نصب بتقدير لأن ينكح ويحتمل أن يكون طولا منصوبا على المصدر والعامل فيه الاستطاعة لأنها بمعنى يتقارب، وأن ينكح على هذا مفعول بالاستطاعة أو بالمصدر وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ معناه أنه يعلم

[سورة النساء (4) : الآيات 29 إلى 31]

بواطن الأمور ولكم ظواهرها، فإذا كانت الأمة ظاهرة الإيمان، فنكاحها صحيح، وعلم باطنها إلى الله بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ أي إماؤكم منكم، وهذا تأنيس بنكاح الإماء، لأن بعض العرب كان يأنف من ذلك فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ أي بإذن ساداتهن المالكين لهنّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ أي صدقاتهنّ، وهذا يقتضي أنهنّ أحق بصدقاتهنّ من ساداتهنّ، وهو مذهب مالك بِالْمَعْرُوفِ أي بالشرع على ما تقتضيه السنة مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ أي عفيفات غير زانيات، وهو منصوب على الحال والعامل فيه فانكحوهنّ وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ جمع خدن وهو الخليل، وكان من نساء الجاهلية من تتخذ خدنا تزني معه خاصة، ومنهنّ من كانت لا تردّ يد لامس فَإِذا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ معنى ذلك أن الأمة إذا زنت بعد أن أحصنت فعليها نصف حدّ الحرة، فإن الحرة تجلد في الزنا مائة جلدة، والأمة تجلد خمسين، فإذا أحصن يريد به هنا تزوّجن، والفاحشة هنا الزنا، والمحصنات هنا الحرائر، والعذاب هنا الحدّ فاقتضت الآية حدّ الأمة إذا زنت بعد أن تزوّجت، ويؤخذ حدّ غير المتزوّجة من السنة وهو مثل حدّ المتزوّجة وهذا على قراءة أحصنّ بضم الهمزة وكسر الصاد، وقرئ بفتحهما، ومعناه أسلمن، وقيل: تزوّجن ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ الإشارة إلى تزوّج الأمة أي إنما يجوز لمن خشي على نفسه الزنا، لا لمن يملك نفسه وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ المراد الصبر عن نكاح الإماء، وهذا يندب إلى تركه، وعلته ما يؤدي إليه من استرقاق الولد يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ قال الزمخشري: أصله يريد الله أن يبين لكم فزيدت اللام مؤكدة لإرادة التبيين كما زيدت في لا أبالك لتأكيد إضافة الأب، وقال الكوفيون اللام مصدرية مثل أن وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ أي يهديكم مناهج من كان قبلكم من الأنبياء والصالحين لتقتدوا بهم وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ كرر توطئة لفساد إرادة الذين يتبعون الشهوات، وهم هنا الزناة عند مجاهد، وقيل: المجوس لنكاحهم ذات المحارم، وقيل: عام في كل متبع شهوة وهو أرجح يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ يقتضي سياق الكلام التخفيف الذي وقع في إباحة نكاح الإماء، وهو مع ذلك عام في كل ما خفف الله عن عباده، وجعل دينه يسرا وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً قيل: معناه لا يصبر على النساء، وذلك مقتضى سياق الكلام، واللفظ أعم من ذلك لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ يدخل فيه القمار والغصب

[سورة النساء (4) : الآيات 32 إلى 34]

والسرقة وغير ذلك إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً استثناء منقطع، والمعنى: لكن إن كانت تجارة فكلوها، وفي إباحة التجارة دليل على أنه: يجوز للإنسان أن يشتري بدرهم سلعة تساوي مائة، والمشهور إمضاء البيع. وحكي عن ابن وهب أنه يرد إذا كان الغبن أكثر من الثلث. وموضع أن نصب، وتجارة بالرفع «1» فاعل تكون وهي تامة، وقرئ بالنصب خبر تكون وهي ناقصة عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ أي اتفاق. وبهذا استدل المالكية على تمام البيع وبالعقد، دون التفرق وقال الشافعي: إنما يتم بالتفرق بالأبدان، لقوله صلّى الله عليه واله وسلّم: «المتبايعان بالخيار ما لم يتفرقا» «2» . وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ قال ابن عطية أجمع المفسرون أنّ المعنى: لا يقتل بعضكم بعضا، قلت: ولفظها يتناول قتل الإنسان لنفسه، وقد حملها عمرو بن العاص على ذلك، ولم ينكره رسول الله صلّى الله عليه واله وسلّم إذ سمعه وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ إشارة إلى القتل، لأنه أقرب مذكور، وقيل: إليه وإلى أكل المال بالباطل، وقيل: إلى كل ما تقدّم من المنهيات من أوّل السورة إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ «3» اختلف الناس في الكبائر ما هي؟ فقال ابن عباس: الكبائر كل ذنب ختمه الله بنار أو لعنة أو غضب، وقال ابن مسعود: الكبائر هي الذنوب المذكورة من أول هذه السورة إلى أوّل هذه الآية، وقال بعض العلماء: كل ما عصي الله به، فهو كبيرة، وعدّها بعضهم سبعة عشر، وفي البخاري عن النبي صلّى الله عليه واله وسلّم: «اتقوا السبع الموبقات: الإشراك بالله والسحر، وقتل النفس، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات» ، فلا شك أنّ هذه من الكبائر للنص عليها في الحديث، وزاد بعضهم عليها أشياء، وورد في الأحاديث النص على أنها كبائر، وورد في القرآن أو في الحديث وعيد عليها، فمنها عقوق الوالدين، وشهادة الزور، واليمين الغموس والزنا، والسرقة، وشرب الخمر، والنهبة، والقنوط من رحمة الله، والأمن من مكر الله، ومنع ابن السبيل الماء والإلحاد في البيت الحرام، والنميمة، وترك التحرّز من البول والغلول واستطالة المرء في عرض أخيه، والجور في الحكم نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وعد بغفران الذنوب الصغائر إذا اجتنب الكبائر مُدْخَلًا كَرِيماً اسم مكان وهو هنا الجنة وَلا تَتَمَنَّوْا الآية: سببها أن النساء قلن: ليتنا استوينا

_ (1) . قراءة المؤلف رحمه الله، وفي المصحف بالنصب وهي قراءة حفص. [.....] (2) . رواه أحمد عن ابن عمر ج أول ص: 68. (3) . ذكره المنذري ج 3 ص 48 بلفظ: اجتنبوا السبع الموبقات وعزاه للبخاري ومسلم وأبي داود والنسائي عن أبي هريرة.

مع الرجال في الميراث، وشاركناهم في الغزو. فنزلت نهيا عن ذلك لأن في تمنيهم ردّ على حكم الشريعة، فيدخل في النهي تمني مخالفة الأحكام الشرعية كلها لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا الآية: أي من الأجر والحسنات، وقيل: من الميراث، ويرده لفظ الاكتساب وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ الآية: في معناه وجهان أحدهما: لكل شيء من الأموال جعلنا موالي يرثونه، فمما ترك على هذا بيان لكل، والآخر: لكل أحد جعلنا موالي يرثون مما ترك الوالدان والأقربون، فمما ترك على هذا: يتعلق بفعل مضمر، والموالي: هنا الورثة والعصبة وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ اختلف هل هي منسوخة أو محكمة؟ فالذين قالوا إنها منسوخة قالوا: معناها الميراث بالحلف الذي كان في الجاهلية، وقيل: بالمؤاخاة التي آخى رسول الله صلّى الله عليه واله وسلّم بين أصحابه، ثم نسخها: وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ [الأنفال: 75] فصار الميراث للأقارب. والذين قالوا إنها محكمة اختلفوا، فقال ابن عباس: هي المؤازرة والنصرة بالحلف لا في الميراث به، وقال أبو حنيفة: هي في الميراث، وأن الرجلين إذا والى أحدهما الآخر، على أن يتوارثا صح ذلك، وإن لم تكن بينهما قرابة الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ قوّام بناء مبالغة من القيام على الشيء والاستبداد بالنظر فيه، قال ابن عباس: الرجال أمراء على النساء بِما فَضَّلَ اللَّهُ الباء للتعليل، وما مصدرية، والتفضيل بالإمامة والجهاد، وملك الطلاق وكمال العقل وغير ذلك وَبِما أَنْفَقُوا هو: الصداق والنفقة المستمرة فَالصَّالِحاتُ قانِتاتٌ أي النساء الصالحات في دينهن مطيعات لأزواجهن، أو مطيعة لله في حق أزواجهن حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ أي تحفظ كل ما غاب عن علم زوجها، فيدخل في ذلك صيانة نفسها وحفظ ماله وبيته وحفظ أسراره بِما حَفِظَ اللَّهُ أي بحفظ الله ورعايته، أو بأمره للنساء أن يطعن الزوج ويحفظنه، فما مصدرية أو بمعنى الذي وَاللَّاتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ قيل: الخوف هنا اليقين فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ هذه أنواع من تأديب المرأة إذا نشزت على زوجها وهي على مراتب: بالوعظ في النشوز الخفيف، والهجران فيما هو أشد منه، والضرب فيما هو أشد ومتى انتهت عن النشوز بوجه من التأديب: لم يتعد إلى ما بعده، والهجران هنا هو ترك مضاجعتها، وقيل: ترك الجماع إذا ضاجعها، والضرب غير مبرح فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا أي إذا أطاعت المرأة زوجها فليس له أن يؤذيها

[سورة النساء (4) : الآيات 35 إلى 38]

بهجران ولا ضرب وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما الشقاق الشر والعداوة، وكان الأصل إن خفتم شقاق بينهما، ثم أضيف الظرف إلى الشقاق على طريق الاتساع لقوله تعالى: بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ [سبأ: 33] وأصله: مكر بالليل والنهار فَابْعَثُوا حَكَماً الآية. ذكر تعالى الحكم في نشوز المرأة، والحكم في طاعتها، ثم ذكر هنا حالة أخرى، وهي ما إذا ساء ما بين الزوجين ولم يقدر على الإصلاح بينهما، ولا علم من الظالم منهما. فيبعث حكمان مسلمان لينظرا في أمرهما. وينفذ ما ظهر لهما من تطليق وخلع من غير إذن الزوج، وقال أبو حنيفة: ليس لهما الفراق إلّا إن جعل لهما، وإن اختلفا لم يلزم شيء إلّا باتفاقهما ومشهور مذهب مالك: أن الحاكم هو الذي يبعث الحكمين، وقيل: يبعثهما الزوجان، وجرت عادة القضاة [في زمن المؤلف] أن يبعثوا امرأة أمينة، ولا يبعثوا حكمين، قال بعض العلماء: هذا تغيير لحكم القرآن والسنة الجارية مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها يجوز في المذهب أن يكون الحكمان من غير أهل الزوجين، والأكمل أن يكونا من أهلهما كما ذكر الله إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُما الضمير في يريدا للحكمين، وفي بينهما للزوجين على الأظهر، وقيل: الضميران للزوجين، وقيل: للحكمين وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى وَالْجارِ الْجُنُبِ قال ابن عباس: الجار ذي القربى هو القريب النسب، والجار الجنب هو الأجنبي، وقيل: ذي القربى القريب المسكن منك، والجنب البعيد المسكن عنك، وحدّ الجوار عند بعضهم: أربعون ذراعا من كل ناحية الصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ قال ابن عباس: الرفيق في السعي، وقال عليّ بن أبي طالب: الزوجة مُخْتالًا اسم فاعل وزنه مفتعل من الخيلاء، وهو الكبر وإعجاب المرء بنفسه فَخُوراً شديد الفخر الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بدل من قوله مختالا أو نصب على الذمّ أو دفع بخبر ابتداء مضمر أو مبتدأ وخبره محذوف تقديره يعذبون، والآية في اليهود: نزلت في قوم منهم كحيي بن أخطب ورفاعة بن زيد بن التابوت كانوا يقولون للأنصار: لا تنفقوا أموالكم في الجهاد والصدقات. وهي مع ذلك عامة في من فعل هذه الأفعال من المسلمين وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ عطف على الذين يبخلون، وقيل على الكافرين، والآية في المنافقين الذين كانوا ينفقون في الزكاة والجهاد رياء ومصانعة، وقيل: في اليهود، وقيل: في مشركي مكة الذين أنفقوا أموالهم في حرب المسلمين قَرِيناً أي ملازما له يغويه

[سورة النساء (4) : الآيات 39 إلى 42]

وَماذا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ الآية: استدعاء لهم كملاطفة أو توبيخ على ترك الإيمان والإنفاق، كأنه يقول أي مضرة عليهم في ذلك مِثْقالَ ذَرَّةٍ أي وزنها، وهي النملة الصغيرة، وذلك تمثيل بالقليل تنبيها على الكثير وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً بالرفع فاعل «1» ، وتك تامة، وبالنصب خبر على أنها ناقصة واسمها مضمر فيها يُضاعِفْها أي يكثرها واحد البرّ بعشر إلى سبعمائة أو أكثر وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أي من عنده تفضلا وزيادة على ثواب العمل فَكَيْفَ إِذا جِئْنا تقديره: كيف يكون الحال إذا جئنا بِشَهِيدٍ هو نبيهم يشهد عليهم بأعمالهم وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً أي تشهد على قومك، ولما قرأ ابن مسعود هذه الآية على رسول الله صلّى الله عليه واله وسلّم ذرفت عيناه لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ أي يتمنون أن يدفنوا فيها، ثم تسوّى بهم كما تسوّى بالموتى وقيل: يتمنون أن يكونوا سواء مع الأرض كقوله: يَقُولُ الْكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً [عمّ: 40] وذلك لما يرون من أهوال يوم القيامة وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً استئناف إخبار أنهم لا يكتمون يوم القيامة عن الله شيئا فإن قيل: كيف هذا مع قولهم: وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ؟ [الأنعام: 23] فالجواب من وجهين: أحدهما: أن الكتم لا ينفعهم لأنهم إذا كتموا تنطق جوارحهم، فكأنهم لم يكتموا، والآخر: أنهم طوائف مختلفة، ولهم أوقات مختلفة، وقيل إن قوله: ولا يكتمون عطف على تسوّى أي يتمنون أن لا يكتموا لأنهم إذا كتموا افتضحوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى سببها أن جماعة من الصحابة شربوا الخمر قبل تحريمها، ثم قاموا إلى الصلاة وأمّهم أحدهم فخلط في القراءة فمعناها النهي عن الصلاة في حال السكر. قال بعض الناس: هي منسوخة بتحريم الخمر، وذلك لا يلزم لأنها ليس فيها ما يقتضي إباحة الخمر، إنما هي نهي عن الصلاة في حال السكر، وذلك الحكم الثابت في حين إباحة الخمر وفي حين تحريمها، وقال بعضهم: معناها لا يكن منكم سكر يمنع قرب الصلاة، إذ المرء مأمور بالصلاة فكأنها تقتضي النهي عن السكر وعن سببه وهو الشرب، وهذا بعيد من مقتضى اللفظ حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ حتى تعود إليكم عقولكم فتعلمون ما تقرؤون، ويظهر من هذا أن السكر أن لا يعلم ما يقول فأخذ بعض الناس من ذلك أنّ السكران لا يلزم طلاقه ولا إقراره وَلا جُنُباً إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ عطف ولا جنبا على موضع وأنتم سكارى، إذ هو في موضع الحال والجنب هنا غير الطاهر بإنزال أو إيلاج وهو واقع على

_ (1) . حسب قراءة المؤلف وهي قراءة نافع.

جماعة بدليل استثناء الجمع منه. واختلف في عابري سبيل فقيل: إنه المسافر، ومعنى الآية على هذا: نهي أن يقرب الصلاة وهو جنب إلّا في السفر فيصلي بالتيمم دون اغتسال، فمقتضى الآية. إباحة التيمم للجنب في السفر، ويؤخذ إباحة التيمم للجنب في الحضر من الحديث، وقيل: عابر السبيل المارّ في المسجد، والصلاة هنا يراد بها المسجد، لأنه موضع الصلاة فمعنى الآية على هذا: النهي أن يقرب المسجد الجنب إلّا خاطرا عليه، وعلى هذا أخذ الشافعي بأنه يجوز للجنب أن يمر في المسجد، ولا يجوز له أن يقعد فيه، ومنع مالك المرور والقعود، وأجازهما داود الظاهري وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ الآية سببها عدم الصحابة الماء في غزوة المريسيع فأبيح لهم التيمم لعدم الماء، ثم إن عدم الماء على ثلاثة أوجه: أحدها: عدمه في السفر، والثاني: عدمه في المرض، فيجوز التيمم في هذين الوجهين بإجماع، لأن الآية نص في المرض والسفر إذا عدم الماء فيهما، لقوله: وإن كنتم مرضى أو على سفر ثم قال: فلم تجدوا ماء. الوجه الثالث: عدم الماء في الحضر دون مرض، فاختلف الفقهاء فيه، فمذهب أبو حنيفة أنه لا يجوز فيه التيمم، لأن ظاهر الآية أن عدم الماء إنما يعتبر مع المرض أو السفر، ومذهب مالك والشافعي: أنه يجوز فيه التيمم فإن قلنا: إن الآية لا تقتضيه فيؤخذ جوازه من السنّة. وإن قلنا: إن الآية تقتضيه، فيؤخذ جوازه منها، وهذا هو الأرجح إن شاء الله، وذلك أنه ذكر في أول الآية المرض والسفر، ثم ذكر الإحداث دون مرض ولا سفر، ثم قال بعد ذلك كله: فلم تجدوا ماء فيرجع قوله فلم تجدوا ماء إلى المرض وإلى السفر وإلى من أحدث في غير مرض ولا سفر فيجوز التيمم على هذا لمن عدم الماء في غير مرض ولا سفر، فيكون في الآية حجة لمالك والشافعي، ويجوز التيمم أيضا في مذهب مالك للمريض إذا وجد الماء، ولم يقدر على استعماله لضرر بدنه، فإن قلنا: إن الآية لا تقتضيه، فيؤخذ جوازه من السنة، وإن قلنا إن السنة تقتضيه، فيؤخذ جوازه منها على أن يتناول قوله إن كنتم مرضى أن معناه مرضى لا تقدرون على مس الماء، وحدّ المرض الذي يجوز فيه التيمم عند مالك هو: أن يخاف الموت أو زيادة المرض أو تأخر البرء، وعند الشافعي: خوف الموت لا غير، وحدّ السفر: الغيبة عن الحضر سواء، كان مما تقصر فيه الصلاة أم لا أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ في أو هنا تأويلان: أحدهما: أن تكون للتفصيل والتنويع على بابها، والآخر: أنها بمعنى الواو، فعلى القول بأنها على بابها يكون قوله: فلم تجدوا ماء راجعا إلى المريض والمسافر، وإلى من جاء من الغائط، وإلى من لامس، سواء كانا مريضين أو مسافرين، أم حسبما ذكرنا قبل هذا، فيقتضي لك جواز التيمم للحاضر الصحيح إذا عدم الماء وهو مذهب مالك والشافعي فيكون في الآية حجة لهما وعلى القول بأنها بمعنى الواو يكون قوله فلم تجدوا ماء راجعا إلى المريض والمسافر فيقتضي ذلك أنه لا يجوز التيمم إلا في المرض والسفر مع عدم

الماء وأنه لا يجوز للحاضر الصحيح إذا عدم الماء، ولكن يؤخذ جواز التيمم له من موضع آخر، والراجح أن تكون أو على بابها لوجهين أحدهما أن جعلها بمعنى الواو إخراج لها عن أصلها وذلك ضعيف، والآخر إن كانت على بابها: كان فيها فائدة إباحة التيمم للحاضر الصحيح إذا عدم الماء على ما ظهر لنا فيها، وإذا كانت بمعنى الواو لم تعط هذه الفائدة، وحجة من جعلها بمعنى الواو أنه لو جعلها على بابها لاقتضى المعنى أن المرض والسفر حدث يوجب الوضوء كالغائط لعطفه عليها. وهذا لا يلزم، لأن العطف بأو هنا للتنويع والتفصيل. ومعنى الآية كأنه قال: يجوز لكم التيمم إذا لم تجدوا ماء إن كنتم مرضى أو على سفر، وأحدثتم في غير مرض ولا سفر الْغائِطِ أصله المكان المنخفض، وهو هنا كناية عن الحدث الخارج من المخرجين، وهو العذرة، والريح، والبول، لأن من ذهب إلى الغائط يكون منه هذه الأحداث الثلاث، وقيل: إنما هو كناية عن العذرة، وأما البول والريح، فيؤخذ وجوب الوضوء لهما من السنة، وكذلك الودي والمذي. أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ اختلف في المراد بالملامسة هنا على ثلاثة أقوال أحدها: أنها الجماع وما دونه من التقبيل واللمس باليد وغيرها، وهو قول مالك، فعلى هذا ينتقض الوضوء باللمس الذي هو دون الجماع على تفصيل في المذهب، ويجب معه التيمم إذا عدم الماء، ويكون الجنب من أهل التيمم، والقول الثاني: أنها ما دون الجماع، فعلى هذا ينتقض الوضوء باللمس، ولا يجوز التيمم للجنب، وقد قال بذلك عمر بن الخطاب. ويؤخذ جوازه من الحديث. والثالث: أنها الجماع فعلى هذا يجوز التيمم للجنب، ولا يكون ما دون الجماع ناقضا للوضوء وهو مذهب أبي حنيفة فَلَمْ تَجِدُوا ماءً هذا يفيد وجوب طلب الماء وهو مذهب مالك، خلافا لأبي حنيفة فإن وجده بثمن فاختلف هل يجوز له التيمم أم لا، وإن وهب له فاختلف هل يلزم قبوله أم لا فَتَيَمَّمُوا التيمم في اللغة: القصد، وفي الفقه: الطهارة بالتراب، وهو منقول من المعنى اللغوي صَعِيداً طَيِّباً الصعيد عند مالك هو وجه الأرض، كان ترابا أو رملا أو حجارة فأجاز التيمم بذلك كله، وهو عند الشافعي التراب لا غير، والطيب هنا الطاهر. واختلف في التيمم بالمعادن كالذهب وبالملح وبالتراب المنقول كالمجعول في طبق، وبالآجر، وبالجص المطبوخ، وبالجدار، وبالنبات الذي على وجه الأرض، وذلك كله على الاختلاف في معنى الصعيد فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ لا يكون التيمم إلّا في هذين العضوين، ويقدم الوجه على اليدين لظاهر الآية، وذلك على الندب عند مالك، ويستوعب الوجه بالمسح، وأما اليدان فاختلف هل يمسحهما إلى الكوعين، أو إلى المرفقين؟ ولفظ الآية محتمل، لأنه لم يحد، وقد احتج من قال إلى المرفقين بأن هذا مطلق، فيحمل على المقيّد، وهو تحديدها في الوضوء بالمرفقين الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ هم اليهود هنا، وفي الموضع الثاني قال

[سورة النساء (4) : الآيات 45 إلى 47]

السهيلي: فالموضع الأول نزل في رفاعة بن زيد بن التابوت، وفي الثاني نزل في كعب بن الأشرف يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ عبارة عن إيثارهم الكفر على الإيمان، فالشراء مجاز كقوله: اشتروا الضلالة بالهدى وفي تكرار قوله: كفى بالله مبالغة مِنَ الَّذِينَ هادُوا من راجعة إلى الذين أوتوا نصيبا، أو إلى أعدائكم، فهي بيان، وقال الفارسي: هي ابتداء كلام تقديره. من الذين هادوا قوم وقيل: هي متعلقة بنصيرا على قول الفارسي يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ يحتمل تحريف اللفظ أو المعنى، وقيل: الكلم هنا التوراة، وقيل: كلام النبي صلّى الله عليه وسلّم غَيْرَ مُسْمَعٍ معناه: لا سمعت راعِنا ذكر في [البقرة: 104] سَمِعْنا وَأَطَعْنا عوض من قولهم: سمعنا وعصينا، واسمع عوض من قولهم: اسمع غير مسمع، وانظرنا عوض من قولهم: راعنا، وهو النظر أو الانتظار، فهذه الأشياء الثلاثة في مقابلة الأشياء الثلاثة التي ذمهم على قولها، لما فيها من سوء الأدب مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأخبر أنهم لو قالوا هذه الثلاثة الأخر عوضا عن تلك: لكان خيرا لهم، فإن هذه ليس فيها سوء أدب مُصَدِّقاً ذكر في البقرة أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً قال ابن عباس: طمسها أن تزال العيون منها، وترد في القفا، فيكون ذلك ردا على الدبر، وقيل: طمسها محو تخطيط صورها من أنف أو عين أو حاجب حتى تصير كالأدبار في خلوها عن الحواس أَوْ نَلْعَنَهُمْ أي نمسخهم كما مسخ أصحاب السبت، وقد ذكر في البقرة، أو يكون من اللعن المعروف، والضمير يعود على الوجوه، والمراد أصحابها، أو على الذين أوتوا الكتاب على الالتفات إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ هذه الآية هي الحاكمة في مسألة الوعيد. وهي المبينة لما تعارض فيها من الآيات، وهي الحجة لأهل السنة، والقاطعة بالخوارج والمعتزلة والمرجئة، وذلك أن مذهب أهل السنة أن العصاة من المؤمنين في مشيئة الله، إن شاء عذبهم، وإن شاء غفر لهم، وحجتهم هذه الآية، فإنها نص في هذا المعنى، ومذهب الخوارج أن العصاة يعذبون ولا بد سواء كانت ذنوبهم صغائر أو كبائر. ومذهب المعتزلة أنهم يعذبون على الكبائر ولا بد، ويرد على الطائفتين قوله: «ويغفر ما دون ذلك» ومذهب المرجئة أن العصاة كلهم يغفر لهم ولا بدّ وأنه لا يضر ذنب مع الإيمان، ويرد عليهم قولهم: لمن يشاء، فإنه تخصيص لبعض العصاة، وقد تأولت المعتزلة الآية على مذهبهم، فقالوا: لمن يشاء، وهو التائب لا خلاف أنه لا يعذب، وهذا التأويل بعيد، لأن قوله: إنّ

[سورة النساء (4) : الآيات 54 إلى 60]

الله لا يغفر أن يشرك به في غير التائب من الشرك وكذلك قوله: وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ في غير التائب من العصيان ليكون أول الآية وآخرها على نسق واحد، وتأولتها المرجئة على مذهبهم، فقالوا: لمن يشاء: معناه لمن يشاء أن يؤمن، وهذا أيضا بعيد، لا يقتضيه اللفظ وقد ورد في القرآن آيات كثيرة في الوعيد فحملها المعتزلة على العصاة وحملها المرجئة على الكفار، وحملها أهل السنة على الكفار، وعلى من لا يغفر الله له من العصاة، كما حملوا آية الوعد على المؤمنين الذين لم يذنبوا، وعلى المذنبين التائبين، وعلى من يغفر الله له من العصاة غير التائبين، فعلى مذهب أهل السنة لا يبقى تعارض بين آية الوعد وآية الوعيد، بل يجمع بين معانيها، بخلاف قول غيرهم فإنّ الآيات فيه تتعارض، وتلخيص المذاهب أن الكافر إذا تاب من كفره: غفر له بإجماع، وإن مات على كفره: لم يغفر له، وخلد في النار بإجماع، وأن العاصي من المؤمنين إن تاب غفر له، وإن مات دون توبة فهو الذي اختلف الناس فيه الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ هم اليهود لعنهم الله، وتزكيتهم قولهم: نحن أبناء الله وأحباؤه، وقيل: مدحهم لأنفسهم فَتِيلًا الفتيل هو الخيط الذي في شق نواة التمرة، وقيل: ما يخرج بين إصبعيك وكفيك إذا فتلتهما، هو تمثيل وعبارة عن أقل الأشياء فيدل على الأكثر بطريق الأولى يَفْتَرُونَ دليل على أن تزكيتهم لأنفسهم بالباطل يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ قال ابن عباس: الجبت هو حيي بن أخطب، والطاغوت كعب بن الأشرف، وقال عمر بن الخطاب: الجبت السحر، والطاغوت الشيطان، وقيل الجبت الكاهن، والطاغوت الساحر، وبالجملة هما كل ما عبد وأطيع من دون الله وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الآية: سببها أن حيي بن أخطب وكعب بن الأشرف أو غيرهما من اليهود، قالوا لكفار قريش: أنتم أهدى سبيلا من محمد وأصحابه أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ الهمزة للاستفهام مع الإنكار نَقِيراً النقير هي النقرة في ظهر النواة وهو تمثيل، وعبارة عن أقل الأشياء، والمراد وصف اليهود بالبخل لو كان لهم نصيب من الملك، وأنهم حينئذ يبخلون بالنقير الذي هو أقل الأشياء، ويبخلون بما هو أكثر منه من باب أولى أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ وصفهم بالحسد مع البخل، والناس هنا يراد بهم النبي صلّى الله عليه واله وسلّم وأمته، والفضل النبوة، وقيل: النصر والعزة، وقيل: الناس العرب والفضل كون النبي صلّى الله عليه واله وسلّم منهم فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ

[سورة النساء (4) : الآيات 61 إلى 69]

وَالْحِكْمَةَ المراد بآل إبراهيم ذريته من بني إسرائيل وغيرهم ممن آتاه الله الكتب التي أنزلها والحكمة التي علمها، والمقصود بالآية الردّ على اليهود في حسدهم لسيدنا محمد صلّى الله عليه وسلّم، ومعناها إلزام لهم بما عرفوه من فضل الله تعالى على آل إبراهيم، فلأيّ شيء تخصون محمدا صلّى الله عليه وسلّم بالحسد دون غيره ممن أنعم الله عليهم مُلْكاً عَظِيماً الملك في آل إبراهيم هو ملك يوسف وداود وسليمان فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ الآية قيل: المراد من اليهود من آمن بالنبي صلّى الله عليه واله وسلّم، أو بالقرآن المذكور في قوله تعالى: مصدقا لما معكم، أو بما ذكر من حديث إبراهيم، فهذه ثلاثة أوجه في ضمير به، وقيل: منهم أي من آل إبراهيم من آمن بإبراهيم، ومنهم من كفر: كقوله تعالى: فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ [الحديد: 26] كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ الآية قيل: تبدل لهم جلود بعد جلود أخرى، إذ نفوسهم هي المعذبة وقيل: تبديل الجلود تغيير صفاتها بالنار، وقيل: الجلود السرابيل وهو بعيد أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ ذكر في البقرة ظِلًّا ظَلِيلًا صفة من لفظ الظل للتأكيد: أي دائما لا تنسخه الشمس وقيل: نفي الحر والبرد إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ الآية: قيل هي خطاب للولاة وقيل: للنبي صلّى الله عليه وسلّم، حين أخذ مفتاح الكعبة من عثمان بن طلحة ولفظها عام، وكذلك حكمها وَأُولِي الْأَمْرِ هم: الولاة، وقيل: العلماء نزلت في عبد الله بن حذافة بعثه رسول الله صلّى الله عليه واله وسلّم في سرية فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ الردّ إلى الله هو النظر في كتابه، والردّ إلى الرسول صلّى الله عليه وسلّم هو سؤاله في حياته والنظر في سنته بعد وفاته إِنْ كُنْتُمْ يحتمل أن يكون هذا الشرط راجعا إلى قوله: فردّوه أو إلى قوله أطيعوا، والأوّل أظهر، لأنه أقرب إليه وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا أي مآلا وعاقبة وقيل: أحسن نظرا منكم الَّذِينَ يَزْعُمُونَ الآية: نزلت في المنافقين، وقيل: في منافق ويهودي كان بينهما خصومة، فتحاكما إلى كعب بن الأشرف اليهودي. وقيل: إلى كاهن رَأَيْتَ الْمُنافِقِينَ وضع الظاهر موضع المضمر ليذمهم بالنفاق، ودل ذلك على أنّ الآية المتقدّمة نزلت في المنافقين

فَكَيْفَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ الآية: أي كيف يكون حالهم إذا عاقبهم الله بذنوبهم ثُمَّ جاؤُكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ يحتمل أن يكون هذا معطوفا على ما قبله، أو يكون معطوفا على قوله: يصدّون، ويكون قوله: فكيف إذا أصابتهم اعتراضا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ أي عن معاقبتهم، وليس المراد بالإعراض القطيعة لقوله: وَعِظْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ الآية: وعد بالمغفرة لمن استغفر، وفيه استدعاء للاستغفار والتوبة، ومعنى: جاءوك أتوك تائبين معتذرين من ذنوبهم، يطلبون أن تستغفر لهم الله فَلا وَرَبِّكَ لا هنا مؤكدة للنفي الذي بعدها شَجَرَ بَيْنَهُمْ أي اختلط واختلفوا فيه، ومعنى الآية: أنهم لا يؤمنون حتى يرضوا بحكم النبي صلّى الله عليه واله وسلّم، ونزلت بسبب المنافقين الذين تخاصموا، وقيل: بسبب خصام الزبير مع رجل من الأنصار في الماء وحكمها عام وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ الآية: معناها لو فرض عليهم ما فرض على من كان قبلهم من المشقات لم يفعلوها، لقلة انقيادهم إلّا القليل منهم الذين هم مؤمنون حقا، وقد روي أن من هؤلاء القليل أبو بكر وعمر وابن مسعود وعمار بن ياسر وثابت بن قيس إِلَّا قَلِيلٌ بالرفع بدل من المضمر، وقرأ ابن عامر وحده بالنصب على أصل الاستثناء أو على إلّا فعلا قليلا ما يُوعَظُونَ بِهِ من اتباع النبي صلّى الله عليه واله وسلّم وطاعته والانقياد له وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً أي تحقيقا لإيمانهم وَإِذاً لَآتَيْناهُمْ جواب لسؤال مقدّر عن حالهم لو فعلوا ذلك فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثواب على الطاعة أي هم معهم في الجنة، وهذه الآية مفسرة لقوله تعالى صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ والصدّيق فعّيل من الصدق، ومن التصديق، والمراد به المبالغة، والصدّيقون أرفع الناس درجة بعد الأنبياء، والشهداء المقتولون في سبيل الله، ومن جرى مجراهم من سائر الشهداء، كالغريق وصاحب الهدم حسبما ورد في الحديث أنهم سبعة وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً الإشارة إلى الأصناف الأربعة المذكورة والرفيق يقع على الواحد والجماعة كالخليط، وهو مفرد بيّن به الجنس، ومعنى الكلام

[سورة النساء (4) : الآيات 70 إلى 76]

إخبار واستدعاء للطاعة التي ينال بها مرافقة هؤلاء ذلِكَ الْفَضْلُ الإشارة إلى الثواب على الطاعة بمرافقة من ذكر في الجنة، والفضل صفة أو خبر خُذُوا حِذْرَكُمْ أي تحرزوا من عدوّكم واستعدّوا له فَانْفِرُوا ثُباتٍ أي اخرجوا للجهاد جماعات متفرّقين وذلك كناية عن السرايا، وقيل إنّ الثبتة ما فوق العشرة، ووزنها فعلة بفتح العين ولامها محذوفة أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً أي مجتمعين في الجيش الكثيف فخيرهم في الخروج إلى الغزو في قلة أو كثرة وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ الخطاب للمؤمنين، والمراد بمن المنافقين وعبر عنهم بمنكم إذ هم يزعمون أنهم من المؤمنين، ويقولون آمنا، واللام في لمن للتأكيد، وفي ليبطئن جواب قسم محذوف، ومعناه يبطئ غيره يثبطه عن الجهاد ويحمله على التخلف عن الغزو، وقيل: يبطئ يتخلف هو عن الغزو ويتثاقل فَإِنْ أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ أي قتل وهزيمة والمعنى أن المنافق تسره غيبته عن المؤمنين إذا هزموا وشهيدا معناه حاضرا معهم وَلَئِنْ أَصابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ أي نصر وغنيمة، والمعنى: أنّ المنافق يندم على ترك الغزو معهم إذا غنموا فيتمنى أن يكون معهم كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ جملة اعتراض بين العامل ومعموله فلا يجوز الوقف عليها، وهذه المودّة في ظاهر المنافق لا في اعتقاده الَّذِينَ يَشْرُونَ أي يبيعون فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ ذكر الحالتين للمقاتل ووعد بالأجر على كل واحدة منهما وَما لَكُمْ لا تُقاتِلُونَ تحريض على القتال، ما مبتدأ ولكم الجار والمجرور خبر، ولا تقاتلون في موضع الحال، والمستضعفين هم الذين حبسهم مشركوا قريش بمكة ليفتنوهم عن الإسلام، وهو عطف على اسم الله أو مفعول معه الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُها هي مكة حين كانت للمشركين يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وما بعده إخبار، قصد به تقوية قلوب المسلمين وتحريضهم على القتال الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ الآية، قيل: هي في قوم من الصحابة كانوا قد أمروا بالكف عن القتال قبل أن يفرض الجهاد، فتمنوا أن يؤمروا به، فلما أمروا به كرهوه، لا شكا في دينهم، ولكن خوفا من الموت، وقيل: هي في المنافقين

[سورة النساء (4) : الآيات 81 إلى 83]

وهو أليق في سياق الكلام مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ وما بعده تحقير الدنيا فتضمن الرد عليهم في كراهتهم للموت فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ أي في حصون منيعة، وقيل: المشيدة المطولة وقيل المبنية بالشيد وهو الجص إِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ الحسنة هنا: النصر والغنيمة وشبه ذلك من المحبوبات، والسيئة: الهزيمة والجوع وشبه ذلك، والضمير في تصبهم وفي يقولوا للذين قيل لهم: كفوا أيديكم، وهذا يدل على أنها في المنافقين، لأن المؤمنين لا يقولون للنبي صلّى الله عليه وسلّم إنّ السيئات من عنده قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ رد على من نسب السيئة إلى رسول الله صلّى الله عليه واله وسلّم، وإعلام أن السيئة والحسنة والخير والشر من عند الله أي بقضائه وقدره فَمالِ هؤُلاءِ الْقَوْمِ توبيخ لهم على قلة فهمهم ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ خطاب للنبي صلّى الله عليه واله وسلّم والمراد به كل مخاطب على الإطلاق، فدخل فيه غيره من الناس، وفيه تأويلان: أحدهما: نسبة الحسنة إلى الله، والسيئة إلى العبد تأدبا مع الله في الكلام، وإن كان كل شيء منه في الحقيقة، وذلك كقوله عليه الصلاة والسلام: «والخير كله بيديك والشر ليس إليك» «1» وأيضا: فنسبة السيئة إلى العبد لأنها بسبب ذنوبه، لقوله: وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ [الشورى: 42] ، فهي من العبد بتسببه فيها، ومن الله بالخلقة والاختراع، والثاني: أن هذا من كلام القوم المذكورين قبل، والتقدير يقولون: كذا فمعناها كمعنى التي قبلها مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ هذه الآية من فضائل رسول الله صلّى الله عليه وعلى اله وسلّم، وإنما كانت طاعته كطاعة الله لأنه يأمر وينهى عن الله وَمَنْ تَوَلَّى فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً أي من أعرض عن طاعتك، فما أنت عليه بحفيظ تحفظ أعماله، بل حسابه وجزاؤه على الله، وفي هذا متاركة وموادعة منسوخة بالقتال وَيَقُولُونَ طاعَةٌ أي أمرنا وشأننا طاعة لك، وهي في المنافقين بإجماع بَيَّتَ طائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ بيت أي: تدبر الأمر بالليل، والضمير في تَقُولُ للمخاطب، وهو النبي صلّى الله تعالى عليه

_ (1) . هذه الجملة من دعاء نبوي ورد في الصحيحين عن علي بن أبي طالب وأوله: اللهم أنت الملك لا إله إلّا أنت أنت ربي وأنا عبدك. انظر صحيح مسلم كتاب الذكر والدعاء. الجمع بين الصحيحين للصاغاني.

وعلى اله وسلّم أو للطائفة فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ أي لا تعاقبهم أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ حض على التفكر في معانيه لتظهر أدلته وبراهينه اخْتِلافاً كَثِيراً أي تناقضا كما في كلام البشر أو تفاوتا في الفصاحة لكن القرآن منزّه عن ذلك، فدل على أنه كلام الله، وإن عرضت لأحد شبهة وظن اختلافا في شيء من القرآن، فالواجب أن يتهم نظره ويسأل أهل العلم ويطالع تآليفهم، حتى يعلم أن ذلك ليس باختلاف وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ قيل: هم المنافقون وقيل: قوم من ضعفاء المسلمين، كانوا إذا بلغهم خبر عن السرايا والجيوش أو غير ذلك أذاعوا به، أي تكلموا به وشهروه قبل أن يعلموا صحته، وكان في إذاعتهم له مفسدة على المسلمين مع ما في ذلك من العجلة وقلة التثبت، فأنكر الله ذلك عليهم وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ أي: لو ترك هؤلاء القوم الكلام بذلك الأمر الذي بلغهم، وردوه إلى رسول الله صلّى الله تعالى عليه وعلى اله وسلّم وإلى أولي الأمر وهم كبراء الصحابة وأهل البصائر منهم، لعلمه القوم الذين يستنبطونه أي يستخرجونه من الرسول وأولي الأمر فالذين يستنبطونه على هذا طائفة من المسلمين يسألون عنه الرسول صلّى الله تعالى عليه واله وسلّم وأولي الأمر، وحرف الجر في قوله يستنبطونه منهم لابتداء الغاية وهو يتعلق بالفعل، والضمير المجرور يعود على الرسول وأولي الأمر، وقيل: الذين يستنبطونه هم أولوا الأمر، كما جاء في الحديث عن عمر رضي الله عنه أنه سمع أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم طلق نساءه، فدخل عليه، فقال: أطلّقت نساءك؟ فقال: لا، فقام على باب المسجد، فقال: إنّ رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلّم لم يطلق نساءه، فأنزل الله هذه القصة، قال: وأنا الذي استنبطته، فعلى هذا يستنبطونه هم أولو الأمر، والضمير المجرور يعود عليهم، ومنهم لبيان الجنس، واستنباطه على هذا هو: سؤالهم عنه النبي صلّى الله تعالى عليه وسلّم أو بالنظر والبحث، واستنباطه على التأويل الأول وهو سؤال الذين أذاعوه للرسول عليه الصلاة والسلام ولأولي الأمر وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ أي: هداه وتوفيقه، أو بعثه للرسل، وإنزاله للكتب، والخطاب في هذه الآية للمؤمنين إِلَّا قَلِيلًا أي إلّا اتباعا قليلا فالاستثناء من المصدر، والمعنى: لولا فضل الله ورحمته لاتبعتم الشيطان إلّا في أمور قليلة كنتم لا تتبعونه فيها، وقيل: إنه استثناء من الفاعل في اتبعتم أي إلّا قليلا منكم، وهو الذي يقتضيه اللفظ، وهم الذين كانوا قبل الإسلام غير متبعين للشيطان كورقة بن نوفل، والفضل والرحمة على بعث الرسول وإنزال الكتاب، وقيل: إنّ الاستثناء من قوله أذاعوا به

[سورة النساء (4) : الآيات 84 إلى 88]

لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ لما تثاقل بعض الناس عن القتال قيل هذا للنبي صلّى الله عليه وسلّم أي إن أفردوك فقاتل وحدك فإنما عليك ذلك وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ أي ليس عليك في شأن المؤمنين إلّا التحريض عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا قيل: عسى من الله واجبة «1» ، والذين كفروا هنا قريش، وقد كفهم الله بهزيمتهم في بدر وغيرها وبفتح مكة وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا أي عقابا وعذابا شَفاعَةً حَسَنَةً هي الشفاعة في مسلم لتفرج عنه كربة، أو تدفع مظلمة أو يجلب إليه خيرا، والشفاعة السيئة بخلاف ذلك وقيل: الشفاعة الحسنة هي الطاعة والشفاعة السيئة هي المعصية، والأول أظهر، والكفل هو النصيب مُقِيتاً قيل: قديرا، وقيل: حفيظا، وقيل: الذي يقيت الحيوان أي يرزقهم القوت فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها معنى ذلك الأمر بردّ السلام، والتخيير بين أن يرد بمثل ما سلّم عليه أو بأحسن منه، والأحسن أفضل، مثل أن يقال له: سلام عليك فيردّ السلام ويزيد الرحمة والبركة، وردّ السلام واجب على الكفاية عند مالك والشافعي، وقال بعض الناس: هو فرض عين، واختلف في الردّ على الكفار، فقيل: يردّ عليهم لعموم الآية، وقيل: لا يردّ عليهم، وقيل: يقال لهم عليكم، حسبما جاء في الحديث، وهو مذهب مالك ولا يبتدئون بالسلام لَيَجْمَعَنَّكُمْ جواب قسم محذوف، وتضمن معنى الحشر ولذلك تعدّى بإلى وَمَنْ أَصْدَقُ لفظه استفهام، ومعناه لا أحد أصدق من الله فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ ما استفهامية بمعنى التوبيخ، والخطاب للمسلمين، ومعنى فئتين: أي طائفتين مختلفتين، وهو منصوب على الحال، والمراد بالمنافقين هنا ما قال ابن عباس أنها نزلت في قوم كانوا بمكة مع المشركين فزعموا أنهم آمنوا ولم يهاجروا، ثم سافر قوم منهم إلى الشام بتجارات، فاختلف المسلمون هل يقاتلونهم ليغنموا تجارتهم لأنهم لم يهاجروا؟ أو هل يتركونهم لأنهم مؤمنين؟ وقال زيد بن ثابت: نزلت في المنافقين الذين رجعوا عن القتال يوم أحد، فاختلف الصحابة في أمرهم، ويرد هذا قوله: حتى يهاجروا أَرْكَسَهُمْ أي أضلهم، وأهلكهم وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ الضمير للمنافقين أي تمنوا أن تكفروا فَخُذُوهُمْ يريد به

_ (1) . لم يتضح لي مراد المؤلف بقوله: واجبة، وقد ذكرها الطبري أيضا.

[سورة النساء (4) : آية 92]

الأسر إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ الآية: استثناء من قوله فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ. ومعناها: أن من وصل من الكفار غير المعاهدين إلى الكفار المعاهدين وهم الذين بينهم وبين المسلمين عهد ومهادنة فحكمه كحكمهم في المسالمة وترك قتاله، وكان ذلك في أول الإسلام، ثم نسخ بالقتال في أول سورة براءة، قال السهيلي وغيره: الذين يصلون هم بنو مدلج بن كنانة إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ بنو خزاعة، فدخل بنو مدلج في صلح خزاعة مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فمعنى يصلون إلى قوم: ينتهون إليهم، ويدخلون فيما دخلوا فيه من المهادنة وقيل: معنى يصلون أي ينتسبون، وهذا ضعيف جدا بدليل قتال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لقريش، وهم أقاربه وأقارب المؤمنين فكيف لا يقاتل أقارب الكفار المعاهدين أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ، عطف على يصلّون أو على صفة قوم وهي: بينكم وبينهم ميثاق، والمعنى يختلف باختلاف ذلك، والأول أظهر، وحصرت صدورهم: في موضع الحال بدليل قراءة يعقوب حصرت، ومعناه ضاقت عن القتال وكرهته، ونزلت الآية في قوم جاءوا إلى المسلمين، وكرهوا أن يقاتلوا المسلمين، وكرهوا أيضا أن يقاتلوا قومهم، وهم أقاربهم الكفار، فأمر الله بالكف عنهم. ثم نسخ أيضا ذلك بالقتال فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ أي إن سالموكم فلا تقاتلوهم، والسلم هنا الانقياد سَتَجِدُونَ آخَرِينَ الآية: نزلت في قوم مخادعين، وهم من أسد وغطفان كانوا إذا أتوا المدينة أسلموا وعاهدوا ليأمنوا من المسلمين فإذا رجعوا إلى قومهم كفروا ونكثوا ليأمنوا قومهم، والفتنة هنا الكفر على الأظهر، وقيل: الاختبار وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً نزلت بسبب قتل عياش بن ربيعة للحارث بن زيد وكان الحارث يعذبه على الإسلام، ثم أسلم وهاجر ولم يعلم عياش بإسلامه فقتله، وقيل: إنّ الاستثناء هنا منقطع، والمعنى: لا يحل لمؤمن أن يقتل مؤمنا بوجه، لكن الخطأ قد يقع، والصحيح أنه متصل، والمعنى لا ينبغي لمؤمن ولا يليق به أن يقتل مؤمنا إلّا على وجه الخطأ من غير قصد ولا تعد إذ هو مغلوب فيه، وانتصاب خطأ على أنه مفعول من أجله أو حال أو صفة لمصدر محذوف وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ هذا بيان ما يجب على القاتل خطأ فأوجب الله عليه التحرير والدية، فأما التحرير ففي مال القاتل. وأما الدية ففي مال عاقلته، وجاء ذلك عن النبي صلّى الله عليه وسلّم، وبيان للآية

[سورة النساء (4) : الآيات 93 إلى 94]

إذ لفظها يحتمل ذلك أو غيره، وأجمع الفقهاء عليه، واشترط مالك في الرقبة التي تعتق أن تكون مؤمنة، ليس فيها عقد من عقود الحرية، سالمة من العيوب أما إيمانها فنص هنا، ولذلك أجمع العلماء عليه هنا، واختلفوا في كفارة الظهار وكفارة اليمين، وأما سلامتها من عقود الحرية فيظهر من قوله تعالى: فتحرير رقبة، لأن ظاهره أنه ابتداء عتق عند التكفير بها وأما سلامتها من العيب، فزعموا أن إطلاق الرقبة يقتضيه وفي ذلك نظر، ولم يبين في الآية مقدار الدية وهي عند مالك مائة من الإبل على أهل الإبل، وألف دينار شرعية على أهل الذهب، واثنا عشر ألف درهم شرعية على أهل الورق، وروي ذلك عن عمر بن الخطاب مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ أي مدفوعة إليهم، والأهل هنا الورثة، واختلف في مدة تسليمها، فقيل: هي حالّة عليهم، وقيل: يؤدونها في ثلاث سنين، وقيل: في أربع، ولفظ التسليم مطلق وهو أظهر في الحلول لولا ما جاء من السنة في ذلك إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا الضمير يعود على أولياء المقتول أي إذا أسقطوا الدية سقطت، وإذا أسقطها المقتول سقطت أيضا عند مالك والجمهور، خلافا لأهل الظاهر، وحجتهم عود الضمير على الأولياء، وقال الجمهور، إنما هذا إذا لم يسقطها المقتول فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ معنى الآية: أن المقتول خطأ إن كان مؤمنا وقومه كفارا أعداء وهم المحاربون، فإنما في قتله التحرير خاصة دون الدية فلا تدفع لهم لئلا يتقووا بها على المسلمين، ورأى ابن عباس أن ذلك إنما هو فيمن آمن وبقي في دار الحرب لم يهاجر، وخالفه غيره ورأى مالك أن الدية في هذا لبيت المال فالآية عنده منسوخة، وَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ الآية: معناها أن المقتول خطأ إن كان قومه كفارا معاهدين ففي مثله تحرير رقبة والدية إلى أهله لأجل معاهدتهم، والمقتول على هذا مؤمن، ولذلك قال مالك: لا كفارة في قتل الذمي، وقيل: إنّ المقتول في هذه الآية كافر، فعلى هذا تجب الكفارة في قتل الذميّ، وقيل: هي عامة في المؤمن والكافر، ولفظ الآية مطلق إلّا أن قيده قوله: وهو مؤمن في الآية التي قبلها وقرأ الحسن هنا وهو مؤمن فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ أي من لم يجد العتق ولم يقدر عليه فصيام الشهرين المتتابعين عوض منه تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ منصوب على المصدرية ومعناه رحمة منه وتخفيفا وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها الآية: نزلت بسبب مقيس بن صبابة كان قد أخذ دية أخيه هشام المقتول خطأ، ثم قتل رجلا من القوم الذين قتلوا أخاه وارتدّ مشركا، فأمر رسول الله صلّى الله عليه

[سورة النساء (4) : الآيات 95 إلى 100]

واله وسلّم بقتله، والمتعمد عند الجمهور هو الذي يقصد القتل بحديدة أو حجر أو عصا أو غير ذلك، وهذه الآية معطلة على مذهب الأشعرية وغيرهم ممن يقول: لا يخلد عصاة المؤمنين في النار، واحتج بها المعتزلة وغيرهم ممن يقول بتخليد العصاة في النار لقوله: خالدا فيها وتأولها الأشعرية بأربعة أوجه: أحدها: أن قالوا إنها في الكافر إذا قتل مؤمنا، والثاني: قالوا معنى المتعمد هنا المستحل للقتل، وذلك يؤول إلى الكفر، والثالث: قالوا الخلود فيها ليست بمعنى الدوام الأبدي، وإنما هو عبارة عن طول المدة، والرابع: أنها منسوخة بقوله تعالى: إنّ الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء، وأما المعتزلة فحملوها على ظاهرها ورأوا أنها ناسخة لقوله: ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء، واحتجوا على ذلك بقول زيد بن ثابت نزلت الشديدة بعد الهينة وبقول ابن عباس: الشرك والقتل من مات عليهما خلد، وبقول رسول الله صلّى الله عليه واله وسلّم: «كل ذنب عسى الله أن يغفره، إلّا الرجل يموت كافرا أو الرجل يقتل مؤمنا متعمدا» «1» ، وتقتضي الآية وهذه الآثار أن للقتل حكما يخصه من بين سائر المعاصي، واختلف الناس في القاتل عمدا إذا تاب، هل تقبل توبته أم لا؟ وكذلك حكى ابن رشد الخلاف في القاتل إذا اقتص منه هل يسقط عنه العقاب في الآخرة أم لا؟ والصحيح أنه يسقط عنه، لقول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من أصاب ذنبا فعوقب به في الدنيا فهو له كفارة» «2» ، وبذلك قال جمهور العلماء ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أي سافرتم في الجهاد فَتَبَيَّنُوا من البيان وقرأ حمزة والكسائي بالثاء المثلثة من الثبات والتفعل فيها بمعنى الاستفعال «3» أي اطلبوا بيان الأمر وثبوته أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ بغير ألف أي انقاد وألقى بيده، وقرأ نافع وغيره السلام بمعنى التحية، ونزلت في سرية لقيت رجلا فسلم عليهم، وقال: لا إله إلّا الله محمد رسول الله، فحمل عليه أحدهم فقتله، فشق ذلك على رسول الله صلّى الله عليه واله وسلّم، وكان القاتل علم بن جثامة والمقتول عامر بن الأغبط، وقيل: القاتل أسامة بن زيد والمقتول مرداس بن نهيك تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا يعني الغنيمة، وكان للرجل المقتول غنم فَعِنْدَ اللَّهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ وعد وتزهيد في غنيمة من أظهر الإسلام كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ قيل: معناه كنتم كفارا فهداكم الله للإسلام، وقيل: كنتم تخفون إيمانكم من قومكم فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ بالعزة والنصر حتى أظهرتموه لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الآية: معناها تفضيل المجاهدين على من لم

_ (1) . رواه أحمد ج 4 ص 138 عن معاوية وذكر في التيسير أنه رواه أبو داود والنسائي عن أبي الدرداء. (2) . ذكره في التيسير وعزاه لأحمد عن خزيمة بن ثابت وفي سنده اضطراب. (3) . فثبتوا.

[سورة النساء (4) : آية 101]

يجاهد وهم القاعدون غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ لما نزلت الآية: قام ابن أم مكتوم الأعمى، فقال يا رسول الله هل من رخصة فإني ضرير البصر، فنزل: غير أولي الضرر وقرئ غير بالحركات الثلاث، بالرفع صفة للقاعدين، وبالنصب «1» على الاستثناء أو الحال، وبالخفض صفة للمؤمنين دَرَجَةً قيل: هي تفضيل على القاعدين من أهل العذر والدرجات على القاعدين بغير عذر، وقيل: إنّ الدرجات مبالغة وتأكيد الدرجة الْحُسْنى الجنة أَجْراً منصوب على الحال من درجات أو المصدرية من معنى فضل، وانتصب درجات على البدل من الأجر أو بفعل مضمر، وانتصب مغفرة ورحمة بإضمار فعلها: أي غفر لهم ورحمهم مغفرة ورحمة إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ الآية: نزلت في قوم أسلموا بمكة ولم يهاجروا، فلما كان يوم بدر خرجوا مع الكفار فقتلوا منهم قيس بن الفاكه والحارث بن زمعة، وقيس بن الوليد بن المغيرة، وعلي بن أمية بن خلف، ويحتمل أن يكون توفاهم ماضيا أو مضارعا، وانتصب ظالمي على الحال قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ أي في أي شيء كنتم في أمر دينكم قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ اعتذار عن التوبيخ الذي وبخهم به الملائكة: أي لم تقدروا على الهجرة، وكان اعتذارا بالباطل قالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً رد عليهم وتكذيب لهم في اعتذارهم إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ الذين كان استضعافهم حقا، قال ابن عباس: كنت أنا وأبي وأمي ممن عنى الله بهذه الآية مُراغَماً أي متحوّلا وموضعا يرغم عدوه بالذهاب إليه وَسَعَةً أي اتساع في الأرض وقيل: في الرزق فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ أي ثبت وصح وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ الآية حكمها على العموم، ونزلت في ضمرة بن القيس وكان من المستضعفين بمكة، وكان مريضا فلما سمع ما أنزل الله في الهجرة قال: أخرجوني فهيئ له فراش فوضع عليه وخرج فمات في الطريق، وقيل: نزلت في خالد بن حزام، فإنه هاجر إلى أرض الحبشة فنهشته حية في الطريق فمات قبل أن يصل إلى أرض الحبشة. وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا اختلف العلماء في تأويلها على خمسة أقوال: أولها: أنها في قصر

_ (1) . قرأ نافع وابن عامر والكسائي بالنصب وقرأ غيرهم بالرفع.

[سورة النساء (4) : الآيات 102 إلى 103]

الصلاة الرباعية إلى ركعتين في السفر، ولذلك لا يجوز إلّا في حال الخوف على ظاهر الآية، وهو قول عائشة وعثمان رضي الله عنهما، والثاني: أن الآية تقتضي ذلك ولكن يؤخذ القصر في السفر دون الخوف من السنة، ويؤيد هذا حديث يعلى بن أمية قال: قلت لعمر بن الخطاب إنّ الله يقول: إن خفتم وقد أمن الناس فقال عجبت مما عجبت منه فسألت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن ذلك فقال: صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته، وقد ثبت أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قصر في السفر وهو آمن، الثالث: أن قوله: إن خفتم راجع إلى قوله: وإذا كنت فيهم الآية التي بعد ذلك والواو زائدة وهذا بعيد، الرابع: أنها في صلاة الخوف على قول من يرى أن تصلي كل طائفة ركعة خاصة، قال ابن عباس: فرضت الصلاة في الحضر أربعا وفي السفر ركعتين، وفي الخوف ركعة. الخامس: أنها في صلاة المسايفة، فالقصر على هذا هو من هيئة الصلاة كقوله: فإن خفتم فرجالا أو ركبانا وإذا قلنا إنها في القصر في السفر، فظاهرها أن القصر رخصة، والإتمام أفضل وهو مذهب الشافعي، وقال مالك: القصر أفضل، وقيل إنهما سواء، وأوجب أبو حنيفة القصر، وليس في لفظ الآية ما يدل على مقدار المسافة التي تقصر فيها الصلاة لأن قوله: إذا ضربتم في الأرض معناه السفر مطلقا، ولذلك أجاز الظاهرية القصر في كل سفر طويل أو قصير، ومذهب مالك والشافعي أن مسافة القصر ثمانية وأربعون ميلا واحتجوا بآثار عن عمر وابن عباس، وكذلك ليس في الآية ما يدل على تخصيص القصر بسفر القربة، أو السفر المباح، دون سفر المعصية فإنّ لفظها مطلق في السفر، ولذلك أجاز أبو حنيفة القصر في سفر القربة وفي المباح وفي سفر المعصية، ومنعه مالك في سفر المعصية، ومنعه ابن حنبل في المعصية، وفي المباح. وللقصر أحكام لا تتعلق بالآية فأضربنا عن ذكرها، والمراد بالفتنة في هذه الآية القتال أو التعرض بما يكره وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ الآية في صلاة الخوف، وظاهرها يقتضي أنها لا تصلّى بعد رسول الله صلّى الله تعالى عليه واله وسلّم لأنه شرط كونه فيهم، وبذلك قال أبو يوسف، وأجازها الجمهور بعده صلّى الله عليه واله وسلّم، لأنهم رأوا أن الخطاب له يتناول أمته، وقد فعلها الصحابة بعده صلّى الله عليه واله وسلّم، واختلف الناس [العلماء] في صلاة الخوف على عشرة أقوال، لاختلاف الأحاديث فيها، ولسنا نضطر إلى ذكرها فإنّ تفسيرها لا يتوقف على ذلك، وكانت صلاة رسول الله صلّى الله عليه واله وسلّم لصلاة الخوف في غزوة ذات الرقاع فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ يقسم الإمام المسلمين على طائفتين فيصلي بالأولى نصف الصلاة، وتقف الأخرى تحرس ثم يصلي بالثانية بقية الصلاة وتقف الأولى تحرس، واختلف هل تتم كل طائفة صلاتها وهو مذهب الجمهور، أم لا؟ وعلى القول بالإتمام: اختلف هل يتمونها في أثر صلاتهم مع الإمام أو بعد ذلك وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ اختلفوا في المأمور بأخذ الأسلحة، فقيل الطائفة

المصلية وقيل الحارسة والأول أرجح، لأنه قد قال بعد ذلك في الطائفة الأخرى: وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ، ويدل ذلك على أنهم إن قوتلوا وهم في الصلاة: جاز لهم أن يقاتلوا من قاتلهم، وإلّا لم يكن لأخذ الأسلحة معنى إذا لم يدفعوا بها من قاتلهم فَإِذا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرائِكُمْ الضمير في قوله: فإذا سجدوا للمصلين، والمعنى إذا سجدوا معك في الركعة الأولى، وقيل: إذا سجدوا في ركعة القضاء، والضمير في قوله فليكونوا من ورائكم: يحتمل أن يكون للذين سجدوا: أي إذا سجدوا فليقوموا وليرجعوا وراءكم، وعلى هذا إن كان السجود في الركعة الأولى فيقتضي ذلك أنهم يقومون للحراسة بعد انقضاء الركعة الأولى، ثم يحتمل بعد ذلك أن يقضوا بقية صلاتهم أو لا يقضونها، وإن كان السجود في ركعة القضاء، فيقتضى ذلك أنهم لا يقومون للحراسة إلّا بعد القضاء، وهو مذهب مالك والشافعي، ويحتمل أن يكون الضمير في قوله: فليكونوا للطائفة الأخرى أن يقفوا وراء المصلّين يحرسونهم وَلْتَأْتِ طائِفَةٌ أُخْرى يعني الطائفة الحارسة وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا الآية: إخبار عما جرى في غزوة ذات الرقاع، من عزم الكفار على الإيقاع بالمسلمين إذا اشتغلوا بصلاتهم، فنزل جبريل على النبي صلّى الله عليه وسلّم، وأخبره بذلك، وشرعت صلاة الخوف حذرا من الكفار، وفي قوله: ميلة واحدة: مبالغة أي مفاضلة لا يحتاج منها إلى ثانية وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ الآية: نزلت بسبب عبد الرحمن بن عوف، كان مريضا فوضع سلاحه فعنفه بعض الناس، فرخص الله في وضع السلاح في حال المرض والمطر، ويقاس عليهما كل عذر يحدث في ذلك الوقت إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً إن قيل: كيف طابق الأمر بالحذر للعذاب المهين؟ فالجواب أن الأمر بالحذر من العدوّ: يقتضي توهم قوّتهم وعزتهم، فنفى ذلك الوهم بالإخبار أن الله يهينهم ولا ينصرهم لتقوى قلوب المؤمنين، قال ذلك الزمخشري وإنما يصح ذلك إذا كان العذاب المهين في الدنيا، والأظهر أنه في الآخرة فَإِذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ الآية: أي إذا فرغتم من الصلاة، فاذكروا الله بألسنتكم، وذكر القيام والقعود وعلى الجنوب ليعم جميع أحوال الإنسان، وقيل المعنى إذا تلبستم بالصلاة فافعلوها قياما فإن لم تقدروا فقعودا، فإن لم تقدروا فعلى جنوبكم فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ أي إذا اطمأننتم من الخوف فأقيموا الصلاة على هيئتها المعهودة كِتاباً مَوْقُوتاً أي محدودا بالأوقات وقال ابن عباس: فرضا مفروضا

[سورة النساء (4) : الآيات 104 إلى 113]

وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغاءِ الْقَوْمِ أي لا تضعفوا في طلب الكفار إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ الآية: معناها. إن أصابكم ألم من القتال فكذلك يصيب الكفار ألم مثله، ومع ذلك فإنكم ترجون إذا قاتلتموهم: النصر في الدنيا، والأجر في الآخرة وذلك تشجيع للمسلمين لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللَّهُ يحتمل أن يريد بالوحي أو بالاجتهاد، أو بهما، وإذا تضمنت الاجتهاد، ففيها دليل على إثبات النظر والقياس خلافا لمن منع ذلك من الظاهرية وغيرهم وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً نزلت هذه الآية وما بعدها في قصة طعمة بن الأبيرق إذ سرق طعاما وسلاحا لبعض الأنصار، وجاء قومه إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم وقالوا: إنه بريء، ونسبوا السرقة إلى غيره، وظن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنهم صادقون، فجادل عنهم ليدفع ما نسب إليهم حتى نزل القرآن فافتضحوا، فالخائنون في الآية: هم السراق بنو الأبيرق، وقال السهيلي: هم بشر وبشير ومبشر وأسيد، ومعناها: لا تكن لأجل الخائنين مخاصما لغيرهم وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ أي من خصامك عن الخائنين، على أنه صلّى الله عليه وسلّم إنما تكلم على الظاهر وهو يعتقد براءتهم إِذْ يُبَيِّتُونَ أي يدبرون ليلا وإنما سمي التدبير قولا، لأنه كلام النفس، وربما كان معه كلام باللسان وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً قيل: إن الخطيئة تكون عن عمد، وعن غير عمد، والإثم لا يكون إلّا عن عمد، وقيل: هما بمعنى، وكرر لاختلاف اللفظ ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً كان القوم قد نسبوا السرقة إلى لبيد بن سهل لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ هم الذين جاءوا إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم برّأوا ابن الأبيرق من السرقة وهذه الآية وإن كانت إنما نزلت بسبب هذا القصة، فهي أيضا تتضمن أحكام غيرها، وبقية الآية تشريف للنبي صلّى الله عليه وسلّم، وتقدير لنعم الله عليه لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ إن كانت النجوى هنا بمعنى الكلام الخفي، فالاستثناء الذي بعدها منقطع، وقد يكون متصلا على حذف مضاف

[سورة النساء (4) : الآيات 123 إلى 127]

تقديره إلّا نجوى من أمر، وإن كانت النجوى بمعنى الجماعة فالاستثناء متصل وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ أي يعاديه، والشقاق هو العداوة، ونزلت الآية بسبب ابن الأبيرق، لأنه ارتدّ وسار إلى المشركين ومات على الكفر، وهي عامة فيه وفي غيره وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ استدل الأصوليون بها على صحة إجماع المسلمين وأنه لا يجوز مخالفته، لأن من خالفه اتبع غير سبيل المؤمنين، وفي ذلك نظر نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى أي نتركه مع اختياره الفاسد إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ قد تقدّم الكلام على نظيرتها إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِناثاً الضمير في يدعون للكفار، ومعنى يدعون يعبدون، واختلف في الإناث هنا، فقيل: هي الأصنام، لأن العرب كانت تسمي الأصنام بأسماء مؤنثة: كاللات والعزى، وقيل: المراد الملائكة لقول الكفار إنهم إناث وكانوا يعبدونهم فذكر ذلك على وجه إقامة الحجة عليهم بقولهم الفاسد، وقيل: المراد الأصنام، لأنها لا تفعل فيخبر عنها كما يخبر عن المؤنث إِلَّا شَيْطاناً مَرِيداً يعني إبليس، وإنما قال: إنهم يعبدونه، لأنهم يطيعونه في الكفر والضلال، والمريد هو الشديد العتوّ والإضلال لَعَنَهُ اللَّهُ صفة للشيطان وَقالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً الضمير للشيطان: أي فرضته لنفسي من قولك فرض للجند وغيرهم، والمراد بهم أهل الضلال وَلَأُضِلَّنَّهُمْ أي أعدهم الأماني الكاذبة فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ الْأَنْعامِ أي يقطعونها، والإشارة بذلك إلى البحيرة وشبهها فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ التغيير هو الخصاء وشبهه، وقد رخص جماعة من العلماء في خصاء البهائم، إذا كان فيه منفعة، ومنعه بعضهم لظاهر الآية، وقيل: التغيير هو الوشم وشبهه، ويدل على هذا الحديث الذي لعن فيه الواشمات، والمستوشمات، والمتنمصات، والمتفلجات للحسن، والمغيرات خلق الله «1» مَحِيصاً أي معدلا ومهربا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا مصدران: الأوّل مؤكد للوعد الذي يقتضيه قوله: سندخلهم جنات، والثاني مؤكد لوعد الله لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ الآية: اسم

_ (1) . الحديث رواه مسلم عن عبد الله بن مسعود في كتاب اللباس والزينة 3/ 1678.

[سورة النساء (4) : الآيات 128 إلى 133]

ليس مضمر تقديره الأمر وشبهه، والخطاب للمسلمين، وقيل: للمشركين أي لا يكون ما تتمنون، ولا ما يتمنى أهل الكتاب، بل يحكم الله بين عباده، ويجازيهم بأعمالهم مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وعيد حتم في الكفار، ومقيد بمشيئة الله في المسلمين وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ دخلت من للتبعيض رفقا بالعباد، لأن الصالحات على الكمال لا يطيقها البشر وَهُوَ مُؤْمِنٌ تقييد باشتراط الإيمان، فإنه لا يقبل عمل إلّا به نَقِيراً هو النقرة التي في ظهر نواة التمرة، والمعنى تمثيل بأقل الأشياء وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ أي دين الإسلام حَنِيفاً حال من المتبع أو من إبراهيم وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلًا أي صفيا، وهو مشتق من الخلة بمعنى المودّة، وفي ذلك تشريف لإبراهيم، وترغيب في اتباعه وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ أي يسألونك عما يجب عليهم في أمر النساء وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ عطف على اسم الله أي يفتيكم الله، والمتلوّ عليكم في الكتاب يعني القرآن فِي يَتامَى النِّساءِ اللَّاتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ ما كُتِبَ لَهُنَّ كان الرجل من العرب يتزوّج اليتيمة من أقاربه بدون ما تستحقه من الصداق، فقوله: ما كتب لهن يعني ما تستحقه المرأة من الصداق، وقوله: وترغبون أن تنكحوهن: يعني: لجمالهن وما لهن من غير توفية حقوقهن، فنهاهم الله عز وجل عن ذلك أول السورة في قوله: وإن خفتم أن لا تقسطوا في اليتامى الآية، وهذه الآية هي التي تليت عليهم في يتامى النساء، والمستضعفين من الولدان: عطف على يتامى النساء، والذي يتلى في المستضعفين من الولدان وهو قوله: يوصيكم الله في أولادكم، لأن العرب كانت لا تورث البنت ولا الابن الصغير، فأمر الله أن يأخذوا نصيبهم من الميراث وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتامى بِالْقِسْطِ عطف على المستضعفين، أي والذي يتلى عليكم في أن تقوموا لليتامى بالقسط، ويجوز أن يكون منصوبا تقديره: ويأمركم أن تقوموا، أو الخطاب في ذلك للأولياء، والأوصياء، أو للقضاة وشبههم، والذي تلي عليهم في ذلك هو قوله: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً [النساء: 10] الآية، وقوله: وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ [البقرة/ 188] إلى غير ذلك وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً معنى الآية إباحة الصلح بين الزوجين، إذا خافت النشوز أو الإعراض، وكما يجوز الصلح مع الخوف كذلك يجوز بعد وقوع النشوز أو الإعراض وقد تقدّم معنى

[سورة النساء (4) : الآيات 134 إلى 139]

النشوز، وأما الإعراض فهو أخف، ووجوه الصلح كثيرة منها أن يعطيها الزوج شيئا أو تعطيه هي أو تسقط حقها من النفقة أو الاستمتاع أو غير ذلك، وسبب الآية أن سودة بنت زمعة لما كبرت خافت أن يطلقها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقالت له: أمسكني في نسائك ولا تقسم لي وقد وهبت يومي لعائشة وَالصُّلْحُ خَيْرٌ لفظ عام يدخل فيه صلح الزوجين وغيرهما، وقيل: معناه صلح الزوجين خير من فراقهما فخير على هذا للتفضيل، واللام في الصلح للعهد وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ معناه أن الشح جعل حاضرا مع النفوس لا يغيب عنها لأنها جبلت عليه. والشح هو أن لا يسمح الإنسان لغيره بشيء من حظوظ نفسه، وشح المرأة من هذا هو طلبها لحقها من النفقة والاستمتاع، وشح الزوج هو منع الصداق والتضييق في النفقة وزهده في المرأة لكبر سنها أو قبح صورتها وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ معناه العدل التام الكامل في الأقوال والأفعال والمحبة وغير ذلك فرفع الله ذلك عن عباده، فإنهم لا يستطيعون. وقد كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقسم بين نسائه ثم يقول: «اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تؤاخذني بما لا أملك» «1» يعني: ميله بقلبه وقيل: إنّ الآية نزلت في ميله صلّى الله عليه وسلّم بقلبه إلى عائشة، ومعناها اعتذار من الله تعالى عن عباده فَتَذَرُوها كَالْمُعَلَّقَةِ أي لا ذات زوج ولا مطلقة وَإِنْ يَتَفَرَّقا الآية: معناها إن تفرّق الزوجان بطلاق أغنى الله كل واحد منهما من فضله عن صاحبه، وهذا وعد بخير وتأنيس وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الآية: إخبار أنّ الله وصى الأوّلين والآخرين بأن يتقوه وَيَأْتِ بِآخَرِينَ أي بقوم غيركم، وروي أنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم لما نزلت ضرب بيده على كتف سلمان الفارسي، وقال: هم قوم هذا مَنْ كانَ يُرِيدُ ثَوابَ الدُّنْيا الآية: تقتضي الترغيب في طلب ثواب الآخرة، لأنه خير من ثواب الدنيا، وتقتضي أيضا أن يطلب ثواب الدنيا والآخرة من الله وحده، فإنّ ذلك بيده لا بيد غيره، وعلى أحد هذين الوجهين، يرتبط الشرط بجوابه، فالتقدير على الأول، من كان يريد

_ (1) . رواه: أحمد عن عائشة بلفظ: اللهم هذا فعلي فيما أملك فلا تلمني فيما تملك ولا أملك. ج 6 ص 164.

[سورة النساء (4) : الآيات 140 إلى 149]

ثواب الدنيا فلا يقتصر عليه خاصة، فعند الله ثواب الدنيا والآخرة، وعلى الثاني من كان يريد ثواب الدنيا فليطلبه من الله فعند الله ثواب الدنيا والآخرة كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ أي مجتهدين في إقامة العدل شُهَداءَ لِلَّهِ معناه لوجه الله ولمرضاته وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ يتعلق بشهد وشهادة الإنسان على نفسه هي إقراره بالحق، ثم ذكر الوالدين والأقربين، إذ هم مظنة للتعصب والميل: فإقامة الشهادة على الأجنبيين من باب أولى وأحرى إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً جواب إن محذوف على الأظهر أي إن يكن المشهود عليه غنيا، فلا تمتنع من الشهادة تعظيما له، وإن كان فقيرا فلا تمتنع من الشهادة عليه اتفاقا فإنّ الله أولى بالغني والفقير، أي بالنظر إليهما فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى أَنْ تَعْدِلُوا أن مفعول من أجله، ويحتمل أن يكون المعنى من العدل، فالتقدير إرادة أن تعدلوا بين الناس، أو من العدل، فالتقدير كراهة أن تعدلوا عن الحق وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا قيل: إنّ الخطاب للحكام، وقيل للشهود، واللفظ عام في الوجهين، والليّ: هو تحريف الكلام، أي تلووا عن الحكم بالعدل أو عن الشهادة بالحق، أو تعرضوا عن صاحب الحق، أو عن المشهود له بالحق، فإنّ الله يجازيكم فإنه خبير بما تعملون، وقرئ إن تلوا بضم اللام من الولاية «1» : أي إن وليتم إقامة الشهادة، أو أعرضتم عنها آمِنُوا بِاللَّهِ الآية خطاب للمسلمين: معناه الأمر بأن يكون إيمانهم على الكمال بكل ما ذكر، أو يكون أمرا بالدوام على الإيمان، وقيل: خطاب لأهل الكتاب الذين آمنوا بالأنبياء المتقدّمين: معناه الأمر بأن يؤمنوا مع ذلك بمحمد صلّى الله عليه وسلّم، وقيل: خطاب للمنافقين معناه الأمر بأن يؤمنوا بألسنتهم وقلوبهم إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا الآية، قيل: هي في المنافقين لتردّدهم بين الإيمان والكفر، وقيل: في اليهود والنصارى لأنهم آمنوا بأنبيائهم ثم كفروا بمحمد صلّى الله عليه واله وسلّم، والأوّل أرجح لأنّ الكلام من هنا فيهم، والأظهر أنها فيمن آمن بمحمد صلّى الله عليه واله وسلّم، ثم ارتدّ، ثم عاد إلى الإيمان، ثم ارتدّ وازداد كفرا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ ذلك فيمن علم الله أنه يموت على كفره، وقد يكون إضلالهم عقابا لهم بسوء أفعالهم وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ الآية:

_ (1) . وهي قراءة حمزة وعامر.

[سورة النساء (4) : الآيات 150 إلى 156]

إشارة إلى قوله: وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ [الأنعام: 68] وغيرها، وفي الآية دليل على وجوب تجنب أهل المعاصي، والضمير في قوله: معهم يعود على ما يدل عليه سياق الكلام من الكافرين والمنافقين الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ صفة للمنافقين: أي ينتظرون بكم دوائر الزمان أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ أي نغلب على أمركم بالنصرة لكم والحمية وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا قال علي بن أبي طالب وغيره: ذلك في الآخرة، وقيل: السبيل هنا الحجة البالغة يُخادِعُونَ اللَّهَ ذكر في البقرة وهو خادعهم تسمية للعقوبة باسم الذنب، لأنّ وبال خداعهم راجع عليهم مُذَبْذَبِينَ أي مضطربين متردّدين، لا إلى المسلمين ولا إلى الكفار سُلْطاناً مُبِيناً أي حجة ظاهرة إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ أي في الطبقة السفلى من جهنم، وهي سبع طبقات وفي ذلك دليل على أنهم شرّ من الكفار إِلَّا الَّذِينَ تابُوا استثناء من المنافقين، والتوبة هنا الإيمان الصادق في الظاهر والباطن ما يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذابِكُمْ المعنى أي حاجة ومنفعة لله بعذابكم؟ وهو الغنيّ عنكم، وقدّم الشكر على الإيمان، لأن العبد ينظر إلى النعم فيشكر عليها ثم يؤمن بالمنعم فكان الشكر سببا للإيمان: متقدّم عليه، ويحتمل أن يكون الشكر يتضمن الإيمان، ثم ذكر الإيمان بعده توكيدا واهتماما به، والشاكر اسم الله ذكر في اللغات إِلَّا مَنْ ظُلِمَ أي إلّا جهر المظلوم فيجوز له من الجهر أن يدعو على من ظلمه، وقيل: أن يذكر ما فعل به من الظلم، وقيل: أن يرد عليه بمثل مظلمته إن كان شتمه إِنْ تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ الآية: ترغيب في فعل الخير سرا وعلانية، وفي العفو عن الظلم بعد أن أباح الانتصار لأن العفو أحب إلى الله من الانتصار، وأكد ذلك بوصفه تعالى نفسه بالعفو مع القدرة إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ الآية: في اليهود والنصارى، لأنهم آمنوا بأنبيائهم، وكفروا

[سورة النساء (4) : الآيات 157 إلى 160]

بمحمد صلّى الله عليه وسلّم وغيره، ومعنى التفريق بين الله ورسله الإيمان به والكفر برسله، وكذلك التفريق بين الرسل هو الكفر ببعضهم والإيمان ببعضهم، فحكم الله على من كان كذلك بحكم الكفر الحقيقي الكامل وَالَّذِينَ آمَنُوا الآية: في أمة محمد صلّى الله عليه وسلّم لأنهم آمنوا بالله وجميع رسله يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ الآية، روي أن اليهود قالوا للنبي صلّى الله عليه وسلّم: لن نؤمن بك حتى تأتينا بكتاب من السماء جملة كما أتى موسى بالتوراة، وقيل كتاب إلى فلان، وكتاب إلى فلان بأنك رسول الله، وإنما طلبوا ذلك على وجه التعنت، فذكر الله سؤالهم من موسى، وسوء أدبهم معه تسلية للنبي صلّى الله عليه واله وسلّم بالتأسي بغيره، ثم ذكر أفعالهم القبيحة ليبين أنّ كفرهم إنما هو عناد، وقد تقدّم في البقرة ذكر طلبهم للرؤيا، واتخاذهم العجل، ورفع الطور فوقهم، واعتدائهم في السبت وغير ذلك بما أشير إليه هنا فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ ما زائدة للتأكيد، والباء تتعلق بمحذوف تقديره بسبب نقضهم فعلنا بهم ما فعلنا، أو تتعلق بقوله حرمنا عليهم، ويكون فبظلم على هذا بدلا من قوله: فبما نقضهم بُهْتاناً عَظِيماً هو أن رموا مريم بالزنا مع رؤيتهم الآية في كلام عيسى في المهد وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ عدّد الله في جملة قبائحهم قولهم: إنا قتلنا المسيح لأنهم قالوها افتخارا وجرأة مع أنهم كذبوا في ذلك، ولزمهم الذنب، وهم لم يقتلوه لأنهم صلبوا الشخص الذي ألقى عليه شبهه، وهم يعتقدون أنه عيسى، وروي أن عيسى قال للحواريين أيكم يلقى عليه شبهي. فيقتل ويكون رفيقي في الجنة، فقال أحدهم أنا فألقي عليه شبه عيسى فقتل على أنه عيسى» «1» وقيل بل دلّ على عيسى يهوديّ، فألقى الله شبه عيسى على اليهودي فقتل اليهودي ورفع عيسى إلى السماء حيا، حتى ينزل إلى الأرض فيقتل الدجال رَسُولَ اللَّهِ إن قيل: كيف قالوا فيه رسول الله، وهم يكفرون به ويسبونه؟ فالجواب من

_ (1) . أورد الطبري هذا الحديث بسنده عن القاسم بن أبي بزة وعن ابن جريج فلينظر هناك.

ثلاثة أوجه: أحدها: أنهم قالوا ذلك على وجه التهكم والاستهزاء، والثاني: أنهم قالوه على حسب اعتقاد المسلمين فيه كأنهم قالوا رسول الله عندكم أو بزعمكم، والثالث: أنه من قول الله لا من قولهم فيوقف قبله، وفائدة تعظيم ذنبهم وتقبيح قولهم إنا قتلناه وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ ردّ عليه وتكذيب لهم وللنصارى أيضا في قولهم: إنه صلب حتى عبدوا الصليب من أجل ذلك. والعجب كل العجب من تناقضهم في قولهم إنه إله أو ابن إله ثم يقولون إنه صلب وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ فيه تأويلان: أحدهما: ما ذكرناه من إلقاء شبهه على الحواري أو على اليهودي، والآخر: أنّ معناه شبه لهم الأمر أي خلط لهم القوم الذين حاولوا قتله بأنهم قتلوا رجلا آخر وصلبوه ومنعوا الناس أن يقربوا منه، حتى تغير بحيث لا يعرف، وقالوا للناس: هذا عيسى، ولم يكن عيسى، فاعتقد الناس صدقهم وكانوا متعمدين للكذب وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ روي أنه لما رفع عيسى وألقي شبهه على غيره فقتلوه، قالوا: إن كان هذا المقتول عيسى فأين صاحبنا وإن كان هذا صاحبنا فأين عيسى؟ فاختلفوا، فقال بعضهم هو هو، وقال بعضهم ليس هو، فأجمعوا أن شخصا قتل، واختلفوا من كان إِلَّا اتِّباعَ الظَّنِّ استثناء منقطع لأنّ العلم تحقيق والظن تردّد، وقال ابن عطية: هو متصل إذا الظن والعلم يجمعهما جنس المعتقدات، فإن قيل: كيف وصفهم بالشك وهو تردّد بين احتمالين على السواء ثم وصفهم بالظنّ وهو ترجيح أحد الاحتمالين؟ فالجواب أنهم كانوا على الشك، ثم لاحت لهم أمارات فظنوا، قاله الزمخشري، وقد يقال: الظن بمعنى الشك وبمعنى الوهم الذي هو أضعف من الشك وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً أي ما قتلوه قتلا يقينا فإعراب يقينا على هذا صفة لمصدر محذوف، وقيل: هي مصدر في موضع الحال: أي ما قتلوه متيقنين، وقيل: هو تأكيد للنفي الذي في قوله: ما قتلوه أي يتقين نفي قتله، وهو على هذا منصوب على المصدرية بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ أي إلى سمائه وقد ورد في حديث الإسراء أنه في السماء الثانية وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ فيها تأويلان: أحدهما: أنّ الضمير في موته لعيسى، والمعنى أنه كل أحد من أهل الكتاب يؤمن بعيسى حين ينزل إلى الأرض، قبل أن يموت عيسى، وتصير الأديان كلها حينئذ دينا واحدا، وهو دين الإسلام، والثاني أنّ الضمير في موته للكتاب الذي تضمنه قوله: وإن من أهل الكتاب التقدير: وإن من أهل الكتاب أحد إلّا ليؤمن بعيسى، ويعلم أنه نبي قبل أن يموت هذا الإنسان، وذلك حين معاينة الموت، وهو إيمان لا ينفعه، وقد روي هذا المعنى عن ابن عباس وغيره، وفي مصحف أبيّ بن كعب قبل موتهم، وفي هذه القراءة تقوية للقول الثاني، والضمير في به لعيسى على الوجهين، وقيل: هو لمحمد صلّى الله عليه واله وسلّم وَبِصَدِّهِمْ يحتمل أن يكون بمعنى الإعراض، فيكون كثيرا صفة لمصدر

[سورة النساء (4) : الآيات 161 إلى 169]

محذوف تقديره صدّا كثيرا، أو بمعنى صدّهم لغيرهم، فيكون كثيرا مفعولا بالصدّ، أي صدّوا كثيرا من الناس عن سبيل الله لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ هو عبد الله بن سلام، ومخيريق، ومن جرى مجراهم وَالْمُقِيمِينَ منصوب على المدح بإضمار فعل، وهو جائز كثيرا في الكلام، وقالت عائشة هو من لحن كتاب المصحف، وفي مصحف ابن مسعود: والمقيمون، على الأصل إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ الآية: ردّ على اليهود الذين سألوا النبي صلّى الله عليه واله وسلّم أن ينزل عليهم كتابا من السماء، واحتجاج عليهم بأن الذي أتى به وحي: كما أتى من تقدّم من الأنبياء بالوحي من غير إنزال الكتاب من السماء، ولذلك أكثر من ذكر الأنبياء الذين كان شأنهم هذا لتقوم بهم الحجة وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْناهُمْ منصوب بفعل مضمر أي أرسلنا رسلا وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً تصريح بالكلام مؤكد بالمصدر، وذلك دليل على بطلان قول المعتزلة إنّ الشجرة هي التي كلمت موسى رُسُلًا مُبَشِّرِينَ منصوب بفعل مضمر أو على البدل لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ أي بعثهم الله ليقطع حجة من يقول: لو أرسل إليّ رسولا لآمنت لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ الآية: معناها أنّ الله يشهد بأن القرآن من عنده، وكذلك تشهد الملائكة بذلك، وسبب الآية: إنكار اليهود للوحي، فجاء الاستدراك على تقدير أنهم قالوا: لن نشهد بما أنزل إليك، فقيل: لكن الله يشهد بذلك، وفي الآية من أدوات البيان الترديد، وهو ذكر الشهادة أولا، ثم ذكرها في آخر الآية أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ في هذا دليل لأهل السنة على إثبات علم الله، خلافا للمعتزلة في قولهم إنه عالم بلا علم، وقد تأوّلوا الآية بتأويل بعيد يا أَيُّهَا النَّاسُ خطاب عام، لأنّ النبي صلّى الله تعالى عليه وعلى اله وسلّم بعث إلى جميع الناس فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ انتصب خبرا هنا، وفي قوله: انتهوا خيرا لكم بفعل مضمر لا يظهر تقديره ائتوا خيرا لكم، هذا مذهب سيبويه، وقال الخليل: انتصب بقوله آمنوا وانتهوا على المعنى، وقال الفراء فآمنوا إيمانا خيرا لكم فنصبه على النعت لمصدر محذوف، وقال الكوفيون هو خبر

كان المحذوفة تقديره يكن الإيمان خيرا لكم وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي هو غني عنكم لا يضره كفركم يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ هذا خطاب للنصارى لأنهم غلوا في عيسى حتى كفروا، فلفظ أهل الكتاب عموم يراد به الخصوص في النصارى، بدليل ما بعد ذلك والغلو هو الإفراط وتجاوز الحد وَكَلِمَتُهُ أي مكون عن كلمته التي هي كن من غير واسطة أب ولا نطفة وَرُوحٌ مِنْهُ أي ذو روح من الله، فمن هنا لابتداء الغاية، والمعنى من عند الله، وجعله من عند الله لأن الله أرسل به جبريل عليه السلام إلى مريم وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ نهي عن التثليث، وهو مذهب النصارى وإعراب ثلاثة خبر مبتدأ مضمر لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ برهان على تنزيهه تعالى عن الولد، لأنه مالك كل شي ءنْ يَسْتَنْكِفَ لن يأنف كذلك، ومعناه حيث وقع لَا الْمَلائِكَةُ فيه دليل لمن قال: إنّ الملائكة أفضل من الأنبياء، لأن المعنى لن يستنكف عيسى ومن فوقه قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ هو القرآن، وهو أيضا النور المبين، ويحتمل أن يريد بالبرهان الدلائل والحجج، وبالنور النبي صلّى الله عليه وسلّم، لأنه سمّاه سراجا يَسْتَفْتُونَكَ أي يطلبون منك الفتيا، ويحتمل أن يكون هذا الفعل طلبا للكلالة، ويفتيكم أيضا طلب لها، فيكون من باب الإعمال وإعمال العامل الثاني على اختيار البصريين أو يكون يستفتونك مقطوعا عن ذلك فيوقف عليه، والأوّل أظهر، وقد تقدّم معنى الكلالة في أوّل السورة والمراد بالأخت والأخ هنا: الشقائق، والذين للأب إذا عدم الشقائق، وقد تقدّم حكم الإخوة للأم في قوله وإن كان رجلا يورث كلالة الآية إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ ارتفع بفعل مضمر عند البصريين، ولا إشكال فيما ذكر هنا من أحكام المواريث أَنْ تَضِلُّوا مفعول من أجله تقديره كراهية أن تضلوا.

سورة المائدة

سورة المائدة مدنية إلا آية 3 فنزلت بعرفات في حجة الوداع وآياتها 120 نزلت بعد الفتح (سورة المائدة) بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ أَوْفُوا بِالْعُقُودِ قيل: إن العقود هنا عقدة الإنسان مع غيره من بيع ونكاح وعتق وشبه ذلك، وقيل: ما عقده مع ربه من الطاعات: كالحج والصيام وشبه ذلك، وقيل: ما عقده الله عليهم من التحليل والتحريم في دينه، ذكر مجملا ثم فصل بعد ذلك في قوله: أحلت لكم وما بعده بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ هي الإبل والبقر والغنم، وإضافة البهيمة إليها من باب إضافة الشيء إلى ما هو أخص منه لأن البهيمة تقع على الأنعام وغيرها، قال الزمخشري: هي الإضافة التي بمعنى من كخاتم من حديد أي البهيمة من الأنعام، وقيل: هي الوحش كالظباء، وبقر الوحش والمعروف من كلام العرب أن الأنعام لا تقع إلّا على الإبل والبقر والغنم، وأن البهيمة تقع على كل حيوان ما عدا الإنسان إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ يريد الميتة وأخواتها غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ نصب على الحال من الضمير في لكم وَأَنْتُمْ حُرُمٌ حال من محلي الصيد، وحرم جمع حرام وهو المحرم بالحج، فالاستثناء بإلّا من البهائم المحللة، والاستثناء بغير من القوم المخاطبين لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ قيل: هي مناسك الحج، كان المشركون يحجون ويعتمرون، فأراد المسلمون أن يغيروا عليهم، فقيل لهم: لا تحلوا شعائر الله: أي لا تغيروا عليهم ولا تصدّوهم وقيل: هي الحرم، وإحلاله الصيد فيه، وقيل هي ما يحرم على الحاج من النساء والطيب والصيد وغير ذلك، وإحلاله: فعله وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ قيل: هو جنس الأشهر الحرام الأربعة، وهي رجب وذو القعدة، وذو الحجة، والمحرّم، وقيل أشهر الحج، وهي: شوال، وذو القعدة وذو الحجة، وإحلالها هو: القتال فيها وتغيير حالها، وَلَا الْهَدْيَ هو ما يهدى إلى البيت الحرام من الأنعام، ويذبح تقرّبا إلى الله فنهى الله أن يستحل بأن يغار عليه، أو يصد عن البيت وَلَا الْقَلائِدَ قيل: هي التي تعلق في أعناق الهدي، فنهى عن التعرّض لها، وقيل: أراد ذوات القلائد

[سورة المائدة (5) : آية 3]

من الهدي وهي البدن وجدّدها بالذكر بعد دخولها في الهدي اهتماما بها وتأكيدا لأمرها وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ أي قاصدين إلى البيت لحج أو عمرة، ونهى الله عن الإغارة عليهم أو صدّهم عن البيت، ونزلت الآية على ما قال السهيلي بسبب الحطم البكري واسمه: شريح بن ضبيعة أخذته خيل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو يقصد إلى الكعبة ليعتمر، وهذا النهي عن إحلال هذه الأشياء: عام في المسلمين والمشركين، ثم نسخ النهي عن قتال المشركين بقوله: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ [التوبة: 5] وبقوله: فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ [التوبة: 29] وبقوله: ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللَّهِ [التوبة: 17] يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْواناً الفضل: الربح في التجارة، والرضوان: الرحمة في الدنيا والآخرة وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا أي إذا حللتم من إحرامكم بالحج فاصطادوا إن شئتم، فالأمر هنا إباحة بإجماع وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أَنْ تَعْتَدُوا معنى لا يجرمنكم: لا يكسبنكم، يقال: جرم فلان فلانا هذا الأمر إذا أكسبه إياه وحمله عليه، والشنآن: هو البغض والحقد، ويقال: بفتح النون وإسكانها، وأن صدوكم: مفعول من أجله، وأن تعتدوا: مفعول ثان ليجرمنكم، ومعنى الآية: لا تحملنكم عداوة قوم على أن تعتدوا عليهم من أجل أن صدوكم عن المسجد الحرام، ونزلت عام الفتح حين ظفر المسلمون بأهل مكة فأرادوا أن يستأصلوهم بالقتل، لأنهم كانوا قد صدوهم عن المسجد الحرام عام الحديبية، فنهاهم الله عن قتلهم، لأن الله علم أنهم يؤمنون وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وصية عامة، والفرق بين البرّ والتقوى أن البرّ عام في فعل الواجبات والمندوبات وترك المحرمات، وفي كل ما يقرب إلى الله، والتقوى في الواجبات وترك المحرمات دون فعل المندوبات فالبرّ أعمّ من التقوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ الفرق بينهما أن الإثم كل ذنب بين العبد وبين الله أو بينه وبين الناس، والعدوان على الناس حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ تقدّم الكلام عليها في [البقرة: 173] وَالْمُنْخَنِقَةُ هي التي تخنق بحبل وشبهه وَالْمَوْقُوذَةُ هي المضروبة بعصا أو حجر وشبهه، والمتردية هي التي تسقط من جبل أو شبهه ذلك، والنطيحة هي التي نطحتها بهيمة أخرى وَما أَكَلَ السَّبُعُ أي أكل بعضه، والسبع كل حيوان مفترس: كالذئب والأسد والنمر والثعلب والعقاب والنسر إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ قيل إنه استثناء منقطع، وذلك إذا أريد بالمنخنقة وأخواتها: ما مات من الاختناق والوقذ والتردية والنطح

[سورة المائدة (5) : آية 4]

وأكل السبع، والمعنى: حرمت عليكم هذه الأشياء، لكن ما ذكيتم من غيرها، فهو حلال، وهذا قول ضعيف، لأنها إن ماتت بهذه الأسباب، فهي ميتة فقد دخلت في عموم الميتة فلا فائدة لذكرها بعدها، وقيل: إنه استثناء متصل، وذلك إن أريد بالمخنقة وأخواتها ما أصابته تلك الأسباب وأدركت ذكاته، والمعنى على هذا: إلى ما أدركتم ذكاته من هذه الأشياء فهو حلال، ثم اختلف أهل هذا القول هل يشترط أن تكون لم تنفذ مقاتلها أم لا؟ وأما إذا لم تشرف على الموت من هذه الأسباب، فذكاتها جائزة باتفاق وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ عطف على المحرمات المذكورة، والنصب حجارة كان أهل الجاهلية يعظمونها ويذبحون عليها، وليست بالأصنام لأن الأصنام مصوّرة والنصب غير مصوّرة وهي الأنصاب، والمفرد نصاب، وقد قيل: إن النصب بضمتين مفرد، وجمعه أنصاب وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ عطف على المحرمات أيضا، والاستقسام. هو طلب ما قسم له، والأزلام هي السهام. واحدها زلم بضم الزاي وفتحها، وكانت ثلاثة قد كتب على أحدها: افعل، وعلى الآخر: لا تفعل، والثالث مهمل، فإذا أراد الإنسان أن يعمل أمرا جعلها في خريطة كيس، وأدخل يده وأخرج أحدها، فإن خرج له الذي فيه افعل: فعل ما أراد، وإن خرج له الذي فيه لا تفعل تركه، وإن خرج المهمل أعاد الضرب ذلِكُمْ فِسْقٌ الإشارة إلى تناول المحرمات المذكورة كلها، أو إلى الاستقسام بالأزلام، وإنما حرمه الله وجعله فسقا: لأنه دخول في علم الغيب الذي انفرد الله به، فهو كالكهانة وغيرها مما يرام به الاطلاع على الغيوب الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ أي يئسوا أن يغلبوه ويطلبوه، ونزلت بعد العصر من يوم الجمعة يوم عرفة في حجة الوداع، فذلك هو اليوم المذكور لظهور الإسلام فيه وكثرة المسلمين، ويحتمل أن يكون الزمان الحاضر لا اليوم بعينه الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ هذا الإكمال يحتمل أن يكون بالنصر والظهور أو بتعليم الشرائع وبيان الحلال والحرام فَمَنِ اضْطُرَّ راجع إلى المحرمات المذكورة قبل هذا، أباحها الله عند الاضطرار فِي مَخْمَصَةٍ في مجاعة غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ هذا بمعنى غير باغ ولا عاد وقد تقدم في البقرة فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ قام مقام فلا جناح عليه، وتضمن زيادة الوعد. يَسْئَلُونَكَ ماذا أُحِلَّ لَهُمْ سببها أن المسلمين سألوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عما يحل لهم من المأكل؟ وقيل: لما أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بقتل الكلاب، سألوه ماذا يحل لنا من الكلاب؟ فنزلت مبينة للصيد بالكلاب قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ هي عند مالك الحلال، وذلك ممّا لم يرد تحريمه في كتاب ولا سنة وعند الشافعي: الحلال المستلذ، فحرم كل مستقذر كالخنافس والضفادع وشبهها لأنها من الخبائث وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ عطف على

[سورة المائدة (5) : آية 5]

الطيبات على حذف مضاف تقديره وصيد ما علمتم، أو مبتدأ وخبره فكلوا مما أمسكن عليكم وهذا أحسن، لأنه لا خلاف فيه، والجوارح هي الكلاب ونحوها مما يصطاد به وسميت جوارح لأنها كواسب لأهلها، فهو من الجرح بمعنى الكسب ولا خلاف في جواز الصيد بالكلاب، واختلف فيما سواها ومذهب الجمهور الجواز، للأحاديث الواردة في البازات وغيرها، ومنع بعض ذلك لقوله: مكلبين، فإنه مشتق من الكلب ونزلت الآية بسبب عديّ بن حاتم، وكان له كلاب يصطاد بها، فسأل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عما يحل من الصيد ومُكَلِّبِينَ أي معلمين للكلاب الاصطياد، وقيل: معناه أصحاب الكلاب وهو منصوب على الحال من ضمير الفاعل في علمتم ويقتضي قوله: علمتم ومكلبين أنه لا يجوز الصيد إلّا بجارح معلم، لقوله: وما علمتم وقوله مكلبين على القول الأول لتأكيده ذلك بقوله: تعلمونهنّ، وحدّ التعليم عند ابن القاسم: أن يعلم الجارح الإشلاء «1» والزجر، وقيل: الإشلاء خاصة، وقيل الزجر خاصة، وقيل: أن يجيب إذا دعي تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ أي تعلمونهن من الحيلة في الاصطياد وتأتي تحصيل الصيد، وهذا جزء مما علمه الله الإنسان، فمن للتبعيض، ويحتمل أن تكون لابتداء الغاية، والجملة في موضع الحال أو استئناف فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ الأمر هنا للإباحة ويحتمل أن يريد بما أمسكن، سواء أكلت الجوارح منه أو لم تأكل، وهو ظاهر إطلاق اللفظ، وبذلك أخذ مالك، ويحتمل أن يريد مما أمسكن ولم يأكل منه، وبذلك فسره رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بقوله فإن أكل منه فلا تأكل فإنه إنما أمسك على نفسه وقد أخذ بهذا بعض العلماء، وقد، ورد في حديث آخر إذا أكل فكل، وهو حجة لمالك وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ هذا أمر بالتسمية على الصيد، ويجري الذبح مجراه، وقد اختلف الناس في حكم التسمية، فقال الظاهرية: إنها واجبة حملا للأمر على الوجوب، فإن تركت التسمية عمدا أو نسيانا، لم تؤكل عندهم وقال الشافعي: إنها مستحبة، حملا للأمر على الندب وتؤكل عنده، سواء تركت التسمية عمدا أو نسيانا، وجعل بعضهم الضمير في عليه عائدا على الأكل فليس فيها على هذا أمر بالتسمية على الصيد ومذهب مالك أنه: إن تركنا التسمية عمدا لم تؤكل، وإن تركت نسيانا أكلت فهي عنده واجبة مع الذكر، ساقطة مع النسيان وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ معنى حل: حلال، والذين أوتوا الكتاب هم اليهود، والنصارى، واختلف في نصارى بني تغلب من العرب، وفيمن كان مسلما ثم ارتد إلى اليهودية أو النصرانية، هل يحل لنا طعامهم أم لا؟ ولفظ الآية يقتضي الجواز لأنهم من أهل الكتاب، واختلف في المجوس والصابئين. هل هم أهل كتاب أم لا؟.

_ (1) . الإشلاء: معناه أن ينادي الكلب باسمه فيجيب وإذا زجر عن شيء ينزجر. [.....]

[سورة المائدة (5) : الآيات 6 إلى 13]

وأما الطعام، فهو على ثلاثة أقسام أحدها: الذبائح وقد اتفق العلماء على أنها مرادة في الآية، فأجازوا كل ذبائح اليهود والنصارى، واختلفوا فيما هو محرم عليهم في دينهم، هل يحل لنا أم لا على ثلاثة أقوال: الجواز، والمنع، والكراهة، وهذا الاختلاف مبني على هل هو من طعامهم أم لا فإن أريد بطعامهم ما ذبحوه جاز، وإن أريد به ما يحل لهم منع، والكراهة توسط بين القولين القسم الثاني ما لا محاولة لهم فيه كالقمح والفاكهة فهو جائز لنا باتفاق، والثالث: ما فيه محاولة: كالخبز، وتعصير الزيت، وعقد الجبن وشبه ذلك مما يمكن استعمال النجاسة فيه، فمنعه ابن عباس لأنه رأى أن طعامهم هو الذبائح خاصة، ولأنه يمكن أن يكون نجسا، وأجازه الجمهور، لأنه رأوه داخلا في طعامهم، هذا إذا كان استعمال النجاسة فيه محتملا، فأما إذا تحققنا استعمال النجاسة فيه كالخمر والخنزير والميتة، فلا يجوز أصلا وقد صنف الطرطوشي في تحريم جبن النصارى، وقال: إنه ينجس البائع والمشتري والآلة، لأنهم يعقدونه بأنفحة الميتة، ويجري مجرى ذلك الزيت إذا علمنا أنهم يجعلونه في ظروف الميتة وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ هذه إباحة للمسلمين أن يطعموا أهل الكتاب من طعامهم وَالْمُحْصَناتُ عطف على الطعام المحلل، وقد تقدّم أن الإحصان له أربعة معان: الإسلام، والتزوج والعفة، والحرية. فأما الإسلام فلا يصح هنا لقوله من الذين أوتوا الكتاب، وأما التزوج فلا يصح أيضا لأن ذات الزوج لا تحل لغيره، ويحتمل هنا العفة والحرية، فمن حمله على العفة أجاز نكاح المرأة الكتابية سواء كانت حرة أو أمة، ومن حمله على الحرية أجاز نكاح الكتابية الحرة ومنع الأمة، وهو مذهب مالك، ولا تعارض بين هذه الآية. وبين قوله: ولا تنكحوا المشركات لأن هذه في الكتابيات، والأخرى في المشركات، وقد جعل بعض الناس هذه ناسخة لتلك، وقيل: بالعكس، وقد تقدم معنى «فآتوهن أجورهن» ومعنى الأخدان: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ [النساء: 25] الآية: نزلت في غزوة المريسيع، حين انقطع عقد عائشة رضي الله عنها، فأقام الناس على التماسه وليسوا على ماء، وليس معهم ماء، فنزلت الرخصة في التيمم، فقال أسيد بن حضير: ما هذه بأول بركاتكم يا آل أبي بكر، ولذلك سميت الآية آية التيمم، وقد كان الوضوء مشروعا قبلها، ثابتا بالسنة، وقوله: إذا قمتم إلى الصلاة معناه: إذا أردتم القيام إلى الصلاة فتوضؤوا. ويقتضي ظاهرها وجوب تجديد الوضوء لكل صلاة، وهو مذهب ابن سيرين وعكرمة. ومذهب الجمهور: أنه لا يجب، واختلفوا في تأويل الآية على أربعة أقوال: الأول: أن وجوب تجديد الوضوء لكل صلاة منسوخ بفعل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذ صلّى الصلوات الخمس يوم الفتح بوضوء واحد، والثاني: أن ما تقتضيه الآية من التجديد يحمل على الندب، والثالث: أن تقديرها إذا قمتم محدثين فإنما يجب على من أحدث، والرابع: أن تقديرها إذا قمتم من النوم فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ ذكر في

هذه الآية. أربعة أعضاء اثنين محدودين «1» ، وهما اليدان والرجلان واثنين غير محدودين وهما الوجه والرأس أما المحدودان فتغسل اليدان إلى المرفقين، والرجلان إلى الكعبين وجوبا بإجماع، فإنّ ذلك هو الحد الذي جعل الله لهما، واختلف هل يجب غسل المرفقين مع اليدين، وغسل الكعبين مع الرجلين أم لا، وذلك مبني على معنى إلى، فمن جعل إلى بمعنى مع في قوله إلى المرافق وإلى الكعبين أوجب غسلهما. ومن جعلها بمعنى الغاية لم يوجب غسلهما واختلف في الكعبين، هل هما اللذان عند معقد الشراك أو العظمان الناتئان في طرف الساق، وهو أظهر لأنه ذكرهما بلفظ التثنية، ولو كان اللذان عند معقد الشراك لذكرهما بلفظ الجمع كما ذكر المرافق، لأنه على ذلك في كل رجل كعب واحد وأما غير المحدودين، فاتفق على وجوب استيعاب الوجه. وحدّه طولا من أول منابت الشعر إلى آخر الذقن أو اللحية، وحدّه عرضا من الأذن إلى الأذن وقيل: من العذار إلى العذار، وأما الرأس، فمذهب مالك وجوب إيعابه كالوجه، ومذهب كثير من العلماء جواز الاقتصار على بعضه، لما ورد في الحديث أن رسول الله صلّى الله عليه واله وسلّم مسح على ناصيته، ولكنهم اختلفوا في القدر الذي يجزئ على أقوال كثيرة وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ اختلف في هذه الباء فقال قوم: إنها للتبعيض وبنوا على ذلك جواز مسح بعض الرأس، وهذا القول غير صحيح عند أهل العربية، وقال القرافي: إنها باء الاستعانة التي تدخل على الآلات وأن المعنى: امسحوا أيديكم برءوسكم، وهذا ضعيف لأن الرأس على هذا ما مسح لا ممسوح، وذلك خلاف المقصود، وقيل إنها زائدة وهو ضعيف، لأن هذا ليس موضع زيادتها والصحيح عندي: أنها باء الإلصاق التي توصل الفعل إلى مفعوله لأن المسح تارة يتعدّى بنفسه، وتارة بحرف الجر: كقوله: فامسحوا بوجوهكم، وكقوله: فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ [ص: 33] وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ قرئ وأرجلكم بالنصب عطفا على الوجوه والأيدي فيقتضي ذلك وجوب غسل الرجلين، وقرئ بالخفض «2» فحمله بعضهم على أنه عطف على قوله: برءوسكم، فأجاز مسح الرجلين، روي ذلك عن ابن عباس، وقال الجمهور لا يجوز مسحهما بل يجب غسلهما وتأولوا قراءة الخفض بثلاثة تأويلات: أحدها: أنه خفض على الجوار لا على العطف. والآخر: أنه يراد به المسح على الخفين، والثالث: أن ذلك منسوخ بالسنة. والفرق بين الغسل والمسح أن المسح إمرار اليدين بالبلل الذي يبقى من الماء، والغسل عند مالك إمرار اليد بالماء، وعند الشافعي إمرار الماء، وإن لم يدلك باليد وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ تقدم الكلام على نظيرتها في

_ (1) . محدود: أي له حدود واضحة. (2) . وهي قراءة ابن كثير وأبو عمرو وحمزة وأبو بكر وحجتهم ما روي عن ابن عباس.

النساء ما يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ أي من ضيق ولا مشقة كقول رسول الله صلّى الله عليه واله وسلّم: «دين الله يسر» «1» ، وباقي الآية تفضل من الله على عباده ورحمة وفي ضمن ذلك ترغيب في الطهارة وتنشيط عليها وَمِيثاقَهُ الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ هو ما وقع في بيعة العقبة وبيعة الرضوان، وكل موطن قال المسلمون فيه: سمعنا وأطعنا كُونُوا قَوَّامِينَ تقدم الكلام على نظيرتها في النساء وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ أي لا يحملنكم بغض قوم على ترك العدل فيهم إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ في سببها أربعة أقوال: الأول: أن النبي صلّى الله عليه وسلّم ذهب إلى بني النضير من اليهود، فهمّوا أن يصبوا عليه صخرة يقتلونه بها، فأخبره جبريل بذلك فقام من المكان، ويقوي هذا القول ما ورد في الآيات بعد هذا في غدر اليهود، والثاني: أنها نزلت في شأن الأعرابي الذي سل السيف على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حين وجده في سفر وهو وحده وقال له من يمنعك مني؟ قال: الله فأغمد السيف وجلس واسمه غورث بن الحارث المحاربي الغطفاني، والثالث: أنها فيما همّ به الكفار من الإيقاع بالمسلمين حين نزلت صلاة الخوف، والرابع: أنها على الإطلاق في دفع الله الكفار عن المسلمين اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً النقيب هو كبير القوم القائم بأمورهم إِنِّي مَعَكُمْ أي بنصري، والخطاب لبني إسرائيل، وقيل: للنقباء يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ اختلف هل أريد تحريف الألفاظ أو المعاني؟ وَلا تَزالُ تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ أي على خيانة فهو مصدر

_ (1) . رواه البخاري في كتاب الإيمان بلفظ: إن الدين يسر. عن أبي هريرة.

[سورة المائدة (5) : الآيات 14 إلى 20]

كالعاقبة، وقيل: على طائفة خائنة، وهو إخبار بأمر مستقبل فَاعْفُ عَنْهُمْ منسوخ بالسيف والجزية وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى أي ادّعوا أنهم أنصار الله، وسمّوا أنفسهم بذلك، ثم كفروا بالله ووصفوه بما لا يليق به، وتتعلق من الذين بأخذنا ميثاقهم والضمير عائد على النصارى فَأَغْرَيْنا أي أثبتنا وألصقنا، وهو مأخوذ من الإغراء. يا أَهْلَ الْكِتابِ في الموضعين يعم اليهود والنصارى وقيل: إنها نزلت بسبب اليهود الذين كانوا بالمدينة فإنهم كانوا يذكرون رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ويصفونه بصفته فلما حل بالمدينة كفروا به قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يعني محمدا صلّى الله عليه وسلّم، وفي الآية دلالة على صحة نبوته، لأنه بين لهم ما أخفوه مما في كتبهم، وهو أمي لم يقرأ كتبهم وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ أي: يتركه ولا يفضحكم نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ محمد صلّى الله عليه وسلّم والقرآن قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً الآية: رد على الذين قالوا: إنّ الله هو عيسى، وهم فرقة من النصارى يَخْلُقُ ما يَشاءُ إشارة إلى خلقه عيسى من غير والد وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى أي قالت: كل فرقة عن نفسها إنهم أبناء الله وأحباؤه، والبنوّة هنا بنوّة الحنان والرأفة، وقال الزمخشري: المعنى نحن أشياع أبناء الله عندهم، وهما المسيح وعزير كما يقول حشم الملوك: نحن الملوك فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ ردّ عليهم، لأنهم قد اعترفوا أنهم يدخلون النار أياما معدودات، وقد أخذ الصوفية من الآية أن المحب لا يعذب حبيبه، ففي ذلك بشارة لمن أحبه الله وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً قيل: جعل منكم ملوكا أي أمراء، وقيل: الملك من له مسكن وامرأة وخادم ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ قيل: يعني المنّ والسلوى والغمام وغير ذلك من

[سورة المائدة (5) : الآيات 21 إلى 25]

الآيات، وعلى هذا يكون العالمين خاصا بأهل زمانهم، لأن أمة محمد صلّى الله عليه وسلّم قد أوتيت من آياته مثل ذلك وأعظم، وقيل: المراد كثرة الأنبياء، فعلى هذا يكون عاما، لأن الأنبياء في بني إسرائيل أكثر منهم في سائر الأمم الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ أرض بيت المقدس، وقيل: الطور، وقيل: دمشق الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ أي قضى أن تكون لكم وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ يحتمل أن يريد الارتداد عن الدين والطاعة، والرجوع إلى الطريق الذي جاءوا منه فإنه روي أنه لما أمرهم موسى عليه السلام بدخول الأرض المقدسة خافوا من الجبارين الذين فيها، وهمّوا أن يقدموا على أنفسهم رئيسا ويرجعوا إلى مصر قَوْماً جَبَّارِينَ هم العمالقة قالَ رَجُلانِ هما يوشع وكالب يَخافُونَ أي يخافون الله، وقيل: يخافون الجبارين، ولكن الله أنعم عليهما بالصبر والثبوت لصدق إيمانهما ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ أي باب المدينة فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ إفراط في العصيان وسوء الأدب بعبارة تقتضي الكفر والاستهانة بالله ورسوله، وأين هؤلاء من الذين قالوا لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم: لسنا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى ولكن نقول لك اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون «1» لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي قاله موسى عليه السلام ليتبرأ إلى الله من قول بني إسرائيل، ويبذل جهده في طاعة الله ويعتذر إلى الله. وإعراب أخي عطف على نفسي لأن أخاه هارون كان يطيعه، وقيل: عطف على الضمير في لا أملك: أي لا أملك أنا إلا نفسي ولا يملك أخي إلا نفسه، وقيل: مبتدأ، وخبره محذوف أي أخي لا يملك إلا نفسه فَافْرُقْ بَيْنَنا أي فارق بيننا وبينهم فهو من الفرقة، وقيل: افصل بيننا وبينهم بحكم قالَ فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً الضمير في قال لله تعالى، وحرم الله على جميع بني إسرائيل دخول تلك المدينة أربعين سنة وتركهم في هذه المدة يتيهون في الأرض أي في أرض التيه وهو ما بين مصر والشام حتى مات كل من قال. إنا لن ندخلها. ولم يدخلها أحد من ذلك الجيل إلا يوشع وكالب ومات هارون في التيه، ومات موسى بعده في التيه أيضا. وقيل: إن موسى وهارون لم يكونا في التيه، لقوله فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين، وخرج يوشع ببني إسرائيل بعد الأربعين سنة، وقاتل الجبارين، وفتح المدينة، والعامل في

_ (1) . هذا من كلام المقداد بن عمرو للنبي صلّى الله عليه وسلّم قبيل موقعة بدر. انظر سيرة ابن هشام ج 2 ص 615.

[سورة المائدة (5) : الآيات 31 إلى 32]

أربعين: محرمة على الأصح، فيجب وصله معه وقيل: العامل فيه يتيهون فعلى هذا يجوز الوقف على قوله محرمة عليهم، وهذا ضعيف لأنه لا حامل على تقديم المعمول هنا مع أن القول الأوّل أكمل معنى لأنه بيان لمدّة التحريم والتيه يَتِيهُونَ أي يتحيرون، وروي أنهم كانوا يسيرون الليل كله، فإذا أصبحوا وجدوا أنفسهم في الموضع الذي كانوا فيه فَلا تَأْسَ أي لا تحزن والخطاب لموسى، وقيل: لمحمد صلّى الله عليه وسلّم، ويراد بالفاسقين: من كان في عصره من اليهود نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ هما قابيل وهابيل إِذْ قَرَّبا قُرْباناً روي أن قابيل كان صاحب زرع فقرب أرذل زرعه، وكان هابيل صاحب غنم فقرب أحسن كبش عنده، وكانت العادة حينئذ أن يقرب الإنسان قربانه إلى الله ويقوم يصلي، فإذا نزلت نار من السماء وأكلت القربان فذلك دليل على القبول وإلا فلا قبول، فنزلت النار فأخذت كبش هابيل ورفعته وتركت زرع قابيل فحسده قابيل فقتله إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ استدل بها المعتزلة وغيرهم على أن صاحب المعاصي لا يتقبل عمله، وتأولها الأشعرية بأن التقوى هنا يراد بها تقوى الشرك لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ الآية، قيل: معناها لئن بدأتني بالقتال لم أبدأك به، وقيل: إن بدأتني بالقتال لم أدافعك، ثم اختلف على هذا القول هل تركه لدفاعه عن نفسه تورعا وفضيلة؟ وهو الأظهر والأشهر، وكان واجبا عندهم أن لا يدافع أحد عن نفسه وهو قول مجاهد، وأما في شرعنا فيجوز دفع الإنسان عن نفسه بل يجب إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ الإرادة هنا ليست بإرادة محبة وشهوة، وإنما هو تخيير في أهون الشرين كأنه قال: إن قتلتني، فذلك أحب إلي من أن أقتلك كما ورد في الأثر: «كن عبد الله المقتول، ولا تكن عبد الله القاتل» «1» ، وأما قوله بإثمي وإثمك فمعناه بإثم قتلي لك لو قتلتك، وبإثم قتلك لي، وإنما يحمل القاتل الإثمين، لأنه ظالم، فذلك مثل قوله صلّى الله عليه وسلّم: «المتسابان ما قالا» «2» فهو على البادئ، وقيل: بإثمي أي تحمل عني سائر ذنوبي، لأن الظالم تجعل عليه في القيامة ذنوب المظلوم، وبإثمك أي في قتلك لي، وفي غير ذلك من ذنوبك وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ يحتمل أن يكون من كلام هابيل، أو استئنافا من كلام الله تعالى فَبَعَثَ اللَّهُ غُراباً الآية: روي أن غرابين اقتتلا حتى قتل أحدهما الآخر، ثم جعل القاتل يبحث عن التراب ويواري الميت، وقيل: بل كان غرابا واحدا يبحث ويلقي التراب على

_ (1) . رواه أحمد من حديث خباب ج 5/ 148. (2) . رواه أحمد عن أبي هريرة ج 2 ص 645.

[سورة المائدة (5) : الآيات 33 إلى 35]

هابيل سَوْأَةَ أَخِيهِ أي عورته، وخصت بالذكر لأنها أحق بالستر من سائر الجسد، والضمير في أخيه عائد على ابن آدم، ويظهر من هذه القصة أن هابيل كان أول من دفن من بني آدم قالَ يا وَيْلَتى أصله يا ويلتي، ثم أبدل من الياء ألف وفتحت التاء وكذلك يا أسفا. ويا حسرتا فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ على ما وقع فيه من قتل أخيه، واختلف في قابيل هل كان كافرا أو عاصيا، والصحيح أنه لم يكن في تلك المدة كافرا لأنه قصد التقرب إلى الله بالقربان، وأصبح هنا وفي الموضع عبارة عن جميع الأوقات لا مختصة بالصباح مِنْ أَجْلِ ذلِكَ يتعلق بكتبنا، وقيل بالنادمين، وهو ضعيف كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أي فرضنا عليهم أو كتبناه في كتبهم بِغَيْرِ نَفْسٍ معناه من غير أن يقتل نفسا يجب عليه القصاص أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ يعني الفساد الذي يجب به القتل كالحرابة فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً تمثيل قاتل الواحد بقاتل الجميع يتصور من ثلاث جهات إحداها: القصاص، فإن القصاص في قاتل الواحد والجميع سواء. الثانية: انتهاك الحرمة والإقدام على العصيان، والثالثة: الإثم والعذاب الأخروي. قال مجاهد: وعد الله قاتل النفس بجهنم والخلود فيها، والغضب واللعنة والعذاب العظيم، فلو قتل جميع الناس لم يزد على ذلك، وهذا الوجه هو الأظهر لأن القصد بالآية: تعظيم قتل النفس والتشديد فيه لينزجر الناس عنه، وكذلك الثواب في إحيائها كثواب إحياء الجميع لتعظيم الأمر والترغيب فيه. وإحياؤها: هو إنقاذها من الموت كإنقاذ الحريق أو الغريق وشبه ذلك. وقيل: بترك قتلها، وقيل: بالعفو إذا وجب القصاص وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ الضمير لبني إسرائيل. والمعنى تقبيح أفعالهم، وفي ذلك إشارة إلى ما همّوا به من قتل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ الآية: سببها عند ابن عباس: أن قوما من اليهود كان بينهم وبين رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عهد فنقضوا العهد وقطعوا السبيل، وقال جماعة: نزلت في نفر من عكل وعرينة أسلموا حسب الظاهر ثم إنهم قتلوا راعي النبي صلّى الله عليه وسلّم وأخذوا إبله. ثم حكمها بعد ذلك في كل محارب، والمحاربة عند مالك هي: حمل السلاح على الناس في بلد أو في خارج بلد، وقال أبو حنيفة: لا يكون المحارب إلا خارج البلد، وقوله: يحاربون الله: تغليظ ومبالغة، وقال بعضهم: تقديره يحاربون رسول الله صلّى الله تعالى عليه وعلى اله وسلّم وذلك ضعيف، لأن الرسول عليه الصلاة والسلام ذكر بعد ذلك وقيل: يحاربون عباد الله

[سورة المائدة (5) : الآيات 36 إلى 40]

وهو أحسن وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً بيان للحرابة وهي على درجات: أدناها إخافة الطريق ثم أخذ المال ثم قتل النفس أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا الصلب مضاف إلى القتل. وقيل: يقتل ثم يصلب ليراه أهل الفساد فينزجروا، وهو قول أشهب، وقيل يصلب حيا، ويقتل على الخشبة، وهو قول ابن القاسم أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ معناه أن تقطع يده اليمنى ورجله اليسرى، ثم إن عاد: قطعت يده اليسرى ورجله اليمنى، وقطع اليد عند مالك والجمهور من الرسغ، وقطع الرجل من المفصل، وذلك في الحرابة وفي السرقة أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ مشهور مذهب مالك: أن ينفى من بلد إلى بلد آخر، ويسجن فيه إلى أن تظهر توبته، وروى عنه مطرف أنه يسجن في البلد بعينه، وبذلك قال أبو حنيفة، وقيل: ينفى إلى بلد آخر دون أن يسجن فيه، ومذهب مالك أن الإمام مخير في المحارب بين أن يقتله ويصلبه، أو يقتله ولا يصلبه أو يقطع يده ورجله، أو ينفيه، إلا أنه قال: إن كان قتل فلا بدّ من قتله، وإن لم يقتل، فالأحسن أن يأخذ فيه بأيسر العقاب، وقال الشافعي وغيره: هذه العقوبات مرتبة فمن قتل وأخذ المال قتل وصلب، ومن قتل ولم يأخذ المال قتل ولم يصلب، ومن أخذ المال ولم يقتل قطعت يده ورجله، ومن أخاف السبيل ولم يقتل ولم يأخذ مالا نفي، وحجة مالك عطف هذه العقوبات بأو التي تقتضي التخيير خِزْيٌ فِي الدُّنْيا هو العقوبة، وعذاب الآخرة النار. وظاهر هذا أن العقوبة في الدنيا لا تكون كفارة للمحارب، بخلاف سائر الحدود، ويحتمل أن يكون الخزي في الدنيا لمن عوقب فيها، والعذاب في الآخرة لمن لم يعاقب إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ قيل: هي في المشركين وهو ضعيف لأن المشرك لا يختلف حكم توبته قبل القدرة عليه وبعدها، وقيل: هي في المحاربين من المسلمين وهو الصحيح، وهم الذين جاءتهم العقوبات المذكورة، فمن تاب منهم قبل أن يقدر عليه، فقد سقط عنه حكم الحرابة لقوله: فاعلموا أن الله غفور رحيم. واختلف [هل] يطالب بما عليه من حقوق الناس في الدماء والأموال أو لا؟ فوجه المطالبة بها أنها زائدة على حدّ الحرابة التي سقطت عنه بالتوبة، ووجه إسقاطها إطلاق قوله غفور رحيم. وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ أي ما يتوسل به ويتقرّب به إليه من الأعمال الصالحة والدعاء وغير ذلك لِيَفْتَدُوا بِهِ إن قيل لم وحّد الضمير وقد ذكر شيئين وهما ما في الأرض ومثله؟ فالجواب أنه وضع المفرد في موضع الاثنين، وأجرى الضمير مجرى اسم الإشارة

[سورة المائدة (5) : الآيات 41 إلى 44]

كأنه قال يفتدوا بذلك، أو تكون الواو بمعنى مع عَذابٌ مُقِيمٌ أي دائم، وكذلك: نعيم مقيم وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما عموم الآية يقتضي قطع كل سارق إلا أن الفقهاء اشترطوا في القطع شروطا خصصوا بها العموم فمن ذلك من اضطره الجوع إلى السرقة لم يقطع عند مالك لتحليل الميتة له، وكذلك من سرق مال والده أو سيده، أو من سرق من غير حرز، [مكان محفوظ] أو سرق أقل من النصاب، وهو عند مالك ربع دينار من الذهب، أو ثلاثة دراهم من الفضة، أو ما يساوي أحدهما، وأدلة التخصيص بهذه الأشياء في غير هذه الآية، وقد قيل: إن الحرز مأخوذ من هذه الآية، لأن ما أهمل بغير حرز أو ائتمن عليه، فليس أخذه سرقة وإنما هو اختلاس أو خيانة، وإعراب السارق عند سيبويه مبتدأ، وخبره محذوف: كأنه قال فيما يتلى عليكم السارق والسارقة، والخبر عند المبرد وغيره فاقطعوا أيديهما، ودخلت الفاء لتضمنها معنى الشرط فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ الآية: توبة السابق هي أن يندم على ما مضى، ويقلع فيما يستقبل، ويردّ ما سرق إلى من يستحقه، واختلف إذا تاب قبل أن يصل إلى الحاكم، هل يسقط عنه القطع وهو مذهب الشافعي لظاهر الآية؟ أو لا يسقط عنه وهو مذهب مالك لأن الحدود عنده لا تسقط بالتوبة إلا عن المحارب للنص عليه يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ قدم العذاب على المغفرة لأنه قوبل بذلك تقدم السرقة على التوبة. يا أَيُّهَا الرَّسُولُ الآية: خطاب للنبي صلّى الله عليه وسلّم على وجه التسلية مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ هم المنافقون وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا يحتمل أن يكون عطفا على الذين قالوا آمنا، ثم يكون سماعون استئناف إخبار عن الصنفين المنافقين واليهود، ويحتمل أن يكون من الذين هادوا: استئنافا منقطعا مما قبله، وسماعون راجع إليهم خاصة سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ أي سماعون كلام قوم آخرين من اليهود الذين لا يأتون النبي صلّى الله عليه وسلّم لإفراط البغضة والمجاهرة بالعداوة، فقوله: لم يأتوك صفة لقوم آخرين، والمراد بالقوم الآخرين يهود خيبر، والسماعون للكذب بنو قريظة يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ أي يبدلونه من بعد أن يوضع في موضعه، وقصدت به وجوهه القويمة، وذلك من صفة اليهود يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ نزلت بسبب أن يهوديا زنى بيهودية فسأل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم اليهود عن

حد الزاني عندهم فقالوا: نجلدهما ونحمم وجوههما. فقال لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إن في التوراة الرجم، فأنكروا ذلك، فأمرهم أن يأتوا بالتوراة فقرأوها، فجعل أحدهم يده على آية الرجم، فقال له عبد الله بن سلام ارفع يدك فرفع، فإذا آية الرجم فأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم باليهودي واليهودية فرجما، فمعنى قولهم إن أوتيتم هذا فخذوه: إن أوتيتم هذا الذي ذكرتم من الجلد والتحميم تسويد الوجه بالقار فخذوه واعملوا به، وإن لم تؤتوه أفتاكم محمد صلّى الله عليه وسلّم بغيره فاحذروا فِتْنَتَهُ أي ضلالته في الدنيا أو عذابه في الآخرة فِي الدُّنْيا خِزْيٌ الذلة والمسكنة والجزية سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ إن كان الأول في اليهود فكررها هنا تأكيدا، وإن كان الأول في المنافقين واليهود فهذا في اليهود خاصة أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ أي للحرام من الرشوة والربا وشبه ذلك فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ هذا تخيير للنبي صلّى الله عليه وسلّم في أن يحكم بين اليهود أو يتركهم وهو أيضا يتناول الحاكم، وقيل إنه منسوخ بقوله: وأن احكم بينهم بما أنزل الله وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ الآية: استبعاد لتحكيمهم النبي صلّى الله عليه وسلّم وهم لا يؤمنون به، مع أنهم يخالفون حكم التوراة التي يدعون الإيمان بها، فمعنى ثم يتولون من بعد ذلك أي: يتولون عن اتباع حكم الله في التوراة من بعد كون حكم الله فيها موجودا عندهم، ومعلوما في قضية الرجم وغيرها وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ يعني: أنهم لا يؤمنون بالتوراة وبموسى عليه السلام، وهذا إلزام لهم لأن من خالف كتاب الله وبدّله فدعواه الإيمان به باطلة النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا هم الأنبياء الذين بين موسى ومحمد صلّى الله عليه وسلّم، ومعنى أسلموا هنا أخلصوا لله وهو صفة مدح أريد به التعريض باليهود لأنهم بخلاف هذه الصفة، وليس المراد هنا الإسلام الذي هو ضد الكفر لأن الأنبياء لا يقال فيهم: أسلموا على هذا المعنى، لأنهم لم يكفروا قط، وإنما هو كقول إبراهيم عليه السلام: أسلمت لرب العالمين، وقوله تعالى فقل: أسلمت وجهي لله لِلَّذِينَ هادُوا متعلق بيحكم أي يحكم الأنبياء بالتوراة للذين هادوا، ويحملونهم عليها، ويتعلق بقوله فيه هدى ونور بِمَا اسْتُحْفِظُوا أي كلفوا حفظه، والباء هنا سببية قاله الزمخشري، ويحتمل أن تكون بدلا من المجرور في قوله يحكم بها فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وما بعده خطابا لليهود، ويحتمل أن تكون وصية للمسلمين يراد بها التعريض باليهود، لأن ذلك من أفعالهم وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ

[سورة المائدة (5) : الآيات 45 إلى 47]

اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ قال ابن عباس: نزلت الثلاثة في اليهود: الكافرون، والظالمون، والفاسقون، وقد روي في هذا أحاديث عن النبي صلّى الله عليه وسلّم، وقال جماعة: هي عامة في كل من لم يحكم بما أنزل الله من اليهود والمسلمين وغيرهم، إلا أن الكفر في حق المسلمين كفر معصية لا يخرجهم عن الإيمان، وقال الشافعي: الكافرون في المسلمين، والظالمون في اليهود، والفاسقون في النصارى وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها كتبنا بمعنى الكتابة في الألواح، أو بمعنى الفرض والإلزام، والضمير في عليهم لبني إسرائيل، وفي قوله فيها للتوراة أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ أي تقتل النفس إذا قتلت نفسا، وهذا إخبار عما في التوراة وهو حكم في شريعتنا بإجماع، إلا أن هذا اللفظ عامّ، وقد خصص العلماء منه أشياء، فقال مالك: لا يقتل مؤمن بكافر للحديث الوارد في ذلك ولا يقتل حر بعبد، لقوله الحر بالحر والعبد بالعبد وقد تقدم الكلام على ذلك في البقرة [178] وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وما بعده حكم القصاص في الأعضاء، والقراءة بنصب العين وما بعده عطف على النفس، وقرئ بالرفع «1» ولها ثلاثة أوجه: أحدها العطف على موضع النفس لأن المعنى قلنا لهم: النفس بالنفس والثاني العطف على الضمير الذي في الخبر وهو بالنفس، والثالث أن يكون مستأنفا مرفوعا بالابتداء وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ بالنصب عطف على المنصوبات قبله، وبالرفع على الأوجه الثلاثة التي في رفع العين، وهذا اللفظ عامّ يراد به الخصوص في الجراح التي لا يخاف على النفس منها فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ فيه تأويلان: أحدهما من تصدق من أصحاب الحق بالقصاص وعفا عنه، فذلك كفارة له يكفر الله ذنوبه لعفوه وإسقاطه حقه، والثاني من تصدّق وعفا فهو كفارة للقاتل والجارح بعفو الله عنه في ذلك لأن صاحب الحق قد عفا عنه، فالضمير في له على التأويل الأوّل يعود على من التي هي كناية عن المقتول أو المجروح، أو الولي، وعلى الثاني يعود على القاتل أو الجارح وإن لم يجر له ذكر، ولكن سياق الكلام يقتضيه، والأوّل أرجح لعود الضمير على مذكور، وهو من، ومعناها واحد على التأويلين، والصدقة بمعنى العفو على التأويلين، إلا أن التأويل الأول بيان لأجر من عفا، وترغيب في العفو، والتأويل الثاني: بيان لسقوط الإثم عن القاتل أو الجارح إذا عفي عنه مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ قد تقدم معنى مصدق في

_ (1) . وهي قراءة الكسائي فقط.

[سورة المائدة (5) : الآيات 48 إلى 50]

البقرة، ولما بين يديه: يعني التوراة، لأنها قبله، والقرآن مصدق للتوراة والإنجيل، لأنهما قبله، ومصدقا: عطف على موضع قوله فيه هدى ونور، لأنه في موضع الحال وَمُهَيْمِناً ابن عباس شاهدا، وقيل مؤتمنا عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِّ تضمن الكلام معنى: لا تنصرف أو لا تنحرف، ولذلك تعدى بعن لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً [قال ابن عباس] : سبيلا وسنة، والخطاب للأنبياء عليهم الصلاة والسلام، أو الأمم، والمعنى أن الله جعل لكل أمة شريعة يتبعونها، وقد استدل بها من قال: إن شرع من قبلنا ليس بشرع لنا، وذلك في الأحكام والفروع، وأما الاعتقاد، فالدين فيها واحد لجميع العالم، وهو الإيمان بالله، وتوحيده وتصديق رسله، والإيمان بالدار الآخرة فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ استدل به قوم على أن: تقديم الواجبات أفضل من تأخيرها، وهذا متفق عليه في العبادات كلها، إلا الصلاة ففيها خلاف، فمذهب الشافعي أن تقديمها في أوّل وقتها أفضل، وعكس أبو حنيفة، وفي مذهب مالك خلاف وتفصيل، واتفقوا أن تقديم المغرب أفضل وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ عطف على الكتاب في قوله: وأنزلنا إليك الكتاب، أو على الحق في قوله: بالحق، وقال قوم: إن هذا وقوله قبله فاحكم بينهم ناسخ لقوله: فاحكم بينهم أو أعرض عنهم: أي ناسخ للتخيير الذي في الآية، وقيل: إنه ناسخ للحكم بالتوراة، ونزلت الآية بسبب قوم من اليهود، طلبوا من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يحكم بينهم فأبى من ذلك، ونزلت الآية تقضي أن يحكم بينهم أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ توبيخ لليهود، وقرئ بالياء إخبارا عنهم، وبالتاء «1» خطابا لهم لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ قال الزمخشري اللام للبيان: أي هذا الخطاب لقوم يوقنون، فإنهم الذين يتبين لهم أنه لا أحسن من الله حكما يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ سببها موالاة عبد الله بن أبي بن سلول ليهود بني قينقاع، وخلع عبادة بن الصامت الحلف الذي كان بينه وبينهم، ولفظها عام، وحكمها باق، ولا يدخل فيه معاملتهم في البيع والشراء وشبهه فَإِنَّهُ مِنْهُمْ تغليظ في الوعيد، فمن كان يعتقد معتقدهم فهو منهم من كل وجه ومن خالفهم في اعتقادهم وأحبهم فهو منهم في المقت عند الله، واستحقاق

_ (1) . في قراءة ابن عامر فقط: (تبغون) .

[سورة المائدة (5) : الآيات 54 إلى 58]

العقوبة فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ هم المنافقون، والمراد هنا عبد الله بن أبي بن سلول ومن كان معه يَقُولُونَ نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ كان عبد الله بن أبي يوالي اليهود ويستكثر بهم، ويقول: إني رجل أخشى الدوائر فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ الفتح هنا هو ظهور النبي صلّى الله عليه وسلّم والمسلمين، والأمر من عنده: هو هلاك الأعداء بأمر من عنده لا يكون فيه تسبب لمخلوق، أو أمر من الله لرسوله عليه الصلاة والسلام بقتل اليهود فَيُصْبِحُوا عَلى ما أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نادِمِينَ الضمير في فيصبحوا للمنافقين والذي أسروه هو قصدهم الاستعانة باليهود على المسلمين وإضمار العداوة للمسلمين وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا قرئ: يقول: بغير واو استئناف وإخبار، وقرئ بالواو والرفع وهو عطف جملة على جملة، وبالواو والنصب «1» «عطفا على أن يأتي بالله، أو عطفا على فيصبحوا هؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا الإشارة إلى المنافقين، لأنهم كانوا يحلفون أنهم مع المؤمنين، وانتصب جهد أيمانهم على المصدر المؤكد حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ يحتمل أن يكون من كلام المؤمنين، أو من كلام الله، ويحتمل أن يكون دعاء أو خبرا. مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ خطاب على وجه التحذير والوعيد، وفيه إعلام بارتداد بعض المسلمين فهو إخبار بالغيب قبل وقوعه، ثم وقع فارتدّ في حياة رسول صلّى الله عليه وسلّم بنو حنيفة قوم مسيلمة الكذاب، وبنو مدلج قوم الأسود العنسي الذي ادعى النبوة، وقتل في حياة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وبنو أسد قوم طليحة بن خويلد الذي ادّعى النبوة ثم أسلم وجاهد، ثم كثر المرتدون، وفشا أمرهم بعد موت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، حتى كفى الله أمرهم على يد أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وكانت القبائل التي ارتدت بعد وفاة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سبع قبائل بنو فزارة وغطفان وبنو سليم وبنو يربوع وكندة، وبنو بكر بن وائل، وبعض بني تميم، ثم ارتدت غسان في زمان عمر بن الخطاب، وهم [قوم] جبلة بن الأيهم الذي تنصر من أجل اللطمة فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ روي أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قرأها، وقال: قوم هذا يعني أبا موسى الأشعري «2» ، والإشارة بذلك والله أعلم إلى أهل اليمن، لأن الأشعريين من أهل اليمن، وقيل: المراد أبو بكر الصديق وأصحابه الذين قاتلوا أهل الردّة، ويقوي ذلك ما ظهر من أبي بكر الصديق رضي الله عنه من الجد في قتالهم، والعزم عليه حين

_ (1) . وهي قراءة أبو عمرو، وقرأ أهل الشام والحجاز: يقول بضم اللام. وقرأ أهل الكوفة: ويقول بالواو والضم. (2) . روى الطبري بسنده إلى أبي موسى الأشعري هذا الحديث لدى تفسير هذه الآية.

[سورة المائدة (5) : الآيات 59 إلى 63]

خالفه في ذلك بعض الناس، فاشتد عزمه حتى وافقوه وأجمعوا عليه فنصرهم الله على أهل الردة، ويقوي ذلك أيضا أن الصفات التي وصف بها هؤلاء القوم هي أوصاف أبي بكر، ألا ترى قوله: أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين، وكان أبو بكر ضعيفا في نفسه قويا في الله، وكذلك قوله: وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ: إشارة إلى من خالف أبا بكر ولامه في قتال أهل الردّة فلم يرجع عن عزمه أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كقوله أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ [الفتح: 29] ، وإنما تعدّى أذلة بعلى، لأنه تضمن معنى العطف والحنوّ، فإن قيل: أين الراجع من الجزاء إلى الشرط؟ فالجواب: أنه محذوف تقديره من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم مكانهم أو بقوم يقاتلونهم إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ ذكر الوليّ بلفظ المفرد إفرادا لله تعالى بهما، ثم عطف على اسمه تعالى الرسول عليه الصلاة والسلام والمؤمنين على سبيل التبع، ولو قال إنما أولياؤكم لم يكن في الكلام أصل وتبع وَهُمْ راكِعُونَ قيل: نزلت في عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه، فإنه سأله سائل وهو راكع في الصلاة، فأعطاه خاتمه، وقيل: هي عامّة، وذكر الركوع بعد الصلاة لأنه من أشرف أعمالها، فالواو على القول الأوّل واو الحال، وعلى الثاني للعطف فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هذا من إقامة الظاهر مقام المضمر: معناه فإنهم هم الغالبون وَالْكُفَّارَ بالنصب عطف على الذين اتخذوا، وقرئ «1» بالخفض عطف على الذين أوتوا الكتاب، ويعضده قراءة ابن مسعود: ومن الكفار، ويراد بهم المشركون من العرب وَإِذا نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ الآية: روي أن رجلا من النصارى كان بالمدينة إذا سمع المؤذن يقول: أشهد أنّ محمدا رسول الله قال: حرق الله الكاذب، فوقعت النار في بيته فاحترق هو وأهله «2» ، واستدل بعضهم بهذه الآية على ثبوت الأذان من القرآن ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ جعل قلة عقولهم علة لاستهزائهم بالدين هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا هل تعيبون علينا وتنكرون منا إلا إيماننا بالله، وبجميع كتبه ورسله، وذلك أمر لا ينكر ولا يعاب، ونظير هذا في الاستثناء العجيب قول النابغة: ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم ... بهنّ فلول من قراع الكتائب ونزلت الآية بسبب أبي ياسر بن أخطب، ونافع بن أبي نافع، وجماعة من اليهود

_ (1) . وهي قراءة أبو عمرو والكسائي. (2) . ذكر الطبري هذه الرواية عن السدّي.

[سورة المائدة (5) : الآيات 64 إلى 67]

سألوا رسول الله صلّى الله عليه واله وسلّم عن الرسل الذين يؤمن بهم فتلا: آمنا بالله وما أنزل إلينا إلى آخر الآية، فلما ذكر عيسى قالوا: لا نؤمن بعيسى ولا بمن آمن به وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ قيل: إنه معطوف على آمنا، وقيل: على ما أنزل، وقيل: هو تعليل معطوف على تعليل محذوف تقديره: هل تنقمون منا إلا لقلة إنصافكم ولأن أكثركم فاسقون، ويحتمل أن يكون: وأنّ أكثركم مبتدأ وخبره محذوف تقديره فسقكم معلوم، أو ثابت قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ لما ذكر أن أهل الكتاب يعيبون المسلمين بالإيمان بالله ورسله، ذكر عيوب أهل الكتاب في مقابلة ذلك ردّا عليهم، فالخطاب في أنبئكم لليهود، والإشارة بذلك إلى ما تقدّم من حال المؤمنين مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ هي من الثواب، ووضع الثواب موضع العقاب تهكما بهم نحو قوله: فبشرهم بعذاب أليم مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ يعني اليهود ومن في موضع رفع بخبر مبتدا مضمر تقديره: هو من لعنه الله، أو في موضع خفض على البدل من بشرّ ولا بدّ في الكلام من حذف مضاف تقديره بشر من أهل ذلك وتقديره دين من لعنه الله وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ مسخ قوم من اليهود قرودا حين اعتدوا في السبت ومسخ قوم منهم خنازير حين كذبوا بعيسى ابن مريم وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ القراءة بفتح الباء فعل معطوف على لعنه الله، وقرئ «1» بضم الباء وخفض الطاغوت على أن يكون عبد اسما على وجه المبالغة كيقظ أضيف إلى الطاغوت، وقرئ «2» وعابد وعباد، وهو في هذه الوجوه عطف على القردة والخنازير شَرٌّ مَكاناً أي منزلة ونسب الشرّ للمكان وهو في الحقيقة لأهله، وذلك مبالغة في الذمّ وَإِذا جاؤُكُمْ قالُوا آمَنَّا نزلت في منافقين من اليهود وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ تقديره: ملتبسين بالكفر، والمعنى: دخلوا كفارا وخرجوا كفارا، ودخلت قد على دخلوا وخرجوا: تقريبا للماضي من الحال أي ذلك حالهم في دخولهم وخروجهم على الدوام ب الْإِثْمِ الكذب وسائر المعاصي وَالْعُدْوانِ الظلم السُّحْتَ الحرام لَوْلا يَنْهاهُمُ عرض وتحضيض وتقريع لَبِئْسَ اللام في الموضعين للقسم وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غل اليد كناية عن البخل، وبسطها كناية عن الجود ومنه: ولا تجعل يدك مغلولة: أي لا تبخل كل البخل، ولا تبسطها كل البسط: أي لا تجد كل

_ (1) . وقرأ حمزة (عبد) . وقال الفراء: الباء تضمها العرب للمبالغة في المدح والذم. (2) . لم يذكرها الطبري ولا ابن خالويه في كتاب الحجة ولا ابن زرعة في حجة القراءات والله أعلم. [.....]

الجود، وروي أنّ اليهود أصابتهم سنة جهد فقالوا هذه المقالة الشنيعة، وكان الذي قالها فنحاص، ونسبت إلى جملة اليهود، لأنهم رضوا بقوله غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ يحتمل أن يكون دعاء أو خبرا، ويحتمل أن يكون في الدنيا أو في الآخرة، فإن كان في الدنيا، فيحتمل أن يراد به البخل أو غل أيديهم في الأسر، وإن كان في الآخرة، فهل جعل الأغلال في جهنم بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ عبارة عن إنعامه وجوده، وإنما ثنيت اليدان هنا وأفردت في قول اليهود: يد الله مغلولة، ليكون ردّا عليهم ومبالغة في وصفه تعالى بالجود: كقول العرب: فلان يعطي بكلتا يديه إذا كان عظيم السخاء كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ إيقاد النار عبارة عن محاولة الحرب، وإطفاؤها عبارة عن خذلانهم وعدم نصرهم، ويحتمل أن يراد بذلك أسلافهم، أو يراد من كان معاصرا للنبي صلّى الله عليه وعلى اله وسلّم منهم، ومن يأت بعدهم، فيكون على هذا إخبار بغيب، وبشارة للمسلمين. وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ آمَنُوا الآية: يحتمل أن يراد أسلافهم والمعاصرون للنبي صلى الله تعالى عليه وعلى اله وسلّم، فيكون على هذا ترغيبا لهم في الإيمان والتقوى وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ إقامتها بالعلم والعمل وذكر الإنجيل دليل على دخول النصارى في لفظ أهل الكتاب لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ قيل: من فوقهم عبارة عن المطر، ومن تحت أرجلهم: عبارة عن النبات والزرع، وقيل: ذلك استعارة في توسعة الرزق من كل وجه أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ أي معتدلة، ويراد به من أسلم منهم: كعبد الله بن سلام، وقيل من لم يعاد الأنبياء المتقدمين يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ أمر بتبليغ جميع ما أوحي إليه على الاستيفاء والكمال، لأنه كان قد بلغ وإنما أمر هنا ألا يتوقف عن شيء مخافة أحد وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ هذا وعيد على تقدير عدم التبليغ، وفي ارتباط هذا الشرط مع جوابه قولان: أحدهما أن المعنى إن تركت منه شيئا، فكأنك لم تبلغ شيئا، وصار ما بلغت لا يعتد به، فمعنى إن لم تفعل: إن لم تستوف التبليغ على الكمال، والآخر أن المعنى إن لم تبلغ الرسالة وجب عليك عقاب من كتمها، ووضع السبب موضع المسبب وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ وعد وضمان للعصمة، وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يخاف أعداءه ويحترس منهم في غزواته وغيرها، فلما نزلت هذه الآية قال: يا أيها الناس انصرفوا فإن الله قد

[سورة المائدة (5) : الآيات 68 إلى 74]

عصمني وترك الاحتراس قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ الآية أي لستم على دين يعتد به يسمى شيئا حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ ومن إقامتها الإيمان بمحمد صلّى الله تعالى عليه وعلى اله وسلّم وقوله: وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ قال ابن عباس: يعني القرآن، ونزلت الآية بسبب رافع بن حارثة وسلام بن بشكم ورافع بن خزيمة وغيرهم من اليهود جاءوا إلى رسول الله صلّى الله عليه واله وسلّم، فقالوا إنا نتبع التوراة ولا نتبع غيرها، ولا نؤمن بك ولا نتبعك إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا تقدم الكلام على نظيرتها في [البقرة: 62] وَالصَّابِئُونَ قراءة السبعة بالواو وهي مشكلة حتى قالت عائشة: هي من لحن كتاب المصحف، وإعرابها عند أهل البصرة مبتدأ وخبره محذوف تقديره: والصابئون كذلك وهو مقدم في نية التأخير، وأجاز بعض الكوفيين أن يكون معطوفا على موضع اسم إن، وقيل: إن هنا بمعنى نعم وما بعدها مرفوع بالابتداء وهو ضعيف وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ أي بلاء واختبار، وقرئ «1» تكون بالرفع على أن تكون أن مخففة من الثقيلة، وبالنصب على أنها مصدرية فَعَمُوا وَصَمُّوا عبارة عن تماديهم على المخالفة والعصيان ثُمَّ تابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قيل: إن هذه التوبة رد ملكهم ورجوعهم إلى بيت المقدس بعد خروجهم منه، ثم أخرجوا المرة الثانية فلم ينجبر حالهم أبدا، وقيل: التوبة بعث عيسى عليه السلام، وقيل: بعث محمد صلّى الله عليه وعلى اله وسلّم كَثِيرٌ مِنْهُمْ بدل من الضمير من عموا وصموا أو فاعل على لغة أكلوني البراغيث والبدل أرجح وأفصح وَقالَ الْمَسِيحُ الآية: رد على النصارى، وتكذيب لهم وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ يحتمل أن يكون من كلام المسيح، أو من كلام الله مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ الآية: رد على من جعله إلها وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ

_ (1) . وهي قراءة أبو عمرو وحمزة والكسائي.

[سورة المائدة (5) : الآيات 82 إلى 88]

أي بليغة الصدق في نفسها، أو من التصديق، ووصفها بهذه الصفة دون النبوّة يدفع قول من قال: إنها نبية كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ استدلال على أنهما ليسا بإلهين لاحتياجهما إلى الغذاء الذي لا يحتاج إليه إلا محدث مفتقر، ومن كان كذلك فليس بإله، لأن الإله منزه عن صفة الحدوث، وعن كل ما يلحق البشر، وقيل: إن قوله يأكلان الطعام: كناية عن نقص البشر، ولا ضرورة تدعو إلى إخراج اللفظ عن ظاهره، لأن الحجة قائمة بالوجهين ثُمَّ انْظُرْ دخلت ثم لتفاوت الأمرين ولقصد التعجيب من كفرهم بعد بيان الآيات قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ الآية: إقامة حجة على من عبد عيسى وأمه وهما لا يملكان ضرا ولا نفعا قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ خطاب للنصارى، والغلوّ الإفراط وسبب ذلك كفر النصارى وَلا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ قيل: هم أئمتهم في دين النصرانية كانوا على ضلال في عيسى، وأضلوا كثيرا من الناس، ثم ضلوا بكفرهم بمحمد صلّى الله عليه وسلّم، وقيل: هم اليهود، والأول أرجح لوجهين: أحدهما أن الضلال وصف لازم للنصارى، ألا ترى قوله تعالى: ولا الضالين، والآخر أنه يبعد نهي النصارى عن اتباع اليهود، مع ما بينهم من الخلاف والشقاق عَلى لِسانِ داوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ أي في الزبور والإنجيل لا يَتَناهَوْنَ أي لا ينهى بعضهم بعضا عَنْ مُنكَرٍ فإن قيل: لم وصف المنكر بقوله فعلوه والنهي لا يكون بعد الفعل؟ فالجواب: أن المعنى لا يتناهون عن مثل منكر فعلوه، أو عن منكر إن أرادوا فعله تَرى كَثِيراً مِنْهُمْ إن أراد أسلافهم، فالرؤية بالقلب، وإن أراد المعاصرين للنبي صلّى الله تعالى عليه وسلّم وهو الأظهر، فهي رؤية عين وَالنَّبِيِّ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِ يعني محمدا صلّى الله عليه وسلّم مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِياءَ يعني: ما اتخذوا الكفار أولياء.. لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً الآية: إخبار عن شدة عداوة اليهود وعبدة الأوثان للمسلمين وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً الآية: إخبار أن النصارى أقرب إلى مودة المسلمين، وهذا الأمر باق إلى آخر الدهر فكل يهودي شديد العداوة للإسلام والكيد لأهله ذلِكَ بِأَنَّ

[سورة المائدة (5) : الآيات 89 إلى 92]

مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً تعليل لقرب مودتهم، والقسيس العالم والراهب العابد وَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ الآية هي في النجاشي، وفي الوفد الذين بعثهم إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وهو سبعون رجلا، فقرأ عليهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم القرآن فبكوا كما بكى النجاشي، حين قرأ عليه جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه سورة مريم، وقال السهيلي: نزلت في وفد نجران، وكانوا نصارى عشرين رجلا، فلما سمعوا القرآن بكوا مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ من الأولى سببية والثانية بيان للجنس آمَنَّا أي بالقرآن من عند الله مَعَ الشَّاهِدِينَ أي مع المسلمين، وكذلك مع القوم الصالحين وَما لَنا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ توقيف «1» لأنفسهم، أو محاجة لغيرهم وَنَطْمَعُ قال الزمخشري: الواو للحال، وقال ابن عطية: لعطف جملة على جملة لا لعطف فعل على فعل لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ سببها أن قوما من الصحابة غلب عليهم خوف الله إلى أن حرم بعضهم النساء، وبعضهم النوم بالليل، وبعضهم أكل اللحم، وهم بعضهم أن يختصوا، أو يسيحوا في الأرض، فقال رسول الله صلّى الله عليه وعلى اله وسلّم: «أما أنا فأقوم وأنام، وأصوم وأفطر، وآتي النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني» «2» وَلا تَعْتَدُوا أي لا تفرطوا في التشديد على أنفسكم أكثر مما شرع لكم وَكُلُوا أي تمتعوا بالمآكل الحلال، وبالنساء وغير ذلك، وإنما خص الأكل بالذكر، لأنه أعظم حاجات الإنسان بِاللَّغْوِ تقدم في البقرة بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ أي بما قصدتم عقده بالنية، وقرئ عقدتم بالتخفيف» «3» ، وعاقدتم بالألف «4» إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ اشتراط المسكنة دليل على أنه لا يجزي في الكفارة إطعام غني، فإن أطعم جهلا لم يجزيه على المشهور من المذهب، واشترط مالك أيضا أن يكونوا أحرارا مسلمين، وليس في الآية ما يدل على ذلك مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ اختلف في هذا التوسط

_ (1) . توقيف معناها استفهام تقريري في هذا الكتاب. (2) . رواه الإمام أحمد عن أنس ج 3 ص 304. (3) . وهي قراءة حمزة والكسائي. (4) . هي قراءة ابن عامر.

[سورة المائدة (5) : الآيات 93 إلى 94]

هل هو في القدر أو في الصنف، واللفظ يحتمل الوجهين، فأما القدر فقال مالك يطعم بالمدينة مدّا بمدّ النبي صلّى الله عليه واله وسلّم، وبغيرها: وسط من الشبع، وقال الشافعي وابن القاسم: يجزي المدّ في كل مكان وقال أبو حنيفة إن غدّاهم وعشاهم أجزأه، وأما الصنف فاختلف هل يطعم من عيش نفسه، أو من عيش أهل بلده؟ فمعنى الآية على التأويل الثاني من أوسط ما تطعمون أيها الناس أهليكم على الجملة، وعلى الأول يختص الخطاب بالمكفّر أَوْ كِسْوَتُهُمْ قال كثير من العلماء: يجزي ثوب واحد لمسكين، لأنه يقال فيه كسوة، وقال مالك: إنما يجزي ما تصح به الصلاة، فللرجل ثوب واحد، وللمرأة قميص وخمار أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ اشترط مالك فيها أن تكون مؤمنة لتقيدها بذلك في كفارة القتل، فحمل هذا المطلق على ذلك المقيد، وأجاز أبو حنيفة هنا عتق الكافرة، لإطلاق اللفظ هنا، واشترط مالك أيضا أن تكون سليمة من العيوب وليس في اللفظ ما يدل على ذلك فَمَنْ لَمْ يَجِدْ أي من لم يملك ما يعتق ولا ما يطعم ولا ما يكسو فعليه صيام ثلاثة أيام، فالخصال الثلاث على التخيير، والصيام مرتب بعدها لمن عدمها، وهو عند مالك من لم يفضل عن قوته وقوت عياله في يومه زيادة ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ معناه إذا حلفتم وخشيتم أو أردتم الحنث، واختلف هل يجوز تقديم الكفارة على الحنث أم لا وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ أي احفظوها فبروا فيها، ولا تحنثوا، وقيل: احفظوها بأن تكفروها إذا حنثتم، وقيل: احفظوها ألا تنسوها تهاونا بها الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ ذكر في [البقرة: 219] وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ مذكوران في أول هذه السورة رِجْسٌ هو في اللغة: كل مكروه مذموم وقد يطلق بمعنى النجس وبمعنى الحرام وقال ابن عباس: معنى رجس سخط فَاجْتَنِبُوهُ نص في التحريم، والضمير يعود على الرجس الذي هو خبر عن جميع الأشياء المذكورة إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ تقبيح للخمر والميسر، وذكر لبعض عيوبها، وتعليل لتحريمها، وقد وقعت في زمان الصحابة عداوة بين أقوام بسبب شربهم لها قبل تحريمها، ويقال إن ذلك كان سبب نزول الآية فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ توقيف يتضمن الزجر والوعيد ولذلك قال عمر لما نزلت: انتهينا انتهينا لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا فيها تأويلان: أحدهما أنه لما نزل تحريم الخمر قال قوم من الصحابة: كيف بمن مات منا وهو يشربها؟ فنزلت الآية

[سورة المائدة (5) : الآيات 95 إلى 98]

معلمة أنه: لا جناح على من شربها قبل التحريم، لأنه لم يعص الله بشربها حينئذ، والآخر أن المعنى رفع الجناح عن المؤمنين فيما طعموا من المطاعم إذا اجتنبوا الحرام منها، وعلى هذا أخذها عمر رضي الله عنه حين قال لقدامة: إنك إذا اتقيت الله اجتنبت ما حرم عليك، وكان قدامة قد شربها واحتج بهذه الآية على رفع الجناح عنه، فقال عمر: أخطأت التأويل إِذا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا الآية قيل: كرر التقوى مبالغة، وقيل: الرتبة الأولى: اتقاء الشرك، والثانية اتقاء المعاصي، والثالثة: اتقاء ما لا بأس به حذرا مما به البأس، وقيل: الأولى للزمان الماضي والثانية للحال، والثالثة للمستقبل وَأَحْسَنُوا يحتمل أن يريد الإحسان إلى الناس، أو الإحسان في طاعة الله وهو المراقبة، وهذا أرجح لأنه درجة فوق التقوى، ولذلك ذكره في المرة الثالثة وهي الغاية، ولذلك قالت الصوفية: المقامات ثلاثة: مقام الإسلام ثم مقام الإيمان ثم مقام الإحسان لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ أي يختبر طاعتكم من معصيتكم بما يظهر لكم من الصيد مع الإحرام وفي الحرم، وكان الصيد من معاش العرب ومستعملا عندهم، فاختبروا بتركه كما اختبر بنو إسرائيل بالحوت «1» في السبت وإنما قلله في قوله: بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ إشعارا بأنه ليس من الفتن العظيمة، وإنما هو من الأمور التي يمكن الصبر عنها تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِماحُكُمْ قال مجاهد: الذي تناله الأيدي الفراخ والبيض، وما لا يستطيع أن يفرّ، والذي تناله الرماح كبار الصيد، والظاهر عموم هذا التخصيص لِيَعْلَمَ اللَّهُ أي يعلمه علما تقوم به الحجة، وذلك إذا ظهر في الوجود فَمَنِ اعْتَدى أي بقتل الصيد وهو محرم، والعذاب الأليم هنا في الآخرة لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ معنى حرم داخلين في الإحرام وفي الحرم، والصيد هنا عامّ خصّص منه الحديث: الغراب والحدأة، والفأرة، والعقرب، والكلب العقور «2» . وأدخل مالك في الكلب العقور كل ما يؤذي الناس من السباع وغيرها، وقاس الشافعي على هذه الخمسة: كل ممّا لا يؤكل لحمه، ولفظ الصيد يدخل فيه ما صيد وما لم يصد مما شأنه أن يصاد وورد النهي هنا عن القتل قبل أن يصاد وبعد أن يصاد، وأما النهي عن الاصطياد فيؤخذ من قوله [الآتي] «وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما» وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً مفهوم الآية يقتضي أن جزاء الصيد على المتعمد لا على الناسي، وبذلك قال أهل الظاهر،

_ (1) . حيثما ورد في هذا الكتاب فالمقصود به السمك على اختلاف أنواعه كما هو معروف في المغرب. (2) . الحديث رواه أحمد عن عائشة وأوله: خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم: والحية والغراب: إلخ ج 6 ص 113.

وقال جمهور الفقهاء: المتعمد والناسي سواء في وجوب الجزاء، ثم اختلفوا في قوله متعمدا على ثلاثة أقوال: أحدها أن المتعمد إنما ذكر ليناط به الوعيد في قوله: ومن عاد فينتقم الله منه، إذ لا وعيد على الناسي، والثاني: أن الجزاء على الناسي بالقياس على المتعمد، والثالث: أن الجزاء على المتعمد ثبت بالقرآن وأنّ الجزاء على الناسي ثبت بالسنة فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ المعنى فعليه جزاء، وقرئ بإضافة جزاء إلى مثل، وهو من إضافة المصدر إلى المفعول به، وقيل: مثل زائدة، كقولك: أنا أكرم مثلك أي: أكرمك، وقرئ فجزاء «1» بالتنوين، ومثل بالرفع على البدل أو الصفة، والنعم الإبل والبقر والغنم خاصة، ومعنى الآية عند مالك والشافعي: أنّ من قتل صيدا وهو محرم أنّ عليه في الفدية ما يشبه ذلك الصيد في الخلقة والمنظر، ففي النعامة بدنة، وفي حمار الوحش بقرة، وفي الغزالة شاة، فالمثلية على هذا هي في الصورة والمقدار، فإن لم يكن له مثل أطعم أو صام، ومذهب أبي حنيفة أنّ المثل القيمة يقوّم الصيد المقتول، ويخير القاتل بين أن يصدّق بالقيمة أو يشتري بالقيمة من النعم ما يهديه يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ هذه الآية تقتضي أن التحكيم شرط في إخراج الجزاء، ولا خلاف في ذلك، فإن أخرج أحد الجزاء قبل الحكم عليه، فعليه إعادته بالحكم إلا حمام مكة، فإنه لا يحتاج إلى حكمين، قاله مالك، ويجب عند مالك التحكيم فيما حكمت فيه الصحابة، وفيما لم يحكموا فيه، لعموم الآية، وقال الشافعي: يكتفي في ذلك بما حكمت به الصحابة هَدْياً يقتضي ظاهره أن ما يخرج من النعم جزاء عن الصيد يجب أن يكون مما يجوز أن يهدى، وهو الجذع من الضأن والثني مما سواه، وقال الشافعي: يخرج المثل في اللحم ولا يشترط السن بالِغَ الْكَعْبَةِ لم يرد الكعبة بعينها، وإنما أراد الحرم، ويقتضي أن يصنع بالجزاء ما يصنع بالهدي من سوقه من الحلّ إلى الحرم، وقال الشافعي وأبو حنيفة: إن اشتراه في الحرم أجزأه أَوْ كَفَّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً عدّد تعالى ما يجب في قتل المحرم للصيد، فذكر أولا الجزاء من النعم، ثم الطعام ثم الصيام، ومذهب مالك والجمهور أنها: على التخيير، وهو الذي يقتضيه العطف بأو، ومذهب ابن عباس أنها: على الترتيب، ولم يبين الله هنا مقدار الطعام، فرأى العلماء أن يقدّر الجزاء من النعم. لأنهم اختلفوا في كيفية التقدير، فقال مالك: يقدر الصيد المقتول نفسه بالطعام الحب أو الدراهم، ثم تقوّم الدراهم بالطعام، فينظر كم يساوي من طعام أو من دراهم وهو حيّ، وقال بعض أصحاب مالك: يقدّر الصيد بالطعام أي يقال: كم كان يشبع الصيد من نفس، ثم يخرج قدر شبعهم طعاما، وقال الشافعي: لا يقدر الصيد نفسه، وإنما يقدّر مثله، وهو الجزاء الواجب على القاتل له

_ (1) . وهي قراءة عاصم وحمزة والكسائي بالتنوين. والباقون بالضم فقط.

أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً تحتمل الإشارة بذلك أن تكون إلى الطعام وهو أحسن لأنه أقرب أو إلى الصيد، واختلف في تعديل الصيام بالطعام فقال مالك: يكون مكان كل مدّ يوما، وقال أبو حنيفة: مكان كل مدّين يوم، وقيل: مكان كل صاع يوما، ولا يجب الجزاء ولا الإطعام ولا الصيام إلا بقتل الصيد، لا بأخذه دون قتل لقوله: من قتله، وفي كل وجه يشترط حكم الحكمين، وإنما لم يذكر الله في الصيام والطعام استغناء بذكره في الجزاء لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ الذوق هنا مستعار لأن حقيقته بحاسة اللسان، والوبال سوء العاقبة، وهو هنا ما لزمه من التكفير عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ أي عما فعلتم في الجاهلية من قتل الصيد في الحرم وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ أي من عاد إلى قتل الصيد وهو محرم بعد النهي عن ذلك فينتقم الله منه بوجوب الكفارة عليه أو بعذابه في الآخرة. أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ أحلّ الله بهذه الآية صيد البحر للحلال والمحرم، والصيد هنا المصيد، والبحر هو الماء الكثير: سواء كان ملحا أو عذبا، كالبرك ونحوها، وطعامه هو ما يطفو على الماء وما قذف به البحر لأنّ ذلك طعام وليس بصيد، قاله أبو بكر الصدّيق وعمر بن الخطاب، وقال ابن عباس: طعامه ما ملح منه وبقي مَتاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ الخطاب بلكم للحاضرين في البحر، والسيارة المسافرون أي هو متاع ما تدومون به وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً الصيد هنا يحتمل أن يراد به المصدر أو الشيء المصيد أو كلاهما، فنشأ من هذا أن ما صاده المحرم فلا يحلّ له أكله بوجه، ونشأ الخلاف فيما صاد غيره، فإذا اصطاد حلال، فقيل: يجوز للمحرم أكله، وقيل: لا يجوز إن اصطاده لمحرم، والأقوال الثلاثة مروية عن مالك، وإن اصطاد حرام [محرم] لم يجز لغيره أكله عند مالك خلافا للشافعي جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ أي أمرا يقوم للناس بالأمن والمنافع، وقيل: موضع قيام بالمناسك ولفظ الناس هنا عام، وقيل: أراد العرب خاصة، لأنهم الذين كانوا يعظمون الكعبة وَالشَّهْرَ الْحَرامَ يريد جنس الأشهر الحرم الأربعة، لأنهم كانوا يكفون فيها عن القتال وَالْهَدْيَ يريد أنه أمان لمن يسوقه لأنه يعلم أنه في عبادة لم يأت لحرب وَالْقَلائِدَ كان الرجل إذا خرج يريد الحج تقلد شيئا من السمر، وإذا رجع تقلد شيئا من أشجار الحرم، ليعلم أنه كان في عبادة، فلا يتعرض له أحد بشيء، فالقلائد هنا هو ما تقلده المحرم من الشجر، وقيل: أراد قلائد الهدي، قال سعيد بن جبير: جعل الله هذه الأمور للناس في الجاهلية وشدّد في الإسلام ذلِكَ لِتَعْلَمُوا الإشارة إلى جعل هذه الأمور قياما للناس، والمعنى جعل الله ذلك لتعلموا أن الله يعلم تفاصيل الأمور

[سورة المائدة (5) : الآيات 99 إلى 103]

لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ لفظ عام في جميع الأمور من المكاسب والأعمال والناس وغير ذلك لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ قيل سببها سؤال عبد الله بن حذافة من أبي؟ فقال له النبي صلّى الله عليه وسلّم أبوك حذافة، وقال آخر: أين أبي قال: في النار، وقيل: سببها أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: إن الله كتب عليكم الحج فحجوا فقالوا يا رسول الله أفي كل عام؟ فسكت، فأعادوا، قال لا، ولو قلت: نعم لوجبت «1» ، فعلى الأول تسؤكم بالإخبار بما لا يعجبكم، وعلى الثاني: تسؤكم بتكليف ما يشق عليكم، ويقوي هذا قوله عفا الله عنها: أي سكت عن ذكرها ولم يطالبكم بها كقوله صلّى الله عليه وسلّم: «عفا الله عن الزكاة في الخيل» «2» ، وقيل إن معنى عفا الله عنها: عفا عنكم فيما تقدم من سؤالكم فلا تعودوا إليه وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ فيه معنى الوعيد على السؤال: كأنه قال: لا تسألوا، وإن سألتم أبدي لكم ما يسؤوكم، والمراد بحين ينزل القرآن: زمان الوحي قَدْ سَأَلَها قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ الضمير في سألها راجع إلى المسألة التي دل عليها لا تسألوا، وهي مصدر، ولذلك لم يتعدّ بعن كما تعدى قوله إن تسألوا عنها، وذلك أن بني إسرائيل كانوا يستفتون أنبياءهم عن أشياء، فإذا أمروا بها تركوها فهلكوا، فالكفر هنا عبارة عن ترك ما أمروا به ما جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ لما سأل قوم عن هذه الأمور التي كانت في الجاهلية: هل تعظم لتعظيم الكعبة والهدي؟ أخبرهم الله أنه لم يجعل شيئا من ذلك لعباده أي لم يشرعه لهم، وإنما الكفار جعلوا ذلك، فأما البحيرة: فهي فعيلة بمعنى مفعولة من بحر إذا شق، وذلك أن الناقة إذا أنتجت عشرة أبطن شقوا آذانها، وتركوها ترعى ولا ينتفع بها، وأما السائبة فكان الرجل يقول: إذا قدمت من سفري أو برئت من مرضي فناقتي سائبة، وجعلها كالبحيرة في عدم الانتفاع بها، وأما الوصيلة فكانوا: إذا ولدت الناقة ذكرا وأنثى في بطن واحد قالوا: وصلت الناقة أخاها فلم يذبحوها، وأما الحامي فكانوا إذا نتج من صلب الجمل عشرة بطون قالوا: قد حمى ظهره فلا يركب ولا يحمل عليه شيء وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ أي يكذبون عليه بتحريمهم ما لم يحرّم الله وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ الذي يفترون على الله الكذب هم الذين اخترعوا تحريم تلك

_ (1) . رواه أحمد عن ابن عباس ج 1/ 464. (2) . روى أحمد الحديث عن عليّ بن أبي طالب بلفظ: عفوت لكم عن صدقة الخيل. ج 1 ص 179.

[سورة المائدة (5) : الآيات 104 إلى 105]

الأشياء، والذين لا يعقلون هم أتباعهم المقلدون لهم قالُوا حَسْبُنا ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أي يكفينا دين آبائنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ قال الزمخشري: الواو واو الحال، دخلت عليها همزة الإنكار، كأنه قيل: أحسبهم هذا وآباؤهم لا يعقلون، قال ابن عطية: ألف التوقيف [الاستفهام] دخلت على واو العطف، وقول الزمخشري أحسن في المعنى عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ قيل: إنها منسوخة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقيل: إنها خطاب للمسلمين من ذرية الذين حرّموا البحيرة وأخواتها، كأنه يقول: لا يضركم ضلال أسلافكم إذا اهتديتم، والقول الصحيح فيها ما ورد عن أبي ثعلبة الخشني أنه قال: «سألت عنها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال: مروا بالمعروف وانهوا عن المنكر، فإذا رأيتم شحا مطاعا وهوى متبعا، ودنيا مؤثرة، وإعجاب كل ذي رأي برأيه، فعليك بخويصة نفسك وذر عوامهم» «1» ومثل ذلك قول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: ليس هذا بزمان هذه الآية قولوا الحق ما قبل منكم، فإذا ردّ عليكم فعليكم أنفسكم شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنانِ. قال مكي: هذه الآية أشكل آية من القرآن إعرابا، ومعنى، وحكما، ونحن نبين معناها على الجملة، ثم نبين أحكامها وإعرابها على التفصيل، وسببها أنّ رجلين خرجا إلى الشام، وخرج معهما رجل آخر بتجارة، فمرض في الطريق فكتب كتابا قيد فيه كل ما معه، وجعله في متاعه وأوصى الرجلين أن يؤديا رحله إلى ورثته فمات فقدم الرجلان المدينة، ودفعا رحله إلى ورثته، فوجدوا فيه كتابه وفقدوا منه أشياء قد كتبها، فسألوهما فقالا لا ندري هذا الذي قبضناه، فرفعوهما إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فاستحلفهما رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فبقى الأمر مدّة، ثم عثر على إناء عظيم من فضة، فقيل لمن وجده عنده من أين لك هذا، فقال اشتريته من فلان وفلان، يعني الرجلين، فارتفع الأمر في ذلك إلى رسول الله صلّى الله عليه واله وسلّم، فأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رجلين من أولياء الميت أن يحلفا فحلفا واستحقا، فمعنى الآية: إذا حضر الموت أحد في السفر، فليشهد عدلين بما معه، فإن وقعت ريبة في شهادتهما حلفا أنهما ما كذبا ولا بدّلا، فإن عثر بعد ذلك على أنهما كذبا أو خانا حلف رجلان من أولياء الميت، وغرم الشاهدان ما ظهر عليهما إعراب الآية، وشهادة بينكم مرفوع بالابتداء وخبره: اثنان التقدير شهادة بينكم شهادة اثنين أو مقيم شهادة بينكم اثنان إذا حضر أي قارب الحضور، والعامل في إذا المصدر الذي هو شهادة، وهذا على أن يكون

_ (1) . ورد هذا الحديث بلفظ قريب منه في جامع الترمذي وسنن ابن ماجة في كتاب الفتن عن أبي ثعلبة الخشني.

[سورة المائدة (5) : الآيات 107 إلى 109]

إذا بمنزلة حين لا تحتاج جوابا، ويجوز أن تكون شرطية، وجوابها محذوف يدل عليه ما تقدم قبلها فإنّ المعنى: إذا حضر أحدكم الموت، فينبغي أن يشهد حين الوصية، ظرف العامل فيه حضر، ويكون بدلا من إذا ذَوا عَدْلٍ صفة للشاهدين منكم أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ قيل: معنى منكم من عشيرتكم وأقاربكم، ومن غيركم، من غير العشيرة والقرابة وقال الجمهور: منكم أي من المسلمين، ومن غيركم من الكفار، إذا لم يوجد مسلم، ثم اختلف على هذا هل هي منسوخة بقوله: وأشهدوا ذوي عدل منكم فلا تجوز شهادة الكفار أصلا؟ وهو قول مالك والشافعي والجمهور أو هي محكمة، وأن شهادة الكفار جائزة على الوجه في السفر، وهو قول ابن عباس إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ أي سافرتم، وجواب إن محذوف يدل عليه ما تقدّم قبلها، والمعنى: إن ضربتم في الأرض فأصابتكم مصيبة الموت، فشهادة بينكم شهادة اثنين تَحْبِسُونَهُما قال أبو علي الفارسي: هو صفة لآخران، واعترض بين الصفة والموصوف بقوله: إن أنتم إلى قوله الموت ليفيد أن العدول إلى آخرين من غير الملة، إنما يجوز لضرورة الضرب في الأرض، وحلول الموت في السفر، وقال الزمخشري: تحبسونهما استئناف كلام من بعد الصلاة قال الجمهور: هي صلاة العصر، فاللام للعهد، لأنها وقت اجتماع الناس، وبعدها أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم بالأيمان، وقال: من حلف على سلعة بعد صلاة العصر، وكان التحليف بعدها معروف عندهم، وقال ابن عباس: هي صلاة الكافرين في دينهما لأنهما لا يعظمان صلاة العصر فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ أي يحلفان ومذهب الجمهور أن تحليف الشاهدين منسوخ، وقد استحلفهما عليّ بن أبي طالب وأبو موسى الأشعري إِنِ ارْتَبْتُمْ أي شككتم في صدقهما أو أمانتهما، وهذه الكلمة اعتراض بين القسم والمقسوم عليه، وجواب إن محذوف يدل عليه يقسمان لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً هذا هو المقسوم عليه، والضمير في به للقسم، وفي كان للمقسم له: أي لا نستبدل بصحة القسم بالله عرضا من الدنيا: أي لا نحلف بالله كاذبين لأجل المال، ولو كان من نقسم له قريبا لنا، وهذا لأن عادة الناس الميل إلى أقاربهم وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللَّهِ أي الشهادة التي أمر الله بحفظها وأدائها، وإضافتها إلى الله تعظيما لها فَإِنْ عُثِرَ عَلى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً أي إن طلع بعد ذلك على أنهما فعلا ما أوجب إثما، والإثم الكذب والخيانة واستحقاقه الأهلية للوصف به فَآخَرانِ يَقُومانِ مَقامَهُما أي اثنان من أولياء الميت، يقومان مقام الشاهدين في اليمين مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ أي من الذين استحق عليهم الإثم أو المال ومعناه من الذي جنى عليهم وهم أولياء الميت الْأَوْلَيانِ تثنية أولى بمعنى أحق: أي الأحقان بالشهادة لمعرفتهما، والأحقان بالمال: لقرابتهما، وهو مرفوع على أنه خبر

[سورة المائدة (5) : الآيات 110 إلى 112]

ابتداء تقديره هما الأوليان، أو مبتدأ مؤخر تقديره الأوليان آخران يقومان، أو بدل من الضمير في يقومان، ومنع الفارسي أن يسند استحق إلى الأوليان، وأجازه ابن عطية، وأما على قراءة استحق بفتح التاء والحاء على البناء للفاعل، فالأوليان فاعل باستحق، ومعنى استحق على هذا أخذ المال وجعل يده عليه، والأوليان على هذا هما الشاهدان اللذان ظهرت خيانتهما: أي الأوليان بالتحليف والتعنيف والفضيحة، وقرئ الأولين جمع أول «1» ، وهو مخفوض على الصفة للذين استحق عليهم، أو منصوبا بإضمار فعل ووصفهم بالأولية لتقدمهم على الأجانب في استحقاق المال وفي صدق الشهادة فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ لَشَهادَتُنا أَحَقُّ مِنْ شَهادَتِهِما أي يحلف هذان الآخران أن شهادتهما أحق: أي أصح من شهادة الشاهدين الذين ظهرت خيانتهما إِنَّا إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ أي إن اعتدينا، فإنا من الظالمين وذلك على وجه التبرئة ومثل قول الأولين إنا إذا لمن الآثمين ذلِكَ أَدْنى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ عَلى وَجْهِها الإشارة بذلك إلى الحكم الذي وقع في هذه القضية ومعنى أدنى: أقرب، وعلى وجهها أي كما وقعت من غير تغيير ولا تبديل أو يخافوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ بَعْدَ أَيْمانِهِمْ أي يخافوا أن يحلف غيرهم بعدهم فيفتضحوا. يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ هو يوم القيامة، وانتصب الظرف بفعل مضمر أي ماذا أجابكم به الأمم من إيمان وكفر وطاعة ومعصية؟ والمقصود بهذا السؤال توبيخ من كفر من الأمم، وإقامة الحجة عليهم وانتصب ماذا أجبتم انتصاب مصدره، ولو أريد الجواب، لقيل بماذا أجبتم قالُوا لا عِلْمَ لَنا إنما قالوا ذلك تأدبا مع الله فوكلوا العلم إليه قال ابن عباس: المعنى لا علم لنا إلا ما علمتنا، وقيل معناه علمنا ساقط في جنب علمك ويقوي ذلك قوله إنك أنت علام الغيوب، لأنّ من علم الخفيات لم تخف عليه الظواهر، وقيل ذهلوا عن الجواب لهول ذلك اليوم، وهذا بعيد لأنّ الأنبياء في ذلك اليوم آمنون، وقيل أرادوا بذلك توبيخ الكفار إِذْ قالَ اللَّهُ يحتمل أن يكون إذ بدل من يوم يجمع، ويكون هذا القول يوم القيامة أو يكون العامل في إذ مضمرا، ويحتمل على هذا أن يكون القول في الدنيا أو يوم القيامة وإذا جعلناه يوم القيامة فقوله قال بمعنى يقول، وقد تقدم تفسير ألفاظ هذه الآية في آل عمران فَتَنْفُخُ فِيها الضمير المؤنث عائد على الكاف، لأنها صفة للهيئة، وكذلك الضمير في تكون، وكذلك الضمير المذكور في قوله في آل عمران فينفخ فيه عائد على

_ (1) . قرأ حمزة وأبو بكر الأولين وقرأ حفص الأوليان.

الكاف أيضا، لأنها بمعنى مثل وإن شئت قلت: هو في الموضعين عائد على الموصوف المحذوف الذي وصف بقوله كهيئة فتقديره في التأنيث صورة، وفي التذكير شخصا أو خلقا وشبه ذلك، وقيل: المؤنث يعود على الهيئة والمذكر يعود على الطير، والطين، وهو بعيد في المعنى بِإِذْنِي كرره مع كل معجزة ردّا على من نسب الربوبية إلى عيسى وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرائِيلَ عَنْكَ يعني اليهود حين همّوا بقتله فرفعه الله إليه وَإِذْ أَوْحَيْتُ معطوف على ما قبله، فهو من جملة نعم الله على عيسى والوحي هنا يحتمل أن يكون وحي إلهام أو وحي كلام وَاشْهَدْ يحتمل أن يكون خطابا لله تعالى أو لعيسى عليه السلام إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ نداؤهم له باسمه: دليل على أنهم لم يكونوا يعظمونه كتعظيم المسلمين لمحمد صلّى الله عليه واله وسلّم، فإنهم كانوا لا ينادونه باسمه، وإنما يقولون: يا رسول الله يا نبي الله، وقولهم ابن مريم: دليل على أنهم كانوا يعتقدون فيه الاعتقاد الصحيح من نسبته إلى أمّ دون والد، بخلاف ما اعتقده النصارى هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ ظاهر هذا اللفظ أنهم شكّوا في قدرة الله تعالى على إنزال المائدة وعلى هذا أخذه الزمخشري، وقال ما وصفهم الله بالإيمان، ولكن حكى دعواهم في قولهم: آمنا. وقال ابن عطية وغيره: ليس كذلك لأنهم شكوا في قدرة الله، لكنه بمعنى هل يفعل ربك هذا، وهل يقع منه إجابة إليه، وهذا أرجح، لأن الله أثنى على الحواريين في مواضع من كتابه، مع أنّ في اللفظ بشاعة تنكر، وقرئ تستطيع «1» بتاء الخطاب ربك بالنصب أي هل تستطيع سؤال ربك، وهذه القراءة لا تقتضي أنهم شكوا، وبها قرأت عائشة رضي الله عنها، وقالت: كان الحواريون أعرف بربهم من أن يقولوا: هل يستطيع ربك أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ موضع أن مفعول بقوله يستطيع على القراءة بالياء، ومفعول بالمصدر، وهو السؤال المقدّر على القراءة بالتاء، والمائدة هي التي عليها طعام، فإن لم يكن عليها طعام فهي خوان قالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فقوله لهم: اتقوا الله يحتمل أن يكون زجرا عن طلب المائدة، واقتراح الآيات، ويحتمل أن يكون زجرا عن الشك الذي يقتضيه قولهم: هل يستطيع ربك على مذهب الزمخشري، أو عن البشاعة التي في اللفظ وإن لم يكن فيه شك، وقوله: إن كنتم مؤمنين: هو على ظاهره على مذهب الزمخشري، وأما على مذهب ابن عطية وغيره، فهو تقرير لهم كما تقول: افعل كذا إن كنت رجلا، ومعلوم أنه رجل، وقيل: إنّ هذه

_ (1) . وهي قراءة الكسائي فقط.

[سورة المائدة (5) : الآيات 113 إلى 115]

المقالة صدرت منهم في أوّل الأمر قبل أن يروا معجزات عيسى قالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها أي أكلا نتشرف به بين الناس، وليس مرادهم شهوة البطن وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا أي نعاين الآية فيصير إيماننا بالضرورة والمشاهدة، فلا تعرض لنا الشكوك التي تعرض في الاستدلال وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا ظاهره يقوي قول من قال إنهم إنما قالوا ذلك قبل تمكن إيمانهم، ويحتمل أن يكون المعنى نعلم علما ضروريا لا يحتمل الشك وَنَكُونَ عَلَيْها مِنَ الشَّاهِدِينَ أي نشهد بها عند من لم يحضرها من الناس قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ أجابهم عيسى إلى سؤال المائدة من الله، وروي أنه لبس جبة شعر ورداء شعر، وقام يصلي ويدعو ويبكي تَكُونُ لَنا عِيداً لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا قيل: نتخذ يوم نزولها عيدا يدور كل عام لأول الأمة، ثم لمن بعدهم، وقال ابن عباس: المعنى تكون مجتمعا لجميعنا أوّلنا وآخرنا في يوم نزولها خاصة لا عيدا يدور وَآيَةً مِنْكَ أي علامة على صدقي قالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ أجابهم الله إلى ما طلبوا، ونزلت المائدة عليها سمك وخبز، وقيل زيتون وتمر ورمان وقال ابن عباس: كان طعام المائدة ينزل عليهم حيثما نزلوا وفي قصة المائدة قصص كثيرة غير صحيحة فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً عادة الله عز وجل عقاب من كفر بعد اقتراح آية فأعطيته، ولما كفر بعض هؤلاء مسخهم الله خنازير، قال عبد الله بن عمر: أشدّ الناس عذابا يوم القيامة من كفر من أصحاب المائدة وآل فرعون والمنافقون.. وَإِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قال ابن عباس والجمهور: هذا القول يكون من الله يوم القيامة على رؤوس الخلائق، ليرى الكفار تبرئة عيسى مما نسبوه إليه، ويعلمون أنهم كانوا على باطل، وقال السدّي: لما رفع الله عيسى إليه قالت النصارى ما قالوا، وزعموا أن عيسى أمرهم بذلك، وسأل الله حينئذ عن ذلك، فقال: سبحانك الآية، فعلى هذا يكون إذ قال ماضيا في معناه كما هو لفظه، وعلى قول ابن عباس يكون بمعنى المستقبل ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ نفي يعضده دليل العقل لأنّ المحدث لا يكون إلها إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ اعتذار وبراءة من ذلك القول، ووكل العلم إلى الله لتظهر براءته، لأن الله علم أنه لم يقل ذلك تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ أي تعلم معلومي ولا أعلم معلومك، ولكنه سلك باللفظ مسلك المشاكلة، فقال في نفسك مقابلة لقوله في نفسي، وبقية قوله تعظيما لله، وإخبار بما

قال الناس في الدنيا أَنِ اعْبُدُوا أن حرف عبارة وتفسير أو مصدرية بدل من الضمير في به إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ فيها سؤالان الأول كيف قال وإن تغفر لهم وهم كفار والكفار لا يغفر لهم؟ والجواب أن المعنى تسليم الأمر إلى الله، وأنه إن عذب أو غفر فلا اعتراض عليه، لأن الخلق عباده، والمالك يفعل في ملكه ما يشاء، ولا يلزم من هذا وقوع المغفرة للكفار، وإنما يقتضي جوازها في حكمة الله تعالى وعزته، وفرق بين الجواز والوقوع، وأما على قول من قال: إن هذا الخطاب لعيسى عليه السلام حين رفعه الله إلى السماء، فلا إشكال، لأن المعنى إن تغفر لهم بالتوبة، وكانوا حينئذ أحياء، وكل حيّ معرض للتوبة، السؤال الثاني: ما مناسبة قوله: فإنك أنت العزيز الحكيم، لقوله: وإن تغفر لهم والأليق مع ذكر المغفرة أن لو قيل: فإنك أنت الغفور الرحيم؟ والجواب من ثلاثة أوجه. الأول يظهر لي أنه لما قصد التسليم لله والتعظيم له، كان قوله: فإنك أنت العزيز الحكيم أليق، فإن الحكمة تقتضي التسليم له، والعزة تقتضي التعظيم له، فإن العزيز هو الذي يفعل ما يريد ولا يغلبه غيره، ولا يمتنع عليه شيء أراده، فاقتضى الكلام تفويض الأمر إلى الله في المغفرة لهم أو عدم المغفرة لأنه قادر على كلا الأمرين لعزته وأيهما فعل فهو جميل لحكمته. الجواب الثاني: قاله شيخنا الأستاذ أبو جعفر بن الزبير: إنما لم يقل الغفور الرحيم لئلا يكون في ذلك تعريض في طلب المغفرة لهم. فاقتصر على التسليم والتفويض دون الطلب. إذ لا تطلب المغفرة للكفار، وهذا قريب من قولنا. الثالث حكى شيخنا الخطيب أبو عبد الله بن رشيد عن شيخه إمام البلغاء في وقته حازم بن حازم أنه كان يقف على قوله: إِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ ويجعل فإنك أنت العزيز استئنافا وجواب إن في قوله فإنهم عبادك كأنه قال إن تعذبهم وإن تغفر لهم فإنهم عبادك على كل حال. هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ عموم في جميع الصادقين، وخصوصا في عيسى ابن مريم فإن في ذلك إشارة إلى صدقه في الكلام الذي حكاه الله عنه، وقرأ غير نافع بقية القراء هذا يوم بالرفع على الابتداء أو الخبر، وقرأ نافع بالنصب وفيه وجهان: أحدهما: أن يكون يوم ظرف لقال، فعلى هذا لا تكون الجملة معمول القول، وإنما معموله هذا خاصة والمعنى قال الله هذا القصص أو الخبر في يوم، وهذا بعيد مزيل لرونق الكلام، والآخر أن يكون هذا مبتدأ، ويوم في موضع خبره والعامل فيه محذوف تقديره هذا واقع يوم ينفع الصادقين صدقهم، ولا يجوز أن يكون يوم مبنيا على قراءة نافع، لأنه أضيف إلى معرب، قاله الفارسي والزمخشري.

سورة الأنعام

سورة الأنعام مكية إلا الآيات 20 و 23 و 91 و 93 و 114 و 151 و 152 و 153 فمدنية وآياتها 165 نزلت بعد الحجر (سورة الأنعام) بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قال كعب «1» : أول الأنعام هو أول التوراة وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ جعل هنا بمعنى خلق، والظلمات: الليل، والنور النهار، والضوء الذي في الشمس والقمر وغيرهما، وإنما أفرد النور لأنه أراد الجنس، وفي الآية رد على المجوس في عبادتهم للنار وغيرها من الأنوار، وقولهم: إن الخير من النور والشر من الظلمة فإن المخلوق لا يكون إلها ولا فاعلا لشيء من الحوادث ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ أي يسوون ويمثلون من قولك: عدلت فلانا بفلان، إذا جعلته نظيره وقرينه. ودخلت ثم لتدل على استبعاد أن يعدلوا بربهم بعد وضوح آياته في خلق السموات والأرض، والظلمات والنور وكذلك قوله: ثم أنتم تمترون استبعاد لأن يمتروا فيه بعد ما ثبت أنه أحياهم وأماتهم، وفي ضمن ذلك تعجيب من فعلهم وتوبيخ لهم والذين كفروا هنا عام في كل مشرك. وقد يختص بالمجوس بدليل الظلمات والنور، وبعبدة الأصنام، لأنهم المجاورون للنبي صلّى الله عليه وسلّم، وعليهم يقع الردّ في أكثر القرآن خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ أي خلق أباكم آدم من طين ثُمَّ قَضى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ الأجل الأوّل الموت، والثاني يوم القيامة وجعله عنده: لأنه استأثر بعلمه، وقيل: الأوّل النوم، والثاني: الموت، ودخلت ثم هنا لترتيب الأخبار، لا لترتيب الوقوع، لأن القضاء متقدم على الخلق وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ يتعلق في السموات بمعنى اسم الله، فالمعنى كقوله: وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ [الزخرف: 84] ، كما يقال: أمير المؤمنين الخليفة في المشرق والمغرب، ويحتمل أن يكون المجرور في موضع الخبر: فيتعلق باسم فاعل محذوف، والمعنى على هذا قريب من الأوّل، وقيل: المعنى أنه

_ (1) . ورد هذا الكلام في الطبري أيضا ولعله كعب الأحبار واسمه كعب بن ماتع. [.....]

في السموات والأرض بعلمه كقوله: وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ [الحديد: 4] ، والأول أرجح وأفصح لأنّ اسم الله جامع للصفات كلها من العلم والقدرة والحكمة، وغير ذلك، فقد جمعها مع الإيجاز، ويترجح الثاني بأن سياق الكلام في اطلاع الله تعالى وعلمه، لقوله بعدها: يعلم سركم وجهركم، وقيل: يتعلق بمحذوف تقديره: المعبود في السموات وفي الأرض وهذا المحذوف صفة لله: واسم الله على هذا القول، وعلى الأول هو خبر المبتدأ، وأما إذا كان المجرور الخبر فاسم الله بدل من الضمير وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ من الأولى زائدة، والثانية للتبعيض، أو لبيان الجنس بِالْحَقِّ يعني ما جاء به محمد صلى الله عليه واله وسلّم فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ الآية: وعيد بالعذاب والعقاب على استهزائهم أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا حض للكفار على الاعتبار بغيرهم، والقرن مائة سنة، وقيل سبعون، وقيل أربعون مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ الضمير عائد على القرن، لأنه في معنى الجماعة ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ الخطاب لجميع أهل ذلك العصر من المؤمنين والكافرين وَأَرْسَلْنَا السَّماءَ عَلَيْهِمْ مِدْراراً السماء هنا المطر والسحاب أو السماء حقيقة، ومدرارا: بناء مبالغة وتكثير من قولك درّ المطر إذا غزر فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ التقدير: فكفروا وعصوا فأهلكناهم، وهذا تهديد للكفار أن يصيبهم مثل ما أصاب هؤلاء على حال قوتهم وتمكينهم وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ الآية: إخبار أنهم لا يؤمنون ولو جاءتهم أوضح الآيات، والمراد بقوله: فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لو بالغوا في تمييزه وتقليبه ليرتفع الشك لعاندوا بذلك، يشبه أن يكون سبب هذه الآية قول بعضهم للنبي صلّى الله عليه واله وسلّم: لا أومن بك حتى تأتي بكتاب من السماء يأمرني بتصديقك، وما أراني مع هذا أصدقك وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ حكاية عن طلب بعض العرب، وروي أن العاصي بن وائل، والنضر بن الحارث، وزمعة بن الأسود والأسود بن عبد يغوث قالوا للنبي صلّى الله عليه وسلّم: يا محمد، لو كان معك ملك وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ قال ابن عباس: المعنى لو أنزلنا ملكا فكفروا بعد ذلك لعجل لهم العذاب، ففي الكلام على هذا حذف، وقضي الأمر على هذا: تعجيل أخذهم، وقيل: المعنى لو أنزلنا ملكا لماتوا من هول رؤيته، فقضي الأمر على هذا: موتهم وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلًا أي لو جعلنا الرسول ملكا لكان في صورة رجل، لأنهم لا

[سورة الأنعام (6) : الآيات 10 إلى 13]

طاقة لهم على رؤية الملك في صورته وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ أي لخلطنا عليهم ما يخلطون على أنفسهم وعلى ضعفائهم، فإنهم لو رأوا الملك في صورة إنسان قالوا: هذا إنسان وليس بملك وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ الآية: إخبار قصد به تسلية النبي صلّى الله عليه وسلّم عما كان يلقى من قومه فَحاقَ أي أحاط بهم، وفي هذا الإخبار تهديد للكفار قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ الآية: حض على الاعتبار بغيرهم إذا رأوا منازل الكفار الذين هلكوا قبلهم ثُمَّ انْظُرُوا قال الزمخشري: إن قلت أي فرق بين قوله: فانظروا وبين قوله: ثم انظروا؟ قلت: جعل النظر سببا عن السير في قوله: فانظروا. كأنه قال: سيروا لأجل النظر، وأما قوله: فسيروا في الأرض ثم انظروا: فمعناه إباحة السير للتجارة وغيرها من المنافع، وإيجاب النظر في الهالكين رتّبه على ذلك بثم، لتباعد ما بين الواجب والمباح قُلْ لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ القصد بالآية إقامة البرهان على صحة التوحيد وإبطال الشرك، وجاء ذلك بصفة الاستفهام لإقامة الحجة على الكفار فسأل أولا، لمن ما في السموات والأرض؟ ثم أجاب عن السؤال بقوله قل لله، لأن الكفار يوافقون على ذلك بالضرورة، فيثبت بذلك أن الإله الحق هو الله الذي له ما في السموات وما في الأرض، وإنما يحسن أن يكون السائل مجيبا عن سؤاله، إذا علم أن خصمه لا يخالفه في الجواب الذي به يقيم الحجة عليه كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أي قضاها، وتفسير ذلك بقول النبي صلّى الله عليه واله وسلّم: إن الله كتب كتابا قبل أن يخلق السموات والأرض، وفيه «إن رحمتي سبقت غضبي» «1» ، وفي رواية: تغلب غضبي لَيَجْمَعَنَّكُمْ مقطوع مما قبله، وهو جواب لقسم محذوف، وقيل: هو تفسير الرحمة المذكورة تقديره: أن يجمعكم، وهذا ضعيف لدخول النون الثقيلة في غير موضعها، فإنها لا تدخل إلا في القسم أو في غير الواجب إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ قيل: هنا إلى بمعنى في وهو ضعيف، والصحيح أنها للغاية على بابها الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ الذين مبتدأ وخبره لا يؤمنون ودخلت الفاء لما في الكلام من معنى الشرط قاله الزجاج وهو حسن، وقال الزمخشري الذين نصب على الذم أو رفع بخبر ابتداء مضمر، وقيل: هو بدل من الضمير في ليجمعنكم وهو ضعيف، وقيل: منادى وهو باطل وَلَهُ ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ عطف على قوله قل:

_ (1) . الحديث متفق عليه من رواية أبي هريرة. وهو في كتاب التوحيد في البخاري ص 216/ 8.

[سورة الأنعام (6) : الآيات 14 إلى 18]

لله، ومعنى سكن: حل، فهو من السكنى، وقيل: هو من السكون وهو ضعيف لأن الأشياء منها ساكنة ومتحركة فلا يعم، والمقصود عموم ملكه تعالى لكل شيء قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا إقامة حجة على الكفار، ورد عليهم بصفات الله الكريم التي لا يشاركه غيره فيها أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ أي من هذه الأمة لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم سابق أمته إلى الإسلام وَلا تَكُونَنَّ في الكلام حذف تقديره وقيل لي: ولا تكونن من المشركين، أو يكون معطوفا على معنى أمرت فلا حذف وتقديره أمرت بالإسلام، ونهيت عن الإشراك مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ أي من يصرف عنه العذاب يوم القيامة فقد رحمه الله، وقرئ يصرف «1» بفتح الياء وفاعله الله وَذلِكَ إشارة إلى صرف العذاب أو إلى الرحمة وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ معنى يمسسك: يصبك، والضر: المرض وغيره على العموم في جميع المضرات، والخير: العافية وغيرها على العموم أيضا، والآية برهان على الوحدانية لانفراد الله تعالى بالضر والخير، وكذلك ما بعد هذا من الأوصاف براهين ورد على المشركين قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً سؤال يقتضي جوابا ينبني عليه المقصود، وفيه دليل على أن الله يقال فيه شيء لكن ليس كمثله شيء قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ يحتمل وجهين أحدهما أن يكون الله مبتدأ وشهيد خبره، والآخر أن يكون تمام الجواب عند قوله: قل الله، بمعنى أن الله أكبر شهادة، ثم يبتدئ على تقدير: هو شهيد بيني وبينكم، والأول أرجح لعدم الإضمار، والثاني أرجح لمطابقته للسؤال، لأنّ السؤال بمنزلة من يقول: من أكبر الناس؟ فيقال في الجواب، فلان وتقديره فلان أكبر، والمقصود بالكلام استشهاد بالله الذي هو أكبر شهادة على صدق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وشهادة الله بهذا هي علمه بصحة نبوة سيدنا محمد صلّى الله عليه وسلّم، وإظهار معجزته الدالة على نبوّته وَمَنْ بَلَغَ عطف على ضمير المفعول في لأنذركم والفاعل ببلغ ضمير القرآن، والمفعول محذوف يعود على من تقديره: ومن بلغه والمعنى أوحى إليّ هذا القرآن لأنذر به المخاطبين، وهم أهل مكة، وأنذر كل من بلغه القرآن من العرب والعجم إلى يوم القيامة، قال سعيد بن جبير: من بلغه القرآن فكأنما رأى سيدنا محمدا صلّى الله عليه وسلّم، وقيل: المعنى ومن بلغ الحلم وهو بعيد أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ الآية: تقرير

_ (1) . وهي قراءة حمزة والكسائي.

المشركين على شركهم، ثم تبرأ من ذلك بقوله: لا أشهد، ثم شهد الله بالوحدانية، وروي أنها نزلت بسبب قوم من الكفار أتوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقالوا: يا محمد ما تعلم مع الله إلها آخر يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ تقدّم في البقرة [146] الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ الذين مبتدأ وخبره فهم لا يؤمنون وقيل: الذين نعت للذين آتيناهم الكتاب وهو فاسد، لأن أوتوا الكتاب ما استشهد بهم هنا إلا ليقيم الحجة على الكفار وَمَنْ أَظْلَمُ لفظه استفهام ومعناه لا أحد أظلم مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ وذلك تنصل من الكذب على الله، وإظهاره لبراءة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مما نسبوه إليه من الكذب، ويحتمل أن يريد بالافتراء على الله ما نسب إليه الكفار من الشركاء والأولاد أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ أي علاماته وبراهينه أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ يقال لهم ذلك على وجه التوبيخ تَزْعُمُونَ أي تزعمون أنهم آلهة فحذفه لدلالة المعنى عليه، والعامل في يوم نحشرهم محذوف ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ الفتنة هنا تحتمل أن تكون بمعنى الكفر، أي لم تكن عاقبة كفرهم إلا جحوده والتبرؤ منه، وقيل: فتنتهم معذرتهم، وقيل: كلامهم، وقرئ فتنتهم بالنصب «1» على خبر كان واسمها أن قالوا، وقرئ بالرفع على اسم كان وخبرها أن قالوا وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ جحود لشركهم، فإن قيل: كيف يجحدونه وقد قال الله ولا يكتمون الله حديثا؟ فالجواب أن ذلك يختلف باختلاف طوائف الناس واختلاف المواطن، فيكتم قوم ويقر آخرون، ويكتمون في موطن ويقرون في موطن آخر، لأن يوم القيامة طويل وقد قال ابن عباس لما سئل عن هذا السؤال: إنهم جحدوا طمعا في النجاة، فختم الله على أفواههم، وتكلمت جوارحهم فلا يكتمون الله حديثا وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ الضمير عائد على الكفار، وأفرد يستمع وهو فعل جماعة حملا على لفظ من وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ أكنة جمع كنان، وهو الغطاء، وأن يفقهوه في موضع مفعول من أجله تقديره: كراهة أن يفقهوه، ومعنى الآية: أن الله حال بينهم وبين فهم القرآن إذا استمعوه، وعبر بالأكنة والوقر مبالغة، وهي استعارة أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ أي قصصهم وأخبارهم، وهو جمع أسطار وأسطورة قال

_ (1) . وهي قراءة نافع وأبو عمرو وأبو بكر. وقرأ حفص وابن كثير وابن عامر بالرفع.

[سورة الأنعام (6) : الآيات 26 إلى 30]

السهيلي: حيث ما ورد في القرآن أساطير الأولين، فإن قائلها هو النضر بن الحارث، وكان قد دخل بلد فارس وتعلم أخبار ملوكهم، فكان يقول حديثي أحسن من حديث محمد وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ هم عائد على الكفار، والضمير في عنه عائد على القرآن، والمعنى وهم ينهون الناس عن الإيمان، وينأون هم عنه أي يبعدون، والنأي هو البعد، وقيل الضمير في عنه يعود على النبي صلّى الله عليه وسلّم، ومعنى ينهون عنه ينهون الناس عن أذاه، وهم مع ذلك يبعدون عنه، والمراد بالآية على هذا أبو طالب ومن كان معه: يحمي النبي صلّى الله عليه وسلّم، ولا يسلم وفي قوله: ينهون وينأون ضرب من ضروب التجنيس وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ جواب لو محذوف هنا، وفي قوله: وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلى رَبِّهِمْ، وإنما حذف ليكون أبلغ ما يقدره السامع: أي لو ترى لرأيت أمرا شنيعا هائلا، ومعنى وقفوا حبسوا، قاله ابن عطية، ويحتمل أن يريد بذلك إذا ادخلوا النار، وإذا عاينوها وأشرفوا عليها، ووضع إذ موضع إذا لتحقيق وقوع الفعل حتى كأنه ماض يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ قرئ «1» برفع نكذب ونكون على الاستئناف والقطع على التمني، ومثّله سيبويه بقولك: دعني ولا أعود أي وأنا لا أعود، ويحتمل أن يكون حالا تقديره نرد غير مكذبين، أو عطف على نرد، وقرئ بالنصب بإضمار أن بعد الواو في جواب التمني بَلْ بَدا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ المعنى ظهر لهم يوم القيامة في صحائفهم ما كانوا يخفون في الدنيا من عيوبهم وقبائحهم، وقيل: هي في أهل الكتاب أي بدا لهم ما كانوا يخفون من أمر محمد صلّى الله عليه وسلّم، وقيل: هي في المنافقين أي بدا لهم ما كانوا يخفون من الكفر، وهذان القولان بعيدان، فإن الكلام أوله ليس في حق المنافقين ولا أهل الكتاب، وقيل: إن الكفار كانوا إذا وعظهم النبي صلّى الله عليه وسلّم خافوا وأخفوا ذلك الخوف لئلا يشعر بها أتباعهم، فظهر لهم ذلك يوم القيامة وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا إخبار بأمر لا يكون لو كان كيف كان يكون وذلك مما انفرد الله بعلمه وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ يعني في قولهم: ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين، ولا يصح أن يرجع إلى قولهم: يا ليتنا نردّ، لأن التمني لا يحتمل الصدق ولا الكذب وَقالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا حكاية عن قولهم في إنكار البعث الأخروي قالَ أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ تقرير لهم وتوبيخ قالُوا يا حَسْرَتَنا عَلى ما فَرَّطْنا فِيها الضمير فيها للحياة الدنيا لأن المعنى

_ (1) . قرأها هكذا ما عدا ابن عامر، وحمزة وحفص. وقرأها الباقون بالرفع في نرد، ولا نكذب، ونكون.

[سورة الأنعام (6) : الآيات 31 إلى 34]

يقتضي ذلك وإن لم يجر لها ذكر، وقيل: الساعة أي فرطنا في شأنها، والاستعداد لها، والأول أظهر وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ كناية عن تحمل الذنوب، وقال: على ظهورهم، لأن العادة حمل الأثقال على الظهور، وقيل: إنهم يحملونها على ظهورهم حقيقة، وروي في ذلك أن الكافر يركبه عمله بعد أن يتمثل له في أقبح صورة، وأن المؤمن يركب عمله بعد أن يتصوّر له في أحسن صورة أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ إخبار عن سوء ما يفعلون من الأوزار قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ قرأ نافع يحزن حيث وقع بضم الياء من أحزن، إلا قوله: لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ، وقرأ الباقون بفتح الياء من حزن الثلاثي وهو أشهر في اللغة والذي يقولون: قولهم إنه ساحر، شاعر، كاهن فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ من قرأ بالتشديد فالمعنى: لا يكذبونك معتقدين لكذبك، وإنما هم يجحدون بالحق مع علمهم به، ومن قرأ بالتخفيف «1» ، فقيل: معناه لا يجدونك كاذبا، يقال: أكذبت فلانا إذا وجدته كاذبا، كما يقال: أحمدته إذا وجدته محمودا، وقيل: هو بمعنى التشديد، يقال: كذب فلان فلانا وأكذبه بمعنى واحد، وهو الأظهر لقوله بعد هذا يجحدون، ويؤيد هذا ما روي أنها نزلت في أبي جهل فإنه قال لرسول الله صلّى الله تعالى عليه وعلى اله وسلّم: إنا لا نكفر بك ولكن نكذب ما جئت به، وأنه قال للأخنس بن شريق: والله إن محمدا لصادق، ولكني أحسده على الشرف وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ أي: ولكنهم ووضع الظاهر موضع المضمر للدلالة على أنهم ظلموا في جحودهم وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ الآية: تسلية للنبي صلّى الله عليه وسلّم، وحضّ له على الصبر، ووعد له بالنصر وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ أي لمواعيده لرسله كقوله: ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ [الصافات: 172] ، وفي هذا تقوية للوعد وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ أي من أخبارهم ويعني بذلك صبرهم ثم نصرهم، وهذا أيضا تقوية للوعد والحض على الصبر، وفاعل جاءك محذوف تقديره نبأ أو خلاف، وقيل هو المجرور وَإِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ الآية: مقصودها حمل النبي صلّى الله عليه وسلّم على الصبر، والتسليم لما أراد الله بعباده من إيمان أو كفر، فإنه صلّى الله تعالى عليه واله وسلّم كان شديد الحرص على إيمانهم، فقيل له: إن استطعت أن تدخل في الأرض أو تصعد إلى السماء فتأتيهم بآية يؤمنون بسببها، فافعل وأنت لا تقدر

_ (1) . أي: لا يكذبونك وهي قراءة نافع والكسائي.

[سورة الأنعام (6) : الآيات 38 إلى 49]

على ذلك، فاستسلم لأمر الله، والنفق في الأرض معناه: منفذ تنفذ منه إلى ما تحت الأرض، وحذف جواب إن لفهم المعنى وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى حجة لأهل السنة على القدرية فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ أي من الذين يجهلون أن الله لو شاء لجمعهم على الهدى إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ المعنى إنما يستجيب لك الذين يسمعون فيفهمون ويعقلون وَالْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ فيها ثلاث تأويلات: أحدهما أن الموتى عبارة عن الكفار بموت قلوبهم، والبعث يراد به الحشر يوم القيامة، فالمعنى أن الكفار في الدنيا كالموتى في قلة سمعهم وعدم فهمهم، فيبعثهم الله في الآخرة، وحينئذ يسمعون، والآخر أن الموتى عبارة عن الكفار، والبعث عبارة عن هدايتهم للفهم والسمع والثالث أن الموتى على حقيقته، والبعث على حقيقته فهو إخبار عن بعث الموتى يوم القيامة وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ الضمير في قالوا للكفار، ولولا عرض، والمعنى: أنهم طلبوا أن يأتي النبي صلّى الله عليه وسلّم بآية على نبوّته، فإن قيل: فقد أتى بآية ومعجزاته كثيرة فلم طلبوا آية؟ فالجواب من وجهين: أحدهما أنهم لم يعتدوا بما أتى به، وكأنه لم يأت بشيء عندهم لعنادهم وجحدهم، والآخر أنهم إنما طلبوا آية تضطرهم إلى الإيمان من غير نظر ولا تفكر قُلْ إِنَّ اللَّهَ قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً جواب على قولهم، وقد حكي هذا القول عنهم في مواضع من القرآن وأجيب عليه بأجوبة مختلفة، منها ما يقتضي الردّ عليهم في طلبهم الآيات فإنه قد أتاهم بآيات وتحصيل الحاصل لا ينبغي كقوله: قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ، وكقوله: أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ [العنكبوت: 51] ، ومنها ما يقتضي الإعراض عنهم، لأن الخصم إذا تبين عناده سقطت مكالمته، ويحتمل أن يكون من هذا قوله: إِنَّ اللَّهَ قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً، ويحتمل أيضا أن يكون معناه قادر على أن ينزل آية تضطرهم إلى الإيمان وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ حذف مفعول يعلمون، وهو يحتمل وجهين: أحدهما لا يعلمون أن الله قادر، والآخر لا يعلمون أن الله إنما منع الآيات التي تضطرهم إلى الإيمان لمصالح العباد، فإنهم لو رأوها ولم يؤمنوا لعوقبوا بالعذاب بِجَناحَيْهِ تأكيد وبيان وإزالة للاستعارة المتعاهدة في هذه اللفظة، فقد يقال: طائر للسعد والنحس أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ أي في الخلق والرزق، والحياة والموت، وغير ذلك، ومناسبة ذكر هذا لما قبله من وجهين: أحدهما أنه تنبيه على مخلوقات الله تعالى، فكأنه يقول: تفكروا في مخلوقاته، ولا تطلبوا غير ذلك من الآيات، والآخر: تنبيه على البعث، كأنه يقول: جميع الدواب والطير يحشر يوم القيامة كما تحشرون أنتم، وهو أظهر لقوله بعده: ثم إلى ربهم يحشرون ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ أي ما غفلنا، والكتاب هنا هو اللوح المحفوظ، والكلام

[سورة الأنعام (6) : الآيات 50 إلى 53]

على هذا عام، وقيل: هو القرآن والكلام على هذا خاص: أي ما فرطنا فيه من شيء فيه هدايتكم، والبيان لكم ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ أي تبعث الدواب والطيور يوم القيامة للجزاء والفصل بينها وَالَّذِينَ كَذَّبُوا الآية: لما ذكر قدرته على بعث الخلق كلهم أتبعه بأن وصف من كذب بذلك بالصمم والبكم، وقوله: في الظلمات يقوم مقام الوصف بالعمى قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ معناه أخبروني، والضمير الثاني للخطاب، ولا محل له من الإعراب وجواب الشرط محذوف تقديره: إن أتاكم عذاب الله أو أتتكم الساعة من تدعون؟ ثم وقفهم على أنهم لا يدعون حينئذ إلا الله، ولا يدعون آلهتهم، والآية احتجاج عليهم، وإثبات للتوحيد، وإبطال للشرك إِنْ شاءَ استثناء أي يكون من النسيان أو الترك فَأَخَذْناهُمْ بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ كان ذلك على وجه التخفيف والتأديب فَلَوْلا هذا عرض وتحضيض وفيه دليل على نفع التضرع حين الشدائد فَلَمَّا نَسُوا الآية: أي لما تركوا الاتعاظ بما ذكروا به من الشدائد، فتح عليهم أبواب الرزق والنعم ليشكروا عليها فلم يشكروا فأخذهم الله مُبْلِسُونَ آيسون من الخير دابِرُ الْقَوْمِ آخرهم، وذلك عبارة عن استئصالهم بالكلية وَالْحَمْدُ لِلَّهِ شكر على هلاك الكفار فإنه نعمة على المؤمنين وقيل: إنه إخبار على ما تقدم من الملاطفة في أخذه لهم بالشر ليزدجروا، أو بالخير ليشكروا حتى وجب عليهم العذاب بعد الإنذار والإعذار قُلْ أَرَأَيْتُمْ الآية. احتجاج على الكفار أيضا يَأْتِيكُمْ بِهِ الضمير عائد على المأخوذ يَصْدِفُونَ أي يعرضون قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ الآية: وعيد وتهديد، والبغتة ما لم يتقدم لهم شعور به، والجهرة ما بدت لهم مخايله، وقيل بغتة بالليل، وجهرة بالنهار قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ الآية: أي لا ادعى شيئا منكرا

[سورة الأنعام (6) : الآيات 54 إلى 59]

ولا يستبعد، إنما أنا نبي رسول كما كان غيري من الرسل الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ مثال للضال والمهتدي وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخافُونَ الضمير في به يعود على ما يوحى، والإنذار عام لجميع الناس، وإنما خصص هنا بالذين يخافون، لأنه قد تقدّم في الكلام ما يقتضي اليأس من إيمان غيرهم فكأنه يقول: أنذر الخائفين لأنه ينفعهم الإنذار، وأعرض عمن تقدّم ذكره من الذين لا يسمعون ولا يعقلون، لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ في موضع الحال من الضمير في يحشروا، واستئناف إخبار لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ يتعلق بأنذر. وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ الآية: نزلت في ضعفاء المؤمنين. كبلال، وعمار ابن ياسر، وعبد الله بن مسعود، وخباب وصهيب، وأمثالهم، وكان بعض المشركين من قريش قد قالوا للنبي صلّى الله عليه واله وسلّم: لا يمكننا أن نختلط مع هؤلاء لشرفنا فلو طردتهم لاتبعناك، فنزلت هذه الآية بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ قيل: هي الصلاة بمكة قبل فرض الخمس وكانت غدوة وعشية، وقيل: هي عبارة عن دوام الفعل، ويدعون هنا من الدعاء وذكر الله أو بمعنى العبادة يُرِيدُونَ وَجْهَهُ إخبار عن إخلاصهم لله وفيه تزكية لهم ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ الآية قيل: الضمير في حسابهم للذين يدعون، وقيل: للمشركين، والمعنى على هذا لا تحاسب عنهم، ولا يحاسبون عنك، فلا تهتم بأمرهم حتى تطرد هؤلاء من أجلهم، والأوّل أرجح، لقوله: وَما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا [هود: 29] وقوله: إِنْ حِسابُهُمْ إِلَّا عَلى رَبِّي [الشعراء: 113] ، والمعنى على هذا أنّ الله هو الذي يحاسبهم فلأي شيء تطردهم فَتَطْرُدَهُمْ هذا جواب النفي في قوله ما عليك فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ هذا جواب النهي في قوله ولا تطرد أو عطف على فتطردهم وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ أي ابتلينا الكفار بالمؤمنين، وذلك أن الكفار كانوا يقولون أهؤلاء العبيد والفقراء منّ الله عليهم بالتوفيق للحق والسعادة دوننا، ونحن أشراف أغنياء، وكان هذا الكلام منهم على وجه الاستبعاد بذلك أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ ردّ على الكفار في قولهم المتقدّم وَإِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ هم الذين نهي النبي صلّى الله عليه وسلّم عن طردهم بل أمر بأن يسلم عليهم إكراما لهم وأن يؤنسهم بما بعد هذا كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أي حتّمها وفي الصحيح: إن الله كتب كتابا فهو عنده فوق العرش إن رحمتي سبقت غضبي «1»

_ (1) . متفق عليه من رواية أبي هريرة وسبق تخريجه في أثناء تفسير الآية [12/ الأنعام] .

[سورة الأنعام (6) : الآيات 60 إلى 68]

أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً الآية، وعد بالمغفرة والرحمة لمن تاب وأصلح، وهو خطاب للقوم المذكورين قبل، وحكمها عام فيهم وفي غيرهم والجهالة قد ذكرت في [النساء: 16] وقيل: نزلت بسبب أن عمر بن الخطاب أشار على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يطرد الضعفاء عسى أن يسلم الكفار، فلما نزلت لا تطرد ندم عمر على قوله وتاب منه فنزلت الآية، وقرئ أنه بالفتح على البدل من الرحمة وبالكسر على الاستئناف وكذلك فإنه غفور رحيم بالكسر على الاستئناف وبالفتح خبر ابتداء مضمر تقديره فأمره أنه غفور رحيم، وقيل: تكرار للأولى لطول الكلام وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الإشارة إلى ما تقدّم من النهي عن الطرد وغير ذلك، وتفصيل الآيات شرحها وبيانها وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ بتاء الخطاب ونصب السبيل «1» على أنه مفعول به، وقرئ بتاء التأنيث ورفع السبيل على أنه فاعل مؤنث وبالياء والرفع على تذكير السبيل، لأنه يجوز فيه التذكير والتأنيث الَّذِينَ تَدْعُونَ أي تعبدون قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً أي إن اتبعت أهواءكم ضللت عَلى بَيِّنَةٍ أي على أمر بيّن من معرفة ربي والهاء في بينة للمبالغة أو للتأنيث وَكَذَّبْتُمْ بِهِ الضمير عائد على الرب أو على البينة ما عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ أي العذاب الذي طلبوه في قولهم: فأمطر علينا حجارة من السماء، وقيل: الآيات التي اقترحوها والأول أظهر يَقُصُّ الْحَقَّ من القصص «2» وقرئ يقضي بالضاد المعجمة من القضاء وهو أرجح لقوله وَهُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ أي الحاكمين قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ أي لو كان عندي العذاب على التأويل الأوّل، والآيات المقترحة على التأويل الآخر، لوقع الانفصال وزال النزاع لنزول العذاب أو لظهور الآيات مَفاتِحُ الْغَيْبِ استعارة وعبارة عن التوصل إلى الغيب كما يتوصل بالمفاتح إلى ما في الخزائن، وهو جمع مفتح بكسر الميم بمعنى مفتاح، ويحتمل أن يكون جمع مفتح بالفتح وهو المخزن وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ تنبيه بها على غيرها لأنها أشدّ تغييبا من كل شيء فِي كِتابٍ مُبِينٍ اللوح المحفوظ، وقيل: علم الله يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ أي إذا نمتم، وفي ذلك اعتبار واستدلال على البعث الأخروي

_ (1) . وهي قراءة نافع. (2) . يقص: هي قراءة نافع وابن كثير وعاصم. والآخرون: يقضي.

[سورة الأنعام (6) : الآيات 69 إلى 71]

ما جَرَحْتُمْ أي ما كسبتم من الأعمال يَبْعَثُكُمْ فِيهِ أي يوقظكم من النوم، والضمير عائد على النهار لأن غالب اليقظة فيه، وغالب النوم بالليل أَجَلٌ مُسَمًّى أجل الموت حَفَظَةً جمع حافظ وهم الملائكة الكاتبون تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا أي الملائكة الذين مع ملك الموت ثُمَّ رُدُّوا خروج من الخطاب إلى الغيبة، والضمير لجميع الخلق قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ الآية: إقامة حجة، وظلمات البر والبحر: عبارة عن شدائدهما وأهوالهما كما يقال لليوم الشديد: مظلم عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ قيل: الذي من فوق إمطار الحجارة، ومن تحت الخسف، وقيل: من فوقكم: تسليط أكابركم، ومن تحت أرجلكم: تسليط أسافلكم «1» ، وهذا بعيد أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً أي يخلطكم فرقا مختلفين وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ بالقتال، واختلف هل الخطاب بهذه الآية للكفار أو المؤمنين؟ وروي أنه لما نزلت أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أعوذ بوجهه، فلما نزلت من تحت أرجلكم قال: أعوذ بوجهك، فلما نزلت أو يلبسكم شيعا، قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: هذا أهون، فقضى الله على هذه الأمة بالفتن والقتال إلى يوم القيامة وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ الضمير عائد على القرآن، أو على الوعيد المتقدم، وقومك هم قريش لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ أي بحفيظ ومتسلط، وفي ذلك متاركة نسختها آية القتال لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ أي في غاية يعرف عندها صدقه من كذبه يَخُوضُونَ فِي آياتِنا في الاستهزاء بها والطعن فيها فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ أي قم ولا تجالسهم وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ إما مركبة من إن الشرطية وما الزائدة، والمعنى إن أنساك الشيطان النهي عن مجالستهم، فلا تقعد بعد أن تذكر النهي وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ الذين يتقون هم المؤمنون والضمير في حسابهم للكفار والمستهزئين، والمعنى ليس على المؤمنين شيء من حساب الكفار على استهزائهم وإضلالهم، وقيل: إن ذلك يقتضي إباحة جلوس المؤمنين مع الكافرين، لأنهم شق عليهم النهي عن ذلك إذ كانوا لا بد لهم من مخالطتهم في طلب

_ (1) . قلت: قد تحقق هذا الوعيد بالقنابل والصواريخ من فوق وبالأنعام تحت الأرجل.

المعاش، وفي الطواف بالبيت وغير ذلك، ثم نسخت بآية النساء، وهي: وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللَّهِ [139] ، الآية، وقيل: إنها لا تقتضي إباحة القعود وَلكِنْ ذِكْرى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ فيه وجهان أحدهما أن المعنى ليس على المؤمنين حساب الكفار، ولكن عليهم تذكيرا لهم، ووعظ، وإعراب ذكرى على هذا نصب على المصدر وتقديره يذكرونهم ذكرى، أو رفع على المبتدإ تقديره عليهم ذكرى، والضمير في لعلهم عائد على الكفار: أي يذكرونهم رجاء أن يتقوا أو عائد على المؤمنين أي يذكرونهم ليكون تذكيرهم ووعظهم تقوى الله. الوجه الثاني: أن المعنى ليس نهي المؤمنين عن القعود مع الكافرين بسبب أن عليهم من حسابهم شيء، وإنما هو ذكرى للمؤمنين، وإعراب ذكرى على هذا خبر ابتداء مضمر تقديره: ولكن نهيهم ذكرى أو مفعول من أجله تقديره: إنما نهوا ذكرى، والضمير في لعلهم على هذا للمؤمنين لا غير وَذَرِ الَّذِينَ قيل إنها متاركة منسوخة بالسيف، وقيل: بل هي تهديد فلا متاركة ولا نسخ فيها اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً أي اتخذوا الدين الذي كان ينبغي لهم لعبا ولهوا لأنهم سخروا منا واتخذوا الدين الذي يعتقدونه لعبا ولهوا لأنهم لا يؤمنون بالبعث فهم يلعبون ويلهون وَذَكِّرْ بِهِ الضمير عائد على الدين أو على القرآن أَنْ تُبْسَلَ قيل: معناه أن تحبس، وقيل: تفضح، وقيل: تهلك وهو في موضع مفعول من أجله أي ذكر به كراهة أن تبسل نفس وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ أي: وإن تعط كل فدية لا يؤخذ منها قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ الآية: إقامة حجة وتوبيخ للكفار وَنُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا أي نرجع من الهدى إلى الضلال وأصل الرجوع على العقب في المشي، ثم استعير في المعاني، وهذه جملة معطوفة على أندعو، والهمزة فيه للإنكار والتوبيخ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ الكاف في موضع نصب على الحال من الضمير في نرد: أي كيف نرجع مشبهين من استهوته الشياطين، أو نعت لمصدر محذوف تقديره ردا كرد الذي، ومعنى استهوته الشياطين: ذهبت به في مهامه الأرض، وأخرجته عن الطريق فهو: استفعال من هوى يهوى في الأرض إذا ذهب فيها، وقال الفارسي: استهوى بمعنى: أهوى ومثل استذل بمعنى أذل حَيْرانَ أي ضال عن الطريق، وهو نصب على الحال من المفعول في استهوته لَهُ أَصْحابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنا أي لهذا المستهوي

[سورة الأنعام (6) : الآيات 72 إلى 77]

أصحاب وهم رفقة يدعونه إلى الهدى، أي إلى أن يهدوه إلى الطريق، يقولون له: ائتنا، وهو قد تاه وبعد عنهم فلا يجيبهم وهذا كله تمثيل لمن ضل في الدين عن الهدى، وهو يدعى إلى الإسلام فلا يجيب، وقيل: نزلت في عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق حين كان أبوه يدعوه إلى الإسلام، ويبطل هذا قول عائشة ما نزل في آل أبي بكر شيء من القرآن إلا براءتي وَأَنْ أَقِيمُوا عطف على لنسلم، أو على مفعول أمرنا قَوْلُهُ الْحَقُّ مرفوع بالابتداء وخبره يوم يقول، وهو مقدم عليه والعامل فيه معنى الاستقرار كقولك يوم الجمعة القتال، واليوم بمعنى الحين وفاعل يكون مضمر، وهو فاعل كن أي حين يقول لشيء كن: فيكون ذلك الشيء يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ ظرف لقوله: لَهُ الْمُلْكُ كقوله: لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ [غافر: 66] وقيل في إعراب الآية غير هذا مما هو ضعيف أو تخليط عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ خبر ابتداء مضمر لِأَبِيهِ آزَرَ هو اسم أبي إبراهيم، فإعرابه عطف بيان أو بدل، ومنع من الصرف للعجمة والعلمية، لا للوزن لأن وزنه فاعل نحو عابر وشالح، وقرئ «1» بالرفع على النداء، وقيل: إنه اسم صنم لأنه ثبت أن اسم أبي إبراهيم تارخ، فعلى هذا يحتمل أن يكون لقب به لملازمته له، أو أريد عابد آزر، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه، وذلك بعيد، ولا يبعد أن يكون له اثنان نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قيل: إنه فرج الله السموات، والأرض حتى رأى ببصره الملك الأعلى والأسفل، وهذا يحتاج إلى صحة نقل، وقيل: رأى ما يراه الناس من الملكوت، ولكنه وقع له بها من الاعتبار والاستدلال ما لم يقع لأحد من أهل زمانه وَلِيَكُونَ متعلق بمحذوف تقديره: وليكون من الموقنين فعلنا به ذلك فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ أي ستره يقال: جنّ عليه الليل وأجنه رَأى كَوْكَباً قالَ هذا رَبِّي يحتمل أن يكون هذا الذي جرى لإبراهيم في الكوكب والقمر والشمس أن يكون قبل البلوغ والتكليف. وقد روي أن أمه ولدته في غار خوفا من نمروذ إذ كان يقتل الأطفال لأن المنجمين أخبروه أن هلاكه على يد صبي، ويحتمل أن يكون جرى له ذلك بعد بلوغه وتكليفه، وأنه قال ذلك لقومه على

_ (1) . ذكر الطبري في تفسيره أن الحسن البصري وأبي يزيد المديني قرءا آزر بالرفع دون بقية القراء.

[سورة الأنعام (6) : الآيات 78 إلى 81]

وجه الرد عليهم والتوبيخ لهم، وهذا أرجح لقوله بعد ذلك إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ ولا يتصور أن يقول ذلك وهو منفرد في الغار لأن ذلك يقتضي محاجة وردّا على قومه، وذلك أنهم كانوا يعبدون الأصنام والشمس والقمر والكواكب، فأراد أن يبين لهم الخطأ في دينهم، وأن يرشدهم إلى أن هذه الأشياء لا يصح أن يكون واحدا منها إلها، لقيام الدليل على حدوثها. وأن الذي أحدثها ودبر طلوعها وغروبها وأفولها هو الإله الحق وحده، وقوله: هذا ربي قول من ينصف خصمه، مع علمه أنه مبطل لأن ذلك أدعى إلى الحق وأقرب إلى رجوع الخصم، ثم أقام عليهم الحجة بقوله. لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ: أي لا أحب عبادة المتغيرين لأن التغير دليل على الحدوث، والحدوث ليس من صفة الإله، ثم استمرّ على ذلك المنهاج في القمر وفي الشمس، فلما أوضح البرهان، وأقام عليهم الحجة، جاهرهم بالبراءة من باطلهم، فقال: إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ، ثم أعلن لعبادته لله وتوحيده له فقال: إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ، ووصف الله تعالى بوصف يقتضي توحيده وانفراده بالملك، فإن قيل: لم احتج بالأفول دون الطلوع، وكلاهما دليل على الحدوث لأنهما انتقال من حال إلى حال؟ فالجواب أنه أظهر في الدلالة، لأنه انتقال مع اختفاء واحتجاب أَتُحاجُّونِّي فِي اللَّهِ أي في الإيمان بالله وفي توحيده، والأصل أتحاجونني بنونين وقرئ بالتشديد على إدغام أحدهما في الآخر، وبالتخفيف «1» على حذف أحدهما واختلف هل حذفت الأولى أو الثانية وَلا أَخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ ما هنا الذي ويريد بها الأصنام، وكانوا قد خوفوه أن تصيبه أصنامهم بضر، فقال: لا أخاف منهم لأنهم لا يقدرون على شيء إِلَّا أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئاً استثناء منقطع بمعنى لكن: أي إنما أخاف من ربي إن أراد بي شيئا وَكَيْفَ أَخافُ ما أَشْرَكْتُمْ أي كيف أخاف شركاءكم الذين لا يقدرون على شيء؟ وأنتم لا تخافون ما فيه كل خوف، وهو إشراككم بالله وأنتم تنكرون عليّ الأمن في موضع الأمن، ولا تنكرون على أنفسكم الأمن في موضع الخوف؟ ثم أوقفهم على ذلك بقوله فأيّ الفريقين أحق بالأمن؟ يعني فريق المؤمنين، وفريق الكافرين، ثم أجاب عن السؤال بقوله الَّذِينَ آمَنُوا الآية وقيل: إن الذين آمنوا: استئناف وليس من

_ (1) . أتحاجوني: هي قراءة نافع وابن عامر والباقون بالتّشديد كما في المصحف أتحاجّونّي.

[سورة الأنعام (6) : الآيات 91 إلى 94]

كلام إبراهيم وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ لما نزلت هذه الآية أشفق منها أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم، فقالوا: وأينا لم يظلم نفسه؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وعلى اله وسلّم: إنما ذلك كما قال لقمان لابنه: يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان: 13] وَتِلْكَ حُجَّتُنا إشارة إلى ما تقدم من استدلاله واحتجاجه وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ الضمير لإبراهيم أو لنوح عليهما السلام، والأول هو الصحيح لذكر لوط وليس من ذرية إبراهيم داود عطف على نوحا أي وهدينا داود وَعِيسى فيه دليل على أن أولاد البنات يقال فيهم ذرية، لأن عيسى ليس له أب فهو ابن ابنة نوح «1» وَمِنْ آبائِهِمْ في موضع نصب عطف على كلا أي وهدينا بعض آبائهم فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ أي أهل مكة وَكَّلْنا بِها قَوْماً هم الأنبياء المذكورون، وقيل: الصحابة، وقيل: كل مؤمن. والأول أرجح لدلالة ما بعده على ذلك، ومعنى توكيلهم بها: توفيقهم للإيمان بها والقيام بحقوقها أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ إشارة إلى الأنبياء المذكورين فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ استدل به من قال: إن شرع من قبلنا شرع لنا، فأما أصول الدين من التوحيد والإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، فاتفقت فيه جميع الأمم والشرائع، وأما الفروع ففيها وقع الاختلاف بين الشرائع والخلاف هل يقتدي النبي صلّى الله عليه واله وسلّم فيها بمن قبله أم لا؟ والهاء في اقتده للوقف فينبغي أن تسقط في الوصل، ولكن من أثبتها فيه راعى ثبوتها في خط المصحف وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ أي ما عرفوه حق معرفته، في اللطف بعباده والرحمة لهم إذ أنكروا بعثه للرسل وإنزاله للكتب، والقائلون هم: اليهود بدليل ما بعده، وإنما قالوا ذلك مبالغة في إنكار نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم، وروي أن الذي قالها منهم مالك بن الضيف، فرد الله عليهم بأن ألزمهم ما لا بد لهم من الإقرار به وهو إنزال التوراة على موسى، وقيل: القائلون قريش،

_ (1) . لعل الصواب: ابراهيم حسب رأي المؤلف في ترجيح عودة الضمير في: ذريته إلى إبراهيم والله أعلم.

[سورة الأنعام (6) : الآيات 95 إلى 99]

ولزموا ذلك لأنهم كانوا مقرين بالتوراة وَعُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا الخطاب لليهود أو لقريش على وجه إقامة الحجة والرد عليهم في قولهم: ما أنزل الله على بشر من شيء، فإن كان لليهود، فالذي علموه التوراة، وإن كان لقريش فالذي علموه ما جاء به محمد صلّى الله عليه وسلّم قُلِ اللَّهُ جواب من أنزل واسم الله مرفوع بفعل مضمر تقديره أنزله الله أو مرفوع بالابتداء وَلِتُنْذِرَ عطف على صفة الكتاب أُمَّ الْقُرى مكة، وسميت أم القرى، لأنها مكان أوّل بيت وضع للناس، ولأنه جاء أن الأرض دحيت منها ولأنها يحج إليها أهل القرى من كل فج عميق أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ هو مسيلمة وغيره من الكذابين الذين ادّعوا النبوّة وَمَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ هو النضر بن الحارث لأنه عارض القرآن، واللفظ عام فيه وفي غيره من المستهزئين وَلَوْ تَرى جوابه محذوف تقديره: لرأيت أمرا عظيما، والظالمون: من تقدّم ذكره من اليهود والكذابين والمستهزئين، فتكون اللام للعهد، وأعم من ذلك فتكون للجنس باسِطُوا أَيْدِيهِمْ أي تبسط الملائكة أيديهم إلى الكفار يقولون لهم: أخرجوا أنفسكم، وهذه عبارة عن التعنيف في السياق والشدّة في قبض الأرواح الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ يحتمل أن يريد ذلك الوقت بعينه أو الوقت الممتد من حينئذ إلى الأبد الْهُونِ الذلة فُرادى منفردين عن أموالكم وأولادكم أو عن شركائكم، والأول يترجح لقوله: تَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ أي ما أعطيناكم من الأموال والأولاد، ويترجح الثاني بقوله: وَما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ تفرق شملكم ومن قرأه بالرفع «1» أسند الفعل إلى الظرف واستعمله استعمال الأسماء، ويكون البين بمعنى الفرقة، أو بمعنى الوصل، ومن قرأه بالنصب: فالفاعل مصدر الفعل، أو محذوف تقديره تقطع الاتصال بينكم فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى أي: يفلق الحب تحت الأرض لخروج النبات منها، ويفلق النوى لخروج الشجر منها وقيل: أراد الشقين الذين في النواة والحنطة، والأول أرجح لعمومه في أصناف

_ (1) . بينكم: بضم النون وقال الطبري: وهي قراءة عامة. قرّاء مكة والعراقيين، أما قرّاء المدينة فبالنصب وكذلك قرأ نافع والكسائي وحفص كما في الحجة لأبي زرعة.

الحبوب يُخْرِجُ الْحَيَّ تقدّم في آل عمران وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ معطوف على فالق فالِقُ الْإِصْباحِ أي الصبح فهو مصدر سمي به الصبح، ومعنى فلقه: أخرجه من الظلمات، وقيل: إن الظلمة هي التي تنفلق عن الصبح، فالتقدير فالق ظلمة الإصباح سَكَناً أي يسكن فيه عن الحركات ويستراح حُسْباناً أي يعلم بهما حساب الأزمان والليل والنهار ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ما أحسن ذكر هذين الاسمين هنا لأن العزيز يغلب كل شيء ويقهره، وهو قد قهر الشمس والقمر وسخرهما كيف شاء، والعليم لما في تقدير الشمس والقمر والليل والنهار من العلوم والحكمة العظيمة وإتقان الصنعة فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ أي في ظلمات الليل في البر والبحر، وأضاف الظلمة إليها لملابستها لهما، أو شبه الطرق المشتبهة بالظلمات فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ من كسر القاف من مستقر فهو اسم فاعل، ومستودع اسم مفعول، والتقدير: فمنكم مستقرّ ومستودع، ومن فتحها فهو اسم مكان أو مصدر، ومستودع مثله، والتقدير على هذا لكم مستقرّ ومستودع، والاستقرار في الرحم والاستيداع في الصلب، وقيل: الاستقرار فوق الأرض والاستيداع تحتها فَأَخْرَجْنا بِهِ الضمير عائد على الماء فَأَخْرَجْنا مِنْهُ الضمير عائد على النبات خَضِراً أي أخضر غضا، وهو يتولد من أصل النبات من الفراخ نُخْرِجُ مِنْهُ الضمير عائد على الخضر حَبًّا مُتَراكِباً يعني السنبل لأن حبه بعضه على بعض، وكذلك الرمان وشبهه قِنْوانٌ جمع قنو، وهو العنقود من التمر، وهو مرفوع بالابتداء وخبره من النخل، ومن طلعها بدل، والطلع أول ما يخرج من التمر في أكمامه دانِيَةٌ أي قريبة سهلة التناول، وقيل: قريبة بعضها من بعض وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنابٍ بالنصب عطف على نبات كل شيء وقرئ «1» في غير السبع بالرفع عطف على قنوان مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ نصب على الحال من الزيتون والرمان، أو من كل ما تقدم من النبات، والمشتبه والمتشابه بمعنى واحد أي: من النبات ما يشبه بعضه بعضا في اللون والطعم والصورة، ومنه ما لا يشبه بعضه بعضا، وفي ذلك دليل قاطع على الصانع المختار القدير العليم المريد انْظُرُوا إِلى ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ

_ (1) . في الحجة لأبي زرعة أن قراءة الرفع هي للأعمش عن أبي بكر ص 264. [.....]

[سورة الأنعام (6) : الآيات 100 إلى 104]

أي انظروا إلى ثمره أول ما يخرج ضعيفا لا منفعة فيه، ثم ينتقل من حال إلى حال حتى يينع أي ينضج ويطيب شُرَكاءَ الْجِنَّ نصب الجنّ على أنه مفعول أول لجعلوا وشركاء مفعول ثان، وقدم لاستعظام الإشراك، أو شركاء مفعول أول، والله في موضع المفعول الثاني والجنّ بدل من شركاء والمراد بهم هنا: الملائكة، وذلك ردا على من عبدهم وقيل: المراد الجن، والإشراك بهم طاعتهم وَخَلَقَهُمْ الواو للحال، والمعنى الرد عليهم: أي جعلوا لله شركاء، وهو خلقهم، والضمير عائد على الجنّ، أو على الجاعلين، والحجة قائمة على الوجهين وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَناتٍ أي اختلقوا وزوّروا، والبنين: قول النصارى في المسيح، واليهود في عزير، والبنات قول العرب في الملائكة بِغَيْرِ عِلْمٍ أي قالوا ذلك بغير دليل ولا حجة بل مجرد افتراء بَدِيعُ ذكر معناه في [البقرة: 117] ورفعه على أنه خبر ابتداء مضمر أو مبتدأ وخبره: أنى يكون، وفاعل تعالى، والقصد به الرد على من نسب لله البنين والبنات، وذلك من وجهين: أحدهما أن الولد لا يكون إلا من جنس والده، والله تعالى متعال عن الأجناس، لأنه مبدعها، فلا يصح أن يكون له ولد والآخر: أن الله خلق السموات والأرض ومن كان هكذا فهو غني عن الولد وعن كل شيء فَاعْبُدُوهُ مسبب عن مضمون الجملة أي من كان هكذا فهو المستحق للعبادة وحده لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ يعني في الدنيا وأما في الآخرة، فالحق أن المؤمنين يرون ربهم بدليل قوله: إلى ربها ناظرة، وقد جاءت في ذلك أحاديث صحيحة صريحة، لا تحتمل التأويل، وقالت الأشعرية إن رؤية الله تعالى في الدنيا جائزة عقلا، لأن موسى سألها من الله، ولا يسأل موسى ما هو محال، وقد اختلف الناس هل رأى رسول الله صلى الله عليه واله وسلّم ربه ليلة الإسراء أم لا «1» وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ قال بعضهم: الفرق بين الرؤية والإدراك أن الإدراك يتضمن الإحاطة بالشيء والوصول إلى غايته، فلذلك نفى أن تدرك أبصار الخلق ربهم، ولا يقتضي ذلك نفي الرؤية وحسن على هذا قوله: وهو يدرك الأبصار لإحاطة علمه تعالى بالخفيات اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ أي لطيف عن أن تدركه الأبصار وهو الخبير بكل شيء، وهو يدرك الأبصار قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ جمع بصيرة، وهو نور القلب، والبصر نور العين، وهذا الكلام على لسان النبي صلّى الله عليه وسلّم وما أنا عليك بحفيظ

_ (1) . روى مسلم في كتاب الإيمان رقم 291 ج 1/ 161 عن أبي ذر قال: سألت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: هل رأيت ربك قال: نور أنّى أراه قال المازري: النور منعني من الرؤية.

[سورة الأنعام (6) : الآيات 105 إلى 110]

وَلِيَقُولُوا متعلق بمحذوف تقديره: ليقولوا صرفنا الآيات دَرَسْتَ بإسكان السين وفتح التاء درست العلم وقرأته [وهي قراءة الكوفة والمدينة] ، ودارست «1» بالألف أي دارست العلم وتعلمت منه، ودرست بفتح السين وإسكان التاء بمعنى قدمت هذه الآيات ودبرت وَلِنُبَيِّنَهُ الضمير للآيات وجاء مذكرا لأن المراد بها القرآن وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ إن كان معناه: أعرض عما يدعونك إليه أو عن مجادلتهم فهو محكم، وإن كان عن قتالهم وعقابهم فهو منسوخ. وكذلك ما أنا عليكم بحفيظ وبوكيل وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أي لا تسبوا آلهتهم فيكون ذلك سببا لأن يسبوا الله، واستدل المالكية بهذا على سدّ الذرائع قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ أي هي بيد الله لا بيدي وَما يُشْعِرُكُمْ أي ما يدريكم، وهو من الشعور بالشيء، وما نافية أو استفهامية أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ من قرأ بفتح أنها فهو معمول يشعركم: أي ما يدريكم أن الآيات إذا جاءتهم لا يؤمنون بها، نحن نعلم ذلك وأنتم لا تعلمونه وقيل: لا زائدة، والمعنى ما يشعركم أنهم يؤمنون، وقيل: أن هنا بمعنى لعل فمن قرأ بالكسر فهي استئناف إخبار وتم الكلام في قوله: وما يشعركم أي ما يشعركم ما يكون منهم فعلى القراءة بالكسر يوقف على ما يشعركم. وأما على القراءة بالفتح فإن كانت مصدرية لم يوقف عليه لأنه عامل فيها، وإن كانت بمعنى لعل فأجاز بعض الناس الوقف. ومنعه شيخنا أبو جعفر بن الزبير، لما في لعل من معنى التعليل وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ أي نطبع عليها ونصدها عن الفهم فلا يفهمون كَما لَمْ يُؤْمِنُوا الكاف للتعليل أي: نطبع على أفئدتهم وأبصارهم عقوبة لهم على أنهم لا يؤمنون به أول مرة، ويحتمل أن تكون للتشبيه، أن نطبع عليها إذا رأوا الآيات مثل طبعنا عليها أول مرة. وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ الآية: رد عليهم في قسمهم أنهم لو جاءتهم آية ليؤمننّ بها أي: لو أعطيناهم هذه الآيات التي اقترحوها، وكل آية لم يؤمنوا إلا أن يشاء الله قُبُلًا بكسر القاف وفتح الباء «2» أي معاينة فنصبه على الحال، وقرئ بضمتين «3» ، ومعناه مواجهة: كقوله قُدَّ مِنْ قُبُلٍ [يوسف: 26] ، وقيل: هو جمع قبيل بمعنى كفيل، أي

_ (1) . دارست: قراءة أبو عمرو وابن كثير ودرست: قراءة ابن عامر. (2) . قراءة نافع وابن عامر. (3) . وهي قراءة الباقين.

كفلاء بتصديق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا الآية: تسلية للنبي صلّى الله عليه وسلّم بالتأسي بغيره شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ أي المتمردين من الصنفين، ونصب شياطين على البدل من عدوا، إذ هو بمعنى الجمع أو مفعول أول، وعدوا مفعول ثان يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ أي يوسوس ويلقي الشر زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً ما يزينه من القول وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ الضمير عائد على وحيهم، أو على عداوة الكفار فَذَرْهُمْ وعيد وَما يَفْتَرُونَ ما في موضع نصب على أنها مفعول معه أو عطف على الضمير وَلِتَصْغى أي تميل وهو متعلق بمحذوف واللام لام الصيرورة إِلَيْهِ الضمير لوحيهم وَلِيَقْتَرِفُوا يكتسبوا أَفَغَيْرَ اللَّهِ معمول لقول محذوف أي: قل لهم وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ أي صحت «1» والكلمات ما نزل على عباده من كتبه صِدْقاً وَعَدْلًا أي صدقا فيما أخبر وعدلا فيما حكم فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ القصد بهذا الأمر إباحة ما ذكر اسم الله عليه، والنهي عما ذبح للنصب وغيرها، وعن الميتة وهذا النهي يقتضيه دليل الخطاب من الأمر، ثم صرح به في قوله الآتي: وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وقد استدل بذلك من أوجب التسمية على الذبيحة، وإنما جاء الكلام في سياق تحريم الميتة وغيرها، فإن حملناه على ذلك لم يكن فيه دليل على وجوب التسمية في ذبائح المسلمين، وإن حملناه على عمومه كان فيه دليل على ذلك، وقال عطاء: وهذه الآية أمر بذكر الله على الذبح والأكل والشرب وَما لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا المعنى أي غرض لكم في ترك الأكل، مما ذكر اسم الله عليه، وقد بين لكم الحلال من الحرام إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ استثناء بما حرم وَذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ وَباطِنَهُ لفظ يعم أنواع المعاصي: لأن جميعها إما باطن وإما ظاهر وقيل:

_ (1) . كلمت: قراءة عاصم وحمزة والكسائي وقرأ الباقون كلمات بالجمع.

[سورة الأنعام (6) : الآيات 121 إلى 126]

الظاهر الأعمال، والباطن الاعتقاد وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ الضمير لمصدر ولا تأكلوا وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ سببها أن قوما من الكفار قالوا: إنا نأكل ما قتلناه، ولا نأكل ما قتل الله يعنون الميتة أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ الموت هنا عبارة عن الكفر، والإحياء عبارة عن الإيمان، والنور: نور الإيمان، والظلمات الكفر فهي استعارات وفي قوله: مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ مطابقة وهي من أدوات البيان، ونزلت الآية في عمار بن ياسر، وقيل في عمر بن الخطاب والذي في الظلمات أبو جهل، ولفظها أعم من ذلك كَمَنْ مَثَلُهُ مثل هنا بمعنى صفة، وقيل زائدة، والمعنى كمن هو وَكَذلِكَ جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكابِرَ أي كما جعلنا في مكة أكابرها ليمكروا فيها جعلنا في كل قرية، وإنما ذكر الأكابر، لأن غيرهم تبع لهم والمقصود تسلية النبي صلّى الله عليه وسلّم مُجْرِمِيها إعرابه مضاف إليه عند الفارسي وغيره وقال ابن عطية وغيره: إنه مفعول أول بجعلنا وأكابر مفعول ثان مقدم وهذا جيد في المعنى ضعيف في العربية، لأن أكابر جمع أكبر وهو من أفعل فلا يستعمل إلا بمن أو بالإضافة وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ الآية: قائل هذه المقالة أبو جهل، وقيل الوليد بن المغيرة، لأنه قال: أنا أولى بالنبوة من محمد اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ رد عليهم فيما طلبوه، والمعنى أن الله علم أن محمدا صلّى الله عليه وعلى اله وسلّم أهل للرسالة، فخصه بها، وعلم أنهم ليسوا بأهل لها فحرمهم إياها، وفي الآية من أدوات البيان الترديد لكونه ختم كلامهم باسم الله ثم رده في أول كلامه صَغارٌ أي ذلة يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ شرح الصدر وضيقه وحرجه: ألفاظ مستعارة ومن قرأ حرجا «1» بفتح الراء فهو مصدر وصف به كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ أي كأنما يحاول الصعود إلى السماء، وذلك غير ممكن، فكذلك يصعب عليه الإيمان وأصل يصعد المشدد يتصعد، وقرئ بالتخفيف «2» دارُ السَّلامِ الجنة، والسلام هنا يحتمل أن يكون اسم الله، فأضافها إليه:

_ (1) . قرأ نافع وأبو بكر: حرجا بكسر الراء. (2) . قرأ ابن كثير بالتخفيف: يصعد. وقرأ أبو بكر: يصّاعد.

لأنها ملكه وخلقه، أو بمعنى السلامة والتحية وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ العامل في يوم محذوف تقديره اذكر، وتقديره: قلنا، ويكون على هذا عاملا في يوم وفي يا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ أي أضللتم منهم كثيرا، وجعلتموهم أتباعكم كما تقول: استكثر الأمير من الجيش اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ استمتاع الجن بالإنس: طاعتهم لهم واستمتاع الإنس بالجن كقوله: وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ [الجن: 6] ، فإن الرجل كان إذا نزل واديا قال: أعوذ بصاحب هذا الوادي يعني كبير الجن وَبَلَغْنا أَجَلَنَا هو الموت وقيل: الحشر إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ قيل: الاستثناء من الكاف والميم في مثواكم فما بمعنى من، لأنها وقعت على صنف من الجن والإنس والمستثنى على هذا: من آمن منهم، وقيل: الاستثناء من مدّة الخلود، وهو الزمان الذي بين حشرهم إلى دخول النار، وقيل: الاستثناء من النار، وهو دخولهم الزمهرير، وقيل: ليس المراد هنا بالاستثناء الإخراج، وإنما هو على وجه الأدب مع الله، وإسناد الأمور إليه نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً أي نجعل بعضهم وليا لبعض، وقيل: يتبع بعضهم بعضا في دخول النار، وقيل: نسلط بعضهم على بعض لَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ تقرير للجن والإنس، فقيل: إن الجن بعث فيهم رسل منهم لظاهر الآية، وقيل: إنما الرسل من الأنس خاصة، وإنما قال: رسل منكم لأنه جمع الثقلين في الخطاب شَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تنافي بينه وبين قولهم: ما كنا مشركين، لما تقدّم هناك فإن قيل: لم كرّر شهادتهم على أنفسهم؟ فالجواب أن قولهم: شهدنا على أنفسنا قول قالوه هم، وقوله: شهدوا على أنفسهم ذل لهم وتقبيح لحالهم ذلِكَ خبر ابتداء مضمر تقديره الأمر ذلك أو مفعول لفعل مضمر تقديره فعلنا ذلك، والإشارة إلى بعث الرسل أَنْ لَمْ يَكُنْ تعليل لبعث الرسل، وهو في موضع مفعول من أجله، أو بدل من ذلك بِظُلْمٍ فيه وجهان: أحدهما أن الله لم يكن ليهلك القرى دون بعث الرسل إليهم، فيكون إهلاكهم ظلما إذ لم ينذرهم، فهو كقوله: وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا [الإسراء: 15] ، والآخر: أن الله لا يهلك القرى بظلمهم إذا ظلموا، دون أن ينذرهم، ففاعل الظلم على هذا أهل القرى وغفلتهم عدم إنذارهم، حكى الوجهين ابن عطية والزمخشري، والوجه الأول صحيح على مذهب المعتزلة، ولا يصح على مذهب أهل السنة، لأن الله لو أهلك عباده

[سورة الأنعام (6) : الآيات 132 إلى 136]

بغير ذنب: لم يكن ظالما عندهم وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ منازل في الجزاء على أعمالهم من الثواب والعقاب مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ أي من ذرية أهل سفينة نوح أو من كان قبلهم إلى آدم اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ الأمر هنا للتهديد، والمكانة التمكن فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ تهديد مَنْ تَكُونُ لَهُ يحتمل أن تكون من موصولة في موضع نصب على المفعولية أو استفهامية في موضع رفع بالابتداء عاقِبَةُ الدَّارِ أي الآخرة أو الدنيا، والأول أرجح لقوله: عُقْبَى الدَّارِ: جَنَّاتُ عَدْنٍ [الرعد: 22] وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً الضمير في جعلوا لكفار العرب. قال السهيلي: هم حيّ من خولان، يقال لهم: الأديم «1» كانوا يجعلون من زروعهم وثمارهم ومن أنعامهم نصيبا لله ونصيبا لأصنامهم. ومعنى ذرأ: خلق وأنشأ، ففي ذلك ردّ عليهم، لأن الله الذي خلقها وذرأها: هو مالكها لا رب غيره بِزَعْمِهِمْ أي بدعواهم وقولهم من غير دليل ولا شرع، وأكثر ما يقال الزعم: في الكذب، وقرئ بفتح الزاي والكسائي بالضم وهما لغتان فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ الآية كانوا إذا هبت الريح فحملت شيئا من الذي لله إلى الذي للأصنام أقروه، وإن حملت شيئا من الذي للأصنام إلى الذي لله ردّوه، وإذا أصابتهم سنة أكلوا نصيب الله وتحاموا نصيب شركائهم وَكَذلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ كانوا يقتلون أولادهم بالوأد ويذبحونهم، قربانا إلى الأصنام. وشركاؤهم هنا هم: الشياطين، أو القائمون على الأصنام. وقرأ الجمهور بفتح الزاي من زين على البناء للفاعل، ونصب قتل على أنه مفعول وخفض أولادهم بالإضافة ورفع شركاؤهم على أنه فاعل بزين، والشركاء على هذه القراءة هم الذين زينوا القتل، وقرأ ابن عباس «2» بضم الزاي على البناء للمفعول، ورفع قتل على أنه مفعول لم يسم فاعله، ونصب أولادهم على أنه مفعول بقتل، وخفض شركائهم على الإضافة إلى قتل إضافة المصدر إلى فاعله، وفصل بين المضاف والمضاف

_ (1) . كذا! ويوجد في جمهرة الأنساب لابن حزم: أدد بن زيد بن كهلان بن سبأ والله أعلم. (2) . وابن عامر.

إليه بقوله: أولادهم، وذلك ضعيف في العربية وقد سمع في الشعر، والشركاء على هذه القراءة هم القاتلون للأولاد لِيُرْدُوهُمْ أي ليهلكوهم وهو من الردى بمعنى الهلاك وَقالُوا هذِهِ أَنْعامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ أي حرام، وهو فعل بمعنى مفعول، نحو ذبح، فيستوى فيه المذكر والمؤنث والواحد والجمع لا يَطْعَمُها إِلَّا مَنْ نَشاءُ أي لا يأكلها إلا من شاءوا وهم القائمون على الأصنام، والرجال دون النساء وَأَنْعامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها أي لا تركب، وهي السائبة وأخواتها وَأَنْعامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا قيل معناه لا يحج عليها فلا يذكر اسم الله بالتلبية، وقيل: لا يذكر اسم الله عليها إذا ذبحت افْتِراءً عَلَيْهِ كانوا قد قسموا أنعامهم على هذه الأقسام، ونسبوا ذلك إلى الله افتراء وكذبا، ونصب على الحال أو مفعول من أجله، أو مصدر مؤكد وَقالُوا ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ الآية: كانوا يقولون في أجنّة البحيرة والسائبة: ما ولد منها حيا فهو للرجال خاصة ولا يأكل منها النساء، وما ولد منها ميتا اشترك فيه الرجال والنساء وأنث خالصة للحمل على المعنى، وهي الأجنة وذكر محرم حملا على لفظ ما، ويجوز أن تكون التاء للمبالغة وَحَرَّمُوا ما رَزَقَهُمُ اللَّهُ أي البحيرة والسائبة وشبهها جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ مرفوعات على دعائم وشبهها وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ متروكات على وجه الأرض، وقيل: المعروشات ما غرسه الناس في العمران وغير معروشات: ما أنبته الله في الجبال والبراري مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ في اللون والطعم والرائحة والحجم، وذلك دليل على أن الخالق مختار مريد وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ قيل: حقه هنا الزكاة وهو ضعيف لوجهين: أحدهما أن الآية مكية، وإنما فرضت الزكاة بالمدينة، والآخر أن الزكاة لا تعطى يوم الحصاد، وإنما تعطى يوم ضم الحبوب والثمار، وقيل: حقه ما يصدق به على المساكين يوم الحصاد، وكان ذلك واجبا ثم نسخ بالعشر، وقيل: هو ما يسقط من السنبل، والأمر على هذا للندب حَمُولَةً وَفَرْشاً عطف على جنات، والحمولة الكبار، والفرش الصغار: كالعجاجيل جمع عجل والفصلان وقيل: الحمولة الإبل لأنها

[سورة الأنعام (6) : الآيات 143 إلى 146]

يحمل عليها، والفرش: الغنم لأنها تفرش للذبح ويفرش ما ينسج من صوفها ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ بدل من حمولة وفرشا، وسماها أزواجا، لأن الذكر زوج للأنثى والأنثى زوج للذكر مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ يريد الذكر والأنثى، وكذلك فيما بعده قُلْ آلذَّكَرَيْنِ يعني الذكر من الضأن والذكر من المعز، ويعني بالأنثيين الأنثى من الضأن، والأنثى من المعز، وكذلك فيما بعده من الإبل والبقر والهمزة للإنكار نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ تعجيز وتوبيخ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً يعني في تحريم ما لم يحرم الله، وذلك إشارة إلى العرب في تحريمهم أشياء كالبحيرة وغيرها. قُلْ لا أَجِدُ الآية تقتضي حصر المحرمات فيما ذكر، وقد جاء في السنة تحريم أشياء لم تذكر هنا كلحوم الحمر الأهلية فذهب قوم إلى أن السنة نسخت هذا الحصر، وذهب آخرون إلى أن الآية وردت على سبب فلا تقتضي الحصر، وذهب آخرون إلى أن ما عدا ما ذكر إنما نهى عنه على وجه الكراهة، لا على وجه التحريم أَوْ فِسْقاً معطوف على المنصوبات قبله، وهو ما أهلّ به لغير الله سماه فسقا لتوغله في الفسق، وقد تقدم الكلام على هذه المحرمات في [البقرة: 173] كُلَّ ذِي ظُفُرٍ هو ماله إصبع من دابة وطائر قاله الزمخشري وقال ابن عطية: يراد به الإبل والأوز والنعام ونحوه من الحيوان الذي هو غير منفرج الأصابع، أو له ظفر وقال الماوردي مثله، وحكى النقاش عن ثعلب: أن كل ما لا يصيد فهو ذو ظفر، وما يصيد فهو ذو مخلب، وهذا غير مطرد، لأن الأسد ذو ظفر إِلَّا ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما يعني ما في الظهور والجنوب من الشحم أَوِ الْحَوايا هي المباعر، وقيل: المصارين والحشوة ونحوهما مما يتحوّى في البطن، وواحد حوايا حوية على وزن فعيلة فوزن حوايا على هذا فعائل كصحيفة وصحائف، وقيل: واحدها حاوية على وزن فاعلة فحوايا على هذا فواعل: كضاربة وضوارب، وهو معطوف على ما في قوله: إلا ما حملت ظهورهما، فهو من المستثنى من التحريم، وقيل: عطف على الظهور، فالمعنى إلا ما حملت الظهور، أو حملت الحوايا، وقيل: عطف على الشحوم، فهو من المحرم أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ يريد ما في جميع الجسد وَإِنَّا لَصادِقُونَ أي فيما أخبرنا به

[سورة الأنعام (6) : الآيات 147 إلى 150]

من التحريم، وفي ذلك تعريض بكذب من حرم ما لم يحرم الله فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ أي إن كذبوك فيما أخبرت به من التحريم فقل لهم: ربكم ذو رحمة واسعة إذ لا يعاجلكم بالعقوبة على شدة جرمكم، وهذا كما تقول عند رؤية معصية: ما أحلم الله! تريد لإمهاله عن مثل ذلك ثم أعقب وصفه بالرحمة الواسعة بقوله وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ أي لا تغتروا بسعة رحمته، فإنه لا يرد بأسه عن مثلكم إما في الدنيا أو في الآخرة سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكْنا الآية: معناها أنهم يقولون: إن شركهم وتحريمهم لما حرموا كان بمشيئة الله ولو شاء الله أن لا يفعلوا ذلك ما فعلوه، فاحتجوا على ذلك بإرادة الله له، وتلك نزغة جبرية، ولا حجة لهم في ذلك، لأنهم مكلفون مأمورون ألا يشركوا بالله، ولا يحللوا ما حرم الله ولا يحرموا ما حلل الله، والإرادة خلاف التكليف، ويحتمل عندي أن يكون قولهم: «لو شاء الله» قولا يقولونه في الآخرة على وجه التمني أن ذلك لم يكن، كقولك إذا ندمت على شيء: لو شاء الله ما كان هذا. أي يتمنى أن ذلك لم يكن، ويؤيد هذا أنه حكى قولهم بأداة الاستقبال، وهي السين، فذلك دليل على أنهم يقولونه في المستقبل وهي الآخرة قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ توقيف لهم وتعجيز قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ لما أبطل حجتهم أثبت حجة الله ليظهر الحق ويبطل الباطل هَلُمَّ قيل: هي بمعنى هات فهي متعدية، وقيل: بمعنى أقبل فهي غير متعدية، وهي عند بعض العرب فعل يتصل به ضمير الاثنين والجماعة والمؤنث، وعند بعضهم: اسم فعل فيخاطب بها الواحد والاثنان والجماعة والمؤنث على حد سواء، ومقصود الآية تعجيزهم عن إقامة الشهداء فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ أي إن كذبوا في شهادتهم وزوروا فلا تشهد بمثل شهادتهم.. قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أمر الله نبيه صلّى الله تعالى عليه واله وسلّم أنه يدعو جميع الخلق إلى سماع تلاوة ما حرم عليهم وذكر في هذه الآيات المحرمات التي أجمعت عليها جميع الشرائع ولم تنسخ قط في ملة، وقال ابن عباس: هي الكلمات [أو الوصايا العشر] التي أنزل الله على موسى أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً قيل: أن «1» هنا حرف

_ (1) . أن هي المدغمة مع لا: ألّا.

عبارة وتفسير فلا موضع لها من الإعراب، ولا ناهية جزمت الفعل، وقيل: أن مصدرية في موضع رفع تقديره: الأمر ألا تشركوا، فلا على هذا نافية، وقيل: أن في موضع نصب بدلا من قوله ما حرم، ولا يصح ذلك إلا إن كانت لا زائدة وإن لم تكن زائدة فسد المعنى لأن الذي حرم على ذلك يكون ترك الإشراك، والأحسن عندي أن تكون أن مصدرية في موضع نصب على البدل ولا نافية ولا يلزم ما ذكر من فساد المعنى، لأن قوله ما حرم ربكم: معناه ما وصاكم به ربكم بدليل قوله في آخر الآية: ذلكم وصاكم به فضمن التحريم معنى الوصية، والوصية في المعنى أعمّ من التحريم، لأن الوصية تكون بتحريم وبتحليل، وبوجوب وندب، ولا ينكر أن يريد بالتحريم الوصية لأن العرب قد تذكر اللفظ الخاص وتريد به العموم، كما تذكر اللفظ العام وتريد به الخصوص، إذ تقرر هذا، فتقدير الكلام: قل تعالوا أتل ما وصاكم به ربكم، ثم أبدل منه على وجه التفسير له والبيان، فقال: أن لا تشركوا به شيئا، أي وصاكم ألا تشركوا به شيئا ووصاكم بالإحسان بالوالدين، ووصاكم أن لا تقتلوا أولادكم، فجمعت الوصية ترك الإشراك وفعل الإحسان بالوالدين وما بعد ذلك ويؤيد هذا التأويل الذي تأولنا: أن الآيات اشتملت على أوامر: كالإحسان بالوالدين وقول العدل والوفاء في الوزن، وعلى نواهي: كالإشراك وقتل النفس، وأكل مال اليتيم، فلا بد أن يكون اللفظ المقدم في أولها لفظا يجمع الأوامر والنواهي، لأنها أجملت فيه، ثم فسرت بعد ذلك، ويصلح لذلك لفظ الوصية لأنه جامع للأمر والنهي، فلذلك جعلنا التحريم بمعنى الوصية ويدل على ذلك ذكر لفظ الوصية بعد ذلك، وإن لم يتأول على ما ذكرناه: لزم في الآية إشكال، وهو عطف الأوامر على النواهي، وعطف النواهي على الأوامر، فإن الأوامر طلب فعلها، والنواهي طلب تركها، وواو العطف تقتضي الجمع بين المعطوف والمعطوف عليه، ولا يصح ذلك إلا على الوجه الذي تأولناه من عموم الوصية للفعل والترك. وتحتمل الآية عندي تأويلا آخر، وهو: أن يكون لفظ التحريم على ظاهره، ويعم فعل المحرمات، وترك الواجبات لأن ترك الواجبات حرام وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ الإملاق الفاقة، ومن هنا للتعليل تقديره: من أجل إملاق، وإنما نهى عن قتل الأولاد لأجل الفاقة، لأن العرب كانوا يفعلون ذلك، فخرج مخرج الغالب فلا يفهم منه إباحة قتلهم بغير ذلك الوجه ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ قيل ما ظهر: الزنا، وما بطن: اتخاذ الأخدان والصحيح أن ذلك عموم في جميع الفواحش وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ فسره قول رسول الله صلّى الله عليه واله وسلّم: لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث:

[سورة الأنعام (6) : الآيات 152 إلى 153]

زنى بعد إحصان، أو كفر بعد إيمان، أو قتل نفس بغير نفس «1» وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ النهي عن القرب يعم وجوه التصرف، وفيه سدّ الذريعة، لأنه إذا نهى عن أن يقرب المال، فالنهي عن أكله أولى وأحرى. والتي هي أحسن منفعة اليتيم وتثمير ماله حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ هو البلوغ مع الرشد، وليس المقصود هنا السن وحده، وإنما المقصود معرفته بمصالحه لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها لما أمر بالقسط في الكيل والوزن، وقد علم أن القسط الذي لا زيادة فيه ولا نقصان مما يجري فيه الحرج ولا يتحقق الوصول إليه أمر بما في الوسع من ذلك وعفا عما سواه وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى أي ولو كان المقول له أو عليه في شهادة أو غيرها من أهل قرابة القائل، فلا ينبغي أن يزيد ولا ينقص بل يعدل. وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً الإشارة بهذا إلى ما تقدم من الوصايا أو إلى جميع الشريعة، وأنّ بفتح الهمزة والتشديد «2» عطف على ما تقدم أو مفعول من أجله: أي فاتبعوه لأن هذا صراطي مستقيما، وقرئ بالكسر على الاستئناف، وبالفتح والتخفيف على العطف، وهي على هذا مخففة من الثقيلة وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ الطرق المختلفة في الدين من اليهودية والنصرانية وغيرها من الأديان الباطلة، ويدخل فيه أيضا البدع والأهواء المضلة، وفي الحديث «أن النبي صلّى الله عليه وسلّم خط خطا، ثم قال هذا سبيل الله، ثم خط خطوطا عن يمينه وعن شماله، ثم قال هذه كلها سبل على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه» «3» فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ أي تفرقكم عن سبيل الله والفعل مستقبل حذفت منه تاء المضارعة ولذلك شدده أبو الحسن أحمد بن محمد البزي ثُمَّ آتَيْنا معطوف على وصاكم به، فإن قيل: فإن إيتاء موسى الكتاب متقدم على هذه الوصية، فكيف عطفه عليها بثم؟ فالجواب أن هذه الوصية قديمة لكل أمة على لسان نبيها، فصح الترتيب، وقيل: إنها هنا لترتيب الأخبار والقول، لا لترتيب الزمان تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ فيه ثلاث تأويلات: أحدها أن المعنى تماما للنعمة على الذي أحسن من قوم موسى، ففاعل أحسن ضمير يعود على الذي،

_ (1) . رواه أحمد عن عدد من الصحابة منهم عثمان وعائشة وابن مسعود بألفاظ متقاربة وورد في الصحيحين من رواية ابن مسعود وذكره النووي في الأربعين. (2) . هي قراءة نافع وابن كثير وأبو عمرو وعاصم وأما بالكسر فقراءة حمزة والكسائي وبالتخفيف قراءة ابن عامر. (3) . رواه أحمد عن ابن مسعود ج أول ص 544.

والذي أحسن يراد به جنس المحسنين، والآخر: أن المعنى تماما أي تفضلا، أو جزاء على ما أحسن موسى عليه السلام من طاعة ربه وتبليغ رسالته، فالفاعل على هذا ضمير موسى عليه السلام والذي صفة لعمل موسى، والثالث تماما أي إكمالا على ما أحسن الله به إلى عباده، فالعامل على هذا ضمير الله تعالى أَنْ تَقُولُوا في موضع مفعول من أجله تقديره: كراهة أن تقولوا عَلى طائِفَتَيْنِ أهل التوراة والإنجيل وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ أي لم ندرس مثل دراستهم ولم نعرف ما درسوا من الكتب فلا حجة علينا، وأن هنا مخففة من الثقيلة فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ إقامة حجة عليهم صَدَفَ أي أعرض هَلْ يَنْظُرُونَ الآية: تقدّمت نظيرتها في [البقرة: 210] بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ أشراط الساعة كطلوع الشمس من مغربها، فحينئذ لا يقبل إيمان كافر ولا توبة عاص، فقوله: لا ينفع نفسا إيمانها يعني أن إيمان الكافر لا ينفعه حينئذ وقوله أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً يعني أن من كان مؤمنا ولم يكسب حسنات قبل ظهور تلك الآيات، ثم تاب إذا ظهرت: لم ينفعه لأن باب التوبة يغلق حينئذ قُلِ انْتَظِرُوا وعيد إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ هم اليهود والنصارى، وقيل أهل الأهواء والبدع، وفي الحديث أن رسول الله صلّى الله عليه واله وسلّم قال: «افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة، وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة قيل يا رسول الله ومن تلك الواحدة؟ قال من كان على ما أنا وأصحابي عليه «1» ، وقرئ فارقوا أي تركوا وَكانُوا شِيَعاً جمع شيعة أي متفرّقين كل فرقة تتشيع لمذهبها لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ أي أنت بريء منهم عَشْرُ أَمْثالِها فضل عظيم على العموم في الحسنات، وفي العاملين، وهو أقل التضعيف للحسنات فقد تنتهي إلى سبعمائة وأزيد دِيناً قِيَماً بدل من موضع إلى صراط مستقيم،

_ (1) . من حديث أبي هريرة رواه أصحاب السنن أبو داود ورقمه 4591/ أول الجزء/ 5 والترمذي والنسائي وابن ماجة. [.....]

[سورة الأنعام (6) : الآيات 162 إلى 165]

لأن أصله هداني صراطا بدليل اهدنا الصراط، والقيّم فيعل من القيام وهو أبلغ من قائم وقرئ قيما بكسر القاف وتخفيف الياء وفتحها «1» ، وهو على هذا مصدر وصف به مِلَّةَ إِبْراهِيمَ بدل من دينا، أو عطف بيان وَنُسُكِي أي عبادتي وقيل: ذبحي للبهائم، وقيل: حجي، والأول أعم وأرجح وَمَحْيايَ وَمَماتِي «2» أي أعمالي في حين حياتي وعند موتي لِلَّهِ أي خالصا لوجهه وطلب رضاه، ثم أكد ذلك بقوله لا شريك له: أي لا أريد بأعمالي غير الله، فيكون نفيا للشرك الأصغر وهو الرياء، ويحتمل أن يريد لا أعبد غير الله فيكون نفيا للشرك الأكبر وَبِذلِكَ أُمِرْتُ إشارة إلى الإخلاص الذي تقتضيه الآية قبل ذلك وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ لأنه صلّى الله عليه وسلّم سابق أمته قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا تقرير وتوبيخ للكفار، وسببها أنهم دعوه إلى عبادة آلهتهم وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ برهان على التوحيد ونفي الربوبية عن غير الله وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْها ردّ على الكفار لأنهم قالوا له: أعبد آلهتنا ونحن نتكفل لك بكل تباعة تتوقعها في دنياك وأخراك، فنزلت هذه الآية: أي ليس كما قلتم، وإنما كسب كل نفس عليها خاصة وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ألا يحمل أحد ذنوب أحد، وأصل الوزر الثقل، ثم استعمل في الذنوب خَلائِفَ جمع خليفة: أي يخلف بعضكم بعضا في السكنى في الأرض أو خلائف عن الله في أرضه، والخطاب على هذا لجميع الناس، وقيل: لأمة محمد صلّى الله عليه واله وسلّم لأنهم خلفوا الأمم المتقدمة وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ عموم في المال والجاه والقوة والعلوم وغير ذلك مما وقع فيه التفضيل بين العباد لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ ليختبر شكركم على ما أعطاكم، وأعمالكم فيما مكنكم فيه إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ جمع بين التخويف والترجية، وسرعة عقابه تعالى: إما في الدنيا بمن عجل أخذه، أو في الآخرة لأن، كل آت قريب، ونسأل الله أن يغفر لنا ويرحمنا بفضله ورحمته.

_ (1) . وهي قراءة أهل الكوفة وابن عامر. أما التشديد فقراءة الباقين. (2) . محياي: قرأها نافع بتسكين الياء والباقون بفتحها.

سورة الأعراف

سورة الأعراف مكية إلا من آية 163 إلى غاية آية 170 فمدنية وآياتها 206 نزلت بعد ص (سورة الأعراف) بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ المص تكلمنا على حروف الهجاء في البقرة حَرَجٌ مِنْهُ أي ضيق من تبليغه مع تكذيب قومك، وقيل: الحرج هنا الشك، فتأويله كقوله فلا تكن من الممترين [آل عمران/ 60] لِتُنْذِرَ متعلق بأنزل وَذِكْرى منصوب على المصدرية بفعل مضمر تقديره لتنذر وتذكر ذكرى، لأن الذكر بمعنى التذكير، أو مرفوع على أنه خبر ابتداء مضمر، أو مخفوض عطفا على موضع لتنذر أي للإنذار والذكرى قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ انتصب قليلا بتذكرون أي تذكرون تذكرا قليلا، وما زائدة للتوكيد أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا قيل: إنه من المقلوب تقديره: جاءها بأسنا فأهلكناها، وقيل: المعنى أردنا إهلاكها فجاءها بأسنا، لأن مجيء البأس قبل الإهلاك فلا يصح عطفه عليه بالفاء، ويحتمل أن فجاءها بأسنا استئنافا على وجه التفسير للإهلاك، فلا يحتاج إلى تكلف، والمراد أهلكنا أهلها فجاءهم، ثم حذف المضاف بدليل أو هم قائلون بَياتاً أَوْ هُمْ قائِلُونَ بياتا مصدر في موضع الحال بمعنى: بائتين أي بالليل، وقائلون: من القائلة: أي بالنهار، وقد أصاب العذاب بعض الكفار المتقدمين بالليل، وبعضهم بالنهار، وأو هنا للتنويع دَعْواهُمْ أي ما كان دعاؤهم واستغاثتهم إلا للاعتراف بأنهم ظالمون، وقيل: المعنى أن دعواهم هنا ما كانوا يدعونه من دينهم، فاعترفوا لما جاءهم العذاب أنهم كانوا ظالمين في ذلك أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ أسند الفعل إلى الجار والمجرور، ومعنى الآية: أن الله يسأل الأمم عما أجابوا به رسلهم، ويسأل الرسل عما أجيبوا به فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ أي على الرسل والأمم وَالْوَزْنُ يعني وزن الأعمال يَوْمَئِذٍ أي

[سورة الأعراف (7) : الآيات 9 إلى 21]

يوم يسأل الرسل وأممهم وهو يوم القيامة بِآياتِنا يَظْلِمُونَ أي يكذبون بها ظلما خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ قيل: المعنى أردنا خلقكم وتصويركم ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ وقيل: خلقنا أباكم آدم ثم صورناه، وإنما احتيج إلى التأويل ليصح العطف أَلَّا تَسْجُدَ لا زائدة للتوكيد إِذْ أَمَرْتُكَ استدل به بعض الأصوليين على أن الأمر يقتضي الوجوب والفور، ولذلك وقع العقاب على ترك المبادرة بالسجود قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ تعليل علّل به إبليس امتناعه من السجود، وهو يقتضي الاعتراض على الله تعالى في أمره بسجود الفاضل للمفضول على زعمه، وبهذا الاعتراض كفر إبليس إذ ليس كفره كفر جحود فَاهْبِطْ مِنْها أي من السماء قالَ فَبِما أَغْوَيْتَنِي الفاء للتعليل، وهي تتعلق بفعل قسم محذوف تقديره: أقسم بالله بسبب إغوائك لي لأغوين بني آدم، وما مصدرية، وقيل: استفهامية ويبطله ثبوت الألف في ما مع حرف الجر صِراطَكَ يريد: طريق الهدى والخير وهو منصوب على الظرفية ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ الآية: أي من الجهات الأربع، وذلك عبارة عن تسليطه على بني آدم كيفما أمكنه، وقال ابن عباس: من بين أيديهم الدنيا، ومن خلفهم الآخرة، وعن أيمانهم الحسنات، وعن شمائلهم السيّئات مَذْؤُماً من ذأمه بالهمز إذا ذمه مَدْحُوراً أي مطرودا حيث وقع فَوَسْوَسَ إذا تكلم كلاما خفيا يكرره، فمعنى وسوس لهما: ألقى لهما هذا الكلام لِيُبْدِيَ لَهُما ما وُورِيَ عَنْهُما مِنْ سَوْآتِهِما أي ليظهر ما ستر من عوراتهما واللام في قوله ليبدي للتعليل إن كان في انكشافهما غرض لإبليس، أو للصيرورة إن وقع ذلك بغير قصد منه إليه الشَّجَرَةِ ذكرت في [البقرة: 35] إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أي كراهة أن تكونا ملكين، واستدل به من قال: إن الملائكة أفضل من الأنبياء، وقرئ ملكين بكسر اللام «1» ، ويقوي هذه القراءة قوله: وملك لا يبلى وَقاسَمَهُما أي حلف لهما: إنه لمن الناصحين وذكر قسم إبليس بصيغة المفاعلة التي تكون بين الاثنين لأنه

_ (1) . تنسب هذه القراءة لابن عباس. وانظر الطبري.

[سورة الأعراف (7) : الآيات 22 إلى 28]

اجتهد فيه، أو لأنه أقسم لهما: وأقسما له أن يقبلا نصيحته فَدَلَّاهُما أي أنزلهما إلى الأكل من الشجرة بِغُرُورٍ أي غرّهما بحلفه لهما لأنهما ظنّا أنه لا يحلف كاذبا بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما أي زال عنهما اللباس، وظهرت عوراتهما، وكان لا يريانها من أنفسهما، ولا أحدهما من الآخر، وقيل: كان لباسهما نور يحول بينهما وبين النظر يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ أي يصلان بعضه ببعض ليستترا به وَناداهُما رَبُّهُما يحتمل أن يكون هذا النداء بواسطة ملك، أو بغير واسطة رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا اعتراف وطلب للمغفرة والرحمة، وتلك هي الكلمات التي تاب الله عليه بها اهْبِطُوا وما بعده مذكور في البقرة فِيها تَحْيَوْنَ أي في الأرض لِباساً أي الثياب التي تستر، ومعنى أنزلنا خلقنا، وقيل: المراد أنزلنا ما يكون عنه اللباس وهو المطر، واستدل بعض الفقهاء بهذه الآية على وجوب ستر العورة رِيشاً أي لباس الزينة وهو مستعار من ريش الطائر وَلِباسُ التَّقْوى لباسا كقولهم: ألبسك الله قميص تقواه، وقيل: لباس التقوى ما يتقى به في الحرب من الدروع وشبهها، وقرئ بالرفع «1» على الابتداء أو خبره الجملة، وهي: ذلك خير ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ الإشارة إلى ما أنزل من اللباس، وهذه الآية واردة على وجه الاستطراد عقيب ما ذكر من ظهور السوآت وخصف الورق عليها ليبين إنعامه على ما خلق من اللباس يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما أي كان سببا في نزع لباسهما عنهما مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ يعني في غالب الأمر، وقد استدل به من قال: إن الجن لا يرون وقد جاءت في رؤيتهم أحاديث صحيحة، فتحمل الآية على الأكثر جمعا بينها وبين الأحاديث وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قيل: هي ما كانت العرب تفعله من الطواف بالبيت عراة الرجال والنساء، ويحتمل العموم في الفواحش قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللَّهُ أَمَرَنا بِها اعتذروا بعذرين باطلين أحدهما: تقليد آبائهم، والآخر: افتراؤهم على الله وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ قيل: المراد إحضار النية، والإخلاص لله،

_ (1) . قراءة النصب هي لنافع وابن عامر والكسائي والباقون بالضم: لباس.

[سورة الأعراف (7) : الآيات 38 إلى 43]

وقيل: فعل الصلاة والتوجه فيها عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ أي في كل مكان سجود أو في وقت كل سجود، والأول أظهر، والمعنى إباحة الصلاة في كل موضع كقوله صلّى الله عليه وسلّم: جعلت لي الأرض مسجدا «1» كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ احتجاج على البعث الأخروي بالبدأة الأولى فَرِيقاً الأول منصوب بهدى، والثاني منصوب بفعل مضمر يفسره ما بعده خُذُوا زِينَتَكُمْ قيل: المراد به الثياب الساترة، واحتج به من أوجب ستر العورة في الصلاة، وقيل: المراد به الزينة زيادة على الستر كالتجمل للجمعة بأحسن الثياب وبالسواك والطيب وَكُلُوا وَاشْرَبُوا الأمر فيهما للإباحة، لأن بعض العرب كانوا يحرمون أشياء من المآكل وَلا تُسْرِفُوا أي لا تكثروا من الأكل فوق الحاجة، وقال الأطباء: إن الطب كله مجموع في هذه الآية، وقيل: لا تسرفوا بأكل الحرام قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ إنكار لتحريمها هو ما شرعه الله لعباده من الملابس والمآكل، وكان بعض العرب إذا حجوا يجرّدون الثياب ويطوفون عراة، ويحرّمون الشحم واللبن، فنزل ذلك ردّا عليهم خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ «2» أي الزينة والطيب في الدنيا للذين آمنوا ولغيرهم، وفي الآخرة خالصة لهم دون غيرهم، وقرئ خالصة بالنصب على الحال، والرفع على أنه خبر بعد خبر، أو خبر ابتداء مضمر وَالْإِثْمَ عام في كل ذنب وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ أي تفتروا عليه في التحريم وغيره ف إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ هي إن الشرطية دخلت عليها ما الزائدة للتأكيد، ولزمتها النون الشديدة المؤكدة، وجواب الشرط فمن اتقى الآية فَمَنْ أَظْلَمُ ذكر في الأنعام يَنالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتابِ أي يصل إليهم ما كتب لهم من الأرزاق وغيرها ضَلُّوا عَنَّا أي غابوا ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ

_ (1) . رواه أحمد عن أبي هريرة ج 2 ص 315 (2) . خالصة بالضم هي قراءة نافع وبالنصب قرأ الباقون.

[سورة الأعراف (7) : الآيات 44 إلى 51]

أي ادخلوا النار في جملة أمم أو مع أمم ادَّارَكُوا تلاحقوا واجتمعوا قالَتْ أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ المراد بأولاهم الرؤساء والقادة، وأخراهم الأتباع والسفلة، والمعنى: أن أخراهم طالبوا من الله أن يضاعف العذاب لأولاهم لأنهم أضلوهم، وليس المعنى أنهم قالوا لهم ذلك خطابا لهم، إنما هو كقولك قال فلان لفلان كذا: أي قاله عنه وإن لم يخاطبه به وَقالَتْ أُولاهُمْ لِأُخْراهُمْ فَما كانَ لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ أي لم يكن لكم علينا فضل في الإيمان والتقوى، يوجب أن يكون عذابنا أشدّ من عذابكم بل: نحن وأنتم سواء فَذُوقُوا الْعَذابَ من قول أولاهم لأخراهم أو من قول الله تعالى لجميعهم لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ فيه ثلاثة أقوال: أحدهما: لا يصعد عملهم إلى السماء، والثاني لا يدخلون الجنة، فإن الجنة في السماء، والثالث لا تفتح أبواب السماء لأرواحهم إذا ماتوا كما تفتح لأرواح المؤمنين حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ أي حتى يدخل الجمل في ثقب الإبرة، والمعنى لا يدخلون الجنة حتى يكون ما لا يكون أبدا، فلا يدخلونها أبدا مِهادٌ فراش غَواشٍ أغطية لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها جملة اعتراض بين المبتدأ والخبر ليبين أن ما يطلب من الأعمال الصالحة ما في الوسع والطاقة وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ أي من كان في صدره غل لأخيه في الدنيا ننزعه منه في الجنة وصاروا إخوانا أحبابا، وإنما قال: نزعنا بلفظ الماضي وهو مستقبل لتحقق وقوعه في المستقبل، حتى عبر عنه بما يعبر عن الواقع، وكذلك كل ما جاء بعد هذا من الأفعال الماضية في اللفظ وهي تقع في الآخرة كقوله: نادى أصحاب الجنة، ونادى أصحاب الأعراف، ونادى أصحاب النار، وغير ذلك هَدانا لِهذا إشارة إلى الجنة أو إلى ما أوجب من الإيمان والتقوى أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ وأن قد وجدنا، وأن لعنة، وأن سلام: يحتمل أن يكون أن في كل واحدة منها مخففة من الثقيلة، فيكون فيها ضميرا أو حرف عبارة وتفسير لمعنى القول ما وَعَدَنا رَبُّنا حَقًّا حذف مفعول وعد استغناء عنه بمفعول وعدنا أو لإطلاق الوعد فيتناول الثواب والعقاب

[سورة الأعراف (7) : الآيات 52 إلى 56]

فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أي أعلم معلم وهو ملك وَبَيْنَهُما حِجابٌ أي بين الجنة والنار أو بين أصحابهما وهو أرجح لقوله: فضرب بينهم بسور الْأَعْرافِ. قال ابن عباس: هو تل بين الجنة والنار، وقيل: سور الجنة رِجالٌ هم أصحاب الأعراف ورد في الحديث: أنهم قوم من بني آدم استوت حسناتهم وسيئاتهم، فلم يدخلوا الجنة ولا النار، وقيل: هم قوم خرجوا إلى الجهاد بغير إذن آبائهم، فاستشهدوا، فمنعوا من الجنة لعصيان آبائهم، ونجوا من النار للشهادة «1» يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيماهُمْ أي يعرفون أهل الجنة بعلامتهم من بياض وجوههم، ويعرفون أهل النار بعلامتهم من سواد وجوههم، أو غير ذلك من العلامات وَنادَوْا أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ أي سلام أصحاب الأعراف على أهل الجنة لَمْ يَدْخُلُوها وَهُمْ يَطْمَعُونَ أي أن أصحاب الأعراف لم يدخلوا الجنة وهم يطمعون في دخولها من بعد وَإِذا صُرِفَتْ أَبْصارُهُمْ الضمير لأصحاب الأعراف أي إذا رأوا أصحاب النار دعوا الله أن لا يجعلهم معهم وَنادى أَصْحابُ الْأَعْرافِ رِجالًا يعني من الكفار الذين في النار، قالوا لهم ذلك على وجه التوبيخ جَمْعُكُمْ يحتمل أن يكون أراد جمعهم للمال أو كثرتهم وَما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ أي استكباركم على النار أو استكباركم على الرجوع إلى الحق، فما ها هنا مصدرية وما في قوله «ما أغنى» استفهامية أو نافية أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ من كلام أصحاب الأعراف خطابا لأهل النار والإشارة بهؤلاء إلى أهل الجنة، وذلك أن الكفار كانوا في الدنيا يقسمون أن الله لا يرحم المؤمنين، ولا يعبأ بهم فظهر خلاف ما قالوا، وقيل: هي من كلام الملائكة خطابا لأهل النار، والإشارة بهؤلاء إلى أصحاب الأعراف ادْخُلُوا الْجَنَّةَ خطابا لأهل الجنة إن كان من كلام أصحاب الأعراف تقديره: قد قيل لهم ادخلوا الجنة، أو خطابا لأهل الأعراف إن كان من كلام الملائكة أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ دليل على أنّ الجنة فوق النار أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ من سائر الأطعمة والأشربة فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ أي نتركهم كَما نَسُوا الكاف للتعليل وَما كانُوا عطف على كما نسوا: أي لنسيانهم وجحودهم جِئْناهُمْ بِكِتابٍ

_ (1) . روى الطبري بإسناده عدة روايات حول أصحاب الأعراف فانظره إن شئت.

يعني القرآن فَصَّلْناهُ عَلى عِلْمٍ أي علمنا كيف نفصله إِلَّا تَأْوِيلَهُ أي هل ينتظرون إلا عاقبة أمره، وما يؤول إليه أمره بظهور ما نطق به من الوعد والوعيد قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ أي قد تبين وظهر الآن أنّ الرسل جاءوا بالحق. اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ حيث وقع حمله قوم على ظاهره منهم ابن أبي زيد وغيره، وتأوّله قوم بمعنى: قصد كقوله: ثم استوى إلى السماء، ولو كان كذلك لقال: ثم استوى إلى العرش، وتأوّلها الأشعرية أنّ معنى استوى استولى بالملك والقدرة، و [القول] الحق: الإيمان به من غير تكييف، فإنّ السلامة في التسليم، ولله در مالك بن أنس في قوله للذي سأله عن ذلك: الاستواء معلوم والكيفية مجهولة والسؤال عن هذا بدعة، وقد روي مثل قول مالك عن أبي حنيفة، وجعفر الصادق، والحسن البصري، ولم يتكلم الصحابة ولا التابعون في معنى الاستواء، بل أمسكوا عنه ولذلك قال مالك السؤال عنه بدعة يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ أي يلحق الليل بالنهار، ويحتمل الوجهين، هكذا قال الزمخشري، وأصل اللفظة من الغشاء، أي يجعل أحدهم غشاء للآخر يغطيه فتغطي ظلمة الليل ضوء النهار يَطْلُبُهُ حَثِيثاً أي سريعا، والجملة في موضع الحال من الليل أي طلب الليل النهار فيدركه أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ قيل: الخلق المخلوقات، والأمر مصدر أمر يأمر، وقيل: الخلق مصدر خلق، والأمر واحد الأمور: كقوله: إلى الله تصير الأمور، والكل صحيح تَبارَكَ من البركة، وهو فعل غير منصرف لم تنطق له العرب بمضارع تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً مصدر في موضع الحال وكذلك خوفا وطمعا، وخفية من الإخفاء، وقرئ خيفة من الخوف الْمُعْتَدِينَ المجاوزين للحد، وقيل هنا هو رفع الصوت بالدعاء والتشطط فيه وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً جمع الله الخوف والطمع ليكون العبد خائفا راجيا، كما قال الله تعالى: يَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخافُونَ عَذابَهُ [الإسراء: 57] فإن موجب الخوف معرفة سطوة الله وشدّة عقابه، وموجب الرجاء معرفة رحمة الله وعظيم ثوابه، قال تعالى: نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ، وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ [الحجر: 49- 50] «1» ومن عرف فضل الله رجاه، ومن عرف عذابه خافه، ولذلك جاء في الحديث، لو وزن خوف المؤمن

_ (1) . قال العجلوني عنه في كشف الخفاء: مأثور من كلام السلف ومعناه صحيح وقال السيوطي أخرجه عبد الله بن أحمد في زوائد المسند.

[سورة الأعراف (7) : آية 57]

ورجاؤه لاعتدلا إلا أنه يستحب أن يكون العبد طول عمره يغلب عليه الخوف ليقوده إلى فعل الطاعات وترك السيئات وأن يغلب عليه الرجاء عند حضور الموت لقوله صلّى الله عليه وسلّم «لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله تعالى» «1» .. واعلم أن الخوف على ثلاث درجات: الأولى أن يكون ضعيفا يخطر على القلب ولا يؤثر في الباطن ولا في الظاهر، فوجود هذا كالعدم والثانية أن يكون قويا فيوقظ العبد من الغفلة ويحمله على الاستقامة، والثالثة أن يشتد حتى يبلغ إلى القنوط واليأس وهذا لا يجوز، وخير الأمور أوسطها، والناس في الخوف على ثلاث مقامات: فخوف العامة من الذنوب، وخوف الخاصة من الخاتمة، وخوف خاصة الخاصة من السابقة، فإن الخاتمة مبنية عليها، والرجاء على ثلاث درجات: الأولى رجاء رحمة الله مع التسبب فيها بفعل طاعة وترك معصية فهذا هو الرجاء المحمود والثانية الرجاء مع التفريط والعصيان فهذا غرور، والثالثة أن يقوى الرجاء حتى يبلغ الأمن، فهذا حرام، والناس في الرجاء على ثلاث مقامات: فمقام العامة رجاء ثواب الله، ومقام الخاصة رضوان الله، ومقام خاصة الخاصة رجاء لقاء الله حبا فيه وشوقا إليه إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ حذفت تاء التأنيث من قريب وهو خبر عن الرحمة على تأويل الرحمة: بالرحم أو الترحم أو العفو، أو لأن تأنيث الرحمة غير حقيقي، أو لأنه صفة موصوف محذوف وتقديره شيء قريب، أو على تقدير النسب أي ذات قرب، وقيل: قريب هنا ليس خبر عن الرحمة وإنما هو ظرف لها الرِّياحَ بُشْراً قرئ الرياح بالجمع لأنها رياح المطر، وقد اضطرد في القرآن جمعها إذا كانت للرحمة، وإفرادها إذا كانت للعذاب، ومنه ورد في الحديث «اللهم اجعلها رياحا ولا تجعلها ريحا» «2» وقرئ بالإفراد، والمراد الجنس وقرئ نشرا بفتح النون وإسكان الشين، وهو على هذا مصدر في موضع الحال، وقرئ بضمها وهو جمع نشر، وقيل: جمع منشور، وقرئ بضم النون وإسكان الشين نشر وهو تخفيف من الضم: كرسل ورسل، وقرئ بالباء «3» في موضع النون وهو من البشارة بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أي قبل المطر أَقَلَّتْ حملت سَحاباً ثِقالًا لأنها تحمل الماء فتثقل به سُقْناهُ الضمير للسحاب لِبَلَدٍ مَيِّتٍ يعني: لا نبات فيه من شدّة القحط، وكذلك معناه حيث وقع فَأَنْزَلْنا بِهِ الْماءَ الضمير للسحاب أو البلد، على أن تكون الباء ظرفية كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتى تمثيل لإخراج الموتى من القبور، وبإخراج الزرع من الأرض، وقد وقع ذلك في القرآن في

_ (1) . رواه أحمد من حديث جابر ج 3 ص 372. (2) . عزاه الإمام النووي في الأذكار للإمام الشافعي في كتابه الأم بسنده إلى ابن عباس. (3) . وهي قراءة عاصم وقرأ نافع وغيره نشرا وقرأ غيرهم: نشرا.

[سورة الأعراف (7) : الآيات 58 إلى 68]

مواضع منها: كذلك النشور، وكذلك الخروج وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ هو الكريم من الأرض الجيد التراب وَالَّذِي خَبُثَ بخلاف ذلك كالسبخة ونحوها بِإِذْنِ رَبِّهِ عبارة عن السهولة والطيب، والنكد بخلاف ذلك، فيحتمل أن يكون المراد ما يقتضيه ظاهر اللفظ فتكون متممة للمعنى الذي قبلها في المطر، أو تكون تمثيلا للقلوب، فقيل: على هذا الطيب: قلب المؤمن، والخبيث: قلب الكافر. وقيل: هما للفهيم والبليد مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قرأ الكسائي غيره بالخفض حيث وقع على اللفظ، وقرأ غيره بالرفع على الموضع عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ يعني يوم القيامة أو يوم هلاكهم الْمَلَأُ أشراف الناس لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ إنما قال ضلالة ولم يقل ضلال، لأن الضلالة أخص من الضلال، كما إذا قيل لك عندك تمر، فتقول ما عندي تمرة فتعم بالنفي أُبَلِّغُكُمْ قرئ بالتشديد والتخفيف «1» ، والمعنى واحد، وهو في وضع رفع صفة لرسول أو استئناف أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ أي من صفاته ورحمته وعذابه أَوَعَجِبْتُمْ الهمزة للإنكار، والواو للعطف، والمعطوف عليه محذوف، كأنه قال: أكذبتم وعجبتم من أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم: أي على لسان رجل منكم فِي الْفُلْكِ متعلق بمعه والتقدير: استقروا معه في الفلك، ويحتمل أن يتعلق بأنجيناه عَمِينَ جمع أعمى وهو من عمى القلب أَخاهُمْ أي واحد من قبيلتهم، وهو عطف على نوحا، وهودا بدل منه أو عطف بيان، وكذلك أخاهم صالحا وما بعده، وما هو مثله حيث وقع الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا قيّد هنا بالكفر لأن في الملأ من قوم هود من آمن وهو مرثد بن سعيد، بخلاف قوم نوح، فإنهم لم يكن فيهم مؤمن، فأطلق لفظ الملأ أَمِينٌ يحتمل أن يريد أمانته على الوحي أو أنهم قد كانوا عرفوه بالأمانة والصدق خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ أي خلفتموهم في الأرض أو جعلكم ملوكا وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً كانوا

_ (1) . قرأ أبو عمرو وحده بالتخفيف: أبلغكم.

[سورة الأعراف (7) : الآيات 75 إلى 85]

عظام الأجسام فكان أقصرهم ستون ذراعا، وأطولهم مائة ذراع آلاءَ اللَّهِ نعمه حيث وقع قالُوا أَجِئْتَنا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ استبعدوا توحيد الله مع اعترافهم بربوبيته، ولذلك قال لهم هود: قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ أي حقّ عليكم ووجب عذاب من ربكم وغضب أَتُجادِلُونَنِي فِي أَسْماءٍ سَمَّيْتُمُوها يعني الأصنام: أي تجادلونني في عبادة مسميات أسماء، ففي الكلام حذف، وأراد بقوله: سميتموها أنتم وآباؤكم جعلتم لها أسماء، فدل ذلك على أنها محدثة، فلا يصح أن تكون آلهة، أو سميتموها آلهة من غير دليل على أنها آلهة، فقولكم باطل فالجدال على القول الأول في عبادتها، وعلى القول الثاني في تسميتها آلهة، والمراد بالأسماء على القول الأول: المسمى، وعلى القول الثاني: التسمية دابِرَ ذكر في [الأنعام: 45] بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ أي آية ظاهرة وهي الناقة، وأضيفت إلى الله تشريفا لها، أو لأنه خلقها من غير فحل، وكانوا قد اقترحوا على صالح عليه السلام أن يخرجها لهم من صخرة، وعاهدوه أن يؤمنوا به إن فعل ذلك، فانشقت الصخرة وخرجت منها الناقة وهم ينظرون، ثم نتجت ولدا فآمن به قوم منهم وكفر به آخرون لَكُمْ آيَةً أي معجزة تدل على صحة نبوة صالح، والمجرور في موضع الحال من آية، لأنه لو تأخر لكان صفة وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ أي لا تضربوها ولا تطردوها وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ كانت أرضهم بين الشام والحجاز وقد دخلها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه، فقال لهم عليه الصلاة والسلام: «لا تدخلوا على هؤلاء المعذبين إلا وأنتم باكون» «1» ، مخافة أن يصيبكم مثل الذي أصابهم تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِها قُصُوراً أي تبنون قصورا في الأرض البسيطة وَتَنْحِتُونَ الْجِبالَ بُيُوتاً أي تتخذون بيوتا في الجبال، وكانوا يسكنون القصور في الصيف، والجبال في الشتاء، وانتصب بيوتا على الحال وهو كقولك: خطت هذا الثوب قميصا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ

_ (1) . رواه أحمد عن ابن عمر ج 2 ص 14.

[سورة الأعراف (7) : الآيات 86 إلى 92]

بدل من الذين استضعفوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كافِرُونَ إنما لم يقولوا إنا بما أرسل به كما قال الآخرون لئلا يكون اعترافا برسالته فَعَقَرُوا النَّاقَةَ نسب العقر إلى جميعهم لأنهم رضوا به، وإن لم يفعله إلا واحد منهم وهو الأحيمر الرَّجْفَةُ الصيحة حيث وقعت، وذلك أن الله أمر جبريل فصاح صيحة بين السماء والأرض فماتوا منها جاثِمِينَ حيث وقع أي قاعدين لا يتحركون فَتَوَلَّى عَنْهُمْ الآية: يحتمل أن يكون توليه عنهم وقوله لهم حين عقروا الناقة قبل نزول العذاب بهم، لأنه روي أنه خرج حينئذ من بين أظهرهم، أو أن يكون ذلك بعد أن هلكوا، وهو ظاهر الآية، وعلى هذا خاطبهم بعد موتهم على وجه التفجع عليهم، وقوله: لا تحبون الناصحين: حكاية حال ماضية إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ العامل في إذ أرسلنا المضمر، أو يكون بدلا من لوط ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ أي لم يفعلها أحد من العالمين قبلكم، ومن الأولى زائدة، والثانية للتبعيض أو للجنس وَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ الآية: أي أنهم عدلوا عن جوابه على كلامه إلى الأمر بإخراجه وإخراج أهله أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ أي يتنزهون عن الفاحشة مِنَ الْغابِرِينَ أي من الهالكين، وقيل: من الذين غبروا في ديارهم فهلكوا، أو من الباقين من أترابها يقال غبر بمعنى مضى، وبمعنى بقي، وإنما قال: من الغابرين بجمع المذكر تغليبا للرجال الغابرين وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً يعني الحجارة أصيب بها من كان منهم خارجا عن بلادهم، وقلبت البلاد بمن كان فيها بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ أي آية ظاهرة، ولم تعين في القرآن آية شعيب فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ كانوا ينقصون في الكيل والوزن، فبعث شعيب ينهاهم عن ذلك، والكيل هنا بمعنى المكيال الذي يكال به مناسبة للميزان، كما جاء في هود المكيال والميزان، ويجوز أن يكون الكيل والميزان مصدرين وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ تُوعِدُونَ قيل هو نهي عن السلب وقطع الطريق، وكان ذلك من فعلهم وكانوا يقعدون على الطريق يردّون الناس عن اتباع شعيب

ويوعدونهم إن اتبعوه وَتَصُدُّونَ أي تمنعون الناس عن سبيل الله وهو الإيمان، والضمير في به للصراط أو لله تَبْغُونَها عِوَجاً ذكر في [آل عمران: 99] أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا أي ليكونن أحد الأمرين: إما إخراجهم، أو عودهم إلى ملة الكفر، فإن قيل: إن العود إلى الشيء يقتضي أنه قد كان فعل قبل ذلك فيقتضي قولهم: لتعودن في ملتنا أن شعيبا ومن كان معه كانوا أولا على ملة قومهم، ثم خرجوا منها فطلب قومهم أن يعودوا إليها وذلك محال، فإن الأنبياء معصومون من الكفر قبل النبوة وبعدها فالجواب من وجهين: أحدهما قاله ابن عطية وهو أن عاد قد تكون بمعنى صار، فلا يقتضي تقدم ذلك الحال الذي صار إليه، والثاني: قاله الزمخشري وهو أن المراد بذلك الذين آمنوا بشعيب دون شعيب، وإنما أدخلوه في الخطاب معهم بذلك كما أدخلوه في الخطاب معهم في قولهم: لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك، فغلبوا في الخطاب بالعود الجماعة على الواحد، وبمثل ذلك يجاب عن قوله: إن عدنا في ملتكم، وما يكون لنا أن نعود فيها قالَ أَوَلَوْ كُنَّا كارِهِينَ الهمزة للاستفهام والإنكار، والواو للحال، تقديره: أنعود في ملتكم ويكون لنا أن نعود فيها ونحن كارهون قَدِ افْتَرَيْنا عَلَى اللَّهِ كَذِباً إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ أي إن عندنا فيها فقد وقعنا في أمر عظيم من الافتراء على الله، وذلك تبرأ من العود فيها وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّنا هذا استسلام لقضاء الله على وجه التأدب مع الله وإسناد الأمور إليه، وذلك أنه لما تبرأ من ملتهم: أخبر أن الله يحكم عليهم بما يشاء من عود وتركه فإن القلوب بيده يقلبها كيف يشاء، فإن قلت: إن ذلك يصح في حق قومه، وأما في حق نفسه فلا فإنه معصوم من الكفر؟ فالجواب: أنه قال ذلك تواضعا وتأدبا مع الله تعالى، واستسلاما لأمره كقول نبينا صلّى الله عليه وسلّم «يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك» «1» مع أنه قد علم أنه يثبته رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا أي احكم كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أي كأن لم يقيموا في ديارهم

_ (1) . رواه أحمد عن أنس ج 3 ص 141. [.....]

[سورة الأعراف (7) : الآيات 93 إلى 104]

فَكَيْفَ آسى عَلى قَوْمٍ كافِرِينَ أي كيف أحزن عليهم وقد استحقوا ما أصابهم من العذاب بكفرهم بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ قد تقدم بَدَّلْنا مَكانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ أي أبدلنا البأساء والضراء بالنعيم اختبارا لهم في الحالتين حَتَّى عَفَوْا أي كثروا ونموا في أنفسهم وأموالهم قالُوا قَدْ مَسَّ آباءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ أي قد جرى ذلك لآبائنا ولم يضرهم فهو بالاتفاق لا بقصد الاختبار بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أي بالمطر والزرع أَوَأَمِنَ من قرأ بإسكان الواو «1» فهي أو العاطفة، ومن قرأ بفتحها فهي واو العطف دخلت عليها همزة التوبيخ كما دخلت على الفاء في قوله أفأمنوا مكر الله: أي استدراجه وأخذه للعبد من حيث لا يشعر أَوَلَمْ يَهْدِ أي أو لم يتبين لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ أي يسكنونها أَنْ لَوْ نَشاءُ هو فاعل أو لم يهد، ومقصود الآية الوعيد وَنَطْبَعُ عَلى قُلُوبِهِمْ عطف على أصبناهم لأنه في معنى المستقبل، أو منقطع على معنى الوعيد وأجاز الزمخشري أن يكون عطفا على يرثون الأرض أو على ما دل عليه معنى أو لم يهد كأنه قال يغفلون عن الهداية ونطبع على قلوبهم وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ الضمير لأهل القرى والمعنى وجدناهم ناقضين للعهود حَقِيقٌ عَلى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ من قرأ عليّ بالتشديد «2» على أنها ياء المتكلم فالمعنى ظاهر، وهو أن موسى قال حقيق عليه أن لا يقول على الله إلا الحق، وموضع أن لا أقول على هذا رفع، على أنه خبر حقيق، وحقيق مبتدأ أو بالعكس ومن قرأ على

_ (1) . هي قراءة نافع وابن كثير وابن عامر وقرأ الباقون: أو: بفتحتين. (2) . هي قراءة نافع وقرأ الباقون: على بالتخفيف.

[سورة الأعراف (7) : الآيات 113 إلى 129]

بالتخفيف فموضع أن لا أقول خفض بحرف الجر، وحقيق صفة لرسول، وفي المعنى على هذا وجهان، أحدهما أن على بمعنى الباء فمعنى الكلام: رسول حقيق بأن لا أقول على الله إلا الحق، والثاني أن معنى حقيق حريص ولذلك تعدّى بعلى قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أي بمعجزة تدل على صدقي وهي العصا أو جنس المعجزات فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرائِيلَ أي خلهم يذهبوا معي إلى الأرض المقدسة موطن آبائهم، وذلك أنه لما توفي يوسف عليه السلام غلب فرعون على بني إسرائيل واستعبدهم حتى أنقذهم الله على يد موسى، وكان بين اليوم الذي دخل فيه يوسف مصر واليوم الذي دخله موسى أربعمائة عام وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ وكان موسى عليه السلام شديد الأدمة [السواد] فأظهر يده لفرعون ثم أدخلها في جيبه، ثم أخرجها وهي بيضاء شديدة البياض كاللبن أو أشدّ بياضا، وقيل: إنها كانت منيرة شفافة كالشمس، وكانت ترجع بعد ذلك إلى لون بدنه لِلنَّاظِرِينَ مبالغة في وصف يده بالبياض، وكان الناس يجتمعون للنظر إليها، والتعجب منها قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ حكى هذا الكلام هنا عن الملأ وفي الشعراء عن فرعون، كأنه قاله هو وهم، أو قاله هو ووافقوه عليه، كعادة جلساء الملوك في اتباعهم لما يقول الملك يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ أي يخرجكم منها بالقتال أو بالحيل، وقيل: المراد إخراج بني إسرائيل، وكانوا خدّاما لهم فتخرب الأرض بخروج الخدام والعمار منها فَماذا تَأْمُرُونَ من قول الملأ أو من قول فرعون، وهو من معنى المؤامرة أي المشاورة، أو من الأمر وهو ضدّ النهي أَرْجِهْ من قرأه بالهمزة «1» فهو من أرجأت الرجل إذا أخرته، فمعناه أخرهما حتى ننظر في أمرهما، وقيل: المراد بالإرجاء هنا السجن، ومن قرأ بغير همز فتحتمل أن تكون بمعنى المهموز وسهلت الهمزة، أو يكون بمعنى الرجاء أي أطعمه، وأما ضم الهاء وكسرها فلغتان، وأما إسكانها فلعله أجرى فيها الوصل مجرى الوقف حاشِرِينَ يعني الشرطة أي جامعين للسحرة وَجاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قيل: هنا محذوف يدل عليه سياق الكلام وهو أنه بعث إلى السحرة إِنَّ لَنا لَأَجْراً من قرأه بهمزتين أإن فهو استفهام ومن قرأه بهمزة واحدة فيحتمل أن يكون خبرا أو استفهاما حذفت منه الهمزة، والأجر هنا: الأجرة، طلبوها من فرعون إن غلبوا موسى، فأنعم [أقرّ] لهم فرعون بها

_ (1) . قرأ ابن كثير وهشام عن ابن عامر: (أرجئه) وقرأ نافع والكسائي: أرجهي وقرأ عاصم وحمزة: أرجه. راجع الحجة لأبي زرعة ص 290.

وزادهم التقريب منه والجاه عنده وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ عطف على معنى نعم كأنه قال نعطيكم أجرا ونقربكم، واختلف في عدد السحرة اختلافا متباينا من سبعين رجلا إلى سبعين ألفا وكل ذلك لا أصل له في صحة النقل إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ خيّروا موسى بين أن يبدأ بالإلقاء أو يبدءوا هم بإلقاء سحرهم، فأمرهم أن يلقوا، وانظر كيف عبروا عن إلقاء موسى بالفعل، وعن إلقاء أنفسهم بالجملة الاسمية، إشارة إلى أنهم أهل الإلقاء المتمكنون فيه وَاسْتَرْهَبُوهُمْ أي خوّفوهم بما أظهروا لهم من أعمال السحر أَنْ أَلْقِ عَصاكَ لما ألقاها صارت ثعبانا عظيما على قدر الحبل وقيل: إنه طال حتى جاوز الفيل تَلْقَفُ أي تبتلع ما يَأْفِكُونَ أي ما صوروا من إفكهم وكذبهم، وروي: أن الثعبان أكل ملء الوادي من حبالهم وعصيهم ومدّ موسى يده إليه فصار عصا كما كان، فعلم السحرة أن ذلك ليس من السحر، وليس في قدرة البشر، فآمنوا بالله وبموسى عليه السلام لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ الآية: وعيد من فرعون للسحرة، وليس في القرآن أنه أنفذ ذلك، لكن روى أنه أنفذه عن ابن عباس وغيره، وقد ذكر معنى من خلاف في العقود [المائدة: 36] قالُوا إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ أي لا نبالي بالموت لانقلابنا إلى ربنا وَما تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا أي ما تعيب منا إلا إيماننا لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ أي يخربوا ملك فرعون وقومه ويخالفوا دينه وَيَذَرَكَ معطوف على ليفسدوا، أو منصوب بإضمار أن بعد الواو وَآلِهَتَكَ قيل: إن فرعون كان قد جعل للناس أصناما يعبدونها، وجعل نفسه الإله الأكبر فلذلك قال: أنا ربكم الأعلى [النازعات: 24] ، فآلهتك على هذا هي تلك الأصنام، وقرأ عليّ بن أبي طالب وابن مسعود وابن عباس وإلهتك: أي عبادتك والتذلل لك إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ تعليل للصبر ولذا أمرهم به يعني أرض الدنيا هنا وفي قوله: وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ وقيل: يعني أرض فرعون، فأشار لهم موسى أولا بالنصر في قوله: يورثها من

[سورة الأعراف (7) : الآيات 130 إلى 136]

يشاء من عباده، ثم صرح في قوله: عسى ربكم الآية فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ حض على الاستقامة والطاعة. بالسنين: أي الجدب والقحط فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ الآية: إذا جاءهم الخصب والرخاء قالوا: هذه لنا وبسعدنا، ونحن مستحقون له وإذا جاءهم الجدب والشدة تطيروا بموسى: أي قالوا هذه بشؤمه، فإن قيل: لم قال إذا جاءتهم الحسنة بإذا وتعريف الحسنة وإن تصبهم سيئة بإن وتنكير السيئة؟ فالجواب: أن وقوع الحسنة كثير، والسيئة وقوعها نادر فعرف الكثير الوقوع باللام التي للعهد، وذكره بإذا لأنها تقتضي التحقيق وذكر السيئة بإن لأنها تقتضي الشك ونكرها للتعليل أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ أي إنما حظهم ونصيبهم الذي قدر لهم من الخير والشر عند الله، وهو مأخوذ من زجر الطير، ثم سمي به ما يصيب الإنسان. ومقصود الآية الرد عليهم فيما نسبوا إلى موسى من الشؤم. مهما هي ما الشرطية ضمت إليها ما الزائدة نحو أينما، ثم قلبت الألف هاء، وقيل: هي اسم بسيط غير مركب. والضمير في به يعود على مهما، وإنما قالوا: من آية على تسمية موسى لها آية، أو على وجه التهكم فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ روي أنه كان مطرا شديدا دائما مع فيض النيل حتى هدم بيوتهم، وكادوا يهلكون وامتنعوا من الزراعة وقيل هو الطاعون وَالْجَرادَ هو المعروف أكل زروعهم وثمارهم حتى أكل ثيابهم وأبوابهم وسقف بيوتهم وَالْقُمَّلَ قيل هي صغار الجراد، وقيل: البراغيث، وقيل: السوس، وقرئ القمل بفتح القاف والتخفيف، فهي على هذا القمل المعروف، وكانت تتعلق بلحومهم وشعورهم وَالضَّفادِعَ هي المعروفة كثرت عندهم حتى امتلأت بها فرشهم وأوانيهم وإذا تكلم أحدهم وثبت الضفدع إلى فمه وَالدَّمَ صارت مياههم دما فكان يستسقي من البئر القبطي والإسرائيلي في إناء واحد فيخرج ما يلي القبطي دما، وما يلي الإسرائيلي ماء وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ أي العذاب وهي الأشياء المتقدمة وكانوا مهما نزل بهم أمر منها عاهدوا موسى على أن يؤمنوا به إن كشفه عنهم، فلما كشفه عنهم نقضوا العهد وتمادوا على كفرهم بِما عَهِدَ عِنْدَكَ بدعائك إليه ووسائلك، والباء تحتمل أن تكون للقسم وجوابه لنؤمنن لك أو يتعلق بادع لنا أي توسل إليه بما عندك فِي الْيَمِّ البحر حيث وقع الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ هم بنو

[سورة الأعراف (7) : الآيات 143 إلى 145]

إسرائيل مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا الشام ومصر بارَكْنا فِيها أي بالخصب وكثرة الأرزاق وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أي تمت لهم واستقرت، والكلمة هنا ما قضى لهم في الأزل، وقيل هي قوله: ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض وَما كانُوا يَعْرِشُونَ أي يبنون، وقيل: هي الكروم وشبهها فهو على الأوّل من العرش وعلى الثاني من العريش قالُوا يا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً أي اجعل لنا صنما نعبده كما يعبد هؤلاء أصنامهم ولما تم خبر موسى مع فرعون ابتدأ خبره مع بني إسرائيل من هنا إلى قوله وإذ نتقنا الجبل مُتَبَّرٌ من التبار وهو الهلاك وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ وما بعده مذكور في [البقرة: 47] . وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً روي أن الثلاثين هي شهر ذي القعدة والعشر بعدها هي العشر الأول من ذي الحجة، وذلك تفصيل الأربعين المذكورة في البقرة مِيقاتُ رَبِّهِ أي ما وقت له من الوقت لمناجاته في الطور اخْلُفْنِي أي كن خليفتي على بني إسرائيل مدة مغيبي قالَ رَبِّ أَرِنِي لما سمع موسى كلام الله طمع في رؤيته، فسألها كما قال الشاعر: وأفرح ما يكون الشوق يوما ... إذا دنت الديار من الديار واستدلت الأشعرية بذلك على أن رؤية الله جائزة عقلا، وأنها لو كانت محالا لم يسألها موسى، فإن الأنبياء عليهم السلام يعلمون ما يجوز على الله وما يستحيل، وتأول الزمخشري طلب موسى للرؤية بوجهين: أحدهما أنه إنما سأل ذلك تبكيتا لمن خرج معه من بني إسرائيل الذين طلبوا الرؤية فقالوا أرنا الله جهرة فقال موسى ذلك ليسمعوا الجواب بالمنع فيتأولوا، والآخر أن معنى أرني أنظر إليك: عرفني نفسك تعريفا واضحا جليا وكلا الوجهين بعيد، والثاني أبعد وأضعف، فإنه لو لم يكن المراد الرؤية لم يقل له انظر إلى الجبل الآية قالَ لَنْ تَرانِي قال مجاهد وغيره: إن الله قال لموسى لن تراني، لأنك لا تطيق ذلك، ولكن سأتجلى للجبل الذي هو أقوى منك وأشدّ، فإن استقر وأطاق الصبر لهيبتي أمكن أن تراني أنت، وإن لم يطق الجبل فأحرى ألا تطيق أنت، فعلى هذا إنما جعل

الله الجبل مثالا لموسى، وقال قوم: المعنى سأتجلى لك على الجبل وهذا ضعيف يبطله قوله: فلما تجلى ربه للجبل فإذا تقرر هذا، فقوله تعالى: لن تراني نفي للرؤية، وليس فيه دليل على أنها محال، فإنه إنما جعل علة النفي عدم إطاقة موسى الرؤية لا استحالتها، ولو كانت الرؤية مستحيلة، لكان في الجواب زجر وإغلاظ كما قال الله لنوح: فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ [هود: 46] ، فهذا المنع من رؤية الله إنما هو في الدنيا لضعف البنية البشرية عن ذلك، وأما في الآخرة، فقد صرح بوقوع الرؤية كتاب الله وسنة رسوله صلّى الله عليه وسلّم، فلا ينكرها إلا مبتدع، وبين أهل السنة والمعتزلة في مسألة الرؤية تنازع طويل، وفي هذه القصة قصص كثيرة تركتها لعدم صحتها، ولما فيه من الأقوال الفاسدة جَعَلَهُ دَكًّا أي مدكوكا فهو مصدر بمعنى مفعول كقولك: ضربت الأمير «1» ، والدك والدق: أخوان، وهو التفتت، وقرئ: دكاء بالمد والهمز «2» أي أرضا دكا وقيل ذهب أعلى الجبل وبقي أكثره، وقيل تفتت حتى صار غبارا، وقيل ساخ في الأرض وأفضى إلى البحر وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً أي مغشيا عليه تُبْتُ إِلَيْكَ معناه تبت من سؤال الرؤية في الدنيا وأنا لا أطيقها وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ أي أول قومه أو أهل زمانه، أو على وجه المبالغة في السبق إلى الإيمان اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وَبِكَلامِي هو عموم يراد به الخصوص، فإنّ جميع الرسل قد شاركوه في الرسالة، واختلف هل كلم الله غيره من الرسل أم لا، والصحيح: أنه كلم نبينا محمدا صلّى الله تعالى عليه واله وسلم ليلة الإسراء فَخُذْ ما آتَيْتُكَ تأديبا أي اقنع بما أعطيتك من رسالتي وكلامي ولا تطلب غير ذلك وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ أي ألواح التوراة وكانت سبعة، وقيل: عشرة وقيل: اثنان وقيل: كانت من زمردة وقيل: من ياقوت، وقيل: من خشب مِنْ كُلِّ شَيْءٍ عموم يراد به الخصوص فيما يحتاجون إليه في دينهم، وكذلك تفصيلا لكل شيء، وموضع كل شي نصب على أنه مفعول كتبنا، وموعظة بدل منه فَخُذْها بِقُوَّةٍ أي بجدّ وعزم، والضمير للتوراة يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها أي فيها ما هو حسن وأحسن منه كالقصاص مع العفو، وكذلك سائر المباحات مع المندوبات سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ أي دار فرعون وقومه وهو مصر، ومعنى أريكم كيف أقفرت منهم لما هلكوا، وقيل: منازل عاد وثمود ومن هلك من الأمم المتقدّمة ليعتبروا بها، وقيل: جهنم، وقرأ ابن عباس: سأورثكم بالثاء المثلثة من الوراثة، وهي على

_ (1) . قوله: «ضربت الأمير» ، لم يتضح لي مراده من هذا المثال. (2) . وهي قراءة حمزة والكسائي فقط.

[سورة الأعراف (7) : الآيات 146 إلى 149]

هذا مصدر لقوله وأورثناها بني إسرائيل سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ الآيات: يحتمل هنا أن يراد بها القرآن وغيره من الكتب أو العلامات والبراهين، والصرف يراد به حدّهم عن فهمها وعن الإيمان بها عقوبة لهم على تكبرهم، وقيل: الصرف منعهم من إبطالها وَلِقاءِ الْآخِرَةِ يجوز أن يكون من إضافة المصدر إلى المفعول به أي: ولقاؤهم الآخرة، أو من إضافة المصدر إلى الظرف وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى هم بنو إسرائيل مِنْ بَعْدِهِ أي من بعد غيبته في الطور مِنْ حُلِيِّهِمْ بضم الحاء والتشديد جمع حلى نحو ثدي وثدي، وقرئ «1» بكسر الحاء للإتباع، وقرئ بفتح الحاء وإسكان اللام، والحلي هو اسم ما يتزين به من الذهب والفضة جَسَداً أي جسما دون روح، وانتصابه على البدل لَهُ خُوارٌ الخوار هو: صوت البقر، وكان السامري قد قبض قبضة من تراب أثر فرس جبريل يوم قطع البحر، فقذفه في العجل فصار له خوار، وقيل: كان إبليس يدخل في جوف العجل فيصيح فيه فيسمع له خوار أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ ردّ عليهم، وإبطال لمذهبهم الفاسد في عبادته اتَّخَذُوهُ أي اتخذوه إلها، فحذف المفعول الثاني للعلم به، وكذلك حذف من قوله: واتخذ قوم موسى سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ أي ندموا يقال: سقط في يد فلان إذا عجز عما يريد أو وقع فيما يكره أَسِفاً شديد الحزن على ما فعلوه، وقيل: شديد الغضب كقوله: فَلَمَّا آسَفُونا [الزخرف: 55] بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي أي قمتم مقامي، وفاعل بئس مضمر يفسره ما واسم المذموم محذوف، والمخاطب بذلك إما القوم الذين عبدوا العجل مع السامري حيث عبدوا غير الله في غيبة موسى عنهم، أو رؤساء بني إسرائيل كهارون عليه السلام، حيث لم يكفوا الذين عبدوا العجل أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ معناه: أعجلتم عن أمر ربكم، وهو انتظار موسى حتى يرجع من الطور، فإنهم لما رأوا أنّ الأمر قد تم ظنوا أن موسى عليه السلام قد مات فعبدوا العجل وَأَلْقَى الْأَلْواحَ طرحها لما لحقه من الدهش والضجر غضبا لله من عبادة العجل وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ أي شعر رأسه يَجُرُّهُ إِلَيْهِ لأنه ظن أنه فرّط في كف الذين عبدوا العجل ابْنَ أُمَّ كان هارون شقيق

_ (1) . وهي قراءة حمزة والكسائي. وقرأ الباقون بالضم.

موسى، وإنما دعاه بأمّه، لأنه أدعى إلى العطف والحنوّ، وقرئ ابن أم بالكسر «1» على الإضافة إلى ياء المتكلم، وحذفت الياء بالفتح تشبيها بخمسة عشر جعل الاسمان اسما واحدا فبنى وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ أي: لا تظن أني منهم أو لا تجد عليّ في نفسك ما تجد عليهم يعني أصحاب العجل غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ أي: غضب في الآخرة وذلة في الدنيا وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أي سكن، وكذلك قرأ بعضهم، وقال الزمخشري: قوله سكت مثل كأنّ الغضب كان يقول له ألق الألواح وجرّ برأس أخيك، ثم سكت عن ذلك وَفِي نُسْخَتِها أي فيما ينسخ منها، والنسخة فعلة بمعنى مفعول لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ أي يخافون، ودخلت اللام لتقدّم المفعول كقوله: لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ [يوسف: 43] ، وقال المبرّد: تتعلق بمصدر تقديره رهبتهم لربهم وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ أي من قومه سَبْعِينَ رَجُلًا حملهم معه إلى الطور يسمعون كلام الله لموسى فقالوا: أرنا الله جهرة فأخذتهم الرجفة عقابا لهم على قولهم، وقيل: إنما أخذتهم الرجفة لعبادتهم العجل أو لسكوتهم على عبادته، والأوّل أرجح لقوله فقالوا أرنا الله جهرة فأخذتهم الصاعقة بظلمهم، ويحتمل أن تكون رجفة موت أو إغماء، والأول أظهر لقوله: ثم بعثناكم من بعد موتكم لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ يحتمل أن تكون لو هنا للتمني أي تمنوا أن يكون هو وهم قد ماتوا قبل ذلك، لأنه خاف من تشغيب بني إسرائيل عليه إن رجع إليهم دون هؤلاء السبعين، ويحتمل أن يكون قال ذلك على وجه التضرع والاستسلام لأمر الله كأنه قال: لو شئت أن تهلكنا قبل ذلك لفعلت فإنا عبيدك وتحت قهرك، وأنت تفعل ما تشاء، ويحتمل أن يكون قالها على وجه التضرع والرغبة كأنه قال: لو شئت أن تهلكنا قبل اليوم لفعلت، ولكنك عافيتنا وأبقيتنا فافعل معنا الآن ما وعدتنا، وأحي هؤلاء القوم الذين أخذتهم الرجفة أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا أي أتهلكنا وتهلك سائر بني إسرائيل بما فعل السفهاء الذين طلبوا الرؤية، والذين عبدوا العجل، فمعنى هذا إدلاء بحجته، وتبرؤ من فعل السفهاء، ورغبة إلى الله أن لا يعم الجميع بالعقوبة إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ أي الأمور كلها بيدك

_ (1) . هي قراءة أهل الشام والكوفة وقرأ بالفتح: نافع وابن كثير وأبو عمرو وحفص.

[سورة الأعراف (7) : آية 156]

تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشاءُ ومعنى هذا: اعتذار عن فعل السفهاء، فإنه كان بقضاء الله ومشيئته إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ أي تبنا، وهذا الكلام الذي قاله موسى عليه السلام إنما هو: استعطاف ورغبة إلى الله وتضرع إليه، ولا يقتضي شيئا مما توهم الجهال فيه من الجفاء في قوله: أتهلكنا بما فعل السفهاء منا لأنا قد بينا أنه إنما قال ذلك استعطافا لله وبراءة من فعل السفهاء قالَ عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ قيل: الإشارة بذلك إلى الذين أخذتهم الرجفة، والصحيح أنه عموم يندرجون فيه مع غيرهم، وقرئ من أساء. بالسين وفتح الهمزة من الإساءة وأنكرها بعض المقرئين وقال: إنها تصحيف وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ يحتمل أن يريد رحمته في الدنيا فيكون خصوصا في الرحمة، وعموما في كل شيء لأنّ المؤمن والكافر، والمطيع والعاصي: تنالهم رحمة الله ونعمته في الدنيا، ويحتمل أن يريد رحمة الآخرة فيكون خصوصا في كل شيء لأنّ الرحمة في الآخرة مختصة بالمؤمنين، ويحتمل أن يريد جنس الرحمة على الإطلاق، فيكون عموما في الرحمة، وفي كل شيء فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ إن كانت الرحمة المذكورة رحمة الآخرة فهي بلا شك مختصة بهؤلاء الذين كتب بها الله لهم، وهم أمّة محمد صلّى الله عليه وسلّم، وإن كانت رحمة الدنيا، فهي أيضا مختصة بهم لأنّ الله نصرهم على جميع الأمم، وأعلى دينهم على جميع الأديان، ومكن لهم في الأرض ما لم يمكن لغيرهم، وإن كانت على الإطلاق: فقوله: سأكتبها تخصيص للإطلاق وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ أي يؤمنون بجميع الكتب والأنبياء، وليس ذلك لغير هذه الأمّة الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ هذا الوصف خصص أمّة محمد صلّى الله عليه وسلّم، قال بعضهم: لما قال الله: ورحمتي وسعت كل شيء طمع فيها كل أحد حتى إبليس، فلما قال: فسأكتبها للذين يتقون فيئس إبليس لعنه الله، وبقيت اليهود والنصارى النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ أي الذي لا يقرأ ولا يكتب، وذلك من أعظم دلائل نبوته صلّى الله عليه وسلّم لأنه أتى بالعلوم الجمة من غير قراءة ولا كتابة، ولذلك قال تعالى: وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ [العنكبوت: 48] ، قال بعضهم: الأميّ منسوب إلى الأمّ وقيل: إلى الأمة الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ ضمير الفاعل في يجدونه لبني إسرائيل، وكذلك الضمير في عندهم، ومعنى يجدونه يجدون نعته وصفته ولنذكر هنا ما ورد في التوراة والإنجيل وأخبار المتقدمين من ذكر نبينا محمد صلّى الله عليه وسلّم فمن ذلك ما ورد في البخاري وغيره أنّ في التوراة من صفة النبي صلّى الله عليه واله وسلّم: «يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا، وحرزا للأمّيين أنت عبدي ورسولي، أسميتك المتوكل ليس بفظ ولا غليظ ولا صخاب في الأسواق لا تجزي بالسيئة السيئة، ولكن تعفو وتصفح، ولن أقبضه حتى أقيم به

الملة العوجاء بأن يقولوا لا إله إلا الله، فيفتح به عيونا عميا، وآذانا صما، وقلوبا غلفا» 21/ 3. ومن ذلك ما في التوراة مما أجمع عليه أهل الكتاب، وهو باق بأيديهم إلى الآن: إنّ الملك نزل على إبراهيم فقال له: في هذا العام يولد لك غلام اسمه إسحاق، فقال إبراهيم يا رب ليت إسماعيل يعيش يخدمك فقال الله لإبراهيم: ذلك لك قد استجيب لك في إسماعيل وأنا أباركه وأنميه وأكبره وأعظمه بماذ ماذ، وتفسير هذه الحروف محمد [سفر التكوين: 17] . ومن ذلك في التوراة إنّ الرب تعالى جاء في طور سيناء، وطلع من ساعد وظهر من جبال فاران، ويعني بطور سيناء موضع مناجاة موسى عليه السلام، وساعد موضع عيسى وفاران هي: مكة موضع مولد نبينا محمد صلّى الله تعالى عليه وعلى اله وسلّم ومبعثه، ومعنى ما ذكر من مجيء الله وطلوعه وظهوره هو: ظهور دينه على يد الأنبياء الثلاثة المنسوبين لتلك المواضع، وتفسير ذلك ما في كتاب شعيا خطابا لمكّة: قومي فأزهري مصباحك فقد دنا وقتك وكرامة الله طالعة عليك، فقد تخلل الأرض الظلام، وعلا على الأمم المصاب، والرب يشرق عليك إشراقا، ويظهر كرامته عليك، تسير الأمم إلى نورك، والملوك إلى ضوء طلوعك، ارفعي بصرك إلى ما حولك، وتأملي فإنهم مستجمعون عندك، وتحج إليك عساكر الأمم وفي بعض كتبهم: لقد تقطعت السماء من بهاء محمد المحمود، وامتلأت الأرض من حمده، لأنه ظهر بخلاص أمته. ومن ذلك في التوراة سفر [التكوين: 16] أن هاجر أم إسماعيل لما غضبت عليها سارة تراءى لها ملك فقال لها: يا هاجر أين تريدين؟ ومن أين أقبلت؟ فقالت: أهرب من سيدتي سارة، فقال لها: ارجعي إلى سارة وستحبلين وتلدين ولدا اسمه إسماعيل وهو يكون عين الناس، وتكون يده فوق الجميع، وتكون يد الجميع مبسوطة إليه بالخضوع، ووجه دلالة هذا الكلام على نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم أن هذا الذي وعدها به الملك من أن يد ولدها فوق الجميع وأن يد الجميع مبسوطة إليه بالخضوع إنما ظهرت بمبعث النبي محمد صلّى الله عليه وسلّم وظهور دينه وعلو كلمته، ولم يكن ذلك لإسماعيل ولا لغيره قبل محمد صلّى الله عليه وسلّم.. ومن ذلك أيضا من التوراة أن الرب يقيم لهم نبيا من إخوتهم، وأي رجل لم يسمع ذلك الكلام الذي يؤديه ذلك النبي عن الله فينتقم الله منه، ودلالة هذا الكلام ظاهرة بأن أولاد إسماعيل هم إخوة أولاد إسحاق، وقد انتقم الله من اليهود الذين لم يسمعوا كلام محمد صلّى الله عليه واله وسلّم كبني قريظة وبني قينقاع وغيرهم.. ومن ذلك في التوراة: إن الله أوحى إلى إبراهيم عليه السلام وقد أجبت دعاءك في إسماعيل، وباركت عليه وسيلد اثني عشر عظيما، وأجعله لأمة عظيمة.. ومن ذلك في الإنجيل أن المسيح قال للحواريين: إني ذاهب عنكم وسيأتيكم الفارقليط الذي لا يتكلم من قبل نفسه، إنما يقول كما يقال له. وبهذا وصف الله سبحانه

نبينا محمد صلّى الله عليه وعلى اله وسلّم في قوله: وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى. إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى [النجم: 3] وتفسير الفارقليط أنه مشتق من الحمد واسم نبينا محمد صلّى الله عليه واله وسلّم محمد وأحمد وقيل معنى الفارقليط الشافع المشفع.. ومن ذلك في التوراة: مولده بمكة أو مسكنه بطيبة وأمته الحمادون، وبيان ذلك أن أمته يقرءون: الحمد لله في صلاتهم مرارا كثيرة في كل يوم وليلة، وعن شهر بن حوشب مثل ذلك في إسلام كعب الأحبار، وهو من اليمن من حمير أن كعبا أخبره بأمره وكيف كان ذلك، وقيل كان أبوه من مؤمني أهل التوراة برسول الله صلّى الله عليه واله وسلّم، وكان من عظمائهم وخيارهم، قال كعب: وكان من أعلم الناس بما أنزل الله على موسى من التوراة، وبكتب الأنبياء، ولم يكن يدخر عني شيئا مما كان يعلم، فلما حضرته الوفاة دعاني، فقال يا بني: قد علمت أني لم أكن أدخر عنك شيئا مما كنت أعلم، إلا أني حبست عنك ورقتين فيهما ذكر نبي يبعث، وقد أظل زمانه، فكرهت أن أخبرك بذلك، فلا آمن عليك بعد وفاتي أن يخرج بعض هؤلاء الكذابين فتتبعه وقد قطعتها من كتابك وجعلتهما في هذه الكوّة التي ترى وطينت عليهما، فلا تتعرض لهما ولا تنظرهما زمانك هذا وأقرهما في موضعهما حتى يخرج ذلك النبي، فإذا خرج فاتبعه وانظر فيهما، فإن الله يزيدك بهذا خيرا، فلما مات والدي لم يكن شيء أحب إلى من أن ينقضي المأتم حتى أنظر ما في الورقتين. فلما انقضى المأتم فتحت الكوّة ثم استخرجت الورقتين فإذا فيهما محمد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خاتم النبيين، لا نبي بعده، مولده بمكة ومهاجره بطيبة، ليس بفظ ولا غليظ، ولا صخاب في الأسواق، ولا يجزي بالسيئة السيئة، ولكن يجزى بالسيئة الحسنة، ويعفو ويغفر ويصفح، أمته الحمادون الذي يحمدون الله على كل شرف، وعلى كل حال، وتتذلل بالتكبير ألسنتهم، وينصر الله نبيهم على كل من ناوأه، يغسلون فروجهم بالماء ويأتزرون على أوساطهم وأناجيلهم في صدورهم ويأكلون قربانهم في بطونهم ويؤجرون عليها وتراحمهم بينهم تراحم بني الأم والأب، وهم أول من يدخل الجنة يوم القيامة من الأمم، وهم السابقون المقربون والشافعون المشفع لهم، فلما قرأت هذا قلت في نفسي: والله ما علمني شيئا خيرا لي من هذا فمكثت ما شاء الله حتى بعث النبي صلّى الله عليه وسلّم وبيني وبينه بلاد بعيدة منقطعة لا أقدر على إتيانه، وبلغني أنه خرج في مكة فهو يظهر مرة ويستخفي مرة، فقلت: هو هذا وتخوفت ما كان والدي حذرني وخوفني من ذكر الكذابين، وجعلت أحب أن أتبين وأتثبت فلم أزل بذلك حتى بلغني أنه أتى المدينة فقلت في نفسي: إنّي لأرجو أن يكون إياه وجعلت ألتمس السبيل إليه، فلم يقدر لي حتى بلغني أنه توفي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقلت: في نفسي: لعله لم يكن الذي كنت أظن.

ثم بلغني أن خليفة قام مقامه، ثم لم ألبث إلا قليلا حتى جاءتنا جنوده فقلت في نفسي: لا أدخل في هذا الدين حتى أعلم أهم الذين كنت أرجو وأنتظر، وأنظر كيف سيرتهم وأعمالهم، وإلى ما تكون عاقبتهم. فلم أزل أقدّم ذلك وأؤخره لأتبين وأتثبت حتى قدم علينا عمر بن الخطاب، فلما رأيت صلاة المسلمين وصيامهم وبرهم ووفاءهم بالعهد، وما صنع الله لهم على الأعداء علمت أنهم هم الذي كنت أنتظر، فحدثت نفسي بالدخول في دين الإسلام. فو الله إني ذات ليلة فوق سطح إذا برجل من المسلمين يتلو كتاب الله حتى أتى على هذه الآية: يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ آمِنُوا بِما نَزَّلْنا مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَما لَعَنَّا أَصْحابَ السَّبْتِ وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا [النساء: 47] فلما سمعت هذه الآية خشيت الله ألا أصبح حتى يحوّل وجهي في قفاي، فما كان شيء أحبّ إليّ من الصباح، فغدوت على عمر فأسلمت حين أصبحت. وقال كعب لعمر عند انصرافهم إلى الشام: يا أمير المؤمنين إنه مكتوب في كتاب الله إن هذه البلاد التي كان فيها بنو إسرائيل، وكانوا أهلها مفتوحة على يد رجل من الصالحين رحيم بالمؤمنين شديد على الكافرين، سره مثل علانيته، وعلانيته مثل سره، وقوله لا يخالف فعله، والقريب والبعيد عنده في الحق سواء وأتباعه رهبان بالليل وأسد بالنهار، متراحمون متواصلون متباذلون، فقال له عمر: ثكلتك أمك، أحق ما تقول؟ قال أي والذي أنزل التوراة على موسى، والذي يسمع ما تقول إنه لحق، فقال عمر: الحمد لله الذي أعزنا وشرفنا وأكرمنا ورحمنا بمحمد صلّى الله عليه وسلّم برحمته التي وسعت كل شيء. ومن ذلك كتاب فروة بن عمر الجذامي إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وكان من ملوك العرب بالشام، فكتب إليه: بسم الله الرحمن الرحيم لمحمد رسول الله من فروة بن عمر إني مقرّ بالإسلام مصدق، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله وأنه الذي بشّر به عيسى ابن مريم عليه السلام، فأخذه هرقل لما بلغه إسلامه وسجنه فقال والله لا أفارق دين محمد أبدا فإنك تعرف أنه النبي الذي بشّر به عيسى ابن مريم، ولكنك حرصت على ملكك وأحببت بقاءه فقال قيصر صدق والإنجيل. يشهد لهذا ما خرجه البخاري ومسلم من كتاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى هرقل وسؤال هرقل عن أحواله وأخلاقه صلّى الله عليه وسلّم، فلما أخبر بها علم أنه رسول الله، وقال إنه يملك موضع قدميّ ولو خلصت إليه لغسلت قدميه البخاري كتاب بدء الوحي. ومن حديث زيد بن أسلم عن أبيه وهو عندنا بالإسناد أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه خرج زمان الجاهلية مع ناس من قريش في التجارة إلى الشام، قال فإني لفي سوق من أسواقها إذا أنا ببطريق قد قبض على عنقي، فذهبت أنازعه فقيل لي: لا تفعل فإنه لا نصيف

لك منه، فأدخلني كنيسة فإذا تراب عظيم ملقى، فجاءني بزنبيل ومجرفة فقال لي: أنقل ما هاهنا فجعلت أنظر كيف أصنع، فلما كان من الهاجرة وافاني وعليه ثوب أرى سائر جسده منه، فقال: أإنك على ما أرى ما نقلت شيئا، ثم جمع يديه فضرب بهما دماغي فقلت: واثكل أمك يا عمر، أبلغت ما أرى ثم وثبت إلى المجرفة فضربت بها هامته فنشرت دماغه ثم واريته في التراب وخرجت على وجهي لا أدري أين أسير، فسرت بقية يومي وليلتي من الغد إلى الهاجرة فانتهيت إلى دير فاستظللت بفنائه فخرج إليّ رجل منه فقال لي يا عبد الله ما يقعدك هنا؟ فقلت: أضللت أصحابي، فقال لي ما أنت على طريق وإنك لتنظر بعيني خائف، فادخل فأصب من الطعام واسترح. فدخلت فأتاني بطعام وشراب وأطعمني، ثم صعد فيّ النظر وصوّبه، فقال: قد علم والله أهل الكتاب أنه ما على الأرض أعلم بالكتاب مني، وإني لأرى صفتك الصفة التي تخرجنا من هذا الدير، وتغلبنا عليه، فقلت: يا هذا لقد ذهبت بي في غير مذهب، فقال لي ما اسمك فقلت عمر بن الخطاب، فقال: أنت والله صاحبنا، فاكتب لي على ديري هذا وما فيه، فقلت: يا هذا إنك قد صنعت إليّ صنيعة فلا تكررها، فقال إنما هو كتاب في رق، فإن كنت صاحبنا فذلك، وإلا لم يضرك شيء فكتب «1» له على ديره وما فيه، فأتاني بثياب ودراهم فدفعها إليّ ثم أوكف أتانا فقال لي: أتراها فقلت: نعم، قال سر عليها، فإنك لا تمر بقوم إلا سقوها وعلفوها وأضافوك، فإذا بلغت مأمنك فاضرب وجهها مدبرة فإنهم يفعلون بها كذلك حتى ترجع إليّ. قال فركبتها فكان كما قال، حتى لحقت بأصحابي وهم متوجهون إلى الحجاز، فضربتها مدبرة وانطلقت معهم. فلما وافى عمر الشام في زمان خلافته جاءه ذلك الراهب بالكتاب وهو صاحب دير العرس فلما رآه عرفه، فقال: قد جاء ما لا مذهب لعمر عنه، ثم أقبل على أصحابه فحدثهم بحديثه فلما فرغ منه أقبل على الراهب فقال: هل عندكم من نفع للمسلمين، قال: نعم يا أمير المؤمنين، قال إن أضفتم المسلمين ومرضتموهم وأرشدتموهم فعلنا ذلك. قال: نعم يا أمير المؤمنين فوفى له عمر رضي الله عنه ورحمه. وعن سيف يرفعه إلى سالم بن عبد الله قال: لما دخل عمر الشام تلقاه رجل من يهود دمشق فقال: السلام عليك يا فاروق، أنت صاحب إيلياء والله لا ترجع حتى يفتح الله إيلياء. ومن ذلك أن عمرو بن العاصي قدم المدينة بعد وفاة رسول الله صلّى الله تعالى عليه واله وسلّم، وكان رسول الله صلّى الله عليه واله وسلّم قد أرسله إلى عمان واليا عليها، فجاءه يوما يهودي من يهود عمان فقال له: أنشدك بالله، من أرسلك إلينا؟ فقال له: رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال اليهودي: والله إنك لتعلم أنه رسول الله قال عمرو: نعم، فقال اليهودي:

_ (1) . الصواب: فكتبت.

[سورة الأعراف (7) : الآيات 158 إلى 163]

لئن كان حقا ما تقول لقد مات اليوم. فلما سمع عمرو ذلك جمع أصحابه وكتب ذلك اليوم الذي قال له اليهوديّ أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم مات فيه. ثم خرج فأخبر بموت النبي صلّى الله عليه وسلّم وهو في الطريق ووجده قد مات في ذلك اليوم صلّى الله تعالى عليه وسلّم وبارك وشرف وكرم. ومن ذلك أن وفد غسان قدموا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فلقيهم أبو بكر الصديق فقال لهم من أنتم؟ قالوا رهط من غسان قدمنا على محمد لنسمع كلامه، فقال لهم انزلوا حيث تنزل الوفود، ثم ائتوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فكلموه، فقالوا وهل نقدر على كلامه كما أردنا فتبسم أبو بكر، وقال: إنه ليطوف بالأسواق، ويمشي وحده، ولا شرطة معه، ويرغب من يراه منه «1» فقالوا لأبي بكر من أنت أيها الرجل فقال أنا أبو بكر بن أبي قحافة، فقالوا أنت تقوم بهذا الأمر بعده فقال أبو بكر الأمر إلى الله، فقال لهم كيف تخدعون عن الإسلام وقد أخبركم أهل الكتاب بصفته، وأنه آخر الأنبياء ثم لقوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأسلموا يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ يحتمل أن يكون هذا من وصف النبي صلّى الله عليه وسلّم في التوراة، فتكون الجملة في موضع الحال من ضمير المفعول في يجدونه، أو تفسير لما كتب من ذكره أو يكون استئناف وصف من الله تعالى غير مذكور في التوراة والإنجيل وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ مذهب مالك أن الطيبات هي الحلال، وأن الخبائث هي الحرام، ومذهب الشافعي أن الطيبات هي المستلذات، وأن الخبائث هي المستقذرات: كالخنافس والعقارب وغيرها وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وهو مثل لما كلفوا في شرعهم من المشقات، كقتل الأنفس في التوبة وقطع موضع النجاسة من الثوب، وكذلك الأغلال عبارة عما منعت منه شريعتهم كتحريم الشحوم، وتحريم العمل يوم السبت وشبه ذلك وَعَزَّرُوهُ أي منعوه بالنصر حتى لا يقوى عليه عدو وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ هو القرآن أو الشرع كله، ومعنى معه مع بعثه ورسالته إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً تفسيره قوله صلّى الله عليه وسلّم: «وكان كل نبيّ يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس كافة «2» » فإعراب جميعا حال من الضمير في إليكم الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ نعت لله أو منصوب على المدح بإضمار فعل أو مرفوع على أنه خبر ابتداء مضمر يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِماتِهِ هي الكتب التي أنزلها الله عليه

_ (1) . كذا في الأصل المطبوع ولعل في الكلام تصحيفا. (2) . رواه أحمد عن أبي ذر وأوله: أوتيت خمسا ج 5 ص 191 ورواه صاحب عيون الأثر ج 1 ص 81 بسنده عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده.

[سورة الأعراف (7) : الآيات 164 إلى 169]

وعلى غيره من الأنبياء وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ هم الذين ثبتوا حين تزلزل غيرهم في عصر موسى أو الذين آمنوا بمحمد صلّى الله عليه وسلّم في عصره وَقَطَّعْناهُمُ أي فرقناهم أَسْباطاً السبط في بني إسرائيل كالقبيلة في العرب، وانتصابه على البدل من اثنتي عشرة لا على التمييز، فإن تمييز اثنتي عشرة لا يكون إلا مفردا، وقال الزمخشري على التمييز، لأن كل قبيلة أسباطا لا سبط فَانْبَجَسَتْ أي انفجرت إلا أن الانبجاس أخف من الانفجار وقال القزويني الانبجاس: أول الانفجار وَظَلَّلْنا عَلَيْهِمُ الْغَمامَ وما بعده إلى قوله بما كانوا يظلمون مذكور في [البقرة: 57] . تنبيه: وقع الاختلاف في اللفظ بين هذا الموضع من هذه السورة وبين سورة البقرة في قوله انفجرت وانبجست وقوله: وإذ قلنا ادخلوا، وإذ قيل لهم اسكنوا وقوله: وكلوا بالواو وفكلوا بالفاء، فقال الزمخشري: لا بأس باختلاف العبارتين إذا لم يكن هنالك تناقض، وعللها شيخنا الأستاذ أبو جعفر بن الزبير في كتاب ملاك التأويل وصاحب الدرة بتعليلات منها قوية وضعيفة وفيها طول فتركناها لطولها وَسْئَلْهُمْ أي اسأل اليهود على جهة التقرير والتوبيخ عَنِ الْقَرْيَةِ قيل: هي إيلياء، وقيل: هي طبرية، وقيل: مدين حاضِرَةَ الْبَحْرِ قريبة منه أو على شاطئه إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ أي يتجاوزون حدّ الله فيه، وهو اصطيادهم يوم السبت «وقد نهوا عنه وموضع إذ بدل من القرية والمراد أهلها، وهو بدل اشتمال أو منصوب بكانت أو بحاضرة إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً كانت الحيتان تخرج من البحر يوم السبت حتى تصل إلى بيوتهم ابتلاء لهم إذ كان صيدها عليهم حراما في يوم السبت، وتغيب عنهم في سائر الأيام، وسبتهم مصدر من قولك: سبت اليهودي يسبت إذا عظّم يوم السبت، ومعنى شرّعا: ظاهرة قريبة منهم يقال: شرع منا فلان إذا دنا وإذ في قوله إذ تأتيهم منصوب بيعدون، أو بدل من إذ يعدون وَإِذْ قالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً للآية: افترقت بنو إسرائيل ثلاث فرق: فرقة عصت يوم السبت بالصيد، وفرقة نهت عن ذلك

[سورة الأعراف (7) : الآيات 170 إلى 174]

واعتزلت القوم، وفرقة سكتت واعتزلت، فلم تنه ولم تعص، وأن هذه الفرقة لما رأت مهاجرة الناهية وطغيان العاصية قالوا للفرقة الناهية: لم تعظون قوما يريد الله أن يهلكهم أو يعذبهم، فقالت الناهية: ننهاهم معذرة إلى الله ولعلهم يتقون، فهلكت الفرقة العاصية، ونجت الناهية، واختلف في الثالثة هل هلكت لسكوتها أو نجت لاعتزالها وتركها العصيان بِعَذابٍ بَئِيسٍ أي شديد «1» ، وقرئ بالهمز وتركه، وقرئ على وزن فعيل وعلى وزن فيعل وكلها من معنى البؤس فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ ما نُهُوا عَنْهُ أي لما تكبروا عن ما نهوا عنه قُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ ذكر في [البقرة: 65] والمعنى أنهم عذبوا أولا بعذاب شديد فعتوا بذلك فمسخوا قردة، وقيل: فلما عتوا تكرار لقوله فلما نسوا، والعذاب البئيس هو المسخ تَأَذَّنَ رَبُّكَ عزم، وهو من الإيذان بمعنى الإعلام لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ الآية أي يسلط عليهم، ومن ذلك أخذ الجزية، وهوانهم في جميع البلاد وَقَطَّعْناهُمْ فِي الْأَرْضِ أي فرّقناهم في البلاد، ففي كل بلدة فرقة منهم، فليس لهم إقليم يملكونه مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ هم من أسلم كعبد الله بن سلام أو من كان صالحا من المتقدّمين منهم بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ أي بالنعم والنقم فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أي حدث بعدهم قوم سوء، والخلف بسكون اللام ذم، وبفتحها مدح، والمراد من حدث من اليهود بعد المذكورين، وقيل: المراد النصارى يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذَا الْأَدْنى أي عرض الدنيا وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنا ذلك اغترار منهم وكذب وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ الواو للحال يرجون المغفرة وهم يعودون إلى مثل فعلهم مِيثاقُ الْكِتابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إشارة إلى كذبهم في قولهم: سيغفر لنا وإعراب ألا يقولوا عطف بيان على ميثاق الكتاب أو تفسير له، أو تكون أن حرف عبارة وتفسير وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتابِ قرئ بالتشديد والتخفيف وهما بمعنى واحد، وإعراب الذين عطف على الذين يتقون، أو مبتدأ وخبره إنا لا نضيع أجر المصلحين، وأقام ذكر المصلحين مقام الضمير، لأن المصلحين هم

_ (1) . بيس: قراءة نافع. وبئس: قراءة ابن عامر وقرأ أبو بكر عن عاصم: بيأس. والباقون: بئيس.

[سورة الأعراف (7) : الآيات 175 إلى 178]

الذين يمسكون بالكتاب وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ أي اقتلعنا الجبل ورفعناه فوق بني إسرائيل وقلنا لهم: خذوا التوراة حين أبوا من أخذها، وقد تقدم في [البقرة: 93] تفسير الظلة وخذوا ما آتيناكم بقوة وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ «1» وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ الآية: في معناها قولان: أحدهما أن الله لما خلق آدم أخرج ذريته من صلبه وهم مثل الذر، وأخذ عليهم العهد بأنه ربهم، فأقروا بذلك والتزموه، روى هذا المعنى عن النبي صلّى الله تعالى عليه واله وسلّم من طرق كثيرة وقال به جماعة من الصحابة وغيرهم. والثاني أن ذلك من باب التمثيل، وأن أخذ الذرية عبارة عن إيجادهم في الدنيا وأما إشهادهم فمعناه أن الله نصب لبني آدم الأدلة على ربوبيته فشهدت بها عقولهم، فكأنه أشهدهم على أنفسهم، وقال لهم: ألست بربكم وكأنهم قالوا بلسان الحال: بلى أنت ربنا، والأول هو الصحيح لتواتر الأخبار به، إلا أن ألفاظ الآية لا تطابقه بظاهرها، فلذلك عدل عنه من قال بالقول الآخر، وإنما تطابقه بتأويل وذلك أن أخذ الذرية إنما كان من صلب آدم، ولفظ الآية يقتضي أن أخذ الذرية من بني آدم، والجمع بينهما أنه ذكر بني آدم في الآية والمراد آدم كقوله: ولقد خلقناكم ثم صورناكم: الآية، وعلى تأويل لقد خلقنا أباكم آدم في صورته، وقال الزمخشري: إن المراد ببني آدم أسلاف اليهود، والمراد بذريتهم من كان في عصر النبي صلّى الله عليه وسلّم، وفي الصحيح المشهور أن المراد جمع بني آدم حسبما ذكرناه قالُوا بَلى شَهِدْنا قولهم بلى: إقرار منهم بأن الله ربهم، فإن تقديره: أنت ربنا، فإن بلى بعد التقرير تقتضي الإثبات، بخلاف نعم فإنها إذا وردت بعد الاستفهام تقتضي الإيجاب، وإذا وردت بعد التقرير تقتضي النفي، ولذلك قال ابن عباس في هذه الآية: لو قالوا: نعم لكفروا، وأما قولهم: شهدنا فمعناه شهدنا بربوبيتك، فهو تحقيق لربوبية الله وأداء لشهادتهم بذلك عند الله، وقيل: إن شهدنا من قول الله والملائكة أي شهدنا على بني آدم باعترافهم أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ في موضع مفعول من أجله: أي فعلنا ذلك كراهية أن تقولوا، فهو من قول الله لا من قولهم، وقرئ بالتاء على الخطاب لبني آدم، وبالياء «2» على الإخبار عنهم وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها قال ابن مسعود: هو رجل من بني إسرائيل بعثه

_ (1) . قرأ نافع وابن عامر وأبو عمر: ذريّاتهم، وقرأ أهل مكة والكوفة: ذريّتهم. (2) . هي قراءة أبو عمرو.

[سورة الأعراف (7) : الآيات 179 إلى 184]

موسى عليه السلام إلى ملك مدين داعيا إلى الله، فرشاه الملك وأعطاه الملك على أن يترك دين موسى ويتابع الملك على دينه ففعل، وأضل الناس بذلك وقال ابن عباس: هو رجل من الكنعانيين اسمه بلعم بن باعوراء كان عنده اسم الله الأعظم، فلما أراد موسى قتال الكنعانيين وهم الجبارون: سألوا من بلعم أن يدعو باسم الله الأعظم على موسى وعسكره فأبى، فألحوا عليه حتى دعا عليه ألا يدخل المدينة ودعا عليه موسى فالآيات التي أعطيها على هذا القول: هي اسم الله الأعظم وعلى قول ابن مسعود هي ما علمه موسى من الشريعة، وقيل: كان عنده من صحف إبراهيم، وقال عبد الله بن عمرو بن العاصي: هو أمية بن أبي الصلت، وكان قد أوتي علما وحكمة وأراد أن يسلم قبل غزوة بدر، ثم رجع عن ذلك ومات كافرا، وفيه قال النبي صلّى الله عليه وسلّم كاد أمية بن أبي الصلت أن يسلم، فالآية على هذا ما كان عنده من العلم، والانسلاخ عبارة عن البعد والانفصال منها كالانسلاخ من الثياب والجلد وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها أي لرفعنا منزلته بالآيات التي كانت عنده وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ عبارة عن فعله لما سقطت به منزلته عند الله فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ أي صفته كصفة الكلب، وذلك غاية في الخسة والرداءة إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ اللهث هو تنفس بسرعة وتحريك أعضاء الفم وخروج اللسان، وأكثر ما يعتري ذلك الحيوانات مع الحر والتعب، وهي حالة دائمة للكلب، ومعنى إن تحمل عليه إن تفعل معه ما يشق عليه من طرد أو غيره أو تتركه دون أن تحمل عليه، فهو يلهث على كل حال، ووجه تشبيه ذلك الرجل به أنه إن وعظته فهو ضال وإن لم تعظه فهو ضال، فضلالته على كل حال كما أنّ لهث الكلب على كل حال. وقيل: إنّ ذلك الرجل خرج لسانه على صدره فصار مثل الكلب في صورته ولهثه حقيقة ذلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا أي صفة المكذبين كصفة الكلب في لهثه، وكصفة الرجل المشبه به لأنهم إن أنذروا لم يهتدوا، وإن تركوا لم يهتدوا، وشبههم بالرجل في أنهم رأوا الآيات والمعجزات فلم تنفعهم، كما أنّ الرجل لم ينفعه ما كان عنده من الآيات ساءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَأَنْفُسَهُمْ الآية: قدم هذا المفعول للاختصاص والحصر كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ هم الذين علم الله أنهم يدخلون النار بكفرهم، فأخبر أنه خلقهم لذلك كما جاء في قوله: هؤلاء للجنة ولا أبالي، وهؤلاء للنار ولا أبالي لا يُبْصِرُونَ بِها ليس المعنى نفي السمع والبصر جملة،

[سورة الأعراف (7) : الآيات 185 إلى 188]

وإنما المعنى نفيها عما ينفع في الدين وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى قال رسول الله صلّى الله عليه واله وسلّم: إن لله تسعة وتسعون اسما من أحصاها دخل الجنة «1» . وسبب نزول الآية: أن أبا جهل لعنه الله سمع بعض الصحابة يقرأ فيذكر الله مرة، والرحمن أخرى، فقال: يزعم محمد أنّ الإله واحد وها هو يعبد آلهة كثيرة، فنزلت الآية مبينة أنّ تلك الأسماء الكثيرة هي لمسمى واحد، والحسنى مصدر وصف به أو تأنيث أحسن وحسن أسماء الله هي أنها صفة مدح وتعظيم وتحميد فَادْعُوهُ بِها أي سموه بأسمائه، وهنا إباحة لإطلاق الأسماء على الله تعالى، فأما ما ورد منها في القرآن أو الحديث، فيجوز إطلاقه على الله إجماعا وأما ما لم يرد وفيه مدح لا تتعلق به شبهة، فأجاز أبو بكر بن الطيب إطلاقه على الله ومنع ذلك أبو الحسن الأشعري وغيره، ورأوا أن أسماء الله موقوفة على ما ورد في القرآن والحديث، وقد ورد في كتاب الترمذي عدّتها أعني تعيين التسعة والتسعين، واختلف المحدثون هل تلك الأسماء المعدودة فيه مرفوعة إلى النبي صلّى الله تعالى عليه وعلى اله وسلّم أو موقوفة على أبي هريرة، وإنما الذي ورد في الصحيح كونها تسعة وتسعين من غير تعيين وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ قيل: معنى ذروا: اتركوهم، لا تحاجوهم ولا تتعرّضوا لهم، فالآية على هذا منسوخة بالقتال، وقيل: معنى ذروا الوعيد والتهديد كقوله: وذرني والمكذبين [المزمل: 11] وهو الأظهر لما بعده وإلحادهم في أسماء الله: هو ما قال أبو جهل فنزلت الآية بسببه، وقيل: تسميته بما لا يليق، وقيل: تسمية الأصنام باسمه كاشتقاقهم اللات من الله، والعزى من العزيز وَمِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ الآية روي أنّ النبي صلّى الله عليه واله وسلّم قال: هذه الآية لكم، وقد تقدّم مثلها لقوم موسى سَنَسْتَدْرِجُهُمْ الاستدراج استفعال من الدرجة، أي: نسوقهم إلى الهلاك شيئا بعد شيء وهم لا يشعرون، والإملاء هو الإمهال مع إرادة العقوبة إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ سمى فعله بهم كيدا لأنه شبيه بالكيد في أن ظاهره إحسان وباطنه خذلان أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ يعني بصاحبهم النبي صلّى الله عليه واله وسلّم، فنفى عنه ما نسب له المشركون من الجنون، ويحتمل أن يكون قوله: ما بصاحبهم من جنة معمولا لقوله أو لم يتفكروا فيوصل به، والمعنى: أو لم يتفكروا فيعلمون أن ما بصاحبكم من جنة، ويحتمل أن يكون الكلام قد تم في قوله: أو لم يتفكروا ثم ابتدأ إخبارا استئنافا لقوله: ما بصاحبكم من جنة، والأوّل أحسن أَوَلَمْ يَنْظُرُوا يعني نظر استدلال ما خَلَقَ اللَّهُ عطف على الملكوت ويعني بقوله من شيء: جميع المخلوقات إذ

_ (1) . رواه أحمد عن أبي هريرة ج 2 ص 661. [.....]

[سورة الأعراف (7) : الآيات 189 إلى 193]

جميعها دليل على وحدانية خالقها وَأَنْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ أن الأول مخففة من الثقيلة، وهي عطف على الملكوت، وأن الثانية مصدرية في موضع رفع بعسى، وأجلهم يعني: موتهم، والمعنى لعلهم يموتون عن قريب، ينبغي لهم أن يسارعوا إلى النظر فيما يخلصهم عند الله قبل حلول الأجل فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ الضمير للقرآن يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ السائلون اليهود أو قريش، وسميت القيامة ساعة لسرعة حسابها كقوله: وما أمر الساعة إلا كلمح البصر أو هو أقرب أَيَّانَ مُرْساها معنى أيّان: متى، ومرساها: وقوعها وحدوثها، وهي من الإرساء بمعنى الثبوت قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي أي استأثر الله بعلم وقوعها ولم يطلع عليه أحد لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلَّا هُوَ معنى يجليها يظهرها، فهو من الجلاء ضدّ الخفاء، واللام في لوقتها ظرفية: أي عند وقتها، والمعنى لا يظهر الساعة عند مجيء وقتها إلا الله ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ في معناه ثلاثة أقوال: الأوّل ثقلت على أهل السموات والأرض لهيبتها عندهم وخوفهم منها، والثاني ثقلت على أهل السموات والأرض أنفسها لتفطر السماء فيها وتبديل الأرض، والثالث معنى ثقلت: أي ثقل علمها أي خفي يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها الحفيّ بالشيء هو المهتم به المعتني به، والمعنى: يسألونك عنها كأنك حفيّ بعلمها وقيل: المعنى يسألونك عنها كأنك حفيّ بهم لقرابتك منهم، فعنها على هذين القولين يتعلق بيسألونك، وقيل المعنى يسألونك كأنك حفي بالسؤال عنها وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ براءة من علم الغيب، واستدلال على عدم علمه وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ عطف على لاستكثرت من الخير أي لو علمت الغيب لاستكثرت من الخير، واحترست من السوء ولكن لا أعلمه فيصيبني ما قدر لي من الخير والشر، وقيل: إن قوله وما مسني السوء: استئناف إخبار، والسوء على هذا هو الجنون واتصاله بما قبله أحسن لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ يجوز أن يتعلق ببشير ونذير معا أي أبشر المؤمنين وأنذرهم، وخص بهم البشارة والنذارة، لأنهم هم الذين ينتفعون بها، ويجوز أن يتعلق بالبشارة وحدها، ويكون المتعلق بنذير محذوف أي نذير للكافرين، والأوّل أحسن مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ يعني آدم زَوْجَها يعني حوّاء لِيَسْكُنَ إِلَيْها يميل إليها ويستأنس بها تَغَشَّاها كناية عن الجماع حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفاً أي خف عليها ولم تلق منه ما يلقى بعض الحوامل من حملهنّ من الأذى والكرب، وقيل: الحمل الخفيف المني في فرجها فَمَرَّتْ بِهِ قيل: معناه استمرّت به إلى حين ميلاده، وقيل معناه قامت وقعدت فَلَمَّا

[سورة الأعراف (7) : الآيات 194 إلى 198]

أَثْقَلَتْ أي ثقل حملها وصارت به ثقيلة لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً أي ولدا صالحا سالما في بدنه فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما أي لما آتاهما ولدا صالحا كما طلبا: جعل أولادهما له شركاء فالكلام على حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه، وكذلك فيما آتاهما: أي فيما آتى أولادهما وذريتهما، وقيل: إن حواء لما حملت جاءها إبليس وقال لها: إن أطعتيني وسميت ما في بطنك عبد الحارث، فسأخلصه لك، وكان اسم إبليس الحارث، وإن عصيتني في ذلك قتلته، فأخبرت بذلك آدم، فقال لها إنه عدوّنا الذي أخرجنا من الجنة، فلما ولدت مات الولد ثم حملت مرة أخرى فقال لها إبليس مثل ذلك، فعصته فمات الولد ثم حملت مرة ثالثة فسمياه عبد الحارث طمعا في حياته، فقوله: جعلا له شركاء فيما آتاهما: أي في التسمية لا غير، لا في عبادة غير الله، والقول الأول أصح لثلاثة أوجه: أحدها أنه يقتضي براءة آدم وزوجه من قليل الشرك وكثيره، وذلك هو حال الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، والثاني أنه يدل على أن الذين أشركوا هم أولاد آدم وذريته لقوله تعالى: فَتَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ بضمير الجمع، والثالث أن ما ذكروا من قصة آدم وتسمية الولد عبد الحارث يفتقر إلى نقل بسند صحيح، وهو غير موجود في تلك القصة، وقيل: من نفس واحدة قصي بن كلاب وزوجته وجعلا له شركاء أي: سموا أولادهما عبد العزى وعبد الدار وعبد مناف، وهذا القول بعيد لوجهين أحدهما أن الخطاب على هذا خاص بذرية قصي من قريش والظاهر أن الخطاب عام لبني آدم، والآخر أن قوله: وجعل منها زوجها، فإن هذا يصح في حواء لأنها خلقت من ضلع آدم، ولا يصح في زوجة قصي أَيُشْرِكُونَ ما لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ هذه الآية ردّ على المشركين من بني آدم، والمراد بقوله: ما لا يخلق شيئا الأصنام وغيرها مما عبد من دون الله، والمعنى: أنها مخلوقة غير خالقة، والله تعالى خالق غير مخلوق فهو الإله وحده وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ يعني أن الأصنام لا ينصرون من عبدهم، ولا ينصرون أنفسهم فهم في غاية العجز والذلة، فكيف يكونون آلهة وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَتَّبِعُوكُمْ «1» يعني: أن الأصنام لا تجيب إذا دعيت إلى أن تهدى أو إلى أن تهدي، لأنها جمادات سَواءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ تأكيد وبيان لما قبلها، فإن قيل: لم قال: أم أنتم صامتون فوضع الجملة الاسمية موضع الجملة الفعلية وهلا قال أو صمتم؟ فالجواب إن صمتم عن دعاء الأصنام كانت حالة مستمرة، فعبر هنا بجملة اسمية لتقتضي الاستمرار على ذلك إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبادٌ أَمْثالُكُمْ رد على المشركين بأن آلهتهم عباد

_ (1) . قرأ نافع يتبعوكم بالتخفيف وقرأ الباقون: بالتشديد يتّبعوكم.

[سورة الأعراف (7) : الآيات 199 إلى 202]

فكيف يعبد العبد مع ربه فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا أمر على جهة التعجيز أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها وما بعده: معناه أن الأصنام جمادات عادمة للحس والجوارح والحياة والقدرة، ومن كان كذلك: لا يكون إلها، فإن من وصف الإله الإدراك والحياة والقدرة وإنما جاء هذا البرهان بلفظ الاستفهام، لأن المشركين مقرّون أن أصنامهم لا تمشي ولا تبطش، ولا تبصر، ولا تسمع، فلزمته الحجة، والهمزة في قوله «ألهم» للاستفهام مع التوبيخ، وأم في المواضع الثلاثة تضمنت معنى الهمزة، ومعنى بل وليست عاطفة قُلِ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تُنْظِرُونِ المعنى: استنجدوا أصنامكم لمضرتي والكيد عليّ، ولا تؤخروني، فإنكم وأصنامكم لا تقدرون على مضرتي، ومقصد الآية الردّ عليهم ببيان عجز أصنامهم وعدم قدرتها على المضرة، وفيها إشارة إلى التوكل على الله والاعتصام به وحده، وأن غيره لا يقدر على شيء ثم أفصح بذلك في قوله إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الآية: أي هو حافظي وناصري منكم فلا تضرونني، ولو حرصتم أنتم وآلهتكم على مضرتي، ثم وصف الله بأنه الذي نزّل الكتاب، وبأنه يتولى الصالحين، وفي هذين الوصفين استدلال على صدق النبي صلّى الله عليه وسلّم بإنزال الكتاب عليه، وبأن الله تولى حفظه، ومن تولى حفظه فهو من الصالحين، والصالح لا بد أن يكون صادقا في قوله ولا سيما فيما يقوله عن الله وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ الآية: ردّ على المشركين، وقد تقدّم معناه وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَسْمَعُوا يحتمل أن يريد الأصنام فيكون تحقيرا لهم، وردّا على من عبدها، فإنها جمادات لا تسمع شيئا، فيكون المعنى كالذي تقدّم، أو يريد الكفار، ووصفهم بأنهم لا يسمعون يعني سماعا ينتفعون به، لإفراط نفورهم، أو لأن الله طبع على قلوبهم وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ إن كان هذا من وصف الأصنام، فقوله: ينظرون مجاز، وقوله: لا يبصرون حقيقة، لأن لهم صورة الأعين وهم لا يرون بها شيئا، وإن كان من وصف الكفار فينظرون حقيقة ولا يبصرون مجازا على وجه المبالغة كما وصفهم بأنهم لا يسمعون خُذِ الْعَفْوَ فيه قولان: أحدهما أن المعنى خذ من الناس في أخلاقهم وأقوالهم ومعاشرتهم ما تيسر لا ما يشق عليهم، لئلا ينفروا فالعفو على هذا بمعنى السهل والصفح عنهم، وهو ضد الجهل والتكليف كقول الشاعر: خذي العفو منّي تستديمي مودتي والآخر أن المعنى من الصدقات ما سهل على الناس في أموالهم أو ما فضل لهم، وذلك قبل فرض الزكاة، فالعفو على هذا بمعنى السهل أو بمعنى الكثرة وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ

[سورة الأعراف (7) : الآيات 203 إلى 206]

أي بالمعروف وهو فعل الخير، وقيل العفو الجاري بين الناس من العوائد، واحتج المالكية بذلك على الحكم بالعوائد وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ أي لا تكافي السفهاء بمثل قولهم أو فعلهم واحلم عنهم، ولما نزلت هذه الآية سأل رسول الله صلّى الله تعالى عليه واله وسلّم جبريل عنها، فقال: لا أدري حتى أسأل ثم رجع فقال يا محمد إن ربك يأمرك أن تصل من قطعك، وتعطى من حرمك، وتعفو عمن ظلمك، وعن جعفر الصادق: أمر الله نبيه صلّى الله عليه وسلّم فيها بمكارم الأخلاق، وهي على هذا ثابتة الحكم وهو الصحيح، وقيل كانت مداراة للكفار، ثم نسخت بالقتال وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ نزغ الشيطان وسوسته بالتشكيك في الحق والأمر بالمعاصي أو تحريك الغضب، فأمر الله بالاستعاذة منه عند ذلك، كما ورد في الحديث أن رجلا اشتد غضبه فقال رسول الله صلّى الله تعالى عليه واله وسلّم: إني لأعلم كلمة لو قالها لذهب عنه ما به: نعوذ بالله من الشيطان الرجيم «1» طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ معناه لمة منه، كما جاء: «إنّ للشيطان لمة وللملك لمة» «2» ، ومن قرأ طائف بالألف، فهو اسم فاعل ومن قرأ طيف «3» بياء ساكنة، فهو مصدر أو تخفيف من طيف المشدّد، كميّت وميت تَذَكَّرُوا حذف مفعوله ليعم كل ما يذكر من خوف عقاب الله، أو رجاء ثوابه أو مراقبته والحياء منه، أو عداوة الشيطان والاستعاذة منه والنظر والاعتبار وغير ذلك فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ هو من بصيرة القلب وَإِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ الضمير في إخوانهم للشياطين، وأريد بقوله: طائف من الشيطان: الجنس، ولذلك أعيد عليه ضمير الجماعة وإخوانهم هم الكفار، ومعنى يمدّونهم: يكونون مددا لهم: يعضدونهم، وضمير المفعول في يمدّونهم للكفار، وضمير الفاعل للشيطان، ويحتمل أن يريد بالإخوان: الشياطين، ويكون الضمير في إخوانهم للكفار، والمعنى على الوجهين: أنّ الكفار يمدّهم الشيطان وقرئ يمدّونهم بضم الياء «4» وفتحها، والمعنى واحد، وفي الغيّ: يتعلق بيمدّونهم، وقيل: يتعلق بإخوانهم كما تقول إخوة في الله، أو في الشيطان ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ أي لا يقصر الشياطين عن إمداد إخوانهم الكفار، أو لا يقصر الكفار عن غيهم، وفي الآية من إدراك البيان لزوم ما لا يلزم بالتزام الصاد قبل الراء في مبصرون ولا يقصرون وَإِذا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قالُوا لَوْلا اجْتَبَيْتَها الضمير في لم تأتهم للكفار، ولولا هنا عوض،

_ (1) . رواه أحمد عن معاذ بن جبل بألفاظ قريبة ج 5 ص 304. (2) . ذكره المناوي في التيسير وعزاه للترمذي والنسائي وابن حبان عن مسعود الترمذي: حسن غريب. (3) . هي قراءة ابن كثير وأبو عمرو ومعنى: طيف: خاطرة من الشيطان. (4) . هي قراءة نافع فقط.

وفي معنى اجتبيتها قولان: أحدهما اخترعتها من قبل نفسك، فالآية على هذا من القرآن، وكان النبي صلّى الله تعالى عليه وعلى اله وسلّم يتأخر عنه الوحي أحيانا، فيقول الكفار: هلا جئت بقرآن من قولك، والآخر معناه: طلبتها من الله، وتخيرتها عليه، فالآية على هذا معجزة، أي يقولون: اطلب المعجزة من الله قُلْ إِنَّما أَتَّبِعُ ما يُوحى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي معناه: لا أخترع القرآن على القول الأول، ولا أطلب آية من الله على القول الثاني هذا بَصائِرُ أي علامات هدى والإشارة إلى القرآن وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا فيه ثلاثة أقوال: أحدها أن الإنصات المأمور به هو لقراءة الإمام في الصلاة، والثاني أنه الإنصات للخطبة، والثالث: أنه الإنصات لقراءة القرآن على الإطلاق وهو الراجح لوجهين: أحدهما أن اللفظ عام ولا دليل على تخصيصه، والثاني أن الآية مكية، والخطبة إنما شرعت بالمدينة لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ قال بعضهم: الرحمة أقرب شيء إلى مستمع القرآن لهذه الآية وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ يحتمل أن يريد الذكر بالقلب دون اللسان، أو الذكر باللسان سرا، فعلى الأول يكون قوله: ودون الجهر من القول عطف متغاير أي حالة أخرى، وعلى الثاني يكون بيانا وتفسيرا للأول بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ أي في الصباح والعشي والآصال جمع أصل والأصل جمع أصيل قيل: المراد صلاة الصبح والعصر، وقيل: فرض الخمس والأظهر الإطلاق إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ هم الملائكة عليهم السلام، وفي ذكرهم تحريض للمؤمنين وتعريض للكفار وَلَهُ يَسْجُدُونَ قدم المجرور لمعنى الحصر أي لا يسجدون إلا لله، والله أعلم.

سورة الأنفال

سورة الأنفال مدنية إلا من آية 30 إلى غاية آية 36 فمكية وآياتها 75 نزلت بعد البقرة (سورة الأنفال) بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ نزلت هذه السورة في غزوة بدر وغنائمها يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ الخطاب للنبي صلّى الله عليه وسلّم والسائلون هم الصحابة، والأنفال هي الغنائم، وذلك أنهم كانوا يوم بدر ثلاث فرق: فرقة مع النبي صلّى الله عليه وسلّم في العريش تحرسه، وفرقة اتبعوا المشركين فقتلوهم وأسروهم، وفرقة أحاطوا بأسلاب العدو وعسكرهم لما انهزموا، فلما انجلت الحرب واجتمع الناس رأت كل فرقة أنها أحق بالغنيمة من غيرها، واختلفوا فيما بينهم، فنزلت الآية ومعناها: يسألونك عن حكم الغنيمة ومن يستحقها وقيل: الأنفال هنا ما ينفله الإمام لبعض الجيش من الغنيمة زيادة على حظه، وقد اختلف الفقهاء هل يكون ذلك التنفيل من الخمس وهو قول مالك؟ أو من الأربعة الأخماس، أو من رأس الغنيمة، قبل إخراج الخمس قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ أي الحكم فيها لله والرسول لا لكم وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ أي اتفقوا وائتلفوا، ولا تنازعوا، وذات هنا بمعنى: الأحوال، قاله الزمخشري، وقال ابن عطية: يراد بها في هذا الموضع نفس الشيء وحقيقته. وقال الزبيري: إن إطلاق الذات على نفس الشيء وحقيقته ليس من كلام العرب وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ يريد في الحكم في الغنائم، قال عبادة بن الصامت: نزلت فينا أصحاب بدر حين اختلفنا وساءت أخلاقنا، فنزع الله الأنفال من أيدينا، وجعلها لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقسمها على السواء، فكان في ذلك تقوى الله وطاعة رسوله وإصلاح ذات البين إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الآية: أي الكاملو الإيمان، فإنما هنا للتأكيد والمبالغة والحصر وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ أي خافت وقرأ أبي بن كعب: فزعت زادَتْهُمْ إِيماناً أي قوي تصديقهم ويقينهم، خلافا لمن قال: إن الإيمان لا يزيد ولا ينقص، وإن زيادته إنما هي بالعمل لَهُمْ دَرَجاتٌ يعني في الجنة كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ فيه ثلاث تأويلات:

أحدها: أن تكون الكاف في موضع رفع على أنه خبر مبتدأ محذوف تقديره: هذه الحال كحال إخراجك يعني أن حالهم في كراهة تنفيل الغنائم كحالهم في حالة خروجك للحرب، والثاني أن يكون في موضع الكاف نصب على أنه صفة لمصدر الفعل المقدّر في قوله الأنفال لله والرسول أي: استقرت الأنفال لله والرسول استقرارا مثل استقرار خروجك، والثالث أن تتعلق الكاف بقوله يجادلونك مِنْ بَيْتِكَ يعني مسكنه بالمدينة إذ أخرجه الله لغزوة بدر وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ أي كرهوا قتال العدو، وذلك أن عير قريش أقبلت من الشام فيها أموال عظيمة، ومعها أربعون راكبا، فأخبر بذلك جبريل النبي صلّى الله عليه وسلّم، فخرج بالمسلمين فسمع بذلك أهل مكة، فاجتمعوا وخرجوا في عدد كثير ليمنعوا عيرهم. فنزل جبريل عليه السلام فقال: يا محمد إن الله قد وعدكم إحدى الطائفتين، إما العير وإما قريش، فاستشار النبي صلّى الله عليه وسلّم أصحابه، فقالوا: العير أحب إلينا من لقاء العدو، فقال: إن العير قد مضت على ساحل البحر، وهذا أبو جهل قد أقبل، فقال له سعد بن عبادة: امض لما شئت فإنا متبعوك وقال سعد بن معاذ: والذي بعثك بالحق لو خضت هذا البحر لخضناه معك فسر بنا على بركة الله يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ ما تَبَيَّنَ كان جدالهم في لقاء قريش، بإيثارهم لقاء العير إذ كانت أكثر أموالا، وأقل رجالا وتبين الحق: هو إعلام رسول الله صلّى الله تعالى عليه واله وسلّم بأنهم ينصرون كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ تشبيه لحالهم في إفراط جزعهم من لقاء قريش وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ يعني قريش أو عيرهم، والعمل في إذ محذوف تقديره اذكروا أَنَّها لَكُمْ بدل من إحدى الطائفتين وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ الشوكة عبارة عن السلاح. سميت بذلك لحدّتها، والمعنى تحبون أن تلقوا الطائفة التي لا سلاح لها وهي العير أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ يعني يظهر الإسلام بقتل الكفار وإهلاكهم يوم بدر لِيُحِقَّ الْحَقَّ متعلق بمحذوف تقديره: ليحق الحق ويبطل الباطل فعل ذلك، وليس تكرارا للأول لأن الأول مفعول يريد، وهذا تعليل لفعل الله تعالى، ويحتمل أن يريد بالحق الأول الوعد بالنصرة، وبالحق الثاني الإسلام. فيكون المعنى أن نصرهم، ليظهر الإسلام، ويؤيد هذا قوله: ويبطل الباطل أي يبطل الكفر إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ إذ بدل من إذ يعدكم، وقيل: يتعلق بقوله: ليحق الحق أو بفعل مضمر واستغاثتهم دعاؤهم بالغوث والنصر مُمِدُّكُمْ أي مكثركم مُرْدِفِينَ من قولك ردفه إذا تبعه، وأردفته إياه إذا أتبعته إياه. والمعنى: يتبع بعضهم بعضا، فمن قرأه «1»

_ (1) . قرأ نافع بفتح الدال، وقرأ الباقون بكسر الدال.

[سورة الأنفال (8) : الآيات 10 إلى 12]

بفتح الدال فهو اسم مفعول، ومن قرأه بالكسر فهو اسم فاعل، وصح معنى القراءتين لأن الملائكة المنزلين يتبع بعضهم بعضا، فمنهم تابعون ومتبوعون وَما جَعَلَهُ اللَّهُ الضمير عائد على الوعد، أو على الإمداد بالملائكة إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ إذ بدل من إذ يعدكم أو منصوب بالنصر، أو بما عند الله من معنى النصر، أو بإضمار فعل تقديره: اذكر، ومن قرأ يغشيكم «1» بضم الياء والتخفيف فهو من أغشى، ومن قرأ بالضم والتشديد فهو من غشّى المشدد، وكلاهما يتعدى إلى مفعولين فنصب النعاس على أنه المفعول والثاني، والمعنى يغطيكم به فهو استعارة، من الغشاء، ومن قرأ بفتح الياء والشين «2» فهو من غشى المتعدى إلى واحد أي ينزل عليكم النعاس أَمَنَةً مِنْهُ أي أمنا، والضمير المجرور يعود على الله تعالى، وانتصاب أمنة على أنه مفعول من أجله. قال ابن مسعود: النعاس عند حضور القتال علامة أمن من العدو وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً تعديد لنعمة أخرى وذلك أنهم عدموا الماء في غزوة بدر قبل وصولهم إلى بدر، وقيل: بعد وصولهم، فأنزل الله لهم المطر حتى سالت الأودية لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ كان منهم من أصابته جنابة فتطهر بماء المطر، وتوضأ به سائرهم، وكانوا قبله ليس عندهم ماء للطهر ولا للوضوء وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ كان الشيطان قد ألقى في نفوس بعضهم وسوسة بسبب عدم الماء، فقالوا: نحن أولياء الله وفينا رسوله فكيف نبقى بلا ماء؟ فأنزل الله المطر، وأزال عنهم وسوسة الشيطان وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ أي يثبتها بزوال ما وسوس لها الشيطان وبتنشيطها وإزالة الكسل عنها وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ الضمير في به عائد على الماء، وذلك أنهم كانوا في رملة دعصة لا يثبت فيها قدم، فلما نزل المطر تلبدت وتدقت «3» الطريق، وسهل المشي عليها والوقوف، وروي أن ذلك المطر بعينه صعّب الطريق على المشركين فتبين أن ذلك من لطف الله إِذْ يُوحِي يحتمل أن يكون ذلك بدلا من إذ المتقدمة كما أنها بدل من التي قبلها، أو يكون العامل فيه يثبت فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا يحتمل أن يكون التثبيت بقتال الملائكة مع المؤمنين أو بأقوال مؤنسة مقوية للقلب قالوها: إذا تصوروا بصور بني آدم أو بإلقاء الأمن في نفوس المؤمنين سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ يحتمل أن يكون

_ (1) . وهي قراءة أهل المدينة. (2) . هي قراءة أبو عمرو وابن كثير: يغشاكم. وأما يغشّيكم فهي قراءة أهل الكوفة. (3) . كذا في الأصل المطبوع ولعلها خطأ فلتحرر.

[سورة الأنفال (8) : الآيات 13 إلى 18]

من خطاب الله للملائكة في شأن غزوة بدر تكميلا لتثبيت المؤمنين، أو استئناف إخبار عما يفعله الله في المستقبل فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ يحتمل أيضا أن يكون خطابا للملائكة أو للمؤمنين، ومعنى فوق الأعناق: أي على الأعناق، حيث المفصل بين الرأس والعنق لأنه مذبح، والضرب فيها يطيّر الرأس، وقيل: المراد الرؤوس، لأنها فوق الأعناق، وقيل: المراد الأعناق وفوق زائدة كُلَّ بَنانٍ قيل: هي المفاصل، وقيل: الأصابع وهو الأشهر في اللغة، وفائدة ذلك أن المقاتل إذا ضربت أصابعه تعطل عن القتال فأمكن أسره وقتله ِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ الإشارة إلى ما أصاب الكفار يوم بدر، والباء للتعليل، وشاقوا من الشقاق وهو العداوة والمقاطعة ذلِكُمْ فَذُوقُوهُ الخطاب هنا للكفار، وذلكم مرفوع تقديره ذلكم العقاب أو العذاب، ويحتمل أن يكون منصوبا بقوله: فذوقوه، كقولك زيدا فاضربه وَأَنَّ لِلْكافِرِينَ عطف على ذلك على تقدير رفعه، أو نصبه، أو مفعول معه، والواو بمعنى مع زَحْفاً حال من الذين كفروا، أو من الفاعل في لقيتم، ومعناه متقابلي الصفوف والأشخاص، وأصل الزحف الاندفاع فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ نهي عن الفرار مقيدا بأن يكون الكفار أكثر من مثلي المسلمين حسبما يذكره في موضعه وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ أي يوم اللقاء في أي عصر كان إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ هو الكر بعد الفر ليرى عدوه أنه منهزم، ثم يعطف عليه، وذلك من الخداع في الحرب أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ أي منحازا إلى جماعة من المسلمين، فإن كانت الجماعة حاضرة في الحرب، فالتحيز إليها جائز باتفاق، واختلف في التحيز إلى المدينة، والإمام والجماعة إذا لم يكن شيئا من ذلك حاضرا، ويروى عن عمر بن الخطاب، أنه قال: أنا فئة لكل مسلم، وهذا إباحة لذلك، والفرار من الذنوب الكبائر، وانتصب قوله متحرفا على الاستثناء من قوله ومن يولهم، وقال الزمخشري: انتصب على الحال وإلا لغو، ووزن متحيز متفيعلا، ولو كان على متفعل لقال متحوز، لأنه من حاز يحوز فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ أي لم يكن قتلهم في قدرتكم لأنهم أكثر منكم وأقوى، لكن الله قتلهم بتأييدكم عليهم وبالملائكة وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد أخذ يوم بدر قبضة من تراب وحصى ورمى بها وجوه الكفار فانهزموا، فمعنى الآية أن ذلك من الله في الحقيقة بَلاءً حَسَناً يعني الأجر والنصر والغنيمة مُوهِنُ من الوهن وهو الضعف، وقرئ موهّن»

_ (1) . وهي قراءة نافع وابن كثير وأبو عمرو وقرأ أهل الكوفة والشام: موهن بالتخفيف.

[سورة الأنفال (8) : الآيات 19 إلى 27]

بالتشديد والتخفيف وهو بمعنى واحد إِنْ تَسْتَفْتِحُوا الآية: خطاب لكفار قريش، وذلك أنهم كانوا قد دعوا الله أن ينصر أحب الطائفتين إليه، وروي أن الذي دعا بذلك أبو جهل فنصر الله المؤمنين، وفتح لهم، ومعنى: إن تستفتحوا: تطلبوا الفتح، ويحتمل أن يكون الفتح الذي طلبوه بمعنى النصر أو بمعنى الحكم، وقيل: إن الخطاب للمؤمنين فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ إن كان الخطاب للكافر فالفتح هنا بمعنى الحكم: أي قد جاءكم الحكم الذي حكم الله عليكم بالهزيمة والقتل والأسر، وإن كان الخطاب للمؤمنين، فالفتح هنا يحتمل أن يكون بمعنى الحكم، لأن الله حكم لهم، أو بمعنى النصر وَإِنْ تَنْتَهُوا أي ترجعوا عن الكفر وهذا يدل على أن الخطاب للكفار وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ أي إن تعودوا إلى الاستفتاح أو القتال نعد لقتالكم والنصر عليكم وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ الضمير لرسول الله صلى الله عليه واله وسلّم أو للأمر بالطاعة وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ أي تسمعون القرآن والمواعظ كَالَّذِينَ قالُوا سَمِعْنا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ هم الكفار سمعوا بآذانهم دون قلوبهم فسماعهم كلا سماع إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ أي كل من يدب، والمقصود أن الكفار شر الخلق، قال ابن قتيبة: نزلت هذه الآية في بني عبد الدار، فإنهم جدوا في القتال مع المشركين لِما يُحْيِيكُمْ أي للطاعة، وقيل: للجهاد لأنه يحيا بالنصر يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ قيل: يميته، وقيل: يصرّف قلبه كيف يشاء فينقلب من الإيمان إلى الكفر، ومن الكفر إلى الإيمان وشبه ذلك فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً أي لا تصيب الظالمين وحدهم، بل تصيب معهم من لم يغير المنكر ولم ينه عن الظلم. وإن كان لم يظلم. وحكى الطبري أنها نزلت في علي بن أبي طالب، وعمار بن ياسر، وطلحة والزبير، وأن الفتنة ما جرى لهم يوم الجمل، ودخلت النون في تصيبن لأنه بمعنى النهي إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ الآية: أي حين كانوا بمكة وآواكم بالمدينة، وأيدكم بنصره في بدر وغيرها لا تَخُونُوا اللَّهَ نزلت في قصة أبي لبابة حين أشار إلى بني قريظة أن ليس عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلا الذبح، وقيل: المعنى: لا تخونوا بغلول الغنائم ولفظها عام وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ عطف

[سورة الأنفال (8) : الآيات 28 إلى 35]

على لا تخونوا أو منصوب يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً أي تفرقة بين الحق والباطل، وذلك دليل على أن التقوى تنوّر القلب، وتشرح الصدر، وتزيد في العلم والمعرفة وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا عطف على إذ أنتم قليل، أو استئناف، وهي إشارة إلى اجتماع قريش بدار الندوة بمحضر إبليس في صورة شيخ نجدي الحديث بطوله لِيُثْبِتُوكَ أي ليسجنونك قالُوا قَدْ سَمِعْنا قيل: نزلت في النضر بن الحارث كان قد تعلم من أخبار فارس والروم، فإذا سمع القرآن وفيه أخبار الأنبياء قال: لو شئت لقلت مثل هذا، وقيل: هي في سائر قريش أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ أي أخبارهم المسطورة وَإِذْ قالُوا اللَّهُمَّ الآية، قالها النضر بن الحارث أو سائر قريش لما كذبوا النبي صلّى الله عليه وسلّم: دعوا على أنفسهم إن كان أمره هو الحق، والصحيح أن الذي دعا بذلك أبو جهل رواه البخاري ومسلم في كتابيهما، وانتصب الحق لأنه خبر كان. وقال الزمخشري: معنى كلامهم جحود أي: إن كان هذا هو الحق فعاقبنا على إنكاره، ولكنه ليس بحق فلا نستوجب عقابا، وليس مرادهم الدعاء على أنفسهم، إنما مرادهم نفي العقوبة عن أنفسهم وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ إكراما للنبي صلّى الله عليه وسلّم وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ أي لو آمنوا واستغفروا فإن الاستغفار أمان من العذاب، قال بعض السلف: كان لنا أمانان من العذاب وهما وجود النبي صلّى الله عليه وسلّم والاستغفار، فلما مات النبي صلّى الله عليه وسلّم ذهب الأمان الواحد، وبقي الآخر، وقيل: الضمير في يعذبهم للكفار، وفي وهم يستغفرون للمؤمنين الذين كانوا بين أظهرهم وَما لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ المعنى أي شيء يمنع من عذابهم وهم يصدون المؤمنين من المسجد الحرام والجملة في موضع الحال، وذلك من الموجب لعذابهم وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ الضمير للمسجد الحرام أو لله تعالى وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكاءً وَتَصْدِيَةً المكاء: التصفير بالفم، والتصدية: التصفيق باليد. وكانوا يفعلونهما إذ صلّى المسلمون ليخلطوا عليهم صلاتهم يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ الآية نزلت في إنفاق قريش في غزوة أحد وقيل: إنها نزلت في أبي سفيان بن حرب، فإنه استأجر العير من الأحباش فقاتل بهم النبي صلّى الله عليه وسلّم يوم أحد تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً أي يتأسفون

[سورة الأنفال (8) : الآيات 42 إلى 49]

على إنفاقها من غير فائدة أو يتأسفون في الآخرة ثُمَّ يُغْلَبُونَ إخبار بالغيب لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ معنى يميز: يفرق بين الخبيث والطيب، والخبيث هنا الكفار. والطيب: المؤمنون وقيل: الخبيث ما أنفقه الكفار، والطيب: ما أنفقه المؤمنون، واللام في ليميز على هذا تتعلق بيغلبون، وعلى الأول بيحشرون فَيَرْكُمَهُ أي يضمه ويجعل بعضه فوق بعضه إِنْ يَنْتَهُوا يعني عن الكفر إلى الإسلام لأن الإسلام يجبّ ما قبله، ولا تصح المغفرة إلا به وَإِنْ يَعُودُوا يعني إلى القتال فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ تهديد بما جرى لهم يوم بدر وبما جرى للأمم السالفة حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ الفتنة هنا الكفر، فالمعنى قاتلوهم، حتى لا يبقى كافر، وهو كقوله صلّى الله عليه وسلّم: أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله «1» وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ لفظه عام يراد به الخصوص، لأن الأموال التي تؤخذ من الكفار منها ما يخمس: وهو ما أخذ على وجه الغلبة بعد القتال، ومنها: ما لا يخمس بل يكون جميعه لمن أخذه، وهو ما أخذه من كان ببلاد الحرب من غير إيجاف، وما طرحه العدو خوف الغرق، ومنها: ما يكون جميعه للإمام يأخذ منه حاجته، ويصرف سائره في مصالح المسلمين وهي الفيء الذي لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ الآية: اختلف في قسم الخمس على هذه الأصناف فقال قوم: يصرف على ستة أسهم سهم لله في عمارة الكعبة، وسهم للنبي صلّى الله عليه وسلّم في مصالح المسلمين، وقيل: للوالي بعده: وسهم لذوي القربى الذين لا تحل لهم الصدقة، وسهم لليتامى، وسهم للمساكين، وسهم لابن السبيل. وقال الشافعي: على خمسة أسهم، ولا يجعل لله سهما مختصا، وإنما بدأ عنده بالله، لأن الكل ملكه، وقال أبو حنيفة على ثلاثة أسهم: لليتامى، والمساكين، وابن السبيل، وقال مالك الخمس إلى اجتهاد الإمام يأخذ منه كفايته ويصرف الباقي في المصالح إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ راجع إلى ما تقدم، والمعنى: إن كنتم مؤمنين فاعلموا ما ذكر الله لكم من قسمة الخمس، واعملوا بحسب ذلك ولا تخالفوه وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يعني النبي صلّى الله عليه وسلّم والذي أنزل عليه القرآن والنصر يَوْمَ الْفُرْقانِ أي التفرقة بين الحق والباطل وهو يوم بدر الْتَقَى الْجَمْعانِ يعني المسلمين والكفار إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا العامل في إذ

_ (1) . الحديث متفق عليه من رواية عبد الله بن عمر. ورواه النووي في الأربعين.

التقى والعدوة: شفير الوادي، وقرئ بالضم والكسر وهما لغتان، والدنيا القريبة من المدينة، والقصوى البعيدة وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ يعني العير التي كان فيها أبو سفيان، وكان قد نكب عن الطريق خوفا من النبي صلّى الله عليه وسلّم، وكان جمع قريش المشركين قد حال بين المسلمين وبين العير وَلَوْ تَواعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعادِ أي لو تواعدتم مع قريش ثم علمتم كثرتهم وقلتكم لاختلفتم ولم تجتمعوا معهم، أو لو تواعدتم لم يتفق اجتماعكم مثل ما اتفق بتيسير الله ولطفه لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ أي يموت من مات ببدر عن إعذار وإقامة الحجة عليه، ويعيش من عاش بعد البيان له، وقيل: ليهلك من يكفر ويحيى من يؤمن، وقرئ من حيي «1» بالإظهار والإدغام وهما لغتان إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ الآية: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد رأى الكفار في نومه قليلا، فأخبر بذلك أصحابه فقويت أنفسهم لَفَشِلْتُمْ أي جبنتم عن اللقاء وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ الآية معناها أن الله أظهر كل طائفة قليلة في عين الأخرى ليقع التجاسر على القتال رِيحُكُمْ أي قوتكم ونشاطكم، وذلك استعارة وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ يعني كفار قريش حين خرجوا لبدر بَطَراً أي عتوا وتكبرا وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ الآية: لما خرجت قريش إلى بدر تصور لهم إبليس في صورة سراقة بن مالك فقال لهم: إني جار لكم من قومي وكانوا قد خافوا من قومه، ووعدهم بالنصر نَكَصَ أي رجع إلى وراء إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ رأى الملائكة تقاتل يَقُولُ الْمُنافِقُونَ الذين كانوا بالمدينة، وقيل: الذين كانوا مع الكفار وهم نفر من قريش منهم: قيس بن الوليد بن المغيرة وأبو قيس بن الفاكه بن المغيرة والحارث بن ربيعة بن الأسود وعلي بن أمية بن خلف والعاصي بن أمية بن الحجاج وكانوا قد أسلموا ولم يهاجروا وخرجوا يوم بدر مع الكفار فقالوا هذه المقالة غَرَّ هؤُلاءِ دِينُهُمْ أي اغترّ

_ (1) . حيي: قرأها نافع والبزي عن ابن كثير وأبو بكر وقرأ الباقون حيّ بالتشديد.

[سورة الأنفال (8) : الآيات 50 إلى 60]

المسلمون بدينهم فأدخلوا أنفسهم فيما لا طاقة لهم به وَلَوْ تَرى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ ذلك فيمن قتل يوم بدر وَأَدْبارَهُمْ أي أستاههم، وقيل: ظهورهم وَذُوقُوا هذه من قول الملائكة لهم تقديره: ويقولون لهم: ذوقوا والقول المحذوف معموله معطوف على يضربون، ويحتمل أن يكون ما بعده من قول الملائكة أو يكون مستأنفا ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ تقديره عند سيبويه الأمر ذلك، والباء سببية، والمعنى: أن الله لا يغير نعمة على عبيده حتى يغيروا هم بالكفر والمعاصي كَدَأْبِ ذكر في آل عمران الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ يريد بني قريظة فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ أي افعل بهم من النقمة ما يزجر غيرهم وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً أي نقضا للعهد فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ أي ردّ العهد الذي بينك وبينهم والمفعول محذوف تقديره فانبذ إليهم عهدهم عَلى سَواءٍ أي على معادلة، وقيل: معناه أن تستوي معهم في العلم بنقض العهد وَلا يَحْسَبَنَّ «1» الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا أي لا تظن أنهم فاتوا ونجوا بأنفسهم إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ أي لا يفوتون في الدنيا ولا في الآخرة وَأَعِدُّوا لَهُمْ الضمير للذين ينبذ لهم العهد أو للذين لا يعجزون، وحكمه عام في جميع الكفار مِنْ قُوَّةٍ قال رسول الله صلّى الله عليه واله وسلّم «ألا إن القوة الرمي» «2» ، وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ قال الزمخشري: الرباط اسم للخيل التي تربط في سبيل الله. وقال ابن عطية: رباط الخيل جمع ربط أو مصدر عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ يعني الكفار وَآخَرِينَ يعني المنافقين: وقيل: بني قريظة، وقيل: الجن لأنها تنفر من صهيل الخيل، وقيل: فارس، والأول أرجح لقوله مردوا على النفاق لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ قال السهيلي: لا ينبغي أن يقال فيهم شيء، لأن الله تعالى قال: لا تعلمونهم، فكيف يعلمهم

_ (1) . يحسبنّ: قرأها ابن عامر وحمزة وحفص وقرأ الباقون: ولا تحسبنّ. (2) . رواه مسلم عن عقبة بن عامر الجهني. ذكره النووي في رياض الصالحين. [.....]

[سورة الأنفال (8) : الآيات 61 إلى 71]

أحد، وهذا لا يلزم، لأن معنى قوله لا تعلمونهم: لا تعرفونهم: أي لا تعرفون آحادهم وأعيانهم وقد يعرف صنفهم من الناس، ألا ترى أنه قال مثل ذلك في المنافقين وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها السلم هنا المهادنة، والآية منسوخة بآية القتال في براءة، لأن مهادنة كفار العرب لا تجوز وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ قيل: المراد، بين قلوب الأوس والخزرج إذ كانت بينهما عداوة فذهبت بالإسلام، واللفظ عام وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ عطف على اسم الله، وقال الزمخشري مفعول معه، والواو بمعنى مع أي حسبك وحسب من اتبعك الله إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ الآية: إخبار يتضمن وعدا بشرط الصبر ووجود ثبوت الواحد للعشرة ثم نسخ بثبوت الواحد للاثنين ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ أي: يقاتلون على غير دين ولا بصيرة فلا يثبتون ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى لما أخذ الأسرى يوم بدر أشار أبو بكر بحياتهم، وأشار عمر بقتلهم. فنزلت الآية عتابا على استبقائهم حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ أي يبايع في القتال تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا عتاب لمن رغب في فداء الأسرى لَوْلا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ الكتاب ما قضاه الله في الأزل من العفو عنهم، وقيل: ما قضاه الله من تحليل الغنائم لهم فِيما أَخَذْتُمْ يريد به الأسرى وفداؤهم، ولما نزلت الآية قال رسول الله صلّى الله تعالى عليه واله وسلّم: لو نزل عذاب ما نجا منه غيرك يا عمر فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ إباحة للغنائم ولفداء الأسارى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً أي إن علم في قلوبكم إيمانا جبر عليكم ما أخذ منكم من الفدية، قال العباس: فيّ نزلت وكان قد افتدى يوم بدر، ثم أعطاه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من المال ما لا يقدر أن يحمله، فقال: قد أعطاني الله خيرا مما أخذ مني، وأنا أرجو أن يغفر لي وَإِنْ يُرِيدُوا خِيانَتَكَ الآية تهديد لهم إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا إلى آخر السورة مقصدها: بيان منازل المهاجرين

والأنصار والذين آمنوا ولم يهاجروا بعد الحديبية، فبدأ أولا بالمهاجرين، ثم ذكر الأنصار وهم الذين آووا ونصروا، وأثبت الولاية بينهم، وهي ولاية التعاون ثم نسخت بقوله: وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ لما نفى الولاية بين المؤمنين والتناصر، وقيل: هي ولاية الميراث الذين هاجروا وبين المؤمنين الذين لم يهاجروا: أمر بنصرهم إن استنصروا بالمؤمنين: إلا إذا استنصروا على قوم بينهم وبين المؤمنين عهد فلا ينصرونهم عليهم، إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ إلا هنا مركبة من إن الشرطية ولا النافية، والضمير في تفعلوه لولاية المؤمنين ومعاونتهم أو لحفظ الميثاق الذي في قوله: إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق، أو النصر الذي في قوله: فعليكم النصر، والمعنى إن لم تفعلوا ذلك تكن فتنة وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا الآية: ثناء على المهاجرين والأنصار، ووعد لهم، والرزق الكريم في الجنة وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ يعني الذين هاجروا بعد الحديبية وبيعة الرضوان وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ قيل: هي ناسخة للتوارث بين المهاجرين والأنصار، قال مالك: ليست في الميراث، وقال أبو حنيفة: هي في الميراث، وأوجب بها ميراث الخال والعمة وغيرهما من ذوي الأرحام فِي كِتابِ اللَّهِ أي القرآن وقيل اللوح المحفوظ.

سورة التوبة

سورة التوبة مدنية إلا الآيتين الأخيرتين فمكيتان وآياتها 129: نزلت بعد المائة (سورة براءة) وتسمى سورة التوبة، وتسمى أيضا الفاضحة: لأنها كشفت أسرار المنافقين، واتفقت المصاحف والقراء على إسقاط البسملة من أولها، واختلف في سبب ذلك، فقال عثمان بن عفان: اشتبهت معانيها بمعاني الأنفال، وكانت تدعى القرينتين في زمان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فلذلك قرنت بينهما فوضعتهما في السبع الطوال. وكان الصحابة قد اختلفوا هل هما سورتان أو سورة واحدة؟ فتركت البسملة بينهما لذلك وقال علي بن أبي طالب: البسملة أمان، وبراءة نزلت بالسيف، فلذلك لم تبدأ بالأمان بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ المراد بالبراءة التبرؤ من المشركين، وارتفاع براءة على أنه خبر ابتداء أو مبتدأ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ تقدير الكلام: براءة واصلة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين، فمن وإلى يتعلقان بمحذوف لا ببراءة، وإنما أسند العهد إلى المسلمين في قوله عاهدتم، لأن فعل النبي صلّى الله عليه وسلّم لازم للمسلمين، فكأنهم هم الذين عاهدوا المشركين، وكان النبي صلّى الله عليه وسلّم قد عاهد المشركين إلى آجال محدودة، فمنهم من وفى فأمر الله أن يتم عهده إلى مدته، ومنهم من نقض، أو قارب النقض فجعل له أجل أربعة أشهر، وبعدها لا يكون له عهد فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أي سيروا آمنين أربعة أشهر، وهي الأجل الذي جعل لهم، واختلف في وقتها فقيل: هي شوال وذو القعدة وذو الحجة والمحرم، لأن السورة نزلت حينئذ وذلك عام تسعة، وقيل: هي من عيد الأضحى إلى تمام العشر الأول من ربيع الآخر، لأنهم إنما علموا بذلك حينئذ، وذلك أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعث تلك السنة أبا بكر الصديق يحج بالناس، ثم بعث بعده علي بن أبي طالب فقرأ على الناس سورة براءة يوم عرفة وقيل: يوم النحر غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ أي لا تفوتونه وَأَذانٌ أي إعلام بتبرّي الله تعالى ورسوله من المشركين إِلَى النَّاسِ جعل البراءة مختصة بالمعاهدين من المشركين، وجعل الإعلام بالبراءة عاما لجميع الناس: من عاهد، ومن لم يعاهد، والمشركين وغيرهم الْحَجِّ الْأَكْبَرِ هو يوم عرفة أو يوم النحر، وقيل: أيام الموسم كلها، وعبر عنها بيوم كقولك يوم

صفين والجمل، وكانت أياما كثيرة أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ تقديره أذان بأن الله بريء، وحذفت الباء تخفيفا، وقرئ إن الله بالكسر، لأن الأذان في معنى القول وَرَسُولِهِ ارتفع بالعطف على الضمير في برىء، أو بالعطف على موضع اسم إن، أو بالابتداء وخبره محذوف وقرئ بالنصب عطف على اسم إن، وأما الخفض فلا يجوز فيه العطف على المشركين لأنه معنى فاسد ويجوز على الجوار أو القسم، وهو مع ذلك بعيد والقراءة به شاذة فَإِنْ تُبْتُمْ يعني التوبة من الكفر إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ يريد الذين لم ينقضوا العهد فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ يعني الأشهر الأربعة التي جعلت لهم، فمن قال: إنها شوال وذو القعدة وذو الحجة والمحرم فهي الحرم المعروفة زاد فيها شوال ونقص رجب، وسميت حرما تغليبا للأكثر ومن قال: إنها إلى ربيع الثاني: فسميت حرما لحرمتها ومنع القتال فيها حينئذ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ ناسخة لكل موادعة في القرآن، وقيل: إنها نسخت أيضا فإمّا منّا بعد وإما فداء، وقيل: بل نسختها هي فيجوز المنّ والفداء وَخُذُوهُمْ معناه الأسر، والأخيذ هو الأسير كُلَّ مَرْصَدٍ كل طريق ونصبه على الظرفية فَإِنْ تابُوا يريد من الكفر، ثم قرن بالإيمان الصلاة والزكاة، فذلك دليل على قتال تارك الصلاة والزكاة، كما فعل أبو بكر الصديق رضي الله عنه، والآية في معنى قوله صلى الله تعالى عليه وعلى اله وسلّم: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة» «1» فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ تأمين لهم وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ هو من الجوار أي استأمنك فأمنه حتى يسمع القرآن ليرى هل يسلم أم لا ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ أي إن لم يسلم فردّه إلى موضعه، وهذا الحكم ثابت عند قوم، وقال قوم: نسخ بالقتال كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ لفظ استفهام، ومعناه استنكار واستبعاد إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ قيل: المراد قريش، وقيل: قبائل بني بكر فَمَا اسْتَقامُوا ما ظرفية

_ (1) . رواه الشيخان من حديث ابن عمر. النووي في الأربعين.

[سورة التوبة (9) : الآيات 8 إلى 16]

كَيْفَ تأكيد للأولى، وحذف الفعل بعدها للعلم به تقديره: كيف يكون لهم عهد؟ لا يَرْقُبُوا أي لا يراعوا إِلًّا وَلا ذِمَّةً الإلّ القرابة، وقيل: الحلف، والذمة العهد وَأَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ استثنى من قضي له بالإيمان أَئِمَّةَ الْكُفْرِ «1» أي رؤساء أهله قيل: إنهم أبو جهل لعنه الله، وأمية بن خلف، وعتبة بن ربيعة، وأبو سفيان بن حرب، وسهيل بن عمرو، وحكى ذلك الطبري وهو ضعيف لأن أكثر هؤلاء كان قد مات قبل نزول هذه السورة، والأحسن أنها على العموم لا أَيْمانَ لَهُمْ أي لا أيمان لهم يوفون بها، وقرئ لا إيمان «2» بكسر الهمزة لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ يتعلق بقاتلوا وَهَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ قيل: يعني إخراجه من المدينة حين قاتلوه بالخندق وأحد، وقيل: يعني إخراجه من مكة إذا تشاوروا فيه بدار الندوة ثم خرج هو بنفسه وَهُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ يعني: إذايتهم للنبي صلّى الله عليه واله وسلّم والمسلمين بمكة يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ يريد بالقتل والأسر وفي ذلك وعد للمسلمين بالظفر قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ قيل: إنهم خزاعة والإطلاق أحسن وَيَتُوبُ اللَّهُ استئناف إخبار فإن الله يتوب على بعض هؤلاء الكفار فيسلم أَمْ حَسِبْتُمْ الآية: معناها أن الله لا يتركهم دون تمحيص يظهر فيه الطيب من الخبيث، وأم هنا بمعنى بل والهمزة، يَعْلَمِ اللَّهُ أي: يعلم ذلك موجبا لتقوم به الحجة وَلِيجَةً أي بطانة ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللَّهِ أي ليس لهم ذلك بالحق والواجب، وإن كانوا قد عمروها تغليبا وظلما «3» ، ومن قرأ مساجد بالجمع أراد جميع المساجد، ومن قرأ «4» بالتوحيد أراد المسجد الحرام شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أي أن أحوالهم وأقوالهم تقتضي الإقرار بالكفر، وقيل: الإشارة إلى قولهم في التلبية: لا شريك لك إلا شريكا هو

_ (1) . قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو: أيمة. (2) . وهي قراءة ابن عامر فقط. (3) . كذا في الأصل المطبوع فلعلها محرفة. (4) . قرأ ابن كثير وأبو عمرو: مسجد في الآيتين.

لك أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ الآية: سببها أن قوما من قريش افتخروا بسقاية الحاج، وبعمارة المسجد الحرام فبين الله أن الجهاد أفضل من ذلك، ونزلت الآية في علي بن أبي طالب والعباس بن عبد المطلب وطلحة بن شيبة افتخروا فقال طلحة أنا صاحب البيت وعندي مفاتحه. وقال العباس: أنا صاحب السقاية، وقال علي: لقد أسلمت قبل الناس، وجاهدت مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ الآية قيل: نزلت فيمن ثبط عن الهجرة ولفظها عام وكذلك حكمها فَتَرَبَّصُوا وعيد لمن آثر أهله أو ماله أو مسكنه على الهجرة والجهاد بِأَمْرِهِ قيل: يعني فتح مكة، وقيل: هو إشارة إلى عذاب أو عقاب وَيَوْمَ حُنَيْنٍ عطف على مواطن أو منصوب بفعل مضمر، وهذا أحسن لوجهين: أحدهما أن قوله: إذ أعجبتكم كثرتكم مختص بحنين، ولا يصح في غيره من المواطن فيضعف عطف يوم حنين على المواطن للاختلاف الذي بينهما في ذلك، والآخر أن مواطن ظرف مكان، ويوم حنين ظرف زمان، فيضعف عطف أحدهما على الآخر، إلا أن يريد بالمواطن الأوقات، وحنين: اسم علم لموضع عرف برجل اسمه حنين وانصرف لأنه مذكر إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ كانوا يومئذ اثنا عشر ألفا، فقال بعضهم: لن نغلب اليوم من قلة، فأراد الله إظهار عجزهم ففرّ الناس عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، حتى بقي على بغلته في نفر قليل، ثم استنصر بالله، وأخذ قبضة من تراب فرمى بها وجوه الكفار وقال: شاهت الوجوه، ونادى بأصحابه فرجعوا إليه، وهزم الله الكفار وقصة حنين مذكورة في السير بِما رَحُبَتْ أي ضاقت على كثرة اتساعها وما هنا مصدرية وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها يعني: الملائكة ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ إشارة إلى إسلام هوازن الذين قاتلوا المسلمين بحنين.

[سورة التوبة (9) : الآيات 28 إلى 29]

إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ قيل: إن نجاستهم بكفرهم وقيل: بالجنابة فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ نص على منع المشركين، وهم عبدة الأوثان من المسجد الحرام، فأجمع العلماء على ذلك، وقاس مالك على المشركين جميع الكفار من أهل الكتاب وغيرهم، وقاس على المسجد الحرام سائر المساجد، فمنع جميع الكفار من جميع المساجد، وجعلها الشافعي عامة في الكفار خاصة بالمسجد الحرام، فمنع جميع الكفار دخول المسجد الحرام خاصة، وأباح لهم دخول غيره. وقصرها أبو حنيفة على موضع النص فمنع المشركين خاصة من دخول المسجد الحرام خاصة، وأباح لهم دخول سائر المساجد وأباح دخول أهل الكتاب في المسجد الحرام وغيره بَعْدَ عامِهِمْ هذا يريد عام تسعة من الهجرة حين حج أبو بكر بالناس، وقرأ عليهم عليّ سورة براءة وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً أي فقرا، كان المشركون يجلبون الأطعمة إلى مكة، فخاف الناس قلة القوت بها إذ منع المشركون منها، فوعدهم الله بأن يغنيهم من فضله، فأسلمت العرب كلها وتمادى جلب الأطعمة إلى مكة ثم فتح الله سائر الأمصار قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ أمر بقتال أهل الكتاب، ونفى عنهم الإيمان بالله لقول اليهود: عزير ابن الله، وقول النصارى: المسيح ابن الله، ونفى عنهم الإيمان باليوم الآخر لأن اعتقادهم فيه فاسد، فإنهم لا يقولون بالمعاد والحساب وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ لأنهم يستحلون الميتة والدم ولحم الخنزير وغير ذلك وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ أي لا يدخلون في الإسلام مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بيان للذين أمر بقتالهم وحين نزلت هذه الآية خرج رسول الله صلّى الله تعالى عليه وعلى اله وسلّم إلى غزوة تبوك لقتال النصارى حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ اتفق العلماء على قبول الجزية من اليهود والنصارى، ويلحق بهم المجوس، لقوله صلّى الله عليه وسلّم: سنوا بهم سنة أهل الكتاب «1» ، واختلفوا في قبولها من عبدة الأوثان والصابئين ولا تؤخذ من النساء والصبيان والمجانين، وقدرها عند مالك أربعة دنانير على أهل الذهب، وأربعون درهما على أهل الورق، ويؤخذ ذلك من كل رأس عَنْ يَدٍ فيه تأويلان: أحدهما دفع الذميّ لها بيده لا يبعثها مع أحد ولا يمطل بها كقولك يدا بيد، الثاني عن استسلام وانقياد كقولك: ألقى فلان بيده وَهُمْ صاغِرُونَ أذلاء وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ قال ابن

_ (1) . رواه الإمام أبو عبيد القاسم بن سلام في كتابه الأموال بسنده إلى عبد الرحمن بن عوف ص 45.

[سورة التوبة (9) : الآيات 34 إلى 37]

عباس: إن هذه المقالة قالها أربعة من اليهود، وهم سلام بن مشكم، ونعمان بن أوفى، وشاس بن قيس، ومالك بن الصيف، وقيل: لم يقلها إلا فنحاص، ونسب ذلك إلى جميعهم لأنهم متبعون لمن قالها، والظاهر أن جماعتهم قالوها إذ لم ينكروها حين نسبت إليهم، وكان سبب قولهم ذلك أنهم فقدوا التوراة، فحفظها عزير وحده، فعلّمها لهم فقالوا: ما علم الله عزير التوراة إلا أنه ابنه، وعزير مبتدأ، وابن الله خبره، ومنع عزير «1» التنوين لأنه أعجمي لا ينصرف وقيل: بل هو منصرف وحذف التنوين لالتقاء الساكنين وهذا ضعيف، وأما من نونه فجعله عربيا وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ. قال أبو المعالي: أطبقت النصارى على أن المسيح إله وابن إله وذلك كفر شنيع بِأَفْواهِهِمْ يتضمن معنيين أحدهما: إلزامهم هذه المقالة والتأكيد في ذلك، والثاني: أنهم لا حجة لهم في ذلك، وإنما هو مجرد دعوى كقولك لمن تكذبه: هذا قول بلسانك يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ معنى يضاهئون يشابهون، فإن كان الضمير لليهود والنصارى، فالإشارة بقوله الذين كفروا من قبل للمشركين من العرب إذ قالوا: الملائكة بنات الله، وهم أول كافر. أو للصابئين أو لأمم متقدمة وإن كان الضمير للمعاصرين للنبي صلّى الله عليه وسلّم من اليهود والنصارى، فالذين كفروا من قبل هم أسلافهم المتقدمون قاتَلَهُمُ اللَّهُ دعاء عليهم، وقيل: معناه لعنهم الله أَنَّى يُؤْفَكُونَ تعجب كيف يصرفون عن الحق والصواب اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً أي أطاعوهم كما يطاع الرب وإن كانوا لم يعبدوهم وَالْمَسِيحَ معطوف على الأحبار والرهبان وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً أي أمرهم بذلك عيسى ومحمد صلّى الله عليه واله وسلم يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ أي يريدون أن يطفئوا نبوة محمد صلّى الله تعالى عليه وعلى اله وسلّم وما جاء به من عبادة الله وتوحيده بِأَفْواهِهِمْ إشارة إلى أقوالهم كقولهم ساحر وشاعر، وفيه أيضا إشارة إلي ضعف حيلتهم فيما أرادوا لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ الضمير للرسول صلّى الله عليه واله وسلّم، أو للدين، وإظهاره جعله أعلى الأديان وأقواها حتى يعم المشارق والمغارب، وقيل: ذلك عند نزول عيسى ابن مريم حتى لا يبقى إلا دين الإسلام لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ هو الرشا

_ (1) . عزير: قرأها عاصم والكسائي بالتنوين وقرأها الباقون: عزير بضمة واحدة.

[سورة التوبة (9) : الآيات 38 إلى 42]

[جمع رشوة] على الأحكام وغير ذلك وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ ورد في الحديث أن: «كل ما أدّيت زكاته فليس بكنز، وما لم تؤد زكاته فهو كنز» ، وقال أبو ذرّ وجماعة من الزهاد: كلما فضل عن حاجة الإنسان فهو كنز «1» وَلا يُنْفِقُونَها الضمير للأموال والكنوز التي يتضمنها المعنى، وقيل: هي الفضة، واكتفى في ذلك عن الذهب إذا الحكم فيهما واحد يَوْمَ يُحْمى العامل في الظرف أليم أو محذوف عَلَيْها الضمير يعود على ما يعود عليه ضمير ينفقونها. اثْنا عَشَرَ شَهْراً هي الأشهر المعروفة أولها المحرم وآخرها ذو الحجة، وكان الذي جعل المحرم أول شهر من العام عمر بن الخطاب رضي الله عنه فِي كِتابِ اللَّهِ أي: في اللوح المحفوظ، وقيل: في القرآن والأوّل أرجح لقوله: يوم خلق السموات والأرض مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ هي رجب وذو القعدة وذو الحجة والمحرم ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ يعني أن تحريم الأشهر الحرم هو الدين المستقيم، دين إبراهيم وإسماعيل، وكانت العرب قد تمسكت به حتى غيّره بعضهم فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ الضمير في قوله: فيهن للأشهر الحرم، تعظيما لأمرها وتغليظ للذنوب فيها، وإن كان الظلم ممنوعا في غيرها، وقيل: الضمير للاثني عشر شهرا، أو الزمان كله، والأوّل أظهر وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً أي قاتلوهم في الأشهر الحرم، فهذا نسخ لتحريم القتال فيها، وكافة حال من الفاعل أو المفعول إِنَّمَا النَّسِيءُ وهو تأخير حرمة الشهر إلى الشهر الآخر، وذلك أن العرب كانوا أصحاب حروب وإغارات، وكانت محرّمة عليهم في الأشهر الحرم، فيشق عليهم تركها فيجعلونها في شهر حرام ويحرمون شهرا آخر بدلا منه، وربما أحلوا المحرم وحرموا صفر حتى تكمل في العام أربعة أشهر محرمة يُحِلُّونَهُ عاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عاماً أي تارة يحلون وتارة يحرمون، ولم يرد العام حقيقة لِيُواطِؤُا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللَّهُ أي ليوافقوا عدد الأشهر الحرم وهي أربعة فَيُحِلُّوا ما حَرَّمَ اللَّهُ يعني: إحلالهم القتال في الأشهر الحرم ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا عتاب لمن تخلف عن غزوة تبوك اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ عبارة عن

_ (1) . رواه الإمام الطبري في تفسيره بسنده إلى ابن عمر.

[سورة التوبة (9) : الآيات 43 إلى 51]

تخلفهم، وأصل اثاقلتم تثاقلتم إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ شرط وجزاء وهو العذاب في الدنيا والآخرة إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ شرط وجواب، والضمير لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فإن قيل: ارتبط هذا الشرط مع جوابه، فالجواب: أن المعنى إن لم تنصروه أنتم فسينصره الله الذي نصره حين كان ثاني اثنين، فدل بقوله نصره الله على نصره في المستقبل إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا يعني خروجه من مكة مهاجرا إلى المدينة، وأسند إخراجه إلى الكفار، لأنهم فعلوا معه من الأذى ما اقتضى خروجه ثانِيَ اثْنَيْنِ هو أبو بكر الصديق إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ يعني أبا بكر إِنَّ اللَّهَ مَعَنا يعني بالنصر واللطف فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ الضمير للرسول صلّى الله تعالى عليه وسلّم، وقيل: لأبي بكر، لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم نزل معه السكينة، ويضعف ذلك بأن الضمائر بعدها للرسول عليه السلام وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها يعني الملائكة يوم بدر وغيره وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى يريد إذلالها ودحضها. وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيا قيل هي: لا إله إلا الله، وقيل: الدين كله. انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالًا أمر بالنفير إلى الغزو، والخفة استعارة لمن يمكنه السفر بسهولة، والثقل من يمكنه بصعوبة، وقال بعض العلماء: الخفيف: الغني، والثقيل: الفقير، وقيل: الخفيف الشاب، والثقيل الشيخ، وقيل: الخفيف النشيط، والثقيل الكسلان، وهذه الأقوال أمثلة في الثقل والخفة، وقيل: إن هذه الآية منسوخة بقوله: ليس على الضعفاء ولا على المرضى الآية لَوْ كانَ عَرَضاً قَرِيباً الآية: نزلت هي وكثير مما بعدها في هذه السورة في المنافقين الذين تخلفوا عن غزوة تبوك، وذلك أنها كانت إلى أرض بعيدة وكانت في شدّة الحر وطيب الثمار والظلال، فثقلت عليهم فأخبر الله في هذه الآية أن السفر لو كان لعرض من الدنيا، أو إلى مسافة قريبة لفعلوه بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ أي الطريق والمسافة وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إخبار بغيب وهو أنهم يعتذرون بأعذار كاذبة ويحلفون يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ أي يوقعونها في الهلاك بحلفهم الكاذبة، أو تخلفهم عن الغزو عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ الآية: كان بعض المنافقين قد استأذن النبي صلّى الله عليه وسلّم في التخلف عن غزوة تبوك فأذن لهم، فعاتبه الله تعالى على إذنه لهم، وقدم العفو على العتاب إكراما له

صلّى الله عليه وسلّم وقيل: إن قوله عفا الله عنك ليس لذنب ولا عتاب، ولكنه استفتاح كلام كما يقول: أصلحك الله حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكاذِبِينَ كانوا قد قالوا: استأذنوه في القعود، فإن أذن لنا قعدنا، وإن لم يأذن لنا قعدنا، وإنما كان يظهر الصدق من الكذب لو لم يأذن لهم، فحينئذ كان يقعد العاصي والمنافق ويسافر المطيع لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ الآية: لا يستأذنك في التخلف عن الغزو لغير عذر من يؤمن بالله واليوم الآخر وَارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ أي شكت، ونزلت الآية في عبد الله بن أبيّ بن سلول والجد بن قيس وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ الآية. أي لو كانت لهم نية في الغزو والاستعداد له قبل أوانه: انْبِعاثَهُمْ أي خروجهم فَثَبَّطَهُمْ أي كسر عزمهم وجعل في قلوبهم الكسل وَقِيلَ اقْعُدُوا يحتمل أن يكون القائل لهم اقعدوا هو الله تعالى، وذلك عبارة عن قضائه عليهم بالقعود، ويحتمل أن يكون ذلك من قول بعضهم لبعض مَعَ الْقاعِدِينَ أي مع النساء والصبيان وأهل الأعذار، وفي ذلك ذم لهم لاختلاطهم في القعود مع هؤلاء لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلَّا خَبالًا أي شرا وفسادا وَلَأَوْضَعُوا أي أسرعوا السير، والإيضاع سرعة السير، والمعنى أنهم يسرعون للفساد والنميمة خِلالَكُمْ أي بينكم يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ أي يحاولون أن يفتنوكم سَمَّاعُونَ لَهُمْ وقيل: يسمعون أخبارهم وينقلونها إليهم لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ أي طلبوا الفساد، وروى أنها نزلت في عبد الله بن أبي بن سلول وأصحابه من المنافقين وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ أي دبروها من كل وجه، فأبطل الله سعيهم وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي لما دعا النبي صلّى الله تعالى عليه واله وسلّم إلى غزوة تبوك قال الجد بن قيس وكان من المنافقين: ائذن لي في القعود ولا تفتني برؤية بني الأصفر فإني لا أصبر عن النساء أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا أي وقعوا في الفتنة التي فروا منها إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ الحسنة هنا النصر والغنيمة وشبه ذلك يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنا أَمْرَنا مِنْ قَبْلُ أي قد حذرنا وتأهبنا من قبل قُلْ لَنْ يُصِيبَنا إِلَّا ما كَتَبَ اللَّهُ لَنا أي ما قدر

[سورة التوبة (9) : الآيات 52 إلى 59]

وقضى، وهذا رد على المنافقين قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ أي هل تنتظرون بنا إلا إحدى أمرين: إما الظفر والنصر، وإما الموت في سبيل الله وكل واحد من الخصلتين حسن بِعَذابٍ مِنْ عِنْدِهِ المصائب وما ينزل من السماء أو عذاب الآخرة أَوْ بِأَيْدِينا يعني القتل فَتَرَبَّصُوا تهديد قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ تضمن الأمر هنا معنى الشرط، فاحتاج إلى جواب، والمعنى: لن يتقبل منكم سواء أنفقتم طوعا أو كرها، والطوع والكره عموم في الإنفاق أي: لن يتقبل على كل حال وَما مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا تعليل لعدم قبول نفقاتهم بكفرهم، ويحتمل أن يكون إنهم كفروا فاعل ما منعهم، أو في موضع مفعول من أجله والفاعل الله إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها قيل: العذاب في الدنيا بالمصائب، وقيل: ما ألزموا من أداء الزكاة وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ إخبار بأنهم يموتون على الكفر وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ أي من المؤمنين يَفْرَقُونَ يخافون لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أي ما يلجأ إليه من المواضع أَوْ مَغاراتٍ هي الغيران في الجبال أَوْ مُدَّخَلًا وزنه مفتعل من الدخول ومعناه نفق أو سرب في الأرض يَجْمَحُونَ أي يسارعون وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ أي يعيبك على قسمتها، والآية في المنافقين كالتي قبلها وبعدها وقيل: في ذي الخويصرة الذي قال: اعدل يا محمد فإنك لم تعدل. فقال رسول الله صلّى الله تعالى عليه وعلى اله وسلّم: «ويلك إن لم أعدل فمن يعدل «1» الحديث» وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا الآية: ترغيب لهم فيما هو خير لهم، وجواب لو محذوف تقديره: لكان ذلك خيرا لهم. إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ الآية: إنما هنا تقتضي حصر الصدقات وهي الزكاة في هذه الأصناف الثمانية، فلا يجوز أن يعطى منها غيرهم، ومذهب مالك أن تفريقها

_ (1) . أخرجه أحمد عن جابر بن عبد الله ج 3 ص 448.

في هؤلاء الأصناف إلى اجتهاد الإمام، فله أن يجعلها في بعض دون بعض، ومذهب الشافعي: أنه يجب أن تقسم على جميع هذه الأصناف بالسواء، واختلف العلماء هل الفقير أشد حاجة من المسكين أو بالعكس؟ فقيل: هما سواء، وقيل الفقير الذي يسأل الناس ويعلم حاله، والمسكين ليس كذلك وَالْعامِلِينَ عَلَيْها أي الذين يقبضونها ويفرقونها وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ كفار يعطون ترغيبا في الإسلام، وقيل: هم مسلمون يعطون ليتمكن إيمانهم، واختلف هل بقي حكمهم أو سقط للاستغناء عنهم وَفِي الرِّقابِ يعني العبيد يشترون ويعتقون وَالْغارِمِينَ يعني من عليه دين، ويشترط أن يكون استدان في غير فساد ولا سرف وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ يعني الجهاد فيعطى منها المجاهدون ويشتري منها آلات الحرب، واختلف هل تصرف في بناء الأسوار وإنشاء الأساطيل؟ وَابْنِ السَّبِيلِ هو الغريب المحتاج فَرِيضَةً أي حقا محمودا: ونصبه على المصدر، فإن قيل. لم ذكر مصرف الزكاة في تضاعيف ذكر المنافقين؟ فالجواب أنه حصر مصرف الزكاة في تلك الأصناف ليقطع طمع المنافقين فيها، فاتصلت هذه الآية في المعنى بقوله: ومنهم من يلمزك في الصدقات الآية وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ يعني من المنافقين وإذايتهم للنبي صلّى الله عليه وسلّم بالأقوال والأفعال وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ أي يسمع كل ما يقال له ويصدّقه، ويقال: إنّ قائل هذه المقالة هو نبيل بن الحارث وكان من مردة المنافقين، وقيل: عتاب بن قيس قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ أي يسمع الخير والحق وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ أي يصدقهم يقال: آمنت لك إذا صدقتك، ولذلك تعدّى هذا الفعل بإلى وتعدّى يؤمن بالله بالباء وَرَحْمَةٌ بالرفع عطف على أذن، وبالخفض على خير يَحْلِفُونَ يعني المنافقين وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ تقديره: والله أحق أن يرضوه ورسوله كذلك، فهما جملتان حذف الضمير من الثانية لدلالة الأولى عليها، وقيل: إنما وحد الضمير لأن رضا الله ورسوله واحد مَنْ يُحادِدِ اللَّهَ يعني من يعادي ويخالف فَأَنَّ لَهُ إن هنا مكررة تأكيدا للأولى، وقيل: بدل منها، وقيل: التقدير فواجب أن له، فهي في موضع خبر مبتدأ محذوف يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ يعني في شأنهم سورة على النبي صلّى الله عليه وسلّم، والضمائر في عليهم وتنبئهم وقلوبهم تعود على المنافقين، وقال الزمخشري: إن الضمير في عليهم وتنبئهم للمؤمنين، وفي قلوبهم للمنافقين، والأول أظهر قُلِ اسْتَهْزِؤُا تهديد إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ ما تَحْذَرُونَ صنع ذلك بهم

[سورة التوبة (9) : الآيات 65 إلى 72]

في هذه السورة، لأنها فضحتهم إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ نزلت في وديعة بن ثابت بلغ النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: هذا يريد أن يفتح قصور الشام هيهات هيهات، فسأله عن ذلك فقال: إنما كنا نخوض ونلعب إِنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ كان رجل منهم اسمه مخشن تاب ومات شهيدا بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ نفي لأن يكونوا من المؤمنين وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ كناية عن البخل نَسُوا اللَّهَ أي غفلوا عن ذكره فَنَسِيَهُمْ تركهم من رحمته وفضله وَعَدَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ الأصل في الشر أن يقال أوعد، وإنما يقال فيه وعد إذا صرح بالشر وَالْكُفَّارَ يعني المجاهرين بالكفر كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ خطاب للمنافقين، والكاف في موضع نصب، والتقدير، فعلتم مثل فعل الذين من قبلكم، أو في موضع خبر مبتدأ تقديره: أنتم كالذين من قبلكم وَخُضْتُمْ أي خلطتم وهو مستعار من الخوض في الماء، ولا يقال إلا في الباطل من الكلام كَالَّذِي خاضُوا تقديره كالخوض الذي خاضوا، وقيل: كالذين خاضوا، فالذي هنا على هذا بمعنى الجميع أَلَمْ يَأْتِهِمْ الآية: تهديد لهم بما أصاب الأمم المتقدمة وَالْمُؤْتَفِكاتِ يعني مدائن قوم لوط بِالْبَيِّناتِ أي بالمعجزات بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ في مقابلة قوله: المنافقون بعضهم من بعض، ولكنه خص المؤمنين بالوصف بالولاية جَنَّاتِ عَدْنٍ قيل: عدن هي مدينة الجنة وأعظمها، وقال الزمخشري هو اسم علم وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ أي رضوان من الله أكبر من كل ما ذكر، وذلك معنى ما ذكر في الحديث: «إن الله تعالى يقول لأهل الجنة أتريدون شيئا أزيدكم، فيقولون

[سورة التوبة (9) : الآيات 73 إلى 78]

يا ربنا أي شيء تزيدنا؟ فيقول رضواني فلا أسخط عليكم أبدا» «1» . جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ جهاد الكفار بالسيف، وجهاد المنافقين باللسان ما لم يظهر ما يدل على كفرهم، فإن ظهر منهم ذلك فحكمهم كحكم الزنديق، وقد اختلف هل يقتل أم لا وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ الغلظة ضد الرحمة والرأفة، وقد تكون بالقول والفعل وغير ذلك يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ ما قالُوا نزلت في الجلاس بن سويد، فإنه قال: إن كان ما يقول محمد حقا فنحن شر من الحمير، فبلغ ذلك النبي صلّى الله تعالى عليه واله وسلّم، فقرأه عليه فحلف أنه ما قاله وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ يعني ما تقدم من قول الجلاس لأن ذلك يقتضى التكذيب وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ لم يقل بعد إيمانهم، لأنهم كانوا يقولون بألسنتهم آمنا ولم يدخل الإيمان في قلوبهم وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا هم الجلاس بقتل من بلغ تلك الكلمة عنه، وقيل: هم بقتل النبي صلّى الله عليه وسلّم وقيل: الآية نزلت في عبد الله بن أبيّ بن سلول، وكلمة الكفر التي قالها قوله: سمن كلبك يأكلك، وهمه بما لم يناله قوله: لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجنّ الأعز منها الأذل وَما نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْناهُمُ اللَّهُ أي ما عابوا إلا الغني الذي كان حقه أن يشكروا عليه، وذلك في الجلاس أو في عبد الله بن أبيّ فَإِنْ يَتُوبُوا فتح الله لهم باب التوبة فتاب الجلاس وحسن حاله. وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللَّهَ الآية: نزلت في ثعلبة بن حاطب، وذلك أنه قال يا رسول الله: ادع الله أن يكثر مالي. فقال له رسول الله صلّى الله تعالى عليه وعلى اله وسلّم: قليل تؤدي شكره خير من كثير لا تطيقه، فأعاد عليه حتى دعا له فكثر ماله، فتشاغل به حتى ترك الصلوات، ثم امتنع من أداء الزكاة، فنزلت فيه الآية فجاء بزكاته إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم، فأعرض عنه ولم يأخذها منه، وقال: إن الله أمرني أن لا آخذ زكاتك، ثم لم يأخذها منه أبو بكر ولا عمر ولا عثمان بَخِلُوا بِهِ إشارة إلى منعه الزكاة فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً عقوبة على العصيان بما هو أشد منه إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ حكم بوفاته على النفاق الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ نزلت في المنافقين حين تصدق

_ (1) . رواه الإمام المنذري في الترغيب والترهيب ج 4 ص 276 وعزاه للشيخين والترمذي عن أبي سعيد الخدري.

عبد الرحمن بن عوف بأربعة آلاف فقالوا: ما هذا إلا رياء. وأصل المطوعين المتطوعين، والمراد به هنا من تصدق بكثير وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ هم الذين لا يقدرون إلا على القليل فيتصدقون به، نزلت في أبي عقيل تصدق بصاع من تمر، فقال المنافقون: إن الله غنى عن صدقة هذا فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ أي يستخفون بهم سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ تسمية للعقوبة باسم الذنب اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ يحتمل معنيين. أحدهما: أن يكون لفظه أمر، ومعناه الشرط، ومعناه: إن استغفرت لهم أو لم تستغفر لهم لن يغفر الله لهم، كما جاء في سورة المنافقين، والآخر: أن يكون تخييرا، كأنه قال إن شئت فاستغفر لهم، وإن شئت فلا تستغفر لهم، ثم أعلمه الله أنه لا يغفر لهم، وهذا أرجح لقول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: إن الله خيرني فاخترت، وذلك حين قال عمر: أتصلي على عبد الله بن أبيّ وقد نهاك الله عن الصلاة عليه سَبْعِينَ مَرَّةً ذكرها على وجه التمثيل للعدد الكثير فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ أي الذين خلفهم الله عن بدر وأقعدهم عنه، وفي هذا تحقير وذم لهم، ولذلك لم يقل المتخلفون بِمَقْعَدِهِمْ أي بقعودهم خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ أي بعده حين خرج إلى تبوك، فخلاف على هذا ظرف، وقيل: هو مصدر من خلف فهو على هذا مفعول من أجله وَقالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قائل هذه المقالة رجل من بني سلمة ممن صعب عليه السفر إلى تبوك في الحر فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيراً أمر بمعنى الخبر فضحكهم القليل في الدنيا مدة بقائهم فيها، وبكاؤهم الكثير في الآخرة وقيل: هو بمعنى الأمر أي يجب أن يكونوا: يضحكون قليلا ويبكون كثيرا في الدنيا لما وقعوا فيه إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ إنما لم يقل إليهم، لأن منهم من تاب من النفاق وندم على التخلف لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً عقوبة لهم فيها خزي وتوبيخ أَوَّلَ مَرَّةٍ يعني في غزوة تبوك فَاقْعُدُوا مَعَ الْخالِفِينَ أي مع القاعدين وهم النساء والصبيان وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً نزلت في شأن عبد الله بن أبي بن سلول، وصلاة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عليه حين مات، وروى أنه صلّى عليه فنزلت الآية، وروي أنه صلّى الله عليه وسلّم لما تقدم ليصلي عليه جاءه جبريل فجبذ ثوبه، وتلا عليه: ولا تصل على أحد منهم مات أبدا الآية، فانصرف رسول الله صلّى الله عليه واله وسلّم ولم يصل

[سورة التوبة (9) : الآيات 85 إلى 93]

عليه وَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ قيل: يعني براءة والأرجح أنه على الإطلاق أَنْ آمِنُوا أن هنا مفسرة اسْتَأْذَنَكَ أُولُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ أي أولو الغنى والمال الكثير لكِنِ الرَّسُولُ الآية أي إن تخلف هؤلاء فقد جاهد الرسول ومن معه الْخَيْراتُ تعم منافع الدارين وقيل: هو الحور العين لقوله: خيرات حسان وَجاءَ الْمُعَذِّرُونَ هم المعتذرون ثم أدغمت التاء في الذال ونقلت حركتها إلى العين، واختلف هل كانوا في اعتذارهم صادقين أو كاذبين وقيل: هم المقصرون من عذر في الأمر إذا قصّر فيه ولم يجد، فوزنه على هذا المفعلون وروي أنها نزلت في قوم من غفار وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ هم قوم لم يجاهدوا ولم يعتذروا عن تخلفهم فكذبوا في دعواهم الإيمان سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ أي من المعذرين. لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى هذا رفع للحرج عن أهل الأعذار الصحيحة من ضعف البدن والفقر إذا تركوا الغزو. وقيل: إن الضعفاء هنا هم النساء والصبيان وهذا بعيد وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ قيل: نزلت في بني مقرن وهم ستة إخوة صحبوا النبي صلّى الله عليه وعلى اله وسلّم وقيل: في عبد الله بن مغفل المزني إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ يعني: بنياتهم وأقوالهم، وإن لم يخرجوا للغزو ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وصفهم بالمحسنين لأنهم نصحوا لله ورسوله ورفع عنهم العقوبة والتعنيف واللوم وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قيل: هم بنو مقرن وقيل ابن مغفل وقيل سبعة نفر من بطون شتى وهم البكاؤون ومعنى لتحملهم على الإبل وجواب إذا يحتمل أن يكون قلت لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ أو تولوا إذا رجعتم يعني من غزوة تبوك لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ لن نصدقكم مِنْ أَخْبارِكُمْ نعت لمحذوف وهو المفعول الثاني تقديره: قد نبأنا الله جملة من

[سورة التوبة (9) : الآيات 103 إلى 107]

أخباركم الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً هم أهل البوادي من العرب وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ يعني أنهم أحق أن لا يعلموا الشرائع لبعدهم عن الحاضرة ومجالس العلم وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ مَغْرَماً أي تثقل عليهم الزكاة والنفقة في سبيل الله ثقل المغرم الذي ليس بحق عليه وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوائِرَ أي ينتظر بكم مصائب الدنيا عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ خبر أو دعاء وَصَلَواتِ الرَّسُولِ أي دعواته لهم وهو عطف على قربات أي يقصدون بنفقاتهم التقرب إلى الله واغتنام دعاء الرسول لهم وقيل: نزلت في بني مقرن وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ قيل: هم من صلّى للقبلتين وقيل: من شهد بدرا، وقيل: من حضر بيعة الرضوان وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ سائر الصحابة ويدخل في ذلك التابعون ومن بعدهم إلى يوم القيامة بشرط الإحسان مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ أي اجترءوا عليه وقيل: أقاموا عليه سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلى عَذابٍ عَظِيمٍ العذاب العظيم هو عذاب النار وأما المرتان قبله، فالثانية منهما عذاب القبر، والأولى عذابهم بإقامة الحدود عليهم وقيل: بفضيحتهم بالنفاق وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ الآية: قيل: إنها نزلت في أبي لبابة الأنصاري فعمله الصالح الجهاد وعمله السيء نصيحته لبني قريظة، وقيل: هو لمن تخلف عن تبوك من المؤمنين فعملهم الصالح ما سبق لهم، وعملهم السيئ تخلفهم عن تبوك، وروى أنهم ربطوا أنفسهم إلى سواري المسجد، وقالوا: لا نحل أنفسنا حتى يحلنا رسول الله صلّى الله عليه واله وسلم. وقيل: هي عامة في الأمة إلى يوم القيامة. قال بعضهم: ما في القرآن آية أرجى لهذه الأمة من هذه الآية خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً قيل: نزلت في المتخلفين الذين ربطوا أنفسهم لما تاب الله عليهم قالوا: يا رسول

الله إنا نريد أن نتصدق بأموالنا. فنزلت هذه الآية. وأخذ ثلث أموالهم. وقيل: هي الزكاة المفروضة، فالضمير على العموم لجميع المسلمين تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها خطاب للنبي صلّى الله عليه واله وسلّم في موضع صفة لصدقة أو حال من الضمير في خذ وَصَلِّ عَلَيْهِمْ أي ادع لهم سَكَنٌ لَهُمْ أي تسكن به نفوسهم، فهو عبارة عن صحة الاعتقاد، أو عن طمأنينة نفوسهم إذا علموا أن الله تاب عليهم أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ الضمير في يعلموا للتائبين من التخلف. وقيل: للذين تخلفوا ولم يتوبوا، وقيل: عام. وفائدة الضمير المؤكد تخصيص الله تعالى بقبول التوبة دون غيره وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ قيل: معناه يأمر بها، وقيل: يقبلها من عباده وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ قيل: هم الثلاثة الذين خلفوا قبل أن يتوب الله عليهم. وقيل: هم الذين بنوا مسجد الضرار، وقرئ مرجئون بالهمز «1» وتركه وهما لغتان ومعناه التأخير وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً قرئ الذين بغير واو «2» صفة لقوله وآخرون مرجون أو على تقديرهم الذين وهذه القراءة جارية على قول من قال في المرجون لأمر الله هم أهل مسجد الضرار، وقرئ والذين بالواو عطف على آخرون مرجون وهذه القراءة جارية على قول من قال في المرجئين أنهم الثلاثة الذين خلفوا ضِراراً وَكُفْراً كانوا بنو عمرو بن عوف من الأنصار قد بنوا مسجد قباء، وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يأتيه ويصلي فيه، فحسدهم على ذلك قومهم بنو غنم بن عوف وبنو سالم بن عوف فبنوا مسجدا آخر مجاورا له ليقطعوا الناس عن الصلاة في مسجد قباء، وذلك هو الضرار الذي قصدوا وسألوا من رسول الله صلّى الله تعالى عليه واله وسلّم أن يأتيه، ويصلي لهم فيه فنزلت عليه فيه هذه الآية وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ أرادوا أن يتفرّق المؤمنون عن مسجد قباء وَإِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ أي انتظارا لمن حارب الله ورسوله، وهو أبو عامر الراهب الذي سماه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الفاسق وكان من أهل المدينة، فلما قدمها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم جاهر بالكفر والنفاق، ثم خرج إلى مكة فحزّب الأحزاب من المشركين، فلما فتحت مكة خرج إلى الطائف، فلما أسلم أهل الطائف خرج إلى الشام، ليستنصر بقيصر فهلك هناك. وكان أهل مسجد الضرار يقولون: إذا قدم أبو عامر المدينة يصلي في هذا المسجد. والإشارة بقوله من قبل إلى ما فعل معه الأحزاب وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلَّا الْحُسْنى

_ (1) . قرأ نافع وحمزة والكسائي وحفص بدون همزة وقرأ الباقون: مرجئون. (2) . قرأ نافع وابن عامر: الذين وقرأ الباقون: والذين.

[سورة التوبة (9) : الآيات 108 إلى 111]

أي الخصلة الحسنى وهي الصلاة وذكر الله فأكذبهم الله في ذلك لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً نهي عن إتيانه والصلاة فيه، فكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لا يمر بطريقه لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى قيل: هو مسجد قباء، وقيل: مسجد النبي صلّى الله عليه وسلّم بالمدينة، وقد روي ذلك عن رسول الله صلّى الله تعالى عليه واله وسلّم فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا كانوا يستنجون بالماء ونزلت في الأنصار على قول من قال: إن المسجد الذي أسس على التقوى هو مسجد المدينة، ونزلت في بني عمرو بن عوف خاصة على قول من قال: إن المسجد الذي أسس على التقوى هو مسجد قباء أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى تَقْوى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى شَفا جُرُفٍ هارٍ الآية: استفهام بمعنى التقرير، والذي أسس على التقوى والرضوان: مسجد المدينة أو مسجد قباء، والذي أسس على شفا جرف هار: هو مسجد الضرار، وتأسيس البناء على التقوى والرضوان: هو بحسن النية فيه، وقصد وجه الله، وإظهار شرعه، والتأسيس على شفا جرف هار: هو بفساد النية، وقصد الرياء، والتفريق بين المؤمنين، فذلك على وجه الاستعارة والتشبيه البديع، ومعنى شفا جرف: طرفه، ومعنى هار: ساقط أو واهي، بحيث أشفى على السقوط، وأصل هار: هائر، فهو من المقلوب، لأن لامه جعلت في موضع العين فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ أي طاح في جهنم، وهذا ترشيح للمجاز، فإنه لما شبه بالجرف وصف بالانهيار الذي هو من شأن الجرف، وقيل: إن ذلك حقيقة، وأنه سقط في نار جهنم وخرج الدخان من موضعه، والصحيح أن رسول الله صلّى الله تعالى عليه وعلى اله وسلّم أمر بهدمه فهدم لا يَزالُ بُنْيانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ أي: لا يزال في قلوب أهل مسجد الضرار ريبة من بنيانه: أي شك في الإسلام بسبب بنيانه، لاعتقادهم صواب فعلهم: أو غيظ بسبب هدمه إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ أي إلا أن يموتوا. إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ قيل: إنها نزلت في بيعة العقبة، وحكمها عام في كل مؤمن مجاهد في سبيل الله إلى يوم القيامة. قال بعضهم: ما أكرم الله، فإن أنفسنا هو خلقها، وأموالنا هو رزقها، ثم وهبها لنا، ثم اشتراها منا بهذا الثمن الغالي، فإنها لصفقة رابحة يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ جملة في موضع الحال بيان للشراء فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ قال بعضهم: ناهيك عن بيع البائع فيه رب العلا والثمن جنة المأوى، والواسطة محمد المصطفى صلّى الله عليه وسلّم التَّائِبُونَ وما بعده: أوصاف للمؤمنين الذين

[سورة التوبة (9) : الآيات 118 إلى 121]

اشترى الله منهم أنفسهم وأموالهم تقديره: هم التائبون السَّائِحُونَ قيل معناه الصائمون، ويقال ساح في الأرض: أي ذهب ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ نزلت في شأن أبي طالب فإنه لما امتنع أن يقول: لا إله إلا الله عند موته، قال له رسول الله صلّى الله تعالى عليه واله وسلّم: والله لأستغفرنّ لك ما لم أنه عنك، فكان يستغفر حتى نزلت هذه الآية، وقيل: إن النبي صلّى الله عليه وسلّم استأذن ربه أن يستغفر لأمه فنزلت الآية، وقيل: إن المسلمين أرادوا أن يستغفروا لآبائهم المشركين فنزلت الآية وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ المعنى: لا حجة لكم أيها المؤمنون في استغفار إبراهيم لأبيه، فإن ذلك لم يكن إلا لوعد تقدم، وهو قوله سأستغفر لك ربي فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ قيل: تبين له ذلك بموت أبيه على الكفر، وقيل: لأنه نهي عن الاستغفار له لَأَوَّاهٌ قيل: كثير الدعاء، وقيل: موقن، وقيل: فقيه، وقيل: كثير الذكر لله، وقيل: كثير التأوّه من خوف الله وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً الآية: نزلت من قوم من المسلمين استغفروا للمشركين من غير إذن، فخافوا على أنفسهم من ذلك، فنزلت الآية تأنيسا لهم أي: ما كان الله ليؤاخذكم بذلك قبل أن يبين لكن المنع من ذلك فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ يعني: حين محاولة غزوة تبوك، والساعة هنا بمعنى الحين والوقت، وإن كان مدة، والعسرة: الشدة وضيق الحال مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ يعني: تزيغ عن الثبات على الإيمان، أو عن الخروج في تلك الغزوة لما رأوا من الضيق والمشقة، وفي كاد ضمير الأمر والشأن، أو ترتفع بها القلوب ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ يعني: على هذا الفريق أي رجع بهم عما كادوا يقعون فيه وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا هم كعب بن مالك، وهلال بن أمية، ومرارة بن الربيع، تخلفوا عن غزوة تبوك، من غير عذر ومن غير نفاق ولا قصد للمخالفة، فلما رجع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عتب عليهم، وأمر أن لا يكلمهم أحد، وأمرهم أن يعتزلوا نساءهم، فبقوا على ذلك مدّة إلى أن أنزل الله توبتهم، وقد روي حديثهم في البخاري ومسلم والسير، ومعنى خلّفوا هنا: أي عن الغزوة.

[سورة التوبة (9) : الآيات 122 إلى 129]

وقال كعب بن مالك معناه: خلفوا عن قبول الضر [كذا] وليس بالتخلف عن الغزو. يقوّي ذلك كونه جعل إذا ضاقت غاية للتخلف ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ عبارة عما أصابهم من الغم والخوف من الله ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا أي رجع بهم ليستقيموا على التوبة وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ يحتمل أن يريد صدق اللسان إذا كانوا هؤلاء الثلاثة قد صدقوا ولم يعتذروا بالكذب، فنفعهم الله بذلك، ويحتمل أن يريد أعم من صدق اللسان، وهو الصدق في الأقوال والأفعال والمقاصد والعزائم، والمراد بالصادقين: المهاجرون لقول الله في الحشر: للفقراء المهاجرين، إلى قوله: هم الصادقون وقد احتج بها أبو بكر الصديق على الأنصار يوم السقيفة، فقال: نحن الصادقون، وقد أمركم الله أن تكونوا معنا، أي تابعين لنا. ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ الآية: عتاب لمن تخلف عن غزوة تبوك من أهل يثرب ومن جاورها من قبائل العرب وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ أي لا يمتنعوا من اقتحام المشقات التي تحملها هو صلّى الله تعالى عليه وعلى اله وسلّم ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ تعليل لما يجب من عدم التخلف ظَمَأٌ أي عطش وَلا نَصَبٌ أي تعب وَلا مَخْمَصَةٌ أي جوع وَلا يَطَؤُنَ أي بأرجلهم أو بدوابّهم وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا عموم في كل ما يصيب الكفار. وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً. قال ابن عباس: هذه الآية في البعوث إلى الغزو والسرايا: أي لا ينبغي خروج جميع المؤمنين في السرايا، وإنما يجب ذلك إذا خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بنفسه، ولذلك عاتبهم في الآية المتقدمة على التخلف عنه، فالآية الأولى في الخروج معه صلّى الله عليه وسلّم، وهذه في السرايا التي كان يبعثها، وقيل: هي ناسخة لكل ما ورد من الأمر بخروج الجميع، فهو دليل على أن الجهاد فرض كفاية لا فرض عين، وقيل: هي في طلب العلم، ومعناها: أنه لا تجب الرحلة في طلب العلم على الجميع، بل على البعض لأنه فرض كفاية فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ تحضيض على نفر بعض المؤمنين للجهاد أو لطلب العلم لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ إن قلنا إن الآية في الخروج إلى طلب العلم، فالضمير في يتفقهوا للفرقة التي تنفر أي ترحل، وكذلك الضمير في ينذروا وفي رجعوا: أي ليعلموا قومهم إذا رجعوا إليهم من الرحلة، وإن قلنا: إن الآية في السرايا، فالضمير في يتفقهوا للفرقة التي تقعد في المدينة ولا تخرج مع السرايا، وأما الضمير في رجعوا فهو

للفرقة التي خرجت مع السرايا لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ الضمير للقوم قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ أمر بقتال الأقرب فالأقرب على تدريج، وقيل: إنها إشارة إلى قتال الروم بالشام، لأنهم كانوا أقرب الكفار إلى أرض العرب، وكانت أرض العرب قد عمها الإسلام، وكانت العراق حينئذ بعيدة وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً أي من المنافقين من يقول بعضهم لبعض: أيكم زادته هذه إيمانا على وجه الاستخفاف بالقرآن: كأنهم يقولون أي عجب في هذا؟ وأي دليل في هذا؟ فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وذلك لما يتجدد عندهم من البراهين والأدلة عند نزول كل سورة وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ المرض: عبارة عن الشك والنفاق والمعنى: زادتهم رجسا إلى رجسهم أو زادتهم كفرا ونفاقا إلى كفرهم ونفاقهم يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عامٍ قيل: يفتنون أي يختبرون بالأمراض والجوع، وقيل: بالأمر بالجهاد، واختار ابن عطية أن يكون المعنى يفضحون بما يكشف من سرائرهم نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ أي: تغامزوا، وأشار بعضهم إلى بعض على وجه الاستخفاف بالقرآن، ثم قال بعضهم لبعض: هل يراكم من أحد؟ كأن سبب خوفهم أن ينقل عنهم ذلك. وقيل: معنى نظر بعضهم إلى بعض على وجه التعجب مما ينزل في القرآن من كشف أسرارهم ثم قال بعضهم لبعض هَلْ يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ أي هل رأى أحوالكم فنقلها عنكم أو علمت من غير نقل فهذا أيضا على وجه التعجب ثُمَّ انْصَرَفُوا يحتمل أن يراد الانصراف بالأبدان، أو الانصراف بالقلوب عن الهدى صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ دعاء أو خبر بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ تعليل لصرف قلوبهم لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ يعني النبي صلّى الله عليه وسلّم، والخطاب للعرب أو لقريش خاصة أي من قبيلتكم حيث تعرفون حسبه وصدقه وأمانته أو لبني آدم كلهم: أي من جنسكم وقرئ من أنفسكم بفتح الفاء أي من أشرفكم عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ أي يشق عليه عنتكم، والعنت: هو ما يضرهم في دينهم أو دنياهم وعزيز صفة للرسول، وما عنتم فاعل بعزيز، وما مصدرية أو ما عنتم مصدر، وعزيز خبر مقدّم والجملة في موضع الصفة حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ أي حريص على إيمانكم وسعادتكم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ سماه الله هنا باسمين من أسمائه فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ أي إن أعرضوا عن الإيمان، فاستعن بالله وتوكل عليه وقيل: إن هاتين الآيتين نزلتا بمكة.

سورة يونس

سورة يونس يونس مكية إلا الآيات 40 و 95 و 96 فمدنية وآياتها 109 نزلت بعد الإسراء (سورة يونس) بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الر تكلمنا في أول البقرة على حروف الهجاء التي في أوائل السور تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ إشارة إلى ما تضمنته السورة من الآيات، والكتاب هنا القرآن الْحَكِيمِ من الحكمة أو من الحكم أو من الأحكام للأمر أي أحكمه الله أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ الهمزة للإنكار، وعجبا خبر كان، وأن أوحينا اسمها، وأن أنذر: تفسير للوحي، والمراد بالناس هنا كفار قريش وغيرهم، وإلى رجل هنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ومعنى الآية: الرد على من استبعد النبوة أو تعجب من أن يبعث الله رجلا. قَدَمَ صِدْقٍ أي عمل صالح قدّموه. وقال ابن عباس: السعادة السابقة لهم في اللوح المحفوظ قالَ الْكافِرُونَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ مُبِينٌ يعنون ما جاء به من القرآن، وقرئ «1» لساحر يعنون به النبي صلّى الله عليه واله وسلّم، ويحتمل أن يكون كلامهم هذا تفسير لما ذكر قبل من تعجبهم من النبوّة، ويكون خبرا مستأنفا إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ تعريف بالله وصفاته ليعبدوه ولا يشركوا به، وفيه ردّ على من أنكر النبوة كأنه يقول: إنما أدعوكم إلى عبادة ربكم الذي خلق السموات والأرض فكيف تنكرون ذلك وهو الحق المبين ما مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ أي ما يشفع إليه أحد إلا بعد أن يأذن هو له في الشفاعة، وفي هذا ردّ على المشركين الذين يزعمون أن الأصنام تشفع لهم وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا نصب وعد على المصدر المذكور المؤكد للرجوع إلى الله، ونصب حقا على المصدر المؤكد لوعد الله

_ (1) . قرأ ابن كثير وأهل الكوفة: لساحر. وقرأ الباقون: لسحر.

إِنَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ أي يبدؤه في الدنيا ويعيده بعد الموت في الآخرة، والبداءة دليل على العودة لِيَجْزِيَ تعليل للعودة وهي البعثة بِالْقِسْطِ أي بعدله في جزائهم أو بقسطهم في أعمالهم الصالحة هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً وصف أفعال الله وقدرته وحكمته والضياء أعظم من النور وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ الضمير للقمر والمعنى قدر سيره في منازل وَالْحِسابَ يعني حساب الأوقات من الأشهر والأيام والليالي ما خَلَقَ اللَّهُ ذلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ أي ما خلقه عبثا، والإشارة بذلك إلى ما تقدم من المخلوقات إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا قيل: معنى يرجون هنا يخافون، وقيل: لا يرجون حسن لقاءنا، فالرجاء على أصله، وقيل: لا يرجون: لا يتوقعون أصلا، ولا يخطر ببالهم وَرَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا أي قنعوا أن تكون حظهم ونصيبهم وَاطْمَأَنُّوا بِها أي سكنت أنفسهم عن ذكر الانتقال عنها وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آياتِنا غافِلُونَ يحتمل أن تكون هي الفرقة الأولى، فيكون من عطف الصفات، أو تكون غيرها. يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ أي يسددهم بسبب إيمانهم إلى الاستقامة أو يهديهم في الآخرة إلى طريق الجنة، وهو أرجح لما بعده دَعْواهُمْ فِيها أي دعاؤهم وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ أي: لو يعجل الله للناس الشر كما يحبون تعجيل الخير لهلكوا سريعا، ونزلت الآية عند قوم: في دعاء الإنسان على نفسه وماله وولده، وقيل: نزلت في الذين قالوا: إن كان هذا هو الحقّ من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء [الأنفال: 32] وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا عتاب في ضمنه نهي لمن يدعو الله عند الضر، ويغفل عنه عند العافية لِجَنْبِهِ أي مضطجعا، وروي أنها نزلت في أبي حذيفة بن المغيرة لمرض كان به وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ إخبار ضمنه وعيد للكفار لِنَنْظُرَ معناه

[سورة يونس (10) : الآيات 15 إلى 21]

ليظهر في الوجود فتقوم عليكم الحجة به وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ يعني على قريش قُلْ لَوْ شاءَ اللَّهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ أي ما تلوته إلا بمشيئة الله، لأنه من عنده وما هو من عندي وَلا أَدْراكُمْ بِهِ أي ولا أعلمكم به فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أي بقيت بينكم أربعين سنة قبل البعث ما تكلمت في هذا حتى جاءني من عند الله فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً تنصل من الافتراء على الله، وبيان لبراءته صلّى الله عليه واله وسلّم مما نسبوه إليه من الكذب، وإشارة إلى كذبهم على الله في نسبة الشركاء له أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ بيان لظلمهم في تكذيبهم رسول الله صلّى الله عليه واله وسلّم وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ الضمير في يعبدون لكفار العرب، وما لا يضرهم ولا ينفعهم هي الأصنام وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ كانوا يزعمون أن الأصنام تشفع لهم قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِما لا يَعْلَمُ رد عليهم في قولهم بشفاعة الأصنام، والمعنى: أن شفاعة الأصنام ليست بمعلومة لله الذي هو عالم بما في السموات والأرض، وكل ما ليس بمعلوم لله فهو عدم محض، ليس بشيء فقوله: أتنبئون الله تقرير لهم على وجه التوبيخ والتهكم أي: كيف تعلمون الله بما لا يعلم؟ وَما كانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً واحِدَةً تقدم في [البقرة: 213] في قوله: كان الناس أمة واحدة وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ يعني القضاء وَيَقُولُونَ لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ كانوا يطلبون آية من الآيات التي اقترحوها، ولقد نزل عليه آيات عظام فما اعتدوا بها لعنادهم وشدة ضلالهم فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ إن شاء فعل «1» وإن شاء لم يفعل لا يطلع على ذلك أحد فَانْتَظِرُوا أي انتظروا نزول ما اقترحتموه إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ أي منتظر لعقابكم على كفركم وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ هذه الآية من الكفار وتضمنت النهي لمن كان كذلك من غيرهم، والمكر هنا الطعن في آيات الله وترك شكره، ومكر الله الموصوف بالسرعة هو عقابه لهم سماه مكرا مشاكلة

_ (1) . الكلام هنا فيه نقص أو تصحيف وصوابه: إن شاء اطلع عليه من يشاء من عباده وإن لم يشأ فلا يطلع عليه أحد، والله أعلم. [.....]

[سورة يونس (10) : الآيات 22 إلى 27]

لفعلهم، وتسمية للعقوبة باسم الذنب وَجَرَيْنَ بِهِمْ الضمير المؤنث في جرين للفلك، والضمير في بهم للناس، وفيه الخروج من الخطاب إلى الغيبة، وهو يسمى الالتفات، وجواب إذا كنتم قوله: جاءتها ريح عاصف، وقوله: دعوا الله. قال الزمخشري: هو بدل من ظنوا، ومعناه: دعوا الله وحده وكفروا بمن دونه مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا رفع على أنه خبر ابتداء مضمر تقديره: وذلك متاع، أو يكون خبر: إنما بغيكم، ويختلف الوقف باختلاف الإعراب إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ معنى الآية تحقير الدنيا وبيان سرعة فنائها وشبهها بالمطر الذي يخرج به النبات، ثم تصيب ذلك النبات آفة عند حسنه وكماله مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ كالزرع والفواكه وَالْأَنْعامُ يعني: المرعى التي ترعاها من العشب وغيره أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها تمثيل بالعروس إذا تزينت بالحلي والثياب قادِرُونَ عَلَيْها أي متمكنون من الانتفاع بها أَتاها أَمْرُنا أي بعض الجوائح كالريح، والصر، وغير ذلك فَجَعَلْناها حَصِيداً أي جعلنا زرعها كالذي حصد وإن كان لم يحصد كَأَنْ لَمْ تَغْنَ كأن لم تنعم. [أي لم توجد. انظر الطبري] . وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ أي إلى الجنة، وسميت دار السلام أي دار السلامة من العناء والتعب، وقيل: السلام هنا اسم الله: أي يدعو إلى داره وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ ذكر الدعوة إلى الجنة عامة مطلقة والهداية خاصة بمن يشاء لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ الحسنى الجنة، والزيادة النظر إلى وجه الله، وقيل: الحسنى جزاء الحسنة بعشر أمثالها والزيادة التضعيف فوق ذلك إلى سبعمائة، والأول أصح لوروده في الحديث وكثرة القائلين به قَتَرٌ أي غبار بغير الوجه وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ مبتدأ على حذف مضاف تقديره: جزاء الذين كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها أو على تقدير: لهم جزاء سيئة بمثلها، أو معطوفا على الذين أحسنوا، ويكون: جزاء سيئة مبتدأ وخبره بمثلها ما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ أي لا يعصمهم أحد من عذاب الله قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً من قرأ بفتح الطاء فهو

[سورة يونس (10) : الآيات 28 إلى 35]

جمع قطعة وإعراب مظلما على هذه القراءة: حال من الليل، ومن قرأ قطعا بإسكان الطاء «1» ، فمظلما صفة له أو حال من الليل مَكانَكُمْ تقديره الزموا مكانكم أي لا تبرحوا حتى تنظروا ما يفعل الله بكم فَزَيَّلْنا بَيْنَهُمْ أي فرقنا تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ ما أَسْلَفَتْ أي تختبر بما قدمت من الأعمال، وقرئ تتلو «2» بتاءين بمعنى تتبع أو تقرأه في المصاحف قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ الآية: احتجاج على الكفار بحجج كثيرة واضحة لا محيص لهم عن الإقرار بها يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ مذكور في [آل عمران: 27] رَبُّكُمُ الْحَقُّ أي الثابت الربوبية بخلاف ما تعبدون من دونه فَماذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ أي عبادة غير الله ضلال بعد وضوح الحق، وتدل الآية على أنه ليس بين الحق والباطل منزلة في علم الاعتقادات، إذ الحق فيها في طرف واحد، بخلاف مسائل الفروع كَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا المعنى: كما حق الحق في الاعتقادات كذلك حقت كلمة ربك على الذين عتوا وتمردوا في كفرهم أنهم لا يؤمنون، والكلمات يراد بها القدر والقضاء قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ الآية: احتجاج على الكفار، فإن قيل: كيف يحتج عليهم بإعادة الخلق، وهم لا يعترفون بها؟ فالجواب، أنهم معترفون أن شركاءهم لا يقدرون على الابتداء ولا على الإعادة، وفي ذلك إبطال لربوبيتهم، وأيضا فوضعت الإعادة موضع المتفق عليه لظهور برهانها أَمَّنْ لا يَهِدِّي «3» بتشديد الدال معناه: لا يهتدي في نفسه، فكيف يهدي غيره، وقرئ بالتخفيف بمعنى يهدي غيره والقراءة الأولى أبلغ في الاحتجاج فَما لَكُمْ ما استفهامية معناها تقرير وتوبيخ ولكم خبرها ويوقف عليه كَيْفَ تَحْكُمُونَ أي تحكمون بالباطل في عبادتكم لغير الله وَما يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا أي غير

_ (1) . هي قراءة الكسائي وابن كثير وقرأ الباقون: قطعا بفتح الطاء. (2) . هي قراءة الكسائي وحمزة تتلو. وقرأ الباقون: تبلوا. (3) . اختلف القراء في قراءتها: فقراءة نافع يهدّي وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر وورش بفتح الهاء وعن عاصم روايتان رواية أبي بكر: يهدّي: ثلاث كسرات. وفي رواية حفص: بفتح الياء وكسر الهاء والدال مشددة. وقرأ حمزة والكسائي: يهدي.

تحقيق، لأنه لا يستند إلى برهان إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً ذلك في الاعتقادات إذ المطلوب فيها اليقين بخلاف الفروع تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ مذكور في البقرة أَمْ يَقُولُونَ أم هنا بمعنى بل والهمزة فَأْتُوا بِسُورَةٍ تعجيز لهم وإقامة حجة عليهم مَنِ اسْتَطَعْتُمْ يعني من شركائكم وغيرهم من الجنّ والإنس مِنْ دُونِ اللَّهِ أي غير الله بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ أي سارعوا إلى التكذيب بما لم يفهموه ولم يعلموا تفسيره وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ أي علم تأويله ويعني بتأويله الوعيد الذي لهم فيه وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ الآية فيها. قولان: أحدهما إخبار بما يكون منهم في المستقبل، وأن بعضهم يؤمن وبعضهم يتمادى على الكفر، والآخر أنها إخبار عن حالهم أن منهم من هو مؤمن به ويكتم إيمانه، ومنهم من هو مكذب فَقُلْ لِي عَمَلِي الآية: موادعة، منسوخة بالقتال مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أي يستمعون القرآن، وجمع الضمير بالحمل على معنى من أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ المعنى أتريد أن تسمع الصم وذلك لا يكون. لا سيما إذا انضاف إلى الصمم عدم العقل أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ المعنى أتريد أن تهدى العمي، وذلك لا يكون ولا سيما إذا انضاف إلى عدم البصر عمى البصيرة، والصمم والعمى عبارة عن قلة فهمهم لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً تقليل لمدّة بقائهم في الدنيا أو في القبور يَتَعارَفُونَ بَيْنَهُمْ يعني يوم الحشر فهو على هذا حال من الضمير في يلبثوا وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ شرط جوابه وإلينا مرجعهم. والمعنى إن أريناك بعض عذابهم في الدنيا فذلك وإن توفيناك قبل ذلك فإلينا مرجعهم ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ ذكرت ثم لترتيب الأخبار، لا لترتيب الأمر، قاله ابن عطية، وقال الزمخشري: ذكرت الشهادة والمراد مقتضاها وهو العقاب، فالترتيب على هذا صحيح فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ قيل: مجيئه في الآخرة للفصل، وقيل: مجيئه في الدنيا وهو بعثه.

[سورة يونس (10) : الآيات 48 إلى 60]

وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ كلام فيه استبعاد واستخفاف بَياتاً أي بالليل ماذا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ المعنى أي شيء يستعجلون من العذاب وهو ما لا طاقة لكم به، وقوله: ماذا جواب إن أتاكم، والجملة متعلقة بأرأيتم أَثُمَّ إِذا ما وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ دخلت همزة التقرير على ثم العاطفة، والمعنى إذا وقع العذاب وعاينتموه آمنتم به الآن، وذلك لا ينفعكم لأنكم كنتم تستعجلونه ومكذبين به وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ أي يسألونك هل الوعيد حق أو هل الشرع والدين حق؟ والأول أرجح، لقوله: وما أنتم بمعجزين: أي لا تفوتون من الوعيد قُلْ إِي أي نعم ظَلَمَتْ صفة لنفس، أي لو ملك الظالم الدنيا لافتدى بها من عذاب الآخرة وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ أي أخفوها في نفوسهم، وقيل: أظهروها مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ يعني القرآن وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ أي يشفي ما فيها من الجهل والشك قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا يتعلق بفضل بقوله: فليفرحوا، وكرر الباء في قوله فبذلك تأكيدا، والمعنى: الأمر أن يفرحوا بفضل الله وبرحمته لا بغيرهما، والفضل والرحمة عموم، وقد قيل: الفضل الإسلام، والرحمة القرآن هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ أي فضل الله ورحمته خير مما يجمعون من حطام الدنيا قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ الآية: مخاطبة لكفار العرب الذي حرّموا البحيرة والسائبة وغير ذلك قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ متعلق بأرأيتم، وكرر قل للتأكيد، ولما قسم الأمر إلى إذن الله لهم وافترائهم ثبت افتراؤهم، لأنهم معترفون أن الله لم يأذن لهم في ذلك وَما ظَنُّ وعيد للذين يفترون يَوْمَ الْقِيامَةِ ظرف منصوب بالظن، والمعنى: أي شيء يظنون أن يفعل بهم في ذلك اليوم وَما تَكُونُ فِي شَأْنٍ الشأن الأمر، والخطاب للنبي صلّى الله عليه وسلّم، والمراد هو وجميع الخلق، ولذلك قال في آخرها: وما تعملون من عمل بمخاطبة الجماعة، ومعنى الآية: إحاطة علم الله بكل شيء

وَما تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ الضمير عائد على القرآن وإن لم يتقدم ذكره لدلالة ما بعده عليه، كأنه قال: ما تتلو شيئا من القرآن، وقيل: يعود على الشأن، والأول أرجح، لأن الإضمار قبل الذكر تفخيم للشيء إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ يقال: أفاض الرجل في الأمر إذا أخذ فيه بجدّ وَما يَعْزُبُ ما يغيب [وقرأ الكسائي يعزب] . مِثْقالِ ذَرَّةٍ وزنها والذرة صغار النمل، قال الزمخشري: إن قلت لم قدمت الأرض على السماء بخلاف سورة سبأ؟ فالجواب: أن السماء تقدمت في سبأ لأن حقها التقديم، وقدمت الأرض هنا لما ذكرت الشهادة على أهل الأرض وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرَ من قرأهما بالفتح فهو عطف على لفظ مثقال، ومن قرأهما بالرفع «1» ، فهو عطف على موضعه أو رفع بالابتداء. أولياء الله اختلف الناس في معنى الولي اختلافا كثيرا، والحق فيه ما فسره الله بعد هذا بقوله: الذين آمنوا وكانوا يتقون، فمن جمع بين الإيمان والتقوى فهو الولي، وإعراب الذي آمنوا صفة للأولياء، أو منصوب على التخصيص، أو مرفوع بإضمار: هم الذين ولا يكون ابتداء مستأنفا لئلا ينقطع مما قبله هُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ أما بشرى الآخرة فهي الجنة اتفاقا، وأما بشرى الدنيا فيه الرؤيا الصالحة يراها الرجل الصالح أو ترى له «2» ، روي ذلك عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وقيل: محبة الناس للرجل الصالح، وقيل: ما بشّر به في القرآن من الثواب تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ أي لا تغيير لأقواله ولا خلف لمواعيده، وقد استدل ابن عمر على أن القرآن لا يقدر أحد أن يبدله. وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ يعني ما يقوله الكفار من التكذيب إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ إخبار في ضمنه وعد للنبي صلّى الله عليه وسلّم بالنصر، وتسلية له وَما يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ فيها وجهان: أحدهما أن تكون ما نافية وأوجبت بقوله: إلا الظن وكرر إن يتبعون توكيدا، والمعنى ما يتبع الكفار إلا الظن، والوجه الثاني: أن تكون ما استفهامية، ويتم الكلام عند قوله شركاء، والمعنى أي شيء يتبعون على وجه التحقير لما يتبعونه، ثم ابتدأ الإخبار بقوله

_ (1) . بالرفع هي قراءة حمزة. وقرأ الباقون بفتح أصغر وأكبر. (2) . انظر ابن ماجة كتاب تعبير الرؤيا ص/ 1283.

[سورة يونس (10) : الآيات 67 إلى 77]

إن يتبعون إلا الظن، والعامل في شركاء على الوجهين يدعون لِتَسْكُنُوا فِيهِ من السكون وهو ضدّ الحركة وَالنَّهارَ مُبْصِراً أي مضيئا تبصرون فيه الأشياء قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً الضمير للنصارى ولمن قال: إن الملائكة بنات الله هُوَ الْغَنِيُّ وصف يقتضي نفي الولد والردّ على من نسبه إليه، لأن الغني المطلق لا يفتقر إلى اتخاذ ولد لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ بيان وتأكيد للغني، وباقي الآية توبيخ للكفار ووعيد لهم مَتاعٌ فِي الدُّنْيا تقديره: لهم متاع في الدنيا نُوحٍ روي أن اسمه عبد الغفار، وإنما سمي نوحا لكثرة نوحه على نفسه من خوف الله كَبُرَ عَلَيْكُمْ أي صعب وشق مَقامِي أي قيامي لوعظكم والكلام معكم، وقيل: معناه مكاني يعني نفسه، كقولك: فعلت ذلك لمكان فلان فَأَجْمِعُوا بقطع الهمزة من أجمع الأمر إذا عزم عليه، وقرئ بألف وصل من الجمع شُرَكاءَكُمْ أي ما تعبدون من دون الله، وإعرابه: مفعول معه، أو مفعول بفعل مضمر تقديره: ادعوا شركاءكم، وهذا على القراءة بقطع الهمزة، وأما على الوصل فهو معطوف ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً أي لا يكون قصدكم إلى هلاكي مستورا ولكن مكشوفا تجاهرونني به وهو من قولك: غم الهلال إذا لم يظهر، والمراد بقوله: أمركم في الموضعين إهلاككم لنوح عليه السلام، أي: لا تقصروا في إهلاكي إن قدرتم على ذلك ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ أي انفذوا فيما تريدون، ومعنى الآية أن نوحا عليه السلام قال لقومه: إن صعب عليكم دعائي لكم إلى الله فاصنعوا بي غاية ما تريدون، وإني لا أبالي بكم لتوكلي على الله وثقتي به سبحانه وَجَعَلْناهُمْ خَلائِفَ أي يخلفون من هلك بالغرق ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلًا يعني: هودا وصالحا وإبراهيم وغيرهم أَسِحْرٌ هذا قيل إنه معمول أتقولون،

[سورة يونس (10) : الآيات 78 إلى 86]

فهو من كلام قوم فرعون وهذا ضعيف، لأنهم كانوا يصممون على أنه سحر لقولهم: إن هذا لسحر مبين، فكيف يستفهمون عنه؟ وقيل: إنه من كلام موسى تقريرا أو توبيخا فيوقف على قوله: أتقولون للحق لما جاءكم، ويكون معمول أتقولون محذوف تقديره: أتقولون للحق لما جاءكم إنه لسحر، ويدل على هذا المحذوف ما حكى عنهم من قولهم: إن هذا لسحر مبين، فلما تم الكلام ابتدأ موسى توبيخهم بقوله: أسحر هذا ولا يفلح الساحرون؟ وهذا هو اختيار شيخنا الأستاذ أبي جعفر ابن الزبير رحمه الله لِتَلْفِتَنا أي لتصرفنا وتردّنا عن دين آبائنا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِياءُ أي الملك، والخطاب لموسى وأخيه عليهما السلام ما جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ ما موصولة مرفوعة بالابتداء والسحر الخبر وقرئ آلسحر بالاستفهام «1» فما على هذا استفهامية، والسحر خبر ابتداء مضمر وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ يحتمل أن يكون من كلام موسى أو إخبار من الله تعالى فَما آمَنَ لِمُوسى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ الضمير عائد على موسى، ومعنى الذرية شبان وفتيان من بني إسرائيل آمنوا به على خوف من فرعون، وقيل: إن الضمير عائد على فرعون، فالذرية على هذا من قوم فرعون، وروي في هذا أنها امرأة فرعون وخازنته وامرأة خازنه، وهذا بعيد، لأن هؤلاء لا يقال لهم ذرية، ولأن الضمير ينبغي أن يعود على أقرب مذكور عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِمْ الضمير يعود على الذرية أي آمنت الذرية من بني إسرائيل، على خوف من فرعون وملإ من بني إسرائيل، لأن الأكابر من بني إسرائيل كانوا يمنعون أولادهم من الإيمان خوفا من فرعون، وقيل: يعود على فرعون بمعنى آل فرعون كما يقال ربيعة ومضر أو لأنه ذو أصحاب يأتمرون له أَنْ يَفْتِنَهُمْ بدل من فرعون لَعالٍ فِي الْأَرْضِ أي متكبر قاهر رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ أي لا تمكنهم من عذابنا فيقولون: لو كان هؤلاء على الحق ما عذبناهم فيفتنون بذلك أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً أي اتخذ لهم بيوتا للصلاة والعبادة، وقيل: إنه أراد

_ (1) . هي قراءة أبي عمرو.

[سورة يونس (10) : الآيات 94 إلى 103]

الإسكندرية وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً أي مساجد وقيل: موجهة إلى جهة القبلة، فإن قيل: لم خص موسى وهارون بالخطاب في قوله أن تبوّءا. ثم خاطب معهما بنو إسرائيل في قوله: واجعلوا، فالجواب: أن قوله تبوّءا من الأمور التي يختص بها الأنبياء وأولوا الأمر وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ أمر لموسى عليه السلام، وقيل: لمحمد صلّى الله عليه وسلّم رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ دعاء بلفظ الأمر، وقيل: اللام لام كي وتتعلق بقوله: آتيت اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ أي أهلكها وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ أي اجعلها شديدة القسوة فَلا يُؤْمِنُوا جواب للدعاء الذي هو اشدد، ودعاء بلفظ النفي قالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما الخطاب لموسى وهارون على أنه لم يذكر الدعاء إلا عن موسى وحده، لكن كان موسى يدعو وهارون يؤمن على دعائه، فَاسْتَقِيما أي أثبتا على ما أنتما عليه من الدعوة إلى الله فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ أي لحقهم يقال: تبعه حتى أتبعه، هكذا قال الزمخشري. وقال ابن عطية أتبع بمعنى تبع وأما اتبع بالتشديد فهو: طلب الأثر، سواء أدرك أو لم يدرك لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ يعني الله عز وجل، وفي لفظ فرعون مجهلة وتعنت لأنه لم يصرح باسم الله آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ أي قيل له: أتؤمن الساعة في وقت الاضطرار، وذلك لا يقبل منك نُنَجِّيكَ أي نبعدك مما جرى لقومك من الوصول إلى قعر البحر، وقيل: نلقيك على نجوة من الأرض أي على موضع مرتفع «1» بِبَدَنِكَ أي بجسدك جسدا بدون روح، وقيل بدرعك، وكانت له درع من ذهب يعرف بها والمحذوف في موضع الحال والباء للمصاحبة لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً أي لمن وراءك آية وهم بنو إسرائيل مُبَوَّأَ صِدْقٍ منزلا حسنا وهو مصر والشام فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جاءَهُمُ الْعِلْمُ قيل: يريد اختلافهم في دينهم وقيل: اختلافهم في أمر محمد صلّى الله عليه وسلّم فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ قيل: الخطاب للنبي صلّى الله عليه واله وسلم، والمراد غيره، وقيل: ذلك كقول

_ (1) . يقال توجد مومياء الفرعون المذكور في المتحف المصري ولا زالت سليمة حتى اليوم.

القائل لابنه: إن كنت ابني فبرّني مع أنه لا يشك أنه ابنه، ولكن من شأن الشك أن يزول بسؤال أهل العلم، فأمره بسؤالهم، قال ابن عباس: لم يشك النبي صلّى الله عليه وسلّم ولم يسأل، وقال الزمخشري: إن ذلك على وجه الفرض والتقدير، أي إن فرضت أن تقعد في شك فاسأل مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ قيل: يعني القرآن أو الشرع بجملته، وهذا أظهر، وقيل: يعني ما تقدم من أن بني إسرائيل ما اختلفوا إلا من بعد ما جاءهم الحق فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ يعني: الذين يقرءون التوراة والإنجيل، قال السهيلي: هم عبد الله بن سلام ومخيريق ومن أسلم من الأحبار، وهذا بعيد، لأن الآية مكية، وإنما أسلم هؤلاء بالمدينة، فحمل الآية على الإطلاق أولى فَلا تَكُونَنَّ خطاب للنبي صلّى الله عليه وسلّم والمراد غيره حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ أي قضى أنهم لا يؤمنون فَلَوْلا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ لولا هنا للتحضيض بمعنى هلا، وقرئ في الشاذ هلا، والمعنى: هلا كانت قرية من القرى المتقدمة آمنت قبل نزول العذاب فنفعها إيمانها: إذ لا ينفع الإيمان بعد معاينة العذاب كما جرى لفرعون إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ استثناء من القرى، لأن المراد أهلها، وهو استثناء منقطع بمعنى: ولكن قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم العذاب، ويجوز أن يكون متصلا، والجملة في معنى النفي كأنه قال ما آمنت قرية إلا قوم يونس، وروي في قصصهم أن يونس عليه السلام أنذرهم بالعذاب، فلما رأوه قد خرج من بين أظهرهم علموا أن العذاب ينزل بهم فتابوا وتضرعوا إلى الله تعالى فرفعه عنهم وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ يريد إلى آجالهم المكتوبة في الأزل أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ الهمزة للإنكار أي أتريد أنت أن تكره الناس في إدخال الإيمان في قلوبهم وتضطرهم إلى ذلك، وليس ذلك إليك إنما هو بيد الله، وقيل: المعنى أفأنت تكره الناس بالقتال حتى يؤمنوا أو كان هذا في صدر الإسلام قبل الأمر بالجهاد ثم نسخت بالسيف انْظُرُوا أمر بالاعتبار والنظر في آيات الله وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ يعني: من قضى الله عليه أنه لا يؤمن، وما نافية أو استفهامية يراد بها النفي فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ الآية: تهديد حَقًّا عَلَيْنا اعتراض بين العامل ومعموله وهما كذلك، وننج

[سورة يونس (10) : الآيات 104 إلى 109]

المؤمنين وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ الوجه هنا بمعنى القصد والدين وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ منسوخ بالقتال، وكذلك قوله: وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وعد بالنصر والظهور على الكفار.

سورة هود

سورة هود مكية إلا الآيات 12 و 17 و 114 فمدنية وآياتها 123 نزلت بعد سورة يونس بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (سورة هود عليه السلام) الر كِتابٌ يعني القرآن، وهو خبر ابتداء مضمر أُحْكِمَتْ أي أتقنت فهو من الإحكام للشيء ثُمَّ فُصِّلَتْ قيل معناه بينت وقيل قطعت سورة سورة، وثم هنا ليست للترتيب في الزمان، وإنما هي لترتيب الأحوال: كقولك فلان كريم الأصل ثم كريم الفعل أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ أن مفسرة وقيل مصدرية في موضع مفعول من أجله، أو بدل من الآيات، أو يكون كلاما مستأنفا منقطعا عما قبله، على لسان رسول الله صلّى الله عليه واله وسلّم، ويدل على ذلك قوله: إنني لكم منه نذير وبشير وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ أي استغفروه مما تقدم من الشرك والمعاصي، ثم ارجعوا إليه بالطاعة والاستقامة عليها يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً أي ينفعكم في الدنيا بالأرزاق، والنعم، والخيرات، وقيل: هو طيب عيش المؤمن برجائه في الله ورضاه بقضائه، لأنه الكافر قد يتمتع في الدنيا بالأرزاق إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى يعني إلى الموت وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ أي يعطي في الآخرة كل ذي عمل جزاء عمله، والضمير يحتمل أن يعود على الله تعالى أو على ذي فضل وَإِنْ تَوَلَّوْا خطاب للناس، وهو فعل مستقبل حذفت منه إحدى التاءين عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ يعني يوم القيامة أو غيره كيوم بدر أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ قيل: كان الكفار إذا لقيهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يردون إليه ظهورهم، لئلا يرونه من شدة البغض والعداوة، والضمير في منه على هذا يعود إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وقيل: إن ذلك عبارة عما تنطوى عليه صدورهم من البغض والغل، وقيل: هو عبارة عن إعراضهم لأن من أعرض عن شيء انثنى عنه وانحرف، والضمير في منه على هذا يعود على الله تعالى أي يريدون أن يستخفوا من الله تعالى فلا يطلع رسوله ولا المؤمنون على ما في قلوبهم أَلا حِينَ

يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ أي يجعلونها أغشية وأغطية، كراهية لاستماع القرآن، والعامل في حين يعلم ما يسرون، وقيل: المعنى يريدون أن يستخفوا حين يستغشون ثيابهم، فيوقف عليه على هذا، ويكون يعلم استئنافا وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها وعد وضمان صادق، فإن قيل: كيف قال: على الله بلفظ الوجوب، وإنما هو تفضل، لأن الله لا يجب عليه شيء؟ فالجواب: أنه ذكره كذلك تأكيدا في الضمان، لأنه لما وعد به صار واقعا لا محالة لأنه لا يخلف الميعاد وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَمُسْتَوْدَعَها المستودع صلب الأب والمستقر بطن المرأة وقيل: المستقر المكان في الدنيا والمستودع القبر وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ دليل على أن العرش والماء كانا موجودين قبل خلق السموات والأرض لِيَبْلُوَكُمْ أي ليختبركم اختبارا تقوم به الحجة عليكم، لأنه كان عالما بأعمالكم قبل خلقكم ويتعلق ليبلوكم بخلق سِحْرٌ مُبِينٌ يحتمل أن يشيروا إلى القرآن، أو إلى القول بالبعث يعنون أنه باطل كبطلان السحر وَلَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ يحتمل أن يريد عذاب الدنيا أو الآخرة إِلى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ أي إلى وقت محدود لَيَقُولُنَّ ما يَحْبِسُهُ أي أي شيء يمنع هذا العذاب الموعود به، وقولهم ذلك على وجه التكذيب والاستخفاف وَلَئِنْ أَذَقْنَا الآية: ذم لمن يقنط عند الشدائد، ولمن يفتخر ويتكبر عند النعم، والرحمة هنا والنعماء يراد بهما الخيرات الدنيوية، والإنسان عام يراد به الجنس والاستثناء على هذا متصل، وقيل: المراد بالإنسان الكافر فالاستثناء منقطع فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ الآية: كان الكفار يقترحون على رسول الله صلّى الله عليه واله وسلّم أن يأتي بكنز أو يأتي معه ملك، وكانوا يستهزؤن بالقرآن فقال الله تعالى له: فلعلك تارك أن تلقى إليهم بعض ما أنزل إليك ويثقل عليك تبليغهم من أجل استهزائهم، أو لعلك يضيق صدرك من أجل أن يقولوا: لولا أنزل عليه كنز أو جاء معه ملك، والمقصود بالآية تسلية النبي صلّى الله عليه وسلّم عن قولهم حتى يبلغ الرسالة، ولا يبالي بهم، وإنما قال ضائق، ولم يقل ضيق ليدل على اتساع صدره عليه السلام وقلة ضيقه إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ أي ليس عليك إلا الإنذار والتبليغ والله هو الوكيل، الذي يقضي

[سورة هود (11) : الآيات 13 إلى 16]

بما شاء من إيمانهم أو كفرهم أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ أم هنا منقطعة بمعنى بل والهمزة والضمير في افتراه لما يوحي إليه قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ تحدّاهم أوّلا بعشر سور فلما بان عجزهم تحدّاهم بسورة واحدة فقال: فأتوا بسورة من مثله، والمماثلة المطلوبة في فصاحته وعلومه مُفْتَرَياتٍ صفة لعشر سور، وذلك مقابلة لقولهم: افتراه، وليست المماثلة في الافتراء وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ أي استعينوا بمن شئتم فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ فيها وجهان: أحدهما أن تكون مخاطبة من الله للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وللمؤمنين. أي: إن لم يستجب الكفار إلى ما دعوتموهم إليه من معارضة القرآن فاعلموا أنه من عند الله، وهذا على معنى دوموا على علمكم بذلك أو زيدوا يقينا به، والثاني أن يكون خطابا من النبي صلى الله عليه وآله وسلم للكفار أي إن لم يستجب من تدعونه من دون الله إلى شيء من المعارضة ولا قدر جميعكم عليه فاعلموا أنه من عند الله، وهذا أقوى من الأول لقوله: فهل أنتم مسلمون؟ ومعنى بعلم الله: بإذنه، أو بما لا يعلمه إلا الله من الغيوب وقوله: فهل أنتم مسلمون لفظه استفهام، ومعناه استدعاء إلى الإسلام وإلزام للكفار أن يسلموا، لما قام الدليل على صحة الإسلام لعجزهم عن الإتيان بمثل القرآن مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها الآية: نزلت في الكفار الذين يريدون الدنيا، ولا يريدون الآخرة إذ هم لا يصدّقون بها، وقيل: نزلت في أهل الرياء من المؤمنين الذين يريدون بأعمالهم الدنيا، حسبما ورد في الحديث في القارئ، والمنفق، والمجاهد، الذين أرادوا أن يقال لهم ذلك إنهم أول من تسعر بهم النار، والأول أرجح لتقدّم ذكر الكفار المناقضين للقرآن، فإنما قصد بهذه الآية أولئك نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها نوف إليهم أجور أعمالهم بما يغبطهم فيها من الصحة والرزق، والضمير في فيها يعود على الدنيا والمجرور متعلق بقوله نوف أو بأعمالهم وَحَبِطَ ما صَنَعُوا فِيها الضمير في فيها هنا يعود على الآخرة إن تعلق المجرور بحبط ويعود على الدنيا إن تعلق بصنعوا أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ الآية معادلة لما تقدم، والمعنى أفمن كان يريد الحياة الدنيا كمن كان على بينة من ربه، والمراد بمن كان على بينة من ربه: النبي صلّى الله عليه وسلّم والمؤمنون لقوله بعد ذلك: أولئك يؤمنون به، ومعنى البينة: البرهان العقلي والأمر الجلي وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ الضمير في يتلوه للبرهان وهو البينة ولمن كان على بينة من ربه، والضمير في منه

[سورة هود (11) : الآيات 27 إلى 34]

للرب تعالى، ويتلوه هنا بمعنى يتبعه، والشاهد: يريد به القرآن فالمعنى يتبع ذلك البرهان شاهد من الله وهو القرآن، فيزيد وضوحه وتعظم دلالته، وقيل: إن الشاهد المذكور هنا هو عليّ بن أبي طالب وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى أي ومن قبل ذلك الكتاب الشاهد كتاب موسى، وهو أيضا دليل آخر متقدم، وقد قيل: أقوال كثيرة في معنى هذه الآية وأرجحها ما ذكرنا وَمِنَ الْأَحْزابِ أي من أهل مكة وَيَقُولُ الْأَشْهادُ جمع شاهد كأصحاب، ويحتمل أن يكون من الشهادة فيراد به الملائكة والأنبياء أو من الشهود بمعنى الحضور، فيراد به كل من حضر الموقف وَيَبْغُونَها عِوَجاً أي: يطلبون اعوجاجها أو يصفونها بالاعوجاج، لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ أي لا يفلتون يُضاعَفُ لَهُمُ الْعَذابُ إخبار عن تشديد عذابهم وليس بصفة لأولياء ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ الآية: ما نافية والضمير للكفار، والمعنى وصفهم بأنهم لا يسمعون ولا يبصرون كقوله: ختم الله على قلوبهم الآية، وقيل غير ذلك، وهو بعيد لا جَرَمَ أي لا بد ولا شك أَخْبَتُوا أي: خشعوا وقيل: أنابوا مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ يعني المؤمنين والكافرين كَالْأَعْمى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ شبّه الكفار بالأعمى والأصم، وشبّه المؤمنين بالبصير والسميع، فهو على هذا تمثيل للمؤمنين بمثالين، وتمثيل للكافرين بمثالين، وقيل: التقدير كالأعمى والأصم، والبصير والسميع، فالواو لعطف الصفات، فهو على هذا تمثيل للمؤمنين بمثال واحد، وهو من جمع بين السمع والبصر، وتمثيل للكفار بمثال واحد وهو من جمع بين العمى والصمم عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ وصف اليوم بالأليم على وجه المجاز لوقوع الألم فيه أَراذِلُنا جمع أرذل وهم سفلة الناس، وإنما وصفوهم بذلك لفقرهم، جهلا منهم واعتقادا أن الشرف هو بالمال والجاه، وليس الأمر كما اعتقدوا، بل المؤمنون كانوا أشرف منهم على حال فقرهم وخمولهم في الدنيا، وقيل: إنهم كانوا حاكة وحجّامين، واختار ابن عطية أنهم أرادوا أنهم

أراذل في أفعالهم لقول نوح: وما علمي بما كانوا يعملون بادِيَ الرَّأْيِ أي أول الرأي من غير نظر ولا تدبير، وبادي منصوب على الظرفية: أصله وقت حدوث أول رأيهم، والعامل فيه اتبعوك على أصح الأقوال، والمعنى: اتبعك الأراذل من غير نظر ولا تثبت، وقيل: هو صفة لبشرا مثلنا: أي غير مثبت في الرأي وَما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ أي من مزية وشرف، والخطاب لنوح عليه السلام ومن معه عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي أي على برهان وأمر جليّ، وكذلك في قصة صالح وشعيب وَآتانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ يعني النبوّة فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ «1» أي خفيت عليكم، والفاعل على هذا البينة أو الرحمة أَنُلْزِمُكُمُوها أي أنكرهكم على قبولها قهرا؟ وهذا هو جواب أرأيتم: ومعنى الآية أن نوحا عليه السلام قال لقومه: أرأيتم إن هداني الله وأضلكم أأجبركم على الهدى وأنتم له كارهون؟ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مالًا الضمير في عليه عائد على التبليغ وَما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا يقتضي أنهم طلبوا منه طرد الضعفاء إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ المعنى أنه يجازيهم على إيمانهم مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أي: من يدفع عني عقاب الله إن ظلمتهم بالطرد وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ الآية: أي لا أدعى ما ليس لي فتنكرون قولي تَزْدَرِي أي تحتقر من قولك: زريت الرجل إذا قصرت به، والمراد بالذين تزدري أعينهم: ضعفاء المؤمنين إِنِّي إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ أي إن قلت للمؤمنين: لن يؤتيهم الله خيرا، والخير هنا يحتمل أن يريد به خير الدنيا والآخرة جادَلْتَنا الجدال هو المخاصمة والمراجعة في الحجة فَأْتِنا بِما تَعِدُنا أي بالعذاب وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي الآية: جزاء قوله: إن أردت أن أنصح لكم، هو ما دل عليه قوله: نصحي وجزاء قوله: إن كان الله يريد أن يغويكم: هو ما دل عليه قوله: لا ينفعكم نصحي، فتقديرها: إن أراد الله أن يغويكم لن ينفعكم نصحى إن نصحت لكم، ثم استأنف

_ (1) . قرأ حمزة والكسائي وحفص بالتشديد: فعمّيت. وقرأ أهل الحجاز والشام والبصرة وأبو بكر: فعميت: بالتخفيف.

[سورة هود (11) : الآيات 35 إلى 40]

قوله هو ربكم، ولا يجوز أن يكون ربكم هو جواب الشرط أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ الآية: الضمير في يقولون لكفار قريش، وفي افتراه لمحمد صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم، وهذا قول جميع المفسرين، واختار ابن عطية أن تكون في شأن نوح عليه السلام، فيكون الضمير في يقولون لقوم نوح، وفي افتراه لنوح لئلا يعترض ما بين قصة نوح بغيرها وهو بعيد إِجْرامِي أي ذنبي فَلا تَبْتَئِسْ أي فلا تحزن وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا أي تحت نظرنا وحفظنا وَوَحْيِنا أي وتعليمنا لك كيف تصنع الفلك وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا أي لا تشفع لي فيهم، فإني قد قضيت عليهم بالغرق كُلَّما يحتمل أن يكون جوابها سخروا منه، أو قال إن تسخروا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ تهديد، ومن يأتيه منصوب بتعلمون عَذابٌ يُخْزِيهِ هو الغرق والعذاب المقيم عذاب النار حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا غاية لقوله: ويصنع الفلك وَفارَ التَّنُّورُ أي فار بالماء وجعل الله تلك العلامة لنوح ليركب حينئذ في السفينة، والمراد بالتنور: الذي يوقد فيه عند ابن عباس وغيره، وروي أنه كان تنور آدم خلص إلى نوح، وقيل: التنور وجه الأرض قُلْنَا احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ المراد بالزوجين: الذكر والأنثى من الحيوان، وقرئ من كل بغير تنوين فعمل احمل في اثنين ومن قرأ بالتنوين «1» عمل احمل في زوجين، وجعل اثنين نعت له على جهة التأكيد وَأَهْلَكَ أي قرابتك، وهو معطوف على ما عمل فيه احمل إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ أي من قضي عليه بالعذاب فهو مستثنى من أهله، والمراد بذلك ابنه الكافر وامرأته وَمَنْ آمَنَ معطوف على أهلك، أي احمل أهلك ومن آمن من غيرهم وَما آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ قيل: كانوا ثمانين وقيل عشرة وقيل ثمانية وَقالَ ارْكَبُوا فِيها الضمير في قال لنوح، والخطاب لمن كان معه، والضمير في فيها للسفينة، وروي أنهم ركبوا فيها أول يوم من رجب، واستقرت على الجودي يوم عاشوراء بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها «2» وَمُرْساها اشتقاق مجراها من الجري، واشتقاق مرساها من الإرساء، وهو الثبوت. أو من وقوف السفينة،

_ (1) . كلّ: بالتنوين قراءة حفص عن عاصم. وقرأ الباقون كلّ بالإضافة. (2) . مجراها بالإمالة: وقراءة حمزة والكسائي وحفص وقرأ الباقون: مجراها.

[سورة هود (11) : الآيات 46 إلى 53]

ويمكن أن يكونا ظرفين للزمان أو المكان، أو مصدرين، ويحتمل الإعراب من وجهين: أحدهما أن يكون اسم الله في موضع الحال من الضمير في اركبوا، والتقدير: اركبوا متبركين باسم الله أو قائلين بسم الله، فيكون مجراها ومرساها على هذا ظرفين للزمان بمعنى وقت إجرائها وإرسائها أو ظرفين للمكان، ويكون العامل فيه ما في قوله بسم الله من معنى الفعل في موضع خبر ويكون قوله: بسم الله متصلا مع ما قبله، والجملة كلام واحد، والوجه الثاني: أن يكون كلامين فيوقف على اركبوا فيها ويكون بسم الله في موضع خبر، ومجراها ومرساها مبتدأ بمعنى المصدر أي إجراؤها وإرساؤها ويكون بسم الله على هذا مستأنفا غير متصل بما قبله ولكنه من كلام نوح حسبما روي أن نوحا كان إذا أراد أن يجري بالسفينة قال بسم الله فتجري، وإذا أراد وقوفها قال بسم الله فتقف وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبالِ روي أن الماء طبق ما بين السماء والأرض، فصار الكل كالبحر، قاله ابن عطية وهذا ضعيف، وأين كان الموج كالجبال على هذا، وصوّبه الزمخشري، وقال: كانت تجري في موج كالجبال قبل التطبيق [كذا] ، وقبل أن يغمر الماء الجبال وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ كان اسمه كنعان، وقيل: يام وكان له ثلاث بنون سواه وهم: سام وحام ويافث، ومنهم تناسل الخلق فِي مَعْزِلٍ أي في ناحية لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ يحتمل أربعة أوجه: أحدها أن يكون عاصم اسم فاعل ومن رحم كذلك بمعنى الراحم فالمعنى: لا عاصم إلا الراحم وهو الله تعالى، والثاني: أن يكون عاصم بمعنى ذي عصمة أي معصوم ومن رحم: بمعنى مفعول أي من رحم الله، فالمعنى لا معصوم إلا من رحمه الله والاستثناء على هذين الوجهين متصل، والثالث أن يكون عاصم اسم فاعل ومن رحم بمعنى المفعول، والمعنى لا عاصم من أمر الله لكن من رحمه الله فهو المعصوم، والرابع عكسه والاستثناء على هذين منقطع ابْلَعِي ماءَكِ عبارة عن جفوف الأرض من الماء أَقْلِعِي أي أمسكي عن المطر وروي أنها أمطرت من كل موضع منها وَغِيضَ الْماءُ أي نقص وَقُضِيَ الْأَمْرُ أي تمّ وكمل وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ أي استقرت السفينة على الجودي وهو جبل بالموصل وَقِيلَ بُعْداً أي هلاكا، وانتصب على المصدر وَنادى نُوحٌ رَبَّهُ يحتمل أن يكون هذا النداء قبل الغرق، فيكون العطف من غير ترتيب، أو يكون بعده فَقالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي أي: وقد وعدتني أن تنجي أهلي قالَ يا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ أي

ليس من أهلك الذين وعدتك بنجاتهم، لأنه كافر، ولقوله: ونادى نوح ابنه إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ فيه ثلاث تأويلات على قراءة الجمهور: أحدها أن يكون الضمير في إنه لسؤال نوح نجاة ابنه، والثاني أن يكون الضمير لابن نوح وحذف المضاف من الكلام تقديره: إنه ذو عمل غير صالح، والثالث: أن يكون الضمير لابن نوح، وعمل: مصدر وصف به مبالغة كقولك: رجل صوم، وقرأ الكسائي «عمل» بفعل ماض «غير صالح» بالنصب، والضمير على هذا لابن نوح بلا إشكال فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ أي لا تطلب مني أمرا لا تعلم أصواب هو أم غير صواب، حتى تقف على كنهه، فإن قيل: لم سمى نداءه سؤالا، ولا سؤال فيه؟ فالجواب أنه تضمن السؤال وإن لم يصرح به إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ أن في موضع مفعول من أجله تقديره: أعظك كراهة أن تكون من الجاهلين، وليس في ذلك وصف له بالجهل، بل فيه ملاطفة وإكرام اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا أي اهبط من السفينة بسلامة وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ أي ممن معك في السفينة، واختار الزمخشري أن يكون المعنى من ذرية من معك، ويعني به المؤمنين إلى يوم القيامة، فمن على هذا لابتداء الغاية، والتقدير على أمم ناشئة ممن معك، وعلى الأول تكون من لبيان الجنس وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ يعني نمتعهم متاع الدنيا وهم الكفار إلي يوم القيامة. تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ إشارة إلى القصة، وفي الآية دليل على أن القرآن من عند الله لأن النبي صلى الله عليه واله وسلم لم يكن يعلم ذلك قبل الوحي إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ يعني في عبادتهم لغير الله يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً السماء هنا المطر ومدرارا بناء تكثير من الدرّ يقال: درّ المطر واللبن وغيره، وفي الآية دليل على أن الاستغفار والتوبة سبب لنزول الأمطار، وروي أن عادا كان حبس عنهم المطر ثلاث سنين، فأمرهم بالتوبة والاستغفار، ووعدهم على ذلك بالمطر، والمراد بالتوبة هنا الرجوع عن الكفر، ثم عن الذنوب، لأن التوبة من الذنوب لا تصح إلا بعد الإيمان قالُوا يا هُودُ ما جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ أي بمعجزة، وذلك كذب منهم وجحود، أو يكون معناه بآية تضطرنا إلى

[سورة هود (11) : الآيات 54 إلى 60]

الإيمان بك، وإن كان قد أتاهم بآية نظرية عَنْ قَوْلِكَ أي بسبب قولك إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ معناه ما نقول إلا أن بعض آلهتنا أصابك بجنون لما سببتها ونهيتنا عن عبادتها فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ هذا أمر بمعنى التعجيز أي: لا تقدرون أنتم ولا آلهتكم على شيء، ثم ذكر سبب قوته في نفسه وعدم مبالاته بهم، فقال: إني توكلت على الله الآية ما مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها أي: هي في قبضته وتحت قهره، والأخذ بالناصية تمثيل لذلك، وهذه الجملة تعليل لقوة توكله على الله وعدم مبالاته بالخلق إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ يريد أن أفعال الله جميلة وقوله صدق ووعده حق، فالاستقامة تامة فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ أصل تولوا هنا تتولوا لأنه فعل مستقبل حذفت منه تاء المضارعة، فإن قيل: كيف وقع الإبلاغ جوابا للشرط، وقد كان الإبلاغ قبل التولي؟ فالجواب: أن المعنى إن تتولوا فلا عتب عليّ لأني قد أبلغتكم رسالة ربي وَلا تَضُرُّونَهُ شَيْئاً أي لا تنقصونه شيئا: أي إذا أهلككم واستخلف غيركم وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا إن قيل: لم قال هنا وفي قصة شعيب ولما بالواو وقال في قصة صالح ولوط: فلما بالفاء؟ فالجواب على ما قال الزمخشري أنه وقع ذلك في قصة صالح ولوط بعد الوعيد، فجيء بالفاء التي تقتضي التسبيب كما تقول وعدته فلما جاء الميعاد بخلاف قصة هود وشعيب، فإنه لم يتقدم ذلك فيهما فعطف بالواو وَنَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ يحتمل أن يريد به عذاب الآخرة، ولذلك عطفه على النجاة الأولى التي أراد بها النجاة من الريح، ويحتمل أن يريد بالثاني أيضا الريح، وكرره إعلاما بأنه عذاب غليظ، وتعديدا للنعمة في نجاتهم وَعَصَوْا رُسُلَهُ في جميع الرسل هنا وجهان: أحدهما أن من عصى رسولا واحدا لزمه عصيان جميعهم فإنهم متفقون على الإيمان بالله وعلى توحيده، والثاني أن يراد الجنس كقولك: فلان يركب الخيل وإن لم يركب إلا فرسا واحدا أَلا إِنَّ عاداً كَفَرُوا رَبَّهُمْ هذا تشنيع لكفرهم، وتهويل بحرف التنبيه وبتكرار اسم عاد أَلا بُعْداً أي هلاكا وهذا دعاء عليهم وانتصابه بفعل مضمر، فإن قيل: كيف دعا عليهم بالهلاك بعد أن هلكوا؟ فالجواب أن المراد أنهم أهل لذلك لِعادٍ قَوْمِ هُودٍ بيان لأن عادا اثنان: إحداهما قوم هود، والأخرى إرم هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ لأن آدم خلق من تراب وَاسْتَعْمَرَكُمْ

فِيها أي جعلكم تعمرونها. فهو من العمران للأرض، وقيل: هو من العمر نحو استبقاكم من البقاء قَدْ كُنْتَ فِينا مَرْجُوًّا أي: كنا نرجو أن ننتفع بك حتى قلت ما قلت، وقيل: المعنى كنا نرجو أن تدخل في ديننا فِي دارِكُمْ أي بلدكم ثَلاثَةَ أَيَّامٍ قيل: إنها الخميس والجمعة والسبت، لأنهم عقروا الناقة يوم الأربعاء، وأخذهم العذاب يوم الأحد وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ معطوف على نجينا أي نجيناهم من خزي يومئذ جاثِمِينَ ذكر في الأعراف كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها أي: كأن لم يقيموا فيها والضمير للدار، وكذلك في قصة شعيب. وَلَقَدْ جاءَتْ رُسُلُنا الرسل هنا الملائكة إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى بشروه بالولد قالُوا سَلاماً نصب على المصدر والعامل فيه فعل مضمر تقديره سلمنا عليكم سلاما قالَ سَلامٌ تقديره عليكم سلام وسلام عليكم، وهذا على أن يكون بمعنى التحية، وإنما رفع جوابه ليدل على إثبات السلام، فيكون قد حيّاهم بأحسن مما حيّوه، ويحتمل أن يكون السلام بمعنى السلامة، ونصب الأول لأنه بمعنى الطلب، ورفع الثاني لأنه في معنى الخبر فَما لَبِثَ أَنْ جاءَ أي ما لبث مجيئه بل عجّل وما نافية وأن جاء فاعل لبث بِعِجْلٍ حَنِيذٍ أي مشويّ، وفعيل هنا بمعنى مفعول نَكِرَهُمْ أي أنكرهم ولم يعرفهم، يقال: نكر وأنكر بمعنى واحد وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قيل: إنه لم يعرفهم فخاف منهم لما لم يأكلوا طعامه، وقيل: عرف أنهم ملائكة ولكن خاف أن يكونوا أرسلوا بما يخاف فأمنوه بقولهم: لا تخف وَامْرَأَتُهُ قائِمَةٌ قيل: قائمة خلف الستر، وقيل: قائمة في الصلاة، وقيل: قائمة تخدم القوم، واسمها سارة فَضَحِكَتْ قيل: معناه حاضت، وهو ضعيف، وقال الجمهور: هو الضحك المعروف واختلفوا من أي شيء ضحكت، فقيل: سرورا بالولد الذي بشرت به ففي الكلام على هذا تقديم وتأخير، وقيل: سرورا بالأمن بعد الخوف، وقيل: سرورا بهلاك قوم لوط فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ أسند البشارة إلى ضمير الله تعالى، لأنها كانت بأمره وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ أي من بعده وهو ولده، وقيل:

[سورة هود (11) : الآيات 72 إلى 80]

الوراء ولد الولد ويعقوب بالرفع مبتدأ، وبالفتح معطوف على إسحاق قالَتْ يا وَيْلَتى الألف فيه مبدلة من ياء المتكلم، وكذلك في يا لهفي ويا أسفى ويا عجبا، ومعناه التعجب من الولادة، وروي أنها كانت حينئذ بنت تسع وتسعين سنة، وإبراهيم ابن مائة سنة رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ يحتمل الدعاء والخبر أَهْلَ الْبَيْتِ أي أهل بيت إبراهيم، وهو منصوب بفعل مضمر على الاختصاص، أو منادى حَمِيدٌ أي محمود مَجِيدٌ من المجد وهو العلو والشرف يُجادِلُنا هو جواب لمّا على أن يكون المضارع في موضع الماضي، أو على تقدير ظل أو أخذ يجادلنا ويكون: يجادلنا مستأنفا والجواب محذوف، ومعنى جداله كلامه مع الملائكة في رفع العذاب عن قوم لوط، وقد ذكر في اللغات لَحَلِيمٌ وفي براءة أواه. يا إِبْراهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هذا أي قلنا: يا إبراهيم أعرض عن هذا يعني عن المجادلة فيهم فقد نفذ القضاء بعذابهم وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ الرسل هم الملائكة ومعنى سيء بهم أصابه سوء وضجر لما ظن أنهم من بني آدم وخاف عليهم من قومه يَوْمٌ عَصِيبٌ أي شديد وَجاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ أي يسرعون وكانت امرأة لوط قد أخبرتهم بنزول الأضياف عنده، فأسرعوا ليعملوا بهم عملهم الخبيث مِنْ قَبْلُ كانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أي كانت عادتهم إتيان الفواحش في الرجال قالَ يا قَوْمِ هؤُلاءِ بَناتِي المعنى فتزوجوهن، وإنما قال ذلك ليقي أضيافه ببناته، وقيل: اسم بناته الواحدة رئيا، والأخرى غوثا وأن اسم امرأته الهالكة والهة، واسم امرأة نوح والقة قالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ ما لَنا فِي بَناتِكَ مِنْ حَقٍّ أي: ما لنا فيهم أرب وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ ما نُرِيدُ يعنون نكاح الذكور قالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً جواب لو محذوف تقديره: لو كانت لي قدرة على دفعكم لفعلت، ويحتمل أن تكون لو للتمني أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ معنى آوى ألجأ، والمراد بالركن الشديد: ما يلجأ إليه من عشيرة وأنصار يحمونه من قومه، وكان رسول الله صلى الله عليه واله وسلم يقول: يرحم الله أخي لوطا لقد كان يأوي إلى ركن شديد: يعني إلى الله والملائكة قالُوا يا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ الضمير في قالوا للملائكة، والضمير في لن يصلوا لقوم لوط، وذلك أن الله طمس على أعينهم حينئذ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ أي اخرج بهم بالليل، فإن العذاب

[سورة هود (11) : الآيات 87 إلى 96]

ينزل بأهل هذه المدائن، وقرئ فأسر بوصل الألف وقطعها، وهما لغتان يقال سرى وأسرى بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ أي قطعة منه وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ نهوا عن الالتفات لئلا تتفطر أكبادهم على قريتهم، وقيل: يلتفت معناه يلتوي إِلَّا امْرَأَتَكَ قرئ بالنصب والرفع «1» ، فالنصب استثناء من قوله فأسر بأهلك، فيقتضي هذا أنه لم يخرجها مع أهله، والرفع بدل من ولا يلتفت منكم أحد، وروي على هذا أنه أخرجها معه، وأنها التفتت وقالت: يا قوماه فأصابها حجر فقتلها إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أي وقت عذابهم الصبح أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ ذكر أنهم لما قالوا: إن موعدهم الصبح قال لهم لوط: هلا عذبوا الآن، فقالوا له: أليس الصبح بقريب جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها الضمير للمدائن روي أن جبريل أدخل جناحه تحت مدائن قوم لوط، واقتلعها فرفعها حتى سمع أهل السماء صراخ الديكة ونباح الكلاب، ثم أرسلها مقلوبة وَأَمْطَرْنا عَلَيْها حِجارَةً أي على المدائن، والمراد أهلها. روي أنه من كان منهم خارج المدائن أصابته حجارة من السماء، وأما من كان في المدائن فهلك لما قلبت مِنْ سِجِّيلٍ قيل: معناه من ماء وطين، وإنما كان من الآجر المطبوخ وقيل: من سجله إذا أرسله، وقيل: هو لفظ أعجمي مَنْضُودٍ أي مضموم بعضه فوق بعض مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ معناه: معلّمة بعلامة، روي أنه كان فيها بياض وحمرة، وقيل كان في كل حجر اسم صاحبه وَما هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ الضمير للحجارة والمراد بالظالمين كفار قريش، فهذا تهديد لهم أي ليس الرمي بالحجارة ببعيد منهم لأجل كفرهم، وقيل: الضمير للمدائن، فالمعنى ليست ببعيدة منهم أفلا يعتبرون بها كقوله: وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ [الفرقان: 40] وقيل: إن الظالمين على العموم إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ يعني رخص الأسعار وكثرة الأرزاق عَذابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ يوم القيامة أو يوم عذابهم في الدنيا بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ أي ما أبقاه الله لكم من رزقه ونعمته، أَصَلاتُكَ «2» تَأْمُرُكَ الصلاة هي المعروفة ونسب الأمر إليها مجاز كقوله:

_ (1) . قرأ ابن كثير وأبو عمرو: امرأتك بالرفع وقرأ الباقون بالنصب. (2) . أصلاتك هي قراءة حمزة والكسائي وحفص، وقرأ الباقون: أصلواتك.

إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ [العنكبوت: 45] والمعنى أصلاتك تأمرك أن نترك عبادة الأوثان، وإنما قال الكفار هذا على وجه الاستهزاء أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا يعنون ما كانوا عليه من بخس المكيال والميزان، وأن نفعل عطف على أن نترك إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ قيل: إنهم قالوا ذلك على وجه التهكم والاستهزاء، وقيل: معناه الحليم الرشيد عند نفسك وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً أي سالما من الفساد الذي أدخلتم في أموالكم، وجواب أرأيتم محذوف يدل عليه المعنى وتقديره: أرأيتم إن كنت على بينة من ربي أيصلح لي ترك تبليغ رسالته وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ يقال: خالفني فلان إلى كذا إذا قصده وأنت مول عنه، وخالفني عنه إذا ولى عنه وأنت قاصده وَيا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ ما أَصابَ قَوْمَ نُوحٍ أي لا يكسبنكم عداوتي أن يصيبكم مثل عذاب الأمم المتقدمة، وشقاقي فاعل، وأن يصيبكم مفعول وَما قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ يعني في الزمان لأنهم كانوا أقرب الأمم الهالكين إليهم، ويحتمل أن يراد ببعيد في البلاد ما نَفْقَهُ أي ما نفهم وَإِنَّا لَنَراكَ فِينا ضَعِيفاً أي ضعيف الانتصار والقدرة، وقيل: نحيل البدن، وقيل: أعمى وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْناكَ الرهط: القرابة والرجم بالحجارة أو بالسب أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ هذا توبيخ لهم فإن قيل: إنما وقع كلامهم فيه وفي رهطه وأنهم هم الأعزة دونه فكيف طابق جوابه كلامهم؟ فالجواب: أن تهاونهم به وهو رسول الله تهاون بالله فلذلك قال: أرهطي أعزّ عليكم من الله وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا الضمير في اتخذتموه لله تعالى أو لدينه وأمره، والظهري ما يطرح وراء الظهر ولا يعبأ به، وهو منسوب إلى الظهر بتغيير النسب. اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ تهديد ومعنى مكانتكم تمكنكم في الدنيا وعزتكم فيها مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ عذاب الدنيا والآخرة وَارْتَقِبُوا تهديد وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا

[سورة هود (11) : الآيات 97 إلى 107]

أي بالمعجزات وَسُلْطانٍ مُبِينٍ أي برهان بين يَقْدُمُ قَوْمَهُ أي يتقدم قدّامهم في النار كما كانوا في الدنيا يتبعونه على الضلال والكفر فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ الورود هنا بمعنى: الدخول، وذكره بلفظ الماضي لتحقق وقوعه وَيَوْمَ الْقِيامَةِ عطف على في هذه فإن المراد به في الدنيا بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ أي العطية المعطاة قائِمٌ وَحَصِيدٌ باق وداثر فَما أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ حجة على التوحيد ونفي الشريك تَتْبِيبٍ أي تخسير يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ أي يجمعون فيه للحساب والثواب والعقاب، وإنما عبر باسم المفعول دون الفعل ليدل على ثبوت الجمع لذلك اليوم، لأن لفظ مجموع أبلغ من لفظ يجمع يَوْمٌ مَشْهُودٌ أي يحضره الأولون والآخرون يَوْمَ يَأْتِ العامل في الظرف لا تكلم أو فعل مضمر وفاعل يأت ضمير يعود على يوم مشهود وقال الزمخشري يعود على الله تعالى كقوله: أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ [الأنعام: 158] ويعضده عود الضمير عليه في قوله بإذنه فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ الضمير يعود على أهل الموقف الذي دل عليهم قوله: لا تكلم نفس زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ الزفير: إخراج النفس، والشهيق ردّه، وقيل: الزفير صوت المحزون، والشهيق صوت الباكي، وقيل: الزفير من الحلق، والشهيق من الصدر خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ فيه وجهان أحدهما أن يراد به سموات الآخرة وأرضها وهي دائمة أبدا، والآخر أن يكون عبارة عن التأبيد كقول العرب: ما لاح كوكب وما ناح الحمام وشبه ذلك مما يقصد به الدوام «1» إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ في هذا الاستثناء ثلاثة أقوال: قيل إنه على طريق التأدب مع الله كقولك: إن شاء الله، وإن كان الأمر واجبا، وقيل: المراد به زمان خروج المذنبين من النار، ويكون الذين شقوا على هذا يعم الكفار والمذنبين، وقيل: استثنى مدة كونهم في الدنيا وفي البرزخ، وأما الاستثناء في أهل الجنة فيصح فيه القول

_ (1) . قوله سبحانه: وأما الذين سعدوا بضم السين نهى قراءة حفص وحمزة والكسائي، وقرأ الباقون سعدوا بالنصب.

[سورة هود (11) : الآيات 108 إلى 115]

الأول والثالث دون الثاني غَيْرَ مَجْذُوذٍ أي غير مقطوع فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هؤُلاءِ المرية الشك والإشارة إلى عبدة الأصنام، أي لا تشك في فساد دين هؤلاء ما يَعْبُدُونَ إِلَّا كَما يَعْبُدُ آباؤُهُمْ أي: هم متبعون لآبائهم تقليدا من غير برهان وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ يعني من العذاب كَلِمَةٌ سَبَقَتْ يعني: القدر، وذلك أن الله قضى أن يفصل بينهم يوم القيامة فلا يفصل في الدنيا وَإِنَّ كُلًّا قرئ بتشديد إن وبتخفيفها، وإعمالها عمل الثقيلة، والتنوين في كل عوضا من المضاف إليه يعني كلهم، واللام في لما موطئة للقسم، وما زائدة، وليوفينّهم خبر إن، وقرئ لما بالتشديد على أن تكون إن نافية، ولمّا بمعنى إلا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمالَهُمْ أي جزاء أعمالهم وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا يعني: الكفار، وقيل: إنهم الظلمة من الولاة وغيرهم ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ مستأنف غير معطوف، وإنما قال: ثم لبعد النصرة وَأَقِمِ الصَّلاةَ الآية: يراد بها الصلوات المفروضة، فالطرف الأول الصبح والطرف الثاني الظهر والعصر، والزلف من الليل المغرب والعشاء إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ لفظه عام، وخصصه أهل التأويل بأن الحسنات الصلوات الخمس، ويمكن أن يكون ذلك على وجه التمثيل، روي أن رجلا قبل امرأة ثم ندم، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم وصلى معه الصلاة فنزلت الآية فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: أين السائل، فقال ها أنذا فقال قد غفر لك، فقال الرجل: ألي خاصة أو المسلمين عامة؟ فقال بل للمسلمين عامة، والآية على هذا مدنية، وقيل: إن الآية كانت قبل ذلك ذكرها النبي صلّى الله عليه وسلّم للرجل مستدلا بها، فالآية على هذا مكية كسائر السورة، وإنما تذهب الحسنات عند الجمهور الصغائر إذا اجتنبت الكبائر ذلِكَ إشارة إلى الصلوات، أو إلى كل ما تقدم من وعظ ووعد ووعيد فَلَوْلا تحضيض بمعنى هلا أُولُوا بَقِيَّةٍ أي أولو خير ودين بقي لهم دون غيرهم إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنا مِنْهُمْ استثناء منقطع معناه: ولكن قليلا ممن أنجينا من القرون ينهون عن الفساد في الأرض، وقيل: هو متصل فإن الكلام الذي قبله في حكم النفي كأنه قال: ما كان فيهم من ينهى عن الفساد في الأرض إلا قليلا، على أن الوجه في

مثل هذا البدل ويجوز فيه النصب الَّذِينَ ظَلَمُوا يعني الذين لم ينهوا عن الفساد بِظُلْمٍ هذا المجرور في موضع الحال من ربك والمعنى أنه لا يهلك أهل القرى ظالما لهم، تعالى الله عن ذلك وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً يعني مؤمنة لا خلاف بينهم في الإيمان وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ يعني في الأديان والملل والمذاهب وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ قيل: الإشارة إلى الاختلاف، وقيل: إلى الرحمة وقيل إليهما وَكُلًّا نَقُصُّ انتصب كلا بنقص وما بدل من كلا وَجاءَكَ فِي هذِهِ الْحَقُّ الإشارة إلى السورة اعْمَلُوا وَانْتَظِرُوا تهديد لهم وإقامة حجة عليهم.

سورة يوسف

سورة يوسف مكية إلا الآيات 1 و 2 و 3 و 7 فمدنية وآياتها 111 نزلت بعد سورة هود بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (سورة يوسف عليه السلام) الْكِتابِ الْمُبِينِ يعني القرآن، والمبين يحتمل أن يكون بمعنى البيّن، فيكون غير متعد، أو يكون متعديا بمعنى أنه أبان الحق أي أظهره لَعَلَّكُمْ يتعلق بأنزلناه أو بعربيا أَحْسَنَ الْقَصَصِ يعني قصة يوسف، أو قصص الأنبياء على الإطلاق، والقصص يكون مصدرا أو اسم مفعول بمعنى المقصوص، فإن أريد به هنا المصدر فمفعول نقصّ محذوف، لأن ذكر القرآن يدل عليه وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ الضمير في قبله للقصص أي من الغافلين عن معرفته، وفي هذا احتجاج على أنه من عند الله لكونه جاء به من غير تعليم إِذْ قالَ العامل فيه اذكر المضمر، أو القصص يا أَبَتِ أي يا أبي والتاء للمبالغة، وقيل: للتأنيث وكسرت دلالة على ياء المتكلم والتاء عوض من ياء المتكلم رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ كرر الفعل لطول الكلام، وأجرى الكواكب والشمس والقمر مجرى العقلاء في ضمير الجماعة لما وصفها بفعل من يعقل، وهو السجود وتأويل الكواكب في المنام إخوته، والشمس والقمر أبواه وسجودهم له تواضعهم له ودخولهم تحت كنفه وهو ملك لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ إنما قال ذلك لأنه علم أن تأويلها ارتفاع منزلته فخاف عليه من الحسد يَجْتَبِيكَ يختارك وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ قيل: هي عبارة الرؤيا، واللفظ أعم من ذلك آلِ يَعْقُوبَ يعني ذريته آياتٌ لِلسَّائِلِينَ أي لمن سأل عنها، روي أن اليهود سألوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن قصة يوسف أو أمروا قريشا أن يسألوه

[سورة يوسف (12) : الآيات 8 إلى 17]

عنها، فهم السائلون على هذا، واللفظ أعم من ذلك لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ هو بنيامين، وهو أصغر من يوسف، ويقال إنه شقيق يوسف، وكان أصغر أولاد يعقوب وَنَحْنُ عُصْبَةٌ أي جماعة نقدر على النفع والضر بخلاف الصغيرين، والعصبة: العشرة فما فوقها إلى الأربعين إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ أي خطأ وخروج عن الصواب بإفراط حبه ليوسف وأخيه يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ أي لا يشارككم غيره في محبته لكم وإقباله عليكم قَوْماً صالِحِينَ أي بالتوبة والاستقامة وقيل: هو صلاح حالهم مع أبيهم قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ هو يهوذا، وقيل: روبيل غَيابَتِ الْجُبِّ «1» غوره وما غاب منه السَّيَّارَةِ جمع سيار، وهم القوم الذين يسيرون في الأرض للتجارة، وغيرها إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ أي هذا هو الرأي إن فعلتموه ما لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلى يُوسُفَ أي: لم تخاف عليه منا، وقرأ السبع تأمنا، بالإدغام والإشمام، لأن أصله بضم النون الأولى يَرْتَعْ «2» من قرأه بكسر العين فهو من الرعي أي من رعي الإبل، أو من رعي بعضهم لبعض، وحراسته، ومن قرأه بالإسكان، فهو من الرتع وهو الإقامة في الخصب والتنعم، والتاء على هذا أصلية، ووزن الفعل يفعل، ووزنه على الأول نفتعل، ومن قرأ: يرتع ويلعب بالياء فالضمير ليوسف، ومن قرأ بالنون فالضمير للمتكلمين وهم إخوته، وإنما قالوا: نلعب، لأنهم لم يكونوا حينئذ أنبياء، وكان اللعب من المباح للتعلم كالمسابقة بالخيل وَأَجْمَعُوا أي عزموا، وجواب لما محذوف، وقيل: إنه أجمعوا، أو وأوحينا على زيادة الواو وَأَوْحَيْنا يحتمل أن يكون هذا الوحي بواسطة ملك، أو بإلهام، والضمير في إليه ليوسف، وقيل: ليعقوب والأول هو الصحيح، وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ في موضع الحال من لتنبئنهم أي: لا يشعرون حين تنبئهم فيكون خطابا ليوسف عليه السلام، أو من أوحينا لا يشعرون حين أوحينا إليه فيكون خطابا للنبي صلّى الله عليه وسلّم نَسْتَبِقُ أي نجري على أقدامنا لننظر أينا يسبق وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا أي بمصدّق لمقالتنا

_ (1) . قرأ نافع: غيابات. والباقون: غيابة. [.....] (2) . قرأ أهل المدينة والكوفة: يرتع ويلعب وقرأ نافع وابن كثير: نرتع والباقون: يرتع. والذئب: قرأها أبو عمرو والكسائي وورش عن نافع الذيب، والباقون الذئب بالهمز.

[سورة يوسف (12) : الآيات 18 إلى 21]

وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ أي لا تصدّقنا ولو كنا عندك من أهل الصدق، فكيف وأنت تتهمنا، وقيل: معناه لا تصدقنا وإن كنا صادقين في هذه المقالة، فذلك على وجه المغالطة منهم، والأول أظهر وَجاؤُ عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ أي: ذي كذب أو وصف بالمصدر مبالغة، وروي أنهم لطخوا قميصه بدم جدي، وقالوا ليعقوب: هذا دمه في قميصه فقال لهم: ما بال الذئب أكله ولم يخرق قميصه، فاستدل بذلك على كذبهم سَوَّلَتْ أي زينت فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وعد من نفسه بالصبر، وارتفاعه على أنه مبتدأ تقديره: صبر جميل أمثل، أو خبر مبتدإ تقديره: شأني صبر جميل وَجاءَتْ سَيَّارَةٌ روي أن هؤلاء السيارة من مدين، وقيل: هم أعراب وارِدَهُمْ الوارد هو الذي يستقي الماء لجماعة، ونقل السهيلي أن اسم هذا الوارد مالك بن دعر من العرب العاربة، ولم يكن له ولد فسأل يوسف أن يدعو له بالولد فدعا له، فرزقه الله اثني عشر ولدا، أعقب كل واحد منهم قبيلة قالَ يا بُشْرى «1» أي نادى البشرى كقولك: يا حسرة، وأضافها إلى نفسه، وقرئ يا بشرى بحذف ياء المتكلم، والمعنى كذلك وقيل: على هذه القراءة نادى رجلا منهم اسمه بشرى، وهذا بعيد، ولما أدلى الوارد الحبل في الجب تعلق به يوسف فحينئذ قال: يا بشراي هذا غلام وَأَسَرُّوهُ بِضاعَةً الضمير الفاعل للسيارة والضمير المفعول ليوسف أي أخفوه من الرفقة، أو قالوا لهم: دفعه لنا قوم لنبيعه لهم بمصر وَشَرَوْهُ أي باعوه، والضمير أيضا للذين أخذوه، وقيل: الضمير لإخوة يوسف وأنهم رجعوا إليه فقالوا: للسيارة هذا عبدنا بِثَمَنٍ بَخْسٍ أي ناقص عن قيمته، وقيل: البخس هنا الظلم دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ عبارة عن قلتها وَكانُوا الضمير للذين أخذوه أو لإخوته وَقالَ الَّذِي اشْتَراهُ يعني العزيز، وكان حاجب الملك وخازنه، وقال السهيلي: اسمه قطفير مِنْ مِصْرَ هو البلد المعروف، ولذلك لم ينصرف، وكان يوسف قد سيق إلى مصر فنودي عليه في السوق حتى بلغ ثمنه وزنه ذهبا، وقيل: فضة فاشتراه العزيز تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ قد تقدم وَاللَّهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ في عود الضمير وجهان: أحدهما أن يعود على الله فالمعنى أنه يفعل ما يشاء لا رادّ لأمره، والثاني: أنه يعود على يوسف أي يدبر الله أمره بالحفظ له والكرامة بَلَغَ أَشُدَّهُ قيل: الأشدّ البلوغ،

_ (1) . قرأ عاصم وحمزة والكسائي: يا بشرى، وقرأ الباقون: يا بشراي.

وقيل: ثماني عشرة سنة وقيل: ثلاث وثلاثون، وقيل: أربعون حُكْماً هي الحكمة والنبوة وَراوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها عَنْ نَفْسِهِ أي طلبت منه ما يكون من الرجل إلى المرأة وهي زليخا امرأة العزيز وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ روي أنها كانت سبعة أبواب هَيْتَ لَكَ «1» اسم فعل معناه تعال وأقبل، وقرئ بفتح الهاء وكسرها وبفتح التاء وضمها، والمعنى في ذلك كله واحد، وحركة التاء للبناء، وأما من قرأ بالهمز فهو فعل من تهيأت كقولك: جئت مَعاذَ اللَّهِ منصوب على المصدرية، والمعنى أعوذ بالله إِنَّهُ رَبِّي يحتمل أن يكون الضمير لله تعالى، أو للذي اشتراه، لأن السيد يقال له رب، فالمعنى لا ينبغي لي أن أخونه إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ الضمير للأمر والشأن، ويحتمل ذلك في الأوّل أي الضمير وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها أكثر الناس الكلام في هذه الآية حتى ألفوا فيها التآليف، فمنهم مفرط ومفرّط، وذلك أن منهم من جعل همّ المرأة وهمّ يوسف من حيث الفعل الذي أرادته، وذكروا في ذلك روايات من جلوسه بين رجليها، وحله التكة وغير ذلك، مما لا ينبغي أن يقال به لضعف نقله، ولنزاهة الأنبياء عن مثله، ومنهم من جعل أنها همت به لتضربه على امتناعه وهمّ بها ليقتلها أو يضربها ليدفعها وهو بعيد، يرده قوله: لولا أن رأى برهان ربه، ومنهم من جعل همها به من حيث مرادها وهمه بها ليدفعها، وهذا أيضا بعيد، لاختلاف سياق الكلام، والصواب إن شاء الله: إنها همت به من حيث مرادها وهمّ بها كذلك، لكنه لم يعزم على ذلك، ولم يبلغ إلى ما ذكر من حل التكة وغيرها بل كان همه خطرة خطرت على قلبه لم يطعها ولم يتابعها، ولكنه بادر بالتوبة والإقلاع عن تلك الخطرة حتى محاها من قلبه لما رأى برهان ربه، ولا يقدح هذا في عصمة الأنبياء لأن الهمّ بالذنب ليس بذنب ولا نقص عليه في ذلك، فإنه من همّ بذنب ثم تركه كتبت له حسنة لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ جوابه محذوف تقديره: لولا أن رأى برهان ربه لخالطها، وإنما حذف لأن قوله همّ بها يدل عليه، وقد قيل: إن «هم بها» هو الجواب، وهذا ضعيف لأن جواب لولا لا يتقدم عليها، واختلف في البرهان الذي رآه، فقيل ناداه جبريل: يا يوسف أتكون في ديوان الأنبياء وتفعل فعل السفهاء، وقيل: رأى يعقوب ينهاه، وقيل: تفكر فاستبصر، وقيل: رأى زليخا غطت وجه صنم لها حياء منه، فقال: أنا أولى أن أستحي من الله كَذلِكَ لِنَصْرِفَ الكاف في موضع نصب متعلقة بفعل مضمر، التقدير: ثبتناه مثل ذلك التثبيت، أو في موضع رفع تقديره: الأمر مثل ذلك السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ خيانة سيده والوقوع في الزنا الْمُخْلَصِينَ

_ (1) . قرأ أهل العراق: هيت. وأهل المدينة والشام: هيت. وابن كثير: هيت، وهشام: هئت.

[سورة يوسف (12) : الآيات 25 إلى 30]

قرئ بفتح اللام حيث وقع أي الذين أخلصهم الله لطاعته، وبالكسر أي الذي أخلصوا دينهم لله وَاسْتَبَقَا الْبابَ معناه: سبق كل واحد منهما صاحبه إلى الباب فقصد هو الخروج والهروب عنها، وقصدت هي أن تردّه، فإن قيل: كيف قال هنا الباب بالإفراد وقد قال بالجمع وغلقت الأبواب فالجواب أن المراد هنا الباب البرّاني الذي هو المخرج من الدار وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ أي قطعته من وراء، وذلك أنها قبضت قميصه من خلفه لتردّه فتمزق القميص، والقدّ القطع بالطول، و [القطّ] القطع بالعرض وَأَلْفَيا سَيِّدَها أي وجدا زوجها عند الباب قالَتْ ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ لما رأت الفضيحة عكست القضية، وادعت أن يوسف راودها عن نفسها، فذكرت جزاء كل من فعل ذلك على العموم، ولم تصرح بذكر يوسف لدخوله في العموم، وبناء على أن الذنب ثابت عليه بدعواها، وما جزاء يحتمل أن تكون ما نافية أو استفهامية قالَ هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي برّأ نفسه من دعواها وَشَهِدَ شاهِدٌ قيل: هو ابن عمها وقيل: كان طفلا في المهد فتكلم، وكونه من أهلها أوجب للحجة عليها وأوثق لبراءة يوسف، وكونه لم يتكلم قط، ثم تكلم بذلك كرامة ليوسف عليه السلام، والتقدير شهد شاهد فقال: أو ضمنت الشهادة معنى القول إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ لأنها كانت تدافعه فتقدّ قميصه من قبل وَإِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ لأنها جذبته إلى نفسها حين فرّ منها فقدّت قميصه من دبر فَلَمَّا رَأى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فاعل رأى زوجها أو الشاهد إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ الضمير للأمر أو لقولها ما جزاء يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا أي اكتمه ولا تحدث به، ويوسف منادى حذف منه حرف النداء لأنه قريب، وفي حذف الحرف إشارة إلى تقريبه وملاطفته وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ خطاب لها، وذلك من كلام زوجها أو من كلام الشاهد مِنَ الْخاطِئِينَ جاء بلفظ التذكير، ولم يقل من الخاطئات تغليبا للذكور. وَقالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ أي في مصر، روى أنهن خمس نسوة: امرأة الساقي، وامرأة الخباز، وامرأة صاحب الدواب، وامرأة صاحب السجن وامرأة الحاجب فَتاها أي خادمها، والفتى يقال بمعنى: الشاب، وبمعنى الخادم شَغَفَها بلغ شغاف قلبها وهو غلافه، وقيل: السويداء منه، وقيل: الشغاف داء يصل إلى القلب سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أي بقولهن وسماه مكرا لأنه كان في خفية، وقيل: كانت قد استكتمتهن سرها فأفشينه عليها

[سورة يوسف (12) : الآيات 36 إلى 42]

وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً أي أعتدت لهن ما يتكأ عليه من الفرش ونحوها، وقيل: المتكأ طعام، وقرئ في الشاذ متكأ بسكون التاء وتنوين الكاف، وهو الأترج، وإعطاؤها السكاكين لهن يدل على أن الطعام كان مما يقطع بالسكاكين كالأترج، وقيل: كان لحما وَقالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ أمر ليوسف، وإنما أطاعها لأنه كان مملوك زوجها أَكْبَرْنَهُ أي عظمن شأنه وجماله. وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ أي اشتغلن بالنظر إليه وبهتن من جماله حتى قطعن أيديهن وهنّ لا يشعرن كما يقطع الطعام حاشَ لِلَّهِ «1» معناه براءة وتنزيه: أي تنزيه الله وتعجب من قدرته على خلقة مثله، وحاش في باب الاستثناء تخفض على أنها حرف، وأجاز المبرد النصب بها على أن تكون فعلا وأما هنا فقال أبو علي الفارسي: إنها فعل، والدليل على ذلك من وجهين: أحدهما أنها دخلت على لام الخبر وهو اللام في قوله لله، ولا يدخل الحرف على حرف، والآخر أنها حذفت منها الألف على قراءة الجماعة، والحروف لا يحذف منها شيء وقرأها أبو عمرو بالألف على الأصل وإنما تحذف من الأفعال كقولك: لم يك ولا أدري، والفاعل بحاش ضمير يعود على يوسف تقديره: بعد يوسف عن الفاحشة لخوف الله، وقال الزمخشري: إن حاش وضع موضع المصدر، كأنه قال: تنزيها، ثم قال: لله ليبين من ينزه قال: وإنما حذف منه التنوين مراعاة لأصله من الحرفية ما هذا بَشَراً أخرجنه من البشر وجعلنه من الملائكة مبالغة في وصف الحسن إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ قالَتْ فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ توبيخ لهن على اللوم فَاسْتَعْصَمَ أي طلب العصمة وامتنع مما أرادت منه أَصْبُ إِلَيْهِنَّ أي أميل وكلامه هذا تضرع إلى الله ثُمَّ بَدا لَهُمْ أي ظهر والفاعل محذوف تقديره: رأى والضمير في لهم لزوجها وأهلها، أو من تشاور معه في ذلك رَأَوُا الْآياتِ أي الأدلة على براءته. وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيانِ أي شابان، وقيل: هنا محذوف لا بد منه وهو فسجنوه، وكان يوسف قد قال لأهل السجن: إني أعبر الرؤيا، وكذلك سأله الفتيان عن منامهما، وقيل: إنهما استعملاها ليجرباه، وقيل رأيا ذلك حقا أَعْصِرُ خَمْراً قيل فيه: سمى العنب خمرا بما يؤول إليه وقيل: هي لغة إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ قيل: معناه في تأويل الرؤيا، وقيل: إحسانه إلى أهل

_ (1) . قرأ أبو عمرو فقط: حاشا لله.

[سورة يوسف (12) : الآيات 43 إلى 49]

السجن قالَ لا يَأْتِيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ الآية: تقتضي أنه وصف لهما نفسه بكثرة العلم، ليجعل ذلك وصلة إلى دعائهما لتوحيد الله، وفيه وجهان: أحدهما أنه قال يخبرهما بكل ما يأتيهما في الدنيا من طعام قبل أن يأتيهما، وذلك من الإخبار بالغيوب الذي هو معجزة الأنبياء، والآخر أنه قال: لا يأتيكما طعام في المنام إلا أخبرتكما بتأويله قبل أن يظهر تأويله في الدنيا ذلِكُما مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي روي أنهما قالا له: من أين لك هذا العلم وأنت لست بكاهن ولا منجم؟ فقال: ذلكما مما علمني ربي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ يحتمل أن يكون هذا الكلام تعليلا لما قبله من قوله: علمني ربي أو يكون استئنافا. يا صاحِبَيِ السِّجْنِ نسبهما إلى السجن إما لأنهما سكناه أو لأنهما صاحباه فيه، كأنه قال يا صاحبيّ في السجن أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ الآية: دعاهما إلى توحيد الله، وأقام عليهما الحجة رغبة في إيمانهما ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْماءً أوقع الأسماء هنا موقع المسميات والمعنى سميتم ما لا يستحق الألوهية آلهة ثم عبدتموها مِنْ سُلْطانٍ أي حجة وبرهان فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً يعني الملك وَقالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ ناجٍ مِنْهُمَا الظن هنا يحتمل أن يكون بمعنى اليقين، لأن قوله: قضي الأمر يقتضي ذلك، أو يكون على بابه، لأن عبارة الرؤيا ظن اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ يعني الملك فَأَنْساهُ الشَّيْطانُ ذِكْرَ رَبِّهِ قيل: الضمير ليوسف، أي نسي في ذلك الوقت أن يذكر الله، ورجا غيره فعاقبه الله على ذلك بأن لبث في السجن، وقيل: الضمير للذي نجا منهما، وهو الساقي. أي نسي ذكر يوسف عند ربه، فأضاف الذكر إلى ربه إذ هو عنده، والرب على هذا التأويل الملك بِضْعَ سِنِينَ البضع من الثلاثة إلى العشرة، وقيل: إلى التسعة، وروي أن يوسف عليه السلام سجن خمس سنين أولا، ثم سجن بعد قوله ذلك سبع سنين. وَقالَ الْمَلِكُ هو ملك مصر الذي كان العزيز خادما له واسمه ريّان بن الوليد، وقيل: مصعب بن الريان، وكان من الفراعنة، وقيل: إنه فرعون موسى عمّر أربعمائة سنة حتى أدركه موسى وهذا بعيد إِنِّي أَرى في المنام سَبْعَ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ

أي ضعاف في غاية الهزال يا أَيُّهَا الْمَلَأُ خطاب لجلسائه وأهل دولته لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ أي: تعرفون تأويلها، يقال: عبرت الرؤيا بتخفيف الباء وأنكر بعضهم التشديد، وهو مسموع من العرب، وأدخلت اللام على المفعول به لما تقدم عن الفعل قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ أي تخاليطها وأباطيلها، وما يكون منها من حديث نفس ووسوسة شيطان بحيث لا يعبر، وأصل الأضغاث ما جمع من أخلاط النبات، واحده ضغث، فإن قيل: لم قال أضغاث أحلام بالجمع، وإنما كانت الرؤيا واحدة؟ فالجواب أن هذا كقولك فلان يركب الخيل وإن ركب فرسا واحدا وَما نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ بِعالِمِينَ إما أن يريدوا تأويل الأحلام الباطلة، أو تأويل الأحلام على الإطلاق وهو الأظهر وَقالَ الَّذِي نَجا مِنْهُما هو ساقي الملك وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أي بعد حين يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ يقدر قبله محذوف لا بد منه وهو فأرسلوه فقال: يا يوسف، وسماه صديقا لأنه كان قد جرب صدقه في تعبير الرؤيا وغيرها، والصديق مبالغة من الصدق أَفْتِنا فِي سَبْعِ بَقَراتٍ أي فيمن رأى سبع بقرات وكان الملك قد رأى سبع بقرات سمان أكلتهن سبع عجاف فعجب كيف علتهن وكيف وسعت في بطونهنّ، ورأى سبع سنبلات خضر، وقد التفت بها سبع يابسات حتى غطت خضرتها تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ هذا تعبير للرؤيا، وذلك أنه عبر البقرات السمان بسبع سنين مخصبة وعبر البقرات العجاف بسبع سنين مجدبة فكذلك السنبلات الخضر واليابسة دَأَباً بسكون الهمزة وفتحها «1» مصدر دأب على العمل إذا داوم عليه، وهو مصدر في موضع الحال فَما حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ هذا رأي أرشدهم يوسف إليه، وذلك أن أرض مصر لا يبقى فيها الطعام عامين، فعلمهم حيلة يبقى بها من السنين المخصبة إلى السنين المجدبة، وهي أن يتركوه في سنبله غير مدروس، فإن الحبة إذا بقيت في غشائها انحفظت إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ أي لا تدرسوا منه إلا ما يحتاج إلى الأكل خاصة سَبْعٌ شِدادٌ يعني سبع سنين ذات شدّة وجوع يَأْكُلْنَ ما قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ أي تأكلون فيهنّ ما اخترتم من الطعام في سنبله، وأسند الأكل إلى السنين مجازا مِمَّا تُحْصِنُونَ أي تخزنون وتخبئون ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عامٌ هذا زيادة على ما تقتضيه الرؤيا، وهو الإخبار بالعام الثامن يُغاثُ النَّاسُ يحتمل أن يكون من الغيث يمطرون، أو من الغوث:

_ (1) . قرأ حفص: دأبا بفتح الهمزة وقرأ الباقون: دأبا بسكون الهمزة.

[سورة يوسف (12) : الآيات 50 إلى 54]

أي يفرج الله عنهم وَفِيهِ يَعْصِرُونَ أي يعصرون الزيتون والعنب والسمسم وغير ذلك مما يعصر وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ قيل: هنا محذوف، وهو فرجع الرسول إلى الملك فقص عليه مقالة يوسف، فرأى علمه وعقله، فقال: ائتوني به قالَ ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ فَسْئَلْهُ لما أمر الملك بإخراج يوسف من السجن، وإتيانه إليه أراد يوسف أن يبرئ نفسه مما نسب إليه، من مراودة امرأة العزيز عن نفسها، وأن يعلم الملك وغيره أنه سجن ظلما، فذكر طرفا من قصته لينظر الملك فيها فيتبين له الأمر، وكان هذا الفعل من يوسف صبرا وحلما، إذ لم يجب إلى الخروج من السجن ساعة دعي إلى ذلك بعد طول المدّة، ومع ذلك فإنه لم يذكر امرأة العزيز رعيا لذمام زوجها وسترا لها، بل ذكر النسوة اللاتي قطعن أيديهنّ قالَ ما خَطْبُكُنَّ الآية جمع الملك النسوة وامرأة العزيز معهن، فسألهنّ عن قصة يوسف، وأسند المراودة إلى جميعهن، لأنه لم يكن عنده علم بأنّ امرأة العزيز هي التي راودته وحدها قُلْنَ حاشَ لِلَّهِ تبرئة ليوسف أو تبرئة لأنفسهن من مراودته وتكون تبرئة ليوسف بقولهن: ما علمنا عليه من سوء الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أي تبين وظهر، ثم اعترفت على نفسها بالحق. ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ قيل: إنه من كلام امرأة العزيز متصلا بما قبله، والضمير في يعلم وأخنه على هذا ليوسف عليه السلام أي: ليعلم يوسف أني لم أكذب عليه في حال غيبته، والإشارة بذلك إلى توبتها وإقرارها، وقيل: إنه من كلام يوسف عليه السلام، فالضمير للعزيز أي لم أخنه في زوجته في غيبته، بل تعففت عنها، والإشارة بذلك إلى توقفه عن الخروج من السجن حتى تظهر براءته وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي اختلف أيضا هل هو من كلام امرأة العزيز، أو من كلام يوسف، فإن كان من كلامها فهو اعتراف بعد الاعتراف، وإن كان من كلامه فهو اعتراف بما همّ به على وجه خطوره على قلبه، لا على وجه العزم والقصد، وقاله في عموم الأحوال على وجه التواضع إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ النفس هنا للجنس والنفوس ثلاثة أنواع: أمارة بالسوء، ولوّامة وهي التي تلوم صاحبها ومطمئنة إِلَّا ما رَحِمَ رَبِّي استثناء من النفس إذ هي بمعنى النفوس، أي الأنفس المرحومة وهي المطمئنة، فما على هذا بمعنى الذي، ويحتمل أن تكون ظرفية أي إلا حين رحمة الله أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي أي: أجعله خاصتي وخلاصتي قال أولا ائتوني به، فلما تبين له حاله قال: أستخلصه لنفسي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ أَمِينٌ أي فلما رأى

[سورة يوسف (12) : الآيات 55 إلى 61]

حسن كلامه وعرف وفور عقله وعلمه قال: إنك اليوم لدينا مكين أمين، والمكين من التمكين، والأمين من الأمانة قالَ اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ لما فهم يوسف من الملك أنه يريد تصريفه والاستعانة به قال له ذلك، وإنما طلب منه الولاية رغبة منه في العدل وإقامة الحق والإحسان، وكان هذا الملك كافرا، ويستدل بذلك على أنه يجوز للرجل الفاضل أن يعمل للرجل الفاجر إذا علم أنه يصلح بعض الأحوال، وقيل: إن الملك أسلم، وأراد بقوله خزائن الأرض: أرض مصر إذ لم يكن للملك غيرها، والخزائن كل ما يخزن من طعام ومال وغير ذلك إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ صفتان تعمان وجوه المعرفة والضبط للخزائن وقيل: حفيظ للحساب عليم بالألسن، واللفظ أعم من ذلك، ويستدل بذلك أنه يجوز للرجل أن يعرف بنفسه ويمدح نفسه بالحق إذا جهل أمره وإذا كان في ذلك فائدة. وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ الإشارة بذلك إلى ما تقدم من جميل صنع الله به، وروي أن الملك ولاه في موضع العزيز، وأسند إليه جميع الأمور حتى تغلب على أمره وأنه باع من أهل مصر في أعوام القحط الطعام بالدنانير والدراهم في السنة الأولى حتى لم يبق لهم شيء منها، ثم بالحلى، ثم بالدواب ثم بالضياع والعقار ثم برقابهم حتى تملكهم جميعا ثم أعتقهم وردّ عليهم أملاكهم نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا مَنْ نَشاءُ الرحمة هنا يراد بها الدنيا وكذلك الأجر في قوله: ولا نضيع أجر المحسنين بدليل قوله بعد ذلك: ولأجر الآخرة خير، فأخبر تعالى أن رحمته في الدنيا يصيب بها من يشاء من مؤمن وكافر ومطيع وعاص، وأن المحسن لا بدّ له من أجره في الدنيا، فالأوّل: في المشيئة، والثاني: واقع لا محالة، ثم أخبر أن أجر الآخرة خير من ذلك كله: للذين آمنوا، وكانوا يتقون، وفي الآية إشارة إلى أن يوسف عليه السلام جمع الله له بين خيري الدنيا والآخرة. وَجاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ كان سبب مجيئهم أنهم أصابتهم مجاعة في بلادهم، فخرجوا إلى مصر ليشتروا بها من الطعام الذي ادخره يوسف فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ إنما أنكروه لبعد العهد به وتغيير سنه أو لأنه كان متلثما، روى أنهم دخلوا عليه وهو على هيئة عظيمة من الملك وأنه سألهم عن أحوالهم، وأخبروه أنهم تركوا أخا لهم، فحينئذ قال لهم: ائتوني بأخ لكم من أبيكم وهو بنيامين شقيق يوسف وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ الجهاز ما يحتاج إليه المسافر من زاد وغيره، والمراد به هنا الطعام الذي باع منهم خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ أي المضيفين وَإِنَّا لَفاعِلُونَ أي نفعل ذلك لا محالة.

[سورة يوسف (12) : الآيات 62 إلى 69]

وَقالَ لِفِتْيانِهِ جمع فتى وهو الخادم سواء كان حرا أو عبدا اجْعَلُوا بِضاعَتَهُمْ فِي رِحالِهِمْ أمر أن يجعلوا البضاعة التي اشتروا منه بها الطعام في أوعيتهم لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَها أي لعلهم يعرفون اليد والكرامة في ردّ البضاعة إليهم، وليس الضمير للبضاعة لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ أي لعل معرفتهم بها تدعوهم إلى الرجوع وقصد برد البضاعة إليهم مع الطعام استئلافهم بالإحسان إليهم مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ إشارة إلى قوله: وإن لم تأتوني به فلا كيل لكم عندي فهو خوف من المنع في المستقبل نَكْتَلْ وزنه نفتعل من الكيل ما نَبْغِي ما استفهامية ونبغي بمعنى نطلب، والمعنى أي شيء نطلبه بعد هذه الكرامة وهي ردّ البضاعة مع الطعام، ويحتمل أن تكون ما نافية ونبغي من البغي: أي لا نتعدى على أخينا ولا نكذب على الملك وَنَمِيرُ أَهْلَنا أي نسوق لهم الطعام وَنَزْدادُ كَيْلَ بَعِيرٍ يريدون بعير أخيهم إذ كان يوسف لا يعطي إلا كيل بعير من الطعام لكل إنسان فأعطاهم عشرة أبعرة ومنعهم الحادي عشر لغيبة صاحبه حتى يأتي. والبعير الجمل ذلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ إن كانت الإشارة إلى الأحمال فالمعنى أنها قليلة لا تكفيهم حتى يضاف إليها كيل بعير، وإن كانت الإشارة إلى كيل بعير، فالمعنى أنه يسير على يوسف أي قليل عنده أو سهل عليه، فلا يمنعهم منه حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ أراد أن يحلفوا له ولتأتنني به جواب اليمين إِلَّا أَنْ يُحاطَ بِكُمْ أي إلا أن تغلبوا فلا تطيقون الإتيان به. يا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا مِنْ بابٍ واحِدٍ خاف عليهم من العين إن دخلوا مجتمعين إذ كانوا أهل جمال وهيبة ما كانَ يُغْنِي عَنْهُمْ جواب لما والمعنى أن ذلك لا يدفع ما قضاه الله إِلَّا حاجَةً استثناء منقطع، والحاجة هنا هي شفقته عليهم ووصيته لهم آوى إِلَيْهِ أَخاهُ أي ضمه قالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ أخبره بأنه أخوه، واستكتمه ذلك فَلا تَبْتَئِسْ أي لا تحزن فهو من البؤس بِما كانُوا يَعْمَلُونَ الضمير لإخوة يوسف، ويعني ما فعلوا بيوسف

[سورة يوسف (12) : الآيات 70 إلى 76]

وأخيه، ويحتمل أن يكون لفتيانه: أي لا تبالي بما تراه من تحيلي في أخذك جَعَلَ السِّقايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ السقاية هي الصواع، وهي إناء يشرب فيه الملك ويأكل فيه الطعام، وكان من فضة، وقيل من ذهب، وقصد بجعله في رحل أخيه أن يحتال على إمساكه معه إذ كان شرع يعقوب أن من سرق استعبده المسروق له. ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أي نادى مناد أَيَّتُهَا الْعِيرُ أي أيتها الرفقة إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ خطاب لأخوة يوسف، وإنما استحل أن يرميهم بالسرقة لما في ذلك من المصلحة من إمساك أخيه، وقيل: إن حافظ السقاية نادى: إنكم لسارقون، بغير أمر يوسف وهذا بعيد لتفتيش الأوعية وَلِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ أي لمن وجده ورده حمل بعير من طعام على وجه الجعل وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ أي ضامن لحمل البعير لمن ردّ الصواع، وهذا من كلام المنادي قالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ ما جِئْنا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ أي استشهدوا بعلمهم لما ظهر لهم من ديانتهم في دخولهم أرضهم حتى كانوا يجعلون الأكمّة في أفواه إبلهم لئلا تنال زروع الناس قالُوا فَما جَزاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ أي قال فتيان يوسف: ما جزاء آخذ الصواع إن كنتم كاذبين في قولكم: وما كنا سارقين، فالضمير في قوله جزاؤه يعود على الأخذ المفهوم من الكلام قالُوا جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزاؤُهُ المعنى أن إخوة يوسف أفتوا فيما سئلوا عنه فقالوا: جزاء السارق أن يستعبد، ويؤخذ في السرقة، وأما الإعراب فيحتمل وجهين: الأول: أن يكون جزاؤه الأوّل مبتدأ ومن مبتدأ ثان وهي شرطية أو موصولة، وخبرها فهو جزاؤه، والجملة خبر جزاؤه الأول، والوجه الثاني: أن يكون من خبر المبتدأ الأول على حذف مضاف، وتقديره جزاؤه أخذ من وجد في رحله وتم الكلام. ثم قال فهو جزاؤه أي هذا الحكم جزاؤه وَكَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ من كلام إخوة يوسف أي هذا حكمنا في السراق، وقد كان هذا الحكم في أول الإسلام، ثم نسخ بقطع الأيدي فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ هذا تمكين للحيلة ورفع للتهمة ثُمَّ اسْتَخْرَجَها مِنْ وِعاءِ أَخِيهِ ليصح له بذلك إمساكه معه، وإنما أنث الصواع في هذا الموضع لأنه سقاية، أو لأن الصواع يذكر ويؤنث. كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ أي صنعنا له هذا الصنع ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ أي في شرعه أو عادته، لأنه إنما كان جزاء السارق عنده أن يضرب ويضاعف عليه الغرم، ولكن حكم في هذه القضية آل يعقوب نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ يعني الرفعة بالعلم

[سورة يوسف (12) : الآيات 77 إلى 80]

بدليل ما بعده وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ أي فوق كل عالم من هو أعلم منه من البشر، أو الله عز وجل قالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ الضمير في قالوا لإخوة يوسف، وأشاروا إلى يوسف، ومعنى كلامهم إن يسرق بنيامين، فقد سرق أخوه يوسف من قبل، فهذا الأمر إنما صدر من ابني راحيل لا منّا، وقصدوا بذلك رفع المعرّة عن أنفسهم، ورموا بها يوسف وشقيقه، واختلف في السرقة التي رموا بها يوسف على ثلاثة أقوال: الأول أن عمته ربته، فأراد والده أن يأخذه منها، وكانت تحبه ولا تصبر عنه، فجعلت عليه منطقة لها، ثم قالت إنه أخذها فاستعبدته بذلك وبقي عندها إلى أن ماتت، والثاني أنه أخذ صنما لجدّه والد أمه فكسره، والثالث أنه كان يأخذ الطعام من دار أبيه ويعطيه المساكين فَأَسَرَّها يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ قال الزمخشري: الضمير للجملة التي بعد ذلك وهي قوله: أنتم شرّ مكانا، والمعنى قال في قوله: أنتم شر مكانا وقال ابن عطية: الضمير للحرارة التي وجد في نفسه من قولهم فقد سرق أخ له من قبل وأسر كراهية مقالتهم ثم جاهرهم بقوله أنتم شر مكانا أي لسوء أفعالكم وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَصِفُونَ إشارة إلى كذبهم فيما وصفوه به من السرقة. إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً استعطافا وكانوا قد أعلموه بشدّة محبة أبيه فيه فَخُذْ أَحَدَنا مَكانَهُ على وجه الضمان والاسترهان، والانقياد، وهذا هو الأظهر لقوله: معاذ الله أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده مِنَ الْمُحْسِنِينَ أي أحسنت إلينا فيما فعلت معنا من قبل أو على الإطلاق اسْتَيْأَسُوا أي يئسوا خَلَصُوا نَجِيًّا أي انفردوا عن غيرهم يناجي بعضهم بعضا، والنجي يكون بمعنى المناجي أو مصدرا قالَ كَبِيرُهُمْ قيل: كبيرهم في السن وهو روبيل، وقيل كبيرهم في الرأي وهو: شمعون، وقيل: يهوذا وَمِنْ قَبْلُ ما فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ تحتمل «ما» وجوها: الأول أن تكون زائدة، والثاني أن تكون مصدرية ومحلها الرفع بالابتداء تقديره وقع من قبل تفريطكم في يوسف، والثالث أن تكون موصولة ومحلها أيضا الرفع كذلك، والأول أظهر فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ يريد الموضع الذي وقعت فيه القصة ارْجِعُوا إِلى أَبِيكُمْ من قول كبيرهم، وقيل: من قول يوسف وهو بعيد إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ قرأ الجمهور بفتح الراء والسين، وروي عن الكسائي سرق بضم السين وكسر وتشديد الراء أي نسبت له السرقة وَما شَهِدْنا إِلَّا بِما عَلِمْنا أي قولنا لك إن ابنك: إنما هو شهادة بما علمنا من ظاهر ما جرى وَما كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ أي لا نعلم الغيب هل ذلك حق في نفس الأمر، أم لا، إذ يمكن أن يدس الصواع في رحله من غير علمه.

وقال الزمخشري: المعنى ما شهدنا إلا بما علمنا من سرقته وتيقناه، لأن الصواع استخرج من وعائه، وما كنا للغيب حافظين أي ما علمنا أنه سيسرق حين أعطيناك الميثاق، وقراءة سرق بالفتح تعضد قول الزمخشري، والقراءة بالضم تعضد القول الأول وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ تقديره واسأل أهل القرية، وكذلك أهل العير: يعنون الرفقة، هذا هو قول الجمهور وقيل: المراد سؤال القرية بنفسها والعير بنفسها ولا يبعد أن تخبره الجمادات لأنه نبيّ والأول أظهر وأشهر على أنه مجاز، والقرية هنا هي مصر قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ قبله محذوف تقديره: فرجعوا إلى أبيهم فقالوا له هذا الكلام فقال بل سولت الآية بِهِمْ جَمِيعاً وأخاه بنيامين، وأخاهم الكبير الذي قال لن أبرح الأرض. وَتَوَلَّى عَنْهُمْ لما لم يصدقهم، أعرض عنهم ورجع إلى التأسف وَقالَ يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ تأسف على يوسف دون أخيه الثاني والثالث، الذاهبين، لأن حزنه عليه كان أشدّ لإفراط محبته ولأن مصيبته كانت السابقة وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ أي من البكاء الذي هو ثمرة الحزن، فقيل إنه عمي، وقيل إنه كان يدرك إدراكا ضعيفا، وروي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يعقوب حزن حزن سبعين ثكلى وأعطي أجر مائة شهيد، وما ساء ظنه بالله قط فَهُوَ كَظِيمٌ قيل إنه فعيل بمعنى فاعل أي كاظم لحزنه لا يظهره لأحد، ولا يشكو إلا لله وقيل: بمعنى مفعول كقوله إِذْ نادى وَهُوَ مَكْظُومٌ [القلم: 48] أي مملوء القلب بالحزن، أو بالغيظ على أولاده، وقيل الكظيم: الشديد الحزن تَاللَّهِ تَفْتَؤُا أي لا تفتؤ، والمعنى لا تزال، وحذف حرف النفي لأنه لا يلتبس بالإثبات: لأنه لو كان إثباتا لكان مؤكدا باللام والنون حَرَضاً أي مشرفا على الهلاك الَ إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ ردّ عليهم في تفنيدهم له: أي إنما أشكو إلى الله لا إليكم ولا إلى غيركم، والبث: أشدّ الحزن أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ أي أعلم من لطفه ورأفته ورحمته ما يوجب حسن ظنّي به وقوة رجائي فيه. يا بَنِيَّ اذْهَبُوا يعني إلى الأرض التي تركتم بها أخويكم فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ أي تعرّفوا خبرهما، والتحسّس طلب الشيء بالحواس السمع والبصر، وإنما لم يذكر الولد الثالث، لأنه بقي هناك اختيارا منه، ولأن يوسف وأخاه كانا أحب إليه وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ أي من رحمة الله إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ إنما

[سورة يوسف (12) : الآيات 88 إلى 92]

جعل اليأس من صفة الكافر، لأن سببه تكذيب الربوبية أو جهلا بصفات الله من قدرته وفضله ورحمته فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ أي على يوسف وقيل: هذا محذوف تقديره فرجعوا إلى مصر الضُّرُّ يريدون به المجاعة أو الهم على إخوتهم بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ يعنون الدراهم التي جاءوا بها لشراء الطعام، والمزجاة القليلة، وقيل: الرديئة، وقيل: الناقصة، وقيل: إن بضاعتهم كانت عروضا فلذلك قالوا هذا وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا قيل: يعنون بما بين الدراهم الجياد ودراهمهم [من فوق] وقيل: أوف لنا الكيل الذي هو حقنا وزدنا على حقنا، وسموا الزيادة صدقة، ويقتضي هذا أن الصدقة كانت حلالا للأنبياء قبل محمد صلّى الله عليه وسلّم، وقيل: تصدق علينا برد أخينا إلينا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ قال النقاش: هو من المعاريض وذلك أنهم كانوا يعتقدون أنه كافر، لأنهم لم يعرفوه، فظنوا أنه على دين أهل مصر، فلو قالوا: إن الله يجزيك بصدقتك كذبوا، فقالوا لفظا يوهم أنهم أرادوه وهم لم يريدوه. قالَ هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ لما شكوا إليه رقّ لهم وعرّفهم بنفسه، وروي أنه كان يكلمهم وعلى وجهه لثام، ثم أزال اللثام ليعرفوه، وأراد بقوله ما فعلتم بيوسف وأخيه: التفريق بينهما في الصغر، ومضرتهم ليوسف وإذايتهم أخيه من بعده، فإنهم كانوا يذلونه ويشتمونه إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ اعتذار عنهم، فيحتمل أن يريد الجهل بقبح ما فعلوه أو جهل الشباب قالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قرئ بالاستفهام والخبر، فالخبر على أنهم عرفوه والاستفهام على أنهم توهموا أنه هو ولم يحققوه مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ قيل إنه أراد من يتق في ترك المعصية، ويصبر على السجن، واللفظ أعم من ذلك آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنا أي فضلك لَخاطِئِينَ أي عاصين، وفي كلامهم استعطاف واعتراف لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ عفو جميل، والتثريب التعنيف والعقوبة، وقوله اليوم راجع إلى ما قبله فيوقف عليه، وهو يتعلق بالتثريب، أو بالمقدر في عليكم من معنى الاستقرار وقيل: إنه يتعلق بيغفر، وهذا بعيد لأنه تحكم على الله وإنما يغفر دعاء، فكأنه أسقط حق نفسه بقوله: لا تثريب عليكم اليوم، ثم دعا إلى الله أن يغفر لهم حقه. اذْهَبُوا بِقَمِيصِي روي أن هذا القميص كان لإبراهيم كساه الله له حين أخرج من النار، وكان من ثياب الجنة، ثم صار لإسحاق، ثم ليعقوب، ثم دفعه يعقوب ليوسف، وهذا يحتاج إلى سند يوثق به، والظاهر أنه كان قميص يوسف الذي بمنزلة قميص كل أحد

يَأْتِ بَصِيراً الظاهر أنه علم ذلك بوحي من الله فَصَلَتِ الْعِيرُ أي خرجت من مصر متوجهة إلى يعقوب قالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ كان يعقوب ببيت المقدس، ووجد ريح القميص وبينهما مسافة بعيدة لَوْلا أَنْ تُفَنِّدُونِ أي تلومونني أو تردّون عليّ قولي، وقيل: معناه تقولون: ذهب عقلك، لأن الفند هو الخرف لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ أي ذهابك عن الصواب، بإفراط محبتك في يوسف قديما فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ روي أن البشير يهوذا لأنه كان جاء بقميص الدم فقال لإخوته: إني ذهبت إليه بقميص القرحة فدعوني أذهب إليه بقميص الفرحة قالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي وعدهم بالاستغفار لهم، فقيل سوّفهم إلى السّحر لأن الدعاء يستجاب فيه، وقيل إلى ليلة الجمعة فَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ هنا محذوفات يدل عليها الكلام، وهي فرحل يعقوب بأهله حتى بلغوا يوسف آوى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ أي ضمهما، وأراد بالأبوين أباه وأمه، وقيل أباه وخالته لأن أمه كانت قد ماتت، وسمى الخالة على هذا أمّا إِنْ شاءَ اللَّهُ راجع إلى الأمن الذي في قوله آمنين. وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ أي على سرير الملك وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً كان السجود عندهم تحية وكرامة لا عبادة وَقالَ يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ يعني حين رأى أحد عشر كوكبا والشمس والقمر يسجدون له، وكان بين رؤياه وبين ظهور تأويلها ثمانون عاما، وقيل أربعون أَحْسَنَ بِي يقال أحسن إليه وبه أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ إنما لم يقل أخرجني من الجب لوجهين: أحدهما أن في ذكر الجب خزي لإخوته، وتعريفهم بما فعلوه فترك ذكره توقيرا لهم. والآخر أنه خرج من الجب إلى الرق، ومن السجن إلى الملك، فالنعمة به أكثر وَجاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ أي من البادية وكانوا أصحاب إبل وغنم، فعدّ من النعم مجيئهم للحاضرة نَزَغَ الشَّيْطانُ أي أفسد وأغوى لَطِيفٌ لِما يَشاءُ أي لطيف التدبير لما يشاء من الأمور مِنَ الْمُلْكِ من للتبعيض، لأنه لم يعطه إلا بعض ملك الدنيا بل بعض ملك مصر تَوَفَّنِي مُسْلِماً لما عدّد النعم التي أنعم الله بها عليه اشتاق إلى لقاء

[سورة يوسف (12) : الآيات 102 إلى 109]

ربه ولقاء الصالحين من سلفه وغيرهم، فدعا بالموت. وقيل ليس ذلك دعاء بالموت، وإنما دعا أن الله يتم عليه النعم بالوفاة على الإسلام إذا حان أجله. ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ احتجاج على صحة نبوة محمد صلّى الله عليه وآله وسلم بإخباره بالغيوب وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ الخطاب للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم تأكيدا لحجته والضمير لأخوة يوسف إِذْ أَجْمَعُوا أي عزموا وَهُمْ يَمْكُرُونَ يعني فعلهم بيوسف وَما أَكْثَرُ النَّاسِ عموم لأن الكفار أكثر من المؤمنين، وقيل أراد أهل مكة وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ اعتراض أي لا يؤمنون، ولو حرصت على إيمانهم وَما تَسْئَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ أي لست تسألهم أجرا على الإيمان، فيثقل عليهم بسبب ذلك، وهكذا معناه حيث وقع وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ يعني المخلوقات والحوادث الدالة على الله سبحانه وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ نزلت في كفار العرب الذين يقرون بالله ويعبدون معه غيره، وقيل: في أهل الكتاب لقولهم: عزير ابن الله والمسيح ابن الله غاشِيَةٌ هي ما يغشى ويعم. قُلْ هذِهِ سَبِيلِي إشارة إلى شريعة الإسلام أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلى بَصِيرَةٍ أي أدعو الناس إلى عبادة الله، وأنا على بصيرة من أمري وحجة واضحة أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي أنا تأكيد للضمير في أدعو، ومن اتبعني معطوف عليه وعلى بصيرة في موضع الحال وقيل: أنا مبتدأ وعلى بصيرة خبره، فعلى هذا يوقف على قوله أدعو إلى الله، وهذا ضعيف وَسُبْحانَ اللَّهِ تقديره وأقول سبحان الله وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالًا ردّ على من أنكر أن يكون النبي من البشر، وقيل فيه إشارة إلى أنه لم يبعث رسولا من النساء مِنْ أَهْلِ الْقُرى أي من أهل المدن، لا من أهل البوادي، فإن الله لم يبعث رسولا من أهل البادية لجفائهم حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ متصل بالمعنى بقوله وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا إلى قوله عاقبة الذين من قبلهم، ويأسهم: يحتمل أن يكون من إيمان قومهم أو من النصر، والأول أحسن وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا قرئ بتشديد الذال وتخفيفها «1» ، فأما التشديد فالضمير في ظنوا

_ (1) . التشديد قراءة أهل الحجاز والبصرة والشام، والتخفيف قراءة الكوفة.

وكذبوا للرسل، والظن يحتمل أن يكون على بابه، أو بمعنى اليقين: أي علم الرسل أن قومهم قد كذبوهم فيئسوا من إيمانهم، وأما التخفيف، فالضميران فيه للقوم المرسل إليهم، أي ظنوا أن الرسل قد كذبوهم فيما ادعوه من الرسالة، أو من النصرة عليهم فِي قَصَصِهِمْ الضمير للرسل على الإطلاق، أو ليوسف وإخوته ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى يعني القرآن وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ تقدم معناه في البقرة.

سورة الرعد

سورة الرعد مدنية وآياتها 43 نزلت بعد سورة محمد بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (سورة الرعد) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ أي آيات هذه السورة ويحتمل أن يريد آيات الكتب على الإطلاق، ويحتمل أن يريد القرآن على الإطلاق، وهذا بعيد لتكرار القرآن بعد ذلك وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ يعني القرآن وإعرابه مبتدأ وخبره الحق بِغَيْرِ عَمَدٍ أي بغير شيء تقف إلا قدرة الله تَرَوْنَها قيل: الضمير للسموات، وترونها على هذا في موضع الحال أو استئنافا، وقيل: الضمير للعمد أي ليس لها عمد مرئية فيقتضي المفهوم من أن لها عمدا لا ترى، وقال الجمهور: لا عمد لها البتة، فالمراد نفي العمد ونفي رؤيتها ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ ثم هنا لترتيب الأخبار، لا لترتيب وقوع الأمر، فإن العرش كان قبل خلق السموات، وتقدّم الكلام على الاستواء في [الأعراف: 53] يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يعني أمر الملكوت يُفَصِّلُ الْآياتِ يعني آيات كتبه مَدَّ الْأَرْضَ يقتضي أنها بسيطة لا مكورة، وهو ظاهر الشريعة، وقد يترتب لفظ البسط والمدّ مع التكوير لأن كل قطعة من الأرض ممدودة على حدتها، وإنما التكوير لجملة الأرض رَواسِيَ يعني الجبال الثابتة زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يعني صنفين من الثمر: كالأسود والأبيض، والحلو والحامض، فإن قيل: تقتضي الآية أنه تعالى خلق من كل ثمرة صنفين، وقد خلق من كثير من الثمرات أصناف كثيرة، والجواب: أن ذلك زيادة في الاعتبار، وأعظم في الدلالة على القدرة، فذكر الاثنين، لأن دلالة غيرهما من باب أولى، وقيل: إن الكلام تم في قوله: من كل الثمرات ثم ابتدأ بقوله: جعل فيها زوجين يعني الذكر والأنثى والأول أحسن يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ أي يلبسه إياه فيصير له كالغشاء، وذلك تشبيه. قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ يعني قطع متلاصقة ومع تلاصقها، فإن أرضها تتنوع إلى طيب

[سورة الرعد (13) : الآيات 7 إلى 10]

ورديء وصلب ورخو، وغير ذلك، وكل ذلك دليل على الصانع المختار المريد القادر صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ الصنوان هي النخلات الكثيرة، ويكون أصلها واحد وغير الصنوان المفترق فردا فردا، وواحد الصنوان صنو يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ حجة وبرهان على أنه تعالى قدير ومريد، لأن اختلاف مذاقها وأشكالها وألوانها مع اتفاق الماء الذي تسقى به: دليل على القدرة والإرادة، وفي ذلك ردّ على القائلين بالطبيعة. وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أي إن تعجب يا محمد فإن إنكارهم للبعث حقيق أن يتعجب منه، فإن الذي قدر على إنشاء ما ذكرنا من السموات والأرض والثمار قادر على إنشاء الخلق بعد موتهم، أَإِذا كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ هذا هو قول الكفار المنكرين للبعث، واختلف القراء في هذا الموضع وفي سائر المواضع التي فيها استفهامان، وهي أحد عشر موضعا، أولها هذا، وفي الإسراء موضعان، وفي المؤمنين موضع، وفي النمل موضع، وفي العنكبوت موضع، وفي ألم السجدة موضع، وفي الصافات موضعان وفي الواقعة موضع، وفي النازعات موضع، فمنهم من قرأ بالاستفهام في الأول والثاني ومنهم من قرأ بالاستفهام في الأول فقط وهو نافع ومنهم من قرأ بالاستفهام في الثاني فقط، وأصل الاستفهام في المعنى، وإنما هو عن الثاني في مثل هذا الموضع، فإن همزة الاستفهام معناها الإنكار، وإنما أنكروا أن يكونوا خلقا جديدا ولم ينكروا أن يكونوا ترابا، فمن قرأ بالاستفهام في الثاني فقط هو على الأصل ومن قرأ بالاستفهام في الأول، فالقصد بالاستفهام الثاني، ومن قرأ بالاستفهام فيهما فذلك للتأكيد وَأُولئِكَ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ يحتمل أن يريد الأغلال في الآخرة فيكون حقيقة، أو يريد أنهم ممنوعون من الإيمان كقولك: إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالًا [يس: 8] ، فيكون مجازا يجري مجرى الطبع والختم على القلوب وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ أي بالنقمة قبل العافية، والمعنى: أنهم طلبوا العذاب على وجه الاستخفاف وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ جمع مثلة على وزن تمرة وهي العقوبة العظيمة التي تجعل الإنسان مثلا، والمعنى كيف يطلبون العذاب وقد أصابت العقوبات الأمم الذين كانوا قبلهم أفلا يخافون مثل ذلك؟ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ يريد ستره وإمهاله في الدنيا للكفار والعصاة، وقيل: يريد مغفرته لمن تاب، والأول أظهر هنا. وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا الآية: اقترحوا نزول آية على النبي صلى الله عليه وآله وسلم

[سورة الرعد (13) : الآيات 11 إلى 15]

من نزول ملك معه أو شبه ذلك، ولم يعتبروا بالقرآن ولا بغيره من الآيات العظام التي جاء بها، وذلك منهم معاندة إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ أي إنما عليك إنذارهم، وليس عليك أن تأتيهم بآية إنما ذلك إلى الله وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ فيه ثلاثة أقوال: أحدها أن يراد بالهادي الله تعالى، فالمعنى إنما عليك الإنذار والله هو الهادي لمن يشاء إذا شاء، والوجه الثاني: أن يريد بالهادي النبي صلّى الله عليه وسلّم، فالمعنى إنما أنت نبي منذر، ولكل قوم هاد من الأنبياء ينذرهم فليس أمرك ببدع ولا مستنكر. الثالث: روي أنها لما نزلت قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أنا المنذر وأنت يا عليّ الهادي «1» . اللَّهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى كقوله: يعلم ما في الأرحام، وهي من الخمس التي لا يعلمها إلا الله، ويعني يعلم هل هو ذكر أو أنثى، أو تام أو خداج، أو حسن أو قبيح، أو غير ذلك وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَما تَزْدادُ معنى تغيض تنقص، ومعنى تزداد من الزيادة، وقيل: إن الإشارة بدم الحيض فإنه يقل ويكبر وقيل: للولد فالغيض السقط، أو الولادة لأقل من تسعة أشهر، والزيادة إبقاؤه أكثر من تسعة أشهر، ويحتمل أن تكون ما في قوله: ما تَحْمِلُ وما تَغِيضُ وما تَزْدادُ: موصولة أو مصدرية سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ المعنى إن الله يسمع كل شيء، فالجهر والإسرار عنده سواء. وفي هذا وما بعده تقسيم، وهو من أدوات البيان، فإنه ذكر أربعة أقسام، وفيه أيضا مطابقة وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسارِبٌ بِالنَّهارِ المعنى سواء عند الله المستخفي بالليل وهو في غاية الاختفاء مع السارب بالنهار، وهو في غاية الظهور ومعنى السارب: المتصرف في سربه بالفتح: أي في طريقه ووجهه، والسارب والمستخفي اثنان قصد التسوية بينهما في اطلاع الله عليهما، مع تباين حالهما، وقيل: إن المستخفي بالليل والسارب بالنهار: صفتان لموصوف بينهما في اطلاع الله عليهما مع تباين حالهما، وقيل: إن المستخفي بالليل والسارب بالنهار: صفتان لموصوف واحد يستخفي بالليل ويظهر بالنهار، ويعضد هذا كونه قال: وسارب، فعطفه عطف الصفات ولم يقل ومن هو سارب بتكرار من كما قال، مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ، إلا أنّ جعلهما اثنين أرجح ليقابل من أسر القول ومن جهر به، فيكمل التقسيم إلى أربعة على هذا، ويكون قوله: وَسارِبٌ عطف على الجملة وهو قوله: ومن هو مستخف لا على مستخف وحده لَهُ مُعَقِّباتٌ المعقبات هنا جماعة الملائكة، وسميت معقبات لأن بعضهم يعقب بعضا، والضمير في له يعود على من المتقدّمة، كأنه قال: لمن أسر ومن جهر، ولمن استخفى ومن ظهر له معقبات، وقيل: يعود على الله وهو قول ضعيف لأن الضمائر التي بعده تعود على العبد باتفاق يَحْفَظُونَهُ صفة للمعقبات، وهذا الحفظ يحتمل أن يراد

_ (1) . انظر لمزيد اطلاع ما جاء في الطبري.

به حفظ أعماله أو حفظه وحراسته من الآفات مِنْ أَمْرِ اللَّهِ صفة للمعقبات أي معقبات من أجل أمر الله أي أمرهم بحفظه، وقرئ بأمر الله، وهذه القراءة تعضد ذلك، ولا يتعلق من أمر الله على هذا ليحفظونه، وقيل: يتعلق به على أنهم يحفظونه من عقوبة الله إذا أذنب بدعائهم له واستغفارهم إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ من العافية والنعم حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ بالمعاصي، فيقتضي ذلك أن الله لا يسلب النعم، ولا يترك النقم إلا بالذنوب يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً الخوف يكون مع البرق من الصواعق والأمور الهائلة، والطمع في المطر الذي يكون معه السَّحابَ الثِّقالَ وصفها بالثقل، لأنها تحمل الماء وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ الرعد اسم ملك وصوته المسموع تسبيح، وقد جاء في الأثر: أن صوته زجر للسحاب، فعلى هذا يكون تسبيحه غير ذلك وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ قيل: إنه إشارة إلى الصاعقة التي نزلت على أربد [بن ربيعة] الكافر، وقتلته حين هم بقتل النبي صلّى الله عليه واله وسلّم هو وأخوه [لأمه] عامر بن الطفيل [العامري] «1» واللفظ أعم من ذلك وَهُمْ يُجادِلُونَ فِي اللَّهِ يعني الكفار، والواو للاستئناف أو للحال شَدِيدُ الْمِحالِ أي شديد القوة، والمحال مشتق من الحيلة، فالميم زائدة، ووزنه مفعل، وقيل: معناه شديد المكر من قولك: محل بالرجل إذا مكر به، فالميم على هذا أصلية ووزنه فعال وتأويل المكر على هذا القول كتأويله في المواضع التي وردت في القرآن. لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ قيل: هي لا إله إلا الله، والمعنى أن دعوة العباد بالحق لله ودعوتهم بالباطل لغيره وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ يعني بالذين: ما عبدوا من دون الله من الأصنام وغيرهم، والضمير في يدعون للكفار، والمعنى أن المعبودين لا يستجيبون لمن عبدهم إِلَّا كَباسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْماءِ لِيَبْلُغَ فاهُ وَما هُوَ بِبالِغِهِ شبّه إجابة الأصنام لمن عبدهم بإجابة الماء لمن بسط إليه كفيه، وأشار إليه بالإقبال إلى فيه، ولا يبلغ فمه على هذا أبدا لأن الماء جماد لا يعقل المراد، فكذلك الأصنام، والضمير في قوله: وما هو الماء، وفي ببالغه للفم. وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً من لا تقع إلا على من يعقل، فهي هنا يراد بها الملائكة والإنس والجن، فإذا جعلنا السجود بمعنى الانقياد لأمر الله

_ (1) . انظر قصتهما في تفسير الطبري.

[سورة الرعد (13) : الآيات 16 إلى 17]

وقضائه فهو عام في الجميع: من شاء منهم ومن أبى، ويكون طوعا لمن أسلم وكرها لمن كره وسخط، وإن جعلنا السجود هو المعروف بالجسد، فيكون لسجود الملائكة والمؤمنين من الإنس والجن طوعا، وأما الكره فهو سجود المنافق وسجود ظل الكافر وَظِلالُهُمْ معطوف على من والمعنى أن الظلال تسجد غدوة وعشية، وسجودها انقيادها للتصرف بمشيئة الله سبحانه وتعالى قُلِ اللَّهُ جواب عن السؤال المتقدم، وهو من رب السموات والأرض، وإنما جاء الجواب والسؤال من جهة واحدة، لأنه أمر واضح لا يمكن جحده ولا المخالفة فيه، ولذلك أقام به الحجة على المشركين بقوله: أفاتخذتم من دونه أولياء. قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ الأعمى تمثيل للكافر، والبصير تمثيل للمؤمن الظُّلُماتُ الكفر وَالنُّورُ الإيمان، وذلك كله على وجه التشبيه والتمثيل أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ أم هنا بمعنى بل والهمزة، وخلقوا صفة لشركاء والمعنى: أن الله وقفهم [سألهم] هل خلق شركاؤهم خلقا كخلق الله، فحملهم ذلك واشتباهه بما خلق الله على أن جعلوا إلها غير الله؟ ثم أبطل ذلك بقوله: قُلِ اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فحصل الردّ عليهم أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها الآية: هذا مثل ضربه الله للحق وأهله والباطل وحزبه، فمثل الحق وأهله بالماء الذي ينزل من السماء فتسيل به الأودية، وينتفع به أهل الأرض، وبالذهب والفضة والحديد والصفر [النحاس] وغيرها من المعادن التي ينتفع بها الناس، وشبه الباطل في سرعة اضمحلاله وزواله بالزبد الذي يربى به السيل ويريد تلك المعادن التي يطفو فوقها إذا أذيبت، وليس في الزبد منفعة، وليس له دوام بِقَدَرِها يحتمل أن يريد ما قدر لها من الماء، ويحتمل أن يريد بقدر ما تحتمله على قدر صغرها وكبرها زَبَداً رابِياً الزبد ما يحمله السيل من غثاء ونحوه، والرابي المنتفخ الذي ربا ومنه الربوة وَمِمَّا يُوقِدُونَ المجرور في موضع خبر المقدم، والمبتدأ زبد مثله: أي ينشأ من الأشياء التي يوقد عليها زبد السيل ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتاعٍ الذي يوقد عليه ابتغاء الحلي: هو الذهب والفضة، والذي يوقد عليه ابتغاء متاع هو الحديد والرصاص والنحاس والصفر وشبه ذلك، والمتاع ما يستمتع الناس به في مرافقهم وحوائجهم يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ أي يضرب أمثال الحق والباطل جُفاءً يجفاه السيل، أي يرمي به وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ يريد الخالص من الماء ومن تلك الأحجار لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنى الذين استجابوا هم المؤمنون، وهذا استئناف كلام،

والحسنى: الجنة، وإعرابها مبتدأ وخبرها: للذين استجابوا، والذين استجابوا مبتدأ وخبره لو أن لهم ما في الأرض الآية فيوقف على الأمثال، وعلى الحسنى، وقيل: للذين استجابوا يتعلق بيضرب، والحسنى مصدر من معنى استجابوا: أي استجابوا الاستجابة الحسنى، والذين لم يستجيبوا معطوف على الذين استجابوا، والمعنى: يضرب الله الأمثال للطائفتين، وعلى هذا إنما يوقف على: والذين لم يستجيبوا له سُوءُ الْحِسابِ أي المناقشة والاستقصاء. أَفَمَنْ يَعْلَمُ تقرير. والمعنى أسواء من آمن ومن لم يؤمن، والأعمى هنا من لم يؤمن بالنبي صلّى الله عليه وسلّم «وقيل: إنها نزلت في حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه، وأبي جهل لعنه الله يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ القرابات وغيرها وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ قيل يدفعون الشرك بقول لا إله إلا الله، وقيل: يدفعون من أساء إليهم بالتي هي أحسن، والأظهر يفعلون الحسنات فيدرءون بها السيئات كقوله: إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ [هود: 114] ، وقيل: إن هذه الآية نزلت في الأنصار، ثم هي عامة في كل مؤمن اتصف بهذه الصفات عُقْبَى الدَّارِ يعني الجنة، ويحتمل أن يريد بالدار: الآخرة وأضاف العقبى إليها لأنها فيها، ويحتمل أن يريد بالدار الدنيا، وأضاف العقبى إليها لأنها عاقبتها جَنَّاتُ عَدْنٍ بدل من عقبى الدار، أو خبر ابتداء مضمر تفسيرا لعقبى الدار وَمَنْ صَلَحَ أي من كان صالحا سَلامٌ عَلَيْكُمْ أي يقولون لهم: سلام عليكم بِما صَبَرْتُمْ يتعلق بمحذوف تقديره: هذا بما صبرتم ويجوز أن يتعلق بسلام أي ليسلم عليكم بما صبرتم وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ إلى آخر الآية أوصاف مضافة كما تقدم وقيل: إنها في الخوارج، والأظهر أنها في الكفار سُوءُ الدَّارِ يحتمل أن يراد بها الدنيا والآخرة اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ أي يوسع على ما من يشاء، ويضيق على من يشاء، وهذا تفسيره حيث وقع وَفَرِحُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا إخبار في ضمنه ذم وتسفيه لمن فرح بالدنيا، لذلك حقرها بقوله: وما الحياة الدنيا في الآخرة إلا متاع أي: قليل بالنظر إلى الآخرة قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ خرج به مخرج

[سورة الرعد (13) : الآيات 28 إلى 32]

التعجب منهم لما طلبوا آية، أي قد جاءكم محمد صلّى الله عليه وسلّم بالقرآن وآيات كثيرة فعميتم عنها، وطلبتم غيرها وتماديتم على الكفر، لأنّ الله يضل من يشاء مع ظهور الآيات، وقد يهدي من يشاء دون ذلك الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ بدل من من أناب، أو خبر ابتداء مضمر والذين آمنوا وعملوا الصالحات بدل ثان، أو مبتدأ طُوبى مصدر من طاب كبشرى ومعناها أصابت خيرا وطيبا، وقيل: هي شجرة في الجنة، وإعرابها مبتدأ. كَذلِكَ أَرْسَلْناكَ الكاف تتعلق بالمعنى الذي في قوله: يضل من يشاء ويهدي من يشاء وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ قيل: إنها نزلت في أبي جهل، وقيل نزلت في قريش حين عاهدهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عام الحديبية، فكتب الكاتب بسم الله الرحمن الرحيم، فقال قائلهم: نحن لا نعرف الرحمن، وهذا ضعيف، لأن الآية نزلت قبل ذلك ولأن تلك القصة إنما أنكروا فيها التسمية فقط، ومعنى الآية: أنهم يكفرون بالله مع تلاوة القرآن عليهم مَتابِ مفعل من التوبة وهو اسم مصدر وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ الآية: جواب لو محذوف تقديره: لو أن قرآنا على هذه الصفة من تسيير الجبال، وتقطيع الأرض وتكليم الموتى لم يؤمنوا به، فالمعنى كقوله: لا يؤمنوا ولو جاءتهم كل آية، وقيل تقديره: ولو أن قرآنا على هذه الصفة لكان هذا القرآن الذي هو غاية في التذكير ونهاية في الإنذار كقوله: لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً [الحشر: 21] ، وقيل هو متعلق بما قبله والمعنى، وهم يكفرون بالرحمن ولو أن قرآنا سيرت به الجبال أَفَلَمْ يَيْأَسِ معناه أفلم يعلم وهي لغة هوازن وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا يعني كفار قريش قارِعَةٌ يعني مصيبة في أنفسهم وأولادهم وأموالهم، أو غزوات المسلمين إليهم أَوْ تَحُلُّ الفاعل ضمير القارعة. والمعنى إما إن تصيبهم، وإما أن تقرب منهم، وقيل التاء للخطاب، والفاعل ضمير المخاطب وهو النبي صلّى الله عليه وسلّم، والأول أظهر حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ هو فتح مكة، وقيل قيام الساعة. وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ الآية مقصدها تأنيس وتسلية النبي صلّى الله عليه وسلّم، وهكذا حيث وقع فَأَمْلَيْتُ أي أمهلتهم أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ هو الله تعالى أي حفيظ رقيب على عمل كل أحد، والخبر محذوف تقديره: أفمن هو قائم على كل نفس بما

كسبت أحق أن يعبد أم غيره؟ ويدل على ذلك قوله: وجعلوا لله شركاء قُلْ سَمُّوهُمْ أي اذكروا أسماءهم أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِما لا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ المعنى: أن الله لا يعلم لنفسه شركاء وإذا لم يعلمهم هو فليسوا بشيء، فكيف تفترون الكذب في عبادتهم، وتعبدون الباطل، وذلك كقولك: قل لي من زيد؟ أم هو أقل من أن يعرف فهو كالعدم أَمْ بِظاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ المعنى أتسمونهم شركاء بظاهر اللفظ من غير أن يكون لذلك حقيقة كقوله: إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ [النجم: 23] لَهُمْ عَذابٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا يعني بالقتل والأسر والخوف وغير ذلك. مَثَلُ الْجَنَّةِ هنا وفي القتال [محمد: 15] صفتها، وليس بضرب مثل لها، والخبر عند سيبويه محذوف مقدم تقديره: فيما يتلى عليكم صفة الجنة، وقال الفراء: الخبر مؤخر، وهو تجري من تحتها الأنهار أُكُلُها دائِمٌ يعني ما يؤكل فيها من الثمرات وغيرها والأكل: بضم الهمزة المأكول، ويجوز فيه ضم الكاف وإسكانها، والأكل بفتح الهمزة المصدر وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ يعني من أسلم من اليهود والنصارى كعبد الله بن سلام والنجاشي وأصحابه وقيل: يعني المؤمنين والكتاب على هذا القرآن وَمِنَ الْأَحْزابِ قيل: هم بنو أمية، وبنو المغيرة من قريش والأظهر أنها في سائر كفار العرب، وقيل: هم اليهود والنصارى لأنهم لا ينكرون القصاص والأشياء التي في كتبهم، وإنما ينكرون البعض مما لا يعرفونه أو حرفوه قُلْ إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وجه اتصاله بما قبله أنه جواب المنكرين، ورد عليهم كأنه قال: إنما أمرت بعبادة الله وتوحيده، فكيف تنكرون هذا مَآبِ مفعل من الأوب وهو الرجوع، أي مرجعي في الآخرة أو مرجعي بالتوبة وَجَعَلْنا لَهُمْ أَزْواجاً وَذُرِّيَّةً ردّ على من أنكر أن يكون الرسول من البشر أو يحتاج إلى ما يحتاج إليه البشر من النساء والذرية، فالمعنى لست ببدع في ذلك، بل أنت كمن تقدم من الرسل. وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ ردّ على الذين اقترحوا الآيات لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ قال الفراء لكل كتاب أجل بالعكس. وهذا لا يلزم، بل المعنى صحيح من

[سورة الرعد (13) : الآيات 39 إلى 43]

غير عكس، أي لكل أجل كتاب كتبه الله في اللوح المحفوظ. يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ «1» قيل: يعني ينسخ ما يشاء من القرآن والأحكام، ويثبت منها ما يشاء، وقيل: هي في آجال بني آدم، وذلك أن الله تعالى قدر في ليلة القدر، وقيل: في ليلة النصف من شعبان بكتب أجل من يموت في ذلك العام، فيمحوه من ديوان الأحياء، ويثبت من لا يموت في ذلك العام، وقيل: إن المحو والإثبات على العموم في جميع الأشياء، وهذا تردّه القاعدة المتقررة أن القضاء لا يبدل، وأن علم الله لا يتغير، فقال بعضهم: المحو والإثبات في كل شيء إلا في السعادة والشقاوة الأخروية، والآجال وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ أصل كل كتاب، وهو اللوح المحفوظ الذي كتب الله فيه مقادير الأشياء كلها. وَإِنْ ما نُرِيَنَّكَ إن شرط دخلت عليها ما المؤكدة وجوابها: فَإِنَّما أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها الإتيان هنا بالقدرة والأمر، والأرض أرض الكفار ونقصها هو بما يفتح الله على المسلمين منها، والمعنى أو لم يروا ذلك فيخافوا أن نمكنك منهم، وقيل: الأرض جنس، ونقصها بموت الناس، وهلاك الثمرات وخراب البلاد «2» وشبه ذلك لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ المعقب الذي يكر على الشيء فيبطله فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً تسمية للعقوبة باسم الذنب وسيعلم الكافر «3» تهديد، والمراد بالكافر الجنس بدليل قراءة الْكُفَّارُ بالجمع، وعقبى الدار الدنيا والآخرة قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ أمره الله أن يستشهد الله على صحة نبوته وشهادة الله له هي: علمه بذلك وإظهاره الآيات الدالة على ذلك وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ معطوف على اسم الله على وجه الاستشهاد به، وقيل: المراد عبد الله بن سلام ومن أسلم من اليهود والنصارى الذين يعلمون صفته صلّى الله عليه وسلّم من التوراة والإنجيل، وقيل: المراد المؤمنون الذين يعلمون علم القرآن ودلالته على النبوّة، وقيل: المراد الله تعالى، فهو الذي عنده علم الكتاب، ويضعف هذا، لأنه عطف صفة على موصوف، ويقويه قراءة: ومن عنده بمن الجارة وخفض عنده.

_ (1) . ويثبت: بالتخفيف قراءة ابن كثير وأبو عمرو وعاصم. وبالتشديد: يثبّت: قرأ الباقون. (2) . ربما دلت الآية على ما يحدث في الأرض من خسف وغرق لبعض الأماكن والجزر في المحيطات بسبب الزلازل والبراكين كما صار مشهورا في أيامنا. (3) . قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو: الكافر وقرأ الباقون: الكفار.

سورة إبراهيم

سورة إبراهيم مكية إلا آيتي 28 و 29 فمدنيتان وآياتها 52 نزلت بعد سورة نوح بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (سورة إبراهيم عليه السلام) لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ الخطاب للنبي صلّى الله عليه وسلّم، والظلمات الكفر والجهل، والنور الإيمان والعلم بِإِذْنِ رَبِّهِمْ أي بأمره وهو إرساله إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ بدل من إلى النور اللَّهِ قرئ بالرفع «1» وهو مبتدأ أو خبر مبتدأ مضمر، وبالخفض بدل يَسْتَحِبُّونَ أي يؤثرون وَيَبْغُونَها قد ذكر بِلِسانِ قَوْمِهِ أي بلغتهم وكلامهم أَنْ أَخْرِجْ أن مفسرة أو مصدرية على تقدير بأن وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ أي عقوباته للأمم المتقدمة، وقيل: إنعامه على بني إسرائيل، واللفظ يعم النعم والنقم، وعبر عنها بالأيام لأنها كانت في أيام، وفي ذلك تعظيم لها كقولهم يوم كذا ويوم كذا وَيُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ ذكر هنا بالواو، ليدل على أن سوء العذاب غير الذبح أو أعم من ذلك ثم جر الذبح كقوله وملائكته وجبريل وميكال، ذكر في البقرة بغير واو تفسير للعذاب وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ من كلام موسى، وتأذن بمعنى أذن أي: أعلم كقولك: توعد وأوعد وإعلام الله مقترن بإنفاذ ما أعلم به لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ هذا معمول تأذن لأنه يتضمن معنى قال،

_ (1) . قرأ نافع وابن عامر بالضم، وقرأ الباقون بالخفض لأنه بدل من الحميد.

ويحتمل أن تكون الزيادة من خير الدنيا أو من الثواب في الآخرة أو منهما وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ يحتمل أن يريد كفر النعم أو الكفر بالإيمان والأول أرجح لمقابلته بالشكر لا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ عبارة عن كثرتهم كقوله: وَقُرُوناً بَيْنَ ذلِكَ كَثِيراً [الفرقان: 38] فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ فيه ثلاثة أقوال: أحدها أن الضمائر لقوم الرسل، والمعنى أنهم ردوا أيديهم في أفواه أنفسهم غيظا من الرسل كقوله: عضوا عليكم الأنامل من الغيظ، أو استهزاء وضحكا: كمن غلبه الضحك فوضع يده على فمه، والثاني: أن الضمائر لهم، والمعنى أنهم ردوا أيديهم في أفواه أنفسهم إشارة على الأنبياء بالسكوت، والثالث: أنهم ردوا أيديهم في أفواه الأنبياء تسكيتا لهم، وردا لقولهم أَفِي اللَّهِ شَكٌّ المعنى أفي وجود الله شك أو أفي إلهيته شك، وقيل: في وحدانيته، والهمزة للتقرير والتوبيخ لأنه لا يحتمل الشك لظهور الأدلة، ولذلك وصفه بعد بقوله: فاطر السموات والأرض مِنْ ذُنُوبِكُمْ قيل: إن من زائدة، ومنع سيبويه زيادتها في الواجب وهي عنده للتبعيض، ومعناه أن يغفر للكافر إذا أسلم ما تقدم من ذنبه قبل الإسلام، ويبقى ما يذنب بعده في المشيئة، فوقعت المغفرة في البعض ولم يأت في القرآن غفران بعض الذنوب إلا للكافر كهذا الموضع، والذي في الأحقاف وسورة نوح وجاء للمؤمنين بغير من كالذي في الصف وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى قال الزمخشري وأهل مذهبه من المعتزلة: معناه يؤخركم إن آمنتم إلى آجالكم، وإن لم تؤمنوا عاجلكم بالهلاك قبل ذلك الوقت، وهذا بناء على قولهم بالأجلين، وأهل السنة يأبون هذا، فإن الأجل قبل ذلك الوقت، وهذا بناء على قولهم بالأجلين، وأهل السنة يأبون هذا، فإن الأجل عندهم واحد محتوم، قالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا يحتمل أن يكون قولهم استبعادا لتفضيل بعض البشر على بعض بالنبوة، أو يكون إحالة لنبوة البشر، والأول أظهر لطلبهم البرهان في قولهم: فأتونا بسلطان مبين ولقول الرسل: ولكن الله يمن على من يشاء من عباده أي: بالتفضيل بالنبوة وَما لَنا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ والمعنى أي شيء يمنعنا من التوكل على الله وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ إن قيل لم كرر الأمر؟ فالجواب عندي أن

[سورة إبراهيم (14) : الآيات 13 إلى 20]

قوله: وعلى الله فليتوكل المؤمنون راجع إلى ما تقدم من طلب الكفار بسلطان مبين أي حجة ظاهره، فتوكل الرسل في ورودها على الله، وأما قوله: فليتوكل المتوكلون فهو راجع إلى قولهم: ولنصبرن على ما آذيتمونا أي: نتوكل على الله في دفع أذاكم. وقال الزمخشري: إن هذا الثاني في معنى الثبوت على التوكل أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا أو هنا بمعنى إلا أن، أو على أصلها، لوقوع أحد الشيئين، والعود هنا بمعنى الصيرورة، وهو كثير في كلام العرب ولا يقتضي أن الرسل، كانوا في ملة الكفار قبل ذلك خافَ مَقامِي فيه ثلاثة أوجه: هنا وفي ولمن خاف مقام ربه في [الرحمن: 46] فالأول أن معناه مقام الحساب في القيامة والثاني: أن معناه قيام الله على عباده بأعمالهم والثالث: أن معناه خافني وخاف ربه، على إقحام المقام أو على التعبير به عن الذات وَاسْتَفْتَحُوا الضمير للرسل أي استنصروا بالله وأصله طلب الفتح وهو الحكم جَبَّارٍ أي قاهر أو متكبر عَنِيدٍ مخالف للانقياد مِنْ وَرائِهِ في الموضعين والوراء هنا بمعنى ما يستقبل من الزمان، وقيل: معناه هنا أمامه وهو بعيد وَيُسْقى معطوف على محذوف تقديره من ورائه جهنم يلقى فيها ويسقى، وإنما ذكر هذا السقي تجريدا بعد ذكر جهنم، لأنه من أشد عذابها يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ أي يتكلف جرعه وتصعب عليه إساغته، ونفي كاد يقتضي وقوع الإساغة بعد جهد، ومعنى يسيغه يبتلعه وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ أي يجد الماء مثل ألم الموت وكربته من جميع الجهات وَما هُوَ بِمَيِّتٍ أي لا يراح بالموت. مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا مذهب سيبويه والفراء فيه كقولهما في: مثل الجنة التي في الرعد والقتال، والخبر عند سيبويه محذوف تقديره: فيما يتلى عليكم والخبر عند الفراء الجملة التي بعده، والمثل هنا بمعنى الشبيه أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ تشبيها بالرماد في ذهابها وتلاشيها فِي يَوْمٍ عاصِفٍ أي شديد الريح والعصوف في الحقيقة من صفة الريح لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلى شَيْءٍ أي لا يرون له منفعة وَبَرَزُوا لِلَّهِ أي ظهروا، ومعنى الظهور هنا خروجهم من القبور، وقيل: معناه صاروا بالبراز «1» ، وهي الأرض المتسعة تَبَعاً جمع

_ (1) . هكذا وردت في الطبري وفي القاموس المحيط بمعنى الفضاء.

[سورة إبراهيم (14) : الآيات 28 إلى 37]

تابع أو مصدر وصف به بالغة، أو على حذف مضاف مِنْ عَذابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ من الأولى للبيان، والثانية للتبعيض، ويجوز أن يكونا للتبعيض معا قاله الزمخشري، والأظهر أن الأولى للبيان، والثانية زائدة، والمعنى: هل أنتم دافعون أو متحملون عنا شيئا من عذاب الله مَحِيصٍ أي مهرب حيث وقع، ويحتمل أن يكون مصدرا أو اسم مكان وَقالَ الشَّيْطانُ يعني إبليس الأقدم، [كذا!] روي أنه يقوم خطيبا بهذا الكلام يوم القيامة أو في النار يقوله لأهلها لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إن كان كلام إبليس في القيامة بمعنى قضي الأمر تعيّن قوم للنار وقوم للجنة وإن كان في النار فمعنى قضي الأمر حصل أهل النار في النار وأهل الجنة في الجنة إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ استثناء منقطع ما أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ أي ما أنا بمغيثكم وما أنتم مغيثين لي بِما أَشْرَكْتُمُونِ ما مصدرية: أي بإشراككم لي مع الله في الطاعة مِنْ قَبْلُ يتعلق بأشركتمون ويحتمل أن يتعلق بكفرتم، والأول أظهر وأرجح إِنَّ الظَّالِمِينَ استئناف من كلام الله تعالى، ويحتمل أن يكون حكاية عن إبليس بِإِذْنِ رَبِّهِمْ يتعلق بأدخل أو بخالدين، والأول أحسن. كَلِمَةً طَيِّبَةً [قال] ابن عباس وغيره هي: لا إله إلا الله وقيل: كل حسنة كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ هي النخلة في قول الجمهور، واختار ابن عطية أنها شجرة غير معينة، إلا أنها كل ما اتصف بتلك الصفات وَفَرْعُها فِي السَّماءِ أي في الهواء، وذلك عبارة عن طولها تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ الحين في اللغة وقت غير محدود وقد تقترن به قرينة تحده، وقيل: في كل حين كل سنة لأن النخلة تطعم في كل سنة، وقيل: غير ذلك وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ هي كلمة الكفر، وقيل: كل كلمة قبيحة كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ هي الحنظلة عند الجمهور، واختار ابن عطية غير معينة اجْتُثَّتْ أي اقتلعت وحقيقة الاجتثاث أخذ الجثة، وهذا في مقابلة قوله: أصلها ثابت بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ هو لا إله إلا الله، والإقرار بالنبوة فِي الْحَياةِ الدُّنْيا أي إذا فتنوا لم يزلوا وَفِي الْآخِرَةِ هو عند السؤال في القبر عند الجمهور بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً نعمة الله هنا هو محمد صلّى الله عليه وسلّم ودينه: أنعم الله به على قريش فكفروا النعمة ولم يقبلوها،

[سورة إبراهيم (14) : الآيات 38 إلى 47]

والتقدير بدلوا شكر نعمة الله كفرا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ أي من أطاعهم واتبعهم دارَ الْبَوارِ فسرها بقوله جَهَنَّمَ يُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُنْفِقُوا هي جواب شرط فقد يتضمنه قوله قل: تقديره إن تقل لهم أقيموا يقيموا، ومعمول القول على هذا محذوف، وقيل: جزم بإضمار لام الأمر تقديره ليقيموا وَلا خِلالٌ من الخلة وهي المودة إِنَّ الْإِنْسانَ يريد الجنس. الْبَلَدَ آمِناً ذكر في [البقرة: 125] وَاجْنُبْنِي أي امنعني، والماضي منه جنب، يقال جنب وجنب بالتشديد، وأجنب بمعنى واحد وَبَنِيَّ يعني بنيّ من صلبي وفيهم أجيبت دعوته، وأما أعقاب بنيه فعبدوا الأصنام وَمَنْ عَصانِي يعني من عصاه بغير الكفر وبالكفر ثم تاب منه، فهو الذي يصح أن يدعى له بالمغفرة ولكنه ذكر اللّفظ بالعموم لما كان عليه السلام من الرحمة للخلق وحسن الخلق أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي يعني ابنه إسماعيل عليه السلام، لما ولدته أمه هاجر غارت منها سارة زوجة إبراهيم فحمله مع أمه من الشام إلى مكة بِوادٍ يعني مكة، والوادي ما بين جبلين وإن لم يكن فيه ماء عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ يعني الكعبة، فإما أن يكون البيت أقدم من إبراهيم على ما جاء في بعض الروايات، وإما أن يكون إبراهيم قد علم أنه سيبني هناك بيتا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ اللام يحتمل أن تكون لام الأمر بمعنى الدعاء، أو لام كي وتتعلق بأسكنت وجمع الضمير يدل على أنه كان علم أن ابنه يعقوب هناك نسلا «1» تَهْوِي إِلَيْهِمْ أي تسير بجد وإسراع، ولهذه الدعوة حبب الله حج البيت إلى الناس، على أنه قال من الناس بالتبعيض، قال بعضهم: لو قال أفئدة الناس لحجته فارس والروم وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ أي ارزقهم في ذلك الوادي مع أنه غير ذي زرع، وأجاب الله دعوته فجعل مكة يجبى إليها ثمرات كل شيء وَما يَخْفى عَلَى اللَّهِ الآية: يحتمل أن تكون من كلام الله تعالى، أو حكاية عن إبراهيم

_ (1) . كذا وفي العبارة نقص وخطأ واضح ولعل صوابه علم أن ابنه سيعقب له هناك نسلا. [.....]

وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ روي أنه ولد له إسماعيل وهو ابن مائة وسبع عشر عاما، وروي أقل من هذا، وإسماعيل أسن من إسحاق رَبَّنا وَتَقَبَّلْ دُعاءِ إن أراد بالدعاء الطلب والرغبة فمعنى القبول: الاستجابة، وإن أراد بالدعاء العبادة، فالقبول على حقيقته رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ قيل إنما دعا بالمغفرة لأبويه الكافرين بشرط إسلامهما، والصحيح أنه دعا لهما قبل أن يتبين له أن أباه عدوّ لله حسبما ورد في براءة وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غافِلًا هذا وعيد للظالمين وهم الكفار على الأظهر، فإن قيل: لمن هذا الخطاب هنا وفي قوله: ولا تحسبن الله مخلف وعده رسله؟ فالجواب أنه يحتمل أن يكون خطابا للنبي صلّى الله عليه واله وسلّم أو لغيره، فإن كان لغيره فلا إشكال، وإن كان له فهو مشكل لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم لا يحسب أن الله غافلا، وتأويل ذلك بوجهين: أحدهما أن المراد الثبوت على علمه بأن الله غير غافل وغير مخلف وعده، والآخر أن المراد إعلامه بعقوبة الظالمين فمقصد الكلام الوعيد لهم تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ أي تحد النظر من الخوف مُهْطِعِينَ قيل: الإهطاع الإسراع، وقيل: شدّة النظر من غير أن يطرف مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ قيل: الإقناع هو رفع الرأس، وقيل خفضه من الذلة لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ أي لا يطرفون بعيونهم من الحذر والجزع. وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ أي منحرفة لا تعي شيئا من شدّة الجزع فشبهها بالهواء في تعريفه من الأشياء، ويحتمل أن يريد مضطربة في صدورهم يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذابُ يعني يوم القيامة، وانتصاب يوم على أنه مفعول ثان لأنذر، ولا يجوز أن يكون ظرفا أَوَلَمْ تَكُونُوا تقديره: يقال لهم أو لم تكونوا الآية ما لَكُمْ مِنْ زَوالٍ هو المقسم عليه، ومعنى من زوال، أي من الأرض بعد الموت أي حلفتم أنكم لا تبعثون وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ أي جزاء مكرهم وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ إن هنا نافية، واللام لام الجحود، والجبال يراد بها الشرائع والنبوات، شبهت بالجبال في ثبوتها، والمعنى مكرهم لأنه لا تزول منه تلك الجبال الثابتة الراسخة وقرأ الكسائي لتزول بفتح اللام ورفع تزول، وإن على هذه القراءة مخففة من الثقيلة، واللام للتأكيد، والمعنى تعظيم مكرهم أي أن مكرهم من شدته تزول منه الجبال، ولكن الله عصم ووقى منه فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ يعني

[سورة إبراهيم (14) : الآيات 48 إلى 52]

وعد النصر على الكفار، فإن قيل: هلا قال: مخلف رسله وعده، ولم قدم المفعول الثاني على الأول؟ فالجواب أنه قدم الوعد ليعلم أنه لا يخلف الوعد أصلا على الإطلاق، ثم قال: رسله، ليعلم أنه إذا لم يخلف وعد أحد من الناس، فكيف يخلف وعد رسله وخيرة خلقه فقدم الوعد أولا بقصد الإطلاق، ثم ذكر الرسل لقصد التخصيص يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ العامل في الظرف ذوا انتقام أو محذوف، وتبديل الأرض بأن تكون يوم القيامة بيضاء عفراء كقرصة النقي هكذا ورد في الحديث الصحيح «1» وَالسَّماواتُ تبديلها بانشقاقها وانتشار كواكبها، وخسوف شمسها وقمرها وقيل: تبدل أرضا من فضة، وسماه من ذهب وهذا ضعيف. وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يعني الكفار مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ أي مربوطين في الأغلال سَرابِيلُهُمْ أي قمصهم والسربال القميص مِنْ قَطِرانٍ متعلق بمحذوف أي جعل الله فيه ذلك وهو الذي تهنأ [تطلى] به الإبل وللنار فيه اشتعال شديد، فلذلك جعل الله قمص أهل النار منه لِيَجْزِيَ يتعلق بمحذوف أي فعل الله ذلك ليجزي هذا بَلاغٌ إشارة إلى القرآن أو إلى ما تضمنته هذه السورة وَلِيُنْذَرُوا معطوف على محذوف تقديره لينصحوا به ولينذروا وَلِيَذَّكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ أي هذا الذكر لأولي العقول، وهم أهل العلم رضي الله عنهم.

_ (1) . المراد به: قرص الدقيق الأبيض النقي من النخالة، والحديث متفق عليه من رواية سهل بن سعد الساعدي ونصه: «يحشر الناس يوم القيامة على أرض بيضاء عفراء كقرصة النقي، ليس فيها علم لأحد» . من الترغيب والترهيب للمنذري ج 4/ 193.

سورة الحجر

سورة الحجر مكية إلا 87 فمدنية وآياتها 99 نزلت بعد سورة يوسف بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (سورة الحجر) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ يحتمل أن يريد بالكتاب الكتب المتقدمة، وعطف القرآن عليها، والظاهر أنه القرآن وعطفه عطف الصفات رُبَما قرئ بالتخفيف «1» والتشديد وهما لغتان. وما حرف كافة لرب، ومعنى رب التقليل، وقد تكون للتكثير، وقيل: إن هذه منه، وقيل: إنما عبر عن التكثير بأداة التقليل كقوله: قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ [البقرة: 144] ، وقَدْ يَعْلَمُ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ [النور: 64] ، وقيل إن معنى التقليل في هذه أنهم لو كانوا يودون الإسلام مرة واحدة لوجب أن يسارعوا إليه، فكيف وهم يودونه مرارا كثيرة، ولا تدخل إلا على الماضي يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ قيل: إن ذلك عند الموت، وقيل: في القيامة، وقيل: إذا خرج عصاة المسلمين من النار، وهذا هو الأرجح لحديث روي في ذلك ذَرْهُمْ وما بعده تهديد كِتابٌ مَعْلُومٌ أي وقت محدود. وَقالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ الضمير في قالوا لكفار قريش، وقولهم: نزل عليه الذكر يعنون على وجه الاستخفاف، أي بزعمك ودعواك لَوْ ما تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ لو ما عرض وتحضيض، والمعنى أنهم طلبوا من النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يأتيهم بالملائكة معه ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ رد عليهم فيما اقترحوا، والمعنى أن الملائكة لا تنزل إلا بالحق من الوحي والمصالح، التي يريدها الله، لا باقتراح مقترح واختيار كافر، وقيل: الحق هنا العذاب وَما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ إذا حرف جواب وجزاء، والمعنى لو أنزل الملائكة لم يؤخر عذاب هؤلاء الكفار، الذين اقترحوا نزولهم، لأن من عادة الله أن من

_ (1) . وهي قراءة نافع وعاصم والباقون بالتشديد.

[سورة الحجر (15) : الآيات 9 إلى 20]

اقترح آية فرآها ولم يؤمن أنه يعجل له العذاب، وقد علم الله، أن هؤلاء القوم يؤمن كثير منهم، ويؤمن أعقابهم فلم يفعل بهم ذلك إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ الذكر هنا هو القرآن وفي قوله: إنا نحن نزلنا الذكر ردا لإنكارهم واستخفافهم في قولهم: يا أيها الذي نزل عليه الذكر ولذلك أكده بنحن واحتج عليه بحفظه، ومعنى حفظه: حراسته عن التبديل والتغيير، كما جرى في غيره من الكتب، فتولى الله حفظ القرآن، فلم يقدر أحد على الزيادة فيه ولا النقصان منه، ولا تبديله بخلاف غيره من الكتب، فإن حفظها موكول إلى أهلها لقوله: بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللَّهِ [المائدة: 44] فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ الشيع: جمع شيعة وهي الطائفة التي تتشيع لمذهب أو رجل كَذلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ معنى نسلكه ندخله، والضمير في نسلكه يحتمل أن يكون للاستهزاء، الذي دل عليه قوله: به يستهزؤن، أو يكون للقرآن أي نسلكه في قلوبهم فيستهزءوا به، ويكون قوله: كذلك تشبيها للاستهزاء المتقدم، ولا يؤمنون به تفسيرا لوجه إدخاله في قلوبهم، والضمير في به للقرآن وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أي تقدمت طريقتهم على هذه الحالة من الكفر والاستهزاء حتى هلكوا بذلك، ففي الكلام تهديد لقريش وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا الضمائر لكفار قريش المعاندين المحتوم عليهم بالكفر وقيل: الضمير في ظلوا وفي يعرجون للملائكة وفي قالوا للكفار، ومعنى: يعرجون يصعدون، والمعنى أن هؤلاء الكفار لو رأوا أعظم آية لقالوا: إنها تخييل أو سحر، وقرئ سكّرت بالتشديد «1» والتخفيف، ويحتمل أن يكون مشتقا من السكر، فيكون معناه: أجبرت أبصارنا فرأينا الأمر على غير حقيقته، أو من السّكر وهو السد فيكون معناه منعت أبصارنا من النظر بُرُوجاً يعني المنازل الاثني عشر إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ استثناء من حفظ السموات فهو في موضع نصب مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ أي: مقدر بقدر، فالوزن على هذا استعارة وقيل: المراد ما يوزن حقيقة كالذهب والأطعمة، والأول أعم وأحسن وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ يعني: البهائم والحيوانات ومن معطوف على معايش وقيل: على

_ (1) . قرأ ابن كثير: سكرت بالتخفيف والباقون بالتشديد.

[سورة الحجر (15) : الآيات 21 إلى 38]

الضمير في لكم، وهذا ضعيف في النحو لأنه عطف على الضمير المخفوض من غير إعادة الخافض، وهو قوي في المعنى أي جعلنا في الأرض معايش لكم وللحيوانات وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ قيل: يعني المطر، واللفظ أعم من ذلك، والخزائن المواضع الخازنة، وظاهر هذا أن الأشياء موجودة قد خلقت، وقيل: ذلك تمثيل، والمعنى وإن من شيء إلا نحن قادرون على إيجاده وتكوينه بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ أي بمقدار محدود وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ يقال: لقحت الناقة والشجرة إذا حملت فهي لاقحة، وألقحت الريح الشجر فهي ملقحة ولواقح جمع لاقحة، لأنها تحمل الماء أو جمع ملقحة على حذف الميم الزائدة وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ الآية: يعني الأولين والآخرين من الناس، وذكر ذلك على وجه الاستدلال على الحشر الذي ذكر بعد ذلك في قوله: وإن ربك هو يحشرهم لأنه إذا أحاط بهم علما لم تصعب عليه إعادتهم وحشرهم، وقيل: يعني من استقدم ولادة وموتا ومن تأخر، وقيل: من تقدم إلى الإسلام ومن تأخر عنه وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ الإنسان هنا هو: آدم عليه السلام، والصلصال: الطين اليابس الذي يصلصل أي يصوت وهو غير مطبوخ، فإذا طبخ فهو فخار مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ الحمأ: الطين الأسود، والمسنون المتغير المنتن، وقيل: إنه من أسن الماء إذا تغير، والتصريف يردّ هذا القول، وموضع من حمأ صفة لصلصال: أي صلصال كائن من حمأ وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ يراد به جنس الشياطين، وقيل إبليس الأول، وهذا أرجح لقوله: من قبل وتناسلت الجن من إبليس وهو للجن كآدم للناس السَّمُومِ شدّة الحر خالِقٌ بَشَراً يعني آدم عليه السلام وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي يعني الروح التي في الجسد، وأضاف الله تعالى الروح إلى نفسه إضافة ملك إلى مالك أي: من الروح الذي هو لي وخلق من خلق، وتقدّم الكلام على سجود الملائكة في البقرة. فَاخْرُجْ مِنْها أي من الجنة أو من السماء قالَ رَبِّ يقتضي إقراره بالربوبية وأن كفره كان بوجه غير الجحود، وهو اعتراضه على الله في أمره بالسجود لآدم إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ اليوم الذي طلب إبليس أن ينظر إليه هو يوم القيامة، وقيل: الوقت

[سورة الحجر (15) : الآيات 39 إلى 54]

المعلوم الذي أنظر إليه هو يوم النفخ في الصور النفخة الأولى حين يموت من في السموات ومن في الأرض. وكان سؤال إبليس الانتظار إلى يوم القيامة جهلا منه ومغالطة إذ سأل ما لا سبيل إليه. لأنه لو أعطى ما سأل لم يمت أبدا، لأنه لا يموت أحد بعد البعث، فلما سأل مالا سبيل إليه: أعرض الله عنه، وأعطاه الانتظار إلى النفخة الأولى. بِما أَغْوَيْتَنِي الباء للسببية أي لأغوينهم بسبب إغوائك لي، وقيل: للقسم كأنه قال: بقدرتك على إغوائي لأغوينهم، والضمير لذرية آدم قالَ هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ القائل لهذا هو الله تعالى، والإشارة بهذا إلى نجاة المخلصين من إبليس، وأنه لا يقدر عليهم أو إلى تقسيم الناس إلى غويّ ومخلص إِلَّا عِبادَكَ يحتم أن يريد بالعباد جميع الناس، فيكون قوله: إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ استثناء متصل أو يريد بالعباد المخلصين فيكون الاستثناء منقطعا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ الضمير للغاوين لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ روي أنها سبعة أطباق في كل طبقة باب، فأعلاها للمذنبين من المسلمين والثاني لليهود، والثالث للنصارى، والرابع للصابئين والخامس للمجوس، والسادس للمشركين، والسابع للمنافقين ادخلوها تقديره يقال لهم: ادخلوها والسلام يحتمل أن يكون التحية أو السلامة إِخْواناً يعني أخوّة المودّة والإيمان مُتَقابِلِينَ أي يقابل بعضهم بعضا على الأسرة نَصَبٌ أي تعب. نَبِّئْ عِبادِي الآية: أعلمهم والآية آية ترجية وتخويف وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ ضيف هنا واقع على جماعة وهم الملائكة الذين جاءوا إلى إبراهيم بالبشرى وَجِلُونَ أي خائفون، والوجل الخوف لا تَوْجَلْ أي لا تخف إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ هو إسحاق قالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ المعنى: أبشرتموني بالولد مع أنني قد كبر سني، وكان حينئذ ابن مائة سنة، وقيل: أكثر فَبِمَ تُبَشِّرُونَ قال ذلك على وجه التعجب من ولادته في كبره أو على وجه الاستبعاد، ولذلك قرئ تبشرون «1» ، بتشديد النون وكسرها على إدغام نون الجمع في نون الوقاية وبالكسر والتخفيف على حذف إحدى

_ (1) . وهي قراءة نافع فقط.

[سورة الحجر (15) : الآيات 55 إلى 70]

النونين، وبالفتح وهو نون الجمع قالُوا بَشَّرْناكَ بِالْحَقِّ أي باليقين الثابت فلا تستبعده ولا تشك فيه وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ دليل على تحريم القنوط، وقرئ يقنط بفتح النون وكسرها «1» وهما لغتان قالَ فَما خَطْبُكُمْ أي ما شأنكم وبأي شي جئتم إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ يعنون قوم لوط إِلَّا آلَ لُوطٍ أن يكون استثناء من قوم لوط فيكون منقطعا لوصف القوم بالاجرام، ولم يكن آل لوط مجرمين ويحتمل أن يكون استثناء من الضمير في المجرمين، فيكون متصلا كأنه قال إلى قوم قد أجرموا كلهم إلا آل لوط فلم يجرموا إِلَّا امْرَأَتَهُ استثناء من آل لوط، فهو استثناء من استثناء. وقال الزمخشري: إنما هو استثناء من الضمير المجرور في قوله لمنجوهم، وذلك هو الذي يقتضيه المعنى قَدَّرْنا إِنَّها لَمِنَ الْغابِرِينَ الغابر يقال: بمعنى الباقي، وبمعنى الذاهب، وإنما أسند الملائكة فعل التقدير إلى أنفسهم، وهو لله وحده لما لهم من القرب والاختصاص بالله، لا سيما في هذه القضية، كما تقول خاصة الملك للملك: دبرنا كذا ويحتمل أن يكون حكاية عن الله قَوْمٌ مُنْكَرُونَ أي لا نعرفهم قالُوا بَلْ جِئْناكَ بِما كانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ أي جئناك بالعذاب لقومك ومعنى يمترون يشكون فيه وَاتَّبِعْ أَدْبارَهُمْ أي: كن خلفهم أي في ساقتهم حتى لا يبقى منهم أحد وليكونوا قدّامه، فلا يشتغل قلبه بهم لو كانوا وراءه لخوفه عليهم وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ تقدم في هود وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ قيل: هي مصر وقيل: حيث هنا للزمان إذ لم يذكر مكانا وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ هو من القضاء والقدر، وإنما تعدى بإلى لأنه ضمن معنى أوحينا وقيل: معناه أعلمناه بذلك الأمر أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ هذا تفسير لذلك الأمر، ودابر القوم أصلهم، والإشارة إلى قوم لوط مُصْبِحِينَ في الموضعين أي إذا أصبحوا ودخلوا في الصباح وَجاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ المدينة هي سدوم، واستبشار أهلها بالأضياف، طمعا أن ينالوا منهم الفاحشة قالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعالَمِينَ كانوا قد نهوه أن يضيف أحدا قالَ هؤُلاءِ بَناتِي دعاهم إلى تزويج بناته ليقي بذلك

_ (1) . قرأ أبو عمرو والكسائي: يقنط والباقون: يقنط.

أضيافه لَعَمْرُكَ قسم والعمر الحياة، ففي ذلك كرامة للنبي صلّى الله عليه وسلّم، أن الله أقسم بحياته، أو قيل: هو من قول الملائكة للوط، وارتفاعه بالابتداء وخبره محذوف تقديره: لعمرك قسمي واللام للتوطئة إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ الضمير لقوم لوط، وسكرتهم: ضلالهم وجهلهم، ويعمهون: أي يتحيرون فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ أي صيحة جبريل وهي أخذه لهم مُشْرِقِينَ أي داخلين في الشروق وهو وقت بزوغ الشمس، وقد تقدم تفسير ما بعد هذا من قصتهم في [هود: 76] لِلْمُتَوَسِّمِينَ أي للمتفرسين، ومنه فراسة المؤمن، وقيل: للمعتبرين، وحقيقة التوسم النظر إلى السيمة وَإِنَّها لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ أي بطريق ثابت يراه الناس والضمير للمدينة المهلكة وَإِنْ كانَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ لَظالِمِينَ أصحاب الأيكة قوم شعيب والأيكة الغيضة من الشجر لما كفروا أضرمها الله عليهم نارا وَإِنَّهُما لَبِإِمامٍ مُبِينٍ الضمير في إنهما قيل: إنه لمدينة قوم لوط وقوم شعيب، فالإمام على هذا: الطريق أي إنهما بطريق واضح يراه الناس، وقيل: الضمير للوط وشعيب، أي إنهما على طريق من الشرع واضح والأول أظهر أَصْحابُ الْحِجْرِ هم ثمود قوم صالح، الحجر واديهم هو بين المدينة والشام الْمُرْسَلِينَ ذكره بالجمع وإنما كذبوا واحدا منهم، وفي ذلك تأويلان أحدهما أن من كذب واحدا من الأنبياء لزمه تكذيب الجميع لأنهم جاءوا بأمر متفق من التوحيد، والثاني: أنه أراد الجنس كقولك: فلان يركب الخيل، وإن لم يركب إلا فرسا واحدا وَآتَيْناهُمْ آياتِنا يعني الناقة، وما كان فيها من العجائب وَكانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً النحت: النقر بالمعاويل وشبهها من الحجر والعود وشبه ذلك وكانوا ينقرون بيوتهم في الجبال آمِنِينَ يعني آمنين من تهدم بيوتهم لوثاقتها، وقيل: آمنين من عذاب الله إِلَّا بِالْحَقِّ يعني أنها لم تخلق عبثا. فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ قيل: إن الصفح الجميل هو الذي ليس معه عقاب ولا عتاب، وفي الآية مهادنة للكفار منسوخة بالسيف وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي يعني: أم القرآن لأنها سبع آيات، وقيل: يعني السور السبع الطوال، وهي البقرة وآل عمران، والنساء، والمائدة، والأنعام، والأعراف، والأنفال مع براءة، والأول أرجح لوروده في

[سورة الحجر (15) : الآيات 88 إلى 99]

الحديث، والمثاني: مشتق من التثنية وهي التكرير، لأن الفاتحة تكرر قراءتها في الصلاة، ولأن غيرها من السور تكرر فيها القصص وغيرها، وقيل: هي مشتقة من الثناء، لأن فيها ثناء على الله، ومن يحتمل أن تكون للتبعيض أو لبيان الجنس، وعطف القرآن على السبع المثاني لأنه يعني ما سواها من القرآن فهو عموم بعد الخصوص لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ أي لا تنظر إلى ما متعناهم به في الدنيا كأنه يقول: قد آتيناك السبع المثاني والقرآن العظيم، فلا تنظر إلى الدنيا، فإن الذي أعطيناك أعظم منها أَزْواجاً مِنْهُمْ يعني أصنافا من الكفار وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ أي لا تتأسف لكفرهم وَاخْفِضْ جَناحَكَ أي تواضع ولن لِلْمُؤْمِنِينَ والجناح هنا استعارة كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ الكاف من كما متعلقة بقوله: أنا النذير أي أنذر قريشا عذابا مثل العذاب الذي أنزل على المقتسمين، وقيل: متعلق بقوله: ولقد آتيناك أي أنزلنا عليك كتابا كما أنزلنا على المقتسمين، واختلف في المقتسمين فقيل: هم أهل الكتاب الذين آمنوا ببعض كتابهم وكفروا ببعضه، فاقتسموا إلى قسمين، وقيل: هم قريش اقتسموا أبواب مكة في الموسم، فوقف كل واحد منهم على باب، يقول أحدهم: هو شاعر، ويقول الآخر: هو ساحر، وغير ذلك الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ أي أجزاء، وقالوا فيه أقوالا مختلفة وواحد عضين عضة وقيل: هو من العضه وهو السحر، والعاضه الساحر، والمعنى على هذا أنه سحر، والكلمة محذوفة اللام ولامها على القول الأول واو وعلى الثاني هاء فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إن قيل: كيف يجمع بين هذا وبين قوله فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان؟ فالجواب أن السؤال المثبت هو على: وجه الحساب والتوبيخ، وأن السؤال المنفي هو: على وجه الاستفهام المحض لأن الله يعلم الأعمال فلا يحتاج إلى السؤال عنها فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ أي صرح به وأنفذه إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ يعني قوما من أهل مكة أهلكهم الله بأنواع الهلاك من غير سعى النبي صلّى الله عليه وسلّم، وكانوا خمسة: الوليد بن المغيرة والعاصي بن وائل، والأسود بن عبد المطلب، والأسود بن عبد يغوث وعدي بن قيس، وقصة هلاكهم مذكورة في السير، وقيل: الذين قتلوا ببدر كأبي جهل وعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة وأمية بن خلف وعقبة بن أبي معيط وغيرهم، والأول أرجح، لأن الله كفاه إياهم بمكة قبل الهجرة وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ تسلية للنبي صلّى الله عليه وسلّم وتأنيس حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ أي الموت.

سورة النحل

سورة النحل مكية إلا الآيات الثلاث الأخيرة فمدنية وآياتها 128 نزلت بعد الكهف بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (سورة النحل) أَتى أَمْرُ اللَّهِ قيل: النصر على الكفار، وقيل: عذاب الكفار في الدنيا، ووضع الماضي موضع المستقبل لتحقق وقوع الأمر ولقربه، وروي أنها لما نزلت وثب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قائما فلما قال: فلا تستعجلوه سكن يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ أي بالنبوة وقيل بالوحي خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أي من نطفة المني، والمراد جنس الإنسان فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ فيه وجهان أحدهما: أن معناه متكلم يخاصم عن نفسه، والثاني: يخاصم في ربه ودينه، وهذا في الكفار، والأول أعم لَكُمْ فِيها دِفْءٌ أي ما يتدفأ به، يعني ما يتخذ من جلود الأنعام وأصوافها من الثياب، ويحتمل أن يكون قوله: لكم متعلقا بما قبله أو بما بعده ويختلف الوقوف باختلاف ذلك وَمَنافِعُ يعني شرب ألبانها، والحرث بها وغير ذلك وَمِنْها تَأْكُلُونَ يحتمل أن يريد بالمنافع ما عدا الأكل فيكون الأكل أمرا زائدا عليها، أو يريد بالمنافع الأكل وغيره، ثم جرد ذكر الأكل لأنه أعظم المنافع وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ الجمال حسن المنظر، وحين تريحون يعني حين تردونها بالعشي إلى المنازل، وحين تسرحون حين تردونها بالغداة إلى الرعي، وإنما قدم تريحون على تسرحون، لأن جمال الأنعام بالعشي أكثر لأنها ترجع وبطونها ملأى وضروعها حافلة وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ يعني الأمتعة وغيرها وقيل: أجساد بني آدم إِلى بَلَدٍ أي إلى أي بلد توجهتم، وقيل: يعني مكة بِشِقِّ الْأَنْفُسِ أي بمشقة لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً استدل بعض الناس به على تحريم أكل الخيل والبغال والحمير، لكونه علّل خلقتها بالركوب والزينة دون الأكل، ونصب زينة على أنه

[سورة النحل (16) : الآيات 9 إلى 16]

مفعول من أجله، وهو معطوف على موضع لتركبوها وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ «1» عبارة على العموم أي أن مخلوقات الله لا يحيط البشر بعلمها، وكل ما ذكر في هذه الآية شيئا مخصوصا فهو على وجه المثال وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ أي على الله تقويم طريق الهدى، بنصب الأدلة وبعث الرسل والمراد بالسبيل هنا: الجنس، ومعنى القصد الموصل، وإضافته إلى السبيل من إضافة الصفة إلى الموصوف وَمِنْها جائِرٌ الضمير في منها يعود على السبيل إذ المراد به: الجنس ومعنى الجائر: الخارج عن الصواب: أي ومن الطريق جائر كطريق اليهود والنصارى وغيرهم ماءً لَكُمْ يحتمل أن يتعلق لكم بأنزل أو يكون في موضع خبر لشراب، أو صفة لسماء وَمِنْهُ شَجَرٌ يعني ما ينبت بالمطر من الشجر فِيهِ تُسِيمُونَ أي ترعون أنعامكم وَما ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ يعني الحيوان والأشجار والثمار وغير ذلك مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ أي أصنافه وأشكاله لَحْماً طَرِيًّا يعني الحوت «2» حِلْيَةً تَلْبَسُونَها يعني الجواهر والمرجان مَواخِرَ فِيهِ جمع ماخرة يقال: مخرت السفينة، والمخر: شق الماء، وقيل: صوت جري الفلك بالرياح لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ يعني في التجارة وهو معطوف على لتأكلوا. وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ الرواسي الجبال، واللفظ مشتق من رسا إذا ثبت، وأن تميد في موضع مفعول من أجله، والمعنى أنه ألقى الجبال في الأرضي لئلا تميد الأرض وروي أنه لما خلق الله الأرض جعلت تميد فقالت الملائكة: لا يستقر على ظهر هذه أحد، فأصبحت وقد أرسيت بالجبال وَأَنْهاراً قال ابن عطية: أنهارا منصوب بفعل مضمر تقديره: وجعل أو خلق أنهارا قال: وإجماعهم على إضمار هذا الفعل دليل على أن ألقى أخص من جعل وخلق: ولو كانت ألقى بمعنى خلق: لم يحتج إلى هذا الإضمار وَسُبُلًا يعني الطرق وَعَلاماتٍ يعني ما يستدل به على الطرق من الجبال والمناهل وغير ذلك، وهو معطوف على أنهارا وسبلا قال ابن عطية: هو نصب على المصدر أي لعلكم تعتبرون، وعلامات أي عبرة وأعلاما وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ يعني الاهتداء بالليل في الطرق، والنجم

_ (1) . في هذه إشارة إلى المركبات الحديثة في البر والبحر والجو. (2) . حسب اصطلاح أهل المغرب هو السمك.

[سورة النحل (16) : الآيات 17 إلى 25]

هنا جنس، وقيل: المراد الثريا والفرقدان، فإن قيل: قوله وبالنجم هم يهتدون مخرج عن سنن الخطاب وقدم فيه النجم كأنه يقول: بالنجم خصوصا هؤلاء خصوصا يهتدون فمن المراد بهم؟ فالجواب أنه أراد قريشا لأنهم كان لهم في الاهتداء بالنجم في سيرهم علم لم يكن لغيرهم، وكان الإعتبار ألزم لهم فخصصوا، قال ذلك الزمخشري. أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ تقرير يقتضي الردّ على من عبد غير الله، وإنما عبّر عنهم بمن لأن فيهم من يعقل ومن لا يعقل، أو مشاكلة لقوله: أفمن يخلق وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها ذكر من أول السورة إلى هنا أنواعا من مخلوقاته تعالى على وجه الاستدلال بها على وحدانيته، ولذلك أعقبها بقوله: أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ، وفيها أيضا تعداد لنعمه على خلقه، ولذلك أعقبها بقوله: وإن تعدّوا نعمة الله لا تحصوها، ثم أعقب ذلك بقوله: إن الله لغفور رحيم: أي يغفر لكم التقصير في شكر نعمه. وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ نفى عن الأصنام صفات الربوبية، وأثبت لهم أضدادها، وهي أنهم مخلوقون غير خالقين، وغير أحياء، وغير عالمين بوقت البعث، فلما قام البرهان على بطلان ربوبيتهم أثبت الربوبية لله وحده فقال: إلهكم إله واحد أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ أي لم تكن لهم حياة قط ولا تكون، وذلك أغرق في موتها ممن تقدّمت له حياة ثم مات، ثم يعقب موته حياة وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ الضمير في يشعرون: للأصنام وفي: يبعثون للكفار الذين عبدوهم، وقيل: إن الضميرين للكفار قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ أي تنكر وحدانية الله عز وجل لا جَرَمَ أي لا بد ولا شك، وقيل إن لا نفي لما تقدم، وجرم معناه وجب، أو حق، وأن فاعلة بجرم أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ أي ما سطره الأولون، وكان النضر بن الحارث قد اتخذ كتاب تواريخ، وكان يقول: إنما يحدث محمد بأساطير الأولين، وحديثي أجمل من حديثه، وماذا يجوز أن يكون اسما واحدا مركبا من ما وذا، ويكون منصوبا بأنزل، أو أن تكون ما استفهامية في موضع رفع بالابتداء، وذا بمعنى الذي، وفي أنزل ضمير محذوف لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ اللام لام العاقبة والصيرورة: أي قالوا أساطير الأولين، فأوجب ذلك أن حملوا أوزارهم وأوزار غيرهم، ويحتمل أن تكون للأمر بِغَيْرِ عِلْمٍ حال من المفعول في يضلونهم، أو من الفاعل فَأَتَى اللَّهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ الآية: قيل المراد بالذين من قبلهم نمروذ، فإنه بنى صرحا ليصعد

[سورة النحل (16) : الآيات 31 إلى 40]

فيه إلى السماء بزعمه، فلما علا فيه هدمه الله وخر سقفه عليه، وقيل: المراد بالذين من قبلهم كل من كفر من الأمم المتقدمة، ونزلت به عقوبة الله فالبنيان والسقف والقواعد على هذا تمثيل وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ توبيخ للمشركين وأضاف الشركاء إلى نفسه أي على زعمكم ودعواكم، وفيه تهكم بهم الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ أي تعادون من أجلهم فمن قرأ بكسر النون «1» فالمفعول ضمير المتكلم وهو الله عز وجل، ومن قرأ بفتحها فالمفعول محذوف تقديره تعادون المؤمنين من أجلهم قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ هم الأنبياء والعلماء من كل أمة، وقيل: يعني الملائكة واللفظ أعم من ذلك ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ حال من الضمير المفعول في تتوفاهم فَأَلْقَوُا السَّلَمَ أي استسلموا للموت ما كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ أي قالوا ذلك، ويحتمل قولهم لذلك أن يكونوا قصدوا الكذب اعتصاما به كقولهم: وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ [الأنعام: 23] أو يكونوا أخبروا على حسب اعتقادهم في أنفسهم، فلم يقصدوا الكذب، ولكنه كذب في نفس الأمر بَلى من قول الملائكة للكفار: أي قد كنتم تعملون السوء. وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا ماذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا خَيْراً لما وصف مقالة الكفار الذين قالوا أساطير الأولين: قابل ذلك بمقالة المؤمنين، فإن قيل: لم نصب جواب المؤمنين وهو قولهم: خيرا، رفع جواب الكافرين وهو أساطير الأولين؟ فالجواب: أن قولهم خيرا منصوب بفعل مضمر تقديره أنزل خيرا، ففي ذلك اعتراف بأن الله أنزله، وأما أساطير الأولين فهو خبر ابتداء مضمر تقديره هو أساطير الأولين، فلم يعترفوا بأن الله أنزله فلا وجه لنصبه، ولو كان منصوبا لكان الكلام متناقضا لأن قولهم أساطير الأولين يقتضي التكذيب بأن الله أنزله، والنصب بفعل مضمر يقتضي التصديق بأن الله أنزله، لأن تقديره أنزل، فإن قيل: يلزم مثل هذا في الرفع، لأن تقديره هو أساطير الأولين، فإنه غير مطابق للسؤال الذي هو ماذا أنزل ربكم، فالجواب: أنهم عدلوا بالجواب عن السؤال فقالوا هو أساطير الأولين، ولم ينزله الله لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ ارتفع حسنة بالابتداء وللذين خبره، والجملة بدل من خيرا، وتفسيره للخير الذي قالوا، وقيل: هي استئناف كلام الله تعالى، لا من كلام الذين قالوا خيرا جَنَّاتُ عَدْنٍ يحتمل أن يكون هو اسم الممدوح بنعم، فيكون مبتدأ وخبره فيما قبله أو خبر

_ (1) . قرأ نافع بكسر النون: تشاقون وقرأ الباقون: تشاقون بفتحها.

[سورة النحل (16) : الآيات 41 إلى 47]

ابتداء مضمر، ويحتمل أن يكون مبتدأ وخبره يدخلونها أو مضمر تقديره: لهم جنات عدن. ْ يَنْظُرُونَ أي ينتظرون، والضمير للكفار وإنما أن تأتيهم الملائكة يعني لقبض أرواحهم وْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ يعني قيام الساعة أو العذاب في الدنيا فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا أي أصابهم جزاء سيئات ما عملوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ أي أحاط بهم العذاب الذين كانوا به يستهزؤن، وهذا تفسيره حيث وقع وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ قالوا ذلك على وجه المجادلة والمخاصمة والإحتجاج على صحة فعلهم أي أن فعلنا هو بمشيئة الله فهو صواب، ولو شاء الله أن لا نفعله ما فعلناه، والرّد عليهم بأن الله نهى عن الشرك ولكنه قضي على من يشاء من عباده، ويحتمل أن يكونوا قالوا ذلك في الآخرة على وجه التمني فإن «لو» تكون للتمني والمعنى هذا أنهم لما رأوا العذاب تمنوا أن يكونوا لم يعبدوا غيره، ولم يحرموا ما أحل الله من البحيرة وغيرها فَإِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ قرئ بضم الياء وفتح الدال على البناء للمفعول أي لا يهدي غير الله من يضله الله، وقرئ «1» يهدي بفتح الياء وكسر الدال، والمعنى على هذا: لا يهدي الله من قضي بإضلاله وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ الضمير عائد على من يضل، لأنه في معنى الجمع. بَلى ردّ على الذين أقسموا لا يبعث الله من يموت أي أنه يبعثه لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ اللام تتعلق بما دل عليه أي يبعثهم ليبين لهم، وهذا برهان أيضا على البعث، فإن الناس مختلفون في أديانهم ومذاهبهم، فيبعثهم الله ليبين لهم الحق فيما اختلفوا فيه إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ الآية: برهان أيضا على البعث، لأنه داخل تحت قدرة الله تعالى وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللَّهِ يعني الذين هاجروا من مكة إلى أرض الحبشة، لأن الهجرة إلى

_ (1) . قرأ حمزة وعاصم والكسائي يهدي. وقرأ الباقون: يهدى.

[سورة النحل (16) : الآيات 48 إلى 55]

المدينة كانت بعدها، وقيل: نزلت في أبي جندل بن سهيل وخبره مذكور في السير في قصة الحديبية، وهذا بعيد لأن السورة نزلت قبل ذلك لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وعد أن ينزلهم بقعة حسنة، وهي المدينة التي استقروا بها، وقيل: إن حسنة صفة لمصدر أي نبوئنهم تبوئة حسنة وقرئ لنثوبنهم بالثاء من الثواب الَّذِينَ صَبَرُوا وصف للذين هاجروا، ويحتمل إعرابه أن يكون نعتا أو على تقدير: هم الذين أو مدح الذين إِلَّا رِجالًا ردّ على من استبعد أن يكون الرسول من البشر فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ يعني أحبار اليهود والنصارى، أي لأن جميعهم يشهدون أن الرسول من البشر بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ يتعلق بأرسلنا الذي في أول الآية على التقديم والتأخير في الكلام، أو بأرسلنا مضمرا وبيوحي أو بتعلمون. أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ يعني القرآن لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ يحتمل أن يريد لتبين القرآن بسردك نصه وتعليمه للناس، أو لتبين معانيه بتفسير مشكله، فيدخل في هذا ما بينته السنة من الشريعة أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئاتِ يعني: كفار قريش عند جمهور المفسرين، والسيئات تحتمل وجهين: أحدهما: يريد به الأعمال السيئات أي المعاصي فيكون: مكروا يتضمن معنى عملوا، والآخر أن يريد بالمكرات السيئات مكرهم بالنبي صلى الله تعالى عليه واله وسلّم فيكون المكر على بابه أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ يعني في أسفارهم فَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ أي بمفلتين حيث وقع أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ فيه وجهان أحدهما: أن معناه على تنقص أي ينتقص أموالهم وأنفسهم شيئا بعد شيء، حتى يهلكوا من غير أن يهلكهم جملة واحدة، ولهذا أشار بقوله: فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ، لأن الأخذ هكذا أخف من غيره، وقد كان عمر بن الخطاب أشكل عليه معنى التخوف في الآية، حتى قال له رجل من هذيل: التخوف التنقص في لغتنا، والوجه الثاني: أنه من الخوف أي يهلك قوما قبلهم فيتخوّفوا هم ذلك، فيأخذهم بعد أن توقعوا العذاب وخافوه، ذلك خلاف قوله: وهم لا يشعرون أَوَلَمْ يَرَوْا إِلى ما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ معنى الآية اعتبار بانتقال الظل، ويعني بقوله: ما خلق الله من شيء: الأجرام التي لها ظلال من الجبال والشجر والحيوان وغير ذلك، وذلك أن الشمس من وقت طلوعها إلى وقت الزوال يكون ظلها إلى جهة، ومن الزوال إلى الليل إلى جهة أخرى، ثم يمتدّ الظل ويعم بالليل إلى طلوع الشمس، وقوله: يتفيأ من الفيء وهو الظل الذي يرجع، بعكس ما كان

غدوة، وقال رؤبة بن العجاج: يقال بعد الزوال ظل وفيء، ولا يقال قبله إلا ظل، ففي لفظة: يتفيأ هنا تجوز ما لوقوع الخصوص في موضع العموم، لأن المقصود الإعتبار من أول النهار إلى آخره، فوضع يتفيأ موضع ينتقل أو يميل، والضمير في ظلاله يعود على ما أو على شيء عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ يعني عن الجانبين أي يرجع الظل من جانب إلى جانب، واليمين بمعنى الأيمان، واستعار هنا الأيمان والشمائل للأجرام، فإن اليمين والشمائل إنما هما في الحقيقة للإنسان سُجَّداً لِلَّهِ حال من الظلال، وقال الزمخشري حال من الضمير في ظلاله، إذ هو بمعنى الجمع لأنه يعود على قوله: من شيء، فعلى الأول يكون السجود من صفة الظلال، وعلى الثاني يكون من صفة الأجرام، واختلف في معنى هذا السجود فقيل عبر به عن الخضوع والانقياد، وقيل هو سجود حقيقة وَهُمْ داخِرُونَ أي صاغرون وجمع بالواو [والنون] لأن الدخور من أوصاف العقلاء. وَلِلَّهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ يحتمل أن يكون من دابة بيان لما في السموات وما في الأرض معا، لأن كل حيوان يصح أن يوصف بأنه يدب، ويحتمل أن يكون بيانا لما في الأرض خاصة وإنما قال: ما في السموات وما في الأرض ليعم العقلاء وغيرهم، ولو قال. من في السموات لم يدخل في ذلك غير العقلاء قاله الزمخشري وَالْمَلائِكَةُ إن كان قوله من دابة بيانا لما في السموات والأرض، فقد دخل الملائكة في ذلك، وكرر ذكرهم تخصيصا لهم بالذكر وتشريفا، وإن كان من دابة لما في الأرض خاصة فلم تدخل الملائكة في ذلك فعطفهم على ما قبلهم يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ هذا إخبار عن الملائكة، وهو بيان نفي الاستكبار، ويحتمل أن يريد فوقية القدرة والعظمة أو يكون من المشكلات التي يمسك عن تأويلها، وقيل: معناه يخافون أن يرسل عليهم عذابا من فوقهم لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ وصف الإلهين باثنين تأكيدا وبيانا للمعنى وقيل: إن إثنين مفعول أول وإلهين مفعول ثاني، فلا يكون في الكلام تأكيد فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ خرج من الغيبية إلى التكلم، لأن الغائب هو المتكلم، وإياي مفعول بفعل مضمر، ولا يعمل فيه فارهبون لأنه قد أخذ معموله وَلَهُ الدِّينُ واصِباً أي واجبا وثابتا، وقيل: دائما، وانتصابه على الحال من الدين وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ يحتمل أن تكون الواو للاستئناف أو الحال، فيكون الكلام متصلا بما قبله: أي كيف تتقون غير الله، وما بكم من نعمة فمنه وحده فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ أي ترفعون أصواتكم بالاستغاثة والتضرع لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ اللام لام الأمر

[سورة النحل (16) : الآيات 56 إلى 62]

على وجه التهديد لقوله بعد: فتمتعوا فسوف تعلمون، فعلى هذا يبتدئ بها، وقيل: هي لام العاقبة، فعلى هذا توصل بما قبلها لأنها في الأصل لام كي، وذلك بعيد في المعنى، والكفر هنا يحتمل أن يريد به كفر النعم لقوله: بما آتيناهم، أو كفر الجحود والشرك لقوله: بربهم يشركون فَتَمَتَّعُوا يريد التمتع في الدنيا، وذلك أمر على وجه التهديد وَيَجْعَلُونَ لِما لا يَعْلَمُونَ نَصِيباً مِمَّا رَزَقْناهُمْ الضمير في يجعلون لكفار العرب فإنهم كانوا يجعلون للأصنام نصيبا من ذبائحهم وغيرها، والمراد بقوله لما لا يعلمون الأصنام، والضمير في لا يعلمون للكفار أي لا يعلمون ربوبيتهم ببرهان ولا بحجة، وقيل: الضمير في لا يعلمون للأصنام أي الأشياء غير عالمة وهذا بعيد وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ إشارة إلى قول الكفار: إن الملائكة بنات الله، ثم نزه تعالى نفسه عن ذلك بقوله سُبْحانَهُ وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ المعنى أنهم يجعلون لأنفسهم ما يشتهون يعني بذلك الذكور من الأولاد، وأما الإعراب فيجوز أن يكون ما يشتهون مبتدأ وخبره المجرور قبله، وأن يكون مفعولا بفعل مضمر تقديره: ويجعلون لأنفسهم ما يشتهون، وأن يكون معطوفا على البنات على أن هذا يمنعه البصريون، لأنه من باب ضربتني وكان يلزم عندهم أن يقال لأنفسهم. وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ إخبار عن حال العرب في كراهتهم البنات، وظل هنا يحتمل أن تكون على بابها، أو بمعنى صار، والسواد عبارة عن العبوس والغم، وقد يكون معه سواد حقيقة، وكظيم قد ذكر في [يوسف: 84] يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ أي يستخفي من أجل سوء ما بشر به أَيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ المعنى يدبر وينظر هل يمسك الأنثى التي بشر بها على هوان وذل لها، أو يدفنها في التراب حية، وهي الموؤدة، وهذا معنى يدسه في التراب مَثَلُ السَّوْءِ أي صفة السوء من الحاجة إلى الأولاد وغير ذلك من الافتقار والنقص وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى أي الوصف الأعلى من الغنى عن كل شيء، والنزاهة عن صفات المخلوقين وَلَوْ يُؤاخِذُ يعني لو يعاقبهم في الدنيا بِظُلْمِهِمْ أي بكفرهم ومعاصيهم ما تَرَكَ عَلَيْها الضمير للأرض مِنْ دَابَّةٍ يعم بني آدم وغيرهم وهذا يقتضي أن تهلك الحيوانات بذنوب بني آدم، وقد ورد ذلك في الأثر، وقيل: يعني بني آدم خاصة وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ ما يَكْرَهُونَ يعني البنات أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى أن بدل من الكذب، والحسنى هنا قيل: هي الجنة، وقيل: ذكور الأولاد وَأَنَّهُمْ

[سورة النحل (16) : الآيات 63 إلى 68]

مُفْرَطُونَ بكسر الراء والتخفيف من الإفراط: «1» أي متجاوزون الحدّ في المعاصي، أو بفتح الراء والتخفيف من الفرط أي معجلون إلى النار، وبكسر الراء والتشديد من التفريط فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ يحتمل أن يريد باليوم وقت نزول الآية أو يوم القيامة وَهُدىً وَرَحْمَةً معطوفان على موضع لنبين، وانتصبا على أنهما مفعول من أجله: أي لأجل البيان والهدى والرحمة نُسْقِيكُمْ بفتح النون «2» وضمها لغتان، يقال سقى وأسقى مِمَّا فِي بُطُونِهِ الضمير للإنعام، وإنما ذكر لأنه مفرد بمعنى الجمع كقوله: ثوب أخلاق لأنه اسم جنس، وإذا أنث فهو جمع نعم مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ الفرث هي ما في الكرش من الروث، والمعنى أن الله يخلق اللبن متوسطا بين الفرث والدم يكتنفانه، ومع ذلك فلا يغيران له لونا ولا طعما ولا رائحة، ومن في قوله من بين فرث لابتداء الغاية سائِغاً لِلشَّارِبِينَ يعني سهلا للشرب حتى قيل: لم يغص أحد قط باللبن وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ المجرور يتعلق بفعل محذوف تقديره: نسقيكم من ثمرات النخيل والأعناب أي من عصيرها، ويدل عليه نسقيكم الأول أو يكون من ثمرات معطوف على مما في بطونها، أو يتعلق من ثمرات بتتخذون، وكرر منه توكيدا أو يكون تتخذون صفة لمحذوف تقديره: شيئا تتخذون سَكَراً يعني الخمر، ونزل ذلك قبل تحريمها فهي منسوخة بالتحريم، وقيل إن هذا على وجه المنة بالمنفعة التي في الخمر، ولا تعرض فيها لتحليل ولا تحريم، فلا نسخ، وقيل: السكر المائع من هاتين الشجرتين كالخل والرب. والرزق الحسن: العنب والتمر والزبيب. وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ الوحي هنا بمعنى الإلهام، فإن الوحي على ثلاثة أنواع: وحي كلام، ووحي منام، ووحي إلهام أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ أن مفسرة للوحي الذي أوحى إلى النحل، وقد جعل الله بيوت النحل في هذه الثلاثة الأنواع إما في الجبال وكواها، وإما في متجوف الأشجار وإما فيما يعرش بني آدم من الأجباح [مفردها: جبح] والحيطان ونحوها، ومن في المواضع الثلاثة للتبعيض لأن النحل

_ (1) . هي قراءة نافع وقرأ الباقون: مفرطون بفتح الراء (2) . قرأ نافع وابن عامر وأبو بكر بفتح النون: نسقيكم. وقرأ الباقون بالرفع.

[سورة النحل (16) : الآيات 69 إلى 71]

إنما تتخذ بيوتا في بعض الجبال، وبعض الشجر، وبعض الأماكن، وعرش معناه هيأ أو بنى، وأكثر ما يستعمل فيما يكون من الأغصان والخشب ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ عطف كلي على اتخذي، ومن للتبعض، وذلك إنها إنما تأكل النوار من الأشجار، وقيل: المعنى من كل الثمرات التي تشتهيها فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ يعني الطرق في الطيران، وأضافها إلى الرب لأنها ملكه وخلقه ذُلُلًا أي مطيعة منقادة ويحتمل أن يكون حالا من السبل، قال مجاهد: لم يتوعر قط على النحل طريق، أو حالا من النحل أي منقادة لما أمرها الله به يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ يعني العسل مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ أي منه أبيض وأصفر وأحمر فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ الضمير للعسل، لأن أكثر الأدوية مستعملة من العسل، كالمعاجين والأشربة النافعة من الأمراض، وكان ابن عمر يتداوى به من كل شيء، فكأنه أخذه على العموم. وعلى ذلك الحديث عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أن رجلا جاء إليه، فقال إن أخي يشتكي بطنه، فقال اسقه عسلا، فذهب ثم رجع فقال قد سقيته فما نفع، قال فاذهب فاسقه عسلا فقد صدق الله وكذب بطن أخيك، فسقاه فبرأ «1» إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ أي إلى أخسه وأحقره، وهو الهرم. وقيل: حدّه خمسة وسبعون عاما، وقيل: ثمانون، والصحيح أنه لا يحصر إلى مدة معينة، وأنه يختلف بحسب الناس لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً اللام لام الصيرورة أي يصير إذا هرم لا يعلم شيئا بعد أن كان يعلم قبل الهرم، وليس المراد نفي العلم بالكلية، بل ذلك عبارة عن قلة العلم لغلبة النسيان، وقيل: المعنى لئلا يعلم زيادة على علمه شيئا. وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ الآية في معناها قولان: أحدهما أنها احتجاج على الوحدانية، كأنه يقول أنتم لا تسوّون بين أنفسكم وبين مماليككم في الرزق، ولا تجعلونهم شركاء لكم، فكيف تجعلون عبيدي شركاء لي، والآخر: أنها عتاب وذم لمن لا يحسن إلى مملوكه حتى يرد ما رزقه الله عليه كما جاء في الحديث: «أطعموهم مما تأكلون واكسوهم مما تلبسون» «2» والأول أرجح أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ الجحد هنا على المعنى الأول إشارة إلى الإشراك بالله، وعبادة غيره، وعلى المعنى الثاني إشارة إلى جنس المماليك فيما يجب لهم من الإنفاق وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً يعني الزوجات،

_ (1) . رواه البخاري في كتاب الطب ج 7 ص 13 عن أبي سعيد الخدري. (2) . أخرج أحمد عن أبي ذر بمعناه ج 5 ص 209 وأوله: إخوانكم خولكم. فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل.

ومن أنفسكم يحتمل أن يريد من نوعكم وعلى خلقتكم، أو يريد أن حواء خلقت من ضلع آدم، وأسند ذلك إلى بني آدم لأنهم من ذريته وَحَفَدَةً جمع حافد قال ابن عباس: هم أولاد البنين، وقيل: الأصهار وقيل الخدم، وقيل: البنات إلا أن اللفظ المذكور لا يدل عليهم، والحفدة في اللغة الخدمة وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ الآية: توبيخ للكفار، وردّ عليهم في عبادتهم للأصنام، وهي لا تملك لهم رزقا، وانتصب رزقا لأنه مفعول بيملك، ويحتمل أن يكون مصدرا أو اسما لما يرزق، فإن كان مصدرا فإعراب شيئا مفعول به، لأن المصدر ينصب المفعول، وإن كان اسما فإعراب شيئا بدل منه وَلا يَسْتَطِيعُونَ الضمير عائد على ما لأن المراد به الإلهية، ونفي الاستطاعة بعد نفي الملك، لأن نفيها أبلغ في الذم. ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْداً مَمْلُوكاً الآية: مثل لله تعالى وللأصنام، فالأصنام كالعبد المملوك الذي لا يقدر على شيء، والله تعالى له الملك، وبيده الرزق ويتصرف فيه كيف يشاء، فكيف يسوي بينه وبين الأصنام، وإنما قال: لا يقدر على شيء، لأن بعض يقدرون على بعض الأمور كالمكاتب والمأذون له وَمَنْ رَزَقْناهُ من هنا نكرة موصوفة، والمراد بها من هو حر قادر كأنه قال: وحرّا رزقناه ليطابق عبدا، ويحتمل أن تكون موصولة هَلْ يَسْتَوُونَ أي هل يستوي العبيد والأحرار الذين ضرب لهم المثل الْحَمْدُ لِلَّهِ شكرا لله على بيان هذا المثال ووضوح الحق بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ يعني الكفار وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُما أَبْكَمُ الآية: مثل لله تعالى وللأصنام كالذي قبله، والمقصود منهما إبطال مذاهب المشركين، وإثبات الوحدانية لله تعالى، وقيل: إن الرجل الأبكم أبو جهل، والذي يأمر بالعدل عمار بن ياسر، والأظهر عدم التعيين وَهُوَ كَلٌّ عَلى مَوْلاهُ الكلّ: الثقيل يعني أنه عيال على وليه أو سيده، وهو مثل للأصنام والذي يأمر بالعدل هو الله تعالى وَما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ بيان لقدرة الله على إقامتها، وأن ذلك يسير عليه كقوله: ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ [لقمان: 28] وقيل: المراد سرعة إتيانها وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ الأمهات جمع أم زيدت فيه الهاء فرقا بين من

[سورة النحل (16) : الآيات 79 إلى 85]

يعقل ومن لا يعقل، وقرئ بضم الهمزة وبكسرها اتباعا للكسرة قبلها فِي جَوِّ السَّماءِ أي في الهواء البعيد من الأرض وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً السكن مصدر يوصف به، وقيل: هو فعل بمعنى مفعول ومعناه ما يسكن فيه كالبيوت أو يسكن إليه وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتاً يعني الأدم من القباب وغيرها تَسْتَخِفُّونَها أي تجدونها خفيفة يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقامَتِكُمْ يعني في السفر والحضر، واليوم هنا بمعنى الوقت ويقال: ظعن الرجل إذا رحل، وقرئ ظعنكم بفتح العين «1» ، وإسكانها تخفيفا وَمِنْ أَصْوافِها وَأَوْبارِها وَأَشْعارِها الأصواف للغنم، والأوبار للإبل، والأشعار للمعز والبقر أَثاثاً الأثاث متاع البيت من البسط وغيرها، وانتصابه على أنه مفعول بفعل مضمر تقديره جعل وَمَتاعاً إِلى حِينٍ أي إلى وقت غير معين، ويحتمل أن يريد إلى أن تبلى وتغنى أو إلى أن تموت. وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالًا أي نعمة عددها الله عليهم بالظل، لأن الظل مطلوب في بلادهم محبوب لشدّة حرها، ويعني بما خلق من الشجر وغيرها وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً الأكنان جمع كن، وهو ما يقي من المطر والريح وغير ذلك، ويعني بذلك الغيران والبيوت المنحوتة في الجبال وَجَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ السرابيل هي الثياب من القمص وغيرها، وذكر وقاية الحر ولم يذكر وقاية البرد، لأن وقاية الحر أهم عندهم لحرارة بلادهم، وقيل: لأن ذكر أحدهما يغني عن ذكر الآخر وَسَرابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ يعني دروع الحديد يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ اشارة الى ما ذكر من النعم من أول السورة الى هنا والضمير في يعرفون للكفار، وانكارهم لنعم الله اشراكهم به وعبادة غيره، وقيل نعمة الله هنا نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً أي يشهد عليهم بإيمانهم وكفرهم ثُمَّ لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا أي لا يؤذن لهم في الاعتذار وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ أي لا يسترضون، وهو من العتب بمعنى الرضى وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ يحتمل أن يكون بمعنى التأخير أو بمعنى النظر: أي لا ينظر الله إليهم فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ الضمير

_ (1) . قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بالفتح وقرأ الباقون بسكون العين. [.....]

في القول للمعبودين والمعنى أنهم كذبوهم في قولهم أنهم كانوا يعبدونهم، كقولهم: ما كُنْتُمْ إِيَّانا تَعْبُدُونَ [يونس: 28] فإن قيل: كيف كذبوهم وهم قد كانوا يعبدونهم؟ فالجواب أنهم لما كانوا غير راضين بعبادتهم، فكأن عبادتهم لم تكن عبادة، ويحتمل أن يكون تكذيبهم لهم في تسميتهم شركاء لله، لا في العبادة وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ أي استسلموا له وانقادوا زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ روي أن الزيادة في العذاب هي حيات وعقارب كالبغال تلسعهم إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ يعنى بالعدل: فعل الواجبات، وبالإحسان: المندوبات، وذلك في حقوق الله تعالى وفي حقوق المخلوقين، قال ابن مسعود: هذه أجمع آية في كتاب الله تعالى وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى الإيتاء مصدر آتى بمعنى أعطى، وقد دخل ذلك في العدل والإحسان، ولكنه جرده بالذكر اهتماما به وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ قيل: يعنى الزنا، واللفظ أعم من ذلك وَالْمُنْكَرِ هو أعم من الفحشاء، لأنه يعم جميع المعاصي وَالْبَغْيِ يعنى الظلم وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ هذا في الإيمان التي في الوفاء بها خير، وأما ما كان تركه أولى، فليكفر عن يمينه وليفعل الذي هو خير منه، كما جاء في الحديث، أو تكون الأيمان هنا ما يحلفه الإنسان في حق غيره، أو معاهدة لغيره وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا أي رقيبا ومتكفلا بوفائكم بالعهد، وقيل: إن هذه الآية نزلت في بيعة النبي صلّى الله عليه وسلّم، وقيل: فيما كان بين العرب من حلف في الجاهلية وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها شبّه الله من يحلف ولم يف بيمينه بالمرأة التي تغزل غزلا قويا ثم تنقضه. وروي أنه كان بمكة امرأة حمقاء تسمى ريطة بنت سعد، كانت تفعل ذلك وبها وقع التشبيه، وقيل إنما شبه بامرأة غير معينة أَنْكاثاً جمع نكث، وهو ما ينكث أي ينقض، وانتصابه على الحال تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ الدخل الدغل، وهو قصد الخديعة أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبى مِنْ أُمَّةٍ أن في موضع المفعول من أجله: أي بسبب أن تكون أمة، ومعنى أربى: أكثر عددا أو أقوى، ونزلت الآية في العرب الذين كانت القبيلة منهم تحالف الأخرى، فإذا جاءها قبيلة أقوى منها غدرت بالأولى وحالفت الثانية، وقيل: الإشارة بالأربى هنا إلى كفّار قريش إذ كانوا حينئذ أكثر من المسلمين إِنَّما يَبْلُوكُمُ اللَّهُ

[سورة النحل (16) : الآيات 93 إلى 102]

بِهِ الضمير للأمر بالوفاء، أو لكون أمة هي أربى من أمة، فإن بذلك يظهر من يحافظ على الوفاء أولا فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِها استعارة في الرجوع عن الخير إلى الشر، وإنما أفرد القدم ونكّرها: لاستعظام الزلل في قدم واحدة فكيف في اقدام كثيرة وَتَذُوقُوا السُّوءَ يعنى في الدنيا بِما صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ يدل على أن الآية فيمن بايع النبي صلّى الله عليه وسلّم وَلَكُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ يعنى في الآخرة وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلًا الثمن القليل عرض الدنيا، وهذا نهي لمن بايع النبي صلّى الله عليه وسلّم أن ينكث، لأجل ضعف الإسلام حينئذ وقوة الكفّار، ورجاء الانتفاع في الدنيا إن رجع عن البيعة ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ أي يفنى فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً يعنى في الدنيا، قال ابن عباس: هي الرزق الحلال، وقيل: هي القناعة، وقيل: هي حياة الآخرة فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ ظاهر اللفظ أن يستعاذ بعد القراءة، لأن الفاء تقتضي الترتيب، وقد شذ قوم فأخذوا بذلك، وجمهور الأمة على أن الاستعاذة قبل القراءة، وتأويل الآية: إذا أردت قراءة القرآن فاستعذ بالله إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا أي ليس له عليهم سبيل ولا يقدر على إضلالهم إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ أي يتخذونه وليا وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ الضمير لإبليس، والباء سببية وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ التبديل هنا النسخ، كان الكفار إذا نسخت آية، يقولون: هذا افتراء ولو كان من عند الله لم يبدل وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ جملة اعتراض بين الشرط وجوابه. وفيها رد على الكفار أي الله أعلم بما يصلح للعباد في وقت ثم ما يصلح لهم بعد ذلك قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ يعنى جبريل بِالْحَقِّ أي مع الحق في أوامره ونواهيه وأخباره، ويحتمل أن يكون قوله بالحق بمعنى حقا، أو بمعنى أنه واجب النزول أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ كان بمكة غلام أعجمي اسمه يعيش، وقيل: كانا غلامين اسم أحدهما جبر والآخر يسار، فكان النبي صلّى الله عليه وسلّم يجلس إليهما ويدعوهما إلى الإسلام، فقالت قريش: هذان يعلمان محمدا لِسانُ الَّذِي

[سورة النحل (16) : الآيات 107 إلى 115]

يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌ اللسان هنا بمعنى اللغة والكلام، ويلحدون من ألحد إذا مال، وقرئ «1» بفتح الياء من لحد، وهما بمعنى واحد، وهذا ردّ عليهم فإن الشخص الذي أشاروا إليه يعلمه أعجمى اللسان وهذا القرآن عربي في غاية الفصاحة فلا يمكن أن يأتي به أعجمي. إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ لا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ هذا في حق من علم الله منه أنه لا يؤمن كقوله: إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ [يونس: 96] ، فاللفظ عام يراد به الخصوص، كقوله: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ [البقرة: 6] ، وقال ابن عطية: المعنى إن الذين لا يهديهم الله لا يؤمنون بالله، ولكنه قدم في هذا الترتيب وأخر، تهكما لتقبيح أفعالهم إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ ردّ على قولهم: إنما أنت مفتر يعنى: إنما يليق الكذب بمن لا يؤمن لأنه لا يخاف الله، وأما من يؤمن بالله فلا يكذب عليه وَأُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ الإشارة إلى الذين لا يؤمنون بالله: أي هم الذين عادتهم الكذب لأنهم لا يبالون بالوقوع في المعاصي، ويحتمل أن يكون الكذب المنسوب إليهم قولهم إنما أنت مفتر مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ الآية: من شرطية في موضع رفع بالابتداء، وكذلك من في قوله من شرح، لأنه تخصيص من الأول، وقوله: فعليهم غضب: جواب عن الأولى والثانية، لأنهم بمعنى واحد أو يكون جوابا للثانية، وجواب الأولى محذوف يدل عليه جواب الثانية، وقيل: من كفر بدل من الذين لا يؤمنون أو من المبتدأ في قوله أولئك هم الكاذبون، أو من الخبر إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ استثنى من قوله من كفر، وذلك أن قوما ارتدوا عن الإسلام، فنزلت فيهم الآية، وكان فيهم من أكره على الكفر فنطق بكلمة الكفر، وهو يعتقد الإيمان منهم عمار بن ياسر، وصهيب، وبلال فعذرهم الله. روى أن عمار بن ياسر شكا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ما صنع به من العذاب وما تسامح به من القول، فقال له رسول الله صلّى الله تعالى عليه وعلى اله وسلّم: كيف تجد قلبك؟ قال أجده مطمئنا بالإيمان، قال فأجبهم بلسانك، فإنه لا يضرك، وهذا الحكم في من أكره بالنطق على الكفر، وأما الإكراه على فعل هو كفر كالسجود للصنم فاختلف هل تجوز الإجابة إليه أم لا؟ فأجازه الجمهور، ومنعه قوم وكذلك قال مالك: لا يلزم المكره يمين ولا طلاق ولا عتق ولا شيء فيما بينه وبين الله، ويلزمه ما كان من حقوق الناس، ولا تجوز الإجابة إليه كالإكراه على قتل أحد أو أخذ ماله ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَياةَ الدُّنْيا الإشارة إلى العذاب، والباء للتعليل، فعلل عذابهم بعلتين: أحدهما إيثارهم الحياة الدنيا، والأخرى أن الله

_ (1) . قرأ حمزة والكسائي: تلحدون والباقون: يلحدون بالرفع.

[سورة النحل (16) : الآيات 116 إلى 124]

لا يهديهم ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا قرأه الجمهور فتنوا بضم الفاء: أي عذبوا فالآية على هذا في عمار وشبهه من المعذبين على الإسلام، وقرأ ابن عامر بفتح الفاء: أي عذاب المسلمين، فالآية على هذا فيمن عذّب المسلمين، ثم هاجر وجاهد كالحضرمي وأشباهه. إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ كرر إن ربك توكيدا، والضمير في بعدها يعود على الأفعال المذكورة وهي الهجرة والجهاد والصبر يَوْمَ تَأْتِي يحتمل أن يتعلق بغفور رحيم أو بمحذوف تقديره اذكر وهذا أظهر كُلُّ نَفْسٍ النفس هنا بمعنى الجملة كقولك: إنسان، والنفس في قوله عن نفسها بمعنى الذات المعينة التي نقيضها الغير أي تجادل عن ذاتها لا عن غيرها كقولك: جاء نفسه وعينه تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها أي تحتج وتعتذر، فإن قيل: كيف الجمع بين هذا وبين قوله هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ؟ [المرسلات: 35، 36] فالجواب أن الحال مختلف باختلاف المواطن والأشخاص. وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً الآية، قيل: إن القرية المذكورة مكة كانت بهذه الصفة التي ذكرها الله فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ يعنى بنبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم، فأصابهم الجدب والخوف من غزو النبي صلّى الله عليه وسلّم، وقيل: إنما قصد قرية غير معينة أصابها ذلك فضرب الله بها مثلا لمكة، وهذا أظهر، لأن المراد وعظ أهل مكة بما جرى لغيرهم، والضمير في قوله فكفرت وأذاقها: يراد بها أهل القرية بدليل قوله بما كانوا يصنعون فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ الإذاقة هنا واللباس مستعاران، أما الإذاقة فقد كثر استعمالها في البلايا، حتى صارت كالحقيقة، وأما اللباس فاستعير للجوع والخوف لاشتمالهما على اللباس ومباشرتهما له كمباشرة الثوب. وَلَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ إن المراد بالقرية مكة، فالرسول هنا محمد صلّى الله عليه وسلّم والعذاب الذي أخذهم القحط وغيره، وإن كانت القرية غير معينة، فالرسول من المتقدمين كهود وشعيب وغيرهما، والعذاب ما أصابهم من الهلاك فَكُلُوا وما بعده مذكور في البقرة وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ هذه الآية مخاطبة للعرب

[سورة النحل (16) : الآيات 125 إلى 128]

الذين أحلوا أشياء وحرموا أشياء كالبحيرة وغيرها مما ذكر في سورة المائدة والأنعام، ثم يدخل فيها كل من قال: هذا حلال أو حرام بغير علم، وانتصب الكذب بلا تقولوا أو يكون قوله: هذا حلال وهذا حرام بدل من الكذب وما في قوله بما تصف موصولة ويجوز أن ينتصب الكذب بقوله تصف وتكون ما على هذا مصدرية ويكون قوله هذا حلال وهذا حرام معمول لا تقولوا مَتاعٌ قَلِيلٌ يعنى عيشهم في الدنيا أو انتفاعهم بما فعلوه من التحليل والتحريم. وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا ما قَصَصْنا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ يعنى قوله في [الأنعام: 146] حرمنا كل ذي ظفر إلى آخر الآية، فذكر ما حرم على المسلمين وما حرم على اليهود، ليعلم أن تحريم ما عدا ذلك افتراء على الله كما فعلت العرب ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهالَةٍ هذه الآية تأنيس لجميع الناس وفتح باب التوبة. إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً فيه وجهان: أحدهما أنه كان وحده أمة من الأمم بكماله وجمعه لصفات الخير كقول الشاعر فليس على الله بمستنكر ... أن يجمع العالم في واحد والآخر: أن يكون أمة بمعنى إمام كقوله: إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً [البقرة: 124] قال ابن مسعود: والأمة معلم الناس الخير، وقد ذكر معنى القانت والحنيف وَآتَيْناهُ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً يعنى لسان الصدق، وأن جميع الأمم متفقون عليه، وقيل: يعنى المال والأولاد لَمِنَ الصَّالِحِينَ أي من أهل الجنة وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ نفى عنه الشرك لقصد الرد على المشركين من العرب الذين كانوا ينتمون إليه إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ أمر موسى بني إسرائيل أن يجعلوا يوم الجمعة مختصا للعبادة فرضي بعضهم بذلك، وقال أكثرهم: بل يكون يوم السبت، فألزمهم الله يوم السبت، فاختلافهم فيه هو ما ذكر والسبت على هذا هو اليوم، وقيل اختلافهم فيه: هو أن منهم من حرم الصيد فيه، ومنهم من أحله، فعاقبهم الله بالمسخ قردة، فالمعنى: إنما جعل وبال السبت على الذين اختلفوا فيه، والسبت على هذا مصدر من سبت إذا عظم يوم السبت، قاله الزمخشري، وتقتضي الآية أن السبت لم يكن من ملة إبراهيم عليه السلام ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ المراد بالسبيل هنا: الإسلام، والحكمة هي الكلام الذي يظهر صوابه،

والموعظة هي الترغيب والترهيب، والجدال هو الردّ على المخالف، وهذه الأشياء الثلاثة يسميها أهل العلوم العقلية بالبرهان والخطابة والجدال، وهذه الآية تقتضي مهادنة نسخت بالسيف، وقيل: إن الدعاء إلى الله بهذه الطريقة من التلطف والرفق غير منسوخ، وإنما السيف لمن لا تنفعه هذه الملاطفة من الكفار: وأما العصاة فهي في حقهم محكمة إلى يوم القيامة باتفاق وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ المعنى إن صنع بكم صنع سوء فافعلوا مثله ولا تزيدوا عليه، والعقوبة في الحقيقة إنما هي الثانية، وسميت الأولى عقوبة لمشاكلة اللفظ، ويحتمل أن يكون عاقبتم بمعنى أصبتم عقبى: كقوله في الممتحنة فعاقبتم بمعنى غنمتم فيكون في الكلام تجنيس، وقال الجمهور: إن الآية نزلت في شأن حمزة بن عبد المطلب لما بقر المشركون بطنه يوم أحد، قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: والله لئن أظفرني الله بهم لأمثلن بسبعين منهم، فنزلت الآية فكفر النبي صلّى الله عليه وسلّم عن يمينه وترك ما أراد من المثلة ولا خلاف أن المثلة حرام، وقد وردت الأحاديث بذلك ويقتضي ذلك أنها مدنية، ويحتمل أن تكون الآية عامة، ويكون ذكرهم لحمزة على وجه المثال، وتكون على هذا مكية كسائر السورة واختلف العلماء فيمن ظلمه رجل في مال ثم ائتمن الظالم المظلوم على مال هل يجوز له خيانته في القدر الذي ظلمه، فأجاز ذلك قوم لظاهر الآية، ومنعه مالك لقوله صلّى الله عليه وسلّم: أدّ الإمامة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك «1» وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ هذا ندب إلى الصبر وترك عقوبة من أساء إليك فإن العقوبة مباحة، وتركها أفضل، والضمير راجع للصبر، ويحتمل أن يريد بالصابرين هنا العموم، أو يراد به المخاطبون كأنه قال: خير لكم وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ هذا عزم على النبي صلّى الله عليه وسلّم في خاصته على الصبر، ويروى أنه قال لأصحابه أما أنا فأصبر كما أمرت، فماذا تصنعون؟ قالوا نصبر كما ندبنا ثم أخبره أنه لا يصبر إلا بمعونة الله وقد قيل إن ما في هذه الآية من الأمر بالصبر منسوخ بالسيف، وهذا إن كان الصبر يراد به ترك القتال، وأما إن كان الصبر يراد به ترك المثلة التي فعل مثلها بحمزة فذلك غير منسوخ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ أي لا تتأسف لكفرهم وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ أي لا يضق صدرك بمكرهم، والضيق بفتح الضاد تخفيف من ضيق كميت وميت، وقرئ «2» بالكسر وهو مصدر، ويجوز أن يكون الضيق والضيق مصدران إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا يريد أنه معهم بمعونته ونصره وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ الإحسان هنا يحتمل أن يراد به فعل الحسنات، والمعنى الذي أشار له النبي صلّى الله عليه وسلّم بقوله: الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه «3» وهذا هو الأظهر، لأنه رتبة فوق التقوى.

_ (1) . أخرجه أحمد في المسند عن رجل من أهل مكة يقال له يوسف عن رجل قرشي عن أبيه: ج 3 ص 527 وذكره صاحب التيسير وعزاه للبخاري في التاريخ وأبي داود والترمذي وحسّنه والحاكم عن أبي هريرة. (2) . قرأ ابن كثير: ضيق وفي النمل، بكسر الضاد، والباقون بالفتح. (3) . جزء من حديث جبريل الطويل الذي رواه مسلم عن عمر بن الخطاب.

سورة الإسراء

سورة الإسراء مكية إلا الآيات 26 و 32 و 33 و 57 ومن آية 73 إلى غاية آية 80 فمدنية وآياتها 111 نزلت بعد القصص بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ معنى سبحان تنزه، وهو مصدر غير منصرف، وأسرى وسرى لغتان، وهو فعل غير متعدّ، واختار ابن عطية أن يكون أسرى هنا متعديا أي أسرى الملائكة بعبده وهو بعيد، والعبد هنا هو نبينا محمد صلّى الله عليه وسلّم، وإنما وصفه بالعبودية تشريفا له وتقريبا لَيْلًا إن قيل: ما فائدة قوله ليلا مع أن السرى هو بالليل؟ فالجواب: أنه أراد بقوله: ليلا بلفظ التنكير تقليل مدّة الإسراء، وأنه أسرى به في بعض الليل مسيرة أربعين ليلة، وذلك أبلغ في الأعجوبة مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى يعنى بالمسجد الحرام مسجد مكة المحيط بالكعبة، وقد روى في الحديث أنه صلّى الله عليه وسلّم قال: بينما أنا نائم في الحجر إذ جاءني جبريل، وقيل: كان النبي صلّى الله عليه وسلّم ليلة الإسراء في بيته، فالمسجد الحرام على هذا مكة أي بلد المسجد الحرام وأما المسجد الأقصى فهو بيت المقدس الذي بإيلياء، وسمّي الأقصى لأنه لم يكن وراءه حينئذ مسجد، ويحتمل أن يريد بالأقصى الأبعد فيكون المقصد إظهار العجب في الإسراء إلى هذا الموضع البعيد في ليلة، واختلف العلماء في كيفية الإسراء، فقال الجمهور: كان بجسد النبي صلّى الله عليه وسلّم وروحه، وقال قوم: كان بروحه خاصة وكانت رؤيا نوم حق، فحجة الجمهور أنه لو كان مناما لم تنكره قريش، ولم يكن في ذلك ما يكذب به الكفار، ألا ترى قول أم هانئ له: لا تخبر بذلك فيكذبك قومك، وحجة من قال: أن الإسراء كان مناما قوله تعالى: وما جعلنا الرؤيا التي أريناك، وإنما يقال الرؤيا في المنام، ويقال فيما يرى بالعين رؤية، وفي الحديث أنه صلّى الله عليه وسلّم قال: بينما أنا بين النائم واليقظان وذكر الإسراء، وقال في آخر الحديث: فاستيقظت وأنا في المسجد الحرام، وجمع بعض الناس بين الأدلة فقال: الأسراء كان مرتين: أحدهما بالجسد والآخر بالروح، وأن الإسراء بالجسد كان من مكة إلى بيت المقدس، وهو الذي أنكرته قريش، وأن الإسراء بالروح كان إلى السموات السبع، ليلة فرضت الصلوات الخمس، ولقي الأنبياء في السموات الَّذِي بارَكْنا

[سورة الإسراء (17) : الآيات 6 إلى 11]

حَوْلَهُ صفة للمسجد الأقصى، والبركة حوله بوجهين: أحدهما ما كان فيه وفي نواحيه من الأنبياء، والآخر: كثرة ما فيه من الزروع والأشجار التي خص الله بها الشام لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا أي لنري محمدا صلّى الله عليه وسلّم تلك الليلة من العجائب، فإنه رأى السموات والجنة والنار وسدرة المنتهى والملائكة والأنبياء، وكلمه الله تعالى حسبما ورد في أحاديث الإسراء، وهي في مصنفات الحديث فأغنى ذلك عن ذكرها هنا وَجَعَلْناهُ هُدىً يحتمل أن يعود الضمير على الكتاب أو على موسى أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا «1» أي ربا تكلون إليه أمركم، وأن يحتمل أن تكون مصدرية أو مفسرة ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ نداء، وفي ندائهم بذلك تلطف وتذكير بنعمة الله، وقيل: هي مفعول تتخذوا، ويتعين معنى ذلك على قراءة من قرأ يتخذ بالياء ويعنى بمن حملنا مع نوح أولاده الثلاثة وهم سام وحام ويافث، ونساؤهم، ومنهم تناسل الناس بعد الطوفان إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً أي كثير الشكر كان يحمد الله على كل حال، وهذا تعليل لما تقدم أي كونوا شاكرين كما كان أبوكم نوح. وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ قيل: إن قضينا هنا بمعنى علمنا وأخبرنا، كما قيل في: وقضينا إليه ذلك الأمر [الحجر: 66] ، والكتاب على هذا التوراة، وقيل: قضينا إليه من القضاء والقدر، والكتاب على هذا اللوح المحفوظ، الذي كتبت فيه مقادير الأشياء، وإلى بمعنى على لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ هذه الجملة ببان للمقضي، وهي في موضع جواب قضينا إذا كان من القضاء والقدر، لأنه جرى مجرى القسم، وإن كان بمعنى أعلمنا فهو جواب قسم محذوف، تقديره: والله لتفسدن، والجملة في موضع معمول قضينا، والمرتان المشار إليهما: إحداهما قتل زكريا والأخرى قتل يحي عليهما السلام وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً من العلو وهو الكبر والتخيل فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا معناه أنهم إذا أفسدوا في المرة الأولى بعث الله عليهم عبادا له لينتقم منهم على أيديهم، واختلف في هؤلاء العبيد فقيل: جالوت وجنوده وقتل بختنصر ملك بابل فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ أي تردّدوا بينهما بالفساد، وروي أنهم قتلوا علماءهم وأحرقوا التوراة. وخربوا المساجد وسبوا منهم سبعين ألفا ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ أي الدولة والغلبة على الذين بعثوا عليكم، ويعنى رجوع الملك إلى بني إسرائيل، واستنقاذ أسراهم، وقبل بختنصر، وقيل: قتل داود لجالوت أَكْثَرَ نَفِيراً أي أكثر عددا، وهو مصدر من قولك:

_ (1) . قرأ أبو عمرو: يتخذوا.

نفر الرجل إذا خرج مسرعا، أو جمع نفر إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ أحسنتم الأول بمعنى الحسنات، والثاني بمعنى الإحسان كقولك: أحسنت إلى فلان، ففيه تجنيس، واللام فيه بمعنى إلى، وكذلك اللام في قوله: وإن أسأتم فلها فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ يعنى إذا أفسدوا في المرة الأخيرة، بعث الله عليهم أولئك العباد للانتقام منهم، فالآخرة صفة للمرة، ومعنى يسوؤا: يجعلونها تظهر فيها آثار الشر والسوء كقوله: سيئت وجوه الذين كفروا، واللام لام كي وهي تتعلق ببعثنا المحذوف لدلالة الأول عليه، وقيل: هي لام الأمر وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ يعنى بيت المقدس وَلِيُتَبِّرُوا من التبار، وهو الإهلاك وشدّة الفساد ما عَلَوْا ما مفعول ليتبروا: أي يهلكوا ما غلبوا عليه من البلاد، وقيل إن ما ظرفية أي يفسدوا مدة علوهم. عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ خطاب لبني إسرائيل ومعناه ترجية لهم بالرحمة إن تابوا بعد الرحمة الثانية وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا خطاب لبني إسرائيل: أي إن عدتم إلى الفساد عدنا إلى عقابكم، وقد عادوا فبعث الله عليهم محمدا صلّى الله عليه وسلّم وأمته يقتلونهم ويذلونهم إلى يوم القيامة. حَصِيراً أي سجنا وهو من الحصر، وقيل: أراد به ما يفرش ويبسط كالحصير المعروف يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ أي الطريقة والحالة التي هي أقوم، وقيل: يعنى لا إله إلا الله، واللفظ أعم من ذلك وَيَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ المعنى ذم، وعتاب لما يفعله الناس عند الغضب من الدعاء على أنفسهم وأموالهم وأولادهم، وأنهم يدعون بالشر في ذلك الوقت كما يدعون بالخير في وقت التثبت، وقيل: إن الآية نزلت في النضر بن الحارث حين قال: اللهم إن كان هذا هو الحقّ من عندك [الأنفال: 32] الآية، وقد تقدم أن الصحيح في قائلها أنه أبو جهل وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولًا الإنسان هنا وفي الذي قبله اسم جنس، وقيل: يعنى هنا آدم وهو بعيد. فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ فيه وجهان: أحدهما أن يراد أن الليل والنهار آيتان في أنفسهما، فتكون الإضافة في آية الليل وآية النهار كقولك: مسجد الجامع أي الآية التي هي الليل، والآية التي هي النهار ومحو آية الليل على هذا كونه مظلما. والوجه الثاني أن يراد بآية الليل القمر، وآية النهار الشمس، ومحو آية الليل على هذا كون القمر لم يجعل له ضوء الشمس وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً يحتمل أن يريد النهار بنفسه أو الشمس، ومعنى مبصرة تبصر

[سورة الإسراء (17) : الآيات 18 إلى 27]

فيها الأشياء لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ أي لتتوصلوا بضوء النهار إلى التصرف في معايشكم وَلِتَعْلَمُوا باختلاف الليل والنهار أو بمسير الشمس والقمر عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ الأشهر والأيام وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْناهُ تَفْصِيلًا انتصب كل بفعل مضمر، والتفصيل البيان. وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ انتصب كل بفعل مضمر، والطائر هنا العمل، والمعنى أن عمله لازم له، وقيل: إن طائره ما قدر عليه، وله من خير وشر، والمعنى على هذا أن كل ما يلقى الإنسان قد سبق به القضاء، وإنما عبر عن ذلك بالطائر، لأن العرب كانت عادتها التيمن والتشاؤم بالطير، وقوله في عنقه أي: هو كالقلادة أو الغل لا ينفك عنه كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً يعنى صحيفة أعماله بالحسنات والسيئات اقْرَأْ كِتابَكَ تقديره يقال له: اقرأ حَسِيباً أي محاسبا أو من الحساب بمعنى العدد وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى معناه حيث وقع لا يؤاخذ أحد بذنب أحد، والوزر في اللغة الثقل والحمل، ويراد به هنا الذنوب، ومعنى تزر تحمل وزر أخرى: أي وزر نفس أخرى وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا قيل: إن هذا في حكم الدنيا، أي أن الله لا يهلك أمة إلا بعد الإعذار إليهم بإرسال رسول إليهم، وقيل: هو عام في الدنيا والآخرة، وأن الله لا يعذب قوما في الآخرة إلا وقد أرسل إليهم رسولا فكفروا به وعصوه، ويدل على هذا قوله: كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ، قالُوا بَلى [تبارك: 8] ومن هذا يؤخذ حكم أهل الفترات، واستدل أهل السنة بهذه الآية على أن التكليف لا يلزم العباد إلا من الشرع، لا من مجرد العقل. وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها في تأويل أمرنا هنا ثلاثة أوجه: أحدهما أن يكون في الكلام حذف تقديره: أمرنا مترفيها بالخير والطاعة فعصوا وفسقوا، والثاني أن يكون أمرنا عبارة عن القضاء عليهم بالفسق أي قضينا عليهم ففسقوا، والثالث أن يكون أمرنا بمعنى كثّرنا واختاره أبو علي الفارسي، وأما على قراءة آمرنا بمدّ الهمزة فهو بمعنى كثرنا، وأما على قراءة أمّرنا بتشديد الميم، فهو من الإمارة أي جعلناهم أمراء ففسقوا، والمترف: الغني المنعّم في الدنيا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ أي القضاء الذي قضاه الله وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنَ الْقُرُونِ القرن مائة سنة، وقيل أربعون. مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ الآية: في الكفار الذين يريدون الدنيا، ولا يؤمنون بالآخرة، على أن لفظها أعم من ذلك، والمعنى أنهم يعجل الله لهم حظا من الدنيا بقيدين: أحدهما

تقييد المقدار المعجل بمشيئة الله، والآخر: تقييد الشخص المعجل له بإرادة الله، ولمن نريد بدل من له، وهو بدل بعض من كل مَدْحُوراً أي مبعدا أو مهانا وَسَعى لَها سَعْيَها أي عمل لها عملها كُلًّا نُمِدُّ انتصب كلا بنمد وهو من المدد ومعناه: نزيدهم من عطائنا هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ بدل من كلّا، والإشارة إلى الفريقين المتقدمين مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ يعني رزق الدنيا، وقيل: من الطاعات لمن أراد الآخرة، ومن المعاصي لمن أراد الدنيا، والأول أظهر مَحْظُوراً أي ممنوعا فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ يعني في رزق الدنيا لا تَجْعَلْ خطاب لواحد، والمراد به جميع الخلق، لأن المخاطب غير معين مَذْمُوماً أي يذمه الله وخيار عباده مَخْذُولًا أي غير منصور. وَقَضى رَبُّكَ أي حكم وألزم وأوجب، أو أمر ويدل على ذلك ما في مصحف ابن مسعود: «ووصى ربك» أَلَّا تَعْبُدُوا أن مفسرة أو مصدرية على تقدير: بأن لا تعبدوا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ هي إن الشرطية دخلت عليها ما المؤكدة وجوابها فلا تقل لهما أف، والمعنى الوصية ببر الوالدين إذا كبرا أو كبر أحدهما وإنما خص حالة الكبر لأنهما حينئذ أحوج إلى البر والقيام بحقوقهما، لضعفهما ومعنى عندك: أي في بيتك وتحت كنفك أُفٍّ حيث وقعت اسم فعل، معناها قول مكروه، يقال عند الضجر ونحوه، وإنما المراد بها أقل كلمة مكروهة تصدر من الإنسان، فنهى الله تعالى أن يقال ذلك للوالدين، فأولى وأحرى ألا يقال لهما ما فوق ذلك، ويجوز في أفّ الكسر والفتح والضم، وهي حركات بناء، وأما تنوينها فهو للتنكير وَلا تَنْهَرْهُما من الانتهار وهو الإغلاظ في القول وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ استعارة في معنى التواضع لهما والرفق بهما، فهو كقوله: وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ [الحجر: 88] وأضافه إلى الذل مبالغة في المعنى كأنه قال: الجناح الذليل، ومن في قوله من الرحمة للتعليل أي من أجل إفراط الرحمة لهما والشفقة عليهما لِلْأَوَّابِينَ قيل: معناه الصالحين، وقيل: المسبّحين، وهو مشتق من الأوبة بمعنى الرجوع، فحقيقته الراجعين إلى الله وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ خطاب لجميع الناس لصلة قرابتهم والإحسان إليهم، وقيل: وهو خطاب خاص بالنبي

[سورة الإسراء (17) : الآيات 28 إلى 33]

صلّى الله عليه وسلّم أن يؤتى قرابته حقهم من بيت المال، والأول أرجح وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ الآية: معناه إن أعرضت عن ذوي القربى والمساكين وابن السبيل إذا لم تجد ما تعطيهم، فقل لهم كلاما حسنا، وكان النبي صلّى الله عليه وسلّم إذا سأله أحد فلم يكن عنده ما يعطيه أعرض عنه، حياء منه، فأمر بحسن القول مع ذلك وهو أن يقول: رزقكم الله وأعطاكم الله وشبه ذلك، والميسور مشتق من اليسر ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها مفعول من أجله، يحتمل أن يتعلق بقوله: وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ والمعنى على هذا: أنه يعرض عنهم انتظارا لرزق يأتيه، فيعطيه إياهم، فالرحمة على هذا هو ما يرتجيه من الرزق أو يتعلق بقوله فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُوراً أي ابتغ رحمة ربك بقول ميسور، والرحمة على هذا هي: الأجر والثواب. وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ استعارة في معنى غاية البخل كأن البخيل حبست يده عن الإعطاء، وشدت إلى عنقه وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ استعارة في معنى غاية الجود، فنهى الله عن الطرفين: وأمر بالتوسط بينهما: كقوله إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا [الفرقان: 67] مَلُوماً أي يلومك صديقك على كثرة عطائك وإضرارك بنفسك، أو يلومك من يستحق العطاء لأنك لم تترك ما تعطيه، أو يلومك سائر الناس على التبذير في العطاء مَحْسُوراً أي منقطعا لا شيء عندك، وهو من قولهم: حسر السفر البعير إذا أتعبه حتى لم تبق له قوة إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ أي يوسع على من يشاء، ويضيق على من يشاء فلا تهتم بما تراه من ذلك، فإن الله أعلم بمصالح عباده وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ ذكر في الأنعام [الأنعام: 151] وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ الحق الموجب لقتل النفس هو ما ورد في الحديث من قوله صلّى الله عليه وسلّم: «لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: كفر بعد إيمان، أو زنى بعد إحصان، أو قتل نفس أخرى» «1» ، وتتصل بهذه الأشياء أشياء أخر لأنها في معناها كالحرابة «2» وترك الصلاة ومنع الزكاة وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً المظلوم هنا من قتل بغير حق، والولي هو ولي المقتول وسائر العصبة، وليس النساء من الأولياء عند مالك، والسلطان الذي جعل الله له هو: القصاص، أو تخييره بين العفو والقصاص فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ نهي عن أن يسرف ولي المقتول بأن يقتل غير قاتل وليه، أو يقتل اثنين بواحد وغير ذلك من وجوه

_ (1) . رواه الشيخان بألفاظ قريبة عن أبي هريرة ورواه أحمد عن عثمان وابن مسعود وعائشة بألفاظ متشابهة. (2) . الحرابة هي العصيان المسلح ضد النظام الفعلي، ولها إمكانها في كتب الفقه.

[سورة الإسراء (17) : الآيات 34 إلى 39]

التعدي، وقرئ فلا تسرف «1» بالتاء خطابا للقاتل، أو لوليّ المقتول إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً الضمير للمقتول أو لوليه، ونصره هو القصاص وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ ذكر في الأنعام: [152] قال بعضهم: لا تقربوا ولا تقتلوا معطوفان على ألا تعبدوا، والظاهر أنهما مجزومان بالنهي بدليل قوله بعدها: ولا تقف ولا تمش، ويصح أن تكون معطوفات إذا جعلنا ألا تعبدوا مجزوما على النهي وأن مفسرة وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ عام في العهود مع الله ومع الناس إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلًا يحتمل وجهين: أحدهما أن يكون معنى الطلب: أي يطلب الوفاء به والثاني: أن يكون المعنى يسأل عنه يوم القيامة، هل وفى به أم لا وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ قيل: القسطاس الميزان، وقيل: العدل وقرئ بكسر القاف «2» وهي لغة وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا أي أحسن عاقبة ومآلا، وهو من آل إذا رجع. وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ المعنى لا تقل ما لا تعلم من ذم الناس وشبه ذلك، واللفظ مشتق من قفوته إذا اتبعته إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلًا أولئك إشارة إلى السمع والبصر والفؤاد وإنما عاملها معاملة العقلاء في الإشارة بأولئك، لأنها حواس لها إدراك، والضمير في عنه يعود على كل ويتعلق عنه بمسؤولا، والمعنى إن الإنسان يسأل عن سمعه وبصره وفؤاده، وقيل: الضمير يعود على ما ليس لك به علم، والمعنى على هذا أن السمع والبصر والفؤاد هي التي تسأل عما ليس لها به علم وهذا بعيد وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً المرح الخيلاء والكبر في المشية، وقيل: هو إفراط السرور بالدنيا وإعرابه مصدر في موضع الحال إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ أي لن تجعل فيها خرقا بمشيك عليها، والخرق هو: القطع، وقيل: معناه لا تقدر أن تستوفي جميعها بالمشي، والمراد بذلك تعليل النهي عن الكبر والخيلاء، أي إذا كنت أيها الإنسان لا تقدر على خرق الأرض، ولا على مطاولة الجبال، فكيف تتكبر وتختال في مشيك، وإنما الواجب عليك التواضع كُلُّ ذلِكَ كانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً الإشارة إلى ما تقدم من المنهيات والمكروه هنا بمعنى: الحرام، لا على اصطلاح الفقهاء في أن المكروه دون الحرام، وإعراب مكروها نعت لسيئه أو بدل منها، أو خبر ثان لكان. أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ خطاب على وجه التوبيخ للعرب الذين قالوا: إن الملائكة

_ (1) . قرأ حمزة والكسائي: تسرف بالتاء. (2) . وهي حمزة والكسائي وحفص والباقون بالضم أي القسطاس.

[سورة الإسراء (17) : الآيات 49 إلى 56]

بنات الله، والمعنى: كيف يجعل لكم الأعلى من النسل وهو الذكور، ويتخذ لنفسه الأدنى وهو البنات ومعنى أصفاكم: خصكم قَوْلًا عَظِيماً أي عظيم النكر والشناعة قُلْ لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَما يَقُولُونَ إِذاً لَابْتَغَوْا إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا هذا احتجاج على الوحدانية، وفي معناه قولان: أحدهما أن المعنى لو كان مع الله آلهة لابتغوا سبيلا إلى التقرب إليه بعبادته وطاعته، فيكون من جملة عباده، والآخر: لابتغوا سبيلا إلى إفساد ملكه ومعاندته في قدرته، ومعلوم أن ذلك لم يكن فلا إله إلا هو تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ الآية: اختلف في كيفية هذا التسبيح فقيل: هو تسبيح بلسان الحال أي بما تدل عليه صنعتها من قدرة وحكمة، وقيل: إنه تسبيح حقيقة وهذا أرجح لقوله: لا تفقهون تسبيحهم جَعَلْنا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً في معناه قولان: أحدهما: أن الله أخبر نبيه صلّى الله عليه وسلّم أنه يستره من الكفار إذا أرادوا به شرا، ويحجبه منهم، والآخر أنه يحجب الكفار عن فهم القرآن، وهذا أرجح لما بعده، والمستور هنا قيل: معناه مستور عن أعين الخلق، لأنه من لطف الله وكفايته فهو من المغيبات، وقيل: معناه ساتر أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ جمع كنان وهو الغطاء، وأن يفقهوه مفعول من أجله تقديره: كراهة أن يفقهوه، وهذه استعارات في إضلالهم. وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ معناه إذا ذكرت في القرآن وحدانية الله تعالى فرّ المشركون من ذلك، لما فيه من رفض آلهتهم وذمها. نفورا مصدر في موضع الحال نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَسْتَمِعُونَ بِهِ كانوا يستمعون القرآن على وجه الاستهزاء، والضمير في به عائد على ما: أي نعلم ما يستمعون به من الاستهزاء وَإِذْ هُمْ نَجْوى جماعة يتناجون أو ذو نجوى، والنجوى كلام السر رَجُلًا مَسْحُوراً قيل: معناه جنّ فسحر وقيل: معناه ساحر، وقيل هو من السّحر بفتح السين وهي الرئة: أي بشر إذا سحر مثلكم وهذا بعيد انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ أي مثلوك بالساحر، والشاعر، والمجنون فَضَلُّوا عن الحق فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا إلى الهدى ونزلت الآية في الوليد بن المغيرة، وأصحابه من الكفار وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً الآية معناها إنكار للبعث، واستبعادهم أن يخلقهم الله خلقا جديدا بعد فنائهم، والرفات الذي بلي حتى صار غبارا أو فتاتا، وقد ذكر في سورة

[سورة الإسراء (17) : الآيات 57 إلى 59]

[الرعد: 5] اختلاف القراء في الاستفهامين قُلْ كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً المعنى لو كنتم حجارة أو حديدا لقدرنا على بعثكم وأحيائكم، مع أن الحجارة والحديد أصلب الأشياء وأبعدها عن الرطوبة التي في الحياة، فأولى وأحرى أن يبعث أجسادكم ويحيي عظامكم البالية، فذكر الحجارة والحديد تنبيها بهما على ما هو أسهل في الحياة منهما، ومعنى قوله: كونوا أي كونوا في الوهم والتقدير، وليس المراد به التعجيز كما قال بعضهم في ذلك أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ قيل: يعنى السموات والأرض والجبال، وقيل: بل أحال على فكرتهم عموما في كل ما هو كبير عندهم: أي لو كنتم حجارة أو حديدا أو شيئا أكبر عندكم من ذلك وأبعد عن الحياة لقدرنا على بعثكم فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُسَهُمْ أي يحركونها تحريك المستبعد للشيء والمستهزئ وَيَقُولُونَ مَتى هُوَ أي متى يكون البعث. يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ الدعاء هنا عبارة عن البعث بالنفخ في الصور، والاستجابة عبارة عن قيامهم من القبور طائعين منقادين، وبحمده في موضع الحال أي حامدين له، وقيل: معنى بحمده بأمره وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا يعنى لبثتم في الدنيا أو في القبور وَقُلْ لِعِبادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ العباد هنا المؤمنون أمرهم أن يقول بعضهم لبعض كلاما لينا عجيبا، وقيل: أن يقولوه للمشركين، ثم نسخ بالسيف، وإعراب يقولوا: كقوله يُقِيمُوا الصَّلاةَ في سورة إبراهيم: [31] وقد ذكر ذلك قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ قيل: يعنى الملائكة، وقيل: عيسى وأمه وعزير، وقيل: نفر من الجن كان العرب يعبدونهم، والمعنى أنهم لا يقدرون على كشف الضرّ عنكم، فكيف تعبدونهم؟ أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ المعنى أن أولئك الآلهة الذين تدعون من دون الله يبتغون القربة إلى الله، ويرجونه، ويخافونه، فكيف تعبدونهم معه؟ وإعراب أولئك مبتدأ الذين تدعون صفة له ويبتغون خبره، والفاعل في يدعون ضمير للكفار، وفي يبتغون للآلهة المعبودين وقيل: إن الضمير في يدعون ويبتغون للأنبياء المذكورين قبل في قوله: ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض، والوسيلة هي ما يتوسل به ويتقرب أَيُّهُمْ أَقْرَبُ

[سورة الإسراء (17) : الآيات 60 إلى 63]

بدل من الضمير في يبتغون أي يبتغي الوسيلة من هو أقرب منهم، فكيف بغيره أو ضمّن معنى يحرصون فكأنه قيل: يحرصون أيهم يكون أقرب إلى الله بالاجتهاد في طاعته، ويحتمل أن يكون المعنى أنهم يتوسلون بأيهم أقرب إلى الله مَحْذُوراً من الحذر وهو الخوف. وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوها قَبْلَ يَوْمِ الْقِيامَةِ يحتمل هذا الهلاك وجهين: أحدهما أن يكون بالموت والفناء الذي لا بد منه، والآخر أن يكون بأمر من الله يأخذ المدينة دفعة فيهلكها، وهذا أظهر، لأن الأول معلوم لا يفتقر إلى الإخبار به، والهلاك والتعذيب المذكوران في الآية هما في الحقيقة لأهل القرى أي مهلكو أهلها أو معذبوهم، وروي أن هلاك مكة بالحبشة، والمدينة بالجوع، والكوفة بالترك، والأندلس بالخيل، وسئل الأستاذ أبو جعفر بن الزبير عن غرناطة، فقال: أصابها العذاب يوم قتل الموحدين بها في ثورة ابن هود «1» ، وأما هلاك قرطبة وأشبيليه وطيطله وغيرها بأخذ الروم لها فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً يعنى اللوح المحفوظ وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ الآيات يراد بها هنا التي يقترحها الكفار فإذا رأوها ولم يؤمنوا أهلكم الله. وسبب الآية أن قريشا اقترحوا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يجعل لهم [صخرة] الصفا ذهبا، فأخبر الله أنه لم يفعل ذلك لئلا يكذبوا فيهلكوا، وعبر بالمنع عن ترك ذلك، وأن نرسل في موضع نصب وأن كذب في موضع رفع، ثم ذكر ناقة ثمود تنبيها على ذلك لأنهم اقترحوها وكانت سبب هلاكهم، ومعنى مبصرة: بينة واضحة الدلالة وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلَّا تَخْوِيفاً إن أراد بالآيات هنا المقترحة فالمعنى أنه يرسل بها تخويفا من العذاب العاجل وهو الإهلاك، وإن أراد المعجزات غير المقترحة، فالمعنى أنه يرسل بها تخويفا من عذاب الآخرة، ليراها الكافر فيؤمن، وقيل: المراد بالآيات هنا الرعد والزلازل والكسوف وغير ذلك من المخاوف. وَإِذْ قُلْنا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ المعنى اذكر إذ أوحينا إليك أن ربك أحاط بقريش يعنى بشرناك بقتلهم يوم بدر وذلك قوله: سيهزم الجمع ويولون الدبر [القمر: 45] ، وإنما قال: أحاط بلفظ الماضي وهو لم يقع لتحقيقه وصحة وقوعه بعد، وقيل: المعنى أحاط بالناس في منعك وحمايتك منهم كقوله: وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ [المائدة: 67] وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ اختلف في هذه الرؤيا فقيل: إنها الإسراء،

_ (1) . سقطت غرناطة وخرج الإسلام نهائيا من الأندلس عام 1492 م والأسباب معروفة ولا حول ولا قوة إلا بالله.

[سورة الإسراء (17) : الآيات 64 إلى 72]

فمن قال إنه كان في اليقظة، فالرؤيا بمعنى الرؤية بالعين، ومن قال إنه كان في المنام فالرؤيا منامية، والفتنة على هذا تكذيب الكفار بذلك وارتداد بعض المسلمين حينئذ، وقيل: إنها رؤيا النبي صلّى الله عليه وسلّم في منامه هزيمة الكفار وقتلهم ببدر، والفتنة على هذا تكذيب قريش بذلك، وقيل: إنه رأى أنه يدخل مكة فعجل في سنة الحديبية فرد عنها فافتتن بعض المسلمين بذلك وقيل: رأى في المنام أن بني أمية يصعدون على منبره فاغتم بذلك وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ يعنى شجرة الزقوم، وهي معطوفة على الرؤيا أي جعل الرؤيا والشجرة فتنة للناس، وذلك أن قريشا لما سمعوا أن في جهنم شجرة زقوم سخروا من ذلك وقالوا: كيف تكون شجرة في النار والنار تحرق الشجر؟ وقال أبو جهل: ما أعرف الزقوم إلا التمر بالزبد، فإن قيل: لم لعنت شجرة الزقوم في القرآن؟ فالجواب أن المراد لعنة آكلها، وقيل: اللعنة بمعنى الإبعاد لأنها في أصل الجحيم وَنُخَوِّفُهُمْ الضمير لكفار قريش طُغْياناً تمييز أو حال من من أو من مفعول خلقت قالَ أَرَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ الكاف من أرأيتك للخطاب، لا موضع لها من الإعراب، وهذا مفعول بأرأيت، والمعنى أخبرني عن هذا الذي كرمته عليّ أي فضلته وأنا خير منه، فاختصر الكلام بحذف ذلك، وقال ابن عطية: أرأيتك هذا بمعنى: أتأملت ونحوه لا بمعنى أخبرني لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ معناه لأستولين عليهم ولأقودنهم، وهو مأخوذ من تحنيك الدابة، وهو أن يشدّ على حنكها بحبل فتنقاد قالَ اذْهَبْ قال ابن عطية، وما بعده من الأوامر: صيغة أمر على وجه التهديد، وقال الزمخشري: ليس المراد الذهاب الذي هو ضدّ المجيء، وإنما معناه: امض لشأنك الذي اخترته خذلانا له وتخلية، ويحتمل عندي: أن يكون معناه للطرد والإبعاد فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ كان الأصل أن يقال جزاؤهم بضمير الغيبة، ليرجع إلى من اتبعك، ولكنه ذكره بلفظ المخاطب تغليبا للمخاطب على الغائب، وليدخل إبليس معهم جَزاءً مَوْفُوراً مصدر في موضع الحال والموفور المكمل. وَاسْتَفْزِزْ أي اخدع واستخف بِصَوْتِكَ قيل: يعنى الغناء والمزامير، وقيل: الدعاء إلى المعاصي وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ أي هوّل، وهو من الجلبة وهي الصياح بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ الخيل هنا يراد بها الفرسان الراكبون على خيل، والرّجل: جمع راجل وهو الذي يمشي على رجليه فقيل: هو مجاز واستعارة بمعنى: افعل جهدك، وقيل: إن له من الشيطان خيلا ورجلا، وقيل: المراد فرسان الناس ورجالتهم المتصرفون في الشر وَشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ مشاركته في الأموال بكسبها من الربا، وإنفاقها في

المعاصي وغير ذلك، ومشاركته في الأولاد هي بالاستيلاد بالزنا وتسمية الولد عبد شمس وعبد الحارث وشبه ذلك وَعِدْهُمْ يعنى: المواعدة الكاذبة من شفاعة الأصنام وشبه ذلك إِنَّ عِبادِي يعنى المؤمنين الذين يتوكلون على الله بدليل قوله بعد ذلك: وكفى بربك وكيلا ونحوه: إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [النحل: 99] يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ أي يجريها ويسيرها والفلك هنا جمع، وابتغاء الفضل في التجارة وغيرها الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ يعنى خوف الغرق ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ ضل هنا بمعنى تلف وفقد: أي تلف عن أوهامكم وخواطركم كل من تدعونه إلا الله وحده، فلجأتم إليه حينئذ دون غيره. فكيف تعبدون غيره وأنتم لا تجدون في تلك الشدة إلا إياه وَكانَ الْإِنْسانُ كَفُوراً أي كفورا بالنعم، والإنسان هنا جنس. أَفَأَمِنْتُمْ الهمزة للتوبيخ والفاء للعطف أي أنجوتم من البحر فأمنتم الخسف في البر حاصِباً يعنى حجارة أو ريحا شديدة ترمي بالحصباء وَكِيلًا أي قائما بأموركم وناصرا لكم قاصِفاً مِنَ الرِّيحِ أي الذي يقصف ما يلقى أي يكسره تَبِيعاً أي مطالبا يطالبنا بما فعلنا بكم: أي لا تجدون من ينصركم منا كقوله: وَلا يَخافُ عُقْباها [الشمس: 15] وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلًا يعنى فضلهم على الجن وعلى سائر الحيوان، ولم يفضلهم على الملائكة، ولذلك قال: على كثير وأنواع التفضيل كثيرة لا تحصى: وقد ذكر المفسرون منها كون الإنسان يأكل بيده، وكونه منتصب القامة، وهذه أمثلة بِإِمامِهِمْ قيل: يعنى بنبيهم، يقال: يا أمة فلان، وقيل: يعنى كتابهم الذي أنزل عليهم، وقيل: كتابهم الذي فيه أعمالهم وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا الفتيل هو الخيط الذي في شق نواة التمرة، والمعنى أنهم لا يظلمون من أعمالهم قليلا ولا كثيرا، فعبر بأقل الأشياء تنبيها على الأكثر وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى الإشارة بهذه إلى الدنيا، والعمى يراد به عمى القلب: أي من كان في الدنيا أعمى عن الهدى، والصواب فهو في يوم القيامة أعمى: أي حيران يائس من الخير، ويحتمل أن يريد بالعمى في الآخرة عمى البصر: كقوله وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى [طه: 124] ، وإنما جعل الأعمى في الآخرة أضل

[سورة الإسراء (17) : الآيات 73 إلى 78]

سبيلا، لأنه حينئذ لا ينفعه الاهتداء، ويجوز في أعمى الثاني: أن يكون صفة للأول، وأن يكون من الأفعال التي للتفضيل، وهذا أقوى لقوله وأضل سبيلا فعطف أضل الذي هو من أفعل من كذا على ما هو شبهه، قال سيبويه. لا يجوز أن يقال: هو أعمى من كذا، ولكن إنما يمتنع ذلك في عمى البصر، لا في عمى القلب وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ الآية: سببها أن قريشا قالوا للنبي صلّى الله عليه وسلّم: اقبل بعض أمرنا ونقبل بعض أمرك، وقيل: إن ثقيفا طلبوا من النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يؤخرهم بعد إسلامهم سنة يعبدون فيها اللات والعزى، والآية على هذا القول مدنية لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ الافتراء هنا يراد به المخالفة لما أوحى إليه من القرآن وغيره وَإِذاً لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا أي لو فعلت ما أرادوا منك لاتخذوك خليلا وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلًا لولا تدل على امتناع شيء لوجود غيره، فدلت هنا على امتناع مقاربة النبي صلّى الله عليه وسلّم الركون إليهم لأجل تثبيت الله له وعصمته، وكدت تقتضي نفي الركون، لأن معنى كاد فلان يفعل كذا أي: أنه لم يفعله فانتفى الركون إليهم ومقاربته، فليس في ذلك نقص من جانب النبي صلّى الله عليه وسلّم، لأن التثبيت منعه من مقاربة الركون، ولو لم يثبته الله لكانت مقاربته للركون إليهم شيئا قليلا، وأما منع التثبيت فلم يركن قليلا ولا كثيرا، ولا قارب ذلك إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ أي عذابهما لو فعل ذلك. وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ الضمير لقريش، كانوا قد هموا أن يخرجوا النبي صلّى الله عليه وسلّم من مكة، وذلك قبل الهجرة، فالأرض هنا يراد بها مكة لأنها بلده وإذا لا يلبثون خلفك إلا قليلا «1» أي لو أخرجوك لم يلبثوا بعد خروجك بمكة إلا قليلا، فلما خرج النبي صلّى الله عليه وسلّم مهاجرا من مكة إلى المدينة لأجل إذاية قريش له ولأصحابه، لم يبقوا بعد ذلك إلا قليلا، وقتلوا يوم بدر سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنا انتصب سنة على المصدر، ومعناه العادة أي هذه عادة الله مع رسله. أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ هذه الآية إشارة إلى الصلوات المفروضة، فدلوك الشمس زوالها، والإشارة إلى الظهر والعصر، وغسق الليل ظلمته وذلك إشارة إلى المغرب والعشاء، وقرآن الفجر صلاة الصبح، وانتصب قرآن الفجر بالعطف على موضع اللام في قوله لدلوك الشمس، فإن اللام فيه ظرفية بمعنى علم، [كذا]

_ (1) . قرأ نافع وابن كثير وأبو عمر وأبو بكر: خلفك. والباقون: خلافك.

[سورة الإسراء (17) : الآيات 79 إلى 86]

وقيل: «هو عطف على الصلاة» وقيل: مفعول بفعل مضمر تقديره: اقرأ قرآن الفجر، وإنما عبر عن صلاة الصبح بقرآن الفجر، لإن القرآن فيها أكثر من غيرها لأنها تصلّى بسورتين طويلتين إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً أي تشهده ملائكة الليل والنهار، فيجتمعون فيه إذ تصعد ملائكة الليل وتنزل ملائكة النهار وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ لما أمر بالفرائض أمر بعدها بالنوافل، ومن للتبعيض، والضمير في به للقرآن والتهجد السهر وهو ترك الهجود، ومعنى الهجود: النوم فالتفعل هنا للخروج عن الشيء كالتحرج والتأثم: في الخروج عن الإثم والحرج عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً يعنى الشفاعة يوم القيامة، وانتصب مقاما على الظرف وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ الآية: المدخل: دخوله إلى المدينة، والمخرج خروجه من مكة، وقيل: المدخل في القبر، والمخرج إلى البعث، واختار ابن عطية أن يكون على العموم في جميع الأمور سُلْطاناً نَصِيراً قيل: معناه حجة تنصرني بها ويظهر بها صدقي، وقيل: قوة ورئاسة تنصرني بها على الأعداء وهذا أظهر وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ الحق الإيمان والباطل الكفر وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ من للتبعيض، أو لبيان الجنس، والمراد بالشفاء أنه يشفي القلوب من الريبة والجهل، ويحتمل أن يريد نفعه من الأمراض بالرقيا به والتعويذ وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ الآية: المراد بالإنسان هنا الجنس، لأن ذلك من سجية الإنسان، وقيل: إنما يراد الكافر لأنه هو الذي يعرض عن الله وَنَأى بِجانِبِهِ أي بعد، وذلك تأكيد وبيان للإعراض، وقرأ ابن عامر ناء وهو بمعنى واحد كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ أي مذهبه وطريقته التي تشاكله. وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ السائلون اليهود، وقيل: قريش بإشارة اليهود، والروح هنا عند الجمهور هو الذي في الجسم، وقد يقال فيه: النفس وقيل: الروح هنا جبريل، وقيل: القرآن، والأول هو الصواب لدلالة ما بعده على ذلك قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي أي من الأمور التي استأثر الله بها ولم يطلع عليها خلقه، وكانت اليهود قد قالت لقريش اسألوه عن الروح، فإن لم يجبكم فيه بشيء فهو نبيّ، وذلك أنه كان عندهم في التوراة أن الروح مما انفرد الله بعلمه، وقال ابن بريدة: لقد مضى النبي صلّى الله عليه وسلّم وما يعرف الروح، ولقد كثر اختلاف الناس في النفس والروح، وليس في أقوالهم في ذلك ما يعول عليه وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا خطاب عام لجميع الناس، لأن علمهم قليل بالنظر إلى علم الله. وقيل: خطاب لليهود خاصة، والأول أظهر، لأن فيه إشارة إلى أنهم لا يصلون إلى العلم بالروح وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أي إن شئنا ذهبنا بالقرآن فمحوناه من الصدور

[سورة الإسراء (17) : الآيات 87 إلى 93]

والمصاحف، وهذه الآية متصلة المعنى بقوله: وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا: أي في قدرتنا أن نذهب بالذي أوحينا إليك فلا يبقى عندك شيء من العلم وَكِيلًا أي من يتوكل بإعادته وردّه بعد ذهابه إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ يحتمل أن يكون استثناء متصلا، فمعنى أن رحمة ربك ترد القرآن بعد ذهابه لو ذهب، أو استثناء منقطعا بمعنى أن رحمة ربك تمسكه عن الذهاب. قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ عجز الخلق عن الإتيان بمثله لما تضمنه من العلوم الإلهية، والبراهين الواضحة والمعاني العجيبة التي لم يكن الناس يعلمونها، ولا يصلون إليها، ثم جاءت فيه على الكمال، وقال أكثر الناس: إنهم عجزوا عنه لفصاحته وحسن نظمه. ووجوه إعجازه كثيرة قد ذكرنا في غير هذا منها خمسة عشر وجها ظَهِيراً أي معينا وَلَقَدْ صَرَّفْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ أي بينا لهم كل شيء من العلوم النافعة، والبراهين القائمة، والحجج الواضحة، وهذا يدل على إن إعجاز القرآن بما فيه من المعاني والعلوم كما ذكرنا فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً الكفور: الجحود، وانتصب بقوله أبى لأنه في معنى النفي وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً «1» الذين قالوا هذا القول هم أشراف قريش طلبوا من النبي صلّى الله تعالى عليه على اله وسلّم أنواعا من خوارق العادات، وهي التي ذكرها الله في هذه الآية، وقيل: إن الذي قاله عبد الله بن أبي أمية بن المغيرة، وكان ابن عمة النبي صلّى الله تعالى عليه على اله وسلّم، ثم أسلم بعد ذلك والينبوع العين، قالوا له: إن مكة قليلة الماء ففجر لنا فيها عينا من الماء أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً إشارة إلى قوله تعالى: إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّماءِ، وكسفا بفتح السين «2» جمع كسفة وهي القطعة، وقرئ بالإسكان: أي قطعا واحدا قَبِيلًا قيل معناه مقابلة ومعاينة وقيل: ضامنا شاهدا بصدقك، والقبالة في اللغة: الضمان بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أي من ذهب قُلْ سُبْحانَ رَبِّي تعجب من اقتراحاتهم، أو تنزيه لله عن قولهم: تأتي بالله، وعن أن

_ (1) . قرأ عاصم وحمزة والكسائي: تفجر. وقرأ الباقون: تفجّر بالتشديد. (2) . قرأ نافع وعاصم وابن عامر كسفا: بفتح السين وقرأ الباقون بسكون السين.

[سورة الإسراء (17) : الآيات 94 إلى 100]

يطلب منه هذه الأشياء التي طلبها الكفار، لأن ذلك سوء أدب هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولًا أي: إنما أنا بشر، فليس في قدرتي شيء مما طلبتم، وأنا رسول فليس علي إلا التبليغ إِلَّا أَنْ قالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولًا المعنى أن الذي منع الناس من الإيمان إنكارهم لبعث الرسول من البشر. قُلْ لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ الآية: معناها أنه لو كان أهل الأرض ملائكة لكان الرسول إليهم ملكا، ولكنهم بشر، فالرسول إليهم بشر من جنسهم، ومعنى مطمئنين: ساكنين في الأرض شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ ذكر في [الأنعام: 19] عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا قيل: هي استعارة بمعنى أنهم يوم القيامة حيارى، وقيل: هي حقيقة، وأنهم يكونون عميا وبكما وصما حين قيامهم من قبورهم كُلَّما خَبَتْ معناه في اللغة سكن لهبها، والمراد هنا: كلما أكلت لحومهم فسكن لهبها بدلوا أجسادا أخر، ثم صارت ملتهبة أكثر مما كانت وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً استبعاد للحشر وقد تقدم معنى الرفات والكلام في الاستفهامين أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الآية احتجاج على الحشر، فإن السموات والأرض أكبر من الإنسان، فكما قدر الله على خلقها فأولى وأحرى أن يقدر على إعادة جسد الإنسان بعد فنائه، والرؤية في الآية، رؤية قلب أَجَلًا لا رَيْبَ فِيهِ القيامة أو أجل الموت قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ لو حرف امتناع، ولا يليها الفعل إلا ظاهرا أو مضمرا، فلا بد من فعل يقدر هنا بعدها تقديره: تملكون ثم فسره بتملكون الظاهر، وأنتم تأكيد للضمير الذي في تملكون المضمر خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي أي الأموال والأرزاق، إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ أي: لو ملكتم الخزائن لأمسكتم عن الإعطاء خشية الفقر، فالمراد بالإنفاق عاقبة الإنفاق وهو الفقر، ومفعول أمسكتم محذوف، وقال الزمخشري: لا مفعول له لأن معناه بخلتم، من قولهم للبخيل ممسك، ومعنى الآية وصف الإنسان بالشح وخوف الفقر، بخلاف وصف الله تعالى بالجود والغنى. تِسْعَ آياتٍ بينات الخمس منها الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم، والأربع انقلاب العصا حية، وإخراج يده بيضاء، وحل العقدة من لسانه، وفلق البحر وقد عد فيها

رفع الطور فوقه، وانفجار الماء من الحجر على أن يسقط اثنان من الأخر، وقد وعد فيها أيضا السنون، والنقص من الثمرات، روي أن بعض اليهود سألوا النبي صلّى الله عليه وسلّم عنها فقال: ألا تشركوا بالله شيئا، ولا تسرقوا ولا تزنوا، ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق، ولا تمشي ببريء إلى السلطان ليقتله، ولا تسحروا ولا تأكلوا الربا ولا تقذفوا المحصنات، ولا تفروا يوم الزحف، وعليكم خاصة اليهود ألا تعدوا في السبت فَسْئَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ أي اسأل المعاصرين لك من بني إسرائيل عما ذكرنا من قصة موسى لتزداد يقينا، والآية على هذا خطاب لمحمد صلّى الله عليه وسلّم، وقال الزمخشري: إن المعنى قلنا لموسى اسأل بني إسرائيل من فرعون أي أطلب منه أن يرسلهم معك، فهو كقوله: أن أرسل معنا بني إسرائيل، فلا يرد قوله اسأل لموسى على إضمار القول، وقال أيضا: يحتمل أن يكون المعنى: اسأل بني إسرائيل أن يعضدوك ويكونوا معك، وهذا أيضا على أن يكون الخطاب لموسى، والأول أظهر. إِذْ جاءَهُمْ الضمير لبني إسرائيل، والمراد آباؤهم الأقدمون والعامل في إذ على القول الأوّل آتينا موسى أو فعل مضمر، والعامل فيه على قول الزمخشري القول المحذوف مَسْحُوراً هنا وفي الفرقان: أي سحرت واختلط عقلك، وقيل: ساحر لَقَدْ عَلِمْتَ بفتح التاء خطاب لفرعون، والمعنى أنه علم أن الله أنزل الآيات، ولكنه كفر بها عنادا كقوله: وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم، [النحل: 14] والإشارة بهؤلاء إلى الآيات مثبورا أي هالكا، وقيل: مصروفا عن الخير، قابل موسى قول فرعون: إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً بقوله: وإني لأظنك يا فرعون مثبورا فَأَرادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ أي أرض مصر اسْكُنُوا الْأَرْضَ يعني أرض الشام لَفِيفاً أي جميعا مختلطين وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ الضمير للقرآن، وبالحق معناه في الموضعين بالواجب من المصلحة والسداد وقيل: معنى الأول كذلك: ومعنى الثاني ضد الباطل. أي بالحق في إخباره وأوامره ونواهيه وَقُرْآناً فَرَقْناهُ انتصب بفعل مضمر يدل عليه فرقناه، ومعناه بيناه وأوضحناه عَلى مُكْثٍ قيل: معناه على تمهل وترتيل في قراءته، وقيل: على طول مدة نزوله شيئا فشيئا من حين بعث النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى وفاته، وذلك عشرون سنة، وقيل ثلاث وعشرون. قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا أمر باحتقارهم وعدم الاكتراث بهم، كأنه يقول: سواء آمنتم أو لم تؤمنوا، لكونكم لستم بحجة، وإنما الحجة أهلم العلم من قبله، وهم المؤمنون من أهل الكتاب إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ يعني المؤمنين من أهل الكتاب وقيل:

[سورة الإسراء (17) : الآيات 108 إلى 111]

الذين كانوا على الحنيفية قبل البعثة: كزيد بن عمرو بن نفيل، وورقة بن نوفل، والأوّل أظهر، وهذه الجملة تعليل لما تقدم، والمعنى: إن لم تؤمنوا به أنتم، فقد آمن به من هو أعلم منكم وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ أي لناحية الأذقان كقولهم: خرّ لليدين وللفم، والأذقان جمع ذقن، وهو أسفل الوجه حيث اللحية، وإنما كرر يخرون للأذقان، لأن الأول للسجود، والآخر للبكاء. قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ سببها أن الكفار سمعوا النبي صلّى الله عليه وسلّم يدعو يا الله يا رحمن، فقالوا إن كان محمد ليأمرنا بدعاء إله واحد، وها هو يدعو إلهين، فنزلت الآية مبينة أن قوله الله أو الرحمن اسم لمسمى واحد، وأنه مخيّر في الدعاء بأيّ الاسمين شاء، والدعاء في الآية بمعنى التسمية كقولك: دعوت ولدي زيدا لا بمعنى النداء أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى أيّا اسم شرط منصوب بتدعو، والتنوين فيه عوض من المضاف إليه، وما زائدة للتأكيد، والضمير في به لله تعالى، وهو المسمى لا الاسم، والمعنى أيّ هذين الاسمين تدعو فحسن، لأن الله له الأسماء الحسنى فموضع قوله: لله الأسماء الحسنى موضع الحال، وهو في المعنى تعليل للجواب، لأنه إذا حسنت أسماؤه كلها حسن هذان الاسمان. وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها المخافتة هي الإسرار، وسبب الآية أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم جهر بالقرآن في الصلاة، فسمعه المشركون، فسبوا القرآن ومن أنزله، فأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالتوسط بين الإسرار والجهر، ليسمع أصحابه الذين يصلون معه، ولا يسمع المشركون، وقيل: المعنى لا تجهر بصلاتك كلها ولا تخافت بها كلها، واجعل منها سرا وجهرا، حسبما أحكمته السنة، وقيل: الصلاة هنا الدعاء وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ أي ليس له ناصر يمنعه من الذل، لأنه تعالى عزيز لا يفتقر إلى وليّ يحميه، فنفى الولاية على هذا المعنى لأنه غنيّ عنها، ولم ينف الولاية على وجه المحبة والكرامة لمن شاء من عباده، وحكي الطبري أن قوله: لم يتخذ ولدا رد على النصارى واليهود والذين نسبوا لله ولدا، وقوله: ولم يكن له شريك: ردّ على المشركين، وقوله: ولم يكن له وليّ من الذل رد على الصابئين في قولهم: لولا أولياء الله لذل الله «تعالى الله عن قولهم» علوا كبيرا وَكَبِّرْهُ معطوف على قل، ويحتمل هذا التكبير أن يكون بالقلب وهو التعظيم، أو باللسان وهو قوله أن يقول الله أكبر مع قوله الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا الآية.

سورة الكهف

سورة الكهف مكية إلا آية 38 ومن آية 83 إلى غاية آية 101 فمدنية وآياتها 110 نزلت بعد الغاشية بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (سورة الكهف) الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ العبد هنا هو النبي صلّى الله عليه وسلّم، ووصفه بالعبودية تشريفا له، وإعلاما باختصاصه وقربه، والكتاب القرآن وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً العوج بكسر العين في المعاني التي لا تحسن، وبالفتح في الأشخاص كالعصا ونحوها، ومعناه عدم الاستقامة، وقيل فيه هنا: معناه لا تناقض فيه ولا خلل، وقيل: لم يجعله مخلوقا، واللفظ أعم من ذلك قَيِّماً أي مستقيما، وقيل قيما على الخلق بأمر الله تعالى، وقيل، قيما على سائر الكتب بتصديقها، وانتصابه على الحال من الكتاب، والعامل فيه أنزل، ومنع الزمخشري ذلك للفصل بين الحال وذي الحال، واختار أن العامل فيه فعل مضمر تقديره جعله قيما لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً متعلق بأنزل أو بقيما، والفاعل به ضمير الكتاب أو النبي صلّى الله عليه وسلّم، والبأس العذاب، وحذف المفعول الثاني وهو الناس، كما حذف المفعول الآخر من قوله: وينذر الذين لدلالة المعنى على المحذوف مِنْ لَدُنْهُ أي من عنده، والضمير عائد على الله تعالى أَجْراً حَسَناً يعني الجنة ماكِثِينَ فِيهِ أي دائمين، وانتصابه على الحال من الضمير في لهم وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً هم النصارى لقولهم في عيسى، واليهود لقولهم في عزير، وبعض العرب لقولهم في الملائكة وَما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ الضمير عائد على قولهم، أو على الولد. كَبُرَتْ كَلِمَةً انتصب على التمييز على الحال ويعني بالكلمة قولهم اتخذ الله ولدا: وعلى هذا يعود الضمير في كبرت فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أي قاتلها بالحزن والأسف، والمعنى تسلية النبي صلّى الله عليه وسلّم عن عدم إيمانهم عَلى آثارِهِمْ استعارة فصيحة: كأنهم من فرط

[سورة الكهف (18) : الآيات 7 إلى 10]

إدبارهم قد بعدوا فهو يتبع آثارهم تأسفا عليهم، وانتصب أسفا على أنه مفعول من أجله، والعامل فيه باخع نفسك إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها يعنى ما يصلح للتزين كالملابس والمطاعم، والأشجار والأنهار وغير ذلك لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا أي لنختبرهم أيّهم أزهد في زينة الدنيا وَإِنَّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً المعنى إخبار بفناء الدنيا وزينتها، والصعيد هو التراب، والجرز: الأرض التي لا نبات فيها: أي سيفنى ما على الأرض من الزينة وتبقى كالأرض التي لا نبات فيها، بعد أن كانت خضراء بهجة. أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً أم هنا استفهام، والمعنى أحسبت أنهم عجب، بل سائر آياتنا أعظم منها وأعجب، والكهف الغار الواسع، والرقيم: اسم كلبهم، وقيل: هو لوح رقمت فيه أسماؤهم على باب الكهف، وقيل كتاب فيه شرعهم ودينهم، وقيل هو القرية التي كانت بإزاء الكهف، وقيل: الجبل الذي فيه الكهف، وقال ابن عباس: لا أدري ما الرقيم إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ نذكر من قصتهم على وجه الاختصار ما لا غنى عنه، إذ قد أكثر الناس فيها مع قلة الصحة في كثير مما نقلوا، وذلك أنهم كانوا قوما مؤمنين، وكان ملك بلادهم كافرا يقتل كل مؤمن، ففروا بدينهم، ودخلوا الكهف ليعبدوا الله فيه ويستخفوا من الملك وقومه، فأمر الملك باتباعهم، فانتهى المتبعون لهم إلى الغار فوجدوهم، وعرفوا الملك بذلك فوقف عليه في جنده وأمر بالدخول إليهم، فهاب الرجال ذلك وقالوا له: دعهم يموتوا جوعا وعطشا، وكان الله قد ألقى عليهم نوما ثقيلا، فبقوا على ذلك مدّة طويلة ثم أيقظهم الله، وظنوا أنهم لبثوا يوما أو بعض يوم، فبعثوا أحدهم يشتري لهم طعاما بدراهم كانت لهم، فعجب لها البائع وقال: هذه الدراهم من عهد فلان الملك في قديم الزمان من أين جاءتك؟ وشاع الكلام بذلك في الناس، وقال الرجل: إنما خرجت أنا وأصحابي بالأمس فأوينا إلى الكهف، فقال: هؤلاء الفتية الذين ذهبوا في الزمان القديم فمشوا إليهم فوجدوهم موتى، وأما موضع كهفهم، فقيل إنه بمقربة من فلسطين «1» وقال قوم: إنه الكهف الذي بالأندلس بمقربة من لوشة من جهة غرناطة، وفيه موتى ومعهم كلب، وقد ذكر ابن عطية ذلك، وقال: إنه دخل عليهم ورآهم وعليهم مسجد، وقريب منهم بناء يقال له الرقيم قد بقي بعض جدرانه، وروى أن الملك الذي كانوا في زمانه اسمه دقيوس، وفي تلك الجهة آثار مدينة يقال لها مدينة دقيوس والله أعلم.

_ (1) . لقد كشف موضعهم قرب مدينة عمان. [.....]

[سورة الكهف (18) : الآيات 11 إلى 16]

ومما يبعد ذلك ما روي أن معاوية مر عليهم وأراد الدخول إليهم، ولم يدخل معاوية الأندلس قط، وأيضا فإن الموتى التي في غار لوشة يراهم الناس، ولم يدرك أحد منهم الرعب، الذي ذكر الله في أصحاب الكهف فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ فِي الْكَهْفِ عبارة عن إلقاء النوم عليهم، وقال الزمخشري: المعنى ضربنا على آذانهم حجابا ثم حذف هذا المفعول سِنِينَ عَدَداً أي كثيرة ثُمَّ بَعَثْناهُمْ أي أيقظناهم من نومهم لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى لِما لَبِثُوا أَمَداً أي لنعلم علما يظهر في الوجود، لأن الله قد كان علم ذلك، والمراد، بالحزبين الذين اختلفوا في مدة لبثهم، فالحزب الواحد: أصحاب الكهف والحزب الآخر القوم الذين بعث الله أصحاب الكهف في مدتهم وقيل: إن الحزبين معا أصحاب الكهف إذ كان بعضهم قد قال: لبثنا يوما أو بعض يوم، وقال بعضهم: ربكم أعلم بما لبثتم، وأحصى فعل ماض، وأمدا مفعول به، وقيل: أحصى اسم للتفضيل، وأمدا تمييز، وهذا ضعيف، لأن أفعل من التي للتفضيل لا يكون من فعل رباعي إلا في الشاذ. وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أي قوينا عزمهم وألهمناهم الصبر، يحتمل أن يريد قيامهم من النوم بين يدي الملك الكافر لما آمنوا ولم يبالوا به لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً أي لو دعونا من دونه إلها لقلنا قولا شططا، والشطط الجور والتّعدي لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطانٍ بَيِّنٍ تحضيض بمعنى التعجيز، أنهم لا يأتون بحجة بينة على عبادة غير الله وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ خطاب من بعضهم لبعض حين عزموا على الفرار بدينهم وَما يَعْبُدُونَ عطف على المفعول في اعتزلتموهم: أي تركتموهم وتركتم ما يعبدون إِلَّا اللَّهَ أي ما يعبدون من دون الله، وإلا هنا بمعنى غير، وهذا استثناء متصل إن كان قومهم يعبدون الله ويعبدون معه غيره، ومنقطع إن كانوا لا يعبدون الله، وفي مصحف ابن مسعود «وما يعبدون من دون الله» فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ هذا الفعل هو العامل في إذ اعتزلتموهم، والمعنى أن بعضهم قال لبعض إذا فارقنا الكفار فلنجعل الكهف لنا مأوى، ونتكل على الله فهو يرحمنا ويرفق بنا مِرفَقاً بفتح الميم وكسرها ما يرتفق به وينتفع وَتَرَى الشَّمْسَ إِذا طَلَعَتْ تَتَزاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَإِذا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذاتَ الشِّمالِ قيل: هنا كلام محذوف تقديره فأوى القوم إلى الكهف ومكثوا فيه، وضرب الله على آذانهم، ومعنى تزاور تميل وتزوغ، ومعنى:

[سورة الكهف (18) : الآيات 19 إلى 21]

تقرضهم تقطعهم: أي تبعد عنهم، وهو بمعنى القطع، وذات اليمين والشمال أي جهته، ومعنى الآية: أن الشمس لا تصيبهم عند طلوعها، ولا عند غروبها لئلا يحترقوا بحرها، فقيل: إن ذلك كرامة لهم وخرق عادة، وقيل: كان باب الكهف شماليا يستقبل بنات نعش، فلذلك لا تصيبهم الشمس، والأول أظهر لقوله ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ أي في موضع واسع، وذلك مفتح لإصابة الشمس، ومع ذلك حجبها الله عنهم ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ الإشارة إلى حجب الشمس عنهم إن كان خرق عادة، وإن كان لكون بابهم إلى الشمال فالإشارة إلى أمرهم بجملته وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً وَهُمْ رُقُودٌ أيقاظا جمع يقظ، وهو المنتبه، كانت أعينهم مفتوحة وهم نائمون، فيحسبهم من يراهم أيقاظا وفي قوله: أيقاظا ورقود مطابقة، وهي من أدوات البيان وَنُقَلِّبُهُمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَذاتَ الشِّمالِ أي نقلبهم من جانب إلى جانب، ولولا ذلك لأكلتهم الأرض، وكان هذا التقليب من فعل الله وملائكته، وهم لا ينتبهون من نومهم، وروي أنهم كانوا يقلبون مرتين في السنة، وقيل من سبع سنين إلى مثلها وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ قيل إنه كان كلبا لأحدهم يصيد به، وقيل كان كلبا لراع فمروا عليه فصحبهم وتبعه كلبه وأعمل اسم الفاعل وهو بمعنى المضيّ لأنه حكاية حال. بِالْوَصِيدِ أي بباب الكهف، وقيل عتبته وقيل البناء وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً ذلك لما ألبسهم الله من الهيبة، وقيل: لطول أظافرهم وشعورهم وعظم إجرامهم. وقيل: لوحشة مكانهم، وعن معاوية أنه غزا الروم فمر بالكهف، فأراد الدخول إليه فقال له ابن عباس: لا تستطيع ذلك، قد قال الله لمن هو خير منك: لو اطلعت عليهم لوليت منهم فرارا، فبعث ناسا إليهم، فلما دخلوا الكهف بعث الله ريحا فأحرقتهم وَكَذلِكَ بَعَثْناهُمْ لِيَتَسائَلُوا بَيْنَهُمْ أي كما أنمناهم، كذلك بعثناهم ليسأل بعضهم بعضا، واللام في ليتساءلوا لام الصيرورة قالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ هذا قول من استشعر منهم أن مدة لبثهم طويلة، فأنكر على من قال يوما أو بعض يوم، ولكنه لم يعلم مقدارها فأسند علمها إلى الله. فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ الورق: الفضة، وكانت دراهم تزودوها حين خروجهم إلى الكهف، ويستدل بذلك على أن التزود للمسافر أفضل من تركه، ويستدل ببعث أحدهم على جواز الوكالة، فإن قيل: كيف اتصل بعث أحدهم بتذكر مدة لبثهم؟. فالجواب أنهم كانوا قالوا: ربكم أعلم بما لبثتم، ولا سبيل لكم إلى العلم بذلك، فخذوا فيما هو أهم من هذا وأنفع لكم فابعثوا أحدكم إِلَى الْمَدِينَةِ قيل: أنها طرسوس

[سورة الكهف (18) : الآيات 22 إلى 24]

أَزْكى طَعاماً قيل: أكثر، وقيل: أحل، وقيل: إنه أراد شراء زبيب، وقيل: تمر وَلْيَتَلَطَّفْ في اختفائه وتحيله إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أي: إن يظفروا بكم يقتلوكم بالحجارة، وقيل: المعنى يرجموكم بالقول، والأول أظهر وَكَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ أي كما أنمناهم وبعثناهم أطلعنا الناس عليهم لِيَعْلَمُوا الضمير للقوم الذين أطلعهم الله على أصحاب الكهف: أي أطلعناهم على حالهم من انتباههم من الرقدة الطويلة ليستدلوا بذلك على صحة البعث من القبور إِذْ يَتَنازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ العامل في إذ أعثرنا أو مضمر تقديره أذكر، والمتنازعون هم القوم الذين كانوا قد تنازعوا فيما يفعلون في أصحاب الكهف، أو تنازعوا هل هم أموات أو أحياء، وقيل: تنازعوا هل تحشر الأجساد أو الأرواح بالأجساد؟ فأراهم الله حال أصحاب الكهف ليعلموا أن الأجساد تحشر فَقالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْياناً أي على باب كهفهم إما ليطمس آثارهم أو ليحفظهم ويمنعهم ممن يريد أخذهم أو أخذ تربتهم تبركا، وإما ليكون علما على كهفهم ليعرف به. قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ قيل: يعني الولاة «وقيل: يعني المسلمين لأنهم كانوا أحق بهم من الكفار، فبنوا على باب الكهف مسجدا لعبادة الله سَيَقُولُونَ الضمير لمن كان في زمان النبي صلّى الله عليه وسلّم من اليهود أو غيرهم ممن تكلم في أصحاب الكهف رَجْماً بِالْغَيْبِ أي ظنا وهو مستعار من الرجم بمعنى الرمي سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قال قوم: إن الواو واو الثمانية لدخولها هنا وفي قوله: سبع ليال وثمانية أيام، وفي قوله في أهل الجنة: «وفتحت أبوابها» وفي قوله في براءة «والناهون عن المنكر» وقال البصريون: لا تثبت واو الثمانية وإنما الواو هنا كقوله: جاء زيد وفي يده سيف. قال الزمخشري: وفائدتها التوكيد. والدلالة على أن الذين قالوا سبعة وثامنهم كلبهم صدقوا وأخبروا بحق، بخلاف الذين قالوا ثلاثة ورابعهم كلبهم، والذين قالوا خمسة وسادسهم كلبهم، وقال ابن عطية: دخلت الواو في آخر إخبار عن عددهم لتدل على أن هذا نهاية ما قيل، ولو سقطت لصح الكلام، وكذلك دخلت السين في قوله سيقولون الأول، ولم تدخل في الثاني والثالث استغناء بدخولها في الأول ما يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ أي لا يعلم عدتهم إلا قليل من الناس، وهم من أهل الكتاب، قال ابن عباس: أنا من ذلك القليل، وكانوا سبعة وثامنهم كلبهم، لأنه قال في الثلاثة والخمسة: رجما بالغيب ولم يقل ذلك في سبعة وثامنهم كلبهم فَلا تُمارِ فِيهِمْ إِلَّا مِراءً ظاهِراً لا تمار: من المراء وهو

الجدال والمخالفة والإحتجاج، والمعنى لا تمار أهل الكتاب في عدة أصحاب الكهف إلا مراء ظاهرا، أي غير متعمق فيه من غير مبالغة ولا تعنيف في الردّ عليهم وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً أي لا تسأل أحدا من أهل الكتاب عن أصحاب الكهف، لأن الله قد أوحى إليك في شأنهم ما يغنيك عن السؤال وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ سببها أن قريشا سألوا اليهود عن أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقالوا لهم: اسألوه عن فتية ذهبوا في الزمان الأول وهم أصحاب الكهف، وعن رجل بلغ مشارق الأرض ومغاربها وهو ذو القرنين، وعن الروح، فإن أجابكم في الإثنين وسكت عن الروح فهو نبي، فسألوه فقال غدا أخبركم ولم يقل إن شاء الله، فأمسك عنه الله الوحي خمسة عشر يوما، فأوجف به كفار قريش وتكلموا في ذلك، فشق ذلك على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ثم جاء جبريل بسورة الكهف فقص عليه فيها قصة أصحاب الكهف وذي القرنين، وأنزل الله عليه هذه الآية تأديبا لهم وتعليما، فأمره بالاستثناء بمشيئة الله في كل أمر يريد أن يفعله فيما يستقبل، وقوله: غدا يريد به الزمان المستقبل، لا اليوم الذي بعد يومه خاصة، وفي الكلام حذف يقتضيه المعنى وتقديره: ولا تقولنّ لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن تقول: إن شاء الله أو تقول إلّا أن يشاء الله، والمعنى أن يعلق الأمر بمشيئة الله وحوله وقوته، ويبرأ هو من الحول والقوة، وقيل: إن قوله إلا أن يشاء الله بقوله لا تقولنّ. والمعنى لا تقولنّ ذلك القول إلا أن يشاء الله أن تقوله بأن يأذن لك فيه، فالمشيئة على هذا راجعة إلى القول لا إلى الفعل، ومعناها إباحة القول بالإذن فيه، حكى ذلك الزمخشري، وحكاه ابن عطية، وقال إنه من الفساد بحيث كان الواجب ألا يحكي. وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ. قال ابن عباس: الإشارة بذلك إلى الاستثناء، أي استثن بعد مدة إذا نسيت الاستثناء أولا، وذلك على مذهبه، فإن الاستثناء في اليمين ينفع بعد سنة، وأما مذهب مالك والشافعي فإنه لا ينفع إلا إن كان متصلا باليمين، وقيل معنى الآية: اذكر ربك إذا غضبت، وقيل اذكر إذا نسيت شيئا ليذكرك ما نسيت، والظاهر أن المعنى اذكر ربك إذا نسيت ذكره أي إرجع إلى الذكر إذا غفلت عنه، واذكره في كل حال، ولذلك قالت عائشة رضي الله عنها: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يذكر الله على كل أحيانه وَقُلْ عَسى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هذا رَشَداً هذا كلام أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يقوله، والإشارة بهذا إلى خبر أصحاب الكهف، أي عسى الله أن يؤتيني من الآيات والحجج ما هو أعظم في الدلالة على نبوّتي، من خبر أصحاب الكهف اللفظ يقتضي أن المعنى: يعني أن يوقفني الله تعالى من العلوم والأعمال الصالحات لما هو أرشد من خبر أصحاب أهل الكهف وأقرب إلى الله، وقيل: إن الإشارة بهذا إلى المنسي أي إذا نسيت شيئا فقل عسى أن يهديني الله إلى

[سورة الكهف (18) : الآيات 25 إلى 28]

شيء آخر هو أرشد من المنسيّ وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً في هذا قولان أحدهما: أنه حكاية عن أهل الكتاب يدل على ذلك ما في قراءة ابن مسعود: وقالوا لبثوا في كهفهم. وهو معطوف على سيقولون ثلاثة فقوله قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا رد عليهم في هذا العدد المحكي عنهم، القول الثاني أنه من كلام الله تعالى، وأنه بيان لما أجمل في قوله: فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً، ومعنى قوله: قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا على هذا أنه أعلم من الذين اختلفوا فيهم، وقد أخبر بمدة لبثهم، فإخباره هو الحق لأنه أعلم من الناس، وكان قوله: قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ احتجاجا على صحة ذلك الإخبار، وانتصب سنين على البدل من ثلاثمائة أو عطف بيان، أو على التمييز وذلك على قراءة التنوين في ثلاثمائة وقرئ بغير تنوين «1» على الإضافة ووضع الجمع موضع المفرد أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ أي ما أبصره وما أسمعه، لأن الله يدرك الخفيات كما يدرك الجليات ما لَهُمْ الضمير لجميع الخلق أو للمعاصرين للنبي صلّى الله عليه وسلّم وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً هو خبر في قراءة من قرأ بالياء، والرفع وقرئ بالتاء والجزم «2» على النهي لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ يحتمل أن يراد بالكلمات هنا القرآن، فالمعنى لا يبدل أحد القرآن ولا يغيره، ويحتمل إن يريد بالكلمات القضاء والقدر مُلْتَحَداً أي ملجأ تميل إليه. وَاصْبِرْ نَفْسَكَ أي احبسها صابرا مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ هم فقراء المسلمين: كبلال وخباب وصهيب وكان الكفار قد قالوا له: اطرد هؤلاء نجالسك نحن، فنزلت الآية بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ قيل: المراد الصلوات الخمس، وقيل: الدعاء على الإطلاق وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ أي لا تتجاوز عنهم إلى أبناء الدنيا، وقال الزمخشري: يقال عداه إذا جاوزه، فهذا الفعل يتعدى بنفسه دون حرف، وإنما تعدى هنا بعن لأنه تضمن معنى: نبت عينه عن الرجل إذا احتقره تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا جملة في موضع الحال فهي متصلة بما قبلها، وهي في معنى تعليل الفعل المنهي عنه في قوله: ولا تعد عيناك عنهم: أي لا تبعد عنهم من أجل إرادتك لزينة الدنيا أَغْفَلْنا قَلْبَهُ أي جعلناه غافلا أو وجدناه غافلا، وقيل: يعني أنه عيينة بن حصن الفزاري، والأظهر أنها مطلقة من غير تقييد فُرُطاً من التفريط والتضييع، أو من الإفراط والإسراف وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ أي هذا هو الحق فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ

_ (1) . وهي قراءة حمزة والكسائي والباقون بالتنوين. (2) . هي قراءة ابن عامر فقط: تشرك.

لفظه أمر وتخيير: ومعناه أن الحق قد ظهر فليختر كل إنسان لنفسه: إما الحق الذي ينجيه، أو الباطل الذي يهلكه، ففي ضمن ذلك تهديد سُرادِقُها السرادق في اللغة: ما أحاط بالشيء كالسور والجدار، وأما سرادق جهنم فقيل: حائط من نار، وقيل: دخان كَالْمُهْلِ وهو دردي الزيت إذ انتهى حره روى ذلك عن النبي صلّى الله تعالى عليه وعلى اله وسلّم وقيل: ما أذيب من الرصاص وشبهه مُرْتَفَقاً أي شيء يرتفق به، فهو من الرفق، وقيل: يرتفق عليه فهو من الارتفاق بمعنى الاتكاء أُولئِكَ لَهُمْ خبر إن، وإنا لا نضيع: اعتراض، ويجوز أن يكونا خبرين أو يكون إنا لا نضيع الخبر، وأولئك استئناف، ويقوم العموم في قوله: من أحسن مقام الضمير الرابط أو يقدر من أحسن عملا منه، وروى أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: إنها نزلت في أبي بكر وعمر وعثمان وعليّ رضي الله عنهم أَساوِرَ جمع أسوار وسوار، وهو ما يجعل في اليد، وقيل: أساور جمع أسورة وأسورة جمع سوار مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ السندس: رقيق الديباج، والإستبرق الغليظ منه الْأَرائِكِ الأسرة والفرش. وَاضْرِبْ لَهُمْ الضمير للكفار الذين قالوا: أطرد فقراء المسلمين، وللفقراء الذين أرادوا طردهم: أي مثل هؤلاء وهؤلاء كمثل هذين الرجلين، وهما أخوان من بني إسرائيل: أحدهما مؤمن، والآخر كافر: ورثا مالا عن أبيهما، فاشترى الكافر بماله جنتين، وأنفق المؤمن ماله في طاعة الله حتى افتقر، فعيره الكافر بفقره فأهلك الله مال الكافر، وروي أن اسم المؤمن تمليخا، واسم الكافر فطروس، وقيل: كانا شريكين اقتسما المال، فاشترى أحدهما بماله جنتين وتصدق الآخر بماله أُكُلَها بضم الهمزة اسم لما يؤكل، ويجوز ضم الكاف وإسكانها وَلَمْ تَظْلِمْ أي لم تنقص وَكانَ لَهُ ثَمَرٌ بضم الثاء والميم، أصناف المال من الذهب والفضة والحيوان وغير ذلك، قاله ابن عباس وقتادة، وقيل: هو الذهب والفضة خاصة، وهو من ثمّر ماله إذا أكثره ويجوز إسكان الميم تخفيفا، وأما بفتح الثاء والميم، فهو المأكول من الشجر، ويحتمل المعنى الآخر وَهُوَ يُحاوِرُهُ أي يراجعه في الكلام وَأَعَزُّ نَفَراً يعني الأنصار والخدم وَدَخَلَ جَنَّتَهُ أفرد الجنة هنا، لأنه إنما دخل الجنة الواحدة من الجنتين، إذ لا يمكن دخول الجنتين دفعة واحدة وَهُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ إما بكفره وإما بمقابلته لأخيه، فإنها تتضمن الفخر والكبر والاحتقار لأخيه

[سورة الكهف (18) : الآيات 36 إلى 44]

قالَ ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً يحتمل أن تكون الإشارة إلى السموات والأرض وسائر المخلوقات، فيكون قائلا ببقاء هذا الوجود كافرا بالآخرة أو تكون الإشارة إلى جنته، فيكون قوله إفراطا في الاغترار وقلة التحصيل وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي إن كان هذا على سبيل الفرض والتقدير كما يزعم أخي: لأجدن في الآخرة خيرا من جنتي في الدنيا، وقرئ خيرا منهما «1» . بضمير الإثنين للجنتين، وبضمير الواحد للجنة مُنْقَلَباً أي مرجعا أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ أي خلق منه أباك آدم، وإنما جعله كافرا لشكه في البعث سَوَّاكَ رَجُلًا كما تقول سوّاك إنسانا، ويحتمل أن يقصد الرجولية على وجه تعديد النعمة في أن لم يكن أنثى لكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي قرأ الجمهور بإثبات الألف في الوقف وحذفها في الوصل، والأصل على هذا لكن أنا، ثم ألقيت حركة الهمزة على الساكن قبلها، وحذفت ثم أدغمت النون في النون، وقرأ ابن عامر بإثبات الألف في الوصل والوقف، ويتوجه ذلك بأن تكون لحقتها نون الجماعة التي في خرجنا وضربنا، ثم أدغمت النون في النون وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ الآية: وصية من المؤمن للكافر، ولولا تحضيض فَعَسى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ يحتمل أن يريد في الدنيا أو الآخرة حُسْباناً أي أمرا مهلكا كالحر والبرد ونحو ذلك صَعِيداً زَلَقاً الصعيد: وجه الأرض، والزلق الذي لا يثبت فيه قدم يعني أنه تذهب أشجاره ونباته. غَوْراً أي غائرا ذاهبا وهو مصدر وصف به وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ عبارة عن هلاكها يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عبارة عن تلهفه وتأسفه وندمه وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها يريد أن السقف وقعت وهي العروش، ثم تهدمت الحيطان عليها، والحيطان على العروش وقيل: إن كرومها المعروشة سقطت على عروشها، ثم سقطت الكروم عليها وَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ قال ذلك على وجه التمني لما هلك بستانه، أو على وجه التوبة من الشرك هُنالِكَ ظرف يحتمل أن يكون العامل فيه منتصرا، أو يكون في موضع خبر الْوَلايَةُ لِلَّهِ بكسر الواو «2» بمعنى الرياسة والملك، وبفتحها من الموالاة والمودة وَخَيْرٌ عُقْباً «3»

_ (1) . وهي قراءة نافع وابن كثير وابن عامر، وأما الباقون فقرأوا: منها. (2) . قراءة حمزة والكسائي والباقون بفتح الواو. (3) . قرأ عاصم وحمزة: عقبا بسكون القاف والباقون بالضم.

[سورة الكهف (18) : الآيات 45 إلى 50]

أي عاقبة فَاخْتَلَطَ الباء سببية، والمعنى: صار به النبات مختلطا: أي ملتفا بعضه ببعض من شدة تكاثفه فَأَصْبَحَ هَشِيماً أي متفتتا، وأصبح هنا بمعنى صار تَذْرُوهُ الرِّياحُ أي تفرقه ومعنى المثل: تشبيه الدنيا في سرعة فنائها بالزرع في فنائه بعد خضرته. الْمالُ وَالْبَنُونَ الآية: هذا من الجمع بين شيئين في خبر واحد، وذلك من أدوات البيان، وقرئ زينتا بالتثنية لأنه خبر عن اثنين، وأما قراءة الجمهور فأفردت فيه الزينة لأنها مصدر وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ هي سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر. هذا قول الجمهور، وقد روى ذلك عن النبي صلّى الله عليه واله وسلّم، وقيل الصلوات الخمس، وقيل: الأعمال الصالحات على الإطلاق «1» نُسَيِّرُ الْجِبالَ أي نحملها، ومنه قوله: وهي تمر مر السحاب، وبعد ذلك تصير هباء وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً أي ظاهرة لزوال الجبال عنها وَحَشَرْناهُمْ قال الزمخشري: إنما جاء حشرناهم بلفظ الماضي بعد قوله: نسير للدلالة على أن حشرناهم قبل تسيير الجبال ليعاينوا تلك الأهوال فَلَمْ نُغادِرْ أي لم نترك فًّا أي صفوفا فهو إفراد تنزل منزلة الجمع، وقد جاء في الحديث: إن أهل الجنة مائة وعشرون صفا أنتم منها ثمانون صفا «2» قَدْ جِئْتُمُونا يقال هذا للكفار على وجه التوبيخ ما خَلَقْناكُمْ أي حفاة عراة غرلا [غير مختونين] وَوُضِعَ الْكِتابُ يعني صحائف الأعمال، فالكتاب اسم جنس كانَ مِنَ الْجِنِّ كلام مستأنف جرى مجرى التعليل لأباية إبليس عن السجود، وظاهر هذا الموضع يقتضي أن إبليس لم يكن من الملائكة، وأن استثناءه منهم استثناء منقطع، فإن الجن صنف غير الملائكة، وقد يجيب عن ذلك من قال: إنه كان من الملائكة بأن كان هنا بمعنى صار: أي خرج من صنف الملائكة إلى صنف الجن، أو بأن الملائكة كان منهم قوم يقال لهم الجن وهم الذين خلقوا من نار فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ: أي خرج عن ما أمر به، والفسق في اللغة: الخروج أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ: هذا توبيخ ووعظ، وذرية إبليس هم الشياطين واتخاذهم أولياء بطاعتهم في

_ (1) . انظر الطبري لدى تفسيره لهذه الآية فقد أسند هذه الأقوال لابن عباس وغيره. (2) . أخرجه أحمد من حديث عبد الله بن مسعود ج أول ص 567.

[سورة الكهف (18) : الآيات 51 إلى 57]

عصيان الله والكفر به ما أَشْهَدْتُهُمْ الضمير للشياطين على وجه التحقير لهم أو للكفار أو لجميع الخلق، فيكون فيه ردّ على المنجمين وأهل الطبائع وسائر الطوائف المتخرصة وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً أي معينا ومعنى المضلين: الذين يضلون العباد وذلك يقوّي أن المراد الشياطين وَيَوْمَ يَقُولُ نادُوا شُرَكائِيَ يقول هذا للكفار على وجه التوبيخ لهم، وأضاف تعالى الشركاء إلى نفسه على زعمهم، وقد بين هذا بقوله: الذين زعمتم مَوْبِقاً أي مهلكا، وهو اسم موضع أو مصدر من: وبق الرجل إذا هلك، وقد قيل: إنه واد من أودية جهنم، والضمير في بينهم للمشركين وشركائهم فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها الظن هنا بمعنى اليقين مَصْرِفاً أي معدلا ينصرفون إليه جَدَلًا أي مخاصمة ومدافعة بالقول ويقتضي سياق الكلام ذم الجدل، وسببها فيما قيل مجادلة النضر بن الحارث، على أن الإنسان هنا يراد به الجنس. وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا الآية: معناها أن المانع للناس من الإيمان والاستغفار هو القضاء عليهم بأن يأتيهم سنة الأمم المتقدمة، وهي الإهلاك في الدنيا، أو يأتيهم العذاب يعني عذاب الآخرة، ومعنى قبلا معاينة وقرئ بضمتين «1» وهو جمع قبيل: أي أنواعا من العذاب لِيُدْحِضُوا أي ليبطلوا وَما أُنْذِرُوا هُزُواً يعني العذاب وما موصلة، والضمير محذوف تقديره: أنذروه أو مصدرية إِنَّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً هذه عقوبة على الإعراض المحكي عنهم، أو تعليل لهم والأكنة جمع كنان وهو الغطاء، والوقر الصمم وهما على وجه الاستعارة، في قلة فهمهم للقرآن وعدم استجابتهم للإيمان فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً يريد به من قضى الله أنه لا يؤمن لَوْ يُؤاخِذُهُمْ الضمير لكفار قريش أو لسائر الناس لقوله: وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ [النحل: 61] والجملة خبر المبتدأ والغفور ذو الرحمة صفتان اعترضتا بين المبتدأ والخبر توطئة لما ذكر بعد من ترك المؤاخذة، ويحتمل أن يكون الغفور هو الخبر، ويؤاخذهم بيان لمغفرته ورحمته، والأول أظهر بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ قيل:

_ (1) . قرأ عاصم وحمزة والكسائي: قبلا. وقرأ الباقون: قبلا.

هو الموت وقيل: عذاب الآخرة وقيل: يوم بدر مَوْئِلًا أي ملجأ يقال: وئل الرجل إذا لجأ. وَتِلْكَ الْقُرى يعني: عادا وثمود وغيرهم من المتقدمين، والمراد هنا: أهل القرى ولذلك قال: أهلكناهم وفي ضمن هذا الإخبار تهديد لكفار قريش وَجَعَلْنا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً أي وقتا معلوما، والمهلك هنا بضم الميم وفتح اللام اسم مصدر من أهلك، فالمصدر على هذا على مضاف للمفعول لأن الفعل متعدي، وقرئ «1» بفتح الميم من هلك، فالمصدر على هذا مضاف للفاعل. وَإِذْ قالَ مُوسى لِفَتاهُ هذا ابتداء قصة موسى مع الخضر، وهو موسى بن عمران نبي الله، وفتاه هو يوشع بن نون وهو ابن أخت موسى وهو من ذرية يوسف عليه السلام، والفتى هنا بمعنى الخديم وسبب القصة فيما روي عن النبي صلّى الله تعالى عليه وعلى اله وسلّم في الحديث الصحيح: أن موسى عليه السلام خطب يوما في بني إسرائيل فقيل له: هل تعلم أحدا أعلم منك؟ فقال لا: فأوحى الله إليه أن بل عبدنا الخضر أعلم منك فقال: يا رب دلني على السبيل إلى لقائه فأوحى الله إليه أن يحمل حوتا في مكتل [زنبيل] ويسير بطول سيف [شاطئ] البحر حتى يبلغ مجمع البحرين، فإذا فقد الحوت فإن الخضر هناك، ففعل موسى ذلك حتى لقيه لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ قال موسى هذا الكلام وهو سائر أي: لا أبرح أسير حتى أبلغ مجمع البحرين، فحذف؟؟؟ خبر لا أبرح اختصارا لدلالة المعنى عليه، ومعنى لا أبرح هنا لا أزال، لأن حقيقة لا أبرح تقتضي الإقامة في الموضع، وكان موسى حين قالها على سفر لا يريد إقامة، ومجمع البحرين: عند طنجة حيث يجتمع البحر المحيط والبحر الخارج منه، وهو بحر الأندلس وقيل: هو مجمع بحر فارس وبحر الروم في المشرق أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً أي زمانا طويلا، والحقب بضم القاف وإسكانها ثمانون سنة، وقيل زمان غير محدود وقيل: هي جمع حقبة وهي السنة فَلَمَّا بَلَغا مَجْمَعَ بَيْنِهِما الضمير في بلغا لموسى وفتاه والضمير في بينهما للبحرين نَسِيا حُوتَهُما نسب النسيان إليهما، وإنما كان النسيان من الفتى وحده كما تقول فعل بنو فلان كذا: إذا فعله واحد منهم وقيل: نسى الفتى أن يقدمه ونسي موسى أن يأمره فيه بشيء فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً فاعل اتخذ الحوت، والمعنى أنه سار في البحر فقيل: إن الحوت كان ميتا مملوحا ثم صار حيا بإذن الله، ووقع في الماء فسار فيه.

_ (1) . مهلك: بفتح الميم وكسر اللام هي قراءة حفص وقرأ أبو بكر عن عاصم: بفتح اللام. وقرأ الباقون: بضم الميم وفتح اللام.

[سورة الكهف (18) : الآيات 62 إلى 66]

وقال ابن عباس: إنما حيي الحوت لأنه مسه ماء عين يقال لها عين الحياة ما مست قط شيئا إلا حيي، وفي الحديث أن الله أمسك جرية الماء عن الحوت فصار مثل السراب، وهو المسلك في جوف الأرض، وذلك معجزة لموسى عليه السلام وقيل: اتخذ الحوت سبيله في البحر سربا حتى وصل إلى البحر فعام على العادة، ويرد هذا ما ورد في الحديث فَلَمَّا جاوَزا أي جاوزا الموضع الذي وصف له، وهو الصخرة التي نام عندها فسار الحوت في البحر، بينما كان موسى نائما وكان ذهاب الحوت أمارة لقائه للخضر، فلما استيقظ موسى أصابه الجوع، فقال لفتاه: آتنا غداءنا نَصَباً أي تعبا قالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ قال الزمخشري: أرأيت هنا بمعنى أخبرني ثم قال، فإن قلت ما وجه التئام هذا الكلام، فإن كل واحد من أرأيت وإذ أوينا وفإني نسيت الحوت لا متعلق له؟ فالجواب أنه لما طلب موسى الحوت ذكر يوشع ما رأى منه، وما اعتراه من نسيانه، فدهش فطفق يسأل موسى عن سبب ذلك فكأنه قال: أرأيت ما دهاني إذ أوينا إلى الصخرة، فإني نسيت الحوت فحذف بعض الكلام نَسِيتُ الْحُوتَ أي نسيت أن أذكر لك ما رأيت من ذهابه في البحر وتقديره: نسيت ذكر الحوت أَنْ أَذْكُرَهُ بدل من الهاء في أنسانيه وهو بدل اشتمال. وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً يحتمل أن يكون هذا من كلام يوشع، أي اتخذ الحوت سبيله في البحر عجبا للناس أو اتخذ موسى سبيل الحوت عجبا أي تعجب هو منه وإعراب عجبا مفعول ثان لاتخذ مثل سربا وقيل: إن الكلام تم عند قوله في البحر ثم ابتدأ التعجب فقال عجبا وذلك بعيد قالَ ذلِكَ ما كُنَّا نَبْغِ أي فقد الحوت هو ما كنا نطلب لأنه أمارة على وجدان الرجل فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما قَصَصاً أي رجعا في طريقهما يقصان أثرهما الأول لئلا يخرجا عن الطريق فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا هو الخضر آتَيْناهُ رَحْمَةً يعني النبوة على قول من قال: إن الخضر نبيّ. وقيل: إنه ليس بنبيّ ولكنه وليّ، وتظهر نبوته من هذه القصة. أنه فعل أشياء لا يعملها إلا بوحي، واختلف أيضا هل مات أو هو حيّ إلى الآن؟ ويذكر كثير من الصلحاء أنهم يرونه ويكلمهم وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً في الحديث أن موسى وجد الخضر مسجّى بثوبه فقال له: السلام عليك فرفع رأسه وقال: وأنى بأرضك السلام قال له: من أنت؟ قال: أنا موسى قال موسى بني إسرائيل قال: نعم قال: أو لم يكن لك في بني إسرائيل ما يشغلك عن السفر إلى هنا؟ قال: بلى. ولكني أحببت لقاءك وأن أتعلم منك. قال: إني على علم من علم الله علمنيه لا تعلمه أنت، وأنت على علم من علم الله علمكه لا أعلمه أنا قالَ لَهُ مُوسى هَلْ أَتَّبِعُكَ الآية: مخاطبة فيها ملاطفة وتواضع وكذلك ينبغي أن يكون الإنسان مع من يريد أن يتعلم منه رُشْداً قرئ

[سورة الكهف (18) : الآيات 67 إلى 76]

بضم الراء وإسكان الشين وبفتحها «1» والمعنى واحد، وانتصب على أنه مفعول ثان بتعلمني أو حال من الضمير في أتبعك. فَانْطَلَقا الضمير لموسى والخضر. وفي الحديث أنهما انطلقا ماشيين على سيف البحر، حتى مرت بهما سفينة فعرفها الخضر فحمل فيها بغير نوال أي بغير أجرة خَرَقَها روي أن الخضر أزال لوحين من ألواحها شَيْئاً إِمْراً أي عظيما وقيل: منكرا فَانْطَلَقا يعني بعد نزولهما من السفينة فمرا بغلمان يلعبون، وفيهم غلام وضيء الصورة فاقتلع الخضر رأسه، وروي أن اسم الغلام جيسورا بالجيم، وقيل بالحاء المهملة قال الزمخشري: إن قلت لم قال خرقها بغير فاء، وقال فقتله بالفاء والجواب أن خرقها جواب الشرط، وقتله من جملة الشرط معطوف عليه والخبر: قال أقتلت نفسا، فإن قيل: لم خولف بينهما؟ فالجواب: أن خرق السفينة لم يتعقب الركوب وقد تعقب القتل لقاء الغلام نفسا زاكية «2» قيل: إنه كان لم يبلغ، فمعنى زكية ليس له ذنب وقيل: إنه كان بالغا، ولكنه لم ير له الخضر ذنبا بِغَيْرِ نَفْسٍ يقتضي أنه لو كان قد قتل نفسا لم يكن بقتله بأس على وجه القصاص، وهذا يدل على أن الغلام كان بالغا فإن غير البالغ لا يقتل وإن قتل نفسا شَيْئاً نُكْراً أي منكرا وهو أبلغ من قوله: إمرا ويجوز ضم الكاف وإسكانها قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ بزيادة لك فيه من الزجر والإغلاظ ما ليس في قوله أولا: أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً بَعْدَها الضمير للقصة وإن لم يتقدم لها ذكر، ولكن سياق الكلام يدل عليها قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً أي قد أعذرت إليّ فأنت معذور عندي، وفي الحديث كانت الأولى من موسى نسيانا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ قيل: هي أنطاكية، وقيل برقة. وقال أبو هريرة وغيره: هي بالأندلس ويذكر أنها الجزيرة الخضراء وذلك على قول أن مجمع البحرين عند طنجة وسبتة اسْتَطْعَما أَهْلَها أي طلبا منهم طعاما جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ أن يسقط وإسناده الإرادة إلى الجدار مجاز، ومثل ذلك كثير في كلام العرب،

_ (1) . قرأ أبو عمرو: رشدا. وقرأ الباقون: رشدا. (2) . قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو: زاكية. وقرأ الباقون: زكية بدون ألف.

[سورة الكهف (18) : الآيات 82 إلى 86]

وحقيقته أنه قارب أن ينقضّ ووزن ينقضّ ينفعلّ وقيل: يفعلّ بالتشديد كيحمرّ فَأَقامَهُ قيل: إنه هدمه ثم بناه وقيل مسحه بيده وأقامه فقام لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً أي قال موسى للخضر: لو شئت لاتخذت عليه أجرا أي طعاما نأكله قالَ هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ إنما قال له هذا لأجل شرطه في قوله: «إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني» على أن قوله «لو شئت لاتخذت عليه أجرا» ليس بسؤال ولكن في ضمنه أمر بأخذ الأجرة عليه لأنهما كانا محتاجين إلى الطعام، والبين هنا ليس بظرف وإنما معناه الوصلة والقرب، وقال الزمخشري: الأصل هذا فراق بيني وبينك بتنوين فراق ونصب بيني على الظرفية، ثم أضيف المصدر إلى الظرف والإشارة بقوله هذا إلى السؤال الثالث، الذي أوجب الفراق. أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ قيل: إنهم تجار، ولكنه قال فيهم: مساكين على وجه الإشفاق عليهم، لأنهم كانوا يغصبون سفينتهم أو لكونهم في لجج البحر، وقيل: كانوا إخوة عشرة منهم خمسة عالمون بالسفينة، وخمسة ذوو عاهات لا قدرة لهم وقرئ مسّاكين بتشديد السين، أي يمسكون السفينة وَكانَ وَراءَهُمْ قيل: معناه قدامهم، وقرأ ابن عباس أمامهم، وقال ابن عطية: إن وراءهم على بابه ولكن روعي به الزمان فالوراء هو المستقبل والأمام هو الماضي كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً عموم معناه الخصوص في الجياد والصحاح من السفن، ولذلك قرأ ابن مسعود: يأخذ كل سفينة صالحة، وقيل: إن اسم هذا الملك هدد بن يدد وهذا يفتقر إلى نقل صحيح، وفي الكلام تقديم وتأخير، لأن قوله فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها. مؤخر في المعنى عن ذكر غصبها لأن خوف الغصب سبب في أنه عابها وإنما قدم للعناية به. وَأَمَّا الْغُلامُ روي أنه كان كافرا، وروي أنه كان يفسد في الأرض، فَخَشِينا أَنْ يُرْهِقَهُما المتكلم بذلك الخضر وقيل: إنه من كلام الله وتأويله على هذا فكرهنا، وقال ابن عطية: إنه من نحو ما وقع في القرن «1» من عسى ولعل، وإنما هو في حق المخاطبين ومعنى: يرهقهما طغيانا وكفرا: يكلفهما ذلك، والمعنى أن يحملهما حبه على اتباعه أو يضر بهما لمخالطته مع مخالفته لهما خَيْراً مِنْهُ أي غلاما آخرا خيرا من الغلام المذكور المقتول زَكاةً أي طهارة وفضيلة في دينه وَأَقْرَبَ رُحْماً أي رحمة وشفقة، فقيل: المعنى أن يرحمهما، وقيل يرحمانه لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ اليتيم من فقد أبويه قبل البلوغ، وروي أن اسم الغلامين أصرم وصريم، واسم أبيهما كاشح وهذا

_ (1) . القرن كذا ولعل الصواب: الفرق.

[سورة الكهف (18) : الآيات 87 إلى 96]

يحتاج إلى صحة نقل كَنْزٌ لَهُما قيل مال عظيم، وقيل: كان علما في صحف مدفونة، والأول أظهر وَكانَ أَبُوهُما صالِحاً قيل: إنه الأب السابع، وظاهر اللفظ أنه الأقرب فَأَرادَ رَبُّكَ أسند الإرادة هنا إلى الله لأنها في أمر مغيب مستأنف لا يعلم ما يكون منه إلا الله، وأسند الخضر إلى نفسه في قوله فأردت أن أعيبها لأنها لفظة عيب، فتأدب بأن لا يسندها إلى الله وذلك كقول إبراهيم عليه السلام وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ [الشعراء: 80] فأسند المرض إلى نفسه والشفاء إلى الله تأدبا، واختلف في قوله: فأردنا أن يبدلهما هل هو مسند إلى ضمير الخضر أو إلى الله، وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي هذا دليل على نبوّة الخضر، لأن المعنى أنه فعل بأمر الله أو بوحي. وَيَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ السائلون اليهود، أو قريش بإشارة اليهود، وذو القرنين هو الإسكندر الملك، وهو يوناني وقيل رومي «1» وكان رجلا صالحا، وقيل كان نبيا، وقيل كان ملكا بفتح اللام والصحيح أنه ملك بكسر اللام واختلف لم سمي ذو القرنين فقيل: كان له ضفيرتان من شعرهما قرناه، فسمى بذلك وقيل: لأنه بلغ المشرق والمغرب وكأنه حاز قرني الدنيا إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ التمكين له أنه ملك الدنيا ودانت له الملوك كلهم آتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً أي علما وفهما، يتوصل به إلى معرفة الأشياء والسبب ما يتوصل به إلى المقصود من علم أو قدرة أو غير ذلك فَأَتْبَعَ سَبَباً أي طريقا يوصله وَجَدَها تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ قرئ بالهمز على وزن فعلة أي ذات حمأة وقرئ بالياء «2» على وزن فاعلة وقد اختلف في ذلك معاوية وابن عباس فقال ابن عباس: حمئة وقال معاوية حامية فبعثا إلى كعب الأحبار ليخبرهما بالأمر فقال: أما العربية فأنتما أعلما بها مني، ولكني أجد في التوراة أنها تغرب في ماء وطين، فوافق ذلك قراءة ابن عباس ومعنى حامية حارة، ويحتمل أن يكون بمعنى حمية ولكن سهلت همزته ويتفق معنى القراءتين. وقد قيل: يمكن أن يكون فيها حمئة ويكون حارة لحرارة الشمس فتكون جامعة للموضعين، ويجتمع معنى القراءتين قُلْنا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ استدل بهذا من قال إن ذا القرنين نبيّ لأن هذا القول وحي ويحتمل أن يكون بإلهام فلا يكون فيه دليل على نبوته إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً كانوا كفارا فخيره الله بين أن يعذبهم بالقتل، أو يدعوهم إلى الإسلام، فيحسن إليهم وقيل: الحسن هنا هو الأسر، وجعله حسنا بالنظر إلى القتل قالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ اختار أن يدعوهم إلى الإسلام، فمن تمادى على الكفر قتله ومن أسلم

_ (1) . لا يصح فاسكندر المقدوني كان وثنيا وأما المذكور في القرآن فكان مؤمنا. والله أعلم. (2) . قرأ ابن عامر وحمزة والكسائي وأبو بكر: حامية وقرأ الباقون: حمئة. [.....]

أحسن إليه، والظلم هنا الكفر والعذاب القتل وأراد بقوله: عذابا نكرا عذاب الآخرة فَلَهُ جَزاءً الْحُسْنى المراد بالحسنى الجنة أو الأعمال الحسنة وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنا يُسْراً وعدهم بأن ييسر عليهم وَجَدَها تَطْلُعُ عَلى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِها سِتْراً هؤلاء القوم هم الزنج وهم أهل الهند ومن وراءهم، ومعنى لم نجعل الآية أنهم ليس لهم بنيان إذ لا تحمل أرضهم البناء وإنما يدخلون من حر الشمس في أسراب تحت الأرض وقال ابن عطية: الظاهر أنها عبارة عن قرب الشمس منهم وقيل: الستر اللباس فكانوا على هذا لا يلبسون الثياب كَذلِكَ أي أمر ذي القرنين كذلك، أي كما وصفناه تعظيما لأمره وقيل: إن كذلك راجع لما قبله أي لم نجعل لهم سترا، كما جعلنا لكم من المباني والثياب، وقيل: المعنى وجد عندها قوما كذلك، أي مثل القوم الذين وجدوا عند مغرب الشمس وفعل معهم مثل فعله بَيْنَ السَّدَّيْنِ أي الجبلين وهما جبلان في طرف الأرض، وقرئ بالفتح «1» والضم وهما بمعنى واحد، وقيل ما كان من خلقة الله فهو مضموم وما كان من فعل الناس فهو مفتوح وَجَدَ مِنْ دُونِهِما قَوْماً قيل هم الترك لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا عبارة عن بعد لسانهم عن ألسنة الناس، فهم لا يفقهون القول إلا بالإشارة أو نحوها يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ قبيلتان من بني آدم في خلقهم تشويه، منهم مفرط الطول ومفرط القصر مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ لفسادهم بالقتل والظلم وسائر وجوه الشر، وقيل: كانوا يأكلون بني آدم. فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا هذا استفهام في ضمنه عرض ورغبة، والخرج الجباية يقال فيه خراج وقد قرئ بهما، فعرضوا عليه أن يجعلوا له أموالا ليقيم بها السد قالَ ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ أي ما بسط الله لي من الملك خير من خرجكم، فلا حاجة لي به ولكن أعينوني بقوة الأبدان وعمل الأيدي رَدْماً أي حاجزا حصيبا، والردم أعظم من السد ساوى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ أي بين الجبلين قالَ انْفُخُوا يريد نفخ الكير أي أوقدوا النار على الحديد قِطْراً أي نحاسا مذابا وقيل هو الرصاص، وروى أنه حفر الأساس حتى بلغ الماء ثم جعل البنيان من زبر الحديد حتى ملأ به ما بين

_ (1) . قرأ ابن عامر وحمزة والكسائي بضم السين وقرأ الباقون بالفتح.

[سورة الكهف (18) : الآيات 97 إلى 109]

الجبلين ثم أفرغ عليه النحاس المذاب فَمَا اسْطاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ أصل اسطاعوا استطاعوا حذفت التاء تخفيفا، والضمير في يظهروه للسدّ، ومعنى يظهروه يعلوه ويصعدوا على ظهره فالمعنى أن يأجوج ومأجوج لا يقدرون أن يصعدوا على السدّ لارتفاعه ولا ينقبوه لقوته قالَ هذا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي القائل ذو القرنين وأشار إلى الردم فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي يعني القيامة جعله دكا أي مبسوطا مسوى بالأرض وَتَرَكْنا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ الضمير في تركنا لله عز وجل، ويومئذ يحتمل أن يريد به يوم القيامة، لأنه قد تقدم ذكره فالضمير في قوله بعضهم على هذا لجميع الناس، أو يريد بقوله يومئذ يوم كمال السد، والضمير في قوله: بعضهم على هذا ليأجوج ومأجوج، والأول أرجح لقوله بعد ذلك: ونفخ في الصور فيتصل الكلام ويموج عبارة عن اختلاطهم واضطرابهم وَنُفِخَ فِي الصُّورِ الصور هو القرن الذي ينفخ فيه يوم القيامة حسبما جاء في الحديث، ينفخ فيه إسرافيل نفختين إحداهما للصعق والأخرى للقيام من القبور وَعَرَضْنا جَهَنَّمَ أي أظهرناها كانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطاءٍ عبارة عن عمى بصائرهم وقلوبهم، وكذلك لا يستطيعون سمعا أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبادِي مِنْ دُونِي أَوْلِياءَ يعني أنهم لا يكونون لهم أولياء، كما حكي عنهم أنهم يقولون أنت ولينا من دونهم، والعباد هنا من عبد مع الله ممن لا يريد ذلك كالملائكة وعيسى ابن مريم أَعْتَدْنا أي يسرنا نُزُلًا ما ييسر للضيف والقادم عند نزوله، والمعنى أن جهنم لهم بدل النزل كما أن الجنة نزل في قوله «كانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا» ويحتمل أن يكون النزل موضع النزول. قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالًا الآية في كفار العرب كقوله: كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقائِهِ وقيل: في الرهبان لأنهم يتعبدون يظنون أن عبادتهم تنفعهم وهي لا تقبل منهم، وفي قوله: يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ تجنيس وهو الذي يسمى تجنيس التصحيف فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً أي ليس لهم حسنة توزن لأن أعمالهم قد حبطت جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ هي أعلى الجنة حسبما ورد في الحديث ولفظ الفردوس أعجمي معرب حِوَلًا أي تحوّلا وانتقالا قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي الآية إخبار عن اتساع علم الله تعالى

[سورة الكهف (18) : آية 110]

والكلمات هي المعاني القائمة بالنفس وهي المعلومات، فمعنى الآية لو كتب علم الله بمداد البحر لنفد البحر ولم ينفد علم الله، وكذلك لو جيء ببحر آخر مثله وذلك لأن البحر متناه وعلم الله غير متناه بِمِثْلِهِ مَدَداً أي زيادة والمدد هو ما يمد به الشيء أي يكثر فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ إن كان الرجاء هنا على بابه فالمعنى يرجو حسن لقاء ربه وأن يلقاه لقاء رضا وقبول، وإن كان الرجاء بمعنى الخوف فالمعنى يخاف سوء لقاء ربه، وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً يحتمل أن يريد الشرك بالله وهو عبادة غيره فيكون راجعا إلى قوله يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ أو يريد الرياء لأنه الشرك الأصغر واللفظ يحتمل الوجهين، ولا يبعد أن يحمل على العموم في المعنيين والله أعلم.

سورة مريم

سورة مريم مكية إلا آيتي 58 و 71 فمدنيتان وآياتها 98 نزلت بعد فاطر بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (سورة مريم) كهيعص قد تكلمنا في أول البقرة على حروف الهجاء، وكان علي بن أبي طالب يقول في دعائه: يا كهيعص، فيحتمل أن تكون الجملة عنده اسما من أسماء الله تعالى، أو ينادي بالأسماء التي اقتطعت منها هذه الحروف ذِكْرُ تقديره هذا ذكر عَبْدَهُ زَكَرِيَّا وصفه بالعبودية تشريفا له، وإعلاما له بتخصيصه وتقريبه، ونصب عبده على أنه مفعول لرحمة، فإنها مصدر أضيف إلى الفاعل، ونصب المفعول، وقيل: هو مفعول بفعل مضمر، تقديره: رحمة عبده وعلى هذا يوقف على ما قبله وهذا ضعيف، وفيه تكلف الإضمار من غير حاجة إليه، وقطع العامل عن العمل بعد تهيئته له إِذْ نادى رَبَّهُ يعنى دعاه نِداءً خَفِيًّا أخفاه لأنه يسمع الخفي كما يسمع الجهر، ولأن الإخفاء أقرب إلى الإخلاص وأبعد من الرياء، ولئلا يلومه الناس على طلب الولد وَهَنَ الْعَظْمُ أي ضعف وَاشْتَعَلَ استعارة للشيب من اشتعال النار وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا أي قد سعدت بدعائي لك فيما تقدم، فاستجب لي في هذا، فتوسل إلى الله بإحسانه القديم إليه وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ يعنى: الأقارب قيل: خاف أن يرثوه دون نسله، وقيل: خاف أن يضيعوا الدين من بعده مِنْ وَرائِي أي من بعدي عاقِراً أي عقيما فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يعنى وارثا يرثني، قيل: يعنى وراثة المال، وقيل: وراثة العلم والنبوة، وهو أرجح لقوله صلّى الله تعالى عليه واله وسلّم: «نحن معاشر الأنبياء لا نورث» «1» وكذلك يَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ العلم والنبوة، وقيل: الملك، ويعقوب هنا هو يعقوب بن إسحاق على الأصح رَضِيًّا أي مرضيا فهو فعيل: بمعنى مفعول سَمِيًّا يعنى من سمي باسمه، وقيل: مثيلا ونظيرا،

_ (1) . الحديث مشهور وورد في الصحيحين وأحمد بلفظ: لا نورث ما تركناه صدقة ج 1/ ص 5.

[سورة مريم (19) : الآيات 8 إلى 19]

والأول أحسن هنا أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ تعجب واستبعاد أن يكون له ولد مع شيخوخته وعقم امرأته، فسأل ذلك أولا لعلمه بقدرة الله عليه، وتعجب منه لأنه نادر في العادة، وقيل: سأله وهو في سنّ من يرجوه، وأجيب بعد ذلك بسنين وهو قد شاخ عِتِيًّا قيل: يبسا في الأعضاء والمفاصل، وقيل: مبالغة في الكبر كَذلِكَ الكاف في موضع رفع، أي الأمر كذلك، تصديقا له فيما ذكر من كبره وعقم امرأته، وعلى هذا يوقف على قوله. كذلك. ثم يبتدأ: قال ربك، وقيل: إن الكاف في موضع نصب بقال، وذلك إشارة إلى مبهم يفسره: هو عليّ هين اجْعَلْ لِي آيَةً أي علامة على حمل امرأته سَوِيًّا أي سليما غير أخرس، وانتصابه على الحال من الضمير في تكلم، والمعنى أنه لا يكلم الناس مع أنه سليم من الخرس، وقيل: إن سويا يرجع إلى الليالي أي مستويات فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أي أشار، وقيل: كتب في التراب إذ كان لا يقدر على الكلام أَنْ سَبِّحُوا قيل: معناه صلوا، والسبحة في اللغة الصلاة، وقيل: قولوا سبحان الله يا يَحْيى التقدير قال الله ليحيى بعد ولادته: خُذِ الْكِتابَ يعنى التوراة بِقُوَّةٍ أي في العلم به والعمل به وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا قيل: الحكم، معرفة الأحكام، وقيل: الحكمة، وقيل: النبوة وَحَناناً قيل: معناه رحمة وقال ابن عباس: لا أدري ما الحنان وَزَكاةً أي طهارة، وقيل، ثناء كما يزكى الشاهد. وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ خطاب لمحمد صلّى الله عليه وسلّم والكتاب القرآن إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها أي اعتزلت منهم وانفردت عنهم مَكاناً شَرْقِيًّا أي إلى جهة الشرق فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا يعنى جبريل، وقيل: عيسى، والأول هو الصحيح لأن جبريل هو الذي تمثل لها باتفاق قالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا لما رأت الملك الذي تمثل لها في صورة البشر، قد دخل عليها خافت أن يكون من بني آدم، فقالت له هذا الكلام، ومعناه: إن كنت ممن يتقي الله فابعد عني، فإني أعوذ بالله منك، وقيل: إن تقيا اسم رجل معروف بالشرّ عندهم وهذا ضعيف وبعيد لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا الغلام الزكيّ هو عيسى عليه

[سورة مريم (19) : الآيات 20 إلى 25]

السلام، وقرئ ليهب «1» بالياء، والفاعل فيه هو ضمير الرب سبحانه وتعالى، وقرئ بهمزة التكلم، وهو جبريل، وإنما نسب الهبة إلى نفسه، لأنه هو الذي أرسله الله بها، أو يكون قال ذلك حكاية عن الله تعالى وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا البغيّ هي المرأة المجاهرة بالزنا، ووزن بغيّ فعول وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً الضمير للولد واللام تتعلق بمحذوف تقديره: لنجعله آية فعلنا ذلك فَحَمَلَتْهُ يعنى: في بطنها وكانت مدة حملها ثمانية أشهر، وقال ابن عباس: حملته وولدته في ساعة مَكاناً قَصِيًّا أي بعيدا، وإنما بعدت حياء من قومها أن يظنوا بها الشر فَأَجاءَهَا معناه: ألجأها وهو منقول من جاء بهمزة التعدية الْمَخاضُ أي النفاس إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ روي أنها احتضنت الجذع لشدة وجع النفاس قالَتْ يا لَيْتَنِي مِتُّ إنما تمنت الموت خوفا من إنكار قومها، وظنهم بها الشر، ووقوعهم في دمها وتمني الموت جائز في مثل هذا، وليس هذا من تمني الموت لضر نزل بالبدن فإنه منهي عنه. وَكُنْتُ نَسْياً النسي الشيء الحقير الذي لا يؤبه له، ويقال بفتح النون «2» وكسرها فَناداها مِنْ تَحْتِها قرئ من بفتح الميم «3» وكسرها، وقد اختلف على كلتا القراءتين، هل هو جبريل أو عيسى، وعلى أنه جبريل قيل: إنه كان تحتها كالقابلة، وقيل: كان في مكان أسفل من مكانها أَلَّا تَحْزَنِي تفسير للنداء، فأن مفسرة سَرِيًّا جدولا وهي ساقية من ماء كان قريبا من جذع النخلة، روي أن النبي صلّى الله عليه وسلّم فسره بذلك، وقيل: يعنى عيسى فإن السري الرجل الكريم وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ كان جذعا يابسا، فخلق الله فيه الرطب كرامة لها وتأنيسا، وقد استدل بعض الناس بهذه الآية على أن الإنسان ينبغي له أن يتسبب في طلب الرزق، لأن الله أمر مريم بهز النخلة، والباء في بجذع زائدة كقوله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا الفاعل بتساقط النخلة، وقرئ بالياء والفاعل على ذلك الجذع، ورطبا تمييز، والجني معناه: الذي طاب وصلح لأن يجتنى فَكُلِي وَاشْرَبِي أي كلي من الرطب، واشربي من ماء الجدول، وهو السري وَقَرِّي عَيْناً أي طيبي نفسا بما جعل الله لك من ولادة نبي كريم، أو من تيسير المأكول والمشروب فَإِمَّا تَرَيِنَّ هي إن الشرطية دخلت عليها ما الزائدة للتأكيد، وترين

_ (1) . قرأ أبو عمرو ورش والحلواني عن نافع: ليهب. وقرأ الباقون: لأهب. (2) . قرأ حمزة وحفص: نسيا وقرأ الباقون: نسيا. (3) . قرأ أبو عمرو وابن كثير وابن عامر من تحتها وقرأ الباقون: من تحتها. فيها ثلاث قراءات: حفص: تساقط وحمزة: تساقط والباقون: تساقط.

[سورة مريم (19) : الآيات 36 إلى 47]

فعل خوطبت به المرأة، ودخلت عليه النون الثقيلة للتأكيد نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً أي صمتا عن الكلام، وقيل: يعنى الصيام لأن من شرطه في شريعتهم الصمت، وإنما أمرت بالصمت صيانة لها عن الكلام مع المتهمين لها، ولأن عيسى تكلم عنها، فإخبارها بأنها نذرت الصمت بهذا الكلام، وقيل: بالإشارة، ولا يجوز في شريعتنا نذر الصمت فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَها لما رأت الآيات: علمت أن الله سيبين عذرها، فجاءت به من المكان القصي إلى قومها شَيْئاً فَرِيًّا أي شنيعا وهو من الفرية. يا أُخْتَ هارُونَ كان هارون عابدا من بني إسرائيل، شبهت به مريم في كثرة العبادة فقيل لها أخته بمعنى أنها شبهه، وقيل: كان أخاها من أبيها، وكان رجلا صالحا، وقيل: هو هارون النبي أخو موسى وكانت من ذريته، فأخت على هذا كقولك: أخو بني فلان أي واحد منهم، ولا يتصور على هذا القول أن تكون أخته من النسب حقيقة، فإن بين زمانهما دهرا طويلا فَأَشارَتْ إِلَيْهِ أي إلى ولدها ليتكلم وصمتت هي كما أمرت كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا كان بمعنى يكون، والمهد هو المعروف، وقيل المهد هنا حجرها آتانِيَ الْكِتابَ يعنى الإنجيل، أو التوراة والإنجيل مُبارَكاً من البركة وقيل: نفاعا، وقيل: معلما للخير. واللفظ أعم من ذلك وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ هما المشروعتان، وقيل: الصلاة هنا الدعاء، والزكاة: التطهير من العيوب وَبَرًّا معطوف على مباركا، روي أن عيسى تكلم بهذا الكلام وهو في المهد، ثم عاد إلى حالة الأطفال على عادة البشر، وفي كلامه هذا ردّ على النصارى، لأنه اعترف أنه عبد الله، وردّ على اليهود لقوله: وجعلني نبيا وَالسَّلامُ عَلَيَّ أدخل لام التعريف هنا لتقدّم السلام المنكر في قصة يحيى، فهو كقولك: رأيت رجلا فأكرمت الرجل، وقال الزمخشري: الصحيح أن هذا التعريف تعريض بلغة من اتهم مريم كأنه قال: السلام كله عليّ لا عليكم، بل عليكم ضدّه قَوْلَ الْحَقِّ بالرفع خبر مبتدإ تقديره: هذا قول الحق، أو بدل أو خبر بعد خبر، وبالنصب «1» على المدح بفعل مضمر، أو على المصدرية من معنى الكلام المتقدم فِيهِ يَمْتَرُونَ أي يختلفون فهو من المراء، أو يشكون فهو من المرية، والضمير لليهود والنصارى وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي من كلام عيسى وقرئ بفتح الهمزة «2» تقديره ولأن الله ربي وربكم فاعبدوه، وبكسرها لابتداء

_ (1) . قرأ عاصم وابن عامر: قول. وقرأ الباقون: قول. (2) . قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو: وأنّ. وقرأ أهل الشام والكوفة: وإنّ.

الكلام، وقيل: هو من كلام النبي صلّى الله تعالى عليه وعلى اله وسلّم، والمعنى: يا محمد قل لهم ذلك عيسى ابن مريم، وأن الله ربي وربكم، والأول أظهر فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ هذا ابتداء إخبار، والأحزاب اليهود والنصارى، لأنهم اختلفوا في أمر عيسى اختلافا شديدا، فكذبه اليهود وعبده النصارى، والحق خلاف أقوالهم كلها مِنْ بَيْنِهِمْ معناه من تلقائهم، ومن أنفسهم وأن الاختلاف لم يخرج عنهم مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ يعنى قوم القيامة أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنا أي ما أسمعهم وما أبصرهم يوم القيامة، على أنهم في الدنيا في ضلال مبين. يَوْمَ الْحَسْرَةِ هو يوم يؤتى بالموت في صورة كبش فيذبح ثم يقال: يا أهل الجنة خلود لا موت ويا أهل النار خلود لا موت «1» ، وقيل: هو يوم القيامة وانتصاب يوم على المفعولية، لا على الظرفية وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ يعنى في الدنيا، فهو متعلق بقوله في ضلال مبين أي بأنذرهم صِدِّيقاً بناء مبالغة من الصدق أو من التصديق، ووصفه بأنه صدّيق قبل الوحي نبّئ بعده، ويحتمل أنه جمع الوصفين ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ يعنى الأصنام صِراطاً سَوِيًّا أي قويما لَأَرْجُمَنَّكَ قيل: يعنى الرجم بالحجارة وقيل: الشتم وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا أي حينا طويلا، وعطف اهجرني على محذوف تقديره احذر رجمي لك قالَ سَلامٌ عَلَيْكَ وداع مفارقة، وقيل: مسالمة لا تحية لأن ابتداء الكافر بالسلام لا يجوز سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ وعد، وهو الذي أشير إليه بقوله: عن موعدة وعدها إيّاه قال ابن عطية، معناه: سأدعو الله أن يهديك فيغفر لك بإيمانك، وذلك لأن الاستغفار للكافر لا يجوز، وقيل: وعده أن يستغفر له مع كفره، ولعله كان لم يعلم أن الله لا يغفر للكفار حتى أعلمه بذلك، ويقوى هذا القول قوله: وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ [الشعراء: 86] ، ومثل

_ (1) . حديث ذبح الموت رواه أبو سعيد الخدري وأخرجه الشيخان والنسائي والترمذي ولفظه: بالموت يوم القيامة كهيئة كبش أملح فينادى مناد: يا أهل الجنة فيشرئبون وينظرون فيقول: هل تعرفون هذا؟ فيقولون نعم. هذا الموت وكلهم قد رأوه. وينادى مناد: يا أهل النار ... فيذبح بين الجنة والنار ثم يقول: يا أهل الجنة خلود فلا موت، ويا أهل النار خلود فلا موت ثم قرأ وأنذرهم يوم الحسرة إذ قضي الأمر إلخ. انظر صحيح البخاري ج 5/ 236 كتاب التفسير رقم الباب 19.

[سورة مريم (19) : الآيات 48 إلى 59]

هذا قول النبي صلّى الله عليه وسلّم لأبي طالب: لأستغفرن لك ما لم أنه عنك حَفِيًّا أي بارّا متلطفا وَأَعْتَزِلُكُمْ وَما تَدْعُونَ أي ما تعبدون إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ هما ابنه وابن ابنه، وهبهما الله له عوضا من أبيه وقومه الذين اعتزلهم مِنْ رَحْمَتِنا النبوّة، وقيل: المال والولد، واللفظ أعم من ذلك، لسان صدق يعنى الثناء الباقي عليهم إلى آخر الدهر مُخْلَصاً بكسر اللام أي أخلص نفسه وأعماله لله وبفتحها أي أخلصه الله للنبوّة والتقريب وَكانَ رَسُولًا نَبِيًّا النبي أعم من الرسول، لأن النبي كل من أوحى الله إليه، ولا يكون رسولا حتى يرسله الله إلى الناس مع النبوّة، فكل رسول نبيّ وليس كل نبي رسولا وَنادَيْناهُ هو تكليم الله له الطُّورِ وهو الجبل المشهور بالشام الْأَيْمَنِ صفة للجانب، وكان على يمين موسى حين وقف عليه ويحتمل أن يكون من اليمن نَجِيًّا النجي فعيل وهو المنفرد بالمناجاة وقيل: هو من المناجاة، والأول أصح مِنْ رَحْمَتِنا من سببية أو للتبعيض، وأخاه على الأول مفعول وعلى الثاني بدل إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ روي أنه وعد رجلا إلى مكان فانتظره فيه سنة، وقيل: الإشارة إلى صدق وعده في قصة الذبح في قوله سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ [الصافات: 102] ، وهذا يدل على قول من قال: إن الذبيح هو إسماعيل. إِدْرِيسَ هو أول نبيّ بعث إلى أهل الأرض بعد آدم، وهو أول من خط بالقلم، ونظر في علم النجوم وخاط الثياب، وهو من أجداد نوح عليه السلام وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا في حديث الإسراء: وإنه في السماء الرابعة «1» ، وقيل: يعنى رفعة النبوة وتشريف منزلته. والأول أشهر ورجحه الحديث أُولئِكَ إشارة إلى كل من ذكر في هذه السورة، من زكريا إلى إدريس مِنَ النَّبِيِّينَ من هنا للبيان، والتي بعدها للتبعيض مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ يعنى نوحا وإدريس وَمِمَّنْ حَمَلْنا يعنى إبراهيم وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْراهِيمَ يعنى إسماعيل وإسحاق ويعقوب وَإِسْرائِيلَ يعنى أن من ذريته موسى وهارون ومريم وعيسى وزكريا ويحيى وَمِمَّنْ هَدَيْنا يحتمل العطف على من الأولى أو الثانية بُكِيًّا جمع باك ووزنه فعول فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ يقال في عقب الخير

_ (1) . ورد في البخاري كتاب بدء الخلق ج 4/ ص 77 وفيه: «فأتينا السماء الرابعة. قيل من هذا؟ قيل جبريل. قيل: ومن معك؟ قيل: محمد صلّى الله عليه وسلّم قيل: وقد أرسل إليه قال: نعم. قيل: مرحبا به، ولنعم المجيء جاء، فأتيت على إدريس فسلمت عليه» إلخ.

[سورة مريم (19) : الآيات 60 إلى 68]

خلف بفتح اللام وفي عقب الشر خلف بالسكون وهو المعني هنا. واختلف فيمن المراد بذلك، فقيل: النصارى لأنهم خلفوا اليهود، وقل: كل من كفر وعصى من بعد بني إسرائيل أَضاعُوا الصَّلاةَ قيل: تركوها، وقيل أخرجوها عن أوقاتها يَلْقَوْنَ غَيًّا الغي: الخسران، وقد يكون بمعنى الضلال فيكون على حذف مضاف تقديره: يلقون جزاء غيّ إِلَّا مَنْ تابَ استثناء يحتمل الاتصال والانقطاع بِالْغَيْبِ أي أخبرهم من ذلك بما غاب عنهم مَأْتِيًّا وزنه مفعول، فقيل: إنه بمعنى فاعل، لأن الوعد هو الذي يأتي وقيل إنه على بابه لأن الوعد هو الجنة، وهم يأتونها لَغْواً يعنى ساقط الكلام إِلَّا سَلاماً استثناء منقطع بُكْرَةً وَعَشِيًّا قيل: المعنى أن زمانهم يقدر بالأيام والليالي، إذ ليس في الجنة نهار ولا ليل، وقيل: المعنى أن الرزق يأتيهم في كل حين يحتاجون إليه، وعبر عن ذلك بالبكرة والعشي على عادة الناس في أكلهم. وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ حكاية قول جبريل حين غاب عن النبي صلّى الله تعالى عليه وعلى اله وسلّم فقال له: أبطأت عني واشتقت إليك فقال: إني كنت أشوق، ولكني عبد مأمور إذا بعثت نزلت وإذا حبست احتبست. ونزلت هذه الآية لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَما خَلْفَنا وَما بَيْنَ ذلِكَ أي له ما قدامنا وما خلفنا، وما نحن فيه من الجهات والأماكن، فليس لنا الانتقال من مكان إلى مكان إلا بأمر الله، وقيل ما بين أيدينا: الدنيا إلى النفخة الأولى في الصور، وما خلفنا: الآخرة، وما بين ذلك: ما بين النفختين وقيل: ما مضى من أعمارنا وما بقي منها، والحال التي نحن فيها، والأول أكثر مناسبة لسياق الآية وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا هو فعيل من النسيان بمعنى الذهول وقيل بمعنى الترك، والأول أظهر هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا أي مثيلا ونظيرا فهو من المسامي والمضاهي، وقيل: من تسمى باسمه، لأنه لم يتسم باسم الله غير الله تعالى وَيَقُولُ الْإِنْسانُ أَإِذا ما مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا هذه حكاية قول من أنكر البعث من القبور، والإنسان هنا جنس يراد به الكفار، وقيل: إن القائل لذلك أبيّ بن خلف، وقيل أمية بن خلف، والهمزة التي دخلت على أإذا ما مت للإنكار والاستبعاد، واللام في قوله لسوف: سيقت على الحكاية لقول من قال بهذا المعنى، والإخراج يراد به البعث أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ احتجاج على صحة البعث، وردّ على من أنكره، لأن النشأة الأولى دليل على الثانية لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّياطِينَ يعنى قرناءهم من الشياطين الذين أضلوهم، والواو للعطف أو بمعنى مع فيكون الشياطين مفعول معه جِثِيًّا جمع جاث، ووزنه مفعول من قولك: جثا الرجل إذا جلس جلسة الذليل الخائف ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ الشيعة: الطائفة من الناس التي تتفق على

[سورة مريم (19) : الآيات 75 إلى 87]

مذهب أو اتباع إنسان، ومعنى الآية أن الله ينزع من كل طائفة أعتاها فيقدمه إلى النار، وقال بعضهم: المعنى نبدأ بالأكبر جرما فالأكبر جرما أَيُّهُمْ اختلف في إعرابه، فقال سيبويه: هو مبني على الضم لأنه حذف العائد عليه من الصلة، وكأن التقدير: أيهم أشدّ فوجب البناء، وقال الخليل: هو مرفوع على الحكاية تقديره: الذي قال له أشدّ، وقال يونس: علق عنها الفعل وارتفعت بالابتداء أَوْلى بِها صِلِيًّا الصلي: مصدر صلّى النار، ومعنى الآية: أن الله يعلم من هو أولى بأن يصلّى العذاب وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها خطاب لجميع الناس عند الجمهور، فأما المؤمنون فيدخلونها، ولكنها تخمد فلا تضرهم، فالورود على هذا بمعنى الدخول كقوله: حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ [الأنبياء: 98] ، وأوردهم النار، وقيل: الورود بمعنى القدوم عليها كقوله وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ [القصص: 23] ، والمراد بذلك جواز الصراط وقيل: الخطاب للكفار، فلا إشكال حَتْماً أي أمرا لا بدّ منه ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا إن كان الورود بمعنى الدخول، فنجاة الذين اتقوا بكون النار عليهم بردا وسلاما، ثم بالخروج منها، وإن كان بمعنى المرور على الصراط فنجاتهم بالجواز والسلامة من الوقوع فيها أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً وَأَحْسَنُ نَدِيًّا الفريقان هم المؤمنون والكفار، والمقام اسم مكان من قام، وقرئ بالضم «1» من أقام، والنديّ المجلس، ومعنى الآية: أن الكفار قالوا للمؤمنين: نحن خير منكم مقاما: أي أحسن حالا في الدنيا، وأجمل مجلسا فنحن أكرم على الله منكم. وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ كم مفعول بأهلكنا، ومعنى الآية: رد على الكفار في قولهم المذكور: أي ليس حسن الحال في الدنيا دليلا على الكرامة عند الله، لأن الله قد أهلك من كان أحسن حالا منكم في الدنيا هُمْ أَحْسَنُ قال الزمخشري هذه الجملة في موضع نصب صفة لكم أَثاثاً أي متاع البيت، وقال ابن عطية هو اسم عام، في المال العين والعروض والحيوان، وهو اسم جمع، وقيل هو جمع، واحده أثاثة وَرِءْياً بهمزة ساكنة قبل الياء: معناه منظر حسن، وهو من الرؤية، والرئي اسم المرئي، وقرئ بتشديد «2» الياء من غير همز، وهو تخفيف من الهمز، فالمعنى متفق، وقيل هو من ريّ الشارب أي التنعم بالمشارب والمآكل، وقرأ ابن عباس زيا بالزاي فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا أي يمهله ويملي له، واختلف هل هذا الفعل دعاء أو خبر سيق بلفظ الأمر تأكيدا حَتَّى هنا غاية للمدّ في الإضلال إِمَّا الْعَذابَ يعنى عذاب الدنيا

_ (1) . قرأ ابن كثير: مقاما. والباقون: مقاما. (2) . قرأ نافع وابن عامر: وريّا وقرأ ورش عن نافع: ورئيا بالهمزة وهي قراءة الباقين.

شَرٌّ مَكاناً وَأَضْعَفُ جُنْداً في مقابلة قولهم خير مقاما وأحسن نديا وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ ذكر في [الكهف: 47] خَيْرٌ مَرَدًّا أي مرجعا وعاقبة أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ هو العاصي بن وائل وَقالَ لَأُوتَيَنَّ مالًا وَوَلَداً كان قد قال: لئن بعثت كما يزعم محمد ليكونن لي هناك مال وولد أَطَّلَعَ الْغَيْبَ الهمزة للإنكار، والردّ على العاصي في قوله كَلَّا ردّ له عن كلامه سَنَكْتُبُ ما يَقُولُ إنما جعله مستقبلا لأنه إنما يظهر الجزاء والعقاب في المستقبل وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذابِ مَدًّا أي نزيد له فيه وَنَرِثُهُ ما يَقُولُ أي نرث الأشياء التي قال إنه يؤتاها في الآخرة، وهي المال والولد، ووراثتها هي بأن يهلك العاصي ويتركها، وقد أسلم ولداه هشام وعمرو رضي الله عنهما وَيَأْتِينا فَرْداً أي بلا مال ولا ولد ولا ولي ولا نصير. سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ قيل: إن الضمير في يكفرون للكفار وفي عبادتهم للمعبودين، فالمعنى كقولهم: ما كنا مشركين، وقيل: إن الضمير في يكفرون للمعبودين، وفي عبادتهم للمعبودين، فالمعنى كقولهم: ما كنا مشركين، وقيل: إن الضمير في يكفرون للمعبودين، وفي عبادتهم للكفار، فالمعنى كقولهم: ما كُنْتُمْ إِيَّانا تَعْبُدُونَ [يونس: 28] وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا معناه يكون لهم خلاف ما أمّلوه منهم فيصير العز الذي أمّلوه ذلة، وقيل: معناه: أعداء أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ عَلَى الْكافِرِينَ تضمن معنى سلطانا، ولذلك تعدّى بعلى تَؤُزُّهُمْ أَزًّا أي تزعجهم إلى الكفر والمعاصي فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ أي لا تستبطئ عذابهم وتطلب تعجيله إنما نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا أي نعد مدّة بقائهم في الدنيا، وقيل: نعدّ أنفاسهم وَفْداً قيل: معناه ركبانا، ومعنى الوفد لغة: القادمون وعادتهم الركوب فلذلك قيل ذلك، وقيل مكرمون، لأن العادة إكرام الوفود وِرْداً معناه عطاشا، لأن من يرد الماء لا يرده إلا للعطش لا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ الضمير يحتمل أن يكون للكفار، والمعنى لا يملكون أن يشفعوا لهم، ويكون من اتخذ: استثناء منقطعا بمعنى لكن، أو يكون الضمير للمتقين فالاستثناء متصل، والمعنى: لا يملكون أن يشفعوا إلا لمن اتخذ عهدا أو لا يملكون أن يشفع منهم إلا من اتخذ عهدا، أو يكون الضمير للفريقين إذ قد ذكروا قبل ذلك فالاستثناء أيضا متصل، ومن اتخذ: يحتمل أن يراد به الشافع أو المشفوع له عَهْداً يريد به الإيمان والأعمال الصالحة، ويحتمل أن يريد به الإذن في الشفاعة. وهذا أرجح لقوله: لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن، والظاهر أن ذلك إشارة إلى شفاعة سيدنا محمد صلّى الله عليه وسلّم في

[سورة مريم (19) : الآيات 88 إلى 98]

الموقف حين ينفرد بها، ويقول غيره من الأنبياء: نفسي نفسي شَيْئاً إِدًّا أي شيئا صعبا يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ أي يتشققن من قول الكفار: اتخذ الله ولدا هَدًّا أي انهداما أَنْ دَعَوْا أي من أجل أن دعوا لِلرَّحْمنِ وَلَداً وقرئ ولدا «1» بضم الواو وإسكان اللام، وهي لغة إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ردّ على مقالة الكفار، والمعنى أن الكل عبيده، فكيف يكون أحد منهم ولدا له، وإن نافية، وكل مبتدأ وخبره آتى الرحمن سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا هي المحبة والقبول الذي يجعله الله في القلوب لمن شاء من عباده، وقيل: إنها نزلت في علي بن أبي طالب رضي الله عنه يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ الضمير للقرآن وبلسانك أي بلغتك قَوْماً لُدًّا جمع ألد، وهو الشديد الخصومة والمجادلة، والمراد بذلك قريش، وقيل: معناه فجارا أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً هو الصوت الخفي، والمعنى أنهم لم يبق منهم أثر، وفي ذلك تهديد لقريش.

_ (1) . هي قراءة حمزة والكسائي.

فهرس المحتويات

فهرس المحتويات مقدمة المحقق 5 مقدمة 9 المقدمة الأولى 12 المقدمة الثانية 28 تمهيد في القراءات وتأريخها 50 سورة الفاتحة مكية وآياتها سبع 63 سورة البقرة مدنية وآياتها ست وثمانون ومائتان 68 سورة آل عمران مدنية وآياتها مائتان 144 سورة النساء مدنية وآياتها ست وسبعون ومائة 176 سورة المائدة مدنية وآياتها عشرون ومائة 219 سورة الأنعام مكية وآياتها خمس وستون ومائة 253 سورة الأعراف مكية وآياتها ست ومائتان 284 سورة الأنفال مدنية وآياتها خمس وسبعون 320 سورة التوبة مدنية وآياتها تسع وعشرون ومائة 331 سورة يونس مكية وآياتها تسع ومائة 352 سورة هود مكية وآياتها ثلاث وعشرون ومائة 365 سورة يوسف مكية وآياتها إحدى عشر ومائة 381 سورة الرعد مدنية وآياتها ثلاث وأربعون 399 سورة إبراهيم مكية وآياتها ثنتان وخمسون 408 سورة الحجر مكية وآياتها تسع وتسعون 415 سورة النحل مكية وآياتها ثمان وعشرون ومائة 422 سورة الإسراء مكية وآياتها إحدى عشرة ومائة 440 سورة الكهف مكية وآياتها عشر ومائة 458 سورة مريم مكية وآياتها ثمان وتسعون 477

الجزء الثاني

الجزء الثاني سورة طه مكية إلا آيتي 13 و 131 فمدنيتان وآياتها 135 نزلت بعد مريم بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (سورة طه) قيل في طه إنه من أسماء النبي صلّى الله عليه وسلّم وقيل: معناه يا رجل، وانظر الكلام على حروف الهجاء في أول سورة البقرة ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى قيل: إن النبي صلّى الله عليه وسلّم قام في الصلاة حتى تورّمت قدماه، فنزلت الآية تخفيفا عنه، فالشقاء على هذا إفراط التعب في العبادة، وقيل: المراد به التأسف على كفر الكفار، واللفظ عام في ذلك كله، والمعنى أنه نفى عنه جميع أنواع الشقاء في الدنيا والآخرة، لأنه أنزل عليه القرآن الذي هو سبب السعادة إِلَّا تَذْكِرَةً نصب على الاستثناء المنقطع، وأجاز ابن عطية أن يكون بدلا من موضع لتشقى إذ هو في موضع مفعول من أجله، ومنع ذلك الزمخشري لاختلاف الجنسين، ويصح أن ينتصب بفعل مضمر تقديره أنزلناه تذكرة تَنْزِيلًا نصب على المصدرية، والعامل فيه مضمر وما أنزلنا وبدأ السورة بلفظ المتكلم في قوله: ما أنزلنا ثم رجع إلى الغيبة في قوله تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ الآية: وذلك هو الالتفات وَالسَّماواتِ الْعُلى جمع عليا عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى تكلمنا عليه في [الأعراف: 53] الثَّرى هو في اللغة التراب النديّ، والمراد به هنا الأرض وَإِنْ تَجْهَرْ مطابقة هذا الشرط لجوابه كأنه يقول: إن جهرت أو أخفيت فإنه يعلم ذلك، لأنه يعلم السرّ وأخفى يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى السر الكلام الخفيّ، والأخفى ما في النفس، وقيل: السر ما في نفوس البشر، والأخفى ما انفرد الله بعلمه. الْأَسْماءُ الْحُسْنى تكلمنا عليها في [الأعراف: 179] وَهَلْ أَتاكَ لفظ استفهام والمراد به التنبيه إِذْ رَأى العامل في إذ حديث لأن فيه معنى الفعل، وكان من قصة موسى أنه رحل بأهله من مدين يريد مصر، فسار بالليل واحتاج إلى نار، فقدح بزناده فلم ينقدح، فرأى نارا فقصد إليها فناداه الله، وأرسله إلى فرعون آنَسْتُ ناراً أي رأيت بِقَبَسٍ هو

الجذوة من النار تكون على رأس العود والقصبة ونحوها أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً يعني هدى إلى الطريق من دليل أو غيره فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ قيل: إنما أمر بخلع نعليه، لأنهما كانتا من جلد حمار ميت، فأمر بخلع النجاسة، واختار ابن عطية أن يكون أمر بخلعهما ليتأدب، ويعظم البقعة المباركة ويتواضع في مقام مناجاة الله وهذا أحسن بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ أي المطهر طُوىً في معناه قولان: أحدهما أنه اسم للوادي، وإعرابه على هذا بدل، ويجوز تنوينه على أنه مكان، وترك صرفه على أنه بقعة، والثاني: أن معناه مرتين، فإعرابه على هذا مصدر: أي قدس الوادي مرة بعد مرة، أو نودي موسى مرة بعد مرة وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي قيل: المعنى لتذكرني فيها، وقيل: لأذكرك بها، فالمصدر على الأول مضاف للمفعول، وعلى الثاني مضاف للفاعل، وقيل: معنى لذكري: عند ذكري كقوله: أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ [الإسراء: 78] أي عند دلوك الشمس، وهذا أرجح لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم استدل بالآية: على وجوب الصلاة على الناسي إذا ذكرها أَكادُ أُخْفِيها اضطرب الناس في معناه، فقيل: أخفيها بمعنى أظهرها، وأخفيت هذا من الأضداد. وقال ابن عطية: هذا قول مختل، وذلك أن المعروف في اللغة أن يقال: أخفى بالألف من الإخفاء، وخفي بغير ألف بمعنى أظهر، فلو كان بمعنى الظهور لقال: أخفيها بفتح همزة المضارع، وقد قرئ بذلك في الشاذ، وقال الزمخشري: قد جاء في بعض اللغات أخفى بمعنى خفي: أي أظهر، فلا يكون هذا القول مختلا على هذه اللغة، وقيل: أكاد بمعنى أريد، فالمعنى أريد إخفاءها وقيل: إن المعنى إن الساعة آتية أكاد، وتم هنا الكلام بمعنى أكاد أنفذها لقربها، ثم استأنف الإخبار فقال أخفيها، وقيل: المعنى أكاد أخفيها عن نفسي فكيف عنكم، وهذه الأقوال ضعيفة، وإنما الصحيح أن المعنى أن الله أبهم وقت الساعة فلم يطلع عليه أحدا، حتى أنه كاد أن يخفي وقوعها لإبهام وقتها، ولكنه لم يخفها إذا أخبر بوقوعها، فالأخفى على معناه المعروف في اللغة، وكاد على معناها من مقاربة الشيء دون وقوعه وهذا المعنى هو اختيار المحققين لِتُجْزى يتعلق بآتية بِما تَسْعى أي بما تعمل فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْها الضمير للساعة: أي لا يصدنك عن الإيمان بها والاستعداد لها، وقيل: الضمير للصلاة وهو بعيد، والخطاب لموسى عليه السلام، وقيل: لمحمد صلى الله عليه وسلم وذلك بعيد فَتَرْدى معناه تهلك، والردى هو الهلاك وهذا الفعل منصوب في جواب: لا يصدّنك. وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى إنما سأله ليريه عظيم ما يفعله في العصا من قلبها حية، فمعنى السؤال تقرير أنها عصا فيتبين له الفرق بين حالها قبل أن يقلبها، وبعد أن قلبها،

[سورة طه (20) : الآيات 18 إلى 39]

وقيل: إنما سأله ليؤنسه ويبسطه بالكلام وَأَهُشُّ بِها عَلى غَنَمِي معناه أضرب بها الشجر لينتشر الورق للغنم مَآرِبُ أي حوائج حَيَّةٌ تَسْعى أي تمشي سِيرَتَهَا الْأُولى يعني أنه لما أخذها عادت كما كانت أول مرة، وانتصب سيرتها على أنه ظرف أو مفعول بإسقاط حرف الجر وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ الجناح هنا الجنب أي تحت الإبط، وهو استعارة من جناح الطائر تَخْرُجْ بَيْضاءَ روي أن يده خرجت وهي بيضاء كالشمس مِنْ غَيْرِ سُوءٍ يريد من غير برص ولا عاهة لِنُرِيَكَ مِنْ آياتِنَا الْكُبْرى يحتمل أن تكون الكبرى مفعول لنريك، وأن تكون صفة للآيات ويختلف المعنى على ذلك اشْرَحْ لِي صَدْرِي إن قيل: لم قال اشرح لي ويسر لي، مع أن المعنى يصح دون قوله لي؟ فالجواب: أن ذلك تأكيد وتحقيق للرغبة وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي العقدة هي التي اعترته بالجمرة حين جعلها في فيه وهو صغير، حين أراد فرعون أن يجرّبه، وإنما قال: عقدة بالتنكير لأنه طلب حلّ بعضها ليفقهوا قوله، ولم يطلب الفصاحة الكاملة وَزِيراً أي معينا، وإعراب هارون بدل أو مفعول أول أَزْرِي أي ظهري والمراد القوة ومنه: فآزره أي قوّاه. قالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ أي قد أعطيناك كل ما طلبت من الأشياء المذكورة إِذْ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّكَ يحتمل أن يكون وحي كلام بواسطة ملك، أو وحي إلهام كقوله: وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ [النحل: 68] ما يُوحى إبهام يراد به تعظيم الأمر أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ الضمير الأول لموسى، والثاني للتابوت أو لموسى واليم البحر، والمراد به هنا النيل، وكان فرعون قد ذكر له أن هلاكه وخراب ملكه على يد غلام من بني إسرائيل، فأمر بذبح كل ولد ذكر يولد لهم، فأوحى الله إلى أم موسى أن تلقيه في التابوت وتلقي التابوت في البحر ففعلت ذلك، وكان فرعون في موضع يشرف على النيل، فرأى التابوت فأمر به فسيق، إليه وامرأته معه ففتحه فأشفقت عليه امرأته، وطلبت أن تتخذه ولدا فأباح لها ذلك يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ هو فرعون مَحَبَّةً مِنِّي أي أحببتك، وقيل: أراد محبة الناس فيه إذ كان لا يراه أحد إلا أحبه، وقيل: أراد محبة امرأة فرعون ورحمتها له، وقوله

[سورة طه (20) : الآيات 40 إلى 51]

مني: يحتمل أن يتعلق بقوله ألقيت، أو يكون صفة لمحبة فيتعلق بمحذوف وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي أي تربى ويحسن إليك بمرأى مني وحفظ، والعامل في لتصنع محذوف إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ العامل في إذ تصنع أو ألقيت، أو فعل مضمر تقديره ومننا عليك فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى مَنْ يَكْفُلُهُ كان لا يقبل ثدي امرأة فطلبوا له مرضعة، فقالت أخته ذلك ليرد إلى أمه وَقَتَلْتَ نَفْساً يعني القبطي الذي وكزه فقضى عليه فَنَجَّيْناكَ مِنَ الْغَمِّ يعني الخوف من أن يطلب بثأر المقتول وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً أي اختبرناك اختبارا حتى ظهر منك أنك تصلح للنبوة والرسالة، وقيل: خلصناك من محنة بعد محنة، لأنه خلصه من الذبح ثم من البحر، ثم من القصاص بالقتل، والفتون: يحتمل أن يكون مصدرا أو جمع فتنة فَلَبِثْتَ سِنِينَ يعني الأعوام العشرة التي استأجره فيها شعيب جِئْتَ عَلى قَدَرٍ أي بميقات محدود قدره الله لنبوتك وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي عبارة عن الكرامة والتقريب أي استخلصتك وجعلتك موضع صنيعتي وإحساني وَلا تَنِيا أي لا تضعفا ولا تقصرا، والونى هو الضعف عن الأمور والتقصير فيها أَنْ يَفْرُطَ أي يعمل بالشر فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ أي سرحهم، وكانوا تحت يد فرعون وقومه، فكانت رسالة موسى إلى فرعون بالإيمان بالله وتسريح بني إسرائيل وَلا تُعَذِّبْهُمْ كان يعذبهم بذبح أبنائهم وتسخيرهم في خدمته وإذلالهم. قَدْ جِئْناكَ بِآيَةٍ يعني قلب العصا حية وإخراج اليد بيضاء، وإنما وحّدهما وهما آيتان، لأنه أراد إقامة البرهان وهو معنى واحد، وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى يحتمل أن يريد التحية أو السلامة قالَ فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى أفرد موسى بالنداء بعد جمعه مع أخيه، لأنه الأصل في النبوة وأخوه تابع له الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ المعنى أن الله أعطى خلقه كل شيء يحتاجون إليه، فخلقه على هذا بمعنى المخلوقين، وإعرابه مفعول أول، وكل شيء مفعول ثان، وقيل: المعنى أعطى كل شيء خلقته وصورته: أي أكمل ذلك وأتقنه، فالخلق على هذا بمعنى الخلقة وإعرابه مفعول ثان، وكل شيء مفعول أول، والمعنى الأول أحسن ثُمَّ هَدى أي هدى خلقه إلى التوصل لما أعطاهم، وعلمهم كيف ينتفعون به قالَ فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى يحتمل أن يكون سؤاله عن القرون الأولى محاجة ومناقضة لموسى: أي ما بالها لم تبعث كما يزعم موسى؟ أو ما بالها لم تكن على دين موسى أو ما بالها كذبت ولم

[سورة طه (20) : الآيات 52 إلى 58]

يصبها عذاب كما زعم موسى في قوله: أن العذاب على من كذب وتولى، ويحتمل أن يكون قال ذلك قطعا للكلام الأول، وروغانا عنه وحيرة لما رأى أنه مغلوب بالحجة ولذلك أضرب موسى عن الكلام في شأنها، فقال علمها عند ربي، ثم عاد إلى وصف الله رجوعا إلى الكلام الأول فِي كِتابٍ يعني اللوح المحفوظ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً أي فراشا، وانظر كيف وصف موسى ربه تعالى بأوصاف لا يمكن فرعون أن يتصف بها، لا على وجه الحقيقة ولا على وجه المجاز، ولو قال له هو القادر أو الرازق وشبه ذلك لأمكن فرعون أن يغالطه ويدعي ذلك لنفسه وَسَلَكَ لَكُمْ فِيها سُبُلًا أي نهج لكم فيها طرقا تمشون فيها فَأَخْرَجْنا يحتمل أن يكون من كلام موسى على تقدير يقول الله عز وجل فأخرجنا، ويحتمل أن يكون كلام موسى ثم عند قوله وأنزل من السماء ماء ثم ابتدأ كلام الله. فَأَخْرَجْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتَّى أي أصنافا مختلفة كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعامَكُمْ المعنى أنها تصلح لأن تؤكل وترعاها الأنعام، وعبر عن ذلك بصيغة الأمر لأنه أذن في ذلك فكأنه أمر به لِأُولِي النُّهى أي العقول واحدها نهية مِنْها خَلَقْناكُمْ الضمير للأرض يريد خلقة آدم من تراب وَفِيها نُعِيدُكُمْ يعني بالدفن عند الموت وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ يعني عند البعث أَرَيْناهُ آياتِنا يعني الآيات التي رآها فرعون وهي تسع آيات، وليس يريد جميع آيات الله على العموم، فالإضافة في قوله آياتنا تجري مجرى التعريف بالعهد: أي آياتنا التي أعطينا موسى كلها، وإنما أضافها الله إلى نفسه تشريفا فَاجْعَلْ بَيْنَنا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً يحتمل أن يكون الموعد اسم مصدر أو اسم زمان أو اسم مكان، ويدل على أنه اسم مكان قوله مكانا سوى، ولكن يضعف بقوله: موعدكم يوم الزينة، لأنه أجاب بظرف الزمان، ويدل على أن الموعد اسم زمان قوله يوم الزينة ولكن يضعف بقوله: مكانا سوى. ويدل على أنه اسم مصدر بمعنى الوعد قوله: لا نخلفه، لأن الإخلاف إنما يوصف به الوعد لا الزمان ولا المكان. ولكن يضعف ذلك بقوله مكانا وبقوله يوم الزينة، فلا بد على كل وجه من تأويل أو إضمار، ويختلف إعراب قوله: مكانا باختلاف تلك الوجوه. فأما إن كان الموعد اسم مكان فيكون قوله موعدا ومكانا مفعولين لقوله اجعل، ويطابقه قوله: يوم الزينة من طريق المعنى، لا من طريق اللفظ، وذلك أن الاجتماع في المكان يقتضي الزمان ضرورة، وإن كان الموعد اسم زمان فينتصب قوله: مكانا على أنه ظرف زمان، والتقدير: موعدا كائنا في مكان وإن كان الموعد اسم مصدر فينتصب مكانا على أنه مفعول بالمصدر وهو الموعد، أو بفعل من

[سورة طه (20) : الآيات 59 إلى 70]

معناه، ويطابقه قوله: يوم الزينة على حذف مضاف تقديره موعدكم وعد يوم الزينة، وقرأ الحسن يوم الزينة بالنصب وذلك يطابق أن يكون الموعد اسم مصدر من غير تقدير محذوف مَكاناً سُوىً معناه: مستوفي القرب منا ومنكم، وقيل: معناه مستوي الأرض ليس فيه انخفاض ولا ارتفاع، وقرئ بكسر السين وضمها، والمعنى متفق يَوْمُ الزِّينَةِ يوم عيد لهم وقيل يوم عاشوراء وَأَنْ يُحْشَرَ عطف على الزينة، فهو في موضع خفض أو على اليوم فهو في موضع رفع وقصد موسى أن يكون موعدهم عند اجتماع الناس على رؤوس الأشهاد لتظهر معجزته ويستبين الحق للناس فَيُسْحِتَكُمْ معناه يهلككم، يقال سحت وأسحت، وقد قرئ بفتح الياء وضمها، والمعنى متفق قالُوا إِنْ هذانِ لَساحِرانِ قرأ [أبو عمرو] إن هذين بالياء ولا إشكال في ذلك، وقرأ [حفص] بتخفيف إن وهي مخففة من الثقيلة، وارتفع بعدها هذان بالابتداء، وأما قراءة نافع وغيره بتشديد إنّ ورفع هذان، فقيل إن هنا بمعنى نعم فلا تنصب، ومنه ما روي في الحديث أن الحمد لله بالرفع، وقيل: اسم إن ضمير الأمر والشأن تقديره: إن الأمر، وهذان لساحران مبتدأ وخبر في موضع خبر إن. وقيل: جاء القرآن في هذه الآية بلغة بني الحرث بن كعب وهو إبقاء التثنية بالألف حال النصب والخفض، وقالت عائشة رضي الله عنها، هذا مما لحن فيه كتاب المصحف وَيَذْهَبا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلى أي يذهب بسيرتكم الحسنة فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ أي اعزموا وأنفذوه يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى استدل بعضهم بهذه الآية على أن السحر تخييل لا حقيقة، وقال بعضهم «1» : إن حيلة السحرة في سعي الحبال والعصيّ هو أنهم حشوها بالزئبق، وأوقدوا تحتها نارا وغطوا النار لئلا يراها الناس، ثم وضعوا عليها حبالهم وعصيهم، وقيل: جعلوها للشمس، فلما أحسّ الزئبق بحر النار أو الشمس سال، وهو في حشو الحبال والعصيّ فحملها، فتخيل للناس أنها تمشي، فألقى موسى عصاه فصارت ثعبانا فابتلعتها إِنَّما صَنَعُوا كَيْدُ ساحِرٍ ما هنا موصولة وهي اسم إن وكيد خبرها آمَنَّا بِرَبِّ هارُونَ وَمُوسى قدم

_ (1) . تلقف: قرأ حفص بدون تشديد وقرأها الباقون: تلقّف.

[سورة طه (20) : الآيات 71 إلى 83]

هارون لتعادل رؤوس الآي مِنْ خِلافٍ أي قطع اليد اليمنى والرجل اليسرى وَالَّذِي فَطَرَنا معطوف على ما جاءنا من البينات، وقيل: هي واو القسم هذِهِ الْحَياةَ نصب على الظرفية أي: إنما قضاؤك في هذه الدنيا إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً قيل: إن هنا وما بعده من كلام السحرة لفرعون على وجه الموعظة، وقيل: هو من كلام الله أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي يعني ببني إسرائيل، وأضافهم إلى نفسه تشريفا لهم، وكانوا فيما قيل ستمائة ألف يَبَساً أي يابسا، وهو مصدر وصف به لا تَخافُ دَرَكاً وَلا تَخْشى أي لا تخاف أن يدركك فرعون وقومه، ولا تخشى الغرق في البحر ما غَشِيَهُمْ إبهام لقصد التهويل وَما هَدى إن قيل: إن قوله وأضل فرعون قومه يغني عن قوله وما هدى، فالجواب أنه مبالغة وتأكيد، وقال الزمخشري: هو تهكم بفرعون في قوله: وَما أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشادِ [غافر: 38] . يا بَنِي إِسْرائِيلَ خطاب لهم بعد خروجهم من البحر، وإغراق فرعون، وقيل: هو خطاب لمن كان منهم في عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم، والأول أظهر وَواعَدْناكُمْ جانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ لما أهلك الله فرعون وجنوده أمر موسى وبني إسرائيل أن يسيروا إلى جانب طور سيناء ليكلم فيه ربه، والطور هو الجبل، واختلف هل هذا الطور هو الذي رأى فيه موسى النار في أول نبوّته، أو هو غيره وَنَزَّلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى ذكر في [البقرة: 57] فَقَدْ هَوى أي هلك، وهو استعارة من السقوط من علو إلى سفل وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ المغفرة لمن تاب حاصلة ولا بد، والمغفرة للمؤمن الذي لم يتب في مشيئة الله عند أهل السنة، وقالت المعتزلة: لا يغفر إلا لمن تاب ثُمَّ اهْتَدى أي استقام ودام على الإيمان والتوبة والعمل الصالح، ويحتمل أن يكون الهدى هنا عبارة عن نور وعلم يجعله الله في قلب من تاب وآمن وعمل صالحا. وَما أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يا مُوسى قصص هذه الآية أن موسى عليه السلام، لما أمره الله أن يسير هو وبنو إسرائيل إلى الطور، تقدم هو وحده مبادرة إلى أمر الله، وطلبا

[سورة طه (20) : الآيات 84 إلى 87]

لرضاه، وأمر بني إسرائيل أن يسيروا بعده، واستخلف عليهم أخاه هارون، فأمرهم السامريّ حينئذ بعبادة العجل، فلما وصل موسى إلى الطور دون قومه قال الله تعالى: ما أعجلك عن قومك؟ وإنما سأل الله موسى عن سبب استعجاله دون قومه ليخبره موسى بأنهم يأتون على أثره، فيخبره الله بما صنعوا بعده من عبادة العجل، وقيل: سأله على وجه الإنكار لتقدّمه وحده دون قومه فاعتذر موسى بعذرين: أحدهما أن قومه على أثره: أي قريب منه، فلم يتقدّم عليهم بكثير فيوجب العتاب، والثاني أنه إنما تقدم طلبا لرضا الله وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ كان السامريّ رجلا من بني إسرائيل يقال: إنه ابن خال موسى، وقيل: لم يكن منهم وهو منسوب إلى قرية بمصر يقال لها سامرة، وكان ساحرا منافقا فَرَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ يعني رجع من الطور بعد إكمال الأربعين يوما التي كلمه الله بها أَسِفاً ذكر في [الأعراف: 149] . أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً يعني ما وعدهم من الوصول إلى الطور أَفَطالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ يعني المدة وهذا الكلام توبيخ لهم بِمَلْكِنا قرئ بالفتح والضم والكسر «1» ، ومعناه ما أخلفنا موعدك بأن ملكنا أمرنا، ولكن غلبنا بكيد السامريّ، فيحتمل أنهم اعتذروا بقلة قدرتهم وطاقتهم ويناسب هذا المعنى القراءة بضم الميم، واعتذروا بقلة ملكهم لأنفسهم في النظر وعدم توفيقهم للرأي السديد، ويناسب هذا المعنى القراءة بالفتح والكسر حُمِّلْنا أَوْزاراً مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ الأوزار هنا الأحمال سميت أوزارا لثقلها، أو لأنهم اكتسبوا بسببها الأوزار أي الذنوب، وزينة القوم هي: حليّ القبط قوم فرعون كان بنو إسرائيل قد استعاروه منهم قبل هلاكهم، وقيل: أخذوه بعد هلاكهم فقال لهم السامريّ اجمعوا هذا الحلّي في حفرة حتى يحكم الله فيه، ففعلوا ذلك وأوقد السامريّ نارا على الحلّي وصاغ منه عجلا وقيل: بل خلق الله منه العجل من غير أن يصنعه السامري، ولذلك قال لموسى قد فتنا قومك من بعدك فَقَذَفْناها أي قذفنا أحمال الحلّي في الحفرة فَكَذلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ كان السامريّ قد رأى جبريل عليه السلام، فأخذ من وطء فرسه قبضة من تراب، وألقى الله في نفسه أنه إذا جعلها على شيء مواتا صار حيوانا فألقاها على العجل فجار العجل أي: صاح صياح العجول. فالمعنى أنهم. قالوا كما ألقينا الحلي في الحفرة ألقى السامريّ قبضة التراب جَسَداً أي جسما بلا روح، والخوار صوت البقر فَقالُوا هذا إِلهُكُمْ أي

_ (1) . قال من حجة القراآت: قرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر: بملكنا بكسر الميم وقرأ عاصم ونافع بفتحها وحمزة والكسائي بالضم. [.....]

[سورة طه (20) : الآيات 97 إلى 107]

قال ذلك بنو إسرائيل بعضهم لبعض فَنَسِيَ يحتمل وجهين: أحدهما أن يكون من كلام بني إسرائيل والفاعل موسى: أي نسي موسى إلهه هنا، وذهب يطلبه في الطور، والنسيان على هذا بمعنى الذهول، والوجه الثاني: أن يكون من كلام الله تعالى، والفاعل على هذا السامريّ: أي نسي دينه وطريق الحق، والنسيان على هذا المعنى: الترك أَفَلا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا معناه لا يردّ عليهم كلاما إذا كلموه وذلك ردّ عليهم في دعوى الربوبية له، وقرئ يرجع بالرفع، وأن مخففة من الثقيلة، وبالنصب وهي مصدرية قالَ يا هارُونُ ما مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا أَلَّا تَتَّبِعَنِ لا زائدة للتأكيد، والمعنى ما منعك أن تتبعني في المشي إلى الطور، أو تتبعني في الغضب لله، وشدّة الزجر لمن عبد العجل، وقتالهم بمن لم يعبده؟ لَ يَا بْنَ أُمَ ذكر في [الأعراف: 150] تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي كان موسى قد أخذ بشعر هارون ولحيته من شدّة غضبه، لما وجد بني إسرائيل قد عبدوا العجل نِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ أي: لو قاتلت من عبد العجل منهم بمن لم يعبده، لقلت فرقت جماعتهم وأدخلت العداوة بينهم، وهذا على أن يكون معنى قوله: تتبعني في الزجر والقتال، ولو أتبعتك في المشي إلى الطور لا تبعني بعضهم دون بعض، فتفرقت جماعتهم وهذا على أن يكون معنى تتبعني في المشي إلى الطور لَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي يعني قوله له: اخلفني في قومي وأصلح. قالَ فَما خَطْبُكَ يا سامِرِيُّ أي قال موسى ما شأنك؟ ولفظ الخطب يقتضي الانتهار، لأنه يستعمل في المكاره قالَ بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ أي رأيت ما لم يروه يعني: جبريل عليه السلام وفرسه فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ أي قبضت قبضة من تراب من أثر فرس الرسول وهو جبريل، وقرأ ابن مسعود «من أثر فرس الرسول» وإنما سمى جبريل بالرسول، لأن الله أرسله إلى موسى، والقبضة مصدر قبض، وإطلاقها على المفعول من تسمية المفعول بالمصدر كضرب الأمير، ويقال: قبض بالضاد المعجمة إذا أخذ بأصابعه وكفه، وبالصاد المهملة: إذا أخذ بأطراف الأصابع وقد قرئ كذلك في الشاذ فَنَبَذْتُها أي ألقيتها على الحلي، فصار عجلا أو على العجل فصار له خوار فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَياةِ أَنْ تَقُولَ لا مِساسَ عاقب موسى عليه السلام السامري بأن منع الناس من مخالطته ومجالسته ومؤاكلته ومكالمته، وجعل له مع ذلك أن يقول طول حياته: لا مساس أي لا مماسة ولا إذاية، وروي أنه كان

إذا مسه أحد أصابت الحمى له وللذي مسه، فصار هو يبعد عن الناس وصار الناس يبعدون عنه وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً يعني العذاب في الآخرة وهذا تهديد ووعيد ظَلْتَ أصله ظللت، حذفت إحدى اللامين والأصل في معنى ظل: أقام بالنهار، ثم استعمل في الدأب على الشيء ليلا ونهارا لَنُحَرِّقَنَّهُ من الإحراق بالنار، وقرئ بفتح النون وضم الراء بمعنى نبرده بالمبرد، وقد حمل بعضهم قراءة الجماعة على أنها من هذا المعنى، لأن الذهب لا يفنى بالإحراق بالنار، والصحيح أن المقصود بإحراقه بالنار إذابته وإفساد صورته، فيصح حمل قراءة الجماعة على ذلك ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً أي نلقيه في البحر، والنسف تفريق الغبار ونحوه إِنَّما إِلهُكُمُ اللَّهُ الآية: من كلام موسى لبني إسرائيل. كَذلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مخاطبة من الله تعالى لسيدنا محمد صلى الله تعالى عليه وآله وسلم، وأنباء ما قد سبق: أخبار المتقدمين ذِكْراً يعني القرآن مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ يعني إعراض تكذيب به وِزْراً الوزر في اللغة الثقل، ويعني هنا العذاب لقوله «خالدين فيه» أو الذنوب لأنها سبب العذاب وَساءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ حِمْلًا شبه الوزر بالحمل لثقله، قال الزمخشري: ساء تجري مجرى بئس، ففاعلها مضمر يفسره حملا، وقال غيره: فاعلها مضمر يعود على الوزر يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ أي ينفخ الملك في القرن، وقرأ [أبو عمرو] ننفخ بالنون أي بأمرنا زُرْقاً أي زرق الألوان كالسواد، وقيل: زرق العيون من العمى يَتَخافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْراً أي يقول بعضهم لبعض في السرّ: إن لبثتم في الدنيا إلا عشر ليال وذلك لاستقلالهم مدّة الدنيا، وقيل: يعنون لبثهم في القبور يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْماً أي يقول أعلمهم بالأمور، فالإضافة إليهم إن لبثتم إلا يوما واحدا فاستقل المدّة أشد مما استقلها غيره يَنْسِفُها رَبِّي أي يجعلها كالغبار ثم يفرّقها فَيَذَرُها قاعاً صَفْصَفاً الضمير في يذرها للجبال، والمراد موضعها من الأرض، والقاع الصفصف: المستوي من الأرض الذي لا ارتفاع فيه لا تَرى فِيها عِوَجاً المعروف في اللغة أن العوج بالكسر في المعاني، وبالفتح في الأشخاص والأرض شخص، فكان الأصل أن يقال فيها بالفتح، وإنما قاله بالكسر مبالغة في نفيه، فإن الذي في المعاني أدق من الذي في الأشخاص، فنفاه ليكون غاية في نفي العوج من كل وجه وَلا أَمْتاً الأمت: هو الارتفاع

[سورة طه (20) : الآيات 108 إلى 117]

اليسير يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ يعني الذي يدعو الخلق إلى الحشر لا عِوَجَ لَهُ أي لا يعوج أحد عن اتباعه والمشي نحو صوته، أو لا عوج لدعوته لأنها حق هَمْساً هو الصوت الخفيّ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ يحتمل أن يكون الاستثناء متصلا، ومن في موضع نصب بتنفع وهي واقعة على المشفوع له، فالمعنى لا تنفع الشفاعة أحدا إلا من أذن له الرحمن في أن يشفع له، وأن يكون الاستثناء منقطعا ومن واقعة على الشافع، والمعنى لكن من أذن له الرحمن يشفع وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا إن أريد بمن أذن له الرحمن المشفوع فيه، فاللام في له بمعنى لأجله، أي رضي قول الشافع لأجل المشفوع فيه، وإن أريد الشافع فالمعنى رضي له قوله في الشفاعة يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ الضميران لجميع الخلق، والمعنى ذكر في آية الكرسي وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً قيل: المعنى لا يحيطون بمعلوماته كقوله: وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِما شاءَ، والصحيح عندي أن المعنى لا يحيطون بمعرفة ذاته إذ لا يعرف الله على الحقيقة إلا الله، ولو أراد المعنى الأوّل لقال ولا يحيطون بعمله، ولذلك استثنى إلا بما شاء هناك ولم يستثن هنا. وَعَنَتِ الْوُجُوهُ أي ذلت يوم القيامة وَلا هَضْماً أي بخسا ونقصا لحسناته أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً أي تذكرا، وقيل: شرفا وهو هنا بعيد وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ أي إذا أقرأك جبريل القرآن فاستمع إليه واصبر حتى يفرغ، وحينئذ تقرأه أنت. فالآية: كقوله لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ [القيامة: 16] ، وقيل كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا أوحي إليه القرآن يأمر بكتبه في الحين، فأمر بأن يتأنى حتى تفسر له المعاني، والأول أشهر. عَهِدْنا إِلى آدَمَ أي وصيناه أن لا يأكل من الشجرة فَنَسِيَ يحتمل أن يكون النسيان الذي هو ضدّ الذكر، فيكون ذلك عذرا لآدم أو يريد الترك، وقال ابن عطية: ولا يمكن غيره، لأن الناسي لا عقاب عليه، وقد تقدّم الكلام على قصة آدم وإبليس في البقرة فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى أي لا تطيعاه فيخرجكما من الجنة، فجعل المسبب

[سورة طه (20) : الآيات 118 إلى 129]

موضع السبب وخص آدم بقوله فتشقى لأنه كان المخاطب أولا، والمقصود بالكلام، وقيل: لأن الشقاء في معيشة الدنيا مختص بالرجال لا تَظْمَؤُا فِيها وَلا تَضْحى الظمأ هو العطش، والضحى هو البروز للشمس يَخْصِفانِ ذكر في [الأعراف: 21] وكذلك الشجرة وأكل آدم منها ذكر ذلك في [البقرة: 35] اهْبِطا خطاب لآدم وحواء فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ هي إن الشرطية دخلت عليها ما الزائدة وجوابها فمن اتبع فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى أي لا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة مَعِيشَةً ضَنْكاً أي ضيقة، فقيل إن ذلك في الدنيا، فإن الكافر ضيق المعيشة لشدّة حرصه وإن كان واسع الحال، وقد قال بعض الصوفية: لا يعرض أحد عن ذكر الله إلا أظلم عليه وقته وتكدر عليه عيشه، وقيل: إن ذلك في البرزخ، وقيل: في جهنم بأكل الزقوم، وهذا ضعيف، لأنه ذكر بعد هذا يوم القيامة وعذاب الآخرة وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى أي يعني أعمى البصر فَنَسِيتَها وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى من الترك لا من الذهول وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقى أي عذاب جهنم أشدّ وأبقى من العيشة الضنك ومن الحشر أعمى. أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ معناه: أفلم يتبين لهم، والضمير لقريش والفاعل بيهد مقدر تقديره: أو لم يهد لهم الهدى أو الأمر، وقال الزمخشري: الفاعل الجملة التي بعده، وقيل: الفاعل ضمير الله عز وجل، ويدل عليه قراءة أفلم نهد بالنون، وقال الكوفيون: الفاعل كم يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ يريد أن قريشا يمشون في مساكن عاد وثمود، ويعاينون آثار هلاكهم لِأُولِي النُّهى أي ذوي العقول وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكانَ لِزاماً الكلمة هنا القضاء السابق، والمعنى لولا قضاء الله بتأخير العذاب عنهم لكان العذاب لزاما: أي واقعا بهم وَأَجَلٌ مُسَمًّى معطوف على كلمة: أي لولا الكلمة والأجل المسمى لكان العذاب لزاما، وإنما أخره لتعتدل رؤوس الآي، والمراد بالأجل المسمى يوم بدر، وبذلك ورد تفسيره في البخاري، وقيل: المراد به أجل الموت، وقيل القيامة وَسَبِّحْ يحتمل أن يريد بالتسبيح الصلاة، أو قول سبحان الله وهو ظاهر اللفظ بِحَمْدِ رَبِّكَ في موضع الحال

أي وأنت حامد لربك على أن وفقك للتسبيح، ويحتمل أن يكون المعنى سبح تسبيحا مقرونا بحمد ربك فيكون أمرا بالجمع بين قوله: سبحان الله وقوله الحمد لله، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وسبحان الله والحمد لله تملآن ما بين السماء والأرض «1» قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِها إشارة إلى الصلوات الخمس عند من قال إن معنى فسبح: الصلاة، فالتي قبل طلوع الشمس الصبح، والتي قبل غروبها الظهر والعصر، ومن آناء الليل المغرب والعشاء الآخرة وأطراف النهار المغرب والصبح، وكرر الصبح في ذلك تأكيدا للأمر بها، وسمى الطرفين اطرافا لأحد وجهين: إما على نحو فقد صغت قلوبكما، وإما أن يجعل النهار للجنس، فلكل يوم طرف، وآناء الليل ساعاته، واحدها إني وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ ذكر في [الحجر: 88] ومدّ العينين هو تطويل النظر ففي ذلك دليل على أن النظر غير الطويل معفوّ عنه زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا شبه نعم الدنيا بالزهر وهو النوار، لأن الزهر له منظر حسن، ثم يذبل ويضمحل، وفي نصب زهرة خمسة أوجه: أن ينتصب بفعل مضمر على الذم، أو يضمن متعنا معنى أعطينا، ويكون زهرة مفعولا ثانيا له، أو يكون بدلا من موضع الجار والمجرور، أو يكون بدلا من أزواجا على تقدير ذوي زهرة أو ينتصب على الحال. لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ أي لنختبرهم لا نَسْئَلُكَ رِزْقاً أي لا نسألك أن ترزق نفسك ولا أهلك فتفرغ أنت وأهلك للصلاة فنحن نرزقك، وكان بعض السلف إذا أصاب أهله خصاصة قال: قوموا فصلوا بهذا أمركم الله، ويتلو هذه الآية أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ ما فِي الصُّحُفِ الْأُولى البينة هنا البرهان، والصحف الأولى هي التوراة والإنجيل وغيرهما من كتب الله، والضمير في قالوا وفي أو لم تأتهم لقريش لما اقترحوا آية على وجه العناد والتعنت: أجابهم الله بهذا الجواب، والمعنى قد جاءكم برهان ما في التوراة والإنجيل من ذكر محمد صلى الله عليه وسلم، فلأي شيء تطلبون آية أخرى، ويحتمل أن يكون المعنى: قد جاءكم القرآن وفيه من العلوم والقصص ما في الصحف الأولى، فذلك بينة وبرهان على أنه من عند الله وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ الآية: معناها لو أهلكنا هؤلاء الكفار قبل بعث محمد صلى الله عليه وسلم لاحتجوا على الله بأن يقولوا: لولا أرسلت إلينا رسولا، ولولا هنا: عرض فقامت عليهم الحجة ببعثه صلى الله عليه وسلم قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ أي قل كل واحد منا ومنكم منتظر لما يكون من هذا الأمر فَتَرَبَّصُوا تهديد الصِّراطِ السَّوِيِّ المستقيم.

_ (1) . جزء من حديث رواه النووي في الأربعين رقم 23 وأوله: الطهور شطر الإيمان وهو في مسلم ج 1/. 203 أول كتاب الطهارة.

سورة الأنبياء

سورة الأنبياء مكية وآياتها 112 نزلت بعد سورة إبراهيم بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (سورة الأنبياء عليهم السلام) اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ الناس لفظ عام، وقال ابن عباس: المراد به هنا المشركون من قريش بدليل ما بعد ذلك، لأنه من صفاتهم، وإنما أخبر عن الساعة بالقرب، لأن الذي مضى من الزمان قبلها أكثر مما بقي لها ولأن كل آت قريب ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ يعني بالذكر القرآن، ومحدث: أي محدث النزول وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الواو في أسروا ضمير فاعل يعود على ما قبله، والذين ظلموا: بدل من الضمير، وقيل: إن الفاعل هو الذين ظلموا، وجاء ذلك على لغة من قال: أكلوني البراغيث، وهي لغة بني الحارث بن كعب، وقال سيبويه: لم تأت هذه اللغة في القرآن ويحتمل أن يكون الذين ظلموا منصوبا بفعل مضمر على الذم أو خبر ابتداء مضمر، والأول أحسن هَلْ هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ هذا الكلام في موضع نصب بدل من النجوى، لأنه هو الكلام الذي تناجوا به، والبشر المذكور في الآية هو سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم قالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ إخبار بأنه ما تناجوا به على أنهم أسرّوه، فإن قيل: هلا قال يعلم السر مناسبة لقوله أسرّوا النجوى؟ فالجواب: أن القول يشمل السرّ والجهر فحصل به ذكر السرّ وزيادة. بَلْ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ أي أخلاط منامات، وحكى عنهم هذه الأقوال الكثيرة، ليظهر اضطراب أمرهم وبطلان أقوالهم كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ أي كما جاء الرسل المتقدمون بالآيات، فليأتنا محمد بآية. فالتشبيه في الإتيان بالمعجزة ما آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها لما قالوا: فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ أخبرهم الله أن الذين من قبلهم طلبوا الآيات، فلما رأوها ولم يؤمنوا أهلكوا، ثم قال أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ أي أن حالهم في عدم الإيمان وفي الهلاك كحال من قبلهم،

[سورة الأنبياء (21) : الآيات 7 إلى 16]

ويحتمل أن يكون المعنى: أن كل قرية هلكت لم تؤمن فهؤلاء كذلك، ولا يكون على هذا جوابا لقولهم: فليأتنا بآية بل يكون إخبارا مستأنفا على وجه التهديد وأهلكناها في موضع الصفة لقرية، والمراد أهل القرية. وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلَّا رِجالًا ردّ على قولهم: هل هذا إلا بشر مثلكم والمعنى أن الرسل المتقدمين [كانوا] رجالا من البشر، فكيف تنكرون أن يكون هذا الرجل رسولا أَهْلَ الذِّكْرِ يعني: أحبار أهل الكتاب وَما جَعَلْناهُمْ جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ أي ما جعلنا الرسل أجسادا غير طاعمين، ووحد الجسد لإرادة الجنس، ولا يأكلون الطعام صفة لجسد، وفي الآية ردّ على قولهم: مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ [الفرقان: 7] وَمَنْ نَشاءُ يعني المؤمنين فِيهِ ذِكْرُكُمْ أي: شرفكم وقيل: تذكيركم قَصَمْنا أي أهلكنا، وأصله من قصم الظهر أي كسره مِنْ قَرْيَةٍ يريد أهل القرية: قال ابن عباس: هي قرية باليمن يقال لها حضور، بعث الله إليهم نبيا فقتلوه فسلط الله عليهم بختنصر ملك بابل فأهلكهم بالقتل، وظاهر اللفظ أنه على العموم لأن كم للتكثير، فلا يريد قرية معينة يَرْكُضُونَ عبارة عن فرارهم، فيحتمل أن يكونوا ركبوا الدواب، وركضوها لتسرع الجري أو شبهوا في سرعة جريهم على أرجلهم بمن يركض الدابة لا تَرْكُضُوا أي قيل لهم لا تركضوا والقائل لذلك هم الملائكة. قالوه تهكما بهم، أو رجال بختنصر إن كانت القرية المعينة، قالوا ذلك لهم خداعا ليرجعوا فيقتلوهم أُتْرِفْتُمْ أي نعمتم لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ تهكم بهم وتوبيخ أي: ارجعوا إلى نعيمكم ومساكنكم لعلكم تسألون عما جرى عليكم، ويحتمل أن يكون تسألون بمعنى يطلب لكم الناس معروفكم وهذا أيضا تهكم قالُوا يا وَيْلَنا الآية اعتراف وندم حين لم ينفعهم حَصِيداً خامِدِينَ شبهوا في هلاكهم بالزرع المحصود، ومعنى خامدين: موتى وهو تشبيه بخمود النار لاعِبِينَ حال منفية أي ما خلقنا السموات والأرض لأجل اللعب بل للاعتبار بها، والاستدلال على صانعها لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لَاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا اللهو في لغة اليمن: الولد، وقيل المرأة، ومن لدنا: أي من الملائكة، فالمعنى على هذا لو أردنا أن نتخذ ولدا لاتخذناه من الملائكة، لا من بني آدم، فهو ردّ على من قال: إن المسيح ابن الله وعزير ابن الله، والظاهر أن اللهو بمعنى اللعب لاتصاله بقوله لاعبين. وقال الزمخشري: المعنى على هذا لو أردنا أن نتخذ لهوا لكان ذلك في قدرتنا، ولكن ذلك

[سورة الأنبياء (21) : الآيات 24 إلى 32]

لا يليق بنا لأنه مناقض للحكمة، وفي كلا القولين نظر إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ يحتمل أن تكون إن شرطية وجوابها فيما قبلها، أو نافية، والأوّل أظهر بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ الحق عام في القرآن والرسالة والشرع وكل ما هو حق، والباطل عام في أضداد ذلك فَيَدْمَغُهُ أي يقمعه ويبطله، وأصله من إصابة الدماغ وَمَنْ عِنْدَهُ يعني الملائكة وَلا يَسْتَحْسِرُونَ أي لا يعيون ولا يملون أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ أم هنا للإضراب عما قبلها، والاستفهام على وجه الإنكار لما بعدها من الأرض يتعلق بينشرون والمعنى: أن الآلهة التي اتخذها المشركون لا يقدرون أن ينشروا الموتى من الأرض، فليست بآلهة في الحقيقة لأن من صفة الإله القدرة على الإحياء والإماتة. لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا هذا برهان على وحدانية الله تعالى، والضمير في قوله فيهما للسموات والأرض، وإلا الله صفة لآلهة، وإلا بمعنى غير، فاقتضى الكلام أمرين: أحدهما نفي كثرة الآلهة، ووجوب أن يكون الإله واحدا، والأمر الثاني: أن يكون ذلك الواحد هو الله دون غيره، ودل على ذلك قوله: إلا الله، وأما الأوّل فكانت الآية تدل عليه لو لم تذكر هذه الكلمة، وقال كثير من الناس في معنى الآية: إنها دليل على التمانع الذي أورده الأصوليون، وذلك أنا لو فرضنا إلهين، فأراد أحدهما شيئا وأراد الآخر نقيضه، فإما أن تنفذ إرادة كل واحد منهما، وذلك محال لأن النقيضين لا يجتمعان، وإما أن لا تنفذ إرادة واحد منهما، وذلك أيضا محال، لأن النقيضين لا يرتفعان معا، ولأن ذلك يؤدّي إلى عجزهما وقصورهما، فلا يكونان إلهين، وإما أن ينفذ إرادة واحد منهما دون الآخر، فالذي تنفذ إرادته هو الإله، والذي لا تنفذ إرادته ليس بإله، فالإله واحد. وهذا الدليل إن سلمنا صحته فلفظ الآية لا يطابقه، بل الظاهر من اللفظ استدلال آخر أصح من دليل التمانع، وهو أنه لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا، لما يحدث بينهما من الاختلاف والتنازع في التدبير وقصد المغالبة، ألا ترى أنه لا يوجد ملكان اثنان لمدينة واحدة، ولا ولّيان لخطة واحدة لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ لأنه مالك كل شيء، والمالك يفعل في ملكه ما يشاء، ولأنه حكيم، فأفعاله كلها جارية على الحكمة وَهُمْ يُسْئَلُونَ لفقد العلتين أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً كرر هذا الإنكار استعظاما للشرك، ومبالغة في تقبيحه، لأن قبله من صفات الله ما يوجب توحيده، وليناط به ما ذكر بعده من تعجيز المشركين، وأنهم ليس لهم على الشرك برهان لا من جهة العقل، ولا من جهة الشرع. هاتُوا بُرْهانَكُمْ تعجيز لهم وقد تكلمنا على هاتوا في [البقرة: 111] هذا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي

[سورة الأنبياء (21) : الآيات 33 إلى 38]

ردّ على المشركين والمعنى هذا الكتاب الذي معي، والكتب التي من قبلي ليس فيهما ما يقتضي الإشراك بالله، بل كلها متفقة على التوحيد وَما أَرْسَلْنا الآية: ردّ على المشركين، والمعنى أن كل رسول إنما أتى بلا إله إلا الله عِبادٌ مُكْرَمُونَ يعني الملائكة، وهم الذين قال فيهم بعض الكفار أنهم بنات الله، فوصفهم بالعبودية لأنها تناقض النبوّة، ووصفهم بالكرامة، لأن ذلك هو الذي غر الكفار حتى قالوا فيهم ما قالوا لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ أي لا يتكلمون حتى يتكلم هو تأدّبا معه وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى أي لمن ارتضى أن يشفع له، ويحتمل أن تكون هذه الشفاعة في الآخرة أو في الدنيا، وهي استغفارهم لمن في الأرض مُشْفِقُونَ أي خائفون وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ الآية على فرض أن لو قالوا ذلك، ولكنهم لا يقولونه، وإنما مقصد الآية الردّ على المشركين وقيل: إن الذي قال: إني إله هو إبليس لعنه الله. كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما الرتق مصدر وصف به، ومعناه الملتصق بعضه ببعض الذي لا صدع فيه ولا فتح، والفتق: الفتح فقيل: كانت السموات ملصقة بالأرض ففتقها الله بالهواء، وقيل كانت السموات ملتصقة بعضها ببعض، والأرضون كذلك ففتقهما الله سبعا سبعا، والرؤية في قوله أو لم ير على هذا رؤية قلب، وقيل: فتق السماء بالمطر وفتق الأرض بالنبات، فالرؤية على هذا رؤية عين. وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أي خلقنا من الماء كل حيوان، ويعني بالماء المنيّ. وقيل: الماء الذي يشرب، لأنه سبب لحياة الحيوان، ويدخل في ذلك النبات باستعارة رَواسِيَ يعني الجبال أَنْ تَمِيدَ تقديره كراهية أن تميد فِجاجاً يعني الطرق الكبار، وإعرابه عند الزمخشري حال من السبل، لأنه صفة تقدّمت على النكرة لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ يعني في طرقهم وتصرفاتهم سَقْفاً مَحْفُوظاً أي حفظ من السقوط ومن الشياطين عَنْ آياتِها مُعْرِضُونَ يعني الكواكب والأمطار والرعد والبرق وغير ذلك كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ التنوين في كل عوض عن الإضافة أي: كلهم في فلك يسبحون يعني الشمس والقمر، دون الليل والنهار، إذ لا يوصف الليل والنهار بالسبح في الفلك فالجملة

[سورة الأنبياء (21) : الآيات 39 إلى 46]

في موضع حال من الشمس والقمر أو مستأنفا، فإن قيل: لفظ كلّ ويسبحون جمع، فكيف يعني الشمس والقمر وهما اثنان؟ فالجواب: أنه أراد جنس مطالعها كل يوم وليلة، وهي كثيرة قاله الزمخشري وقال القزنوي: أراد الشمس والقمر وسائر الكواكب السيارة، وعبر عنهما بضمير الجماعة العقلاء في قوله: يسبحون، لأنه وصفهم بفعل العقلاء وهو السبح، فإن قيل: كيف قال في فلك، وهي أفلاك كثيرة؟ فالجواب أنه أراد كل واحد يسبح في فلكه، وذلك كقولهم: كساهم الأمير حلة أي كسا كل واحد منهم حلة، ومعنى الفلك جسم مستدير، وقال بعض المفسرين: إنه من موج، وذلك بعيد، والحق أنه لا يعلم صفته وكيفيته إلا بإخبار صحيح عن الشارع، وذلك غير موجود، ومعنى يسبحون يجرون، أو يدورون، وهو مستعار من السبح بمعنى العوم في الماء، وقوله: كل في فلك من المقلوب الذي يقرأ من الطرفين. وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ سببها أن الكفار طعنوا على النبي صلى الله عليه وسلم بأنه بشر يموت، وقيل: إنهم تمنوا موته ليشتموا به، وهذا أنسب لما بعده أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ موضع دخول الهمزة فهم الخالدون وتقدمت لأن الاستفهام له صدر الكلام كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ أي كل نفس مخلوقة لا بدّ لها أن تذوق الموت، والذوق هنا استعارة وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ أي نختبركم بالفقر والغنى والصحة والمرض وغير ذلك من أحوال الدنيا، ليظهر الصبر على الشر والشكر على الخير، أو خلاف ذلك فِتْنَةً مصدر من معنى نبلوكم أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ أي يذكرهم بالذم دلت على ذلك قرينة الحال، فإن الذكر قد يكون بذمّ أو مدح، والجملة تفسير للهزء أي يقولون: أهذا الذي وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمنِ هُمْ كافِرُونَ الجملة في موضع الحال أي كيف ينكرون ذمّك لآلهتهم وهم يكفرون بالرحمن، فهم أحق بالملامة، وقيل: معنى بذكر الرحمن تسميته بهذا الاسم، لأنهم أنكروها، والأول أغرق في ضلالهم خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ خلق شديد الاستعجال وجاءت هذه العبارة للمبالغة: كقولهم خلق حاتم من جود، والإنسان هنا جنس، وسبب الآية: أن الكفار استعجلوا الآيات التي اقترحوها والعذاب الذي طلبوه، فذكر الله هذا توطئة لقوله: فلا تستعجلون، وقيل: المراد هنا آدم، لأنه لما وصلت الروح إلى صدره أراد أن يقوم. وهذا ضعيف، وقيل من عجل: أي من طين، وهذا أضعف سَأُرِيكُمْ آياتِي وعيد وجواب على ما طلبوه من التعجيل وَيَقُولُونَ الآية: تفسير لاستعجالهم الْوَعْدُ القيامة وقيل: نزول العذاب بهم لَوْ يَعْلَمُ جواب لو محذوف حِينَ مفعول به ليعلموا: أي لو يعلمون الوقت الذي يحيط بهم العذاب لآمنوا وما استعجلوا

[سورة الأنبياء (21) : الآيات 47 إلى 63]

بَلْ تَأْتِيهِمْ الضمير الفاعل للنار، وقيل للساعة فَتَبْهَتُهُمْ أي تفجؤهم وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ أي لا يؤخرون عن العذاب وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ الآية تسلية بالتأسي فَحاقَ أي أحاط. مَنْ يَكْلَؤُكُمْ أي من يحفظكم من أمر الله، ومن استفهامية، والمعنى تهديد، وإقامة حجة، لأنهم لو أجابوا عن هذا السؤال لاعترفوا أنهم ليس لهم مانع ولا حافظ، ثم جاء قوله بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ بمعنى أنهم إذا سئلوا عن ذلك السؤال لم يجيبوا عنه لأنهم تقوم عليهم الحجة إن أجابوا، ولكنهم يعرضون عن ذكر الله: أي عن الجواب الذي فيه ذكر الله، وقال الزمخشري: معنى الإضراب هنا أنهم معرضون عن ذكره، فضلا عن أن يخافوا بأسه أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنا أي تمنعهم من العذاب، وأم هنا للاستفهام، والمعنى الإنكار والنفي، وذلك أنه لما سألهم عمن يكلؤهم: أخبر بعد ذلك أن آلهتهم لا تمنعهم ولا تحفظهم ثم احتج عن ذلك بقوله: لا يستطيعون نصر أنفسهم، فإن من لا ينصر نفسه أولى أن لا ينصر غيره وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ الضمير للكفار: أي لا يصحبون منا بنصر ولا حفظ بَلْ مَتَّعْنا هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ أي متعناهم بالنعم والعافية في الدنيا، فطغوا بذلك ونسوا عقاب الله، والإضراب ببل عن معنى الكلام المتقدم: أي لم يحملهم على الكفر والاستهزاء نصر ولا حفظ، بل حملهم على ذلك أنا متعناهم وآباءهم. نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها ذكر في [الرعد: 43] وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعاءَ إشارة إلى الكفار، والصم استعارة في إفراط إعراضهم نَفْحَةٌ أي خطرة «1» وفيها تقليل العذاب، والمعنى أنهم لو رأوا أقل شيء من عذاب الله لأذعنوا واعترفوا بذنوبهم وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ أي العدل، وإنما أفرد القسط وهو صفة للجمع، لأنه مصدر وصف به كالعدل والرضا، وعلى تقدير ذوات القسط، ومذهب أهل السنة أن الميزان يوم القيامة حقيقة، له كفتان ولسان وعمود توزن فيه الأعمال، والخفة والثقل متعلقة بالأجسام، إما صحف الأعمال، أو ما شاء الله، وقالت المعتزلة: إن الميزان عبارة عن العدل في الجزاء لِيَوْمِ الْقِيامَةِ، وقال ابن عطية تقديره: لحساب يوم القيامة، أو لحكمة، فهو على حذف مضاف

_ (1) . كذا وفي الطبري: حظ أو نصيب.

وقال الزمخشري: هو كقولك كتبت الكتاب لست خلون من الشهر مِثْقالَ حَبَّةٍ أي وزنها والرفع على أن كان تامة، والنصب على أنها ناقصة واسمها مضمر الْفُرْقانَ هنا التوراة، وقيل التفرقة بين الحق والباطل بالنصر وإقامة الحجة وَهذا ذِكْرٌ يعني القرآن رُشْدَهُ أي إرشاده إلى توحيد الله وكسر الأصنام وغير ذلك مِنْ قَبْلُ أي قبل موسى وهارون، وقيل آتيناه رشده قبل النبوة وَكُنَّا بِهِ عالِمِينَ أي علمناه أنه يستحق ذلك التَّماثِيلُ يعني الأصنام وكانت على صور بني آدم وَجَدْنا آباءَنا اعتراف بالتقليد من غير دليل قالُوا أَجِئْتَنا بِالْحَقِّ أي هل الذي تقول حق أم مزاح، وانظر كيف عبر عن الحق بالفعل، وعن اللعب بالجملة الاسمية، لأنه أثبت عندهم فَطَرَهُنَّ أي خلقهن، والضمير للسموات والأرض، أو التماثيل، وهذا أليق بالرد عليهم بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ يعني خروجهم إلى عيدهم جُذاذاً أي فتاتا، ويجوز فيه الضم والكسر والفتح، وهو من الجذ بمعنى القطع إِلَّا كَبِيراً لَهُمْ ترك الصنم الكبير لم يكسره وعلق القدوم في يده لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ الضمير للصنم الكبير أي يرجعون إليه فيسألونه فلا يجيبهم، فيظهر لهم أنه لا يقدر على شيء، وقيل: الضمير لإبراهيم عليه الصلاة والسلام، أي يرجعن إليه فيبين لهم الحق. قالُوا مَنْ فَعَلَ هذا قبله محذوف تقديره: فرجعوا من عيدهم فرأوا الأصنام مكسورة، فقالوا: من فعل هذا فَتًى يَذْكُرُهُمْ أي يذكرهم بالذم وبقوله: لأكيدن أصنامكم يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ قيل: إن إعراب إبراهيم منادى، وقيل خبر ابتداء مضمر، وقيل رفع على الإهمال، والصحيح أنه مفعول لم يسم فاعله، لأن المراد الاسم لا المسمى وهذا اختيار ابن عطية والزمخشري لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ أي يشهدون عليه بما فعل أو يحضرون عقوبتنا له قالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ قصد إبراهيم عليه السلام بهذا القول تبكيتهم وإقامة الحجة عليهم، كأنه يقول: إن كان إلها فهو قادر على أن يفعل، وإن لم يقدر فليس بإله ولم يقصد الإخبار المحض، لأنه كذب، فإن قيل: فقد جاء في الحديث «1» إن إبراهيم كذب ثلاث كذبات: أحدها قوله فعله كبيرهم، فالجواب أن معنى

_ (1) . الحديث رواه الشيخان عن أبي هريرة وأوله: أنا سيد الناس يوم القيامة وقد رواه النووي في آخر كتاب رياض الصالحين.

[سورة الأنبياء (21) : الآيات 64 إلى 73]

ذلك أنه قال قولا ظاهره الكذب، وإن كان القصد به معنى آخر، ويدل على ذلك قوله فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ لأنه أراد به أيضا تبكيتهم وبيان ضلالهم فَرَجَعُوا إِلى أَنْفُسِهِمْ أي رجعوا إليها بالفكرة والنظر، أو رجعوا إليها بالملامة فَقالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ أي الظالمون لأنفسكم في عبادتكم ما لا ينطق ولا يقدر على شيء أو الظالمون لإبراهيم في قولكم عنه إنه لمن الظالمين، وفي تعنيفه على أعين الناس ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ استعارة لانقلابهم برجوعهم عن الاعتراف بالحق إلى الباطل والمعاندة فقالوا لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ أي فكيف تأمرنا بسؤالهم فهم قد اعترفوا بأنهم لا ينطقون، وهم مع ذلك يعبدونهم فهذه غاية الضلال في فعلهم، وغاية المكابرة والمعاندة في جدالهم، ويحتمل أن يكون نكسوا على رؤوسهم بمعنى رجوعهم من المجادلة إلى الانقطاع فإن قولهم: لقد علمت ما هؤلاء ينطقون: اعتراف يلزم منه أنهم مغلوبون بالحجة، ويحتمل على هذا أن يكون نكسوا على رؤوسهم حقيقة: أي أطرقوا من الخجل لما قامت عليهم الحجة أُفٍّ لَكُمْ تقدم الكلام على أف في [الإسراء: 23] قالُوا حَرِّقُوهُ لما غلبهم بالحجة رجعوا إلى التغلب عليه بالظلم قُلْنا يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً أي ذات برد وسلام، وجاءت العبارة هكذا للمبالغة، واختلف كيف بردت النار؟ فقيل: أزال الله عنها ما فيها من الحرّ، والإحراق، وقيل: دفع عن جسم إبراهيم حرها وإحراقها مع ترك ذلك فيها، وقيل: خلق بينه وبينها حائلا، ومعنى السلام هنا السلامة، وقد روى أنه لو لم يقل: سلاما لهلك إبراهيم من البرد. وقد أضربنا عما ذكره الناس في قصة إبراهيم لعدم صحته، ولأن ألفاظ القرآن لا تقتضيه. إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها هي الشام خرج إليها من العراق، وبركتها بخصبها وكثرة الأنبياء فيها نافِلَةً أي عطية، والتنفيل العطاء، وقيل سماه: نافلة لأنه عطاء بغير سؤال، فكأنه تبرع، وقيل: الهبة إسحاق، والنافلة يعقوب، لأنه سأل إسحاق بقوله: هب لي من الصالحين فأعطى يعقوب زيادة على ما سأل، واختار بعضهم على هذا الوقف على إسحاق لبيان المعنى، وهذا ضعيف لأنه معطوف على كل قول يَهْدُونَ بِأَمْرِنا أي يرشدون الناس بإذننا وَلُوطاً قيل: إنه انتصب بفعل مضمر يفسره آتيناه، والأظهر أنه انتصب بالعطف على موسى وهارون أو إبراهيم وانتصب ونوحا وداود وسليمان وما بعدهم بالعطف أيضا، وقيل بفعل مضمر تقديره: اذكر آتَيْناهُ حُكْماً أي حكما بين الناس: أو

[سورة الأنبياء (21) : الآيات 79 إلى 83]

حكمة مِنَ الْقَرْيَةِ هي سدوم من أرض الشام وَأَدْخَلْناهُ فِي رَحْمَتِنا أي في الجنة أو في أهل رحمتنا نادى مِنْ قَبْلُ أي دعا قبل إبراهيم ولوط مِنَ الْكَرْبِ يعني من الغرق وَنَصَرْناهُ مِنَ الْقَوْمِ تعدى نصرناه بمن لأنه مطاوع انتصر المتعدّى بمن، أو تضمن معنى نجيناه أو أجرناه وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ كان داود نبيا ملكا، وكان ابنه سليمان ابن أحد عشر عاما فِي الْحَرْثِ قيل: زرع، وقيل: كرم، والحرث يقال فيهما إِذْ نَفَشَتْ رعت فيه بالليل لِحُكْمِهِمْ الضمير لداود وسليمان والمتخاصمين، وقيل لداود وسليمان خاصة، على أن يكون أقل الجمع اثنان فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ تخاصم إلى داود رجلان دخلت غنم أحدهما على زرع الآخر بالليل فأفسدته فقضى داود بأن يأخذ صاحب الزرع الغنم، ووجه هذا الحكم أن قيمة الزرع كانت مثل قيمة الغنم، فخرج الرجلان على سليمان وهو بالباب، فأخبراه بما حكم به أبوه، فدخل عليه فقال: يا نبيّ الله لو حكمت بغير هذا كان أرفق للجميع، قال وما هو؟ قال يأخذ صاحب الغنم الأرض ليصلحها حتى يعود زرعها كما كان، ويأخذ صاحب الزرع الغنم وينتفع بألبانها وصوفها ونسلها، فإذا أكمل الزرع ردت الغنم إلى صاحبها، والأرض بزرعها إلى ربها، فقال له داود: وفقت يا بنيّ، وقضى بينهما بذلك، ووجه حكم سليمان أنه جعل الانتفاع بالغنم بإزاء ما فات من الزرع، وواجب على صاحب الغنم أن يعمل في الحرث حتى يزول الضرر والنقصان، ويحتمل أن يكون ذلك إصلاحا لا حكما. واختلف الناس هل كان حكمهما بوحي أو اجتهاد؟ فمن قال كان باجتهاد أجاز الاجتهاد للأنبياء، وروي أن داود رجع عن حكمه لما تبين له أن الصواب خلافه، وقد اختلف في جواز الاجتهاد في حق الأنبياء، وعلى القول بالجواز اختلف، هل وقع أم لا؟ وظاهر قوله: ففهمناها سليمان: أنه كان باجتهاد فخص الله به سليمان ففهم القضية، ومن قال: كان بوحي، جعل حكم سليمان ناسخا لحكم داود. وأما حكم إفساد المواشي الزرع في شرعنا، فقال مالك والشافعي: يضمن أرباب المواشي ما أفسدت بالليل دون النهار للحديث الوارد في ذلك، وعلى هذا يدل حكم داود وسليمان، لأن النفش لا يكون إلا بالليل، وقال أبو حنيفة: لا يضمن ما أفسدت بالليل ولا بالنهار، لقوله صلى الله عليه وسلم: العجماء جرحها جبار «1» وَكُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً قيل: يعني في

_ (1) . الحديث ورد في مسند أحمد من حديث أبي هريرة ج 2 ص 239.

[سورة الأنبياء (21) : الآيات 84 إلى 89]

هذه النازلة، وأن داود لم يخطئ فيها، ولكنه رجع إلى ما هو أرجح، ويدل على هذا القول أن كل مجتهد مصيب، وقيل: بل يعني حكما وعلما في غير هذه النازلة، وعلى هذا القول فإنه أخطأ فيها، وأن المصيب واحد من المجتهدين وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ كان هذا التسبيح قول سبحان الله، وقيل: الصلاة معه إذا صلى، وقدم الجبال على الطير، لأن تسبيحها أغرب إذ هي جماد وَكُنَّا فاعِلِينَ أي قادرين على أن نفعل هذا. وقال ابن عطية: معناه كان ذلك في حقه لأجل أن داود استوجب ذلك مناصفة كذا! صَنْعَةَ لَبُوسٍ يعني دروع الحديد، وأول من صنعها داود عليه السلام، وقال ابن عطية اللبوس في اللغة: السلاح وقال الزمخشري: اللبوس اللباس لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ أي لتقيكم في القتال وقرئ «1» بالياء والتاء والنون، فالنون لله تعالى، والتاء للصنعة، والياء لداود أو للبوس فَهَلْ أَنْتُمْ شاكِرُونَ لفظ استفهام، ومعناه استدعاء إلى الشكر وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ عاصِفَةً عطف الريح على الجبال، والعاصفة هي الشديدة فإن قيل: كيف يقال عاصفة؟ وقال في [ص: 36] رخاء أي لينة؟ فالجواب: أنها كانت في نفسها لينة طيبة، وكانت تسرع في جريها كالعاصف فجمعت الوصفين، وقيل: كانت رخاء في ذهابه، وعاصفة في رجوعه إلى وطنه، لأن عادة المسافرين الإسراع في الرجوع وقيل: كانت تشتدّ إذا رفعت البساط وتلين إذا حملته إِلى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها يعني أرض الشام، وكانت مسكنه وموضع ملكه، فخص في الآية الرجوع إليها لأنه يدل على الانتقال منها يَغُوصُونَ لَهُ أي يدخلون في الماء ليستخرجوا له الجواهر من البحار عَمَلًا دُونَ ذلِكَ أقل من الغوص كالبنيان والخدمة وَكُنَّا لَهُمْ حافِظِينَ أي نحفظهم عن أن يزيغوا عن أمره، أو نحفظهم من إفساد ما صنعوه، وقيل: معناه عالمين بعددهم. وَأَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ كان أيوب عليه السلام نبيا من الروم، وقيل من بني إسرائيل، وكان له أولاد ومال كثير فأذهب الله ماله فصبر، ثم أهلك الأولاد فصبر، ثم سلط البلاء «2» على جسمه فصبر إلى أن مر به قومه فشمتوا به، فحينئذ دعا الله تعالى، على أن قوله: مسني الضر وأنت أرحم الراحمين ليس تصريحا بالدعاء، ولكنه ذكر نفسه بما يوجب الرحمة، ووصف ربه بغاية الرحمة ليرحمه، فكان في ذلك من حسن التلطف ما ليس في التصريح بالطلب فَكَشَفْنا ما بِهِ مِنْ ضُرٍّ لما استجاب الله له أنبع له عينا من ماء فشرب منه

_ (1) . قرأ ابن عامر وحفص لتحصنكم وقرأ أبو بكر: لنحصنكم بالنون وقرأ الباقون ليحصنكم بالياء. (2) . المراد بالبلاء المرض الذي أصابه وهو مرض باطني لا تنفر منه الطباع البشرية لعصمة الأنبياء من ذلك.

[سورة الأنبياء (21) : الآيات 90 إلى 96]

واغتسل فبرئ من المرض والبلاء وَآتَيْناهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ روى أن الله أحيا أولاده الموتى ورزقهم مثلهم معهم في الدنيا وقيل: في الآخرة، وقيل: ولدت امرأته مثل عدد أولاده الموتى ومثلهم معهم، وأخلف الله عليه أكثر مما ذهب من ماله رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا أي رحمة لأيوب، وذكرى لغيره من العابدين ليصبروا كما صبر، ويحتمل أن تكون الرحمة والذكرى معا للعابدين. وَذَا الْكِفْلِ قيل: هو إلياس وقيل: زكريا، وقيل: نبيّ بعث إلى رجل واحد، وقيل: رجل صالح غير نبي، وسمى ذا الكفل: أي ذا الحظ من الله وقيل: لأنه تكفل لليسع بالقيام بالأمر من بعده. وَذَا النُّونِ هو يونس عليه السلام، والنون هو الحوت نسب إليه لأنه التقمه إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً أي مغاضبا لقومه، إذ كان يدعوهم إلى الله فيكفرون، حتى أدركه ضجر منهم فخرج عنهم، ولذلك قال الله: وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ [القلم: 48] ، ولا يصح قول من قال مغاضبا لربه فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ أي ظن أن [لن] نضيق عليه، فهو من معنى قوله قدر عليه رزقه، وقيل: هو من القدر والقضاء: أي ظنّ أن لن نضيق عليه بعقوبة، ولا يصح قول من قال: إنه من القدرة فَنادى فِي الظُّلُماتِ قيل هذا الكلام محذوف لبيانه في غير هذه الآية، وهو أنه لما خرج ركب السفينة فرمي في البحر فالتقمه الحوت فنادى في الظلمات، وهي ظلمة الليل والبحر وبطن الحوت، ويحتمل أنه عبر بالظلمة عن بطن الحوت، لشدّة ظلمته كقوله: وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ [البقرة: 17] أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ أن مفسرة أو مصدرية على تقدير نادى بأن، والظلم الذي اعترف به كونه لم يصبر على قومه وخرج عنهم وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِّ يعني من بطن الحوت وإخراجه إلى البرّ وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ يحتمل أن يكون مطلقا أو لمن دعا بدعاء يونس، ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: دعوة أخي يونس ذي النون ما دعا بها مكروب إلا استجيب له «1» لا تَذَرْنِي فَرْداً أي بلا ولد ولا وارث وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ إن لم ترزقني وارثا فأنت خير الوارثين، فهو استسلام لله وَأَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ يعني ولدت بعد أن كانت

_ (1) . الحديث ذكره صاحب التيسير وعزاه لأحمد والترمذي والنسائي والحاكم، وصححه البيهقي عن سعد بن أبي وقاص.

[سورة الأنبياء (21) : الآيات 97 إلى 104]

عاقرا، واسم زوجته أشياع، قاله السهيلي يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ والضمير للأنبياء المذكورين رَغَباً وَرَهَباً الرغب الرجاء، والرهب الخوف، وقيل: الرغب أن ترفع إلى السماء بطون الأيدي، والرهب أن ترفع ظهورها وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها هي مريم بنت عمران، ومعنى أحصنت من العفة أي أعفته عن الحرام والحلال، كقولها: لم يمسسني بشر فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا أي أجرينا فيها روح عيسى لما نفخ جبريل في جيب درعها، ونسب الله النفخ إلى نفسه، لأنه كان بأمره والروح هنا هو الذي في الجسد، وأضاف الله الروح إلى نفسه للتشريف أو للملك آيَةً أي دلالة، ولذلك لم يثن إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أي ملتكم ملة واحدة، وهو خطاب للناس كافة، أو للمعاصرين لسيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم: أي إنما بعث الأنبياء المذكورون بما أمرتم به من الدين، لأن جميع الأنبياء متفقون في أصول العقائد فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ أي اختلفوا فيه، وهو استعارة من جعل الشيء قطعا، والضمير للمخاطبين، قيل فالأصل تقطعتم فَلا كُفْرانَ لِسَعْيِهِ أي لإبطال ثواب عمله وَإِنَّا لَهُ كاتِبُونَ أي نكتب عمله في صحيفته وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ قرئ حرم «1» بكسر الحاء وهو بمعنى حرام، واختلف في معنى الآية، فقيل حرام بمعنى ممتنع على قرية أراد الله إهلاكها أن يرجعوا إلى الله بالتوبة، أو ممتنع على قرية أهلكها الله أن يرجعوا إلى الدنيا، ولا زائدة في الوجهين، وقيل: حرام بمعنى حتم واقع لا محالة، ويتصور فيه الوجهان، وتكون لا نافية فيهما أي: حتم عدم رجوعهم إلى الله بالتوبة أو: حتم عدم رجوعهم إلى الدنيا وقيل: المعنى ممتنع على قرية أهلكها الله أنهم لا يرجعون إليه في الآخرة، ولا على هذا نافية أيضا، ففيه ردّ على من أنكر البعث. حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ حتى هنا حرف ابتداء أو غاية متعلقة بيرجعون، وجواب إذا: فإذا هي شاخصة، وقيل: الجواب يا ويلنا لأن تقديره يقولون يا ويلنا، وفتحت يأجوج ومأجوج أي فتح سدها فحذف المضاف وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ الحدب المرتفع من الأرض، وينسلون: أي يسرعون، والضمير ليأجوج ومأجوج: أي يخرجون من كل طريق لكثرتهم، وقيل: لجميع الناس الْوَعْدُ الْحَقُّ يعني القيامة فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ إذا هنا للمفاجأة، والضمير عند سيبويه ضمير القصة، وعند الفراء،

_ (1) . قرأ حمزة والكسائي وأبو بكر: حرم. وقرأ الباقون: حرام.

[سورة الأنبياء (21) : الآيات 105 إلى 112]

للأبصار، وشاخصة من الشخوص وهو: إحداد النظر من الخوف إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ هذا خطاب للمشركين، والحصب: ما توقد به النار: كالحطب. وقرأ عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه «حطب جهنم» والمراد بما تعبدون الأصنام وغيرها تحرق في النار توبيخا لمن عبدها وارِدُونَ الورود هنا الدخول زَفِيرٌ ذكر في هود لا يَسْمَعُونَ. قيل يجعلون في توابيت من نار فلا يسمعون شيئا، وقيل: يصمهم الله كما يعميهم إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى سبقت أي: قضيت في الأزل، والحسنى السعادة، ونزلت الآية لما اعترض ابن الزبعرى على قوله: إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم، فقال: إن عيسى وعزير والملائكة قد عبدوا فالمعنى إخراج هؤلاء من ذلك الوعيد، واللفظ مع ذلك على عمومه في كل من سبقت له السعادة حَسِيسَها أي صوتها الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ أهوال القيامة على الجملة، وقيل ذبح الموت وقيل: النفخة الأولى في الصور لقوله: ففزع من السموات ومن في الأرض كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ السجل الصحيفة والكتاب «1» مصدر: أي كما يطوي السجل ليكتب فيه، أو ليصان الكتاب الذي فيه، وقيل: السجل رجل كاتب وهذا ضعيف، وقيل: هو ملك في السماء الثانية: ترفع إليه الأعمال، وهذا أيضا ضعيف كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ أي كما قدرنا على البداءة نقدر على الإعادة، فهو كقوله: قل يحييها الذي أنشأها أول مرة، وقيل: المعنى نعيدهم على الصورة التي بدأناهم كما جاء في الحديث: يحشر الناس يوم القيامة حفاة عراة غرلا «2» ، ثم قرأ: كما بدأنا أول خلق نعيده، والكاف متعلقة بقوله نعيده فاعِلِينَ تأكيدا لوقوع البعث. وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ في الزبور هنا قولان: أحدهما أنه كتاب داود، والذكر هنا على هذا التوراة التي أنزل الله على موسى، وما في الزبور من ذكر الله تعالى، والقول الثاني أن الزبور جنس الكتب التي أنزلها الله على جميع الأنبياء، والذكر على هذا هو اللوح المحفوظ: أي كتب الله هذا في الكتاب الذي أفرد له، بعد ما كتبه في اللوح المحفوظ حتي قضى الأمور كلها، والأول أرجح، لأن إطلاق الزبور على كتاب داود أظهر

_ (1) . قرأ حمزة والكسائي وحفص: للكتب. وقرأ الباقون: للكتاب. (2) . رواه أحمد عن ابن عباس ج 1 ص 223.

وأكثر استعمالا، ولأن الزبور مفرد فدلالته على الواحد أرجح من دلالته على الجمع، ولأن النص قد ورد في زبور داود بأن الأرض يرثها الصالحون أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ الأرض هنا على الإطلاق في مشارق الأرض ومغاربها، وقيل: الأرض المقدسة، وقيل: أرض الجنة، والأول أظهر، والعباد الصالحون: أمّة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ففي الآية ثناء عليهم، وإخبار بظهور غيب مصداقه في الوجود إذ فتح الله لهذه الأمة مشارق الأرض ومغاربها وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ هذا خطاب لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وفيه تشريف عظيم، وانتصب رحمة على أنه حال من ضمير المخاطب المفعول، والمعنى على هذا أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو الرحمة، ويحتمل أن يكون مصدرا في موضع الحال من ضمير الفاعل تقديره: أرسلناك راحمين للعالمين، أو يكون مفعولا من أجله، والمعنى على كل وجه: أن الله رحم العالمين بإرسال سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم، لأنه جاءهم بالسعادة الكبرى، والنجاة من الشقاوة العظمى، ونالوا على يديه الخيرات الكثيرة في الآخرة والأولى، وعلمهم بعد الجهالة وهداهم بعد الضلالة، فإن قيل: رحمة للعالمين عموم، والكفار لم يرحموا به؟ فالجواب من وجهين: أحدهما أنهم كانوا معرضين للرحمة به لو آمنوا فهم الذين تركوا الرحمة بعد تعريضها لهم، والآخر أنهم رحموا به لكونهم لم يعاقبوا بمثل ما عوقب به الكفار المتقدّمون من الطوفان والصيحة وشبه ذلك آذَنْتُكُمْ عَلى سَواءٍ أي أعلمتكم بالحق على استواء في الإعلام وتبليغ إلى جميعكم لم يختص به واحد دون آخر. وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ ما تُوعَدُونَ إن هنا وفي الموضع الآخر نافية، وأدري فعل علق عن معموله لأنه من أفعال القلوب وما بعده في موضع المعمول من طريق المعنى فيجب وصله معه، والهمزة في قوله: أقريب للتسوية لا لمجرد الاستفهام، وقيل: يوقف على إن أدرى في الموضعين، ويبتدأ بما بعده، وهذا خطأ لأنه يطلب ما بعده لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ الضمير لإمهالهم وتأخير عقوبتهم وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ أي الموت أو القيامة الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ أي أستعين به على الصبر على ما تصفون من الكفر والتكذيب.

سورة الحج

سورة الحج مدنية إلا الآيات 52 و 53 و 54 و 55 فبين مكة والمدينة وآياتها 78 نزلت بعد النور بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (سورة الحج) اتَّقُوا رَبَّكُمْ تكلمنا على التقوى في أول البقرة إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ أي شدّتها وهولها كقوله: وزلزلوا، أو تحريك الأرض حينئذ كقوله: إذا زلزلت الأرض زلزالها، والجملة تعليل للأمر بالتقوى، واختلف هل الزلزلة والشدائد المذكورة بعد ذلك في الدنيا بين يدي القيامة، أو بعد أن تقوم القيامة، والأرجح أن ذلك قبل القيامة، لأن في ذلك الوقت يكون ذهول المرضعة، ووضع الحامل لا بعد القيامة يَوْمَ تَرَوْنَها العامل في الظرف تذهل، والضمير للزلزلة، وقيل: الساعة، وذلك ضعيف لما ذكرنا إلا أن يريد ابتداء أمرها تَذْهَلُ الذهول هو الذهاب عن الشيء مع دهشة مُرْضِعَةٍ إنما لم يقل مرضع، لأن المرضعة هي التي في حال الإرضاع ملقمة ثديها للصبي، والمرضع التي شأنها أن ترضع وإن لم تباشر الإرضاع في حال وصفها به، فقال: مرضعة ليكون ذلك أعظم في الذهول، إذ تنزع ثديها من فم الصبي حينئذ وَتَرَى النَّاسَ سُكارى تشبيه بالسكارى من شدّة الغمّ وَما هُمْ بِسُكارى نفي لحقيقة السكر، وقرأ [حمزة والكسائي] سكرى والمعنى متفق. وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ نزلت في النضر بن الحارث، وقيل في أبي جهل، وهي تتناول كل من اتصف بذلك شَيْطانٍ مَرِيدٍ أي شديد الإغواء، ويحتمل أن يريد شيطان الجن أو الإنس كُتِبَ تمثيل لثبوت الأمر كأنه مكتوب، ويحتمل أن يكون بمعنى قضى، كقولك: كتب الله أنه في موضع المفعول الذي لم يسم فاعله وفي أنه عطف عليه وقيل: تأكيد مَنْ تَوَلَّاهُ أي تبعه أو اتخذه وليا، والضمير في عليه، وفي أنه في الموضعين، وفي تولاه، للشيطان، وفي يضله، ويهديه، للمتولي له، ويحتمل أن تكون تلك الضمائر أولا لمن يجادل.

[سورة الحج (22) : الآيات 5 إلى 6]

يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ الآية: معناها إن شككتم في البعث الأخروي فزوال ذلك الشك أن تنظروا في ابتداء خلقتكم فتعلموا أن الذي قدر على أن خلقكم أول مرة: قادر على أن يعيدكم ثاني مرة، وأن الذي قدر على إخراج النبات من الأرض بعد موتها: قادر على أن يخرجكم من قبوركم خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ إشارة إلى خلق آدم، وأسند ذلك إلى الناس لأنهم من ذريته وهو أصلهم مِنْ عَلَقَةٍ العلقة قطعة من دم جامدة مِنْ مُضْغَةٍ أي قطعة من لحم مُخَلَّقَةٍ المخلقة التامة الخلقة، وغير المخلقة الغير التامة: كالسقط، وقيل: المخلقة المسوّاة السالمة من النقصان لِنُبَيِّنَ لَكُمْ اللام تتعلق بمحذوف تقديره: ذكرنا ذلك لنبين لكم قدرتنا على البعث وَنُقِرُّ فعل مستأنف إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى يعني وقت وضع الحمل وهو مختلف وأقله ستة أشهر إلى ما فوق ذلك نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا أفرده لأنه أراد الجنس، أو أراد نخرج كل واحد منكم طفلا لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ هو كمال القوّة والعقل والتمييز. وقد اختلف فيه من ثماني عشرة سنة إلى خمس وأربعين أَرْذَلِ الْعُمُرِ ذكر في [النحل: 70] هامِدَةً يعني لا نبات فيها اهْتَزَّتْ تحركت بالنبات وتخلخلت أجزاؤها لما دخلها الماء وَرَبَتْ انتفخت زَوْجٍ بَهِيجٍ أي صنف عجيب. ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ أي ذلك المذكور من أمر الإنسان، والنبات حاصل، بأن الله هو الحق، هكذا قدره الزمخشري، والباء على هذا سببية، وبهذا المعنى أيضا فسّره ابن عطية، ويلزم على هذا أن لا يكون قوله: وأن الساعة آتية: معطوفا على ذلك، لأنه ليس بسبب لما ذكر، فقال ابن عطية قوله: أن الساعة ليس بسبب لما ذكر، ولكن المعنى أن الأمر مرتبط بعضه ببعض، أو على تقدير: والأمر أن الساعة وهذان الجوابان اللذان ذكر ابن عطية ضعيفان: أما قوله إن الأمر مرتبط بعضه ببعض، فالارتباط هنا إنما يكون بالعطف والعطف لا يصح، وأما قوله على تقدير الأمر: أن الساعة، فذلك استئناف وقطع للكلام الأول، ولا شك أن المقصود من الكلام الأول: هو إثبات الساعة فكيف يجعل ذكرها مقطوعا مما قبله، والذي يظهر لي أن الباء ليست بسببية، وإنما يقدر لها فعل تتعلق به ويقتضيه المعنى وذلك أن يكون التقدير: ذلك الذي تقدم من خلقة الإنسان والنبات شاهد بأن الله هو الحق، وأنه يحيى الموتى، وبأن الساعة آتية، فيصح عطف: وأن الساعة على ما قبله بهذا التقدير، وتكون هذه الأشياء المذكورة بعد قوله: ذلك مما استدل عليها بخلقة الإنسان والنبات.

[سورة الحج (22) : الآيات 7 إلى 15]

وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ نزلت فيمن نزلت فيه الأولى وقيل الأخنس بن شريق ثانِيَ عِطْفِهِ كناية عن المتكبر المعرض لَهُ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ إن كانت في النضر بن الحارث: فالخزي أسره ثم قتله، وكذلك قتل أبي جهل ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ أي يقال له: ذلك بما فعلت وبعدل الله، لأنه لا يظلم العباد مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ نزلت في قوم من الأعراب، كان أحدهم إذا أسلم فاتفق له ما يعجبه في ماله وولده قال: هذا دين حسن، وإن اتفق له خلاف ذلك تشاءم به وارتدّ عن الإسلام، فالحرف هنا كناية عن المقصد، وأصله من الانحراف عن الشيء، أو من الحرف بمعنى الطرف أي أنه في طرف من الدين لا في وسطه خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ خسارة الدنيا بما جرى عليه فيها، وخسارة الآخرة بارتداده وسوء اعتقاده ما لا يَضُرُّهُ يعني الأصنام، ويدعو بمعنى يعبد في الموضعين يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ فيها إشكالان: الأول في المعنى وهو كونه وصف الأصنام بأنها لا تضر ولا تنفع، ثم وصفها بأن ضرّها أقرب من نفعها، فنفى الضرّ ثم أثبته، فالجواب: أن الضر المنفي أولا يراد به ما يكون من فعلها وهي لا تفعل شيئا، والضر الثاني: يراد به ما يكون بسببها من العذاب وغيره، والأشكال الثاني: دخول اللام على من وهي في الظاهر مفعول، واللام لا تدخل على المفعول، وأجاب الناس عن ذلك بثلاثة أوجه: أحدها أن اللام مقدّمة على موضعها، كأن الأصل أن يقال: يدعو من لضره أقرب من نفعه، فموضعها الدخول على المبتدإ، والثاني: أن يدعو هنا كرر تأكيدا ليدعو الأول وتم الكلام عنده، ثم ابتدأ قوله: لمن ضرّه، فمن مبتدأ وخبره لبئس المولى، وثالثها: أن معنى يدعو: يقول يوم القيامة هذا الكلام إذا رأى مضرة الأصنام، فدخلت اللام على مبتدإ في أول الكلام الْمَوْلى هنا بمعنى الولي الْعَشِيرُ الصاحب فهو من العشيرة. إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ الآية: لما ذكر أن الأصنام لا تنفع من عبدها، قابل ذلك بأن الله ينفع من عبده بأعظم النفع، وهو دخول الجنة فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّماءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ السبب هنا الحبل، والسماء هنا سقف البيت وشبهه من الأشياء، التي

[سورة الحج (22) : آية 16]

تعلق منها الحبال، والقطع هنا يراد به: الاختناق بالحبل، يقال: قطع الرجل إذا اختنق، ويحتمل أن يراد به قطع الرجل من الأرض بعد ربط الحبل في العنق، وربطه في السقف، والمراد بالاختناق هنا ما يفعله من اشتد غيظه وحسرته، أو طمع فيما لا يصل إليه، كقوله للحسود: مت كمدا، أو اختنق فإنك لا تقدر على غير ذلك، وفي معنى الآية قولان: الأول أن الضمير في ينصره لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، والمعنى على هذا: من كان من الكفار يظنّ أن لن ينصر الله محمدا فليختنق بحبل، فإن الله ناصره ولا بد على غيظ الكفار، فموجب الاختناق هو الغيظ من نصرة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، والقول الثاني أن الضمير في ينصره عائد على من، والمعنى على هذا من ظنّ بسبب ضيق صدره وكثرة غمه أن لن ينصره الله: فليختنق وليمت بغيظه، فإنه لا يقدر على غير ذلك، فموجب الاختناق على هذا القنوط والسخط من القضاء، وسوء الظنّ بالله حتى ييأس من نصره، ولذلك فسر بعضهم أن لن ينصره الله بمعنى أن لن يرزقه، وهذا القول أرجح من الأول لوجهين: أحدهما أن هذا القول مناسب لمن يعبد الله على حرف، لأنه إذا أصابته فتنة انقلب وقنط، حتى ظنّ أن الله لن ينصره، فيكون هذا الكلام متصلا بما قبله: ويدل على ذلك قوله قبل هذه الآية: إن الله يفعل ما يريد: أي الأمور بيد الله، فلا ينبغي لأحد أن يتسخط من قضاء الله، ولا ينقلب إذا أصابته فتنة، والوجه الثاني، أن الضمير في ينصره على هذا القول يعود على ما تقدّمه، وأما على القول الأول فلا يعود على مذكور قبله لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يذكر قبل ذلك بحيث يعود الضمير عليه، ولا يدل سياق الكلام عليه دلالة ظاهرة فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ ما يَغِيظُ الكيد هنا يراد به اختناقه، وسمي كيدا لأنه وضعه موضع الكيد، إذ هو غاية حيلته، والمعنى إذا خنق نفسه فلينظر هل يذهب ذلك ما يغيظه من الأمر، أي ليس يذهبه. وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ الضمير للقرآن، أي مثل هذا أنزلنا القرآن كله آياتٍ بَيِّناتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ قال ابن عطية: أن في موضع خبر الابتداء والتقدير الأمر أن الله، وهذا ضعيف. لأن فيه تكلف إضمار وقطع للكلام عن المعنى الذي قبله، وقال الزمخشري: التقدير: لأن الله يهدي من يريد أنزلناه كذلك آيات بينات، فجعل أن تعليلا للإنزال، وهذا ضعيف للفصل بينهما بالواو. والصحيح عندي: أن قوله: وأن الله معطوف على آيات بينات، لأنه مقدر بالمصدر، فالتقدير أنزلناه آيات بينات وهدى لمن أراد الله أن يهديه وَالصَّابِئِينَ ذكر في [البقرة: 62] وكذلك الذين هادوا وَالْمَجُوسَ هم الذين يعبدون النار، ويقولون: إن الخير من النور والشر من الظلمة وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا هم الذين يعبدون الأصنام من العرب وغيرهم إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ هذه الجملة هي خبر إن الذين آمنوا والذين هادوا الآية، وكررت مع الخبر للتأكيد، وفصل الله بينهم بأن يبين لهم أن الإيمان هو

الحق، وسائر الأديان باطلة، وبأن يدخل الذين آمنوا الجنة ويدخل غيرهم النار يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ دخل في هذا من في السموات من الملائكة، ومن في الأرض من الملائكة، والجنّ ولم يدخل الناس في ذلك لأنه ذكرهم في آخر الآية، إلا أن يكون ذكرهم في آخرها على وجه التجريد، وليس المراد بالسجود هنا السجود المعروف، لأنه لا يصح في حق الشمس والقمر وما ذكر بعدهما، وإنما المراد به الانقياد ثم إن الانقياد يكون على وجهين: أحدهما الانقياد لطاعة الله طوعا، والآخر الانقياد لما يجري الله على المخلوقات في أفعاله وتدبيره شاؤوا أو أبوا وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ إن جعلنا السجود بمعنى الانقياد لطاعة الله، فيكون كثير من الناس معطوفا على ما قبله من الأشياء التي تسجد ويكون قوله: وكثير حق عليه العذاب مستأنفا يراد به من لا ينقاد للطاعة، ويوقف على قوله: وكثير من الناس، وهذا القول هو الصحيح وإن جعلنا السجود بمعنى الانقياد لقضاء الله وتدبيره فلا يصح تفضيل الناس على ذلك إلى من يسجد ومن لا يسجد لأن جميعهم يسجد بذلك المعنى، وقيل: إن قوله: وكثير من الناس معطوف على ما قبله ثم عطف عليه وكثير حق عليه العذاب فالجميع على هذا يسجد وهذا ضعيف لأن قوله: حق عليه العذاب يقتضي ظاهره أنه إنما حق عليه العذاب بتركه للسجود، وتأوله الزمخشري على هذا المعنى، بأن إعراب كثير من الناس فاعل بفعل مضمر تقديره يسجد سجود طاعة أو مرفوع بالابتداء وخبره محذوف تقديره مثاب وهذا تكلف بعيد. هذانِ خَصْمانِ الإشارة إلى المؤمنين والكفار على العموم، ويدل على ذلك ما ذكر قبلها من اختلاف الناس في أديانهم، وهو قول ابن عباس، وقيل: نزلت في على ابن أبي طالب وحمزة بن عبد المطلب وعبيدة بن الحارث حين برزوا يوم بدر لعتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، والوليد بن عتبة، فالآية على هذا مدنية إلى تمام ست آيات، والخصم يقع على الواحد والاثنين والجماعة، والمراد به هنا الجماعة والإشارة بهذان إلى الفريقين اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ أي في دينه وفي صفاته، والضمير في اختصموا لجماعة الفريقين فَالَّذِينَ كَفَرُوا الآية: حكم بين الفريقين، بأن جعل للكفار النار وللمؤمنين الجنة المذكورة بعد هذا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ أي فصلت على قدر أجسادهم، وهو مستعار من تفصيل الثياب الْحَمِيمُ الماء الحارّ يُصْهَرُ بِهِ ما فِي بُطُونِهِمْ أي يذاب، وذلك أن الحميم إذا صب على رؤوسهم وصل حره إلى بطونهم، فأذاب ما فيها، وقيل: معنى يصهر ينضج مَقامِعُ جمع مقمعة أي مقرعة مِنْ حَدِيدٍ يضربون بها، وقيل: هي

[سورة الحج (22) : الآيات 22 إلى 25]

السياط مِنْ غَمٍّ بدل من المجرور قبله وَذُوقُوا التقدير يقال لهم ذوقوا مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ من لبيان الجنس أو للتبعيض وفسرنا الأساور في [الكهف: 31] وَلُؤْلُؤاً بالنصب مفعول بفعل مضمر أي يعطون لؤلؤا، أو معطوف على موضع من أساور إذ هو مفعول، وبالخفض معطوف على أساور أو على ذهب الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ قيل: هو لا إله إلا الله، واللفظ أعم من ذلك صِراطِ الْحَمِيدِ أي صراط الله، فالحميد اسم الله، ويحتمل أن يريد الصراط الحميد، وأضاف الصفة إلى الموصوف كقولك: مسجد الجامع إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا خبره محذوف يدل عليه قوله نذقه من عذاب أليم، وقيل: الخبر يصدون على زيادة الواو، وهذا ضعيف، وإنما قال: يصدون بلفظ المضارع ليدل على الاستمرار على الفعل سَواءً بالرفع «1» مبتدأ وخبره مقدر، والجملة في موضع المفعول الثاني لجعلنا، وقرأ حفص بالنصب على أنه المفعول الثاني والعاكف فاعل به الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ العاكف المقيم في البلد: والبادي «2» القادم عليه من غيره، والمعنى: أن الناس سواء في المسجد الحرام، لا يختص به أحد دون أحد وذلك إجماع، وقال أبو حنيفة: حكم سائر مكة في ذلك كالمسجد الحرام، فيجوز للقادم أن ينزل منها حيث شاء، وليس لأحد فيها ملك، والمراد عنده بالمسجد الحرام جميع مكة، وقال مالك وغيره: ليست الدور في ذلك كالمسجد، بل هي متملكة بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ الإلحاد الميل عن الصواب، والظلم هنا عام في المعاصي من الكفر إلى الصغائر، لأن الذنوب في مكة أشدّ منها في غيرها، وقيل: هو استحلال الحرام، ومفعول يرد محذوف تقديره: من يرد أحدا أو من يرد شيئا، وبإلحاد بظلم: حالان مترادفان، وقيل: المفعول قوله بإلحاد على زيادة الباء. وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ العامل في إذ مضمر تقديره اذكر وبوأنا أصله من باء بمعنى رجع، ثم ضوعف ليتعدى، واستعمل بمعنى أنزلنا في الموضع كقوله: تبوئ المؤمنين، إلا أن هذا المعنى يشكل هنا لقوله لإبراهيم لتعدّى الفعل باللام، وهو يتعدّى بنفسه حتى قيل: اللام زائدة، وقيل: معناه هيأنا، وقيل: جعلنا، والبيت هنا الكعبة، وروى أنه كان آدم يعبد الله فيه، ثم درس بالطوفان، فدل الله إبراهيم عليه السلام على مكانه، وأمره ببنيانه أَنْ لا تُشْرِكْ أن

_ (1) . قرأ حفص وحده بالنصب والباقون بالرفع. (2) . البادي: قرأها كذلك أبو عمرو وإسماعيل وورش بالياء في الوصل دون الوقف، وقرأها الباقون بدون ياء وقرأها ابن كثير بالياء وصلا ووقفا.

[سورة الحج (22) : الآيات 29 إلى 33]

مفسرة، والخطاب لإبراهيم عليه السلام، وإنما فسرت تبوئة البيت بالنهي عن الإشراك، والأمر بالتطهير لأن التبوئة إنما قصدت لأجل العبادة التي تقتضي ذلك طَهِّرا بَيْتِيَ عام في التطهير من الكفر والمعاصي والأنجاس، وغير ذلك وَالْقائِمِينَ يعني المصلين. وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ خطاب لإبراهيم، وقيل: لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، والأول هو الصحيح، روى أنه لما أمر بالأذان بالحج «1» : صعد على جبل أبي قبيس، ونادى: أيها الناس إن الله قد أمركم بحج هذا البيت فحجوا، فسمعه كل من يحج إلى يوم القيامة، وهم في أصلاب آبائهم. وأجابه في ذلك الوقت كل شيء من جماد وغيره. لبيك اللهم لبيك، فجرت التلبية على ذلك يَأْتُوكَ رِجالًا جمع راجل أي ماشيا على رجليه وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ الضامر يراد به كل ما يركب من فرس وناقة وغير ذلك، وإنما وصفه بالضمور لأنه لا يصل إلى البيت إلا بعد ضموره، وقوله: وعلى كل ضامر حال معطوف على حال كأنه قال: رجالا وركبانا، واستدل بعضهم بتقديم الرجال في الآية على أن المشي إلى الحج أفضل من الركوب، واستدل بعضهم بسقوط ذكر البحر بهذه الآية، على أنه يسقط فرض الحج على من يحتاج إلى ركوب البحر يَأْتِينَ صفة لكل ضامر، لأنه في معنى الجمع مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ أي طريق بعيد مَنافِعَ لَهُمْ أي بالتجارة، وقيل: أعمال الحج وثوابه، واللفظ أعم من ذلك وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ يعني التسمية عند ذبح البهائم ونحرها وفي الهدايا والضحايا، وقيل: يعني الذكر على الإطلاق، وإنما قال: اسم الله، لأن الذكر باللسان إنما يذكر لفظ الأسماء فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ هي عند مالك: يوم النحر وثانيه وثالثه خاصة لأن هذه هي أيام الضحايا عنده، ولم يجز ذبحها بالليل لقوله في أيام وقيل: الأيام المعلومات: عشر ذي الحجة ويوم النحر والثلاثة بعده، وقيل: عشر ذي الحجة خاصة، وأما الأيام المعدودات، فهي الثلاثة بعد يوم النحر، فيوم النحر من المعلومات لا من المعدودات واليومان بعده من المعلومات والمعدودات ورابع النحر في المعدودات لا من المعلومات فَكُلُوا مِنْها ندب أو إباحة ويستحب أن يأكل الأقل من الضحايا ويتصدق بالأكثر الْبائِسَ الذي أصابه البؤس وقيل: هو المتكفف وقيل: الذي يظهر عليه أثر الجوع ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ التفث في اللغة الوسخ، فالمعنى ليقضوا إزالة تفثهم بقص الأظفار والاستحداد وسائر خصال الفطرة والتنظف بعد أن يحلّوا من الحج، وقيل: التفث أعمال الحج، وقرئ بكسر «2» اللام وإسكانها، وهي لام الأمر وكذلك وليّوفوا وليطوّفوا.

_ (1) . راجع الطبري وقد ذكره الحديث بسنده إلى ابن عباس. (2) . ذكر ابن خالويه ذلك في كتابه الحجة وأن الكسر مع ثم أكثر. وقرأ بالكسر أبو عمرو ورش وابن عامر وقرأ الباقون بسكون اللام. [.....]

وَلْيَطَّوَّفُوا المراد هنا طواف الإفاضة عند جميع المفسرين وهو الطواف الواجب بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ أي القديم، لأنه أول بيت وضع للناس وقيل: العتيق الكريم، كقولهم: فرس عتيق، وقيل أعتق من الجبابرة أي منع منهم، وقيل: العتيق هو الذي لم يملكه أحد قط ذلِكَ هنا وفي الموضع الثاني مرفوع على تقدير: الأمر ذلك كما يقدم الكاتب جملة من كتابه، ثم يقول هذا وقد كان كذا، وأجاز بعضهم الوقف على قوله: ذلك في ثلاثة مواضع من هذه السورة وهي هذا و «ذلك ومن يعظم شعائر الله» و «ذلك ومن يشرك بالله» لأنها جملة مستقلة أو هو خبر ابتداء مضمر، والأحسن وصلها بما بعدها عند شيخنا أبي جعفر بن الزبير، لأن ما بعدها ليس كلاما أجنبيا، ومثلها «ذلك ومن عاقب» و «ذلكم فذوقوه» في الأنفال، و «هذا وإن للطاغين» في ص: 55 حُرُماتِ اللَّهِ جمع حرمة، وهو ما لا يحل هتكه من أحكام الشريعة، فيحتمل أن يكون هنا على العموم، أو يكون خاصا بما يتعلق بالحج لأن الآية فيه فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ أي التعظيم للحرمات خير إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ يعني ما حرمه في غير هذا الموضع كالميتة الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ من لبيان الجنس كأنه قال: الرجس الذي هو الأوثان، والمراد النهي عن عبادتها أو عن الذبح تقربا إليها، كما كانت العرب تفعل قَوْلَ الزُّورِ أي الكذب، وقيل: شهادة الزور. فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ الآية، تمثيل للمشرك بمن أهلك نفسه أشدّ الهلاك سَحِيقٍ أي بعيد شَعائِرَ اللَّهِ قيل: هي الهدايا في الحج وتعظيمها بأن تختار سمانا عظاما غالية الأثمان، وقيل: مواضع الحج، كعرفات ومنى والمزدلفة، وتعظيمها إجلالها وتوقيرها والقصد إليها، وقيل: الشعائر أمور الدين على الإطلاق، وتعظيمها القيام بها وإجلالها فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ الضمير عائد على الفعلة التي يتضمنها الكلام وهي مصدر يعظم، وقال الزمخشري: التقدير: فإن تعظيمها من أفعال ذوي تقوى القلوب، فحذفت هذه المضافات لَكُمْ فِيها مَنافِعُ من قال: إن شعائر الله هي الهدايا، فالمنافع بها شرب لبنها، وركوبها لمن اضطر إليها، والأجل المسمى نحرها. ومن قال إن شعائر الله مواضع الحج، فالمنافع التجارة فيها أو الأجر، والأجل المسمى: الرجوع إلى مكة لطواف الإفاضة ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ من قال: إن شعائر الله الهدايا فمحلها موضع نحرها وهي منى ومكة، وخص البيت بالذكر لأنه أشرف الحرم وهو المقصود بالهدي، وثم على هذا القول ليست للترتيب في

[سورة الحج (22) : الآيات 34 إلى 36]

الزمان، لأن محلها قبل نحرها، وإنما هي لترتيب الجمل، ومن قال: إن الشعائر موضع الحج، فمحلها مأخوذ من إحلال المحرم: أي أخر ذلك كله الطواف بالبيت يعني طواف الإفاضة إذ به يحل المحرم من إحرامه ومن قال: إن الشعائر أمور الدين على الإطلاق فذلك لا يستقيم مع قوله: محلها إلى البيت. وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً أي لكل أمة مؤمنة، والمنسك اسم مكان أي موضعها لعبادتهم، ويحتمل أن يكون اسم مصدر بمعنى عبادة، والمراد بذلك الذبائح لقوله: «ليذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام» بخلاف ما يفعله الكفار من الذبح تقرّبا إلى الأصنام فَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ في وجه اتصاله بما قبله وجهان: أحدهما أنه لما ذكر الأمم المتقدّمة خاطبها بقوله: فإلهكم إله واحد، أي هو الذي شرع المناسك لكم ولمن تقدّم قبلكم، والثاني: أنه إشارة إلى الذبائح أي إلهكم إله واحد فلا تذبحوا تقربا لغيره الْمُخْبِتِينَ الخاشعين وقيل: المتواضعين، وقيل: نزلت في أبي بكر وعمر وعثمان وعليّ، وكذلك قوله بعد ذلك: وبشر المحسنين واللفظ فيهما أعم من ذلك وَجِلَتْ خافت وَالْبُدْنَ جمع بدنة، وهو ما أشعر من الإبل، واختلف هل يقال للبقرة بدنة، وانتصابه بفعل مضمر مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ واحدها شعيرة، ومن للتبعيض، واستدل بذلك من قال: إن شعائر الله المذكورة أو على العموم في أمور الدين لَكُمْ فِيها خَيْرٌ قيل: الخير هنا المنافع المذكورة قبل، وقيل: الثواب، والصواب العموم في خير الدنيا والآخرة صَوافَّ معناه: قائمات قد صففن أيديهن وأرجلهنّ، وهي منصوبة على الحال من الضمير المجرور، ووزنه فواعل، وواحده صافة وَجَبَتْ جُنُوبُها أي سقطت إلى الأرض عند موتها، يقال: وجب الحائط وغيره إذا سقط الْقانِعَ معناه السائل، هو من قولك قنع الرجل بفتح النون: إذا سأل، وقيل: معناه المتعفف عن السؤال، فهو على هذا من قولك: قنع بالكسر إذا رضي بالقليل وَالْمُعْتَرَّ المعترض بغير سؤال، ووزنه مفتعل، يقال: اعتررت بالقوم إذا تعرّضت لهم، فالمعنى: أطعموا من سأل ومن لم يسأل ممن تعرض بلسان حاله، وأطعموا من تعفف عن السؤال بالكلية، ومن تعرض للعطاء كَذلِكَ سَخَّرْناها لَكُمْ أي كما أمرناكم بهذا كله سخرناها لكم، وقال الزمخشري: التقدير مثل التخيير الذي علمتم سخرناها لكم. لَنْ يَنالَ اللَّهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها المعنى لن تصلوا إلى رضا الله باللحوم ولا بالدماء، وإنما تصلون إليه بالتقوى أي بالإخلاص لله، وقصد وجه الله بما تذبحون وتنحرون

[سورة الحج (22) : الآيات 40 إلى 47]

من الهدايا، فعبر عن هذا المعنى بلفظ: ينال مبالغة وتأكيدا، لأنه قال: لن تصل لحومها ولا دماؤها إلى الله، وإنما تصل بالتقوى منكم، فإن ذلك هو الذي طلب منكم، وعليه يحصل لكم الثواب، وقيل: كان أهل الجاهلية يضرجون البيت بالدماء فأراد المسلمون فعل ذلك فنهوا عنه ونزلت الآية كَذلِكَ سَخَّرَها لَكُمْ كرر للتأكيد لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ قيل: يعني قول الذابح: بسم الله والله أكبر، واللفظ أعم من ذلك. إِنَّ اللَّهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا كان الكفار يؤذون المؤمنين بمكة، فوعدهم الله أن يدفع عنهم شرهم وأذاهم، وحذف مفعول يدافع ليكون أعظم وأعم «وقرئ يدافع بالألف، ويدفع بسكون الدال من غير الألف «1» ، وهما بمعنى واحد، أجريت فاعل مجرى فعل من قولك عاقبة الأمر، وقال الزمخشري: يدافع: معناه يبالغ في الدفع عنهم، لأنه للمبالغة، وفعل المغالبة أقوى إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ الخوّان مبالغة في خائن، والكفور مبالغة في كافر، قال الزمخشري: هذه الآية علة لما قبلها أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ هذه أول آية نزلت في الإذن في القتال، ونسخت الموادعة مع الكفار، وكان نزولها عند الهجرة، وقرئ أذن «2» بضم الهمزة على البناء لما لم يسم فاعله، وبالفتح على البناء للفاعل وهو الله تعالى، والمعنى أذن لهم في القتال فحذف المأذون فيه لدلالة يقاتلون عليه، وقرئ يقاتلون بفتح التاء «3» وكسرها بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا أي بسبب أنهم ظلموا الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ يعني الصحابة، فإن الكفار آذوهم وأضروا بهم حتى اضطروهم إلى الخروج من مكة، فمنهم من هاجر إلى أرض الحبشة، ومنهم من هاجر إلى المدينة ونسب الإخراج إلى الكفار لأن الكلام في معرض إلزامهم الذنب ووصفهم بالظلم إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ قال ابن عطية هو استثناء منقطع لا يجوز فيه البدل عند سيبويه، وقال الزمخشري: أن يقولوا في محل الجر على الإبدال من حق وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ الآية تقوية للإذن في القتال وإظهار للمصلحة التي فيه، كأنه يقول لولا القتال والجهاد لاستولى الكفار على المسلمين وذهب الدين، وقيل: المعنى لولا دفع ظلم الظلمة بعدل الولاة، والأول أليق بسياق الآية، وقرأ نافع: دفاع بالألف مصدر دافع، والباقون بغير ألف مصدر دفع لَهُدِّمَتْ قرأ نافع وابن كثير بالتخفيف والباقون بالتشديد للمبالغة صَوامِعُ جمع صومعة بفتح الميم وهي موضع

_ (1) . قرأ ابن كثير وأبو عمرو: يدفع بدون ألف وقرأ الباقون بالألف: يدافع. (2) . قرأ نافع وأبو عمرو وعاصم بالضم وقرأ الباقون بالفتح. (3) . قرأ نافع وابن عامر وحفص بفتح التاء والباقون بكسرها.

العبادة، وكانت للصابئين ولرهبان النصارى، ثم سمى بها في الإسلام موضع الأذان، والبيع جمع بيعة بكسر الباء وهي كنائس النصارى، والصلوات كنائس اليهود، وقيل: هي مشتركة لكل أمة، والمراد بها مواضع الصلوات، والمساجد للمسلمين، فالمعنى: لولا دفع الله لاستولى الكفار على أهل الملل المتقدمة في أزمانهم، ولاستولى المشركون على هذه الأمة فهدموا مواضع عباداتهم يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ الضمير لجميع ما تقدم من المتعبدات، وقيل: للمساجد خاصة وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ أي من ينصر دينه وأولياءه، وهو وعد تضمن الحض على القتال الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ الآية قيل: يعني أمة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وقيل: الصحابة، وقيل: الخلفاء الأربعة لأنهم الذين مكنوا في الأرض بالخلافة ففعلوا ما وصفهم الله به. وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ الآية ضمير الفاعل لقريش، والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم على وجه التسلية له والوعيد لهم نَكِيرِ مصدر بمعنى الإنكار عَلى عُرُوشِها العروش السقف فإن تعلق الجار بخاوية: فالمعنى أن العروش سقطت ثم سقطت الحيطان عليها فهي فوقها، وإن كان الجار والمجرور في موضع الحال: فالمعنى أنها خاوية مع بقاء عروشها بِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ أي لا يستقى الماء منها لهلاك أهلها، وروي أن هذه البئر هي الرس، وكانت بعدن لأمة من بقايا ثمود، والأظهر أنه لم يرد التعيين، لقوله: «كأين من قرية» وهذا اللفظ يراد به التكثير وَقَصْرٍ مَشِيدٍ أي مبنى بالشيد وهو الجص، وقيل: المشيد المرفوع البنيان قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ دليل على أن العقل في القلب، خلافا للفلاسفة في قولهم: العقل في الدماغ «1» فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ أي لا تعمى الأبصار عمى يعتد به، وإنما العمى الذي يعتد به عمى القلوب، وإن هؤلاء القوم ما عميت أبصارهم ولكن عميت قلوبهم، فالمعنى الأول لقصد المبالغة، والثاني خاص بهؤلاء القوم الَّتِي فِي الصُّدُورِ مبالغة كقوله: يقولون بأفواههم. وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ الضمير لكفار قريش وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ إخبار يتضمن الوعيد بالعذاب، وسماه وعدا لأن المراد به مفهوم وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ

_ (1) . القلب هو مركز العواطف وأما الدماغ فمركز الإدارة العامة لجميع وظائف الأعضاء.

[سورة الحج (22) : الآيات 48 إلى 52]

المعنى أن يوما من أيام الآخرة مقداره ألف سنة من أعوام الدنيا، ولذلك قال صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: يدخل الفقراء الجنة قبل الأغنياء بنصف «1» يوم. وذلك خمسمائة سنة، وقيل: المعنى إن يوما واحدا من أيام العذاب كألف سنة لطول العذاب، فإن أيام البؤس طويلة، وإن كانت في الحقيقة قصيرة، وفي كل واحد من الوجهين تهديد للذين استعجلوا العذاب، إلا أن الأول أرجح، لأن الألف سنة فيه حقيقة، وقيل: إن اليوم المذكور في الآية هو يوم من الأيام الستة التي خلق الله فيها السموات والأرض. وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ ذكر أولا القرى التي أهلكها بغير إملاء، وذكر هنا التي أهلكها بعد الإملاء، والإملاء هو الإمهال مع إرادة المعاقبة فيما بعد، وعطف هذه الجملة بالواو على الجمل المعطوفة قبلها بالواو، وقال في الأولى فكأين لأنه بدل من قوله: فكيف كان نكير سَعَوْا فِي آياتِنا أي سعوا فيها بالطعن عليها، وهو من قولك: سعى في الأمر إذا جد فيه لقصد إصلاحه أو إفساده مُعاجِزِينَ بالألف: أي مغالبين، لأنهم قصدوا عجز صاحب الآيات، والآيات تقتضي عجزهم، فصارت مفاعلة، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بالتشديد [معجّزين] من غير ألف ومعناه أنهم يعجزون الناس عن الإسلام أي يثبطونهم عنه مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ النبيّ أعم من الرسول، فكل رسول نبيّ وليس كل نبيّ رسولا، فقدم الرسول لمناسبة لقوله أرسلنا وأخر النبي لتحصيل العموم، لأنه لو اقتصر على رسول لم يدخل في ذلك من كان نبيا غير رسول إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ سبب هذه الآية أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قرأ سورة والنجم بالمسجد الحرام بمحضر المشركين والمسلمين فلما بلغ إلى قوله: أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى ألقى الشيطان: تلك الغرانيق العلى، منها الشفاعة ترتجى، فسمع ذلك المشركون ففرحوا به وقالوا: محمد يذكر آلهتنا بما نريد. واختلف في كيفية إلقاء الشيطان، فقيل: إن الشيطان هو الذي تكلم بذلك، وظن الناس أن النبي صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم هو المتكلم به لأنه قرّب صوته من صوت النبيّ صلى الله تعالى عليه وآله وسلم، حتى التبس الأمر على المشركين، وقيل: إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو الذي تكلم بذلك على وجه الخطأ والسهو لأن الشيطان ألقاه ووسوس في قلبه، حتى خرجت تلك الكلمة على لسانه من غير قصد، والقول الثاني أشهر عند المفسرين والناقلين لهذه القصة، والقول الأول أرجح لأن النبي صلى الله تعالى

_ (1) . رواه أحمد عن أبي هريرة ج 2 ص 513.

[سورة الحج (22) : الآيات 53 إلى 60]

عليه وعلى آله وسلم معصوم في التبليغ، فمعنى الآية: أن كل نبي وكل رسول قد جرى له مثل ذلك من إلقاء الشيطان، واختلف في معنى تمنى وأمنيته في هذه الآية فقيل: تمنى بمعنى تلا، والأمنية: التلاوة: أي إذا قرأ الكتاب ألقى الشيطان من عنده في تلاوته، وقيل: هو من التمني بمعنى حب الشيء، وهذا المعنى أشهر في اللفظ: أي تمنى النبي صلى الله عليه وآله وسلم مقاربة قومه واستئلافهم، وألقى الشيطان ذلك في هذه الأمنية ليعجبهم ذلك فَيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ أي يبطله كقولك: نسخت الشمس الظل لِيَجْعَلَ متعلق بقوله ينسخ ويحكم لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أي أهل الشك وَالْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ المكذبون، وقيل: الذين في قلوبهم مرض عامة الكفار، والقاسية قلوبهم أشدّ كفرا وعتّوا كأبي جهل وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ يعني بالظالمين المذكورين قبل، ولكنه جعل الظاهر موضع المضمر، ليقضي عليهم بالظلم، والشقاق: العداوة، ووصفه ببعيد، لأنه في غاية الضلال والبعد عن الخير الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ قيل: يعني الصحابة، واللفظ أعم من ذلك. أَنَّهُ الْحَقُّ الضمير عائد على القرآن، وقال الزمخشري: هو لتمكين الشيطان من الإلقاء فَتُخْبِتَ أي تخشع فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ الضمير للقرآن، أو للنبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم أو للإلقاء يَوْمٍ عَقِيمٍ يعني يوم بدر، ووصفه بالعقيم لأنه لا ليلة لهم بعده ولا يوم، لأنهم يقتلون فيه، وقيل: هو يوم القيامة، والساعة مقدّماته، ويقوي ذلك قوله: الملك يومئذ لله، ثم قسم الناس إلى قسمين: أصحاب الجحيم وأصحاب النعيم قُتِلُوا أَوْ ماتُوا روى أن قوما قالوا: يا رسول الله قد علمنا ما أعطى الله لمن قتل من الخيرات، فما لمن مات معك؟ فنزلت الآية معلمة أن الله يرزق من قتل ومن مات معا، ولا يقتضي ذلك المساواة بينهم لأن تفضيل الشهداء ثابت رِزْقاً حَسَناً يحتمل أن يريد به الرزق في الجنة بعد يوم القيامة، أو رزق الشهداء في البرزخ، والأول أرجح، لأنه يعم الشهداء والموتى مُدْخَلًا يعني الجنة ذلِكَ تقديره هنا: الأمر ذلك كما يقول الكاتب هذا وقد كان كذا إذا أراد أن يخرج إلى حديث آخر. وَمَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ سمى الابتداء عقوبة باسم الجزاء عليها تجوّزا كما تسمى العقوبة أيضا باسم الذنب ووعد بالنصر لمن بغى عليه إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ إن قيل

[سورة الحج (22) : الآيات 61 إلى 67]

ما مناسبة هذين الوصفين للمعاقبة؟ فالجواب من وجهين: أحدهما أن في ذكر هذين الوصفين إشعار بأن العفو أفضل من العقوبة، فكأنه حض على العفو، والثاني أن في ذكرهما إعلاما بعفو الله عن المعاقب حين عاقب، ولم يأخذ بالعفو الذي هو أولى ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ أي ذلك النصر بسبب أن الله قادر، ومن آيات قدرته أنه يولج الليل في النهار، ويولج النهار في الليل، ومعنى الإيلاج هنا أنه يدخل ظلمة هذا في مكان ضوء هذا، ويدخل ضوء هذا مكان ظلمة هذا، وقيل: الإيلاج هو ما ينقص من أحدهما ويزيد في الآخر. ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ أي ذلك الوصف الذي وصف الله به هو بسبب أنه الحق فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً تصبح هنا بمعنى تصير، وفهم بعضهم أنه أراد صبيحة ليلة المطر، فقال: لا تصبح الأرض مخضرة إلا بمكة، والبلاد الحارة، وأما على معنى تصير، فذلك عام في كل بلد، والفاء للعطف، وليست بجواب، ولو كانت جوابا لقوله: ألم تر لنصبت الفعل، وكان المعنى نفي خضرتها وذلك خلاف المقصود، وإنما قال تصبح بلفظ المضارعة ليفيد بقاءها كذلك مدة سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ يعني البهائم والثمار والمعادن وغير ذلك أَنْ تَقَعَ في موضع مفعول على تقدير عن أن تقع، وقال الزمخشري: كراهة أن تقع فهو مفعول من أجله إِلَّا بِإِذْنِهِ يحتمل أن يريد يوم القيامة، فجعل طي السماء كوقوعها أو يريد بإذنه لو شاء متى شاء أَحْياكُمْ أي أوجدكم بعد العدم، وعبّر عن ذلك بالحياة لأن الإنسان قبل ذلك تراب فهو جماد بلا روح، ثم أحياه بنفخ الروح ثُمَّ يُمِيتُكُمْ يعني الموت المعروف ثُمَّ يُحْيِيكُمْ يعني البعث لَكَفُورٌ أي جحود للنعمة مَنْسَكاً هو اسم مصدر لقوله: ناسكوه ولو كان اسم مكان لقال ناسكون فيه فَلا يُنازِعُنَّكَ ضمير الفاعل للكفار، والمعنى: أنه لا ينبغي منازعة النبي صلى الله عليه وسلم، لأن الحق قد ظهر بحيث لا يسع النزاع فيه، فجاء الفعل بلفظ النهي والمراد غير النهي، وقيل: إن المعنى لا تنازعهم فينازعوك، فحذف الأول لدلالة الثاني عليه، ويحتمل أن يكون نهيا لهم عن المنازعة على ظاهر اللفظ فِي الْأَمْرِ أي في الدين والشريعة أو في الذبائح وَادْعُ إِلى رَبِّكَ أي ادع الناس إلى عبادة ربك.

[سورة الحج (22) : الآيات 68 إلى 76]

وَإِنْ جادَلُوكَ الآية: تقتضي موادعة منسوخة بالقتال إِنَّ ذلِكَ فِي كِتابٍ يعني اللوح المحفوظ، والإشارة بذلك إلى معلومات الله إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ يحتمل أن تكون الإشارة بذلك إلى كتب المعلومات في الكتاب، أو إلى الحكم في الاختلاف والأول أظهر ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً يعني الأصنام والسلطان هنا: الحجة والبرهان، وما ليس لهم به علم: قيل: إنه يعني ما ليس لهم به علم ضروري، فنفى أولا البرهان النظري، ثم العلم الضروري، وليس اللفظ بظاهر في هذا المعنى، بل الأحسن نفي العلم الضروري والنظري معا تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ أي الإنكار لما يسمعون فالمنكر مصدر: كالمكرم بمعنى الإكرام ويعرف ذلك في وجوههم بعبوسها وإعراضها يَسْطُونَ من السطوة وهي سرعة البطش النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ يحتمل أن تكون النار مبتدأ، ووعدها الله خبرا أو يكون النار خبر ابتداء مضمر كأنّ قائلا قال: ما هو، فقيل: هو النار، ويكون وعدها الله استئنافا وهذا أظهر ضُرِبَ مَثَلٌ أي ضربه الله لإقامة الحجة على المشركين لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً تنبيه بالأصغر على الأكبر من باب أولى وأحرى، والمعنى: أن الأصنام التي تعبدونها لا تقدر على خلق الذباب ولا غيره، فكيف تعبد من دون الله الذي خلق كل شيء، ثم أوضح عجزهم بقوله وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ أي لو تعاونوا على خلق الذباب لم يقدروا عليه وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ بيان أيضا لعجز الأصنام بحيث لو اختطف الذباب منهم شيئا لم يقدروا على استنقاذه منه على حال ضعفه، وقد قيل: إن المراد بما يسلب الذباب منهم الطيب الذي كانت تجعله العرب على الأصنام واللفظ أعم من ذلك ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ المراد بالطالب الأصنام وبالمطلوب الذباب، لأن الأصنام تطلب من الذباب ما سلبته منها. وقيل: الطالب الكفار والمطلوب الأصنام. لأن الكفار يطلبون الخير منهم. ما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ أي ما عظموه حق تعظيمه اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ ردّ على من أنكر أن يكون الرسول من البشر ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا في

هذه الآية سجدة عند الشافعي وغيره للحديث الصحيح الوارد في ذلك خلافا للمالكية وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ عموم في العبادة بعد ذكر الصلاة التي عبر عنها بالركوع والسجود، وإنما قدمها لأنها أهم العبادات وَافْعَلُوا الْخَيْرَ قيل: المراد صلة الرحم، وقال ابن عطية: هي في الندب فيما عدا الواجبات، واللفظ أعم من ذلك كله وَجاهِدُوا فِي اللَّهِ يحتمل أن يريد جهاد الكفار، أو جهاد النفس والشيطان أو الهوى، أو العموم في ذلك حَقَّ جِهادِهِ قيل: إنه منسوخ كنسخ حق تقاته بقوله: ما استطعتم وفي ذلك نظر، وإنما أضاف الجهاد إلى الله ليبين بذلك فضله واختصاصه بالله اجْتَباكُمْ أي اختاركم من بين الأمم مِنْ حَرَجٍ أي مشقة، وأصل الحرج الضيق مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ انتصب ملة بفعل مضمر تقديره: أعني بالدين ملة إبراهيم أو التزموا ملة إبراهيم وقال الفراء: انتصب على تقدير حذف الكاف كأنه قال كملة، وقال الزمخشري: انتصب بمضمون ما تقدم: كأنه قال: وسع عليكم توسعة ملة أبيكم إبراهيم، ثم خذف المضاف، فإن قيل: لم يكن إبراهيم أبا للمسلمين كلهم، فالجواب: أنه كان أبا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان أبا لأمته لأن أمة الرسول في حكم أولاده، ولذلك قرئ وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ [الأحزاب: 6] ، وهو أب لهم، وأيضا فإن قريشا وأكثر العرب من ذرية إبراهيم، وهم أكثر الأمة فاعتبرهم دون غيرهم هُوَ سَمَّاكُمُ الضمير لله تعالى، ومعنى من قبل في الكتب المتقدمة. وفي هذا أي في القرآن، وقيل الضمير لإبراهيم والإشارة إلى قوله: ومن ذريتنا أمة مسلمة لك، ومعنى من قبل على هذا: من قبل وجودكم، وهنا يتم الكلام على هذا القول ويكون قوله «وفي هذا» مستأنفا: أي وفي هذا البلاغ، والقول الأول أرجح وأقل تكلفا، ويدل عليه قراءة أبي بن كعب: الله سماكم المسلمين شَهِيداً عَلَيْكُمْ تقدم معنى هذه الشهادة في البقرة فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ الظاهر أنها المكتوبة لاقترانها مع الزكاة هُوَ مَوْلاكُمْ معناه هنا: وليكم وناصركم بدلالة ما بعد ذلك.

سورة المؤمنون

سورة المؤمنون مكية وآياتها 118 نزلت بعد الأنبياء بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (سورة المؤمنون) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ الخشوع حالة في القلب من الخوف والمراقبة والتذلل لعظمة المولى جل جلاله، ثم يظهر أثر ذلك على الجوارح بالسكون والإقبال على الصلاة وعدم الالتفات والبكاء والتضرع، وقد عدّ بعض الفقهاء [الأوزاعي] الخشوع في فرائض الصلاة، لأنه جعله بمعنى حضور القلب فيها، وقد جاء في الحديث: لا يكتب للعبد في صلاته إلا ما عقل منها «1» ، والصواب أن الخشوع أمر زائد على حضور القلب، فقد يحضر القلب ولا يخشع عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ اللغو هنا: الساقط من الكلام كالسب واللهو، والكلام بما لا يعني، وعدد أنواع المنهي عنه من الكلام عشرون نوعا، ومعنى الإعراض عنه: عدم الاستماع إليه والدخول فيه، ويحتمل أن يريد أنهم لا يتكلمون به، ولكن إعراضهم عن سماعه يقتضي ذلك من باب أولى وأحرى لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ أي مؤدّون، فإن قيل: لم قال فاعلون ولم يقل مؤدّون؟ فالجواب أن الزكاة لها معنيان أحدهما: الفعل الذي يفعله المزكي أي أداء ما يجب على المال، والآخر المقدار المخرج من المال كقولك: هذه زكاة مالي، والمراد هنا الفعل لقوله «فاعلون» ويصح المعنى الآخر على حذف تقديره: هم لأداء الزكاة فاعلون عَلى أَزْواجِهِمْ هذا المجرور يتعلق بفعل يدل عليه قوله غير ملومين أي لا يلامون على أزواجهم ويمكن أن يتعلق بقوله حافظون على أن يكون على بمعنى عن أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ يعني النساء المملوكات، وَراءَ ذلِكَ يعني ما سوى الزوجات والمملوكات لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ يحتمل أن يريد أمانة الناس وعهدهم وأمانة الله وعهده في دينه أو العموم، والأمانة أعم من العهد، لأنها قد تكون بعهد وبغير عهد

_ (1) . قال الحافظ العراقي في تخريج أحاديث الإحياء: لم أجده مرفوعا وقال: روى الديلمي في مسند الفردوس من حديث أبي بن كعب: لا يكتب للرجل من صلاته ما سها عنه ج 1/ 159.

متقدم راعُونَ أي حافظون لها قائمون بها عَلى صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ المحافظة عليها هي فعلها في أوقاتها مع توفية شروطها، فإن قيل: كيف كرر ذكر الصلوات أولا وآخرا؟ فالجواب: أنه ليس بتكرار، لأنه قد ذكر أولا الخشوع فيها وذكر هنا المحافظة عليها، فهما مختلفان، وأضاف الصلاة في الموضعين إليهم دلالة على ثبوت فعلهم لها الْوارِثُونَ أي المستحقون للجنة، فالميراث استعارة، وقيل: إن الله جعل لكل إنسان مسكنا في الجنة ومسكنا في النار، فيرث المؤمنون مساكن الكفار في الجنة الْفِرْدَوْسَ مدينة الجنة وهي جنة الأعناب، وأعاد الضمير عليها مؤنثا على معنى الجنة. وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ اختلف هل يعني آدم، أو جنس بني آدم مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ السلالة: هي ما يسل من الشيء: أي ما يستخرج منه، ولذلك قيل إنها الخلاصة، والمراد بها هنا: القطعة التي أخذت من الطين وخلق منها آدم، فإن أراد بالإنسان آدم: فالمعنى أنه خلق من تلك السلالة المأخوذة من الطين، ولكن قوله بعد هذا ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً لا بدّ أن يراد به بنو آدم، فيكون الضمير يعود على غير من ذكر أولا، ولكن يفسره سياق الكلام، وإن أراد بالإنسان ابن آدم فيستقيم عود الضمير عليه، ويكون معنى خلقه من سلالة من طين: أي خلق أصله وهو أبوه آدم ويحتمل عندي أن يراد بالإنسان الجنس الذي يعم آدم وذريته، فأجمل ذكر الإنسان أولا ثم فصله بعد ذلك إلى الخلقة المختصة بآدم: وهي من طين، وإلى الخلقة المختصة بذريته. وهي النطفة، فإن قيل: ما الفرق بين من ومن؟ فالجواب على ما قال الزمخشري: أن الأولى للابتداء، والثانية للبيان. كقوله من الأوثان فِي قَرارٍ مَكِينٍ يعني رحم الأمّ، ومعنى مكين: متمكن وذلك في الحقيقة من صفة النطفة المستقرّة، لا من صفة المحل المستقرّ فيه، ولكنه كقولك طريق سائر: أي يسير الناس فيه، وقد تقدّم تفسير النطفة والمضغة والعلقة في أول الحج خَلْقاً آخَرَ قيل: هو نفخ الروح فيه، وقيل: خروجه إلى الدنيا، وقيل: استواء الشباب وقيل على العموم من نفخ الروح فيه إلى موته فَتَبارَكَ اللَّهُ هو مشتق من البركة، وقيل: معناه تقدس أَحْسَنُ الْخالِقِينَ أي أحسن الخالقين خلقا، فحذف التمييز لدلالة الكلام عليه، وفسر بعضهم الخالقين بالمقدّرين، فرارا من وصف المخلوق بأنه خالق، ولا يجب أن ينفي عن المخلوق أنه خالق بمعنى صانع كقوله: «وإذ تخلق من الطين» وإنما الذي يجب أن ينفي عنه معنى الاختراع، والإيجاد من العدم، فهذا هو الذي انفرد الله به سَبْعَ طَرائِقَ يعني السموات، وسماها طرائق لأن بعضها طورق فوق بعض كمطارقة النعل، وقيل: يعني السموات، وسماها طرائق لأن بعضها طورق فوق بعض كمطارقة النعل، وقيل: يعني الأفلاك لأنها

[سورة المؤمنون (23) : الآيات 18 إلى 26]

طرق للكواكب وَما كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غافِلِينَ يحتمل أن يريد بالخلق المخلوقين، أو المصدر ماءً بِقَدَرٍ يعني المطر الذي ينزل من السماء، فتكون منه العيون والأنهار في الأرض، وقيل: يعني أربعة أنهار وهي النيل، والفرات، ودجلة، وسيحان، ولا دليل على هذا التخصيص، ومعنى بقدر: بمقدار معلوم لا يزيد عليه ولا ينقص منه وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْناءَ «1» يعني الزيتون، وإنما خص النخيل والأعناب والزيتون بالذكر: لأنها أكرم الشجر وأكثرها منافع، وطور سيناء: جبل بالشام وهو الذي كلم الله عليه موسى عليه السلام، وينسب الزيتون إليه لأنها فيه كثيرة وسيناء اسم جبل أضافه إليه كقوله: جبل أحد، وقرأ الباقون: بفتح السين ولم ينصرف للتأنيث اللازم، وقرئ بالكسر، ولم ينصرف للعجمة أو للتأنيث مع التعريف، لأن فعلاء بالكسر لا تكون ألفه للتأنيث، وقيل: معناه مبارك، وقيل ذو شجرة، ويلزم على ذلك صرفه تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ يعني الزيت، وقرئ تنبت بفتح التاء، فالمجرور على هذا في موضع الحال. كقولك جاء زيد بسلاحه، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو: تنبت بضم التاء وكسر الباء، وفيه ثلاثة أوجه: الأول أن أنبت بمعنى نبت، والثاني حذف المفعول تقديره تنبت ثمرتها بالدهن والثالث زيادة الباء وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ الصبغ الغمس في الإدام فِي الْأَنْعامِ هي الإبل والبقر والغنم والمقصود بالذكر الإبل، لقوله: وعليها وعلى الفلك تحملون وقد تقدم في [النحل: 80] ذكر المنافع التي فيها وتذكيرها وتأنيثها. ما هذا إِلَّا بَشَرٌ استبعدوا أن تكون النبوّة لبشر فيا عجبا منهم إذ أثبتوا الربوبية لحجر! يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ أي يطلب الفضل والرياسة عليكم ما سَمِعْنا بِهذا أي بمثل ما دعاهم إليه من عبادة الله، أو بمثل الكلام الذي قال لهم، وهذا يدل على أنه كان قبل نوح فترة طويلة بِهِ جِنَّةٌ أي جنون. فانظر اختلاف قولهم فيه: فتارة نسبوه إلى طلب الرياسة، وتارة إلى الجنون حَتَّى حِينٍ أي إلى وقت لم يعينوه، ولكن أرادوا وقت زوال جنونه على قولهم، أو وقت موته انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ تضمن هذا دعاء عليهم، لأن نصرته إنما هي

_ (1) . سيناء بكسر السين وهي قراءة نافع وابن كثير وأبو عمرو.

[سورة المؤمنون (23) : الآيات 27 إلى 41]

بإهلاكهم وقد تقدم في [هود: 37] تفسير بأعيننا ووحينا، وفار التنور، ولا تخاطبني فَاسْلُكْ فِيها أي أدخل فيها، وقد تقدم تفسير زوجين اثنين وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ إن مخففة من الثقيلة، ومبتلين: اسم فاعل من ابتلى، ويحتمل أن يكون بمعنى الاختبار، أو إنزال البلاء قَرْناً آخَرِينَ قيل: إنهم عاد ورسولهم هود، لأنهم الذين يلون قوم نوح، وقيل: إنهم ثمود ورسولهم صالح، وهذا أصح لقوله: فأخذتهم الصيحة، وثمود هم الذين أهلكوا بالصيحة، وأما عاد فأهلكوا بالريح مِنْ قَوْمِهِ قدم هذا المجرور على قوله الذين كفروا لئلا يوهم أنه متصل بقوله الحياة الدنيا بخلاف قوله: قال الملأ الذين كفروا من قومه في غير هذا الموضع أَتْرَفْناهُمْ أي نعمناهم بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يحتمل أنهم قالوا ذلك لإنكارهم أن يكون نبيّ من البشر، أو قالوه أنفة من اتباع بشر مثلهم، وكذلك قال قوم نوح أَيَعِدُكُمْ استفهام على وجه الاستهزاء والاستبعاد أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ كرر أن تأكيدا للأولى ومخرجون خبر عن الأولى. هَيْهاتَ هَيْهاتَ لِما تُوعَدُونَ هذا من حكاية كلامهم، وهيهات: اسم فعل بمعنى بعد، وقال الغزنوي: هي للتأسف والتأوّه، ويجوز فيه الفتح والضم والكسر والإسكان، وتارة يجيء فاعله دون لام كقوله: «فهيهات هيهات العقيق وأهله» ، وتارة يجيء باللام كهذه الآية، قال الزجاج في تفسيره: البعد لما توعدون، فنزّله منزلة المصدر، قال الزمخشري: وفيه وجه آخر: وهي أن تكون اللام لبيان المستبعد ما هو بعد التصويت بكلمة الاستبعاد كما جاءت اللام في هيت لك لبيان المهيت به إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا أي ما الحياة إلا حياتنا الدنيا، فوضع هي موضع الحياة لدلالة الخبر عليها نَمُوتُ وَنَحْيا أي يموت بعض ويولد بعض، فينقرض قرن ويحدث قرن آخر ومرادهم: إنكار البعث عَمَّا قَلِيلٍ ما زائدة، وقيل صفة للزمان والتقدير: عن زمان قليل يندمون فَجَعَلْناهُمْ غُثاءً يعني هالكين كالغثاء، والغثاء ما يحمله السيل من الورق وغيره مما يبلى ويسود، فشبه به الهالكين فَبُعْداً مصدر وضع موضع الفعل بمعنى بعدوا: أي هلكوا، والعامل فيه مضمر لا يظهر

[سورة المؤمنون (23) : الآيات 42 إلى 53]

تَتْرا مصدر ووزنه فعلى، ومعناه التواتر والتتابع، وهو موضوع موضع الحال: أي متواترين واحدا بعد واحد، فمن قرأه بالتنوين «1» : فألفه للإلحاق، ومن قرأه بغير تنوين: فألفه للتأنيث فلم ينصرف، وتأنيثه لأن الرسل جماعة والتاء الأولى فيه بدل من واو هي فاء الكلمة وَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ أي يتحدث الناس بما جرى عليهم، ويحتمل أن يكون جمع حديث أو جمع أحدوثة، وهذا أليق لأنها تقال في الشر قَوْماً عالِينَ أي متكبرين وَقَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ أي حامدون متذللون لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ الضمير لبني إسرائيل لا لقوم فرعون، لأنهم هلكوا قبل إنزال التوراة وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ الربوة: الموضع المرتفع من الأرض، ويجوز فيها فتح الراء وضمها وكسرها، واختلف في موضع هذه الربوة، فقيل: بيت المقدس، وقيل: بغوطة دمشق، وقيل: بفلسطين ذاتِ قَرارٍ وَمَعِينٍ القرار: المستوي من الأرض فمعناه أنها بسيطة يمكن فيها الحرث والغراسة، وقيل: إن القرار هنا الثمار والحبوب، والمعين الماء الجاري، فقيل: إنه مشتق من قولك: معن الماء إذا كثر، فالميم على هذا أصلية، ووزنه فعيل، وقيل: إنه مشتق من العين، فالميم زائدة، ووزنه مفعول. يا أَيُّهَا الرُّسُلُ هذا النداء ليس على ظاهره، لأن الرسل كانوا في أزمنة متفرقة، وإنما المعنى أن كل رسول في زمانه خوطب بذلك، وقيل: الخطاب لسيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وأقامه مقام الجماعة وهذا بعيد كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ أي من الحلال، فالأمر على هذا للوجوب، أو من المستلذات فالأمر للإباحة وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً قرئ إن بالكسر على الاستئناف وهي قراءة أهل الكوفة وبالفتح «2» على معنى لأن، وهي متعلقة بقوله آخرا «فاتقون» وقيل: تتعلق بفعل مضمر تقديره: واعلموا، والأمة هنا الدين، وهو ما اتفقت عليه الرسل من التوحيد وغيره فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ أي افترقوا واختلفوا، والضمير لأمم الرسل المذكورين من اليهود والنصارى وغيرهم زُبُراً جمع زبور: وهو الكتاب، والمعنى أنهم افترقوا في اتباع الكتب، فاتبعت طائفة التوراة، وطائفة الإنجيل،

_ (1) . قرأ ابن كثير وأبو عمرو بالتنوين، والباقون بدون تنوين. (2) . قرأ بالفتح نافع وابن كثير وأبو عمرو.

[سورة المؤمنون (23) : الآيات 54 إلى 63]

وغير ذلك، ووضعوا كتابا من عند أنفسهم فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ الضمير لقريش، والغمرة الجهل والضلال، وأصلها من غمرة الماء حَتَّى حِينٍ هنا يوم بدر أو يوم موتهم. أَيَحْسَبُونَ الآية: ردّ عليهم فيما ظنوا من أن أموالهم وأولادهم خير لهم وأنهم سبب لرضا الله عنهم نُسارِعُ لَهُمْ هذا خبر أن، والضمير الرابط محذوف تقديره نسارع به بَلْ لا يَشْعُرُونَ أي لا يشعرون أن ذلك استدراج لهم، ففيه معنى التهديد. يُؤْتُونَ ما آتَوْا قيل: معناه يعطون ما أعطوا من الزكاة والصدقات وقيل: إنه عام في جميع أفعال البرّ أي يفعلونها وهم يخافون أن لا تقبل منهم، وقد روت عائشة هذا المعنى عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، إلا أنها قرأت: يؤتون ما أتوا بالقصر، فيحتمل أن يكون الحديث تفسيرا لهذه القراءة، وقيل: إنه عام في الحسنات والسيئات: أي يفعلونها وهم خائفون من الرجوع إلى الله أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ أن في موضع المفعول من أجله، أو في موضع المفعول بوجلت، إذ هي في معنى خائفة أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ فيه معنيان: أحدهما أنهم يبادرون إلى فعل الطاعات، والآخر أنهم يتعجلون ثواب الخيرات، وهذا مطابق للآية المتقدّمة، لأنه أثبت فيهم ما نفى عن الكفار من المسارعة وَهُمْ لَها سابِقُونَ فيه المعنيان المذكوران في يسارعون للخيرات، وقيل: معناه سبقت لهم السعادة في الأزل لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها يعني أن هذا الذي وصف به الصالحون غير خارج عن الوسع والطاقة، وقد تقدّم الكلام على تكليف ما لا يطاق في البقرة وَلَدَيْنا كِتابٌ يعني صحائف الأعمال، ففي الكلام تهديد وتأمين من الظلم والحيف فِي غَمْرَةٍ مِنْ هذا أي في غفلة من الدين بجملته ومن القرآن، وقيل: من الكتاب المذكور، وقيل: من الأعمال التي وصف بها المؤمنون وَلَهُمْ أَعْمالٌ مِنْ دُونِ ذلِكَ أي لهم أعمال سيئة دون الغمرة التي هم فيها، فالمعنى أنهم يجمعون بين الكفر وسوء الأعمال، والإشارة بذلك على هذا إلى الغمرة، وإنما أشار إليها بالتأكيد لأنها في معنى الكفر، وقيل: الإشارة إلى قوله من هذا: أي لهم أعمال سيئة غير المشار إليه حسبما اختلف فيه هُمْ لَها عامِلُونَ قيل: هي إخبار عن أعمالهم في الحال، وقيل: عن الاستقبال، وقيل: المعنى أنهم يتمادون على عملها حتى يأخذهم الله فجعل. «حتى إذا أخذنا مترفيهم» غاية لقوله عاملون مُتْرَفِيهِمْ أي أغنياؤهم وكبراؤهم إِذا هُمْ يَجْأَرُونَ أي يستغيثون ويصيحون فإن أراد بالعذاب قتل المترفين يوم

[سورة المؤمنون (23) : الآيات 71 إلى 79]

بدر: فالضمير في يجأرون لسائر قريش: أي صاحوا وناحوا على القتلى، وإن أراد بالعذاب شدائد الدنيا أو عذاب الآخرة: فالضمير لجميعهم لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ تقديره: يقال لهم يوم العذاب: لا تجأروا ويحتمل أن يكون هذا القول حقيقة، وأن يكون بلسان الحال ولفظه نهي، ومعناه: أن الجؤار لا ينفعهم عَلى أَعْقابِكُمْ تَنْكِصُونَ أي ترجعون إلى وراء وذلك عبارة عن إعراضهم عن الآيات وهي القرآن مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ قيل: إن الضمير عائد على المسجد الحرام وقيل: إنه على الحرم وإن لم يذكر ولكنه يفهم من سياق الكلام والمعنى: أنهم يستكبرون بسبب المسجد الحرام لأنهم أهله وولاته، وقيل: إنه عائد على القرآن من حيث ذكرت الآيات، والمعنى على هذا أن القرآن يحدث لهم عتوّا وتكبرا، وقيل: إنه يعود على النبي صلى الله عليه وسلم وهو على هذا متعلق بسامرا سامِراً مشتق من السمر وهو الجلوس بالليل للحديث، وكانت قريش تجتمع بالليل في المسجد، فيتحدّثون وكان أكثر حديثهم سب النبي صلى الله عليه وسلم، وسامرا مفرد بمعنى الجمع، وهو منصوب على الحال فمن جعل الضمير في به للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، فالمعنى أنهم سامرون بذكره وسبه تَهْجُرُونَ من قرأ بضم التاء وكسر الجيم فمعناه تقولون الهجر بضم الهاء وهو الفحش من الكلام وهي قراءة نافع، وقرأ الباقون بفتح التاء وضم الجيم فهو من الهجر بفتح الهاء أي تهجرون الإسلام، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين، أو من قولك: هجر المريض إذا هذى أي: تقولون اللغو من القول. أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ يعني القرآن، وهذا توبيخ لهم أَمْ جاءَهُمْ ما لَمْ يَأْتِ آباءَهُمُ الْأَوَّلِينَ معناه أن النبوّة ليست ببدع فينكرونها، بل قد جاءت آباؤهم الأولين فقد كانت النبوة لنوح وإبراهيم وإسماعيل وغيرهم أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ المعنى أم لم يعرفوا محمدا صلى الله عليه وسلم، ويعلموا أنه أشرفهم حسبا وأصدقهم حديثا، وأعظمهم أمانة وأرجحهم عقلا، فكيف ينسبونه إلى الكذب أو إلى الجنون، أو غير ذلك من النقائص؟ مع أنه جاءهم بالحق الذي لا يخفى على كل ذي عقل سليم، وأنه عين الصواب وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ الاتباع هنا استعارة، والحق هنا يراد به الصواب والأمر المستقيم، فالمعنى لو كان الأمر على ما تقتضي أهواؤهم من الشرك بالله واتباع الباطل لفسدت السموات والأرض كقوله: لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا [الأنبياء: 22] وقيل: إن الحق في الآية هو الله تعالى، وهذا بعيد في المعنى، وإنما حمله عليه أن جعل الاتباع حقيقة ولم يفهم فيه الاستعارة، وإنما الحق هنا هو المذكور في قوله، «بل جاءهم بالحق وأكثرهم للحق كارهون» بَلْ أَتَيْناهُمْ بِذِكْرِهِمْ يحتمل أن يكون بتذكيرهم ووعظهم

أو بفخرهم وشرفهم وهذا أظهر أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً الخرج «1» هو الأجرة ويقال فيه: خراج والمعنى واحد، وقرئ بالوجهين في الموضعين فهو كقوله أم تسألهم أي لست تسألهم أجرا فيثقل عليهم اتباعك فَخَراجُ رَبِّكَ خَيْرٌ أي رزق ربك خير من أموالهم فهو يرزقك ويغنيك عنهم عَنِ الصِّراطِ لَناكِبُونَ أي عادلون ومعرضون عن الصراط المستقيم. وَلَوْ رَحِمْناهُمْ الآية: قال الأكثرون: نزلت هذه الآية حين دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم على قريش بالقحط فنالهم الجوع حتى أكلوا الجلود وغيرها، فالمعنى رحمناهم بالخصب وكشفنا ما بهم من ضرّ الجوع والقحط: لتمادوا على طغيانهم، وفي هذا عندي نظر، فإن الآية مكية باتفاق، وإنما دعا النبي صلى الله عليه وسلم على قريش» بعد الهجرة حسبما ورد في الحديث، وقيل: المعنى لو رحمناهم بالرد إلى الدنيا لعادوا لما نهوا عنه، وهذا القول لا يلزم عليه ما لزم على الآخر، ولكنه خرج عن معنى الآية وَلَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ قيل: إن هذا العذاب هو الجوع بالقحط، وأن الباب ذا العذاب الشديد المتوعد به بعد هذا يوم بدر، وهذا مردود بأن العذاب الذي أصابهم إنما كان بعد بدر، وقيل إن العذاب الذي أخذهم هو يوم بدر، والباب المتوعد به هو القحط، وقيل: الباب ذو العذاب الشديد: عذاب الآخرة، وهذا أرجح، ولذلك وصفه بالشدّة لأنه أشد من عذاب الدنيا، وقال: إذا هم فيه مبلسون: أي يائسون من الخير، وإنما يقع لهم اليأس في الآخرة كقوله وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ [الروم: 12] . فَمَا اسْتَكانُوا أي ما تذللوا لله عز وجل، وقد تقدم الكلام على هذه الكلمة في آخر [آل عمران: 146] وَما يَتَضَرَّعُونَ إن قيل: هلا قال: فما استكانوا وما تضرعوا، أو فما يستكينون وما يتضرعون باتفاق الفعلين في الماضي أو في الاستقبال؟ فالجواب: أن ما استكانوا عند العذاب الذي أصابهم، وما يتضرعون حتى يفتح عليهم باب عذاب شديد فنفى الاستكانة فيما مضى، ونفى التضرع في الحال والاستقبال قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ ما زائدة، وقليلا صفة لمصدر محذوف تقديره: شكرا قليلا تشكرون، وذكر السمع، والبصر والأفئدة- وهي القلوب- لعظم المنافع التي فيها، فيجب شكر خالقها ومن شكره: توحيده واتباع رسوله عليه الصلاة والسلام، ففي ذكرها تعديد نعمة وإقامة حجة ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ أي نشركم فيها.

_ (1) . خراج قرأ حمزة والكسائي: خراج مرتين وقرأ ابن عامر: خرجا بدون ألف مرتين وقرأ الباقون خرجا ثم خراجا. (2) . انظر قوله صلى الله عليه وسلم في صحيح مسلم كتاب الجهاد ج 2/ اللهم عليك بقريش ثلاث مرات.

[سورة المؤمنون (23) : الآيات 80 إلى 91]

وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ أي هو فاعله ومختص به فاللام على هذا للاختصاص، وقد ذكر في البقرة معنى اختلاف الليل والنهار بَلْ قالُوا مِثْلَ ما قالَ الْأَوَّلُونَ أي قالت قريش مثل قول الأمم المتقدمة، ثم فسر قولهم بإنكارهم البعث، وإليه الإشارة بقولهم: لقد وعدنا نحن وآباؤنا هذا، وقد ذكر الاستفهامان في الرعد، وأساطير الأولين في الأنعام قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيها هذه الآيات توقيف [أي سؤال] لهم على أمور لا يمكنهم الإقرار بها، وإذا أقروا بها لزمهم توحيد خالقها والإيمان بالدار الآخرة سَيَقُولُونَ لِلَّهِ «1» قرئ في الأول لله باللام بإجماع، جوابا لقوله: لمن الأرض، وكذلك قرأ الجمهور الثاني والثالث، وذلك على المعنى لأن قوله: من رب السموات في معنى لمن هي، وقرأ أبو عمرو الثاني والثالث بالرفع على اللفظ مَلَكُوتُ مصدر وفي بنائه مبالغة يُجِيرُ وَلا يُجارُ عَلَيْهِ الإجارة المنع من الإهانة، يقال: أجرت فلانا على فلان، إذا منعته من مضرته وإهانته، فالمعنى أن الله تعالى يغيث من شاء ممن شاء، ولا يغيث أحد منه أحدا فَأَنَّى تُسْحَرُونَ أي تخدعون عن الحق والخادع لهم الشيطان، وذلك تشبيه بالسحر في التخليط والوقوع في الباطل، ورتب هذه التوبيخات الثلاثة بالتدريج فقال أولا: أفلا تذكرون، ثم قال ثانيا: أفلا تتقون، وذلك أبلغ، لأن فيه زيادة تخويف، ثم قال ثالثا: فأنى تسحرون وفيه من التوبيخ ما ليس في غيره وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ يعني فيما ينسبون لله من الشركاء والأولاد، ولذلك ردّ عليهم بنفي ذلك إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ هذا برهان على الوحدانية، وبيانه أن يقال: لو كان مع الله إلها آخر لانفرد كل واحد منهما بمخلوقاته عن مخلوقات الآخر، واستبدّ كل واحد منهما بملكه، وطلب غلبة الآخر والعلوّ عليه كما ترى حال ملوك الدنيا، ولكن لما رأينا جميع المخلوقات مرتبطة بعضها ببعض حتى كأن العالم كله كرة واحدة: علمنا أن مالكه ومدبره واحد، لا إله غيره. وليس هذا البرهان بدليل التمانع كما فهم ابن عطية وغيره، بل هو دليل آخر، فإن قيل: إذ لا تدخل إلا على كلام هو جزاء وجواب، فكيف

_ (1) . وردت: سيقولون لله ثلاث مرات فلا خلاف في الأولى: لله وأما في الثانية والثالثة فقرأ أبو عمرو: الله. وقرأ الباقون: لله.

[سورة المؤمنون (23) : الآيات 92 إلى 101]

دخلت هنا ولم يتقدّم قبلها شرط ولا سؤال سائل؟ فالجواب: أن الشرط محذوف تقديره لو كان معه آلهة وإنما حذف لدلالة قوله: وما كان معه من إله، وهو جواب للكفار الذين وقع الرد عليهم عالِمِ الْغَيْبِ بالرفع خبر ابتداء، وبالخفض صفة لله قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي ما يُوعَدُونَ الآية: معناه أن الله أمر نبيه صلى الله عليه واله وسلم أن يدعو لنفسه بالنجاة من عذاب الظالمين إن قضى أن يرى ذلك، وفيها تهديد للظالمين وهم الكفار، وإن شرطية وما زائدة، وجواب الشرط فلا تجعلني، وكرر قوله رب مبالغة في الدعاء والتضرع. ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ قيل التي هي أحسن لا إله إلا الله، والسيئة الشرك، والأظهر أنه أمر بالصفح والاحتمال وحسن الخلق وهو محكم غير منسوخ، وإنما نسخ ما يقتضيه من مسالمة الكفار مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ يعني نزغاته ووساوسه، وقيل: يعني الجنون، واللفظ أعم من ذلك أَنْ يَحْضُرُونِ معناه أن يكونوا معه، وقيل: يعني حضورهم عند الموت حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قال ابن عطية: حتى هنا حرف ابتداء: أي ليست غاية لما قبلها، وقال الزمخشري: حتى تتعلق بيصفون: أي لا يزالون كذلك حتى يأتيهم الموت قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ يعني الرجوع إلى الدنيا، وخاطب به مخاطبة الجماعة للتعظيم، قال ذلك الزمخشري وغيره، ومثله قول الشاعر: ألا فارحمون يا آل محمد وقيل إنه نادى ربه ثم خاطب الملائكة فِيما تَرَكْتُ قيل: يعني فيما تركت من المال، وقيل: فيما تركت من الإيمان فهو كقوله: أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً [الأنعام: 158] ، والمعنى أن الكافر رغب أن يرجع إلى الدنيا ليؤمن ويعمل صالحا في الإيمان الذي تركه أول مرة كَلَّا ردع له عما طلب إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها يعني قوله: «رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً» فسمى هذا الكلام كلمة وفي تأويل معناه ثلاثة أقوال: أحدها أن يقول هذه الكلمة لا محالة لإفراط ندمه وحسرته فهو إخبار بقوله، والثاني أن المعنى أنها كلمة يقولها ولا تنفعه ولا تغني عنه شيئا، والثالث أن يكون المعنى أنه يقولها كاذبا فيها، ولو رجع إلى الدنيا لم يعمل صالحا وَمِنْ وَرائِهِمْ أي فيما يستقبلون من الزمان والضمير للجماعة المذكورين في قوله جاء أحدهم بَرْزَخٌ يعني المدة التي بين الموت والقيامة، وهي تحول بينهم وبين الرجوع إلى الدنيا وأصل البرزخ الحاجز بين شيئين فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ المعنى أنه ينقطع يومئذ التعاطف والشفقة التي بين القرابة لاشتغال كل أحد بنفسه كقوله: يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ [عبس: 34] فتكون الأنساب كأنها معدومة وَلا

[سورة المؤمنون (23) : الآيات 102 إلى 118]

يَتَساءَلُونَ أي لا يسأل بعضهم بعضا لاشتغال كل أحد بنفسه، فإن قيل: كيف الجمع بين هذا وبين قوله وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ [الطور: 25] فالجواب أن ترك التساؤل عند النفخة الأولى ثم يتساءلون بعد ذلك، فإن يوم القيامة يوم طويل فيه مواقف كثيرة تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ أي تصيبهم بالإحراق كالِحُونَ الكلوح انكشاف الشفتين عن الأسنان، وكثيرا ما يجري ذلك للكلاب، وقد يجرى للكباش إذا شويت رؤوسها، وفي الحديث: إن شفة الكافر ترتفع في النار حتى تبلغ وسط رأسه «1» ، وفي ذلك عذاب وتشويه غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا أي ما قدر عليهم من الشقاء، وقرئ شقاوتنا، والمعنى واحد قالَ اخْسَؤُا كلمة تستعمل في زجر الكلاب، ففيها إهانة وإبعاد وَلا تُكَلِّمُونِ أي لا تكلمون في رفع العذاب، فحينئذ ييأسون من ذلك، أعاذنا الله من ذلك برحمته سِخْرِيًّا بضم السين من السخرة بمعنى التخديم، وبالكسر من السخر بمعنى الاستهزاء، وقد يقال هذا بالضم، وقرئ هنا بالوجهين لاحتمال المعنيين، على أن معنى الاستهزاء هنا أليق لقوله «وكنتم منهم تضحكون» كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ يعني في جوف الأرض أمواتا، وقيل: أحياء في الدنيا، فأجابوا بأنهم لبثوا يوما أو بعض يوم لاستقصارهم المدة أو لما هم فيه من العذاب بحيث لا يعدون شيئا فَسْئَلِ الْعادِّينَ أي اسأل من يقدر على أن يعدّ، وهو من عوفي مما ابتلوا به أو يعنون الملائكة إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا معناه أنه قليل بالنسبة إلى بقائهم في جهنم خالدين أبدا عَبَثاً أي باطلا، والمعنى إقامة حجة على الحشر للثواب والعقاب لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ أي لا حجة ولا دليل، والجملة صفة لقوله: إلها آخر، وجواب الشرط فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ الضمير للأمر والشأن، وانظر كيف افتتح السورة بفلاح المؤمنين وختمها بعدم فلاح الكافرين، ليبين البون بين الفريقين والله أعلم.

_ (1) . أورده المنذري ج 4 ص 239 وعزاه لأحمد والترمذي عن أبي سعيد الخدري.

سورة النور

سورة النور مدنية وآياتها 64 نزلت بعد الحشر بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (سورة النور) سُورَةٌ أَنْزَلْناها السورة خبر ابتداء مضمر، أو مبتدأ وخبره محذوف تقديره فيما أنزل عليكم سورة، وأنزلناها صفة للسورة، وفرضناها: أي فرضنا الأحكام التي فيها وقرأ ابن كثير وأبو عمرو: [فرّضناها] بالتشديد للمبالغة آياتٍ بَيِّناتٍ يعني ما فيها من المواعظ والأحكام والأمثال، وقيل: معنى بينات هنا ليس فيها مشكل الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ الزانية والزاني يراد بهما الجنس، وقدم الزانية لأن الزنا كان حينئذ في النساء أكثر، فإنه كان منهنّ إماء وبغايا يجاهرن بذلك، وإعراب الزاني والزانية كإعراب: السارق والسارقة فاقطعوا أيديهما، وقد ذكر في [المائدة: 38] وهذه الآية ناسخة بإجماع لما في سورة [النساء: 14] من الإمساك في البيوت، في الآية الواحدة ومن الأذى في الأخرى، ثم إن لفظ هذه الآية عند مالك ليس على عمومه، فإن جلد المائدة إنما هو حدّ الزاني والزانية إذا كانا مسلمين حرين غير محصنين، فيخرج منها الكفار، فيردّون إلى أهل دينهم، ويخرج منها العبد والأمة والمحصن والمحصنة، فأما العبد والأمة: فحدّهما خمسون جلدة سواء كانا محصنين أو غير محصنين، وأما المحصنان الحران فحدّهما الرجم هذا على مذهب مالك. وأما الكلام على الآية بالنظر إلى سائر المذاهب، فاعلم أن لفظ هذه الآية ظاهره العموم في المسلمين والكافرين، وفي الأحرار والعبيد والإماء وفي المحصن وغير المحصن، ثم إن العلماء خصصوا من هذا العموم أشياء منها باتفاق، ومنها باختلاف، فأما الكفار فرأى أبو حنيفة وأهل الظاهر أن حدّهم جلد مائة أحصنوا أو لم يحصنوا: أخذا بعموم الآية، ورأى الشافعي أن حدهم كحد المسلمين الجلد إن لم يحصنوا، والرجم إن أحصنوا أخذا بالآية، وبرجم النبي صلى الله عليه وسلم لليهودي واليهودية إذا زنيا، ورأى مالك أن يردّوا إلى أهل دينهم لقوله تعالى: في سورة النساء «واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم» فخص نساء المسلمين على أنها قد نسختها هذه. ولكن بقيت في محلها، وأما العبد والأمة: فرأى أهل

الظاهر أن حدّ الأمة خمسون جلدة لقوله تعالى: «فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ» وأن حدّ العبد الجلد مائة لعموم الآية، وقال غيرهم: يجلد العبد خمسين بالقياس على الأمة، إذ لا فرق بينهما، وأما المحصن فقال الجمهور: حدّه الرجم فهو مخصوص في هذه الآية، وبعضهم يسمي هذا التخصيص نسخا، ثم اختلفوا في المخصص أو الناسخ، فقيل: الآية التي ارتفع لفظها وبقي حكمها وهي قوله: «الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالا من الله والله عزيز حكيم» وقيل: الناسخ لها السنة الثابتة في الرجم، وقال أهل الظاهر وعلي بن أبي طالب: يجلد المحصن بالآية، ثم يرجم بالسنة فجمعوا عليه الحدّين، ولم يجعلوا الآية منسوخة، ولا مخصصة، وقال الخوارج: لا رجم أصلا فإن الرجم ليس في كتاب الله، ولا يعتد بقولهم، وظاهر الآية الجلد دون تغريب، وبذلك قال أبو حنيفة، وقال مالك: الجلد والتغريب سنة للحديث، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: «البكر بالبكر جلد مائة وتغريب «1» عام» ، ولا تغريب على النساء ولا على العبيد عند مالك، وصفة الجلد عند مالك في الظهر والمجلود جالس وقال الشافعي: يفرق على جميع الأعضاء والمجلود قائم، وتستر المرأة بثوب لا يقيها الضرب، ويجرّد الرجل عند مالك وقال قوم يجلد على قميص وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ قيل: يعني في إسقاط الحدّ: أي أقيموه ولا بد، وقيل: في خفيف الضرب، وقيل: في الوجهين. فعلى القول الأول: يكون الضرب في الزنا كالضرب في القذف غير مبرح، وهو مذهب مالك والشافعي، وعلى القول الثاني والثالث: يكون الضرب في الزنا أشد، واختلف: هل يجوز أن يجمع مائة سوط يضرب بها مرة واحدة؟ فمنعه مالك وأجازه أبو حنيفة لما ورد في قصة أيوب عليه السلام، وأجازه الشافعي للمريض لورود ذلك في الحديث. وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ المراد بذلك توبيخ الزناة والغلظة عليهم، واختلف في أقل ما يجزئ من الطائفة فقيل: أربعة اعتبارا بشهادة الزنا وهو قول ابن أبي زيد، وقيل: عشرة، وقيل: اثنين وهو مشهور مذهب مالك، وقيل: واحد الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً الآية: معناها ذم الزناة وتشنيع الزنا، وأنه لا يقع فيه إلا زان أو مشرك ولا يوافقه عليه من النساء إلا زانية أو مشركة، وينكح على هذا بمعنى يجامع، وقيل: معناها لا يحل لزان أن يتزوج إلا زانية أو مشركة، ولا يحل لزانية أن تتزوج إلا زانيا أو مشركا، ثم نسخ هذا الحكم وأبيح لهما التزوج ممن شاؤوا، والأول هو الصحيح «2» وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ الإشارة بذلك إلى الزنا أي حرم الزنا على المؤمنين وقيل: الإشارة

_ (1) . رواه أحمد ج 3 ص 476 عن سلمة بن المحبق بلفظ قريب منه. [.....] (2) . الأقرب إلى هذه الآية أن تكون بمعنى الآية التالية: 26 الخبيثات للخبيثين والخبيثون للخبيثات.

[سورة النور (24) : الآيات 4 إلى 6]

إلى تزوج المؤمن غير الزاني بزانية، فإن قوما منعوا أن يتزوجها، وهذا على القول الثاني في الآية قبلها وهو بعيد، وأجاز تزويجها مالك وغيره، وروي عنه كراهته. وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً هذا حدّ القذف، وهو الفرية التي عبر الله عنها بالرمي، والمحصنات يراد بهن هنا العفائف من النساء، وخصهن بالذكر لأن قذفهن أكثر وأشنع من قذف الرجال، ودخل الرجال في ذلك بالمعنى إذ لا فرق بينهم، وأجمع العلماء على أن حكم الرجال والنساء هنا واحد، وقيل: إن المعنى يرمون الأنفس المحصنات، فيعم اللفظ على هذا النساء والرجال. ويحتاج هنا إلى الكلام في القذف والقاذف والمقذوف والشهادة في ذلك، فأما القذف فهو الرمي بالزنا اتفاقا، أو بفعل قوم لوط عند مالك والشافعي لعموم لفظ الرمي في الآية، خلافا لأبي حنيفة، أو النفي من النسب، ومذهب مالك أن التعريض بذلك كله كالتصريح خلافا للشافعي وأبي حنيفة، وأما القاذف فيحدّ: سواء كان مسلما أو كافرا لعموم الآية، وسواء كان حرا أو عبدا، إلا أن العبد والأمة إنما يحدّان أربعين عند الجمهور، فنصفوا حدّهما قياسا على تنصيفه في الزنا خلافا للظاهرية، ولا يحدّ الصبي ولا المجنون لكونهما غير مكلفين، وأما المقذوف فمذهب مالك أنه يشترط فيه الإسلام والعقل والبلوغ والحرية والبراءة عما رمي به، والتمكن من الوطء تحرزا من المجبوب [مقطوع الآلة] وشبهه، فلا يحدّ عنده من قذف صبيا أو كافرا أو مجبوبا أو عبدا ومن لا يمكنه الوطء وقد قيل: يحدّ من قذف واحدا منهم لعموم الآية واتفقوا على اشتراط البراءة مما رمي به وأما الشهادة التي تسقط حدّ القذف، فهي أن يشهد شاهدان عدلان بأن المقذوف عبد أو كافر أو يشهد أربعة شهود ذكور عدول على المعاينة لما قذف به كالمرود في المكحلة، ويؤدّون الشهادة مجتمعين إِلَّا الَّذِينَ تابُوا تقدّم قبل هذا الاستثناء ثلاثة أحكام، وهي الحدّ، ورد شهادة القاذف، وتفسيقه، فاتفق على أن الاستثناء راجع إلى التفسيق، وأن ذلك يزول عنه بالتوبة، واتفق على أنه لا يرجع إلى الحدّ وأنه لا يسقط عنه بالتوبة، واختلف هل يرجع إلى ردّ الشهادة أم لا: فقال مالك: إذا تاب قبلت شهادته، خلافا لأبي حنيفة، وتوبته هو صلاح حاله في دينه وقيل إكذاب نفسه. وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ هذه الآية في قذف الرجل لامرأته فيجب اللعان بذلك، وسببها أن رجلا قال يا رسول الله: الرجل يجد مع امرأته رجلا أيقتله فتقلتونه أم كيف يصنع؟ فسكت عنه نبيّ الله صلى الله عليه وآله وسلم، ثم عاد فقال مثل ذلك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أنزل الله فيك وفي صاحبتك

[سورة النور (24) : الآيات 7 إلى 10]

فأتني بها فأتى بها فتلاعنا وفرق رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما «1» . وموجب اللعان عند مالك شيئان: أحدهما أن يدعي الزوج أنه رأى امرأته تزني. والآخر أن ينفي حملها ويدعى الاستبراء قبله، فإذا تلاعن الزوج تعلقت به ثلاثة أحكام: نفي حدّ القذف عنه، وانتفاء سبب الولد منه، ووجوب حدّ الزنا عليها إن لم تلاعن، فإن تلاعنت سقط الحدّ عنها، ولفظ الآية عام في الزوجات الحرائر والمماليك، والمسلمات والكافرات والعدول وغيرهم، وبذلك أخذ مالك واشترط في الزوج الإسلام واشترط أبو حنيفة أن يكونا مسلمين حرين عدلين فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ أي يقول الزوج أربع مرات: أشهد بالله لقد رأيت هذه المرأة تزنى، أو أشهد بالله ما هذا الحمل مني ولقد زنت وإني في ذلك لمن الصادقين، ثم يقول في الخامسة لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين، وزاد أشهب أن يقول: أشهد بالله الذي لا إله إلا هو، وانتصب: أربع شهادات بالله على المصدرية، والعامل فيه شهادة أحدهم وقرأ [حمزة والكسائي وحفص] بالرفع وهو خبر شهادة أحدهم، وقوله: بالله وإنه لمن الصادقين من صلة أربع شهادات أو من صلة شهادة أحدهم وَالْخامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كانَ مِنَ الْكاذِبِينَ [قرأ حفص] بنصب الخامسة هنا وفي الموضع الثاني، وانتصب بفعل مضمر تقديره ويشهد الخامسة، أو بالعطف على أربع شهادات على قراءة النصب، وقرأ الباقون بالرفع على الابتداء أو عطف على أربع شهادات بقراءة الرفع، وقرئ أن لعنة، وأن غضب: بتشديد أن، ونصب اسمها وقرأ نافع بتخفيفها ورفع اللعنة والغضب على الابتداء وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهاداتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكاذِبِينَ العذاب هنا حدّ الزنا، أي يدفعه التعان المرأة، وهي أن تقول أربع مرات: أشهد بالله ما زنيت، وإنه في ذلك لمن الكاذبين، ثم تقول في الخامسة: غضب الله عليها إن كان من الصادقين، ويتعلق بالتعانها ثلاثة أحكام: دفع الحدّ عنها، والتفريق بينها وبين زوجها، وتأبيد الحرمة وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ جواب لو محذوف هنا وفي الموضع الآخر تقديره لولا فضل الله عليكم لآخذكم، أو نحو هذا. إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ الإفك: أشدّ الكذب، ونزلت هذه الآية وما بعدها إلى تمام ستة عشر آية في شأن سيدتنا عائشة رضي الله عنها وفي براءتها مما رماها به أهل الإفك، وذلك أن الله برأ أربعة بأربعة برأ يوسف بشهادة الشاهد من أهلها، وبرأ موسى من قول اليهود بالحجر الذي ذهب بثوبه، وبرأ مريم بكلام ولدها في حجرها، وبرأ عائشة من الإفك بإنزال القرآن في شأنها، ولقد تضمنت هذه الآيات الغاية القصوى في الاعتناء بها، والكرامة لها والتشديد على من قذفها.

_ (1) . الحديث بكامله في صحيح البخاري ج 6 ص 3. عن سهل بن سعد.

[سورة النور (24) : الآيات 15 إلى 21]

وقد خرج حديث الإفك البخاري ومسلم وغيرهما، واختصاره أن عائشة خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة بني المصطلق، فضاع لها عقد فتأخرت على التماسه حتى رحل الناس، فجاء رجل يقال له صفوان بن المعطل، فرآها فنزل عن ناقته وتنحى عنها حتى ركبت عائشة، وأخذ يقودها حتى بلغ الجيش، فقال أهل الإفك في ذلك ما قالوا، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: ما بال رجال رموا أهلي والله ما علمت على أهلي إلا خيرا، ولقد ذكروا رجلا ما علمت عليه إلا خيرا، وسأل جارية عائشة، فقالت: والله ما علمت عليها إلا ما يعلم الصائغ على تبر الذهب الأحمر. والعصبة الجماعة من العشرة إلى الأربعين، ولم يذكر في الحديث من أهل الإفك إلا أربعة، وهم: عبد الله بن أبيّ بن سلول رأس المنافقين، وحمنة بنت جحش، ومسطح بن أثاثة وحسان بن ثابت، وقيل: إن حسّان لم يكن منهم وارتفاع عصبة لأنه خبر إن، واختار ابن عطية أن يكون عصبة بدلا من الضمير في جاءوا، ويكون الخبر لا تحسبوه شرا لكم على تقدير: إن حديث الذين جاءوا بالإفك، والأول أظهر بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ خطاب للمسلمين، والخير في ذلك من خمسة أوجه: تبرئة أم المؤمنين، وكرامة الله لها بإنزال الوحي في شأنها، والأجر الجزيل لها في الفرية عليها، وموعظة المؤمنين، والانتقام من المفترين وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ هو عبد الله بن أبي بن سلول المنافق، وقيل الذي بدأ بهذه الفرية غير معين، والعذاب العظيم هنا يحتمل أن يراد به الحدّ أو عذاب الآخرة. لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً لولا هنا عرض، والمعنى أنه: كان ينبغي للمؤمنين والمؤمنات أن يقيسوا ذلك الأمر على أنفسهم، فإن كان ذلك يبعد في حقهم، فهو في حق عائشة أبعد لفضلها، وروي أن هذا النظر وقع لأبي أيوب الأنصاري، فقال لزوجته: أكنت أنت تفعلين ذلك، قالت: لا والله، قال فعائشة أفضل منك؟ قالت نعم، فإن قيل: لم قال: سمعتموه بلفظ الخطاب، ثم عدل إلى لفظ الغيبة في قوله: ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ، ولم يقل ظننتم؟ فالجواب أن ذلك التفات، قصد به المبالغة والتصريح بالإيمان، الذي يوجب أن لا يصدق المؤمن على المؤمن شرا لَوْلا جاؤُ عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ لولا هنا عرض، والضمير في جاءوا لأهل الإفك، ثم حكم الله بكذبهم إذ لم يأتوا بالشهداء أَفَضْتُمْ فِيهِ يقال أفاض في الحديث وخاض فيه إذا أكثر الكلام فيه إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ العامل في إذ قوله مسكم أو أفضتم، ومعنى تلقونه: يأخذه بعضكم من بعض، وفي هذا الكلام وفي الذي قبله وبعده عتاب لهم على خوضهم في حديث الإفك، وإن كانوا لم يصدقوه، فإن الواجب كان الإغضاء عن ذكره والترك له بالكلية،

[سورة النور (24) : الآيات 22 إلى 27]

فعاتبهم على ثلاثة أشياء، وهي: تلقيه بالألسنة: أي السؤال عنه وأخذه من المسؤول والثاني: قولهم ذلك، والثالث: أنهم حسبوه هينا وهو عند الله عظيم، وفائدة قوله بألسنتكم وبأفواهكم الإشارة إلى أن ذلك الحديث كان باللسان دون القلب، إذ كانوا لم يعلموا حقيقته بقلوبهم وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا أي كان الواجب أن يبادروا إلى إنكار هذا الحديث أول سماعهم له، ولولا أيضا في هذه الآية عرض، وكان حقها أن يليها الفعل من غير فاصل بينهما، ولكنه فصل بينهما بقوله: إذ سمعتموه لأن الظروف يجوز فيها ما لا يجوز في غيرها، والقصد بتقديم هذا الظرف الاعتناء به، وبيان أنه كان الواجب المبادرة إلى إنكار الكلام في أول وقت سمعتموه، ومعنى ما يكون لنا: ما ينبغي لنا ولا يحل لنا أن نتكلم بهذا. سُبْحانَكَ تنزيه لله عن أن تكون زوجة رسول الله صلى الله وآله وسلم على ما قال أهل الإفك، وقال الزمخشري: هو بمعنى التعجب من عظيم الأمر، والاستبعاد له، والأصل في ذلك أن يسبح الله عند رؤية العجائب بُهْتانٌ عَظِيمٌ البهتان أن يقال في الإنسان ما ليس فيه، والغيبة أن يقال ما فيه أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ تقديره: يعظكم كراهة أن تعودوا لمثله، ثم عظم الأمر وأكده بقوله: إن كنتم مؤمنين إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ الإشارة بذلك إلى المنافقين الذين أحبوا أن يشيع حديث الإفك، ثم هو عام في غيرهم ممن اتصف بصفتهم، والعذاب في الدنيا الحد، وأما عذاب الآخرة، فقد ورد في الحديث: أن من عوقب في الدنيا على ذنب لم يعاقب عليه في الآخرة فأشكل اجتماع الحدّ مع عذاب الآخرة في هذا الموضع، فيحتمل أن يكون القاذف يعذب في الآخرة ولا يسقط الحدّ عنه عذاب الآخرة بخلاف سائر الحدود، أو يكون هذا مختصا بمن قذف عائشة، فإنه روى عن ابن عباس أنه قال: من أذنب ذنبا ثم تاب منه قبلت توبته إلا من خاض في أمر عائشة، أو يكون لمن مات مصرا غير تائب، أو يكون للمنافقين خُطُواتِ الشَّيْطانِ ذكر في البقرة بِالْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ ذكر في النحل زَكى أي تطهر من الذنوب، وصلح دينه وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى معنى يأتل يحلف، فهو من قولك: آليت إذا حلفت، وقيل معناه: يقصر فهو من قولك: ألوت أي قصرت، ومنه لا يَأْلُونَكُمْ خَبالًا [آل عمران: 118] والفضل هنا يحتمل أن يريد به الفضل في الدين،

أو الفضل في المال، وهو أن يفضل له عن مقدار ما يكفيه، والسعة هي اتساع المال، ونزلت الآية بسبب أبي بكر الصديق رضي الله عنه حين حلف أن لا ينفق على مسطح، لما تكلم في حديث الإفك، وكان ينفق عليه لمسكنته ولأنه قريبه، وكان ابن بنت خالته، فلما نزلت الآية رجع إلى مسطح النفقة والإحسان، وكفر عن يمينه، قال بعضهم: هذه أرجى آية في القرآن، لأن الله أوصى بالإحسان إلى القاذف، ثم إن لفظ الآية على عمومه في أن لا يحلف أحد على ترك عمل صالح أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ أي كما تحبون أن يغفر الله لكم، كذلك اغفروا أنتم لمن أساء إليكم، ولما نزلت قال أبو بكر رضي الله عنه: إني لأحب أن يغفر الله لي، ثم ردّ النفقة إلى مسطح الْمُحْصَناتِ الْغافِلاتِ معنى المحصنات هنا العفائف ذوات الصون، ومعنى الغافلات السليمات الصدور، فهو من الغفلة عن الشر لُعِنُوا فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ هذا الوعيد للقاذفين لعائشة ولذلك لم يذكر فيه توبة، قال ابن عباس: كل مذنب تقبل توبته إذا تاب إلا من خاض في حديث عائشة وقيل: الوعيد لكل قاذف، والعذاب العظيم يحتمل أن يريد به الحدّ أو عذاب الآخرة. يَوْمَ تَشْهَدُ العامل فيه يوفيهم، وكرر يومئذ توكيدا وقيل: العامل فيه عذاب أو فعل مضمر دِينَهُمُ الْحَقَّ أي جزاؤهم الواجب لهم وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ هذه الآية تدل على أن ما قبلها في المنافقين، لأن المؤمن قد علم في الدنيا أن الله هو الحق المبين، ومعنى المبين الظاهر الذي لا شك فيه الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ الآية: معناها أن الخبيثات من النساء للخبيثين من الرجال، وأن الطيبات من النساء للطيبين من الرجال، ففي ذلك ردّ على أهل الأفك، لأن النبي صلى الله عليه وسلم هو أطيب الطيبين فزوجته أطيب الطيبات، وقيل: المعنى أن الخبيثات من الأعمال للخبيثين من الناس، والطيبات من الأعمال للطيبين من الناس، ففيه أيضا ردّ على أهل الإفك، وقيل: معناه أن الخبيثات من الأقوال للخبيثين من الناس، والإشارة بذلك إلى أهل الإفك، وقيل: معناه أن الخبيثات من الأقوال للخبيثين من الناس، والإشارة بذلك إلى أهل الإفك: أي أن أقوالهم الخبيثة لا يقولها إلا خبيث مثلهم أُولئِكَ مُبَرَّؤُنَ مِمَّا يَقُولُونَ الإشارة بأولئك إلى الطيبين والطيبات والضمير في يقولون للخبيثات والخبيثين، والمراد تبرئة عائشة رضي الله عنها مما رميت به لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها هذه الآية أمر بالاستئذان في غير بيت الداخل، فيعم بذلك بيوت الأقارب وغيرهم، وقد جاء في الحديث الأمر بالاستئذان على الأم خيفة

[سورة النور (24) : الآيات 28 إلى 30]

أن يراها عريانة «1» ، ومعنى تستأنسوا: تستأذنوا وهو مأخوذ من قولك: آنست للشيء إذا علمته، فالاستئناس: أن يستعلم هل يريد أهل الدار الدخول أم لا؟ وقيل هو مأخوذ من الأنس ضد الوحشة وقرأ ابن عباس حتى تستأذنوا، والاستئذان واجب، وأما السلام فلا ينتهي إلى الوجوب، واختلف أيهما يقدّم، فقيل يقدّم السلام ثم يستأذن فيقول: السلام عليكم، ثم يقول أأدخل، وقيل يقدم الاستئذان لتقديمه في الآية، وليس في الآية عدد الاستئذان، وجاء في الحديث أن يستأذن ثلاث مرات، وهو تفسير للآية لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيها مَتاعٌ لَكُمْ سبب هذه الآية أنه لما نزلت آية الاستئذان تعمق قوم فكانوا يأتون المواضع غير المسكونة فيسلمون ويستأذنون، فأباحت هذه الآية دخولها بغير استئذان، واختلف في البيوت غير المسكونة في هذه الآية، فقيل: هي الفنادق التي في الطرق ولا يسكنها أحد، بل هي موقوفة ليأوي إليها كل ابن سبيل، والمتاع على هذا التمتع بالنزول فيها والمبيت وغير ذلك، وقيل: هي الخرب التي تدخل للبول والغائط، والمتاع على هذا حاجة الإنسان، وقيل: هي حوانيت القيسارية، والمتاع على هذا الثياب والبسط وشبهها، وهذا القول خطأ لأن الاستئذان في الحوانيت واجب بإجماع. قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ إعرابها كإعراب يقيموا الصلاة في [إبراهيم: 31] وقد ذكر ومن أبصارهم للتبعيض، والمراد غض البصر عما يحرم، والاقتصار به على ما يحل، وقيل: معنى التبعيض فيه أن النظرة الأولى لا حرج فيها، ويمنع ما بعدها، وأجاز الأخفش أن تكون من زائدة، وقيل: هي لابتداء الغاية، لأن البصر مفتاح القلب والغض المأمور به هو عن النظر إلى العورة، أو إلى ما لا يحل من النساء، أو إلى كتب الغير وشبه ذلك مما يستر، وحفظ الفروج المأمور به: هو عن الزنا، وقيل: أراد ستر العورة، والأظهر أن الجميع مراد وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ تؤمر المرأة بغض بصرها عن عورة الرجل وعن عورة المرأة إجماعا، واختلف هل يجب عليها غض بصرها عن سائر جسد الرجل الأجنبي أم لا، وعن سائر جسد المرأة أم لا، فعلى القول بذلك تشتمل الآية عليه، والكلام في حفظ فروج النساء كحفظ فروج الرجال وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا ما ظَهَرَ مِنْها نهى عن إظهار الزينة بالجملة ثم استثنى الظاهر منها، وهو ما لا بد من النظر إليه عند حركتها أو إصلاح شأنها وشبه ذلك، فقيل: إلا ما

_ (1) . رواه مالك في الموطأ أول كتاب الاستئذان ص 963 وأوله: يا رسول الله أستأذن على أمي؟ فقال: نعم. قال الرجل: إني معها في البيت؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم استأذن عليها. فقال الرجل: إني خادمها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: استأذن عليها أتحب أن تراها عريانة؟ قال: لا. قال: فاستأذن عليها.

ظهر منها يعني الثياب فعلى هذا يجب ستر جميع جسدها، وقيل: الثياب والوجه والكفان، وهذا مذهب مالك لأنه أباح كشف وجهها وكفيها في الصلاة، وزاد أبو حنيفة القدمين وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ الجيوب هي التي يقول لها العامة أطواق، وسببها أن النساء كن في ذلك الزمان يلبسن ثيابا واسعات الجيوب، يظهر منها صدورهن، وكن إذا غطين رؤوسهن بالأخمرة، سدلنها من وراء الظهر، فيبقى الصدر والعنق والأذنان لا ستر عليها، فأمرهن الله بلي الأخمرة [جمع خمار] على الجيوب ليستر جميع ذلك وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبائِهِنَّ الآية: المراد بالزينة هنا الباطنة، فلما ذكر في الآية قبلها ما أباح أن يراه غير ذوي المحرم من الزينة الظاهرة، وذكر في هذه ما أباح أن يراه الزوج وذوي المحارم من الزينة الباطنة، وبدأ بالبعولة وهم الأزواج لأن اطلاعهم يقع على أعظم من هذا، ثم ثنّى بذوي المحارم وسوّى بينهم في إبداء الزينة، ولكن مراتبهم تختلف بحسب القرب، والمراد بالآباء كل من له ولادة من والد وجدّ، وبالأبناء كل من عليه ولادة من ولد وولد ولد، ولم يذكر في هذه الآية من ذوي المحارم: العم والخال ومذهب جمهور العلماء جواز رؤيتهما للمرأة، لأنهما من ذوي المحارم، وكره ذلك قوم، وقال الشافعي: إنما لم يذكر العم والخال لئلا يصفا زينة المرأة لأولادهما أَوْ نِسائِهِنَّ يعني جميع المؤمنات، فكأنه قال أو صنفهن ويخرج عن ذلك نساء الكفار أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ يدخل في ذلك الإماء المسلمات والكتابيات، وأما العبيد: ففيهم ثلاثة أقوال: منع رؤيتهم لسيدتهم وهو قول الشافعي، والجواز: وهو قول ابن عباس وعائشة، والجواز بشرط أن يكون العبد وغدا وهو مذهب مالك، وإنما أخذ جوازه من قوله «أو التابعين غير أولى الإربة» واختلف هل يجوز أن يراها عبد زوجها وعبد الأجنبيّ أم لا؟ على قولين أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجالِ شرط في رؤية غير ذوي المحارم شرطين: أحدهما أن يكونا تابعين، ومعناه أن يتبع لشيء يعطاه كالوكيل والمتصرف، ولذلك قال بعضهم هو الذي يتبعك وهمته بطنه، والآخر: أن لا يكون لهم إربة في النساء كالخصي والمخنث والشيخ الهرم والأحمق، فلا يجوز رؤيتهم للنساء إلا باجتماع الشرطين، وقيل بأحدهما، ومعنى الإربة الحاجة إلى الوطء أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ أراد بالطفل الجنس، ولذلك وصفه بالجمع، ويقال: طفل ما لم يراهق الحلم، ويظهروا معناه يطلعون بالوطء على عورات النساء، فمعناه الذين لم يطئوا النساء، وقيل: الذين لا يدرون ما عورات النساء وهذا أحسن وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ ما يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ روي أن امرأة كان لها خلخالان، فكانت تضرب بهما ليسمعهما الرجال، فنهى الله عزّ وجل عن ذلك،

[سورة النور (24) : آية 32]

قال الزجاج: إسماع صوت الزينة أشد تحريكا للشهوة من إبدائها. وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ التوبة واجبة على كل مؤمن مكلف بدليل الكتاب والسنة وإجماع الأمة، وفرائضها ثلاثة: الندم على الذنب من حيث عصي به ذو الجلال، لا من حيث أضر ببدن أو مال، والإقلاع عن الذنب في أول أوقات الإمكان من غير تأخير ولا توان، والعزم أن لا يعود إليها أبدا ومهما قضى عليه بالعود أحدث عزما مجدّدا، وآدابها ثلاثة: الاعتراف بالذنب مقرونا بالانكسار، والإكثار من التضرع والاستغفار، والإكثار من الحسنات لمحو ما تقدم من السيئات، ومراتبها سبع: فتوبة الكفار من الكفر، وتوبة المخلطين من الذنوب الكبائر، وتوبة العدول من الصغائر وتوبة العابدين من الفترات، وتوبة السالكين من علل القلوب والآفات، وتوبة أهل الورع من الشبهات، وتوبة أهل المشاهدة من الغفلات. والبواعث على التوبة سبعة: خوف العقاب، ورجاء الثواب، والخجل من الحساب، ومحبة الحبيب، ومراقبة الرقيب القريب، وتعظيم بالمقام، وشكر الإنعام. وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ الأيامى جمع أيّم ومعناه الذين لا أزواج لهم رجالا كانوا أو نساء أبكارا أو ثيبات، والخطاب هنا للأولياء والحكام أمرهم الله بتزويج الأيامى، فاقتضى ذلك النهي عن عضلهن من التزويج، وفي الآية دليل على عدم استقلال النساء بالإنكاح واشتراط الولاية فيه، وهو مذهب مالك والشافعي خلافا لأبي حنيفة وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ يعني الذين يصلحون للتزويج من ذكور العبيد وإناثهم، وقال الزمخشري: الصالحين بمعنى الصلاح في الدين، قال وإنما خصهم الله بالذكر ليحفظ عليهم صلاحهم والمخاطبون هنا ساداتهم ومذهب الشافعي أن السيد يجبر على تزويج عبيده على هذه الآية خلافا لمالك، ومذهب مالك أن السيد يجبر عبده وأمته على النكاح خلافا للشافعي إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وعد الله بالغنى للفقراء الذين يتزوجون لطلب رضا الله، ولذلك قال ابن مسعود: التمسوا الغنى في النكاح وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ أمر بالاستعفاف وهو الاجتهاد في طلب العفة من الحرام لمن لا يقدر على التزوج، فقوله: لا يَجِدُونَ نِكاحاً معناه لا يجدون استطاعة على التزوج بأي وجه تعذر التزوج، وقيل: معناه لا يجدون صداقا للنكاح، والمعنى الأول أعم، والثاني: أليق بقوله حتى يغنيهم الله من فضله. وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ فَكاتِبُوهُمْ الكتاب هنا مصدر بمعنى الكتابة، وهي مقاطعة العبد على مال منجم فإذا أدّاه خرج حرّا، وإن عجز بقي رقيقا، وقيل: إن الآية نزلت بسبب حويطب ابن عبد العزى سأل مولاه أن يكاتبه فأبى عليه، وحكمها مع ذلك عام فأمر الله سادات العبيد أن يكاتبوهم إذا طلبوا الكتابة، وهذا الأمر على الندب عند مالك والجمهور، وقال الظاهرية وغيرهم. هو على الوجوب وذلك ظاهر قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه لأنس بن مالك حين سأله مملوكه سيرين الكتابة فتلكأ أنس، فقال له عمر: لتكاتبنه أو لأوجعنك

[سورة النور (24) : الآيات 35 إلى 38]

بالدرة، وإنما حمله مالك على الندب لأن الكتابة كالبيع، فكما لا يجبر على البيع لا يجبر عليها، واختلف هل يجبر السيد عبده على الكتابة أم لا؟ على قولين في المذهب إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً الخير هنا القوة على أداء الكتابة بأي وجه كان، وقيل: هو المال الذي يؤدي منه كتابته من غير أن يسأل أموال الناس، وقيل هو الصلاح في الدين. وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللَّهِ الَّذِي آتاكُمْ هذا أمر بإعانة المكاتب على كتابته، واختلف فيمن المخاطب بذلك فقيل: هو خطاب للناس أجمعين، وقيل للولاة، والأمر على هذين القولين للندب، وقيل: هو خطاب لسادات المكاتبين، وهو على هذا القول ندب عند مالك، وللوجوب عند الشافعي فإن كان الأمر للناس، فالمعنى أن يعطوهم صدقات من أموالهم، وإن كان للولاة فيعطوهم من الزكاة، وإن كان للسادات فيحطوا عنهم من كتابتهم، وقيل: يعطوهم من أموالهم من غير الكتابة، وعلى القول بالحط من الكتابة اختلف في مقدار ما يحط، فقيل: الربع، وروى ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقيل الثلث، وقال مالك والشافعي: لا حد في ذلك، بل أقل ما ينطلق عليه اسم شيء، إلا أن الشافعي يجبره على ذلك، ولا يجبره مالك، وزمان الحط عنه في آخر الكتابة عند مالك، وقيل في أول نجم. وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ معنى البغاء الزنا، نهى الله المسلمين أن يجبروا مملوكاتهم على ذلك، وسبب الآية أن عبد الله بن أبيّ بن سلول المنافق كان له جاريتان، فكان يأمرهما بالزنا للكسب منه وللولادة، ويضربهما على ذلك، فشكتا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت الآية فيه وفيمن فعل مثل فعله إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً «1» هذا الشرط راجع إلى إكراه الفتيات على الزنا، إذ لا يتصور إكراههن إلا إذا أردن التحصن وهو التعفف، وقيل: هو راجع إلى قوله وأنكحوا الأيامى وذلك بعيد لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا يعني ما تكسبه الأمة بفرجها، وما تلده من الزنا ويتعلق لتبتغوا بقوله لا تكرهوا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ المعنى غفور لهن رحيم بهن لا يؤاخذهن بالزنا، لأنهن أكرهن عليه، ويحتمل أن يكون المعنى غفور رحيم للسيد الذي يكرههن إذا تاب من ذلك آياتٍ مُبَيِّناتٍ بفتح الياء: أي بينها الله وبالكسر مبينات للأحكام والحلال والحرام وَمَثَلًا يعني ضرب لكم الأمثال بمن كان قبلكم في تحريم الزنا، لأنه كان حراما في كل ملة أو في براءة عائشة كما برأ يوسف ومريم. اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ النور يطلق حقيقة على الضوء الذي يدرك بالأبصار، ومجازا على المعاني التي تدرك بالقلوب، والله ليس كمثله شيء، فتأويل الآية الله ذو نور

_ (1) . يمكن أن يفهم بعض الناس من هذا النص أن النهي هو على الإكراه، أما إذا لم يوجد إكراه فلا نهي، وهذا الفهم خاطئ، لأن سورة النور قائمة أساسا على حرمة الزنا وعقاب الزاني، ومن الروايات يفهم أن سبب النص هو ما كان يفعله أهل الجاهلية ومنهم بعض المنافقين وعلى رأسهم ابن أبي بن سلول. مصححة.

السموات والأرض ووصف نفسه بأنه نور كما تقول زيد كرم إذا أردت المبالغة في أنه كريم، فإن أراد بالنور المدرك بالأبصار، فمعنى نور السموات والأرض أنه خلق النور الذي فيهما من الشمس والقمر والنجوم، أو أنه خلقهما وأخرجهما من العدم إلى الوجود، فإنما ظهرت به كما تظهر الأشياء بالضوء، ومن هذا المعنى قرأ عليّ بن أبي طالب: «الله نوّر السموات والأرض» بفتح النون والواو والراء وتشديد الواو: أي جعل فيهما النور، وإن أراد بالنور المدرك بالقلوب، فمعنى نور السموات والأرض جاعل النور في قلوب أهل السموات والأرض ولهذا قال ابن عباس: معناه هادي أهل السموات والأرض. مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ المشكاة هي الكوة غير النافذة تكون في الحائط، ويكون المصباح فيها شديد الإضاءة وقيل: المشكاة العمود الذي يكون المصباح على رأسه، والأوّل أصح وأشهر، والمعنى صفة نور الله في وضوحه كصفة مشكاة فيها مصباح، على أعظم ما يتصوّره البشر من الإضاءة والإنارة، وإنما شبه بالمشكاة وإن كان نور الله أعظم، لأن ذلك غاية ما يدركه الناس من الأنوار، فضرب المثل لهم بما يصلون إلى إدراكه. وقيل: الضمير في نوره عائد على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وقيل: على القرآن، وقيل: على المؤمن، وهذه الأقوال ضعيفة لأنه لم يتقدم ما يعود عليه الضمير، فإن قيل: كيف يصح أن يقال الله نور السموات والأرض فأخبر أنه هو النور، ثم أضاف النور إليه في قوله: مثل نوره، والمضاف عين المضاف إليه؟ فالجواب أن ذلك يصح مع التأويل الذي قدمناه أي الله ذو نور السموات والأرض، أو كما تقول: زيد كرم، ثم تقول: ينعش الناس بكرمه الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ المصباح هو الفتيل بناره، والمعنى أنه في قنديل من زجاج لأن الضوء فيه أزهر، لأنه جسم شفاف الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ شبه الزجاجة في إنارتها بكوكب درّي، وذلك يحتمل معنيين إما أن يريد أنها تضيء بالمصباح الذي فيها، وإما أن يريد أنها في نفسها شديدة الضوء لصفائها ورقة جوهرها، وهذا أبلغ لاجتماع نورها مع نور المصباح، والمراد بالكوكب الدرّي أحد الدراري المضيئة: كالمشتري، والزهرة، وسهيل، ونحوها، وقيل: أراد الزهرة، ولا دليل على هذا التخصيص، وقرأ نافع دري بضم الدال وتشديد الياء بغير همزة ولهذه القراءة وجهان: إما أن ينسب الكوكب إلى الدرّ لبياضه وصفائه، أو يكون مسهلا من الهمز، وقرأ [أبو عمرو والكسائي: درّيء] وقرأ حمزة وأبو بكر: درّيء بالهمز وكسر الدال بالهمز وضم الدال، وهو مشتق من الدرء بمعنى الدفع. يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ من قرأ يوقد «1» بالياء أو توقّد بالفعل الماضي فالفعل مسند إلى المصباح، ومن قرأ توقد بالتاء والفعل المضارع فهو مسند إلى الزجاجة، والمعنى: توقد من زيت شجرة مباركة، ووصفها بالبركة لكثرة منافعها، أو لأنها تنبت في

_ (1) . قرأ نافع وابن عامر وحفص: يوقد. وحمزة والكسائي: توقد. وقرأ ابن كثير وأبو عمر: توقّد.

[سورة النور (24) : الآيات 39 إلى 40]

الأرض المباركة وهي الشام لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ قيل: يعني أنها بالشام فليست من شرق الأرض ولا من غربها، وأجود الزيتون زيتون الشام، وقيل: هي منكشفة تصيبها الشمس طول النهار، فليست خالصة للشرق فتسمى شرقية، ولا للغرب فتسمى غربية بل هي غربية شرقية، لأن الشمس تستدير عليها من الشرق والغرب، وقيل: إنها في وسط دوحة لا في جهة الشرق من الدوحة ولا في جهة الغرب، وقيل: إنها من شجرة الجنة ولو كانت في الدنيا لكانت شرقية أو غربية يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ مبالغة في وصف صفائه وحسنه نُورٌ عَلى نُورٍ يعني اجتماع نور المصباح وحسن الزجاجة وطيب الزيت، والمراد بذلك كمال النور الممثل به يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ أي يوفق الله من يشاء لإصابة الحق. فِي بُيُوتٍ يعني المساجد، وقيل: بيوت أهل الإيمان من مساجد أو مساكن، والأول أصح، والجار يتعلق بما قبله: أي كمشكاة في بيوت، أو توقد في بيوت، وقيل: بما بعده وهو يسبح، وكرر الجارّ بعد ذلك تأكيدا، وقيل: بمحذوف: أي سبحوا في بيوت أذن الله أن ترفع، والمراد بالإذن الأمر، ورفعها بناؤها، وقيل: تعظيمها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ أي غدوة وعشية وقيل: أراد الصبح والعصر وقيل: صلاة الضحى والعصر رِجالٌ فاعل يسبّح على القراءة بكسر الباء، [من يسبح] وأما على القراءة بالفتح فهو مرفوع بفعل مضمر يدل عليه الأول لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ أي لا تشغلهم، ونزلت الآية في أهل الأسواق الذين إذا سمعوا النداء بالصلاة تركوا كل شغل وبادروا إليها، والبيع من التجارة، ولكنه خصه بالذكر تجريدا كقوله: فاكهة ونخل ورمان، أو أراد بالتجارة الشراء تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصارُ أي تضطرب من شدة الهول والخوف، وقيل: تفقه القلوب وتبصر الأبصار بعد العمى، لأن الحقائق تنكشف حينئذ، والأول أصح كقوله: وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ [الأحزاب: 10] ، وفي قوله «تتقلب فيه القلوب» تجنيس لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ متعلق بما قبله، أو بفعل من معنى ما قبله أَحْسَنَ ما عَمِلُوا تقديره جزاء أحسن ما علموا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ يعني زيادة على ثواب أعمالهم بِغَيْرِ حِسابٍ ذكر في البقرة. وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ لما ذكر الله حال المؤمنين أعقب ذلك بمثالين لأعمال الكافرين: الأول يقتضي حال أعمالهم في الآخرة، وأنها لا تنفعهم، بل يضمحل ثوابها كما يضمحل السراب، والثاني يقتضي حال أعمالهم في الدنيا، وأنها في غاية الفساد والضلال كالظلمات التي بعضها فوق بعض، والسراب هو ما يرى في الفلوات

[سورة النور (24) : الآيات 41 إلى 52]

من ضوء الشمس في الهجيرة حتى يظهر كأنه ماء يجرى على وجه الأرض، والقيعة جمع قاع وهو المنبسط من الأرض، وقيل: بمعنى القاع وليس بجمع يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً الظمآن العطشان: أي يظن العطشان أن السراب ماء، فيأتيه ليشربه، فإذا جاء خاب ما أمل، وبطل ما ظنّ، وكذلك الكافر يظن أن أعماله تنفعه، فإذا كان يوم القيامة لم تنفعه فهي كالسراب حَتَّى إِذا جاءَهُ ضمير الفاعل للظمآن، وضمير المفعول للسراب أو ضمير الفاعل للكافر وضمير المفعول لعمله لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً أي شيئا ينتفع به أو شيئا موجودا على العموم لأنه معدوم، ويحتمل أن يكون ضمير الفاعل للظمآن وضمير المفعول للسراب. أو ضمير الفاعل للكافر وضمير المفعول لعمله وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ ضمير الفاعل في وجد للكافر، والضمير في عنده لعمله، والمعنى وجد الله عنده بالجزاء، أو وجد زبانية الله. أَوْ كَظُلُماتٍ هذا هو المثال الثاني، وهو عطف على قوله كسراب، والمشبه بالظلمات أعمال الكافر: أي هم من الضلال والحيرة في مثل الظلمات المجتمعة من ظلمة البحر تحت الموج تحت السحاب فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ منسوب إلى اللج، وهو معظم الماء، وذهب بعضهم إلى أن أجزاء هذا المثال قوبلت به أجزاء الممثل به: فالظلمات أعمال الكافر، والبحر اللجي صدره، والموج جهله، والسحاب الغطاء الذي على قلبه، وذهب بعضهم إلى أنه تمثيل بالجملة من غير مقابلة وفي وصف هذه الظلمات بهذه الأوصاف مبالغة كما أن وصف النور المذكور قبلها مبالغة إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها المعنى مبالغة في وصف الظلمة، والضمير في أخرج وما بعده للرجل الذي وقع في الظلمات الموصوفة، واختلف في تأويل الكلام: فقيل: المعنى إذا أخرج يده لم يقارب رؤيتها، فنفى الرؤية ومقاربتها، وقيل: بل رآها بعد عسر وشدة، لأن كاد إذا نفيت تقتضي الإيجاب، وإذا أوجبت تقتضي النفي، وقال ابن عطية: إنما ذلك إذا دخل حرف النفي على الفعل الذي بعدها، فأما إذا دخل حرف النفي على كاد كقوله: لم يكد، فإنه يحتمل النفي والإيجاب. وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً أي من لم يهده الله لم يهتد، فالنور كناية عن الهدى، والإيمان في الدنيا، وقيل: أراد في الآخرة أي من لم يرحمه الله فلا رحمة له، والأول أليق بما قبله، أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الرؤية هنا بمعنى العلم والتسبيح التنزيه والتعظيم، وهو من العقلاء بالنطق، وأما تسبيح الطير وغيرها مما لا يعقل، فقال الجمهور: إنه حقيقي، ولا يبعد أن يلهمها الله التسبيح، كما يلهمها الأمور الدقيقة التي لا يهتدى إليها العقلاء، وقيل: تسبيحه ظهور الحكمة فيه صَافَّاتٍ يصففن أجنحتهن في الهواء كُلٌّ قَدْ عَلِمَ الضمير في علم لله، أو لكل، والضمير في صلاته وتسبيحه لكل

يُزْجِي معناه يسوق، والإزجاء إنما يستعمل في سوق كل ثقيل كالسحاب رُكاماً متكاثف بعضه فوق بعض الْوَدْقَ المطر مِنْ خِلالِهِ أي من بينه، وهو جمع خلل كجبل وجبال وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ قيل: إن الجبال هنا حقيقة وأن الله جعل في السماء جبالا من برد، وقيل: إنه مجاز كقولك عند فلان جبال من مال أو علم: أي هي في الكثرة كالجبال، ومن في قوله «من السماء» لابتداء الغاية، وفي قوله «من جبال» كذلك، وهي بدل من الأولى، وتكون للتبعيض، فتكون مفعول ينزل، ومن في قوله: من برد: لبيان الجنس أو للتبعيض فتكون مفعول ينزل، وقال الأخفش: هي زائدة، وذلك ضعيف، وقوله «فيها» صفة للجبال، والضمير يعود على السماء سَنا بَرْقِهِ السنا بالقصر الضوء، وبالمدّ المجد والشرف يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ أي يأتي بهذا بعد هذا. خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ يعني بني آدم والبهائم والطير لأن ذلك كله يدب مِنْ ماءٍ يعني المنيّ، وقيل: الماء الذي في الطين الذي خلق منه آدم وغيره عَلى بَطْنِهِ كالحيات والحوت وَيَقُولُونَ آمَنَّا الآية: نزلت في المنافقين، وسببها أن رجلا من المنافقين كانت بينه وبين يهودي خصومة، فدعاه اليهودي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعرض عنه، ودعاه إلى كعب بن الأشرف مُذْعِنِينَ أي منقادين طائعين لقصد الوصول إلى حقوقهم أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ توقيف [سؤال] يراد به التوبيخ، وكذلك ما بعده أَنْ يَحِيفَ معناه أن يجور، والحيف الميل، وأسنده إلى الله، لأن الرسول إنما يحكم بأمر الله وشرعه إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ الآية. معناها إنما الواجب أن يقول المؤمنون: سمعنا وأطعنا إذا دعوا إلى الله ورسوله، وجعل الدعاء إلى الله من حيث هو إلى شرعه وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ الآية: قال ابن عباس: معناها من يطع الله في فرائضه ورسوله في سنته وَيَخْشَ اللَّهَ فيما مضى من ذنوبه وَيَتَّقْهِ فيما يستقبل، وسأل بعض الملوك عن آية كافية جامعة فذكرت له هذه

[سورة النور (24) : الآيات 53 إلى 57]

الآية، وسمعها بعض بطارقة الروم فأسلم، وقال إنها جمعت كل ما في التوراة والإنجيل وَأَقْسَمُوا أي حلفوا، والضمير للمنافقين جَهْدَ أَيْمانِهِمْ أي بالغوا في اليمين وأكدوها لَيَخْرُجُنَ يعني إلى الغزو قُلْ لا تُقْسِمُوا نهى عن اليمين الكاذبة لأنه قد عرف أنهم يحلفون على الباطل طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ مبتدأ وخبره محذوف أي طاعة معروفة أمثل وأولى بكم، أو خبر مبتدأ محذوف أي المطلوب منكم طاعة معروفة لا يشك فيها عَلَيْهِ ما حُمِّلَ يعني تبليغ الرسالة وَعَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ يعني السمع والطاعة واتباع الشريعة. لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ وعد ظهر صدقه بفتح مشارق الأرض ومغاربها لهذه الأمة، وقيل: إن المراد بالآية: خلافة أبي بكر وعثمان وعليّ رضي الله عنهم لقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: الخلافة بعدي ثلاثون سنة، وانتهت الثلاثون إلى آخر خلافة عليّ، فإن قيل: أين القسم الذي جاء قوله «ليستخلفنهم» جوابا له؟ فالجواب أنه محذوف تقديره: وعدهم الله وأقسم، أو جعل الوعد بمنزلة القسم لتحققه لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ قيل المراد بالذين ملكت أيمانكم: الرجال خاصة، وقيل النساء خاصة، لأن الرجال يستأذنون في كل وقت وقيل الرجال والنساء وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ يعني الأطفال غير البالغين ثَلاثَ مَرَّاتٍ نصب على الظرفية لأنهم أمروا بالاستئذان في ثلاثة مواطن، فمعنى الآية أن الله أمر المماليك والأطفال بالاستئذان في ثلاثة أوقات، وهي قبل الصبح وحين القائلة وسط النهار، وبعد صلاة العشاء الأخيرة، لأن هذه الأوقات يكون الناس فيها متجردين للنوم في غالب أمرهم، وهذه الآية محكمة وقال ابن عباس: ترك الناس العمل بها، وحملها بعضهم على الندب تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ يعني تتجرّدون الظَّهِيرَةِ وسط النهار ثَلاثُ عَوْراتٍ جمع عورة من الانكشاف كقوله: بُيُوتَنا عَوْرَةٌ [الأحزاب: 33] ومن رفع ثلاث فهو خبر ابتداء مضمر تقديره: هذه الأوقات ثلاث عورات لكم: أي تنكشفون فيها، ومن نصبه فهو بدل من ثلاث مرات لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُناحٌ بَعْدَهُنَّ هذا الضمير المؤنث يعود على الأوقات المتقدّمة أي ليس عليكم ولا على

[سورة النور (24) : الآيات 61 إلى 62]

المماليك والأطفال جناح في ترك الاستئذان في غير المواطن الثلاثة طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ تقديره المماليك والأطفال طوافون عليكم، فلذلك يؤمر بالاستئذان في كل وقت بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ بدل من طوافون: أي بعضكم يطوف على بعض وقال الزمخشري: هو مبتدأ أي بعضكم يطوف على بعض أو فاعل بفعل مضمر وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا لما أمر الأطفال في الآية المتقدمة بالاستئذان في ثلاثة أوقات، وأباح لهم الدخول بغير إذن في غيرها: أمرهم هنا بالاستئذان في جميع الأوقات إذا بلغوا ولحقوا بالرجال وَالْقَواعِدُ مِنَ النِّساءِ جمع قاعد وهي العجوز، فقيل: هي التي قعدت عن الولد، وقيل: التي قعدت عن التبرج فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُناحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيابَهُنَّ أباح الله لهذا الصنف من العجائز ما لم يبح لغيرهنّ من وضع الثياب، قال ابن مسعود إنما أبيح لهنّ وضع الجلباب الذي فوق الخمار والرداء، وقال بعضهم: إنما ذلك في منزلها الذي يراها فيه ذو ومحارمها غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ إنما أباح الله لهنّ وضع الثياب بشرط ألا يقصدن إظهار زينة، والتبرج هو الظهور وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ المعنى أن الاستعفاف عن وضع الثياب المذكورة خير لهنّ من وضعها، والأولى لهن أن يلتزمن ما يلتزم شباب النساء من الستر. لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ الآية اختلف في المعنى الذي رفع الله فيه الحرج عن الأعمى والأعرج والمريض في هذه الآية، فقيل: هو في الغزو أي لا حرج عليهم في تأخيرهم عنه، وقوله «ولا على أنفسكم» مقطوع من الذي قبله على هذا القول كأنه قال: ليس على هؤلاء الثلاثة حرج في ترك الغزو، ولا عليكم حرج في الأكل، وقيل: الآية كلها في معنى الأكل، واختلف الذاهبون إلى ذلك، فقيل: إن أهل هذه الأعذار كانوا يتجنبون الأكل مع الناس لئلا يتقذرهم الناس، فنزلت الآية مبيحة لهم الأكل مع الناس، وقيل: إن الناس كانوا إذا نهضوا إلى الغزو خلفوا أهل هذه الأعذار في بيوتهم، وكانوا يتجنبون أكل مال الغائب، فنزلت الآية في ذلك، وقيل: إن الناس كانوا يتجنبون الأكل معهم تقذرا، فنزلت الآية، وهذا ضعيف. لأن رفع الحرج عن أهل الأعذار لا عن غيرهم، وقيل: إن رفع الحرج عن هؤلاء الثلاثة في كل ما تمنعهم عنه أعذارهم من الجهاد وغيره وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أباح الله تعالى للإنسان الأكل في هذه البيوت المذكورة في الآية، فبدأ ببيت الرجل نفسه، ثم ذكر القرابة على ترتيبهم ولم يذكر فيهم الابن، لأنه دخل في قوله من بيوتكم، لأن بيت ابن الرجل بيته، لقوله عليه الصلاة والسلام: «أنت ومالك

[سورة النور (24) : الآيات 63 إلى 64]

لأبيك» «1» ، واختلف العلماء فيما ذكر في هذه الآية من الأكل من بيوت القرابة فذهب قوم إلى أنه منسوخ، وأنه لا يجوز الأكل من بيت أحد إلا بإذنه والناسخ قوله تعالى: وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ، وقوله عليه الصلاة والسلام: «لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس منه» «2» وقيل الآية محكمة، ومعناها إباحة الأكل من بيوت القرابة إذا أذنوا في ذلك، وقيل بإذن وبغير إذن أَوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ يعني الوكلاء والأجراء والعبيد الذين يمسكون مفاتح مخازن أموال ساداتهم، فأباح لهم الأكل منها، وقيل: المراد ما ملك الإنسان من مفاتح نفسه وهذا ضعيف أَوْ صَدِيقِكُمْ الصديق يقع على الواحد والجماعة، كالعدوّ، والمراد به هنا جمع ليناسب ما ذكر قبله من الجموع في قوله آبائكم وأمهاتكم وغير ذلك، وقرن الله الصديق بالقرابة، لقرب مودّته، وقال ابن عباس: الصديق أوكد من القرابة. لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً إباحة للأكل في حال الاجتماع والانفراد، لأنّ بعض العرب كان لا يأكل وحده أبدا خيفة من البخل، فأباح لهم الله ذلك فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ أي إذا دخلتم بيوتا مسكونة، فسلموا على من فيها من الناس، وإنما قال: على أنفسكم بمعنى صنفكم كقوله وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ [الحجرات: 11] وقيل: المعنى إذا دخلتم بيوتا خالية فسلموا على أنفسكم بأن يقول الرجل: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، وقيل: يعني بالبيوت، المساجد، والأمر بالسلام على من فيها، فإن لم يكن فيها أحد فيسلم على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعلى الملائكة وعلى عباد الله الصالحين. وَإِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ الآية: الأمر الجامع هو ما يجمع الناس للمشورة فيه، أو للتعاون عليه. ونزلت هذه الآية في وقت حفر الخندق بالمدينة، فإن بعض المؤمنين كانوا يستأذنون في الانصراف لضرورة، وكان المنافقون يذهبون بغير استئذان لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ أي لبعض حوائجهم لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً

_ (1) . رواه ابن ماجة عن جابر والطبراني عن سمرة بن جندب. (2) . روى أحمد حديثا بمعناه عن أبي حميد الساعدي ج 5 ص 425 ونصّه: لا يحل لامرئ أن يأخذ مال أخيه بغير حقه.

في معناها ثلاثة أقوال الأول أن الدعاء هنا يراد به دعاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم إياهم ليجتمعوا إليه في أمر جامع أو في قتال وشبه ذلك، فالمعنى أن إجابتكم له إذا دعاكم واجبة عليكم بخلاف ما إذا دعا بعضكم بعضا، فهو كقوله تعالى اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ [الأنفال: 24] ويقوي هذا القول مناسبته لما قبله من الاستئذان والأمر الجامع، والقول الثاني أن المعنى لا تدعوا الرسول عليه السلام باسمه كما يدعو بعضكم بعضا باسمه بل قولوا: يا رسول الله أو يا نبي الله تعظيما له ودعاء بأشراف أسمائه، وقيل: المعنى لا تحسبوا دعاء الرسول عليكم كدعاء بعضكم على بعض: أي دعاؤه عليكم يجاب فاحذروه، ولفظ الآية بعيد من هذا المعنى على أن المعنى صحيح قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِواذاً الذين ينصرفون عن حفر الخندق، واللواذ الروغان والمخالفة، وقيل: الانصراف في خفية فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ الضمير لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم، واختلف في عن هنا، فقيل إنها زائدة وهذا ضعيف، وقال ابن عطية: معناه يقع خلافهم بعد أمره كما تقول: كان المطر عن ريح، قال الزمخشري يقال: خالفه إلى الأمر إذا ذهب إليه دونه، وخالفه عن الأمر إذا صد الناس عنه، فمعنى يخالفون عن أمره يصدّون الناس عنه، فحذف المفعول لأن الغرض ذكر المخالف فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ الفتنة في الدنيا بالرزايا، أو بالفضيحة أو القتل أو العذاب في الآخرة قَدْ يَعْلَمُ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ دخلت قد للتأكيد، وفي الكلام معنى الوعيد، وقيل: معناها التقليل على وجه التهكم والخطاب لجميع الخلق، أو للمنافقين خاصة وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ يعني المنافقين، والعامل في الظرف بينهم.

سورة الفرقان

سورة الفرقان مكية إلا الآيات 68 و 69 و 70 فمدنية وآياتها 77 نزلت بعد يس بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (سورة الفرقان) تَبارَكَ من البركة وهو فعل مختص بالله تعالى لم ينطق له بالمضارع عَلى عَبْدِهِ يعني محمدا صلى الله تعالى عليه وآله وسلم، وذلك على وجه التشريف له والاختصاص لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً الضمير لمحمد صلى الله عليه وسلم أو للقرآن، والأول أظهر وقوله «للعالمين» عموم يشمل الجن والإنس ممن كان في عصره، ومن يأتي بعده إلى يوم القيامة، وتضمن صدر هذه السورة إثبات النبوة والتوحيد، والردّ على من خالف في ذلك فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً الخلق عبارة عن الإيجاد بعد العدم، والتقدير: عبارة عن إتقان الصنعة، وتخصيص كل مخلوق بمقداره، وصفته وزمانه ومكانه، ومصلحته، وأجله، وغير ذلك وَاتَّخَذُوا الضمير لقريش وغيرهم ممن أشرك بالله تعالى وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ يعنون قوما من اليهود منهم: عداس ويسار وأبو فكيهة الرومي فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَزُوراً أي ظلموا النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فيما نسبوا إليه وكذبوا في ذلك عليه. وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ أي ما سطره الأولون في كتبهم، وكان الذي يقول هذه المقالة النضر بن الحارث اكْتَتَبَها أي كتبها له كاتب، ثم صارت تملى عليه ليحفظها، وهذا حكاية كلام الكفار، وقال الحسن: إنها من قول الله على وجه الردّ عليهم، ولو كان ذلك لقال أكتتبها بفتح الهمزة لمعنى الإنكار، وقد يجوز حذف الهمزة في مثل هذا، وينبغي على قول الحسن أن يوقف على أساطير الأولين قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ ردّ على الكفار في قولهم ويعني بالسر: ما أسرّه الكفار من أقوالهم، أو يكون ذلك على وجه التنصل والبراءة مما نسبه الكفار إليه من الافتراء، أي أن الله يعلم سري فهو العالم بأني ما

افتريت عليه، بل هو أنزله عليّ، فإن قيل: ما مناسبة قوله: إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً لما قبله؟ فالجواب أنه لما ذكر أقوال الكفار: أعقبها بذلك، لبيان أنه غفور رحيم في كونه لم يعجل عليهم بالعقوبة بل أمهلهم، وإن أسلموا تاب عليهم وغفر لهم. وَقالُوا مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ الآية: قال هذا الكلام [بعض] قريش طعنا على النبي صلى الله عليه وسلم، وقد ردّ الله عليهم بقوله وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ [الفرقان: 20] وقولهم: لِهذَا الرَّسُولِ على وجه التهكم كقول فرعون: إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ [الفرقان: 27] أو يعنون الرسول بزعمه، ثم ذكر ما اقترحوا من الأمور في قولهم: لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ [الأنعام: 8] وما بعده، ثم وصفهم بالظلم، وقد ذكرنا معنى مَسْحُوراً في [الإسراء: 47] ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ أي قالوا فيك تلك الأقوال فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا أي لا يقدرون على الوصول إلى الحق لبعدهم عنه وإفراط جهلهم خَيْراً مِنْ ذلِكَ الإشارة إلى ما ذكره الكفار من الكنز والجنة في الدنيا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يعني جنات الآخرة وقصورها وقيل: يعني جنات، وقصورا في الدنيا، ولذلك قال: إن شاء إِذا رَأَتْهُمْ أي إذا رأتهم جهنم وهذه الرؤية يحتمل أن تكون حقيقة أو مجازا بمعنى: صارت منهم بقدر ما يرى على البعد سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً التغيظ لا يسمع وإنما المسموع أصوات دالة عليه، ففي لفظه تجوّز، والزفير أول صوت الحمار مَكاناً ضَيِّقاً تضيق عليهم زيادة في عذابهم مُقَرَّنِينَ أي مربوط بعضهم إلى بعض، وروي أن ذلك بسلاسل من النار دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً الثبور: الويل وقيل: الهلاك، ومعنى دعائهم ثبورا: أنهم يقولون يا ثبوراه كقول القائل: وا حسرتاه وا أسفاه لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً تقديره: يقال لهم ذلك أو يكون حالهم يقتضي ذلك، وإن لم يكن ثم قول، وإنما دعوا ثبورا كثيرا لأن عذابهم دائم، فالثبور يتجدد عليهم في كل حين قُلْ أَذلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ إنما جاز هنا التفضيل بين الجنة والنار، لأن الكلام سؤال وتوبيخ، وإنما يمنع التفضيل بين شيئين، ليس بينهما اشتراك في المعنى إذا كان الكلام خبرا وَعْداً مَسْؤُلًا أي سأله المؤمنين أو الملائكة في قولهم: وأدخلهم جنات

[سورة الفرقان (25) : الآيات 17 إلى 19]

عدن، وقيل: معناه وعدا واجب الوقوع، لأنه حتمه فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبادِي هؤُلاءِ القائل لذلك هو الله عز وجل، والمخاطب هم المعبودون مع الله على العموم، وقيل: الأصنام خاصة، والأول أرجح لقوله: ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ [سبأ: 40] وقوله: أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ [المائدة: 119] أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ أم هنا معادلة لما قبلها، والمعنى أن الله يقول يوم القيامة للمعبودين: أأنتم أضللتم عبادي هؤلاء أم هم ضلوا من تلقاء أنفسهم باختيارهم ولم تضلوهم أنتم؟ ولأجل ذلك بين هذا المعنى بقوله: «هم» ليتحقق إسناد الضلال إليهم، فإنما سألهم الله هذا السؤال مع علمه بالأمور ليوبخ الكفار الذين عبدوهم قالُوا سُبْحانَكَ ما كانَ يَنْبَغِي لَنا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِياءَ [سبأ: 41] القائلون لهذا هم المعبودون: قالوه على وجه التبري ممن عبدهم كقولهم: أنت ولينا من دونهم، والمراد بذلك توبيخ الكفار يومئذ، وإقامة الحجة عليهم وَلكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآباءَهُمْ معناه أن إمتاعهم بالنعم في الدنيا كان سبب نسيانهم لذكر الله وعبادته قَوْماً بُوراً أي هالكين، وهو من البوار وهو الهلاك، واختلف هل هو جمع بائر؟ أو مصدر وصف به ولذلك يقع على الواحد والجماعة فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِما تَقُولُونَ هذا خطاب خاطب الله به المشركين يوم القيامة أي: قد كذبكم آلهتكم التي عبدتم من دون الله، وتبرؤوا منكم. وقيل: هو خطاب للمعبودين: أي كذبوكم في هذه المقالة لما عبدوكم في الدنيا، وقيل: هو خطاب للمسلمين: أي قد كذبكم الكفار فيما تقولونه من التوحيد والشريعة، وقرئ بما يقولون «1» بالياء من أسفل، والباء في قوله بما تقولون على القراءة بالتاء بدل من الضمير في كذبوكم، وعلى القراءة بالياء كقولك: كتبت بالقلم، أو كذبوكم بقولهم فَما تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً وَلا نَصْراً قرئ فما تستطيعون بالتاء فوق، ويحتمل على هذا أن يكون الخطاب للمشركين أو للمعبودين والصرف على هذين الوجهين صرف العذاب عنهم، أو يكون الخطاب للمسلمين والصرف على هذا رد التكذيب، وقرئ بالياء وهو مسند إلى المعبودين أو إلى المشركين والصرف صرف العذاب وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ خطاب للكفار وقيل: للمؤمنين وقيل: على العموم وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ تقديره: وما أرسلنا رسلا أو رجالا قبلك، وعلى هذا المفعول المحذوف يعود الضمير في قوله: إلا أنهم ليأكلون الطعام، وهذه الآية ردّ على الكفار في استبعادهم بعث رسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق

_ (1) . هي قراءة ابن كثير برواية قنبل وقرأ حفص: تقولون.

وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً هذا خطاب لجميع الناس لاختلاف أحوالهم، فالغني فتنة للفقير، والصحيح فتنة للمريض، والرسول فتنة لغيره ممن يحسده ويكفر به أَتَصْبِرُونَ تقديره لننظر هل تصبرون لا يَرْجُونَ لِقاءَنا قيل: معناه لا يخافون، والصحيح أنه على بابه لأن لقاء الله يرجى ويخاف لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا اقترح الكفار نزول الملائكة أو رؤية الله، وحينئذ يؤمنون فرد الله عليهم بقوله: لقد استكبروا الآية: أي طلبوا ما لا ينبغي لهم أن يطلبوه، وقوله: في أنفسهم كما تقول: فلان عظيم في نفسه، أي عند نفسه أو بمعنى أنهم أضمروا الكفر في أنفسهم يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ لما طلبوا رؤية الملائكة، أخبر الله أنهم لا بشرى لهم يوم يرونهم، فالعامل في يوم معنى لا بشرى، ويومئذ بدل وَيَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً الضمير في يقولون إن كان للملائكة، فالمعنى أنهم يقولون للمجرمين حجرا محجورا، أي حرام عليكم الجنة أو البشرى، وإن كان الضمير للمجرمين، فالمعنى أنهم يقولون حجرا بمعنى عوذا. لأن العرب كانت تتعوّذ بهذه الكلمة مما تكره، وانتصابه بفعل متروك إظهاره نحو معاذ الله. وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا أي قصدنا إلى أفعالهم فلفظ القدوم مجاز، وقيل: هو قدوم الملائكة أسنده الله إلى نفسه لأنه عن أمره فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً عبارة عن عدم قبول ما عملوا من الحسنات كإطعام المساكين وصلة الأرحام وغير ذلك، وأنها لا تنفعهم لأن الإيمان شرط في قبول الأعمال، والهباء هي الأجرام الدقيقة من الغبار التي لا تظهر إلا حين تدخل الشمس على موضع ضيق كالكوة، والمنثور المتفرّق خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا جاء هنا التفضيل بين الجنة والنار، لأن هذا مستقرّ وهذا مستقرّ وَأَحْسَنُ مَقِيلًا هو مفعل من النوم في القائلة وإن كانت الجنة لا نوم فيها، ولكن جاء على ما تتعارفه العرب من الاستراحة وقت القائلة في الأمكنة الباردة، وقيل: إن حساب الخلق يكمل في وقت ارتفاع النهار، فيقيل أهل الجنة في الجنة، وأهل النار في النار. وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ هو يوم القيامة وانشقاق السماء: انفطارها ومعنى بالغمام أي يخرج منها الغمام، وهو السحاب الرقيق الأبيض، وحينئذ تنزل الملائكة إلى الأرض وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ عض اليدين كناية عن الندم والحسرة، والظالم هنا عقبة بن أبي معيط، وقيل: كل ظالم والظلم هنا الكفر مَعَ الرَّسُولِ هو محمد صلى الله

[سورة الفرقان (25) : الآيات 28 إلى 35]

تعالى عليه وآله وسلم، أو اسم جنس على العموم لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلًا روي أن عقبة جنح إلى الإسلام فنهاه أبيّ بن خلف وأمية بن خلف فهو فلان، وقيل: إن عقبة نهى أبيّ بن خلف عن الإسلام، فالظالم على هذا أبيّ وفلان عقبة، وإن كان الظالم على العموم ففلانا على العموم أي خليل كل كافر وَكانَ الشَّيْطانُ لِلْإِنْسانِ خَذُولًا يحتمل أن يكون هذا من قول الظالم، أو ابتداء إخبار من قول الله تعالى، ويحتمل أن يريد بالشيطان إبليس أو الخليل المذكور وَقالَ الرَّسُولُ قيل: إن هذا حكاية قوله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم في الدنيا، وقيل: في الآخرة مَهْجُوراً من الهجر بمعنى البعد والترك وقيل: من الهجر بضم الهاء، أي قالوا فيه الهجر حين قالوا: إنه شعر وسحر والأول أظهر. وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا العدو هنا جمع، والمراد تسلية النبي صلى الله عليه وسلم بالتأسي بغيره من الأنبياء وَكَفى بِرَبِّكَ هادِياً وَنَصِيراً وعد لمحمد صلى الله تعالى عليه وآله وسلم بالهدى والنصرة وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً هذا من اعتراضات قريش لأنهم قالوا لو كان القرآن من عند الله لنزل جملة واحدة كما نزلت التوراة والإنجيل كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ هذا جواب لهم تقديره: أنزلناه كذلك مفرقا لنثبت به فؤاد محمد صلى الله عليه وسلم لحفظه: ولو نزل جملة واحدة لتعذر عليه حفظه لأنه أمي لا يقرأ، فحفظ المفرق عليه أسهل، وأيضا فإنه نزل بأسباب مختلفة تقتضي أن ينزل كل جزء منه عند حدوث سببه، وأيضا منه ناسخ ومنسوخ، ولا يتأتى ذلك فيما ينزل جملة واحدة وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلًا أي فرقناه تفريقا فإنه نزل بطول عشرين سنة. وهذا الفعل معطوف على الفعل المقدر، الذي يتعلق به كذلك وبه يتعلق لنثبت وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ الآية معناه لا يوردون عليك سؤالا أو اعتراضا، إلا أتيناك في جوابه بالحق، والتفسير الحسن الذي يذهب اعتراضهم ويبطل شبهتهم الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلى وُجُوهِهِمْ يعني الكفار، وحشرهم على وجوههم حقيقة لأنه جاء في الحديث قيل يا رسول الله: كيف يحشر الكافر على وجهه: قال أليس الذي أمشاه في الدنيا على رجليه قادرا على أن يمشيه في الآخرة على وجهه «1» شَرٌّ مَكاناً يحتمل أن يريد بالمكان المنزلة والشرف أو الدار والمسكن في الآخرة وَزِيراً معينا إِلَى الْقَوْمِ يعني فرعون وقومه،

_ (1) . رواه المنذري في الترغيب والترهيب 194/ 4 عن أنس وعزاه للبخاري ومسلم.

وفي الكلام حذف تقديره: فذهبا إليهم فكذبوهما فدمرناهم كَذَّبُوا الرُّسُلَ تأويله كما ذكر في قوله في هود فعصوا رسله وَأَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ يحتمل أن يريد بالظالمين من تقدم ووضع هذا الاسم الظاهر موضع المضمر لقصد وصفهم بالظلم، أو يريد الظالمين على العموم وَأَصْحابَ الرَّسِّ معنى الرس في اللغة: البئر، واختلف في أصحاب الرس: فقيل هم من بقية ثمود وقيل: من أهل اليمامة، وقيل من أهل أنطاكية، وهم أصحاب يس، واختلف في قصتهم فقيل بعث الله إليهم نبيا فرموه في بئر فأهلكهم الله، وقيل: كانوا حول بئر لهم فانهارت بهم فهلكوا وَقُرُوناً بَيْنَ ذلِكَ كَثِيراً يقتضي التكثير والإبهام، والإشارة بذلك إلى المذكور قبل من الأمم ضَرَبْنا لَهُ الْأَمْثالَ أي بينا له تَبَّرْنا أي أهلكنا وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الضمير في أتوا لقريش وغيرهم من الكفار، والقرية قرية قوم لوط، ومطر السوء الحجارة ثم سألهم على رؤيتهم لها لأنها في طريقهم إلى الشام، ثم أخبر أن سبب عدم اعتبارهم بها كفرهم بالنشور. ويَرْجُونَ كقوله: يَرْجُونَ لِقاءَنا، وقد ذكر أَهذَا الَّذِي حكاية قولهم على وجه الاستهزاء، فالجملة في موضع مفعول لقول محذوف يدل عليه هذا، وقوله «إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا» استئناف جملة أخرى وتم كلامهم، واستأنف كلام الله تعالى في قوله «وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ» الآية على وجه التهديد لهم اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ أي أطاع هواه حتى صار كأنه له إله بَلْ هُمْ أَضَلُّ لأن الأنعام ليس لها عقول، وهؤلاء لهم عقول ضيعوها، ولأن الأنعام تطلب ما ينفعها وتجتنب ما يضرها، وهؤلاء يتركون أنفع الأشياء وهو الثواب، ولا يخافون أضرّ الأشياء وهو العقاب. أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ أي إلى صنع ربك وقدرته مَدَّ الظِّلَّ قيل: مدّة من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس لأن الظل حينئذ على الأرض كلها، واعترضه ابن عطية لأن ذلك الوقت من الليل، ولا يقال ظل بالليل، واختار أن مدّ الظل من الإسفار إلى طلوع الشمس وبعد مغيبها بيسير، وقيل: معنى مد الظل أي جعله يمتدّ وينبسط وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً أي ثابتا غير زائل لكنه جعله يزول بالشمس، وقيل: معنى ساكن غير منبسط على الأرض، بل يلتصق بأصل الحائط والشجرة ونحوها ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا قيل: معناه أن الناس يستدلون بالشمس وبأحوالها، في سيرها على الظل متى يتسع ومتى ينقبض،

[سورة الفرقان (25) : الآيات 46 إلى 53]

ومتى يزول عن مكان إلى آخر، فيبنون على ذلك انتفاعهم به وجلوسهم فيه، وقيل: معناه لولا الشمس لم يعرف أن الظل شيء، لأن الأشياء لم تعرف إلا بأضدادها ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا قَبْضاً يَسِيراً قبضه نسخه وإزالته بالشمس ومعنى يسيرا شيئا بعد شيء لا دفعة واحدة، فإن قيل: ما معنى ثم في هذه المواضع الثلاثة؟ فالجواب أنه يحتمل أن تكون للترتيب في الزمان أي جعل الله هذه الأحوال حالا بعد حال، أو تكون لبيان التفاضل بين هذه الأحوال الثلاثة. وأن الثاني أعظم من الأول، والثالث أعظم من الثاني اللَّيْلَ لِباساً شبّه ظلام الليل باللباس، لأنه يستر كل شيء كاللباس وَالنَّوْمَ سُباتاً قيل: راحة وقيل موتا لقوله: يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها، وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها [الزمر: 42] ويدل عليه مقابلته بالنشور الرِّياحَ بُشْراً ذكر في [الأعراف: 57] ماءً طَهُوراً مبالغة في طاهر وقيل: معناه مطهر للناس في الوضوء وغيره. وبهذا المعنى يقول الفقهاء: ماء طهورا، أي مطهرا، وكل مطهر طاهر، وليس كل طاهر مطهر أَناسِيَّ قيل: جمع إنسي، وقيل: جمع إنسان، والأول أصح وَلَقَدْ صَرَّفْناهُ الضمير للقرآن، وقيل: للمطر وهو بعيد وَلَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً أي لو شئنا لخففنا عنك أثقال الرسالة ببعث جماعة من الرسل، ولكنا خصصناك بها كرامة لك فاصبر وَجاهِدْهُمْ بِهِ الضمير للقرآن أو لما دل عليه الكلام المتقدم. مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ «1» اضطرب الناس في هذه الآية لأنه لا يعلم في الدنيا بحر ملح وبحر عذب، وإنما البحار المعروفة ماؤها ملح، قال ابن عباس: أراد بالبحر الملح الأجاج بحر الأرض، والبحر العذب الفرات بحر السحاب، وقيل: البحر الملح البحر المعروف، والبحر العذب مياه الأرض، وقيل: البحر الملح جميع الماء الملح من الآبار وغيرها، والبحر العذب هو مياه الأرض من الأنهار والعيون، ومعنى العذب: البالغ العذوبة حتى يضرب إلى الحلاوة، والأجاج نقيضه، واختلف في معنى مرجهما، فقيل: جعلهما متجاورين متلاصقين، وقيل أسال أحدهما في الآخر وَجَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً وَحِجْراً مَحْجُوراً أي فاصلا يفصل بينهما وهو ما بينهما من الأرض بحيث لا يختلطان، وقيل: البرزخ يعلمه الله ولا يراه البشر.

_ (1) . من الثابت وجود ينابيع عذبة في البحر قرب السواحل، وهي معروفة للناس يستقرن منها رغم كونها محاطة بالماء المالح. مصححة.

[سورة الفرقان (25) : الآيات 54 إلى 59]

خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً إن أراد بالبشر آدم فالمراد بالماء الماء الذي خلق به مع التراب فصار طينا، وإن أراد بالبشر بني آدم، فالمراد بالماء المنيّ الذي يخلقون منه فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً النسب والصهر يعمّان كل قربى: أي كل قرابة، والنسب أن يجتمع إنسان مع آخر في أب أو أمّ قرب ذلك أو بعد، والصهر هو الاختلاط بالنكاح، وقيل: أراد بالنسب الذكور، أي ذوي نسب ينتسب إليهم، وأراد بالصهر الإناث: أي ذوات صهر يصاهر بهنّ، وهو كقوله: فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى [القيامة: 39] وَكانَ الْكافِرُ عَلى رَبِّهِ ظَهِيراً الكافر هنا الجنس، وقيل: المراد أبو جهل، والظهير: المعين أي يعين الشيطان على ربه بالعداوة والشرك، ولفظه يقع للواحد والجماعة كقوله: وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ [التحريم: 4] قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ أي لا أسئلكم على الإيمان أجرة ولا منفعة إِلَّا مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا معناه إنما أسألكم أن تتخذوا إلى ربكم سبيلا بالتقرب إليه وعبادته، فالاستثناء منقطع، وقيل: المعنى أن تتخذوا إلى ربكم سبيلا بالصدقة، فالاستثناء على هذا متصل، والأول أظهر، وفي الكلام محذوف تقديره: إلا سؤال من شاء وشبه ذلك. وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ قرأ هذه الآية بعض السلف فقال: لا ينبغي لذي عقل أن يثق بعدها بمخلوق فإنه يموت وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ أي قل سبحان الله وبحمده، والتسبيح التنزيه عن كل ما لا يليق به، ومعنى بحمده أي: بحمده أقول ذلك، ويحتمل أن يكون المعنى سبحه متلبسا بحمده، فهو أمر بأن يجمع بين التسبيح والحمد وَكَفى بِهِ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً يحتمل أن يكون المراد بهذا بيان حلمه وعفوه عن عباده مع علمه بذنوبهم، أو يكون المراد تهديد العباد لعلم الله بذنوبهم اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ ذكر في [الأعراف: 53] الرَّحْمنُ خبر ابتداء مضمر، أو بدل من الضمير في استوى فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً فيه معنيان: أحدهما وهو الأظهر: أن المراد اسأل عنه من هو خبير عارف به، وانتصب خبيرا على المفعولية، وهذا الخبير المسؤول هو جبريل عليه السلام والعلماء، وأهل الكتاب، والباء في قوله به: يحتمل أن تتعلق بخبيرا، أو تتعلق بالسؤال، ويكون معناها على هذا معنى عن، والمعنى الثاني: أن المراد اسأل بسؤاله خبيرا أي إن سألته تعالى تجده خبيرا بكل شيء، فانتصب خبيرا على الحال، وهو كقولك: لو رأيت فلانا رأيت به أسدا: أي رأيت برؤيته أسدا قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ لما ذكر الرحمن في القرآن أنكرته قريش، وقالوا: لا نعرف الرحمن، وكان مسيلمة الكذاب قد تسمى بالرحمن، فقالوا على وجه المغالطة: إنما الرحمن الرجل الذي باليمامة أَنَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا تقديره لما تأمرنا أن نسجد له

[سورة الفرقان (25) : الآيات 69 إلى 77]

وَزادَهُمْ نُفُوراً الضمير المفعول في زادهم يعود على المقول وهو اسجدوا للرحمن بُرُوجاً يعني المنازل الأثني عشر، وقيل الكواكب العظام سِراجاً يعني الشمس، وقرئ «1» بضم السين والراء على الجمع: يعني جميع الأنوار ثم خص القمر بالذكر تشريفا جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً أي يخلف هذا هذا، وقيل: هو من الاختلاف، لأن هذا أبيض وهذا أسود، والخلفة اسم الهيئة: كالركبة والجلسة، والأصل جعلهما ذوي خلفة لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ قيل: معناه يعتبر في المصنوعات، وقيل: معناه يتذكر لما فاته من الصلوات وغيرها في الليل، فيستدركه في النهار أو فاته بالنهار فيستذكره بالليل، وهو قول عمر بن الخطاب وابن عباس رضي الله عنهما. وَعِبادُ الرَّحْمنِ أي عباده المرضيون عنده، فالعبودية هنا للتشريف والكرامة، وعباد مبتدأ وخبره الذين يمشون، أو قوله في آخر السورة: أولئك يجزون الغرفة الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً أي رفقا ولينا بحلم ووقار، ويحتمل أن يكون ذلك وصف مشيهم على الأرض أو وصف أخلاقهم في جميع أحوالهم، وعبر بالمشي على الأرض عن جميع تصرفهم مدة حياتهم قالُوا سَلاماً أي: قالوا قولا سديدا ليدفع الجاهل برفق، وقيل: معناه قالوا للجاهل: سلاما أي هذا اللفظ بعينه بمعنى: سلمنا منكم قال بعضهم هذه الآية منسوخة بالسيف، وإنما يصح النسخ في حق الكفار، أما الإغضاء عن السفهاء والحلم عنهم فمستحسن غير منسوخ إِنَّ عَذابَها وما بعده يحتمل أن يكون من كلامهم أو من كلام الله عز وجل كانَ غَراماً أي هلاكا وخسرانا، وقيل ملازما وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا «2» الإقتار هو التضييق في النفقة والشح وضده الإسراف، فنهى عن الطرفين، وأمر بالتوسط بينهما وهو القوام، وذلك في الانفاق في المباحات وفي الطاعات، وأما الانفاق في المعاصي فهو إسراف، وإن قل وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً أي عقابا، وقيل: الأثام الإثم فمعناه يلق جزاء أثام وقيل الأثام: واد في جهنم، والإشارة بقوله ذلك إلى ما ذكر من الشرك بالله وقتل النفس بغير حق والزنا وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهاناً قيل: نزلت في الكفار لأنهم المخلدون في النار بإجماع، فكأنه قال: الذين يجمعون بين الشرك والقتل والزنا، وقيل: نزلت في المؤمنين الذين يقتلون النفس ويزنون، فأما على مذهب المعتزلة

_ (1) . قرأ حمزة والكسائي: سرجا. والباقون: سراجا. (2) . قرأ نافع يقتروا. وقرأ أهل الكوفة: يقتروا.

فالخلود على بابه، وأما على مذهب أهل السنة فالخلود عبارة عن طول المدة إِلَّا مَنْ تابَ إن قلنا الآية في الكفار فلا إشكال فيها، لأن الكافر إذا أسلم صحت توبته من الكفر والقتل والزنا، وإن قلنا إنها في المؤمنين فلا خلاف أن التوبة من الزنا تصح، واختلف هل تصح توبة المسلم من القتل أم لا يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ قيل: يوفقهم الله لفعل الحسنات بدلا عما عملوا من السيئات، وقيل: إن هذا التبديل في الآخرة: أي يبدل عقاب السيئات بثواب الحسنات يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتاباً أي متابا مقبولا مرضيا عند الله كما تقول: لقد قلت يا فلان قولا، أي قولا حسنا لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ أي لا يشهدون بالزور وهو الكذب فهو من الشهادة، وقيل: معناه لا يحضرون مجالس الزور واللهو، فهو على هذا من المشاهدة والحضور، والأول أظهر وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً اللغو هو الكلام القبيح على اختلاف أنواعه، ومعنى مروا كراما أي أعرضوا عنه واستحيوا، ولم يدخلوا مع أهله تنزيها لأنفسهم عن ذلك لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا وَعُمْياناً أي لم يعرضوا عن آيات الله، بل أقبلوا عليها بأسماعهم وقلوبهم، فالنفي للصمم والعمى لا للخرور عليها قُرَّةَ أَعْيُنٍ قيل: معناه اجعل أزواجنا وذريتنا مطيعين لك، وقيل: أدخلهم معنا الجنة، واللفظ أعم من ذلك وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً أي قدوة يقتدي بنا المتقون، فإمام مفرد يراد به الجنس، وقيل: هو جمع آم أي متبع الْغُرْفَةَ يعني غرفة الجنة فهي اسم جنس. قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعاؤُكُمْ يحتمل أن تكون ما نافية أو استفهامية، وفي معنى الدعاء هنا ثلاثة أقوال: الأول: أن المعنى إن الله لا يبالي بكم لولا عبادتكم له، فالدعاء بمعنى العبادة وهذا قريب من معنى قوله تعالى وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات: 56] الثاني: أن الدعاء بمعنى الاستغاثة والسؤال، والمعنى لا يبالي الله بكم، ولكن يرحمكم إذا استغثتم به ودعوتموه ويكون على هذين القولين خطابا لجميع الناس من المؤمنين والكافرين، لأن فيهم من يعبد الله ويدعوه، أو خطابا للمؤمنين خاصة، لأنهم هم الذين يدعون الله ويعبدونه، ولكن يضعف هذا بقوله «فقد كذبتم» الثالث: أنه خطاب للكفار خاصة والمعنى على هذا: ما يعبأ بكم ربي لولا أن يدعوكم إلى دينه، والدعاء على هذا بمعنى الأمر بالدخول في الدين، وهو مصدر مضاف إلى المفعول، وأما على القول الأول والثاني فهو مصدر مضاف إلى الفاعل فَقَدْ كَذَّبْتُمْ هذا خطاب لقريش وغيرهم من الكفار دون المؤمنين فَسَوْفَ يَكُونُ لِزاماً أي سوف يكون العذاب لزاما ثابتا وأضمر العذاب وهو اسم كان لأنه جزاء التكذيب المتقدم، واختلف هل يراد بالعذاب هنا القتل يوم بدر، أو عذاب الآخرة؟

سورة الشعراء

سورة الشعراء مكية إلا آية 197 ومن آية 224 إلى آخر السورة فمدنية وآياتها 227 نزلت بعد الواقعة بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (سورة الشعراء) طسم تكلمنا على حروف الهجاء في أول سورة البقرة، ويخص هذا أنه قيل الطاء من ذي الطول، والسين من السميع أو السلام، والميم من الرحيم أو المنعم باخِعٌ ذكر في الكهف فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ الأعناق جمع عنق وهي الجارحة المعروفة، وإنما جمع خاضعين جمع العقلاء لأنه أضاف الأعناق إلى العقلاء، ولأنه وصفها بفعل لا يكون إلا من العقلاء، وقيل: الأعناق الرؤساء من الناس شبهوا بالأعناق كما يقال لهم: رؤوس وصدور، وقيل: هم الجماعات من الناس، فلا يحتاج جمع خاضعين إلى تأويل مُحْدَثٍ يعني به محدث الإتيان فَسَيَأْتِيهِمْ الآية: تهديد مِنْ كُلِّ زَوْجٍ أي من كل صنف من النبات فيعم ذلك الأقوات والفواكه والأدوية والمرعى، ووصفه بالكرم لما فيه من الحسن ومن المنافع إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً الإشارة إلى ما تقدّم من النبات، وإنما ذكره بلفظ الإفراد لأنه أراد أن في كل واحد آية أو إشارة إلى مصدر قوله: أَنْبَتْنا وَيَضِيقُ صَدْرِي بالرفع عطف على أخاف، أو استئناف، وقرئ بالنصب عطفا على يكذبون فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ أي اجعله معي رسولا أستعين به وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ يعني قتله للقبطي قالَ كَلَّا أي لا تخف أن يقتلوك إِنَّا مَعَكُمْ خطاب لموسى وأخيه ومن كان معهما. أو على جعل الاثنين جماعة مُسْتَمِعُونَ لفظه جمع، وورد

[سورة الشعراء (26) : الآيات 16 إلى 26]

مورد تعظيم الله تعالى، ويحتمل أن تكون الملائكة هي التي تسمع بأمر الله، لأن الله لا يوصف بالاستماع، وإنما يوصف بالسمع والأول أحسن، وتأويله: أن في الاستماع اعتناء واهتماما بالأمر ليست في صفة سامعون، والخطاب في قوله: معكم لموسى وهارون وفرعون وقومه، وقيل: لموسى وهارون خاصة على معاملة الاثنين معاملة الجماعة، ذلك على قول من يرى أن أقل الجمع اثنان أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ إن قيل: لم أفرده وهما اثنان؟ فالجواب من ثلاثة أوجه: الأول أنّ التقدير كل واحد منا رسول. الثاني: أنهما جعلا كشخص واحد لاتفاقهما في الشريعة، ولأنهما أخوان فكأنهما واحد. الثالث: أنّ رسول هنا مصدر وصف به، فلذلك أطلق على الواحد والاثنين والجماعة، فإنه يقال رسول بمعنى رسالة، بخلاف قوله إنا رسولا فإنه بمعنى الرسل، أَنْ أَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ أي أطلقهم قالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً قصد فرعون بهذا الكلام المنّ على موسى والاحتقار له. وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ قصد فرعون بهذا الكلام توبيخ موسى عليه السلام، ويعني بالفعلة: قتله للقبطي، والواو في قوله وأنت إن كانت للحال فقوله من الكافرين، معناه كافرا بهذا الدين الذي جئت به لأن موسى إنما أظهر لهم الإسلام بعد الرسالة، وقد كان قبل ذلك مؤمنا، ولم يعلم بذلك فرعون، وقيل: معناه من الكافرين بنعمتي، وإن كانت الواو للاستئناف: فيحتمل أن يريد من الكافرين بديني، ومن الكافرين بنعمتي قالَ فَعَلْتُها إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ القائل هنا هو موسى عليه السلام، والضمير في قوله: فعلتها لقتله القبطي، واختلف في معنى قوله: من الضالين، فقيل: معناه من الجاهلين بأن وكزتي تقتله، وقيل: معناه من الناسين، فهو كقوله: «أن تضل إحداهما» وقوله «إذا» صلة في الكلام، وكأنها بمعنى حينئذ، قال ذلك ابن عطية فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ أي من فرعون وقومه، ولذلك جمع ضمير الخطاب بعد أن أفرده في قوله «تَمُنُّها عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ» وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ معنى عبّدت: ذللت واتخذتهم عبيدا، فمعنى هذا الكلام أنك عددت نعمة عليّ تعبيد بني إسرائيل، وليست في الحقيقة بنعمة إنما كانت نقمة، لأنك كنت تذبح أبناءهم، ولذلك وصلت أنا إليك فربيتني، فالإشارة بقوله: تلك إلى التربية، وأن عبدت في موضع رفع عطف بيان على تلك، أو في موضع نصب على أنه مفعول من أجله، وقيل: معنى الكلام تربيتك نعمة علي لأنك عبدت بني إسرائيل وتركتني فهي في المعنى

[سورة الشعراء (26) : الآيات 27 إلى 51]

الأول إنكار لنعمته وفي الثاني اعتراف بها قالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ لما أظهر فرعون الجهل بالله فقال: وما رب العالمين؟ أجابه موسى بقوله: رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، فقال أَلا تَسْتَمِعُونَ؟ تعجبا من جوابه فزاد موسى في إقامة الحجة بقوله: رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ لأن وجود الإنسان وآبائه أظهر الأدلة عند العقلاء وأعظم البراهين، فإن أنفسهم أقرب الأشياء إليهم فيستدلون بها على وجود خالقهم، فلما ظهرت هذه الحجة حاد فرعون عنها ونسب موسى إلى الجنون مغالطة منه، وأيد الازدراء والتهكم في قوله: رسولكم الذي أرسل إليكم فزاد موسى في إقامة الحجة بقوله: رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ، لأن طلوع الشمس وغروبها آية ظاهرة لا يمكن أحدا جحدها، ولا أن يدعيها لغير الله، ولذلك أقام إبراهيم الخليل بها الحجة على نمروذ، فلما انقطع فرعون بالحجة رجع إلى الاستعلاء والتغلب فهدّده بالسجن، فأقام موسى عليه الحجة بالمعجزة، وذكرها له بتلطف طمعا في إيمانه، فقال: «أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ» والواو واو الحال دخلت عليها همزة الاستفهام وتقديره: أتفعل بي ذلك ولو جئتك بشيء مبين؟ وقد تقدم في الأعراف ذكر العصا واليد، فَماذا تَأْمُرُونَ؟ وأَرْجِهْ، وحاشرين فإن قيل: كيف قال أولا: إن كنتم موقنين، ثم قال آخرا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ؟ فالجواب أنه لاين أولا طمعا في إيمانهم، فلما رأى منهم العناد والمغالطة: وبخهم بقوله: إن كنتم تعقلون، وجعل ذلك في مقابلة قول فرعون: إن رسولكم لمجنون لِمِيقاتِ يَوْمٍ هو يوم الزينة نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ أي نتبعهم في نصرة ديننا لا في عمل السحر، لأن عمل السحر كان حراما بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ قسم أقسموا به، وقد تقدم في [الأعراف: 117] تفسير ما يأفكون، وما بعد ذلك لا ضَيْرَ أي لا يضرنا ذلك لأننا

[سورة الشعراء (26) : الآيات 52 إلى 71]

ننقلب إلى الله أَسْرِ بِعِبادِي يعني بني إسرائيل إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ إخبار باتباع فرعون لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ الشرذمة الطائفة من الناس، وفي هذا احتقار لهم على أنه روي أنهم كانوا ستمائة ألف، ولكن جنود فرعون أكثر منهم بكثير «1» فَأَخْرَجْناهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ يعني التي بمصر، والعيون الخلجان الخارجة من النيل، وكانت ثم عيون في ذلك الزمان، وقيل يعني الذهب والفضة وهو بعيد وَمَقامٍ كَرِيمٍ مجالس الأمراء والحكام، وقيل: المنابر، وقيل: المساكن الحسان كَذلِكَ في موضع خفض صفة لمقام أو في موضع نصب على تقدير: أخرجناهم مثل ذلك الإخراج، أو في موضع رفع على أنه خبر ابتداء تقديره: الأمر كذلك وَأَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ أي أورثهم الله مواضع فرعون بمصر على أن التواريخ لم يذكر فيها ملك بني إسرائيل لمصر، وإنما المعروف أنهم ملكوا الشام، فتأويله على هذا أورثهم مثل ذلك بالشام فَأَتْبَعُوهُمْ أي لحقوهم، وضمير الفاعل لفرعون وقومه، وضمير المفعول لبني إسرائيل مُشْرِقِينَ معناه داخلين في وقت الشروق وهو طلوع الشمس، وقيل: معناه نحو المشرق وانتصابه على الحال. تَراءَا الْجَمْعانِ وزن تراء تفاعل، وهو منصوب من [الرؤية] ، والجمعان جمع موسى وجمع فرعون، أي رأى بعضهم بعضا فَانْفَلَقَ تقدير الكلام فضرب موسى البحر فانفلق كُلُّ فِرْقٍ أي كل جزء منه والطود الجبل، وروي أنه صار في البحر اثنا عشر طريقا، لكل سبط من بني إسرائيل طريق وَأَزْلَفْنا ثَمَّ الْآخَرِينَ يعني بالآخرين فرعون وقومه، ومعنى أَزْلَفْنا: قربناهم من البحر ليغرقوا، وثم هنا ظرف يراد به حيث انفلق البحر وهو بحر القلزم [الأحمر] ما تَعْبُدُونَ إنما سألهم مع علمه بأنهم يعبدون الأصنام ليبين لهم أن ما يعبدونه ليس بشيء، ويقيم عليهم الحجة قالُوا نَعْبُدُ أَصْناماً إن قيل: لم صرحوا بقولهم نعبد، مع أن السؤال وهو قوله: ما تعبدون يغني عن التصريح بذلك، وقياس مثل هذا الاستغناء بدلالة السؤال كقوله: ماذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ؟ قالُوا: خَيْراً، فالجواب أنهم صرحوا بذلك على وجه الافتخار والابتهاج بعبادة الأصنام، ثم زادوا قولهم: فنظل لها

_ (1) . قوله: حاذرون: قرأها نافع وابن كثير وأبو عمرو: حذرون. وهما بمعنى واحد.

[سورة الشعراء (26) : الآيات 72 إلى 105]

عاكفين مبالغة في ذلك بَلْ وَجَدْنا آباءَنا اعتراف بالتقليد المحض إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ استثناء منقطع وقيل: متصل لأن في آبائهم من عبد الله تعالى وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ أسند المرض إلى نفسه وأسند الشفاء إلى الله تأدبا مع الله أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي قيل أراد كذباته الثلاثة الواردة في الحديث وهي قوله في سارة زوجته: هي أختي، وقوله: «إِنِّي سَقِيمٌ» وقوله: «بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ» وقيل: أراد الجنس على الإطلاق لأن هذه الثلاثة من المعاريض فلا إثم فيها لِسانَ صِدْقٍ ثناء جميلا يَوْمَ لا يَنْفَعُ وما بعده منقطع عن كلام إبراهيم، وهو من كلام الله تعالى، ويحتمل أن يكون أيضا من كلام إبراهيم إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ، قيل: سليم من الشرك والمعاصي وقيل: الذي يلقى ربه وليس في قلبه شيء غيره وقيل: بقلب لديغ من خشية الله، والسليم هو اللديغ: [الملدوغ] لغة، وقال الزمخشري: هذا من بدع التفاسير، وهذا الاستثناء يحتمل أن يكون متصلا فيكون: من أتى الله مفعولا، بقوله: لا يَنْفَعُ، والمعنى على هذا أن المال لا ينفع إلا من أنفقه في طاعة الله، وأن البنين لا ينفعون إلا من علمهم الدين وأوصاهم بالحق، ويحتمل أيضا أن يكون متصلا، ويكون قوله: مَنْ أَتَى اللَّهَ بدلا من قوله: مالٌ وَلا بَنُونَ على حذف مضاف تقديره: إلا مال من أتى الله وبنوه ويحتمل أن يكون منقطعا بمعنى لكن وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ أي قربت. وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغاوِينَ يعني المشركين بدلالة ما بعده فَكُبْكِبُوا فِيها كبكبوا: مضاعف من كب كررت حروفه دلالة على تكرير معناه: أي كبهم الله في النار مرة بعد مرة، والضمير للأصنام، والغاوون هم المشركون، وقيل: الضمير للمشركين، والغاوون هم الشياطين نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ أي نجعلكم سواء معه وَما أَضَلَّنا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ يعني كبراءهم، وأهل الجرم والجراءة منهم حَمِيمٍ أي خالص الودّ، قال الزمخشري: جمع الشفعاء ووحد الصديق لكثرة الشفعاء في العادة، وقلة الأصدقاء كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ أسند

[سورة الشعراء (26) : الآيات 106 إلى 145]

الفعل إلى القوم، وفيه علامة التأنيث، لأن القوم في معنى الجماعة والأمة، فإن قيل: كيف قال المرسلين بالجمع وإنما كذبوا نوحا وحده؟ فالجواب من وجهين: أحدهما أنه أراد الجنس كقولك: فلان يركب الخيل وإنما لم يركب إلا فرسا واحدا والآخر أن من كذب نبيا واحدا فقد كذب جميع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، لأن قولهم واحد ودعوتهم سواء، وكذلك الجواب في: كذبت عاد المرسلين وغيره وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ جمع أرذل، وقد تقدّم الكلام عليه في قوله أراذلنا في [هود: 27] وَما أَنَا بِطارِدِ الْمُؤْمِنِينَ يعني الذين سموهم أرذلين، فإنّ الكفار أرادوا من نوح أن يطردهم، كما أرادت قريش من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يطرد عمار بن ياسر وصهيبا وبلالا وأشباههم من الضعفاء الْمَرْجُومِينَ يحتمل أن يريدوا الرجم بالحجارة، أو بالقول وهو الشتم فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ أي احكم بيننا فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ أي المملوء بِكُلِّ رِيعٍ الريع المكان المرتفع وقيل الطريق آيَةً يعني المباني الطوال وقيل أبراج الحمام مَصانِعَ جمع مصنع وهو ما أتقن صنعه من المباني، وقيل: مأخذ الماء أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ الآية تفسير لقوله أمدكم بما تعلمون فأبهم أولا ثم فسره خُلُقُ الْأَوَّلِينَ بضم الخاء واللام أي عادتهم والمعنى أنهم قالوا: ما هذا الذي عليه من ديننا إلا عادة الناس الأولين، وقرأ [ابن كثير والكسائي وأبو عمرو] بفتح الخاء وإسكان اللام، ويحتمل على هذا وجهين: أحدهما أنه بمعنى الخلقة والمعنى ما هذه الخلقة التي نحن عليها إلا خلقة الأولين، والآخر أنها من

[سورة الشعراء (26) : الآيات 146 إلى 176]

الاختلاق بمعنى الكذب، والمعنى ما هذا الذي جئت به إلا كذب الأولين أَتُتْرَكُونَ تخويف لهم معناه: أتطمعون أن تتركوا في النعم على كفركم وَنَخْلٍ طَلْعُها هَضِيمٌ الطلع عنقود التمر في أول نباته قبل أن يخرج من الكم، والهضيم: اللين الرطب، فالمعنى طلعها يتم ويرطب، وقيل: هو الرّخص أول ما يخرج، وقيل: الذي ليس فيه نوى، فإن قيل: لم ذكر النخل بعد ذكر الجنات، والجنات تحتوي على النخل؟ فالجواب: أن ذلك تجريد كقوله فاكهة ونخل ورمان، ويحتمل أنه أراد الجنات التي ليس فيها نخل ثم عطف عليها النخل. وَتَنْحِتُونَ ذكر في [الأعراف: 74] فارِهِينَ قرئ بألف وبغير ألف «1» وهو منصوب على الحال في الفاعل من تنحتون، وهو مشتق من الفراهة وهي النشاط والكيس، وقيل: معناه أقوياء وقيل: أشرين بطرين مِنَ الْمُسَحَّرِينَ مبالغة في المسحورين، وهو من السحر بكسر السين، وقيل: من السحر بفتح السين وهي الرؤية، والمعنى على هذا إنما أنت بشر لَها شِرْبٌ أي حظ من الماء فَأَصْبَحُوا نادِمِينَ لما تغيرت ألوانهم حسبما أخبرهم صالح عليه السلام ندموا حين لا تنفعهم الندامة فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ التي ماتوا منها وهي العذاب المذكور هنا مِنَ الْقالِينَ أي من المبغضين، وفي قوله: قال ومن القالين: ضرب من ضروب التجنيس مِمَّا يَعْمَلُونَ أي نجّني من عقوبة عملهم أو اعصمني من عملهم، والأول أرجح إِلَّا عَجُوزاً يعني امرأة لوط فِي الْغابِرِينَ ذكر في [الأعراف: 83] وكذلك أَمْطَرْنا [الأعراف: 84] أَصْحابُ الْأَيْكَةِ قرئ بالهمز وخفض التاء مثل الذي في الحجر وق، ومعناه الغيضة من الشجر، وقرئ هنا وفي ص: بفتح اللام

_ (1) . قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو: فرهين. والباقون بالألف. [.....]

[سورة الشعراء (26) : الآيات 177 إلى 198]

والتاء «1» ، فقيل: إنه مسهل من الهمز، وقيل إنه اسم بلدهم، ويقوي هذا: القول بأنه على هذه القراءة بفتح التاء غير منصرف، يدل على ذلك أنه اسم علم، وضعّف ذلك الزمخشري، وقال: إن الأيكة اسم لا يعرف إِذْ قالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ لم يقل هنا أخوهم كما قال في قصة نوح وغيره، وقيل: إن شعيبا بعث إلى مدين، وكان من قبيلتهم، فلذلك قال: وإلى مدين أخاهم شعيبا، وبعث أيضا إلى أصحاب الأيكة ولم يكن منهم، فلذلك لم يقل أخوهم، فكان شعيبا على هذا مبعوثا إلى القبيلتين وقيل: إن أصحاب الأيكة مدين، ولكنه قال أخوهم حين ذكرهم باسم قبيلتهم، ولم يقل أخوهم حين نسبهم إلى الأيكة التي هلكوا فيها تنزيها لشعيب عن النسبة إليها مِنَ الْمُخْسِرِينَ أي من الناقصين للكيل والوزن بِالْقِسْطاسِ الميزان المعتدل وَالْجِبِلَّةَ يعني القرون المتقدمة عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ هي سحابة من نار أحرقتهم، فأهلك الله مدين بالصيحة، وأهلك أصحاب الأيكة بالظلة، فإن قيل: لم كرر قوله إن في ذلك لآية مع كل قصة؟ فالجواب: أن ذلك أبلغ في الاعتبار، وأشدّ تنبيها للقلوب وأيضا فإن كل قصة منها كأنها كلام قائم مستقل بنفسه، فختمت بما ختمت به صاحبتها. وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ الضمير للقرآن الرُّوحُ الْأَمِينُ يعني جبريل عليه السلام عَلى قَلْبِكَ إشارة إلى حفظه إياه لأن القلب هو الذي يحفظ بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ يعني كلام العرب هو متعلق بنزل أو المنذرين وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ المعنى أن القرآن مذكور في كتب المتقدّمين ففي ذلك دليل على صحته ثم أقام الحجة على قريش بقوله أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ بأنه من عند الله آية لكم وبرهان، والمراد من أسلم من بني إسرائيل: كعبد الله بن سلام وقيل: الذين كانوا يبشرون بمبعثه عليه الصلاة والسلام وَلَوْ نَزَّلْناهُ عَلى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ الآية جمع أعجم، وهو الذي لا يتكلم سواء كان إنسانا أو بهيمة أو جمادا والأعجمي: المنسوب إلى [العجم أي غير العرب] وقيل: بمعنى

_ (1) . قرأ نافع وابن كثير وابن عامر: ليكة. والباقون الأيكة.

[سورة الشعراء (26) : الآيات 199 إلى 217]

الأعجم، ومعنى الآية: أن القرآن لو نزل على من لا يتكلم، ثم قرأه عليهم لا يؤمنوا لإفراط عنادهم، ففي ذلك تسلية للنبيّ صلى الله عليه وسلم على كفرهم به مع وضوح برهانه كَذلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ معنى سلكناه. أدخلناه، والضمير للتكذيب الذي دل عليه ما تقدم من الكلام، أو للقرآن أي سلكناه في قلوبهم مكذبا به، وتقدير قوله: كذلك مثل هذا السلك سلكناه، والمجرمين: يحتمل أن يريد به قريشا أو الكفار المتقدمين ولا يؤمنون: تفسير للسلك الذي سلكه في قلوبهم فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ تمنوا أن يؤخروا حين لم ينفعهم التمني أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ توبيخ لقريش على استعجالهم بالعذاب في قولهم: فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ [الأنفال: 32] وشبه ذلك أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْناهُمْ سِنِينَ المعنى أن مدّة إمهالهم لا تغني مع نزول العذاب بعدها، وإن طالت مدة سنين، لأن كل ما هو آت قريب، قال بعضهم «سنين» يريد به عمر الدنيا وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَها مُنْذِرُونَ المعنى أن الله لم يهلك قوما إلا بعد أن أقام الحجة عليهم بأن أرسل إليهم رسولا فأنذرهم فكذبوه ذِكْرى منصوب على المصدر من معنى الإنذار، أو على الحال من الضمير من منذرون، أو على المفعول من أجله، أو مرفوع على أنه خبر ابتداء مضمر وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ الضمير للقرآن، وهو ردّ على من قال أنه كهانة نزلت به الشياطين على محمد وَما يَنْبَغِي لَهُمْ وَما يَسْتَطِيعُونَ أي ما يمكنهم ذلك ولا يقدرون عليه، ولفظ: ما ينبغي تارة يستعمل بمعنى لا يمكن وتارة بمعنى لا يليق إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ تعليل لكون الشياطين لا يستطيعون الكهانة، لأنهم منعوا من استراق السمع منذ بعث محمد صلى الله عليه وسلم، وقد كان أمر الكهان كثيرا منتشرا قبل ذلك. وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ عشيرة الرجل هم قرابته الأدنون، ولما نزلت هذه الآية أنذر النبي صلى الله عليه وآله وسلم قرابته فقال: يا بني هاشم أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني عبد المطلب أنقذوا أنفسكم من النار، ثم نادى كذلك ابنته فاطمة وعمته صفية «1» ، قال الزمخشري: في معناه قولان: أحدهما أنه أمر أن يبدأ بإنذار أقاربه قبل غيرهم من الناس، والآخر أنه أمر أن لا يأخذه ما يأخذ القريب من الرأفة بقريبه، ولا يخافهم بالإنذار وَاخْفِضْ جَناحَكَ عبارة عن لين

_ (1) . الحديث رواه مسلم عن أبي هريرة في كتاب الإيمان ج 1/ 192 وأوله يا بني كعب بن لؤي.

[سورة الشعراء (26) : الآيات 218 إلى 227]

الجانب والرفق، وعن التواضع الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ أي حين تقوم في الصلاة، ويحتمل أن يريد سائر التصرفات وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ معطوف على الضمير المفعول في قوله يراك، والمعنى أنه يراك حين تقوم وحين تسجد، وقيل: معناه يرى صلاتك مع المصلين، ففي ذلك إشارة إلى الصلاة مع الجماعة، وقيل: يرى تقلب بصرك في المصلين خلفك لأنه عليه الصلاة والسلام كان يراهم من وراء ظهره تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ هذا جواب السؤال المتقدم وهو قوله: هل أنبئكم على من تنزل الشياطين والأفاك الكذاب، والأثيم الفاعل للإثم يعني بذلك الكهان، وفي هذا ردّ على من قال إن الشياطين تنزلت على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم بالكهانة، لأنها لا تنزل إلا على أفاك أثيم، وكان صلى الله عليه وآله وسلم على غاية الصدق والبرّ يُلْقُونَ السَّمْعَ معناه يستمعون والضمير يحتمل أن يكون للشياطين بمعنى أنهم يستمعون إلى الملائكة، أو يكون للكهان بمعنى أنهم يستمعون إلى الشياطين، وقيل: يلقون بمعنى يلقون المسموع، والضمير يحتمل أيضا على هذا أن يكون للشياطين، لأنهم يلقون الكلام إلى الكهان أو يكون للكهان لأنهم يلقون الكلام إلى الناس وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ يعني الشياطين أو الكهان لأنهم يكذبون فيما يخبرون به عن الشياطين. وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ لما ذكر الكهان ذكر الشعراء ليبين أن القرآن ليس بكهانة ولا شعر لتباين أوصافه وما بين أوصاف الشعر والكهانة، وأراد الشعراء الذين يلقون من الشعر ما لا ينبغي كالهجاء والمدح بالباطل وغير ذلك، وقيل: أراد شعراء الجاهلية، وقيل: شعراء كفار قريش الذين كانوا يؤذون المسلمين بأشعارهم، والغاوون قيل: هم رواة الشعر وقيل: هم سفهاء الناس الذين تعجبهم الأشعار لما فيها من اللغو والباطل، وقيل: هم الشياطين فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ استعارة وتمثيل أي يذهبون في كل وجه من الكلام الحق والباطل، ويفرطون في التجوز حتى يخرجوا إلى الكذب إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا الآية: استثناء من الشعراء يعني بهم شعراء المسلمين كحسان بن ثابت وغيره ممن اتصف بهذه الأوصاف، وقيل: إن هذه الآية مدنية ذَكَرُوا اللَّهَ قيل: معناه ذكروا الله في أشعارهم، وقيل: يعني الذكر على الإطلاق وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا إشارة إلى ما قاله حسان بن ثابت وغيره من الشعراء في هجو الكفار بعد أن هجا الكفار النبي صلى الله عليه وسلم وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ وعيد للذين ظلموا والظلم هنا بمعنى الاعتداء على الناس لقوله: من بعد ما ظلموا وعمل ينقلبون في أيّ لتأخره، وقيل: إن العامل في أيّ سيعلم.

سورة النمل

سورة النمل مكية وآياتها 93 نزلت بعد سورة الشعراء بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (سورة النمل) تِلْكَ آياتُ الْقُرْآنِ وَكِتابٍ مُبِينٍ عطف الكتاب على القرآن كعطف الصفات بعضها على بعض، وإن كان الموصوف واحدا هُدىً وَبُشْرى في موضع نصب على المصدر، أو في موضع رفع على أنه خبر ابتداء مضمر وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ تحتمل هذه الجملة أن تكون معطوفة، فتكون بقية صلة الذين، أو تكون مستأنفة وتمت الصلة قبلها، ورجح الزمخشري هذا يَعْمَهُونَ يتحيرون سُوءُ الْعَذابِ يعني في الدنيا وهو القتل يوم بدر، ويحتمل أن يريد عذاب الآخرة، والأول أرجح لأنه ذكر الآية بعد ذلك لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ أي تعطاه آنَسْتُ ذكر في [طه: 11] وكذلك قبس: [طه: 12] ، والشهاب: النجم شبّه القبس به، وقرئ بإضافة شهاب إلى قبس «1» وبالتنوين على البدل أو الصفة، فإن قيل: كيف قال هنا: سَآتِيكُمْ وفي الموضع الآخر: لَعَلِّي آتِيكُمْ والفرق بين الترجي والتسويف أن التسويف متيقن الوقوع بخلاف الترجي؟ فالجواب أنه قد يقول الراجي: سيكون كذا إذا قوي رجاؤه تَصْطَلُونَ معناه: تستدفئون بالنار من البرد، ووزنه تفعلون، وهو مشتق من صلى بالنار والطاء بدل من التاء أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَها أن مفسرة، وبورك من البركة، ومن في النار: يعني من في مكان النار ومن حولها: من حول مكانها: يريد الملائكة الحاضرين وموسى عليه السلام، قال الزمخشري: والظاهر أنه عام في كل من كان في تلك الأرض، وفي ذلك الوادي وما حوله من أرض الشام وَسُبْحانَ اللَّهِ يحتمل أن

_ (1) . قرأ عاصم وحمزة والكسائي: بشهاب وقرأ الباقون: بشهاب.

[سورة النمل (27) : الآيات 9 إلى 17]

يكون مما قيل في النداء لموسى عليه السلام، أو يكون مستأنفا وعلى كلا الوجهين قصد به تنزيه الله مما عسى أن يخطر ببال السامع من معنى النداء، أو في قوله: بورك من في النار لأن المعنى نودي أن بورك من في النار، إذ قال بعض الناس فيه ما يجب تنزيه الله عنه. وَأَلْقِ عَصاكَ هذه الجملة معطوفة على قوله: بورك من في النار، لأن المعنى يؤدي إلى أن: بورك من في النار، وأن ألق عصاك وكلاهما تفسير للنداء كَأَنَّها جَانٌّ الجان: الحية، وقيل: الحية الصغيرة، وعلى هذا يشكل قوله: فإذا هي ثعبان، والجواب: أنها ثعبان في جرمها، جان في سرعة حركتها وَلَمْ يُعَقِّبْ لم يرجع أو لم يلتفت إِلَّا مَنْ ظَلَمَ استثناء منقطع تقديره: لكن من ظلم من سائر الناس، لا من المرسلين، وقيل: إنه متصل على القول بتجويز الذنوب عليهم، وهذا بعيد لأن الصحيح عصمتهم من الذنوب، وأيضا فإن تسميتهم ظالمين شنيع على القول بتجويز الذنوب عليهم بَدَّلَ حُسْناً أي عمل صالحا فِي جَيْبِكَ ذكر في [طه: 22] فِي تِسْعِ آياتٍ متصل بقوله: ألق وأدخل، تقديره: نيسر لك ذلك في جملة تسع آيات، وقد ذكرت الآيات التسع في [الإسراء: 101] إِلى فِرْعَوْنَ متعلق بفعل محذوف يقتضيه الكلام تقديره: اذهب بالآيات التسع إلى فرعون مُبْصِرَةً أي ظاهرة واضحة الدلالة، وأسند الإبصار لها مجازا، وهو في الحقيقة لمتأملها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ يعني أنهم جحدوا بها مع أنهم تيقنوا أنها الحق فكفرهم عناد، ولذلك قال فيه: ظلما، والواو فيه واو الحال، وأضمرت بعدها قد علوا يعني تكبروا. وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ أي ورث عنه النبوة والعلم والملك عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ أي فهمنا من أصوات الطير المعاني التي في نفوسها وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ عموم معناه الخصوص، والمراد بهذا اللفظ التكثير: كقولك: فلان يقصده كل أحد، وقوله: علمنا وأوتينا يحتمل أن يريد نفسه وأباه أو نفسه خاصة على وجه التعظيم، لأنه كان ملكا وَحُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ اختلف الناس في عدد جنود سليمان اختلافا شديدا، تركنا ذكره لعدم صحته فَهُمْ يُوزَعُونَ أي: يكفّون ويردّ أوّلهم إلى آخرهم، ولا بدّ لكل ملك أو حاكم من وزعة يدفعون الناس.

[سورة النمل (27) : الآيات 18 إلى 22]

حَتَّى إِذا أَتَوْا عَلى وادِ النَّمْلِ ظاهر هذا أن سليمان وجنوده كانوا مشاة بالأرض، أو ركبانا حتى خافت منهم النمل، ويحتمل أنهم كانوا في الكرسي المحمول بالريح، وأحست النملة بنزولهم في وادي «1» النمل قالَتْ نَمْلَةٌ النمل: حيوان بل حشرة فطن قويّ الحس يدخر قوته، ويقسم الحبة بقسمين لئلا تنبت، ويقسم حبة الكسبرة على أربع قطع لأنها تنبت إذا قسمت قسمين، ولإفراط إدراكها قالت هذا القول، وروي أن سليمان سمع كلامها، وكان بينه وبينها ثلاثة أميال، وهذا لا يسمعه البشر إلا من خصه الله بذلك ادْخُلُوا خاطبتهم مخاطبة العقلاء، لأنها أمرتهم بما يؤمر به العقلاء لا يَحْطِمَنَّكُمْ يحتمل أن يكون جوابا للأمر، أو نهيا بدلا من الأمر لتقارب المعنى وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ الضمير لسليمان وجنوده، والمعنى اعتذار عنهم لو حطموا النمل أي لو شعروا بهم لم يحطموهم فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً تبسم لأحد أمرين: أحدهما سروره بما أعطاه الله والآخر ثناء النملة عليه وعلى جنوده، فإن قولها وهم لا يشعرون: وصف لهم بالتقوى والتحفظ من مضرة الحيوان. وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ اختلف الناس في معنى تفقده للطير، فقيل: ذلك لعنايته بأمور ملكه، وقيل: لأن الطير كانت تظله فغاب الهدهد فدخلت الشمس عليه من موضعه أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبِينَ أم منقطعة، فإنه نظر إلى مكان الهدهد فلم يبصره، فَقالَ ما لِيَ «2» لا أَرَى الْهُدْهُدَ أي لا أراه ولعله حاضر وستره ساتر، ثم علم بأنه غائب فأخبر بذلك لَأُعَذِّبَنَّهُ روي أن تعذيبه للطير كان بنتف ريشه بِسُلْطانٍ مُبِينٍ أي حجة بينة فَمَكَثَ أي أقام، ويجوز فتح الكاف وضمها، وبالفتح قرأ عاصم والباقون بالضم، والفعل يحتمل أن يكون مسندا إلى سليمان عليه السلام أو إلى الهدهد، وهو أظهر غَيْرَ بَعِيدٍ يعني زمان قريب أَحَطْتُ أي أحطت علما بما لم تعلمه مِنْ سَبَإٍ يعني قبيلة من العرب، وجدّهم الذي يعرفون به: سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان، ومن صرفه [أي سبأ] أراد الحيّ أو الأب، ومن لم يصرفه سبأ أراد القبيلة أو البلدة، وقرئ بالتسكين سبأ لتوالي الحركات، وعلى القراءة بالتنوين يكون في قوله: من سبإ بنبإ ضرب من أدوات البيان، وهو التجنيس وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ المرأة بلقيس بنت شراحيل: كان أبوها ملك اليمن ولم يكن له ولد

_ (1) . وقف الكسائي وحده على «وادي» بالياء والباقون بغير ياء. (2) . مالي: قرأ ابن كثير وعاصم والكسائي وابن عامر بفتح الياء، وقرأ نافع وأبو عمر بإسكانها: مالي.

غيرها، فغلبت بعده على الملك، والضمير في تملكهم يعود على سبإ، وهم قومها مِنْ كُلِّ شَيْءٍ عموم يراد به الخصوص فيما يحتاجه الملك وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ يعني سرير ملكها، ووقف بعضهم على عرش، ثم ابتدأ عظيم وجدتها على تقدير: عظيم أن وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله، وهذا خطأ، وإنما حمله عليه الفرار من وصف عرشها بالعظمة أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ من كلام الهدهد أو من كلام الله، وقرأ الجمهور ألّا بالتشديد، وأن في موضع نصب على البدل من أعمالهم، أو في موضع خفض على البدل من السبيل، أو يكون التقدير: لا يهتدون لأن يسجدوا بحذف اللام، وزيادة لا، وقرأ الكسائي: ألا يا اسجدوا بالتخفيف على أن تكون لا حرف تنبيه وأن تكون الياء حرف نداء فيوقف عليها بالألف على تقدير يا قوم ثم يبتدئ اسجدوا يُخْرِجُ الْخَبْءَ في اللغة: الخفي، وقيل معناه هنا: الغيب، وقيل: يخرج النبات من الأرض، واللفظ يعم كل خفيّ، وبه فسره ابن عباس ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ أي تنح إلى مكان قريب لتسمع ما يقولون، وروي أنه دخل عليها من كوّة فألقى إليها الكتاب وتوارى في الكوة، وقيل: إن التقدير انظر ماذا يرجعون، تول عنهم فهو من المقلوب والأول أحسن ماذا يَرْجِعُونَ من قوله يرجع بعضهم إلى بعض القول. قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ قبل هذا الكلام محذوف تقديره: فألقى الهدهد إليها الكتاب فقرأته، ثم جمعت أهل ملكها فقالت لهم: يا أيها الملأ كِتابٌ كَرِيمٌ وصفته بالكرم لأنه من عند سليمان، أو لأن فيه اسم الله، أو لأنه مختوم كما جاء في الحديث: كرم الكتاب ختمه «1» مِنْ سُلَيْمانَ يحتمل أن يكون هذا نص الكتاب بدأ فيه بالعنوان، وأن يكون من كلامها: أخبرتهم أن الكتاب من سليمان وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ يحتمل أن يكون من الانقياد بمعنى مستسلمين، أو يكون من الدخول في الإسلام أُولُوا قُوَّةٍ يحتمل أن يريد قوة الأجساد أو قوة الملك والعدد وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ من كلام الله عز وجل تصديقا لقولها

_ (1) . أورده العجلوني في كشف الخفاء وعزاه للقضاعي عن ابن عباس مرفوعا، والطبراني في الأوسط.

[سورة النمل (27) : الآيات 35 إلى 40]

فيوقف على ما قبله، أو من كلام بلقيس تأكيدا للمعنى الذي أرادته، وتعني: كذلك يفعل هؤلاء بنا وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ قالت لقومها إني أجرب هذا الرجل بهدية من نفائس الأموال، فإن كان ملكا دنيويا: أرضاه المال، وإن كان نبيا لم يرضه المال، وإنما يرضيه دخولنا في دينه، فبعثت إليه هدية عظيمة وصفها الناس، واختصرنا وصفها لعدم صحته أَتُمِدُّونَنِ بِمالٍ إنكار للهدية لأن الله أغناه عنها بما أعطاه بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ أي أنتم محتاجون إليها فتفرحون بها، وأنا لست كذلك ارْجِعْ إِلَيْهِمْ خطاب للرسول، وقيل: للهدهد، والأول أرجح، لأن قوله: فلما جاء سليمان مسند إلى الرسول لا قِبَلَ لَهُمْ بِها أي لا طاقة لهم بها قالَ يا أَيُّهَا الْمَلَؤُا أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ القائل: سليمان، والملأ جماعة من الجن والإنس، وطلب عرشها قبل أن يأتوه مسلمين، لأنه وصف له بعظمة، فأراد أن يأخذه قبل أن يسلموا فيمنع إسلامهم من أخذ أموالهم، فمسلمين على هذا من الدخول في دين الإسلام، وقيل: إنما طلب عرشها قبل أن يأتوه مسلمين ليظهر لهم قوّته، فمسلمين على هذا بمعنى منقادين. قالَ عِفْرِيتٌ روي عن وهب بن منبه أن اسم هذا العفريت كوزن قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ قبل أن تقوم من موضع الحكم، وكان يجلس من بكرة إلى الظهر، وقيل: معناه قبل أن تستوي من جلوسك قائما قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ هو آصف بن برخيا، وكان رجلا صالحا من بني إسرائيل كان يعلم اسم الله الأعظم وقيل: هو الخضر، وقيل هو جبريل، والأول أشهر، وقيل سليمان وهذا بعيد آتِيكَ بِهِ في الموضعين: يحتمل أن يكون فعلا مستقبلا أو اسم فاعل قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ الطرف العين، فالمعنى على هذا قبل أن تغض بصرك إذا نظرت إلى شيء وقيل: الطرف تحريك الأجفان إذا نظرت فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قيل: هنا محذوف تقديره: فجاءه الذي عنده، علم من الكتاب بعرشها، ومعنى مستقرّا عنده حاصلا عنده وليس هذا بمستقر الذي يقدر النحويون تعلق المجرورات به خلافا لمن فهم ذلك يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ أي منفعة الشكر لنفسه. قالَ نَكِّرُوا لَها عَرْشَها تنكيره تغيير وصفه وستر بعضه، وقيل: الزيادة فيه والنقص منه، وقصد بذلك اختبار عقلها وفهمها أَتَهْتَدِي يحتمل أن يريد: تهتدي لمعرفة عرشها،

[سورة النمل (27) : الآيات 47 إلى 56]

أو للجواب عنه إذا سئلت أو للإيمان فَلَمَّا جاءَتْ قِيلَ أَهكَذا عَرْشُكِ كان عرشها قد وصل قبلها إلى سليمان فأمر بتنكيره، وأن يقال لها أهكذا عرشك؟ أي أمثل هذا عرشك؟ لئلا تفطن أنه هو، فأجابته بقولها: كأنه هو. جوابا عن السؤال، ولم تقل هو تحرزا من الكذب أو من التحقيق في محل الاحتمال وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِها هذا من كلام سليمان وقومه لما رأوها قد آمنت قالوا ذلك اعترافا بنعمة الله عليهم، في أن آتاهم العلم قبل بلقيس، وهداهم للإسلام قبلها، والجملة معطوفة على كلام محذوف تقديره: قد أسلمت هي وعلمت وحدانية الله وصحة النبوّة وأوتينا نحن العلم قبلها وَصَدَّها ما كانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ هذا يحتمل أن يكون من كلام سليمان وقومه، أو من كلام الله تعالى، ويحتمل أن يكون «ما كانت تعبد» فاعلا أو مفعولا، فإن كان فاعلا، فالمعنى صدها ما كانت تعبد عن عبادة الله والدخول في الإسلام حتى إلى هذا الوقت، وإن كان مفعولا: فهو على إسقاط حرف الجر، والمعنى صدها الله أو سليمان عن ما كانت تعبد من دون الله فدخلت في الإسلام. لَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ ساقَيْها الصرح في اللغة هو القصر، وقيل: صحن الدار، روي أن سليمان أمر قبل قدومها فبنى له على طريقها قصرا من زجاج أبيض، وأجرى الماء من تحته، وألقى فيه دواب البحر من السمك وغيره ووضع سريره في صدره فجلس عليه فلما رأته حسبته لجة، واللجة الماء المجتمع كالبحر، فكشفت عن ساقيها لتدخله لما أمرت بدخوله، وروي أن الجن كرهوا تزوج سليمان لها، فقالوا له: إن عقلها مجنون، وإن رجلها كحافر الحمار فاختبر عقلها بتنكير العرش فوجدها عاقلة، واختبر ساقها بالصرح فلما كشفت عن ساقيها وجدها أحسن الناس ساقا، فتزوجها وأقرها على ملكها باليمن، وكان يأتيها مرة في كل شهر، وقيل: أسكنها معه بالشام الَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوارِيرَ لما ظنت أن الصرح لجة ماء وكشفت عن ساقيها لتدخل الماء قال لها سليمان: إنه صرح ممرّد والممرّد الأملس، وقيل الطويل، والقوارير جمع قارورة وهي الزجاجة. لَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي تعني بكفرها فيما تقدم أَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ هذا ضرب من ضروب التجنيس فَرِيقانِ يَخْتَصِمُونَ الفريقان من آمن ومن كفر واختصامهم: اختلافهم وجدالهم في الدين لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ أي لم تطلبون العذاب قبل الرحمة، أو المعصية قبل الطاعة قالُوا اطَّيَّرْنا بِكَ أي تشاءمنا بك، وكانوا قد أصابهم

القحط قالَ طائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أي السبب الذي يحدث عنه خيركم أو شركم: هو عند الله وهو قضاؤه وقدره، وذلك رد عليهم في تطيرهم، ونسبتهم ما أصابهم من القحط إلى صالح عليه السلام وَكانَ فِي الْمَدِينَةِ يعني مدينة ثمود يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ قيل: إنهم كانوا يقرضون الدنانير والدراهم ولفظ الفساد أعم من ذلك تَقاسَمُوا بِاللَّهِ أي حلفوا بالله، وقيل: إنه فعل ماض وذلك ضعيف، والصحيح أنه فعل أمر قاله بعضهم لبعض، وتعاقدوا عليه لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ أي لنقتلنه وأهله بالليل، وهذا هو الفعل الذي تحالفوا عليه ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ ما شَهِدْنا مَهْلِكَ أَهْلِهِ أي نتبرأ من دمه إن طلبنا به وليه، ومهلك يحتمل أن يكون اسم مصدر أو زمان أو مكان، فإن قيل: إن قولهم: ما شهدنا مهلك أهله يقتضي التبري من دم أهله، دون التبري من دمه، فالجواب من ثلاثة أوجه: الأول أنهم أرادوا ما شهدنا مهلكه ومهلك أهله، وحذف مهلكه لدلالة قولهم لنبيتنه وأهله، والثاني أن أهل الإنسان قد يراد به هو وهم لقوله «وأغرقنا آل فرعون» يعني فرعون وقومه، الثالث: أنهم قالوا مهلك أهله خاصة ليكونوا صادقين، فإنهم شهدوا مهلكه ومهلك أهله معا، وأرادوا التعريض في كلامهم لئلا يكذبوا. وَإِنَّا لَصادِقُونَ يحتمل أن يكون قولهم: وإنا لصادقون مغالطة مع اعتقادهم أنهم كاذبون، ويحتمل أنهم قصدوا وجها من التعريض ليخرجوا به عن الكذب وقد ذكرناه في الجواب الثالث عن مهلك أهله، وهو أنهم قصدوا أن يقتلوا صالحا وأهله معا، ثم يقولون: ما شهدنا مهلك أهله وحدهم وإنا لصادقون في ذلك بل يعنون أنهم شهدوا مهلكه ومهلك أهله معا. وعلى ذلك حمله الزمخشري أَنَّا دَمَّرْناهُمْ وَقَوْمَهُمْ روي أن الرهط الذين تقاسموا على قتل صالح اختفوا ليلا في غار، قريبا من داره ليخرجوا منه إلى داره بالليل، فوقعت عليهم صخرة فأهلكتهم، ثم هلك قومهم بالصيحة ولم يعلم بعضهم بهلاك بعض، ونجا صالح ومن آمن به وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ قيل: معناه تبصرون بقلوبكم أنها معصية وقيل: تبصرون بأبصاركم لأنهم كانوا ينكشفون بفعل ذلك ولا يستتر بعضهم من بعض، وقيل: تبصرون آثار الكفار قبلكم وما نزل بهم من العذاب «يتطهرون» «والغابرين» «وأمطرنا» قد ذكر.

[سورة النمل (27) : الآيات 57 إلى 64]

قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى أمر الله رسوله أن يتلو الآيات المذكورة بعد هذا، لأنها براهين على وحدانيته وقدرته، وأن يستفتح ذلك بحمده، والسلام على من اصطفاه من عباده، كما تستفتح الخطب والكتب وغيرها بذلك، تيمنا بذكر الله، قال ابن عباس: يعني بعباده الذين اصطفى الصحابة، واللفظ يعم الملائكة والأنبياء والصحابة والصالحين آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ «1» على وجه الرد على المشركين، فدخلت خير التي يراد بها التفضيل لتبكيتهم وتعنيفهم، مع أنه معلوم أنه لا خير فيما أشركوا أصلا، ثم أقام عليهم الحجة بأن الله هو الذي خلق السموات والأرض، وبغير ذلك مما ذكره إلى تمام هذه الآيات، وأعقب كل برهان منها بقوله: أإله مع الله «2» على وجه التقرير لهم، على أنه لم يفعل ذلك كله إلا الله وحده، فقامت عليهم الحجة بذلك وفيها أيضا نعم يجب شكرها فقامت بذلك أيضا، وأم في قوله خير أما يشركون متصلة عاطفة، وأم في المواضع التي بعده منقطعة بمعنى بل والهمزة قَوْمٌ يَعْدِلُونَ أي يعدلون عن الحق والصواب أو يعدلون بالله غيره أي يجعلون له عديلا ومثيلا رَواسِيَ يعني الجبال الْبَحْرَيْنِ ذكر في [الفرقان: 53] . يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ قيل هو المجهود، وقيل الذي لا حول له ولا قوّة، واللفظ مشتق من الضرر: أي الذي أصابه الضرّ أو من الضرورة أي الذي ألجأته الضرورة إلى الدعاء خُلَفاءَ الْأَرْضِ أي خلفاء فيها تتوارثون سكناها أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ يعني الهداية بالنجوم والطرقات بُشْراً ذكر في الأعراف: 57 مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ الرزق من السماء: المطر ومن الأرض: النبات هاتُوا بُرْهانَكُمْ تعجيز للمشركين قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ هذه الآية تقتضي انفراد الله تعالى بعلم الغيب، وأنه لا يعلمه سواه، ولذلك قالت عائشة رضي الله عنها: من زعم أن محمدا يعلم الغيب فقد أعظم الفرية على الله، ثم قرأت هذه الآية، فإن قيل: فقد كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم

_ (1) . قرأ أبو عمرو وعاصم: يشركون وقرأ الباقون تشركون. (2) . أإله مع الله قرأها أهل الشام والكوفة هكذا، ونافع وأبو عمرو: آيله مع الله، وقرأ ورش وابن كثير: أيله بهمزة واحدة من غير مد. وقرأ هشام عن ابن عامر: ءاإله بهمزتين بينهما مد.

[سورة النمل (27) : الآيات 66 إلى 84]

يخبر بالغيوب وذلك معدود في معجزاته، فالجواب: أنه صلى الله عليه وسلم قال: إني لا أعلم الغيب إلا ما علمني الله، فإن قيل: كيف ذلك مع ما ظهر من إخبار الكهان والمنجمين وأشباههم، بالأمور المغيبة؟ فالجواب: أن إخبارهم بذلك عن ظن ضعيف أو عن وهم لا عن علم، وإنما اقتضت الآية نفي العلم، وقد قيل: إن الغيب في هذه الآية يراد به متى تقوم الساعة، لأن سبب نزولها أنهم سألوا عن ذلك، ولذلك قال: وما يشعرون أيان يبعثون، فعلى هذا يندفع السؤال الأول، والثاني لأن علم الساعة انفرد به الله تعالى لقوله تعالى: قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ ولقوله صلى الله عليه وآله وسلم: في خمس لا يعلمها إلا الله، ثم قرأ «إن الله عنده علم الساعة» إلى آخر السورة، فإن قيل: كيف قال: إلا الله بالرفع على البدل والبدل، لا يصح إلا إذا كان الاستثناء متصلا، ويكون ما بعد إلا من جنس ما قبلها والله تعالى ليس ممن في السموات والأرض باتفاق؟ فإن القائلين بالجهة والمكان يقولون إنه فوق السموات والأرض، والقائلين بنفي الجهة يقولون: إن الله تعالى ليس بهما ولا فوقهما، ولا داخلا فيهما، ولا خارجا عنهما، فهو على هذا استثناء منقطع، فكان يجب أن يكون منصوبا؟ فالجواب من أربعة أوجه: الأول أن البدل هنا جاء على لغة بني تميم في البدل، وإن كان منقطعا كقولهم ما في الدار أحد إلا حمار بالرفع، والحمار ليس من الأحدين وهذا ضعيف، لأن القرآن أنزل بلغة الحجاز لا بلغة بني تميم، والثاني أن الله في السموات والأرض بعلمه كما قال: «وهو معكم أينما كنتم» يعني بعلمه، فجاء البدل على هذا المعنى وهذا ضعيف، لأن قوله: في السموات والأرض وقعت فيه لفظة في الظرفية الحقيقية، وهي في حق الله على هذا المعنى للظرفية المجازية، ولا يجوز استعمال لفظة واحدة في الحقيقة والمجاز في حالة واحدة عند المحققين، الجواب الثالث أن قوله: من في السموات والأرض يراد به كل موجود فكأنه قال من في الوجود فيكون الاستثناء على هذا متصلا، فيصح الرفع على البدل، وإنما قال من في السموات والأرض جريا على منهاج كلام العرب فهو لفظ خاص يراد به ما هو أعم منه: الجواب الرابع أن يكون الاستثناء متصلا على أن يتأول من في السموات في حق الله كما يتأول قوله «أأمنتم من في السماء» وحديث الجارية وشبه ذلك وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ أي لا يشعرون من في السموات والأرض متى يبعثون، لأنّ علم الساعة مما انفرد به الله، روي أن سبب نزول هذه الآية أن قريشا سألوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم متى الساعة؟ بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ وزن ادّارك تفاعل ثم سكنت التاء وأدغمت الدال واجتلبت ألف الوصل، والمعنى تتابع علمهم بالآخرة وتناهى إلى أن يكفروا بها، أو تناهى إلى أن لا يعلموا وقتها، وقرئ «1» أدرك بهمزة قطع على وزن أفعل، والمعنى على هذا: يدرك علمهم في الآخرة، أي يعلمون فيها الحق، لأنهم يشاهدون حينئذ الحقائق، فقوله: في

_ (1) . قرأ ابن كثير وأبو عمرو: بل أدرك علمهم. بمعنى هل أدرك. وهل بعني الجحد. وقرأ الباقون: «بل ادّارك» أي ما جهلوا في الدنيا علموه في الآخرة.

الآخرة على هذا ظرف، وعلى القراءة الأولى بمعنى الباء عَمُونَ جمع عم، وهو من عمى القلوب رَدِفَ لَكُمْ أي تبعكم، واللام زائدة، أو ضمن معنى قرب وتعدى باللام، ومعنى الآية: أنهم استعجلوا العذاب بقولهم: متى هذا الوعد، فقيل لهم: عسى أن يكون قرب لكم بعض العذاب الذي تستعجلون، وهو قتلهم يوم بدر غائِبَةٍ الهاء فيه للمبالغة: أي ما من شيء في غاية الخفاء، إلا وهو عند الله في كتاب إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى شبه من لا يسمع ولا يعقل بالموتى في أنهم لا يسمعون وإن كانوا أحياء، ثم شبههم بالصم وبالعمي وإن كانوا صحاح الحواس، وأكد عدم سماعهم بقوله إذا ولوا مدبرين، لأن الأصم إذا أدبر وبعد عن الداعي زاد صممه وعدم سماعه بالكلية. وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أي إذا حان وقت عذابهم الذي تضمنه القول الأزلي من الله في ذلك وهو قضاؤه، والمعنى إذا قربت الساعة أخرجنا لهم دابة من الأرض، وخروج الدابة من أشراط الساعة، وروي أنها تخرج من المسجد الحرام، وقيل: من الصفا، وأن طولها ستون ذراعا، وقيل: هي الجساسة التي وردت في الحديث تُكَلِّمُهُمْ قيل: تكلمهم ببطلان الأديان كلها إلا دين الإسلام، وقيل: تقول لهم: ألا لعنة الله على الظالمين، وروي أنها تسم الكافر وتخطم أنفه وتسوّد وتبيض وجه المؤمن أَنَّ النَّاسَ «1» من قرأ بكسر الهمزة فهو ابتداء كلام، ومن قرأ بالفتح فهو مفعول تكلمهم: أي تقول لهم إن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون، أو مفعول من أجله تقديره تكلمهم، لأن الناس لا يوقنون ثم حذفت اللام، ويحتمل قوله: لا يوقنون بخروج الدابة، ولا يوقنون بالآخرة وأمور الدين، وهذا أظهر فَهُمْ يُوزَعُونَ أي يساقون بعنف أَمَّا ذا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أم استفهامية، والمعنى إقامة

_ (1) . أن: قرأ عاصم وحمزة والكسائي: أن بفتح الهمزة وقرأ الباقون: إن بكسر الهمزة.

[سورة النمل (27) : الآيات 85 إلى 93]

الحجة عليهم، كأنه قيل لهم إن كان لكم عمل أو حجة فهاتوها وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أي حق العذاب عليهم أو قامت الحجة عليهم فَهُمْ لا يَنْطِقُونَ إنما يسكتون لأن الحجة قد قامت عليهم وهذا في بعض مواطن القيامة، وقد جاء أنهم يتكلمون في مواطن لِيَسْكُنُوا فِيهِ ذكر في [يونس: 6] يُنْفَخُ فِي الصُّورِ ذكر في [الكهف: 99] إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ قيل: «هم الشهداء، وقيل: جبريل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل عليهم السلام داخِرِينَ صاغرين متذللين تَحْسَبُها جامِدَةً أي قائمة ثابتة وَهِيَ تَمُرُّ يكون مرورها في أول أحوال يوم القيامة، ثم ينسفها الله في خلال ذلك فتكون كالعهن ثم تصير هباء منبثا صُنْعَ اللَّهِ مصدر، والعامل فيه محذوف، وقيل: هو منصوب على الإغراء: أي انظروا صنع الله. مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها قيل: إن الحسنة لا إله إلا الله، واللفظ أعم، ومعنى: خير منها أن له بالحسنة الواحدة عشرا مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ «1» من نون فزع فتح الميم من يومئذ ومن أسقط التنوين للإضافة قرأ بفتح الميم على البناء أو بكسرها على الإعراب وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ السيئة هنا الكفر، والمعاصي التي قضى الله بتعذيب فاعلها هذِهِ الْبَلْدَةِ يعني مكة الَّذِي حَرَّمَها أي جعلها حرما آمنا، لا يقاتل فيها أحد ولا ينتهك حرمتها، ونسب تحريمها هنا إلى الله لأنه بسبب قضائه وأمره، ونسبه النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم إلى إبراهيم عليه السلام في قوله: إن إبراهيم حرّم مكة. لأن إبراهيم هو الذي أعلم الناس بتحريمها، فليس بين الحديث والآية تعارض وقد جاء في حديث آخر «2» أن مكة حرمها الله يوم خلق السموات والأرض وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّما أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ أي إنما عليّ الإنذار والتبليغ سَيُرِيكُمْ آياتِهِ وعيد بالعذاب الذي يضطرهم إلى معرفة آيات الله، إما في الدنيا أو في الآخرة.

_ (1) . من فزع يومئذ: قرأ عاصم وحمزة والكسائي: فزع يومئذ، قرأ أبو عمرو وابن كثير وابن عامر وإسماعيل: فزع يومئذ بالإضافة، وقرأ نافع فزع بدون تنوين ويومئذ. انظر الحجة في القراءات فقد ذكر الحجة لكل واحدة من هذه القراءات ص 540. (2) . حديث حرمة مكة رواه البخاري في كتاب الجنائز ص 95/ 2 عن ابن عباس وأوله: حرّم الله عز وجل مكة فلم تحل لأحد قبلي ولا لأحد بعدي إلخ.

سورة القصص

سورة القصص مكية إلا من آية 52 إلى غاية آية 55 فمدنية وآية 85 فبالجحفة أثناء الهجرة وآياتها 88 نزلت بعد النمل بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (سورة القصص) عَلا فِي الْأَرْضِ أي تكبر وطغا شِيَعاً أي فرقا مختلفين، فجعل فرعون القبط ملوكا وبني إسرائيل خداما لهم، وهم الطائفة الذين استضعفهم، وأراد الله أن يمنّ عليهم ويجعلهم أئمة: أي ولاة في الأرض أرض فرعون وقومه هامانَ هو وزير فرعون وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى اختلف هل كان هذا الوحي بإلهام أو منام أو كلام بواسطة الملك، وهذا أظهر لثقتها بما أوحى إليها وامتثالها ما أمرت به فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ أي إذا خفت عليه أن يذبحه فرعون لأنه كان يذبح أبناء بني إسرائيل، لما أخبره الكهان أن هلاكه على يد غلام منهم فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ الالتقاط اللقاء من غير قصد، روي أن آسية امرأة فرعون رأت التابوت في البحر، وهو النيل فأمرت أن يساق لها، ففتحته فوجدت فيه صبيا فأحبته، وقالت لفرعون: هذا قرّة عين لي ولك لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا اللام لام العاقبة وتسمى أيضا لام الصيرورة لا تَقْتُلُوهُ روي أنّ فرعون همّ بذبحه، إذ توسم أنه من بني إسرائيل، فقالت امرأته لا تقتلوه وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ أي لا يشعرون أن هلاكهم يكون على يديه، والضمير الفاعل لفرعون وقومه. وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً أي ذاهلا لا عقل معها، وقيل: فارغا من الصبر وقيل:

فارغا من كل شيء إلا من همّ موسى، وقيل: فارغا من وعد الله: أي نسيت ما أوحى إليها، وقيل: فارغا من الحزن إذ لم يغرق، وهذا بعيد لما بعده. وقيل: فارغا من كل شيء إلا من ذكر الله، وقرئ فزعا بالزاي من الفزع «1» إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ أي تظهر أمره، وفي الحديث كادت أمّ موسى أن تقول وا ابناه وتخرج صائحة على وجهها رَبَطْنا عَلى قَلْبِها أي رزقناها الصبر لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أي من المصدّقين بالوعد الذي وعدها الله وَقالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ أي اتبعيه، والقص طلب الأثر، فخرجت أخته تبحث عنه في خفية فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ أي رأته من بعيد، ولم تقرب منه لئلا يعلموا أنها أخته، وقيل: معنى عن جنب عن شوق إليه، وقيل: معناه أنها نظرت إليه، كأنها لا تريده وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ أي لا يشعرون أنها أخته وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ أي منع بأن بغضها الله له، والمراضع جمع مرضعة، وهي المرأة التي ترضع، أو جمع مرضع بفتح الميم والضاد: وهو موضع الرضاع يعني الثدي مِنْ قَبْلُ أي من أول مرة فَقالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ القائلة أخته تخاطب آل فرعون فَرَدَدْناهُ إِلى أُمِّهِ لما منعه الله من المراضع وقالت أخته: هل أدلكم على أهل بيت الآية: جاءت بأمه فقبل ثديها، فقال لها فرعون ومن أنت منه فما قبل ثدي امرأة إلا ثديك؟ فقالت: إني امرأة طيبة اللبن، فذهبت به إلى بيتها، وقرّت عينها بذلك، وعلمت أن وعد الله حق في قوله: إنا رادّوه إليك بَلَغَ أَشُدَّهُ ذكر في [يوسف: 12] وَاسْتَوى أي كمل عقله، وذلك مع الأربعين سنة. وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ يعني مصر وقيل: قرية حولها، والأول أشهر عَلى حِينِ غَفْلَةٍ قيل: في القائلة وقيل بين العشاءين، وقيل يوم عيد، وقيل كان قد جفا فرعون وخاف على نفسه فدخل مختفيا متخوفا هذا مِنْ شِيعَتِهِ الذي من شيعته من بني إسرائيل، والذي من عدّوه من القبط فَوَكَزَهُ مُوسى أي ضربه، والوكز الدفع بأطراف الأصابع وقيل: بجمع الكف فَقَضى عَلَيْهِ أي قتله، ولم يرد أن يقتله ولكن وافقت وكزته الأجل، فندم وقال: هذا من عمل الشيطان أي إن الغضب الذي أوجب ذلك كان من الشيطان، ثم اعترف واستغفر فغفر الله له، فإن قيل: كيف استغفر من القتل وكان المقتول كافرا؟ فالجواب أنه لم يؤذن له في قتله، ولذلك يقول يوم القيامة: إني قتلت نفسا لم أومر بقتلها

_ (1) . أورد الطبري عن فضالة بن عبيد أن كان يقرأ: (وأصبح فؤاد أم موسى فازعا) من الفزع.

[سورة القصص (28) : الآيات 17 إلى 23]

قالَ رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ الظهير المعين، والباء سببية، والمعنى بسبب إنعامك عليّ: لا أكون ظهيرا للمجرمين، فهي معاهدة عاهد موسى عليها ربه، وقيل الباء باء القسم، وهذا ضعيف لأن قوله: فلن أكون لا يصلح لجواب القسم، وقيل: جواب القسم محذوف تقديره: وحق نعمتك لأتوبن فلن أكون ظهيرا للمجرمين، وقيل الباء للتحليف: أي اعصمني بحق نعمتك عليّ، فلن أكون ظهيرا للمجرمين، ويحتج بهذه الآية على المنع من صحبة ولاة الجور يَتَرَقَّبُ في الموضعين أي يستحس هل يطلبه أحد يَسْتَصْرِخُهُ أي يستغيث به، لقي موسى الإسرائيليّ الذي قاتل القبطي بالأمس يقاتل رجلا آخر من القبط، فاستغاث بموسى لينصره كما نصره بالأمس، فعظم ذلك على موسى وقال له: إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ فَلَمَّا أَنْ أَرادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُما الضمير في أراد وفي يبطش لموسى، وفي قال للإسرائيلي، والمعنى لما أراد موسى أن يبطش بالقبطي الذي هو عدوّ له وللإسرائيلي: ظن الإسرائيلي أنه يريد أن يبطش به إذ قال له إنك لغوي مبين، فقال الإسرائيلي لموسى: أتريد أن تقتلني كما قتلت نفسا بالأمس؟ وقيل: الضمير في أراد للإسرائيلي، والمعنى فلما أراد الإسرائيلي أن يبطش موسى بالقبطي، ولم يفعل موسى ذلك لندامته على قتله الآخر بالأمس، فنصح الإسرائيلي، فقال له: أتريد أن تقتلني فاشتهر خبر قتله للآخر إلى أن وصل إلى فرعون وَجاءَ رَجُلٌ قيل: إنه مؤمن آل فرعون، وقيل: غيره يَسْعى أي يسرع في مشيه ليدرك موسى فينصحه إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ يتشاورون، وقيل: يأمر بعضهم بعضا بقتلك كما قتلت القبطي. وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقاءَ مَدْيَنَ أي قصد بوجهه ناحية مدين وهي مدينة شعيب عليه السلام قالَ عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ أي وسط الطريق يعني طريق مدين، إذ كان قد خرج فارّا بنفسه، وكان لا يعرف الطريق، وبين مصر ومدين مسيرة ثمانية أيام، وقيل: أراد سبيل الهدى وهذا أظهر، ويدل كلامه هذا على أنه كان عارفا بالله قبل نبوته وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ أي وصل إليه وكان بئرا يَسْقُونَ أي يسقون مواشيهم امْرَأَتَيْنِ روي أن اسمهما ليا وصفوريا، وقيل: صفيرا وصفرا تَذُودانِ أي تمنعان الناس عن غنمهما، وقيل: تذودان غنمهما عن الماء حتى يسقي الناس، وهذا أظهر لقولهما: لا نسقي حتى يصدر الرعاء: أي كانت عادتهما ألا يسقيا غنمهما إلا بعد الناس لقوة الناس ولضعفهما، أو لكراهتهما التزاحم مع الناس يُصْدِرَ بضم الياء وكسر الدال فعل متعدّ، والمفعول

[سورة القصص (28) : الآيات 24 إلى 26]

محذوف تقديره حتى يصدر الرعاء مواشيهم، وقرأ أبو عمرو وابن عامر: يصدر بفتح الياء وضم الدال أي ينصرفون عن الماء وَأَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ أي لا يستطيع أن يباشر سقي غنمه، وهذا الشيخ هو شعيب عليه السلام في قول الجمهور، وقيل: ابن أخيه، وقيل: رجل صالح ليس من شعيب بنسب فَسَقى لَهُما أي أدركته شفقته عليهما فسقى غنمهما وروي أنه كان على فم البئر صخرة لا يرفعها إلا ثلاثون رجلا فرفعها وحده تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ أي جلس في الظل، وروي أنه كان ظل سمرة إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ طلب من الله ما يأكله وكان قد اشتدّ عليه الجوع. فَجاءَتْهُ إِحْداهُما قبل هذا كلام محذوف تقديره: فذهبتا إلى أبيهما سريعتين، وكانت عادتهما الإبطاء في السقي، أخبرتاه بما كان من أمر سقي الرجل لهما، فأمر إحداهما أن تدعوه له فجاءته، واختلف هل التي جاءته الصغرى أو الكبرى عَلَى اسْتِحْياءٍ روي أنها سترت وجهها بكم درعها والمجرور يتعلق بما قبله وقيل: بما بعده وهو ضعيف وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ أي ذكر له قصته لا تَخَفْ أي قد نجوت من فرعون وقومه اسْتَأْجِرْهُ أي اجعله أجيرا لك إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ هذا الكلام حكمة جامعة بليغة، روي أن أباها قال لها من أين عرفت قوته وأمانته، قالت أما قوته ففي رفعه الحجر عن فم البئر: وأما أمانته فإنه لم ينظر إليّ قالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ زوجته التي دعته، واختلف هل زوّجه الكبرى أو الصغرى، واسم التي زوجه صفور، وقيل: صفوريا، ومن لفظ شعيب حسن أن يقال في عقود الأنكحة: أنكحه إياها أكثر من أن يقال أنكحها إياه عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ أيّ أزوجك بنتي على أن تخدمني ثمانية أعوام، قال مكي: في هذه الآية خصائص في النكاح، منها أنه لم يعين الزوجة، ولا حدّ أول الأمد، وجعل المهر إجارة، قلت: فأما التعيين فيحتمل أن يكون عند عقد النكاح بعد هذه المراودة، وقد قال الزمخشري: إن كلامه معه لم يكن عقد نكاح، وإنما كان مواعدة وأما ذكر أول الأمد، فالظاهر أنه من حين العقد، وأما النكاح بالإجارة فظاهر من الآية، وقد قرره شرعنا حسبما ورد في الحديث الصحيح من قوله صلى الله عليه وسلم للرجل: «قد زوجتكها على ما معك من القرآن» أي على أن تعلمها ما عندك من القرآن «1» ، وقد أجاز النكاح بالإجارة الشافعي

_ (1) . الحديث أخرجه البخاري عن سهل بن سعد الساعدي في كتاب الوكالة ص 63 ج 3. [.....]

[سورة القصص (28) : الآيات 38 إلى 47]

وابن حنبل أبو حنيفة للآية والحديث، ومنعه مالك فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ جعل الأعوام الثمانية شرطا، ووكل العامين إلى مروءة موسى، فوفى له العشر، وقيل: وفي العشرة وعشرا بعدها، وهذا ضعيف لقوله: فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ أي الأجل المذكور وَسارَ بِأَهْلِهِ الأهل هنا الزوجة مشى بها إلى مصر جَذْوَةٍ أي قطعة، ويجوز كسر الجيم وضمها، وقد ذكر [سابقا] آنس، والطور، وتصطلون شاطِئِ الْوادِ جانبه والأيمن صفة للشاطئ اليمين، ويحتمل أن يكون من اليمن فيكون صفة للوادي مِنَ الشَّجَرَةِ روي: أنها كانت عوسجة جَانٌّ ذكر في النمل اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ أي أدخلها فيه، والجيب هو فتح الجبة من حيث يخرج الإنسان رأسه وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ الجناح اليد أو الإبط أو العضد، أمره الله لما خاف من الحية أن يضمه إلى جنبه ليخفّ بذلك خوفه، فإن من شأن الإنسان إذا فعل ذلك في وقت فزعه أن يخف خوفه، وقيل: ذلك على وجه المجاز، والمعنى أنه أمر بالعزم على ما أمر به: كقوله اشدد حيازيمك واربط جأشك. مِنَ الرَّهْبِ أي من أجل الرّهب، وهو الخوف، وفيه ثلاثة لغات: فتح الراء والهاء، وفتح الراء وإسكان الهاء، وضم الراء وإسكان الهاء فَذانِكَ بُرْهانانِ أي حجتان والإشارة إلى العصا واليد إِلى فِرْعَوْنَ يتعلق بفعل محذوف يقتضيه الكلام رِدْءاً أي معينا، وقرئ بالهمز [وقرأ نافع ردّا] وبغير همز على التسهيل من المهموز أو يكون من: أرديت أي زدت سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ استعارة في المعونة بِآياتِنا يحتمل أن يتعلق بقوله: نجعل أو يصلون أو بالغالبون فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى الطِّينِ أي اصنع الآجر لبنيان

الصرح الذي رام أن يصعد منه إلى السماء، وروي أنه أول من عمل الآجر، وكان هامان وزير فرعون وانظر ضعف عقولهما وعقول قومهما، وجهلهم بالله تعالى في كونهم طمعوا أن يصلوا إلى السماء ببنيان الصرح، وقد روي أنه عمله وصعد عليه ورمى بسهم إلى السماء فرجع مخضوبا بدم، وذلك فتنة له ولقومه وتهكم بهم، ثم قال وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكاذِبِينَ يعني في دعوى الرسالة، والظن هنا يحتمل أن يكون على بابه أو بمعنى اليقين أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ أي كانوا يدعون الناس إلى الكفر الموجب للنار مِنَ الْمَقْبُوحِينَ أي من المطرودين المبعدين، وقيل: قبحت وجوههم، وقيل: قبح ما فعل بهم وما يقال لهم. وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ خطاب لسيدنا محمد صلّى الله عليه وسلّم والمراد به إقامة حجة لإخباره بحال موسى، وهو لم يحضره والغربي المكان الذي في غربي الطور، وهو المكان الذي كلم الله فيه موسى، والأمر المقضي إلى موسى هو النبوة. ومن الشاهدين: معناه من الحاضرين هنالك وَلكِنَّا أَنْشَأْنا قُرُوناً فَتَطاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ المعنى لم تحضر يا محمد للاطلاع على هذه الغيوب التي تخبر بها، ولكنها صارت إليك بوحينا فكان الواجب على الناس المسارعة إلى الإيمان بك، ولكن تطاول الأمر على القرون التي أنشأناها، فغابت عقولهم واستحكمت جهالتهم، فكفروا بك، وقيل: المعنى لكنا أنشأنا قرونا بعد زمان موسى فتطاول عليهم العمر، وطالت الفترة فأرسلناك على فترة من الرسل ثاوِياً أي مقيما إِذْ نادَيْنا يعني تكليم موسى، والمراد بذلك إقامة حجة سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم لإخباره بهذه الأمور مع أنه لم يكن حاضرا حينئذ وَلكِنْ رَحْمَةً انتصب على المصدر، أو على أنه مفعول من أجله والتقدير: ولكن أرسلناك رحمة منا لك ورحمة للخلق بك وَلَوْلا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ لو هنا حرف امتناع ولولا الثانية عرض وتحضيض، والمعنى لولا أن تصيبهم مصيبة بكفرهم لم نرسل الرسل، وإنما أرسلناهم على وجه الإعذار وإقامة الحجة

[سورة القصص (28) : الآيات 48 إلى 53]

عليهم، لئلا يقولوا: ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك ونكون من المؤمنين فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ يعني القرآن ونبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم قالُوا لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى يعنون إنزال الكتاب عليه من السماء جملة واحدة، وقلب العصا حية وفلق البحر وشبه ذلك أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِما أُوتِيَ مُوسى مِنْ قَبْلُ هذا ردّ عليهم فيما طلبوه، والمعنى أنهم كفروا بما أوتي موسى فلو آتينا محمدا مثل ذلك لكفروا به، ومن قبل على هذا يتعلق بقوله: أوتي موسى، ويحتمل أن يتعلق بقوله: أو لم يكفروا، إن كانت الآية في بني إسرائيل، والأول أحسن قالوا ساحران تظاهرا «1» يعنون موسى وهارون، أو موسى ومحمدا صلّى الله عليه وسلّم والضمير في أو لم يكفروا وفي قالوا لكفار قريش وقيل: لآبائهم، وقيل لليهود والأول أظهر وأصح لأنهم المقصودون بالرد عليهم فَأْتُوا بِكِتابٍ أمر على وجه التعجيز لهم أَهْدى مِنْهُما الضمير يعود على كتاب موسى وكتاب سيدنا محمد صلّى الله عليه وسلّم فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ قد علم أنهم لا يستجيبون للإتيان بكتاب هو أهدى منهما أبدا، ولكنه ذكره بحرف إن مبالغة في إقامة الحجة عليهم: كقوله: فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا، فاعلم أنما يتبعون أهواهم: المعنى إن لم يأتوا بكتاب فاعلم أن كفرهم عناد واتباع أهوائهم، لا بحجة وبرهان وَلَقَدْ وَصَّلْنا لَهُمُ الْقَوْلَ الضمير لكفار قريش، وقيل: لليهود والأول أظهر لأن الكلام من أوله معهم، والقول هنا القرآن، ووصّلنا لهم: أبلغناه لهم، أو جعلناه موصلا بعضه ببعض الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ يعني من أسلم من اليهود، وقيل: النجاشي وقومه، وقيل: نصارى نجران الذين قدموا على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بمكة وهم عشرون رجلا فآمنوا به، والضمير في قبله للقرآن، وقولهم إنه الحق: تعليل لإيمانهم، وقولهم: إنا كنا من قبله مسلمين: بيان لأن إسلامهم قديم، لأنهم وجدوا ذكر سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم في كتبهم قبل أن يبعث. أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين: رجل من أهل الكتاب ثم آمن بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم، ورجل مملوك أدى حق الله

_ (1) . سحران: قراءة عاصم وحمزة والكسائي. وقرأ الباقون: ساحران.

[سورة القصص (28) : الآيات 59 إلى 66]

وحق مواليه، ورجل كانت له أمة فأعتقها وتزوّجها «1» بِما صَبَرُوا يعني صبرهم على إذاية قومهم لهم لما أسلموا، 7 أو غير ذلك من أنواع الصبر وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أي يدفعون، ويحتمل أن يريد بالسيئة ما يقال لهم من الكلام القبيح، وبالحسنة ما يجاوبون به من الكلام الحسن، أو يريد سيئات أعمالهم وحسناتها كقوله: إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ [هود: 114] وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ يعني ساقط الكلام لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ هذا على وجه التبري والبعد من القائلين للغو سَلامٌ عَلَيْكُمْ معناه هنا، المتاركة والمباعدة لا التحية، أو كأنه سلام الانصراف والبعد لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ أي لا نطلبهم للجدال والمراجعة في الكلام إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ نزلت في أبي طالب إذ دعاه النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يقول عند موته: لا إله إلا الله فقال: لولا أن يعايرني بها قريش لأقررت بها عينك ومات على الكفر، ولفظ الآية مع ذلك على عمومه وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ لفظ عام، وقيل: أراد به العباس بن عبد المطلب. وَقالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا القائلون لذلك قريش، وروي أن الذي قالها منهم: الحارث بن عامر بن نوفل، والهدى هو الإسلام، ومعناه الهدى على زعمك، وقيل: إنهم قالوا قد علمنا أن الذي تقول حق، ولكن إن اتبعناك تخطفتنا العرب: أي أهلكونا بالقتال لمخالفة دينهم أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً هذا ردّ عليهم فيما اعتذروا به من تخطف الناس لهم، والمعنى أن الحرم لا تتعرض له العرب بقتال، ولا يمكن الله أحدا من إهلاك أهله، فقد كانت العرب يغير بعضهم على بعض، وأهل الحرم آمنون من ذلك يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ أي تجلب إليه الأرزاق مع أنه واد غير ذي زرع بَطِرَتْ مَعِيشَتَها معنى بطرت طغت وسفهت، ومعيشتها: نصب على التفسير مثل: سفه نفسه، أو على إسقاط حرف الجرّ تقديره: بطرت في معيشتها أو يتضمن معنى بطرت: كفرت إِلَّا قَلِيلًا يعني: قليلا من السكنى، أو قليلا من الساكنين: أي لم يسكنها بعد إهلاكها إلا مارّا على الطريق ساعة. وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولًا أم القرى مكة لأنها أول ما

_ (1) . رواه المناوي في التيسير بألفاظ مقاربة وعزاه للشيخين وأحمد والترمذي والنسائي عن أبي موسى الأشعري.

خلق الله في الأرض، ولأن فيها بيت الله، والمعنى أن الله أقام الحجة على أهل القرى بأن بعث سيدنا محمدا صلّى الله عليه وسلّم في أم القرى، فإن كفروا أهلكهم بظلمهم بعد البيان لهم، وإقامة الحجة عليهم وَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ الآية: تحقير للدنيا وتزهيد فيها وترغيب في الآخرة أَفَمَنْ وَعَدْناهُ الآية: إيضاح لما قبلها من البون بين الدنيا والآخرة، والمراد بمن وعدناه للمؤمنين، وبمن متعناه الكافرين، وقيل: سيدنا محمدا صلى الله عليه وآله وسلم وأبو جهل، وقيل حمزة وأبو جهل، والعموم أحسن لفظا، ومعنى من المحضرين أي من المحضرين في العذاب وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ العامل في الظرف مضمر، وفاعل ينادي: الله تعالى، ويحتمل أن يكون نداؤه بواسطة أو بغير واسطة، والمفعول به المشركون أَيْنَ شُرَكائِيَ توبيخ للمشركين ونسبهم إلى نفسه على زعمهم، ولذلك قال: الذين كنتم تزعمون، فحذف المفعول وتقديره: تزعمون أنهم شركاء لي أو تزعمون أنهم شفعاء لكم. قالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنا هؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنا معنى حق عليهم القول: وجب عليهم العذاب، والمراد بذلك رؤساء المشركين وكبراؤهم، والإشارة بقولهم: هؤلاء الذين أغوينا: إلى أتباعهم من الضعفاء، فإن قيل: كيف الجمع بين قولهم أغوينا وبين قولهم: تبرأنا إليك، فإنهم اعترفوا بإغوائهم، وتبرأوا مع ذلك منهم؟ فالجواب أن إغواءهم لهم هو أمرهم لهم بالشرك، والمعنى أنا حملناهم على الشرك كما حملنا أنفسنا عليه، ولكن لم يكونوا يعبدوننا إنما كانوا يعبدون غيرنا، من الأصنام وغيرها فتبرأنا إليك من عبادتهم لنا، فتحصل من كلام هؤلاء الرؤساء أنهم اعترفوا أنهم أغووا الضعفاء، وتبرأوا من أن يكونوا هم آلهتهم فلا تناقض في الكلام، وقد قيل في معنى الآية غير هذا مما هو تكلف بعيد لَوْ أَنَّهُمْ كانُوا يَهْتَدُونَ فيه أربعة أوجه: الأول أن المعنى لو أنهم كانوا يهتدون في الدنيا لم يعبدوا الأصنام، والثاني لو أنهم كانوا يهتدون لم يعذبوا والثالث لو أنهم كانوا يهتدون في الآخرة لحيلة يدفعون بها العذاب لفعلوا، فلو على هذه الأقوال حرف امتناع وجوابها محذوف، والرابع أن يكون لو للتمني: أي تمنوا لو كانوا مهتدين. ماذا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ أي هل صدقتم المرسلين أو كذبتموهم؟ فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ يَوْمَئِذٍ عميت عبارة عن حيرتهم، والأنباء الأخبار أي أظلمت عليهم الأمور، فلم يعرفوا ما يقولون فَهُمْ لا يَتَساءَلُونَ أي لا يسأل بعضهم بعضا عن الأنباء لأنهم قد تساووا

[سورة القصص (28) : الآيات 67 إلى 75]

في الحيرة والعجز عن الجواب وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ قيل: سببها استغراب قريش لاختصاص سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالنبوة، فالمعنى أن الله يخلق ما يشاء، ويختار لرسالته من يشاء من عباده، ولفظها أعم من ذلك، والأحسن حمله على عمومه: أي يختار ما يشاء من الأمور على الإطلاق، ويفعل ما يريد ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ ما نافية، والمعنى ما كان للعباد اختيار إنما الاختيار، والإرادة لله وحده. فالوقف على قوله ويختار، وقيل: إن ما مفعولة بيختار، ومعنى الخيرة على هذا الخير والمصلحة، وهذا يجري على قول المعتزلة، وذلك ضعيف لرفع الخيرة على أنها اسم كان، ولو كانت ما مفعولة: لكان اسم كان مضمرا يعود على ما وكانت الخيرة منصوبة على أنها خبر كان، وقد اعتذر عن هذا من قال: إن ما مفعولة بأن يقال: تقدير الكلام: يختار ما كان لهم الخيرة فيه، ثم حذف الجار والمجرور وهذا ضعيف، وقال ابن عطية: يتجه أن تكون ما مفعولة إذا قدرنا كان تامة، ويوقف على قوله ما كان: أي يختار كل كائن، ويكون «لهم الخيرة» جملة مستأنفة، وهذا بعيد جدا يَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ أي ما تخفيه قلوبهم وعبر عن القلب بالصدر، لأنه يحتوي عليه. لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولى وَالْآخِرَةِ قيل إن الحمد في الآخرة قولهم: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ [الزمر: 74] أو قولهم: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ [فاطر: 34] ، وفي ذكر الأولى مع الآخرة مطابقة سَرْمَداً أي دائما، والمراد بالآيات إثبات الوحدانية وإبطال الشرك، فإن قيل: كيف قال يأتيكم بضياء، وهلا قال: يأتيكم بنهار في مقابلة قوله يأتيكم بليل؟ فالجواب أنه ذكر الضياء لجملة ما فيه من المنافع والعبر لِتَسْكُنُوا فِيهِ أي في الليل وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ أي في النهار، ففي الآية لف ونشر وَنَزَعْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً أي أخرجنا من كل أمة شهيدا منهم يشهد عليهم بأعمالهم وهو نبيهم، لأن كل نبي يشهد على أمته هاتُوا بُرْهانَكُمْ أي هاتوا حجتكم على ما كنتم عليه من الكفر، وذلك إعذار لهم وتوبيخ وتعجيز.

[سورة القصص (28) : الآيات 76 إلى 78]

إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى أي من بني إسرائيل، وكان ابن عم موسى وقيل ابن عمته، وقيل ابن خالته فَبَغى عَلَيْهِمْ أي تكبر وطغى، ومن ذلك كفره بموسى عليه السلام وَآتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ المفاتح هي التي يفتح بها، وقيل: هي الخزائن، والأول أظهر، والعصبة جماعة الرجال من العشرة إلى الأربعين، وتنوء معناه تثقل، يقال ناء به الحمل: إذا أثقله، وقيل: معنى تنوء تنهض بتحامل وتكلف، والوجه على هذا أن يقال إن العصبة تنوء بالمفاتح، لكنه قلب كما جاء قلب الكلام عن العرب كثيرا، ولا يحتاج إلى قلب على القول الأول لا تَفْرَحْ الفرح هنا هو الذي يقود إلى الإعجاب والطغيان، ولذلك قال: إن الله لا يحب الفرحين، وقيل السرور بالدنيا، لأنه لا يفرح بها إلا من غفل عن الآخرة ويدل على هذا قوله: وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ [الحديد: 23] وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ أي اقصد الآخرة بما أعطاك الله من المال، وذلك بفعل الحسنات والصدقات وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا أي لا تضيع حظك من دنياك وتمتع بها مع عملك للآخرة، وقيل: معناه لا تضيع عمرك بترك الأعمال الصالحات، فإن حظ الإنسان من الدنيا إنما هو بما يعمل فيها من الخير، فالكلام على هذا وعظ، وعلى الأول إباحة للتمتع بالدنيا لئلا ينفر عن قبول الموعظة وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ أي أحسن إلى عباد الله كما أحسن الله إليك بالغنى قال إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي لما وعظه قومه أجابهم بهذا على وجه الرد عليهم، والروغان عما ألزموه من الموعظة، والمعنى: أن هذا المال إنما أعطاه الله لي بالاستحقاق له بسبب علم عندي استوجبته به، واختلف في هذا العلم فقيل: إنه علم الكيمياء، وقيل: التجارب للأمور والمعرفة بالمكاسب، وقيل: حفظه التوراة وهذا بعيد، لأنه كان كافرا، قيل: المعنى إنما أوتيته على علم من الله وتخصيص خصني به، ثم جعل قوله عندي كما تقول في ظني واعتقادي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ هذا ردّ عليه في اغتراره بالدنيا وكثرة جمعه للمال أو جمعه للخدم، والأول أظهر. وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ في معناه قولان: أحدهما أنه متصل بما قبله، والضمير في ذنوبهم يعود على القرون المتقدمة، والمجرمون من بعدهم أي: لا يسأل المجرمون عن ذنوب من تقدمهم من الأمم الهالكة لأن كل أحد إنما يسأل عن ذنوبه خاصة، والثاني: أنه إخبار عن حال المجرمين في الآخرة وأنهم لا يسألون عن ذنوبهم لكونهم يدخلون النار من غير حساب، والصحيح أنهم يحاسبون على ذنوبهم ويسألون عنها

[سورة القصص (28) : الآيات 79 إلى 85]

لقوله: فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ [الحجر: 92] وأن هذا السؤال المنفي السؤال على وجه الاختبار وطلب التعريف، لأنه لا يحتاج إلى سؤالهم على هذا الوجه لكن يسألون على وجه التوبيخ، وحيثما ورد في القرآن إثبات السؤال في الآخرة، فهو على معنى المحاسبة والتوبيخ، وحيثما ورد نفيه فهو على وجه الاستخبار والتعريف، ومنه قوله: فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ. [الرحمن: 39] . فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ في ثياب حمر، وقيل: في عبيده وحاشيته، واللفظ أعم من ذلك وَيْلَكُمْ زجر للذين تمنوا مثل حال قارون وَلا يُلَقَّاها إِلَّا الصَّابِرُونَ الضمير عائد على الخصال التي دل عليها الكلام المتقدم، وهو الإيمان والعمل الصالح، وقيل: على الكلمة التي قالها الذين أوتوا العلم: أي لا تصدر الكلمة إلا عن الصابرين، والصبر هنا إمساك النفس عن الدنيا وزينتها فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدارِهِ الْأَرْضَ روي أن قارون لما بغى على بني إسرائيل وآذى موسى دعا موسى عليه السلام عليه، فأوحى الله إليه أن قد أمرت الأرض أن تطيعك فيه وفي أتباعه، فقال موسى: يا أرض خذيهم، فأخذتهم إلى الركب فاستغاثوا بموسى فقال: يا أرض خذيهم حتى تمّ بهم الخسف مَكانَهُ أي منزلته في المال والعزة بِالْأَمْسِ يحتمل أن يريد به اليوم الذي كان قبل ذلك اليوم أو ما تقدم من الزمان القريب وَيْكَأَنَّ مذهب سيبويه أن وي حرف تنبيه، ثم ذكرت بعدها كأن، والمعنى على هذا أنهم تنبهوا لخطئهم في قولهم: يا ليت لنا مثل ما أوتى قارون، ثم قالوا: كأن الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر: أي ما أشبه الحال بهذا، وقال الكوفيون: ويك هو ويلك حذفت منها اللام لكثرة الاستعمال، ثم ذكرت بعدها أن، والمعنى ألم يعلموا أن الله. وقيل: ويكأن كلمة واحدة معناها ألم تعلم. عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ أي تكبرا وطغيانا لا رفعة المنزلة، فإن إرادتها جائزة فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ أي أنزله عليك وأثبته، وقيل المعنى أعطاك القرآن، والمعنى متقارب، وقيل فرض عليك أحكام القرآن، فهي على حذف مضاف لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ المعاد الموضع

[سورة القصص (28) : الآيات 86 إلى 88]

الذي يعاد إليه، فقيل: يعني مكة، والآية نزلت حين الهجرة، ففيها وعد بالرجوع إلى مكة وفتحها، وقيل: يعني الآخرة فمعناها إعلام بالحشر، وقيل يعني الجنة وَما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ أي ما كنت تطمع أن تنال النبوّة، ولا أن ينزل عليك الكتاب، ولكن الله رحمك بذلك ورحم الناس بنبوّتك، والاستثناء بمعنى لكن فهو منقطع. ويحتمل أن يكون متصلا. والمعنى ما أنزل عليك الكتاب إلا رحمة من ربك لك ورحمة للناس، ورحمة على هذا مفعول من أجله أو حال، وعلى الأول منصوب على الاستثناء وَادْعُ إِلى رَبِّكَ يحتمل أن يكون من الدعاء بمعنى الرغبة، أو من دعوة الناس إلى الإيمان بالله، فالمفعول محذوف على هذا تقديره: ادع الناس وَلا تَدْعُ أي لا تعبد مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ الآية. أي إلا إياه، والوجه هنا عبارة عن الذات.

سورة العنكبوت

سورة العنكبوت مكية إلا من آية 1 إلى غاية 11 فمدنية وآياتها 69 نزلت بعد الروم بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (سورة العنكبوت) الم ذكر في البقرة أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا نزلت في قوم من المؤمنين، كانوا بمكة مستضعفين منهم عمار بن ياسر وغيره، وكان كفار قريش يؤذونهم ويعذبونهم على الإسلام، فضاقت صدورهم بذلك. فآنسهم الله بهذه الآية، ووعظهم وأخبرهم أن ذلك اختبار، ليوطنوا أنفسهم على الصبر على الأذى، والثبوت على الإيمان، فأعلمهم الله تعالى أن تلك سيرته في عباده، يسلط الكفار على المؤمنين ليمحصهم بذلك، ويظهر الصادق في إيمانه من الكاذب، ولفظها مع ذلك عام، فحكمها على العموم في كل من أصابته فتنة، من مصيبة أو مضرة في النفس والمال وغير ذلك، ومعنى حسب ظنّ، وأن يتركوا مفعولها، والهمزة للإنكار، وهم لا يفتنون في موضع الحال من الضمير في يتركوا تقديره غير مفتونين، وأن يقولوا: تعليل في موضع المفعول من أجله فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا أي يعلم صدقهم علما ظاهرا في الوجود، وقد كان علمه في الأزل والصدق والكذب في الآية يعني بهما صحة الإيمان والثبوت عليه، أو ضدّ ذلك. أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أَنْ يَسْبِقُونا أم معادلة لقوله: أحسب الناس، والمراد بالذين يعملون السيئات الكفار، الذين يعذبون المؤمنين، ولفظها مع ذلك عام في كل كافر أو عاص، ومعنى يسبقونا: يفوتون من عقابنا ويعجزوننا، فمعنى الكلام نفي سبقهم. كما أن معنى الآية قبلها، نفي ترك المؤمنين بغير فتنة مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللَّهِ الآية: تسلية المؤمنين، ووعد لهم بالخير في الدار الآخرة، والرجاء هنا على بابه، وقيل: هو بمعنى الخوف، وأجل الله هو الموت، ومعنى الآية: من كان يرجو ثواب الله فليصبر في الدنيا، على المجاهدة في طاعة الله حتى يلقى الله، فيجازيه فإن لقاء الله قريب الإتيان، وكل ما هو آت قريب وَمَنْ جاهَدَ فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ أي منفعة جهاده فإنما هي لنفسه،

[سورة العنكبوت (29) : الآيات 17 إلى 24]

فإن الله لا تنفعه طاعة العباد، والجهاد هنا يحتمل أن يراد به القتال، أو جهاد النفس حُسْناً منصوب بفعل مضمر تقديره: ووصينا الإنسان أن يفعل بوالديه حسنا، أو مصدرا من معنى وصينا أي وصية حسنة وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي الآية نزلت في سعد بن أبي وقاص، وأنه لما أسلم حلفت أمه: أن لا تستظل بظل حتى يكفر، وقيل: نزلت في غيره ممن جرى له مثل ذلك، فأمرهم الله بالثبات على الإسلام، وألا يطيعوا الوالدين إذا أمروهم بالكفر، وعبّر عن أمر الوالدين بالجهاد مبالغة. وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ نزلت في قوم كانوا مؤمنين بألسنتهم، فإذا عذبهم الكفار رجعوا عن الإيمان، فإذا نصر الله المؤمنين قالوا: إنا كنا معكم، فمعنى أوذي في الله أوذي بسبب إيمانه بالله، وفتنة الناس، تعذيبهم، وقيل: نزلت في عياش بن أبي ربيعة أخي أبي جهل لأمه اتَّبِعُوا سَبِيلَنا أي قال الكفار للمؤمنين: اكفروا كما كفرنا، ونحمل نحن عنكم الإثم والعقاب إن كان، وروي أن قائل هذه المقالة الوليد بن المغيرة حكاه المهدوي، وقولهم: ولنحمل خطاياكم: جزاء قولهم: اتبعوا سبيلنا، ولكنهم ذكروه على وجه الأمر للمبالغة، ولما كان معنى الخبر صحة تكذيبهم فيه أخبره الله أنهم كاذبون: أي لا يحملون أوزار هؤلاء، بل يحملون أوزار أنفسهم وأوزار أتباعهم من الكفار. فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عاماً الظاهر أنه لبث هذه المدة بعد بعثه، ويحتمل أن يكون ذلك من أول ولادته، وروي أنه بعث وهو ابن أربعين سنة، وأنه عمر بعد الطوفان ثلاثمائة وخمسين سنة فإن قيل: لم قال ألف سنة، ثم قال إلا خمسين عاما؟ فاختلف اللفظ مع اتفاق المعنى؟ فالجواب أن ذلك كراهة لتكرار لفظ السنة، فإن التكرار مكروه إلا إذا قصد به تفخيم أو تهويل وَجَعَلْناها آيَةً يحتمل أن يعود الضمير على السفينة، أو على النجاة، أو على القصة بكمالها وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً هو من الخلقة يريد به

نحت الأصنام فسماه خلقة على وجه التجوّز، وقيل هو من اختلاق الكذب لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً الآية: احتجاج على الوحدانية ونفي الشركاء، فإن قيل: لم نكّر الرزق أولا، ثم عرّفه في قوله: فابتغوا عند الله الرزق؟ فالجواب: أنه نكره في قوله: لا يملكون لكم رزقا لقصد العموم في النفي، فإن النكرة في سياق النفي تقتضي العموم. ثم عرّفه بعد ذلك لقصد العموم في طلب الرزق كله من الله، لأنه لا يقتضي العموم، في سياق الإثبات إلا مع التعريف فكأنه قال: ابتغوا الرزق كله عند الله وَإِنْ تُكَذِّبُوا الآية يحتمل أن تكون من كلام إبراهيم أو من كلام الله تعالى، ويحتمل مع ذلك أن يراد به وعيد الكفار وتهديدهم، أو يراد به تسلية النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم عن تكذيب قومه له، بالتأسي بغيره من الأنبياء، الذين كذبهم قومهم. أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ يقال بدأ الله الخلق وأبدأه بمعنى واحد، وقد جاءت اللغتان في هذه السورة، والمعنى: أو لم ير الكفار أن الله خلق الخلق فيستدلون بالخلقة الأولى على الإعادة في الحشر، فقوله: ثم يعيده ليس بمعطوف على يبدأ، لأن المعنى فيهما مختلف، لأن رؤية البداءة بالمشاهدة، بخلاف الإعادة فإنها تعلم بالنظر والاستدلال، وإنما هو معطوف على الجملة كلها، وقد قيل: إنه يريد إعادة النبات، وإبدائه، وعلى هذا يكون ثم يعيده عطفا على يبدئ لاتفاق المعنى، والأول أحسن وأليق بمقاصد الكلام إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ يعني إعادة الخلق وهي حشرهم، ثم أمرهم بالسير في الأرض ليروا مخلوقات الله فيستدلوا بها على قدرته على حشرهم، ولذلك ختمها بقوله: إن الله على كل شيء قدير وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ أي ترجعون وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ أي لا تفوتون من عذاب الله وليس لكم مهرب في الأرض ولا في السماء أُولئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي يحتمل أن يكون يأسهم في الآخرة، أو يكون وصف لحالهم في الدنيا، لأن الكافر يائس من رحمة الله، والمؤمن راج خائف، وهذا الكلام من قوله: أو لم يروا، إلى هنا: يحتمل أن يكون خطابا لمحمد صلى الله عليه وسلم معترضا بين قصة إبراهيم، ويحتمل أن يكون

[سورة العنكبوت (29) : الآيات 25 إلى 36]

خطابا لإبراهيم وبعد ذلك ذكر جواب قومه له مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ نصب مودة على أنها مفعول من أجله أو مفعول ثان لاتخذتم، ورفعها «1» على أنها خبر ابتداء مضمر أو خبر إن، وتكون ما موصولة ونصب بينكم على الظرفية، وخفضه بالإضافة فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ تضمن آمن معنى انقاد، ولذلك تعدّى باللام وَقالَ إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي القائل لذلك إبراهيم، وقيل: لوط، وهاجرا من بلادهما بأرض بابل إلى الشام وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ أكثر الأنبياء من ذرية إبراهيم، وعلى ذريته أنزل الله التوراة والإنجيل والزبور والفرقان وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ قيل أراد قطع الطرق للسلب والقتل، وقيل: أراد قطع سبيل النسل بترك النساء وإتيان الرجال وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ النادي المجلس الذي يجتمع فيه الناس، والمنكر فعلهم بالرجال، وقيل: إذايتهم للناس وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى الرسل هنا الملائكة والبشرى بشارة إبراهيم بالولد وهو قوله: «فبشروه بغلام حليم» أو بشارته بنصر سيدنا لوط، والأول أظهر أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ يعني قرية سيدنا لوط، قالَ إِنَّ فِيها لُوطاً ليس إخبارا بأنه فيها، وإنما قصد نجاة سيدنا لوط من العذاب الذي يصيب أهل القرية، وبراءته من الظلم الذي وصفوه به، فكأنه قال: كيف تهلكون أهل القرية وفيها لوط، وكيف تقولون إنهم ظالمون وفيهم لوط مِنَ الْغابِرِينَ قد ذكر «2» وكذلك سيء بهم رِجْزاً مِنَ السَّماءِ أي عذابا وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ قيل: الرجاء هنا الخوف،

_ (1) . مودة: قرأها بالرفع أبو عمرو والكسائي. (2) . مر شرح الغابرين في سورة الأعراف: 83. وأيضا سيء في هود: 77.

[سورة العنكبوت (29) : الآيات 37 إلى 45]

وقيل: هو على بابه وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ يعني نقصهم المكيال والميزان الرَّجْفَةُ هي الصيحة وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَساكِنِهِمْ أي آثار مساكنهم باقية تدل على ما أصابهم وَكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ قيل: معناه لهم بصيرة في كفرهم وإعجاب به، وقيل: لهم بصيرة في الإيمان، ولكنهم كفروا عنادا، وقيل: معنى: مستبصرين عقلاء متمكنين من النظر والاستدلال، ولكنهم لم يفعلوا وَما كانُوا سابِقِينَ أي لم يفوتونا فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً الحاصب الحجارة، والحاصب أيضا الريح الشديدة، ويحتمل عندي أنه أراد به المعنيين، لأن قوم سيدنا لوط أهلكوا بالحجارة، وعاد أهلكوا بالريح، وإن حملناه على المعنى الواحد نقص ذكر الآخر، وقد أجاز كثير من الناس استعمال اللفظ الواحد في معنيين كقوله: «إن الله وملائكته يصلون على النبي» ويقوي ذلك هنا لأن المقصود هنا ذكر عموم أخذ أصناف الكفار وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ يعني ثمود ومدين وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ يعني قارون وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا يعني قوم نوح وفرعون وقومه مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً شبه الله الكافرين في عبادتهم للأصنام بالعنكبوت في بنائها بيتا ضعيفا، فكان ما اعتمدت عليه العنكبوت في بيتها ليس بشيء، فكذلك ما اعتمدت عليه الكفار من آلهتهم ليس بشيء لأنهم لا ينفعون ولا يضرون أَوْهَنَ الْبُيُوتِ أي أضعفها لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ أي لو كانوا يعلمون أن هذا مثلهم إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ ما موصولة بمعنى الذي مفعولة للفعل الذي قبلها وقيل: هي نافية، والفعل معلق عنها والمعنى على هذا: لستم تدعون من دون الله شيئا له بال، فلا يصلح أن يسمى شيئا بِالْحَقِّ أي بالواجب لا على وجه العبث واللعب. إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ إذا كان المصلي خاشعا في صلاته، متذكرا لعظمة من وقف بين يديه، حمله ذلك على التوبة من الفحشاء والمنكر فكأن الصلاة ناهية عن ذلك وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ قيل: فيه ثلاثة معان الأول أن المعنى أن الصلاة أكبر من

[سورة العنكبوت (29) : الآيات 46 إلى 48]

غيرها من الطاعات، وسماها بذكر الله، لأن ذكر الله أعظم ما فيها، كأنه أشار بذلك إلى تعليل نهيها عن الفحشاء والمنكر، لأن ذكر الله فيها هو الذي ينهى عن الفحشاء والمنكر: الثاني أن ذكر الله على الدوام أكبر في النهي عن الفحشاء والمنكر من الصلاة، لأنها في بعض الأوقات دون بعض: الثالث أن ذكر الله أكبر أجرا من الصلاة ومن سائر الطاعات، كما ورد في الحديث ألا أنبئكم بخير أعمالكم قالوا: بلى قال: ذكر الله «1» وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ أي لا تجادلوا كفار أهل الكتاب إذا اختلفتم معهم في الدين إلا بالتي هي أحسن، لا بضرب ولا قتال، وكان هذا قبل أن يفرض الجهاد، ثم نسخ بالسيف، ومعنى إلا الذين ظلموا: أي ظلموكم، وصرحوا بإذاية نبيكم محمد صلى الله عليه وسلم، وقيل: معنى الآية لا تجادلوا من أسلم من أهل الكتاب فيما حدثوكم به من الأخبار إلا بالتي هي أحسن، ومعنى إلا الذين ظلموا على هذا من بقي منهم على كفره، والمعنى الأول أظهر وَقُولُوا آمَنَّا هذا وما بعده يقتضي مواعدة ومسالمة، وهي منسوخة بالسيف، ويقتضي أيضا الأعراض عن مكالمتهم، وفي الحديث: لا تصدّقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم، وقولوا: آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم، فإن كان باطلا لم تصدقوهم، وإن كان حقا لم تكذبوهم «2» . وَكَذلِكَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ أي كما أنزلنا الكتاب على من قبلك أنزلناه عليك فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يعني عبد الله بن سلام وأمثاله، ممن أسلم من اليهود والنصارى وَمِنْ هؤُلاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ أراد بالذين أوتوا الكتاب أهل التوراة والإنجيل، وأراد بقوله: من هؤلاء من يؤمن به كفار قريش، وقيل: أراد بالذين أوتوا الكتاب المتقدّمين من أهل التوراة والإنجيل، وأراد بهؤلاء المعاصرين لمحمد صلى الله عليه وسلم منهم كعبد الله بن سلام وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ هذا احتجاج على أن القرآن من عند الله، لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يقرأ ولا يكتب، ثم جاء بالقرآن. فإن قيل: ما فائدة قوله بيمينك؟ فالجواب أن ذلك تأكيد للكلام، وتصوير للمعنى المراد إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ أي لو كنت تقرأ أو تكتب لتطرق الشك إلى الكفار، فكانوا يقولون: لعله تعلم هذا الكتاب أو قرأه، وقيل: وجه الاحتجاج أن أهل الكتاب كانوا يجدون في كتبهم أن النبي صلى الله عليه وسلم أمي لا يقرأ ولا يكتب، فلما جعله الله

_ (1) . رواه أحمد عن أبي الدرداء ج 6 ص 447. (2) . الحديث رواه أحمد عن أبي نملة الأنصاري ج 4 ص 136 وأوله: إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم.

[سورة العنكبوت (29) : الآيات 49 إلى 60]

كذلك قامت عليهم الحجة، ولو كان يقرأ أو يكتب لكان مخالفا للصفة التي وصفه الله بها عندهم، والمذهب الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقرأ قط ولا كتب. وقال الباجي وغيره: أنه كتب لظاهر حديث الحديبية، وهذا القول ضعيف بَلْ هُوَ آياتٌ الضمير للقرآن، والإضراب ببل عن كلام محذوف تقديره: ليس الأمر كما حسب الظالمون والمبطلون. أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ المعنى كيف يطلبون آية والقرآن أعظم الآيات، وأوضحها دلالة على صحة النبوة، فهلا اكتفوا به عن طلب الآيات قُلْ كَفى بِاللَّهِ ذكر معناه في [الرعد: 43] وفي الأنعام «1» وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ الضمير للكفار يعني قولهم: ائتنا بما تعدنا، وقولهم: فأمطر علينا حجارة من السماء وشبه ذلك وَلَوْلا أَجَلٌ مُسَمًّى أي لولا أن الله قدّر لعذابهم أجلا مسمى لجاءهم به حين طلبوه وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً يحتمل أن يريد القتل الذي أصابهم يوم بدر، أو الجوع الذي أصابهم بهم بتوالي القحط، أو يريد عذاب الآخرة، وهذا أظهر لقوله: وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ أي يحيط بهم، والعامل في الظرف محذوف، أو محيطة إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ تحريض على الهجرة من مكة، إذ كان المؤمنون يلقون فيها أذى الكفار، وترغيبا في غيرها من أرض الله، فحينئذ هاجروا إلى أرض الحبشة، ثم إلى المدينة لَنُبَوِّئَنَّهُمْ أي ننزلنهم وقرأ حمزة والكسائي: نثوينهم بالثاء المثلثة من الثوى وهو الإقامة في المنزل وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا أي: كم من دابة ضعيفة لا تقدر على حمل رزقها، ولكن الله يرزقها مع ضعفها، والقصد بالآية: تقوية لقلوب المؤمنين، إذ خافوا الفقر والجوع في الهجرة إلى بلاد الناس: أي كما يرزق الله الحيوانات الضعيفة كذلك يرزقكم إذا

_ (1) . لم أعشر عليها فب الأنعام، وربما كان هناك خطأ في اسم السورة لأنه ذكرها بعد الرعد ولعل الصواب: الإسراء: 96.

[سورة العنكبوت (29) : الآيات 61 إلى 69]

هاجرتم من بلدكم وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ في الموضعين: إقامة حجة عليهم فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ أي كيف يصرفون عن الحق. قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ حمدا لله على ظهور الحجة، ويكون المعنى إلزامهم أن يحمدوا الله لما اعترفوا أنه خلق السموات والأرض بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ إضراب عن كلام محذوف تقديره: يجب عليهم أن يعبدوا الله لما اعترفوا به ولكنهم لا يعقلون لَهِيَ الْحَيَوانُ أي الحياة الدائمة التي لا موت فيها، ولفظ الحيوان مصدر كالحياة فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ الآية: إقامة حجة عليهم بدعائهم حين الشدائد، ثم يشركون به في حال الرخاء. لِيَكْفُرُوا «1» أمر على وجه التهديد، أو على وجه الخذلان والتخلية، كما تقول لمن تنصحه فلا يقبل نصحك: اعمل ما شئت أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً الضمير لكفار قريش، والحرم الآمن: مكة، لأنها كانت لا تغير عليها العرب كما تغير على سائر البلاد، ولا ينتهك أحد حرمتها وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ عبارة عما يصيب غير أهل مكة من القتال أو أخذ الأموال وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا يعني: جهاد النفس من الصبر على إذاية الكفار واحتمال الخروج عن الأوطان وغير ذلك، وقيل: يعني القتال، وذلك ضعيف لأن القتال لم يكن مأمورا به حين نزول الآية لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا أي لنوفقنهم لسبيل الخير وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ المعنى أنه معهم بإعانته ونصره.

_ (1) . اللام في ليكفروا: قرأها ابن كثير وحمزة والكسائي وقالون قرءوها بالسكون أي جعلوها لام الأمر. وكذلك قوله: وليتمتعوا. وقرأ نافع وأبو عمرو وعاصم وابن عامر بكسر اللام فب الكلمتين، وجعلوها لام كي. وقد رجح الطبري القراءة الأولى من باب التهديد والوعيد.

سورة الروم

سورة الروم مكية إلا آية 17 فمدنية وآياتها 60 نزلت بعد الانشقاق بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (سورة الروم) الم، غُلِبَتِ الرُّومُ أي هزم كسرى ملك الفرس جيش ملك الروم، وسميت الروم باسم جدهم وهو روم بن عيصو بن إسحاق بن إبراهيم «1» فِي أَدْنَى الْأَرْضِ قيل: هي الجزيرة، وهي بين الشام والعراق وهي أدنى أرض الروم إلى فارس، وقيل في أدنى أرض العرب منهم وهي أطراف الشام وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ إخبار بأن الروم سيغلبون الفرس فِي بِضْعِ سِنِينَ البضع ما بين الثلاث إلى التسع وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ روي أن غلب الروم فارس وقع يوم بدر، وقيل: يوم الحديبية ففرح المؤمنون بنصر الله لهم على كفار قريش وقيل: فرح المؤمنون بنصر الروم على الفرس، لأن الروم أهل كتاب فهم أقرب إلى الإسلام، كذلك فرح الكفار من قريش بنصر الفرس على الروم، لأن الفرس ليسوا بأهل كتاب، فهم أقرب إلى كفار قريش، وروي أنه لما فرح الكفار بذلك خرج إليهم أبو بكر الصديق رضي الله عنه، فقال: إن نبينا صلى الله عليه وسلم قد أخبرنا عن الله تعالى أنهم سيغلبون، وراهنهم على عشرة قلاص [القلاص مفردها: قلوص وهي الناقة الشابة] إلى ثلاث سنين، وذلك قبل أن يحرم القمار، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: زدهم في الرهن واستزدهم في الأجل، فجعل القلاص مائة، والأجل تسعة أعوام، وجعل معه أبيّ بن خلف مثل ذلك، فلما وقع الأمر على ما أخبر به أخذ أبو بكر القلاص من ذرية أبيّ بن خلف، إذ كان قد مات وجاء بها إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: تصدق بها وَعْدَ اللَّهِ مصدر مؤكد كقوله: له علي ألف درهم عرفا، لأن معناه اعترفت له بها اعترافا. يَعْلَمُونَ ظاهِراً قيل: معناه يعلمون ما يدرك بالحواس دون ما يدرك بالعقول فهم في

_ (1) . هذه مقولة لا سند لها. فالروم أمة عظيمة بل مجموعة من الأمم لا تدرى نسبتها على التحقيق والله أعلم. وقد جاء في كتاب جمهرة أنساب العرب لابن حزم تفنيد هذا الحطأ انظر ص 511 حيث يقول: وكان لإسحاق عليه السلام ابن آخر غير يعقوب واسمه عيصاب، كان بنوه يسكنون جبال الشراة التي بين الشام والحجاز. وقد بادوا جملة. إلا أن قوما يذكرون أن الروم من ولده وهذا خطأ ... لأن الروم إنما أنساب إلى روفلس باني رومه.. إلخ.

ذلك مثل البهائم، وقيل: الظاهر ما يعلم بالنظر بأوائل العقول، والباطن ما يعلم بالنظر والدليل، وقيل: هو من الظهور بمعنى العلو في الدنيا، وقيل: ظاهر بمعنى زائل ذاهب، والأظهر أنه أراد بالظاهر المعرفة بأمور الدنيا ومصالحها، لأنه وصفهم بعد ذلك بالغفلة عن الآخرة، وذلك يقتضي عدم معرفتهم بها، وانظر كيف نفى العلم عنهم أولا، ثم أثبت لهم العلم بالدنيا خاصة، وقال بعض أهل البيان: إن هذا من المطابقة لاجتماع النفي والإثبات، وجعل بعضهم العلم المثبت كالعدم لقلة منفعته، فهو على هذا بيان للنفي أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ يحتمل معنيين: أحدهما أن تكون النفس ظرفا للفكرة في خلق السموات والأرض كأنه قال: أو لم يتفكروا بعقولهم فيعلموا أن الله ما خلق السموات والأرض إلا بالحق، والثاني أي يكون المعنى أو لم يتفكروا في ذواتهم وخلقتهم ليستدلوا بذلك على الخالق، ويكون قوله: ما خلق الآية: استئناف كلام، والمعنى الأول أظهر وَأَثارُوا الْأَرْضَ أي حرثوها ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى معنى السوءى: هلاك الكفار، ولفظ السوءى تأنيث الأسوأ: كما أن الحسنى تأنيث الأحسن، وقرأ [أهل الحجاز والبصرة] عاقبة بالرفع على أنه اسم كان، والسوءى خبرها، وقرئ «1» بنصب عاقبة على أنها خبر كان، والسوءى اسمها، وأن كذبوا مفعول من أجله، ويحتمل أن تكون السوءى مصدر أساءوا يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ الإبلاس الكون في شر مع اليأس من الخير يَتَفَرَّقُونَ معناه في المنازل والجزاء تُحْبَرُونَ تنعمون من الحبور وهو السرور والنعيم، وقيل: تكرمون. فَسُبْحانَ اللَّهِ هذا تعليم للعباد أي: قولوا سبحان الله حين تمسون وحين تصبحون وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ أي حين تدخلون في وقت الظهيرة وهي وسط النهار، وقوله: وله الحمد في السموات والأرض: اعتراض بين المعطوفات وقيل: أراد بذلك الصلوات الخمس، فحين تمسون: المغرب والعشاء، وحين تصبحون: الصبح، وعشيا: العصر، وحين تظهرون الظهر يُخْرِجُ الْحَيَّ ذكر في آل عمران وَيُحْيِ الْأَرْضَ أي ينبت فيها النبات وَكَذلِكَ تُخْرَجُونَ

_ (1) . وقرأ أهل الكوفة والشام.

[سورة الروم (30) : الآيات 20 إلى 28]

أي كما يخرج الله النبات من الأرض، كذلك يخرجكم من الأرض للبعث يوم القيامة تَنْتَشِرُونَ أي تنصرفون في الدنيا مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً أي صنفكم وجنسكم، قيل أراد خلقة حواء من ضلع آدم، وخاطب الناس بذلك لأنهم ذرية آدم مَوَدَّةً وَرَحْمَةً قيل: بسبب المصاهرة، والعموم أحسن وأبلغ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ أي لغاتكم وَأَلْوانِكُمْ «1» يعني البياض والسواد، وقيل: يعني أصنافكم، والأول أظهر. خَوْفاً وَطَمَعاً ذكر في الرعد: 12 أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ معناه تثبت أو يقوم تدبيرها ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ إذا الأولى شرطية، والثانية فجائية وهي جواب الأولى، والدعوة في هذه الآية قوله للموتى: قوموا بالنفخة الثانية في الصور، ومن الأرض يتعلق بقوله مخرجون أو بقوله دعاكم، على أن تكون الغاية بالنظر إلى المدعوّ كقولك: دعوتك من الجبل إذا كان المدعو في الجبل قانِتُونَ ذكر في [البقرة: 116] وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ أي الإعادة يوم القيامة أهون عليه من الخلقة الأولى، وهذا تقريب لفهم السامع وتحقيق للبعث، فإن من صنع صنعة أول مرة كانت أسهل عليه ثاني مرة، ولكن الأمور كلها متساوية عند الله، فإن كل شيء على الله يسير وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى أي الوصف الأعلى الذي يصفه به أهل السموات والأرض هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ شُرَكاءَ هذا هو المثل المضروب معناه: أنكم أيها الناس لا يشارككم عبيدكم في أموالكم، ولا يستوون معكم في أحوالكم، فكذلك الله تعالى لا يشارك عبيده في ملكه، ولا يماثله أحد في ربوبيته، فذكر حرف الاستفهام ومعناه: التقرير على النفي، ودخل في النفي قوله: فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ تَخافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ: أي لستم في أموالكم سواء مع عبيدكم، ولستم تخافونهم

_ (1) . قوله سبحانه في هذه الآية لِلْعالِمِينَ قرأها حفص بكسر اللام أي للعلماء وقرأها الباقون للعالمين: بفتح اللام أي للناس.

[سورة الروم (30) : الآيات 29 إلى 33]

كما تخافون الأحرار مثلكم، لأن العبيد عندكم أقل وأذل من ذلك بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْواءَهُمْ الإضراب ببل عما تضمنه معنى الآية المتقدمة كأنه يقول: ليس لهم حجة في إشراكهم بالله بل اتبعوا في ذلك أهواءهم بغير علم فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ هو دين الإسلام، وإقامة الوجه في الموضعين من السورة عبارة عن الإقبال عليه والإخلاص فيه في قوله: أقم، والقيم ضرب من ضروب التجنيس فِطْرَتَ اللَّهِ منصوب على المصدر: كقوله: صبغة الله أو مفعولا بفعل مضمر تقديره: الزموا فطرة الله، أو عليكم فطرة الله، ومعناه خلقة الله، والمراد به دين الإسلام، لأن الله خلق الخلق عليه، إذ هو الذي تقتضيه عقولهم السليمة، وإنما كفر من كفر لعارض أخرجه عن أصل فطرته، كما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهوّدانه أو ينصرانه «1» . لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ يعني بخلق الله الفطرة التي خلق الناس عليها من الإيمان، ومعنى أن الله لا يبدلها، أي لا يخلق الناس على غيرها، ولكن يبدلها شياطين الإنس والجن بعد الخلقة الأولى، أو يكون المعنى أن تلك الفطرة لا ينبغي للناس أن يبدلوها، فالنفي على هذا حكم لا خبر وقيل: إنه على الخصوص في المؤمنين أي لا تبديل لفطرة الله في حق من قضى الله أنه يثبت على إيمانه، وقيل: إنه نهى عن تبديل الخلقة كخصاء الفحول من الحيوان، وقطع آذانها وشبه ذلك مُنِيبِينَ إِلَيْهِ منصوب على الحال من قوله: أقم وجهك لأن الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، والمراد هو وأمته، ولذلك جمعهم في قوله منيبين، وقيل: هو حال من ضمير الفاعل المستتر في الزموا فطرة الله، وقيل: هو حال من قوله: فطر الناس وهذا بعيد وَاتَّقُوهُ وما بعده معطوف على أقم وجهك أو على العامل في فطرة الله وهو الزموا المضمر مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ المجرور بدل من المجرور قبله، ومعنى فرقوا دينهم: جعلوه فرقا أي اختلفوا فيه، وقرئ: فارقوا من المفارقة أي تركوه، والمراد بالمشركين هنا أصناف الكفار، وقيل: هم المسلمون الذي تفرقوا فرقا مختلفة، وفي لفظ المشركين هنا تجوّز بعيد، ولعل قائل هذا القول إنما قاله في قول الله في [الأنعام: 159] «إن الذين فرقوا دينهم» فإنه ليس هناك ذكر المشركين وَإِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ بالآية: إنحاء على المشركين، لأنهم يدعون الله في

_ (1) . أخرجه أحمد من حديث أبي هريرة ج 2 ص 275.

[سورة الروم (30) : الآيات 34 إلى 40]

الشدائد ويشركون به في الرخاء لِيَكْفُرُوا ذكر في [النحل: 55] أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً أم هنا منقطعة بمعنى بل، والسلطان الحجة، وكلامه مجاز كما تقول نطق: بكذا، والمعنى ليس لهم حجة تشهد بصحة شركهم وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً إنحاء على من يفرح ويبطر إذا أصابه الخير، ويقنط إذا أصابه الشر، وانظر كيف قال هنا إذا، وقال في الشر إن تصبهم سيئة، لأن إذا للقطع بوقوع الشرط، بخلاف إن فإنها للشك في وقوعه، ففي ذلك إشارة إلى أن الخير الذي يصيب به عباده أكثر من الشرّ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ المعنى أن ما يصيب الناس من المصائب، فإنه بسبب ذنوبهم فَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ يعني صلة رحم القرابة بالإحسان والمودّة، ولو بالكلام الطيب. وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ الآية: معناها كقوله يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ [البقرة: 27] أي ما أعطيتم من أموالكم على وجه الربا فلا يزكو عند الله، وما آتيتم من الصدقات: فهو الذي يزكو عند الله وينفعكم به، وقيل: المراد أن يهب الرجل للرجل أو يهدي له ليعوض له أكثر من ذلك، فهذا وإن كان جائزا فإنه لا ثواب فيه. وقرئ «وما آتيتم» بالمد بمعنى أعطيتم «1» وبالقصر يعني: جئتم أي فعلتموه، [وقرأ نافع] لتربوا بالتاء المضمومة [والباقون] ليربوا بالياء مفتوحة ونصب الواو فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ المضعف ذو الإضعاف من الحسنات، وفي هذه الجملة التفات لخروجه من الغيبة إلى الخطاب، وكان الأصل أن يقال: وما آتيتم من زكاة فأنتم المضعفون، وفيه أيضا حذف، لأنه لا بد من ضمير يرجع إلى ما، وتقديره المضعفون به أو فمؤتوه هم المضعفون. ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ «2» قيل: البر البلاد البعيدة من البحر، والبحر هو البلاد التي على ساحل البحر، وقيل: البر اللسان والبحر القلب وهذا ضعيف، والصحيح أن البر والبحر المعروفان، فظهور الفساد في البر بالقحط والفتن وشبه ذلك، وظهور الفساد في البحر بالغرق وقلة الصيد وكساد التجارات وشبه ذلك، وكل ذلك بسبب ما يفعله الناس من

_ (1) . هي قراءة جميع القراء ما عدا ابن كثير الذي قرأها: أتيتم. (2) . هذا من إعجاز القرآن فقد ظهر الفساد بجميع صورة في البر والبحر مما لم يكن في عصر المؤلف. [.....]

الكفر والعصيان لا مَرَدَّ لَهُ أي لا رجوع له ولا بد من وقوعه مِنَ اللَّهِ يتعلق بقوله: يأتي أو بقوله لا مردّ له أي لا يرده الله يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ من الصدع وهو الفرقة أي يتفرقون: فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ، وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ [الشورى: 7] فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ أي يوطنون وهو استعارة من تمهيد الفراش ونحوه، والمعنى أنهم يعملون ما ينتفعون به في الآخرة لِيَجْزِيَ يتعلق بيمهدون أو يصدعون، أو بمحذوف مُبَشِّراتٍ أي تبشر بالمطر وَلِيُذِيقَكُمْ عطف على مبشرات كأنه قال: ليبشركم وليذيقكم ويحتمل أن يتعلق بمحذوف تقديره: ليذيقكم مِنْ رَحْمَتِهِ أرسلها كانَ حَقًّا انتصب حقا لأنه خبر كان واسمها نصر المؤمنين، وقيل: اسمها مضمر يعود على مصدر انتقمنا: أي وكان الانتقام حقا، فعلى هذا يوقف على حقا ويكون نصر المؤمنين مبتدأ وهذا ضعيف. فَتُثِيرُ سَحاباً أي تحركها وتنشرها كِسَفاً أي قطعا، وقرئ بإسكان السين وهما بناءان للجمع، وقيل: معنى الإسكان أن السحاب قطعة واحدة الْوَدْقَ هو المطر مِنْ خِلالِهِ الخلال الشقاق الذي بين بعضه وبعض، لأنه متخلل الأجزاء والضمير يعود على السحاب مِنْ قَبْلِهِ كرر للتأكيد وليفيد سرعة تقلب قلوب الناس من القنوط إلى الاستبشار لَمُبْلِسِينَ أي قانطين كقوله: ينزل الغيث من بعد ما قنطوا فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا الضمير للنبات الذي ينبته الله بالمطر، والمعنى لئن أرسل الله ريحا فاصفر به النبات لكفر الناس بالقنوط والاعتراض على الله، وقيل: الضمير للريح، وقيل: للسحاب والأول أحسن في المعنى فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى الآية: استعارة في عدم سماع الكفار للمواعظ والبراهين، فشبه الكفار بالموتى في عدم إحساسهم خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ الضعف الأول كون الإنسان من

[سورة الروم (30) : الآيات 55 إلى 60]

ماء مهين، وكونه ضعيف في حال الطفولية، والضعف الثاني الأخير الهرم، وقرئ «1» بفتح الضاد وضمها وهما لغتان. ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ هذا جواب القسم، ومعناه أنهم يحلفون أنهم ما لبثوا في القبور تحت التراب إلا ساعة، أي ما لبثوا في الدنيا إلا ساعة، وذلك لاستقصار تلك المدّة كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ أي مثل هذا الصرف كانوا يصرفون في الدنيا عن الصدق، والتحقيق حتى يروا الأشياء على ما هي عليه وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ هم الملائكة والأنبياء والمؤمنون ردّوا مقالة الكفار التي حلفوا عليها فِي كِتابِ اللَّهِ يعني اللوح المحفوظ أو علم الله، والمجرور على هذا يتعلق بقوله: لبثتم، وقيل: يعني القرآن، فعلى هذا يتعلق هذا المجرور بقوله أوتوا العلم، وفي الكلام تقديم وتأخير، وتقديره على هذا: قال الذين أوتوا العلم في كتاب الله أي العلماء بكتاب الله وقولهم: لقد لبثتم: خطاب للكفار، وقولهم: فهذا يوم البعث: تقرير لهم، وهو في المعنى جواب لشرط مقدّر تقديره: إن كنتم تنكرون البعث فهذا يوم البعث وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ من العتبى بمعنى الرضا: أي ولا يرضون وليست استفعل هنا للطلب إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ يعني ما وعد من النصر على الكفار وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ من الخفة: أي لا تضطرب لكلامهم.

_ (1) . قرأ عاصم وحمزة: ضعف بالفتح. وقرأها الباقون بالرفع: ضعف.

سورة لقمان

سورة لقمان مكية إلا الآيات 27 و 28 و 29 فمدنية وآياتها 34 نزلت بعد الصافات بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (سورة لقمان) الْكِتابِ الْحَكِيمِ ذكر في يونس وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ هو الغناء، وفي الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «1» : شراء المغنيات وبيعهنّ حرام، وقرأ هذه الآية، وقيل: نزلت في قرشي اشترى جارية مغنية تغني بهجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالشراء على هذا حقيقة، وقيل: نزلت في النضر بن الحارث، وكان قد تعلم أخبار فارس، فذلك هو لهو الحديث، وشراء لهو الحديث استحبابه وسماعه، فالشراء على هذا مجاز، وقيل لهو الحديث: الطبل، وقيل: الشرك، ومعنى اللفظ يعم ذلك كله، وظاهر الآية أنه لهو مضاف إلى الكفر بالدين واستخفاف، لقوله تعالى: لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ الآية، وأن المراد شخص معين، لوصفه بعد ذلك بجملة أوصاف بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها ذكر في [الرعد: 2] أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ أي لئلا تميد بكم. لُقْمانَ رجل ينطق بالحكمة واختلف هل هو نبيّ أم لا؟ وفي الحديث لم يكن لقمان نبيا، ولكن كان عبدا حسن اليقين أحب الله فأحبه، فمنّ عليه بالحكمة، روي أنه كان

_ (1) . روى الترمذي الحديث بمعناه عن أبي أمامة كتاب البيوع ج 3 باب 51 ونصه: لا تبيعوا القينات ولا تشتروهن ولا تعلّموهن ولا خير في تجارة فيهن وثمنهن حرام.

[سورة لقمان (31) : الآيات 19 إلى 28]

ابن أخت أيوب أو ابن خالته، وروي أنه كان قاضي بني إسرائيل، واختلف في صناعته، فقيل: كان نجارا وقيل: خياطا، وقيل: راعي غنم، وكان ابنه كافرا فما زال يوصيه حتى أسلم، وروي أن اسم ابنه ثاران وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ هذه الآية والتي بعدها اعتراض في أثناء وصية لقمان لابنه على وجه التأكيد لما في وصية لقمان من النهي عن الشرك بالله، ونزلت الآية في سعد بن أبي وقاص وأمه حسبما ذكرنا في العنكبوت حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ أي ضعفا على ضعف، لأن الحمل كلما عظم ازدادت الحامل به ضعفا، وانتصاب وهنا بفعل مضمر تقديره: تهن وهنا وَفِصالُهُ أي فطامه، وأشار بذلك إلى غاية مدة الرضاع أَنِ اشْكُرْ تفسير للوصية واعترض بينها وبين تفسيرها بقوله: وفصاله في عامين ليبين ما تكابده الأم بالولد مما يوجب عظيم حقها، ولذلك كان حقها أعظم من حق الأب. يا بُنَيَّ الآية: رجع إلى كلام لقمان، والتقدير: وقال لقمان يا بنيّ «1» مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أي وزنها، والمراد بذلك أن الله يأتي بالقليل والكثير، من أعمال العباد فعبّر بحبة الخردل ليدل على ما هو أكثر فِي صَخْرَةٍ قيل: معنى الكلام أن مثقال خردلة من الأعمال أو من الأشياء ولو كانت في أخفى موضع كجوف صخرة، فإن الله يأتي بها يوم القيامة، وكذلك لو كانت في السموات أو في الأرض وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ أمر بالصبر على المصائب عموم، وقيل: المعنى ما يصيب من يأمر بمعروف أو ينهى عن منكر مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ يحتمل أن يريد مما أمر الله به على وجه العزم والإيجاب، أو من مكارم الأخلاق التي يعزم عليها أهل الحزم والجد، ولفظ العزم مصدر يراد به المفعول أي: من معزومات الأمور وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ «2» الصعر في اللغة: الميل أي لا تول الناس خدك وتعرض عنهم تكبرا عليهم مَرَحاً ذكر في [الإسراء: 37] مُخْتالًا من الخيلاء وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ أي اعتدل فيه ولا تتسرع

_ (1) . يا بني قرأ حفص بفتح الياء وقرأ نافع وغيره: يا بني بكسر الياء. ومثقال: قرأها نافع بالضم والباقون بالفتح. (2) . تصعّر قرأها نافع وآخرون: تصاعر.

إسراعا يدل على الطيش والخفة، ولا تبطئ إبطاء يدل على الفخر والكبر نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً الظاهرة: الصحة والمال وغير ذلك، والباطنة: النعم التي لا يطلع عليها الناس، ومنها ستر القبيح من الأعمال، وقيل: الظاهرة نعم الدنيا، والباطنة: نعم العقبى، واللفظ أعم من ذلك كله. وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ نزلت في النضر بن الحارث وأمثاله أَوَلَوْ كانَ الشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ معناه أيتبعونهم ولو كان الشيطان يدعوهم إلى النار وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ يسلم أي يخلص أو يستسلم أو ينقاد، والوجه هنا عبارة عن القصد بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى ذكر في البقرة قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وما بعده ذكر في العنكبوت. وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ الآية إخبار بكثرة كلمات الله، والمراد اتساع علمه ومعنى الآية: أن شجر الأرض لو كانت أقلاما، والبحر لو كان مدادا يصب فيه سبعة أبحر صبّا دائما وكتبت بذلك كلمات الله لنفدت الأشجار والبحار ولم تنفد كلمات الله، لأن الأشجار والبحار متناهية، وكلمات الله غير متناهية، فإن قيل: لم لم يقل والبحر مدادا كما قال في الكهف قل لو كان البحر مدادا؟ فالجواب: أنه أغنى عن ذلك قوله: يمدّه لأنه من قولك مدّ الدواة وأمدّها، فإن قيل لم قال: من شجرة ولم يقل من شجر باسم الجنس الذي يقتضي العموم؟ فالجواب أنه أراد تفصيل الشجر إلى شجرة شجرة حتى لا يبقى منها واحدة، فإن قيل: لم قال كلمات الله ولم يقل كلم الله بجمع الكثرة؟ فالجواب أن هذا أبلغ لأنه إذا لم تنفد الكلمات مع أنه جمع قلة، فكيف ينفد الجمع الكثير. وروي أن سبب الآية أن اليهود قالوا: قد أوتينا التوراة وفيها العلم كله فنزلت الآية لتدل أن ما عندهم قليل من كثير، والآية على هذا مدنية، وقيل: إن سببها أن قريشا قالوا إن القرآن سينفد. ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ بيان لقدرة الله على بعث الناس وردّ على

[سورة لقمان (31) : الآيات 29 إلى 34]

من استبعد ذلك يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ أي يدخل كلا منهما في الآخر بما يزيد في أحدهما وينقص من الآخر، أو بإدخال ظلمة الليل على ضوء النهار وإدخال ضوء النهار على ظلمة الليل إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى يعني يوم القيامة ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يحتمل أن تكون الباء سببية، أو يكون المعنى ذلك بأن الله شاهد هو الحق بِنِعْمَتِ اللَّهِ يحتمل أن يريد بذلك ما تحمله السفن من الطعام والتجارات، والباء للإلصاق أو للمصاحبة، أو يريد الريح فتكون الباء سببية صَبَّارٍ شَكُورٍ مبالغة في صابر وشاكر كَالظُّلَلِ جمع ظلة وهو ما يعلوك من فوق، شبّه الموج بذلك إذا ارتفع وعظم حتى علا فوق الإنسان فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ المقتصد المتوسط في الأمر، فيحتمل أن يريد كافرا متوسطا في كفره لم يسرف فيه أو مؤمنا متوسطا في إيمانه، لأن الإخلاص الذي عليه في البحر كان يزول عنه، وقيل: معنى مقتصد مؤمن ثبت في البر على ما عاهد الله عليه في البحر خَتَّارٍ أي غدّار شديد الغدر، وذلك أنه جحد نعمة الله غدرا لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ أي لا يقضي عنه شيئا، والمعنى: أنه لا ينفعه ولا يدفع عنه مضرة وَلا مَوْلُودٌ أي ولد فكما لا يقدر الوالد لولده على شيء، كذلك لا يقدر الولد لوالده على شيء الْغَرُورُ الشيطان وقيل: الأمل والتسويف عِلْمُ السَّاعَةِ أي متى تكون، فإن ذلك مما انفرد الله بعلمه، ولذلك جاء في الحديث: مفاتح الغيب خمس «1» وتلا هذه الآية ماذا تَكْسِبُ غَداً يعني من خير أو شر أو مال أو ولد أو غير ذلك.

_ (1) . أورده المناوي في التيسير ولفظه: مفاتيح الغيب خمس وعزاه للبخاري وأحمد عن عبد الله بن عمر.

سورة السجدة

سورة السجدة مكية إلا من آية 16 إلى غاية 20 فمدنية وآياتها 30 نزلت بعد المؤمن بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (سورة السجدة) تَنْزِيلُ الْكِتابِ يعني القرآن لا رَيْبَ فِيهِ أي لا شك أنه من عند الله عز وجل، ونفي الريب على اعتقاد أهل الحق، وعلى ما هو الأمر في نفسه، لا على اعتقاد أهل الباطل مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ يتعلق بتنزيل أَمْ يَقُولُونَ الضمير لقريش وأم بمعنى بل، والهمزة لِتُنْذِرَ يتعلق بما قبله أو بمحذوف ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ يعني من الفترة من زمن عيسى، وقد جاء الرسل قبل ذلك إبراهيم وغيره، ولما طالت الفترة على هؤلاء أرسل الله رسولا ينذرهم ليقيم الحجة عليهم اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ قد ذكر في [الأعراف: 53] ما لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ نفي الشفاعة على وجهين أحدهما الشفاعة للكفار وهي معدومة على الإطلاق، والآخر: أن الشفاعة للمؤمنين لا تكون إلا بإذن الله كقوله: ما مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ [يونس: 3] يُدَبِّرُ الْأَمْرَ أي واحد الأمور، وقيل: المأمور به من الطاعات، والأول أصح مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ أي ينزل ما دبره وقضاه من السماء إلى الأرض ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ قال ابن عباس: المعنى ينفذ الله ما قضاه من السماء إلى الأرض، ثم يعرج إليه خبر ذلك في يوم من أيام الدنيا مقداره لو سير فيه السير المعروف من البشر ألف سنة لأن ما بين السماء والأرض خمسمائة عام، فالألف ما بين نزول الأمر إلى الأرض وعروجه إلى السماء، وقيل: إن الله يلقى إلى الملائكة أمور ألف سنة من أعوام البشر وهو يوم من أيام الله، فإذا فرغت ألقى إليهم مثلها، فالمعنى أن الأمور تنفذ عنده لهذه المدّة، ثم تصير إليه آخرا لأن عاقبة الأمور إليه، فالعروج على هذا عبارة عن مصير الأمور إليه عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الغيب ما غاب عن

[سورة السجده (32) : الآيات 7 إلى 18]

المخلوقين، والشهادة ما شاهدوه أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ أي أتقن جميع المخلوقات، وقرئ [خلقه] بإسكان اللام على البدل وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ يعني آدم عليه السلام نَسْلَهُ يعني ذريته مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ يعني المنيّ، والسلالة مشتقة من سل يسل، فكأن الماء يسل من الإنسان، والمهين الضعيف ثُمَّ سَوَّاهُ أي قوّمه وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ عبارة عن إيجاد الحياة فيه، وأضيفت الروح إلى الله إضافة ملك إلى ملك، وقد يراد بها الاختصاص، لأن الروح لا يعلم كنهه إلى الله أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أي تلفنا وصرنا ترابا، ومعنى هذا الكلام المحكي عن الكفار استبعاد البعث، والعامل في إذا معنى قولهم: إنا لفي خلق جديد تقديره: نبعث يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ اسمه عزرائيل وتحت يده ملائكة وَلَوْ تَرى يحتمل أن تكون لو للتمني، وتأويله في حق الله كتأويل الترجي، وقد ذكر، أو تكون للامتناع وجوابها محذوف تقديره: ولو ترى حال المجرمين في الآخرة لرأيت أمرا مهولا ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عبارة عن الذل والغم والندم رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا تقديره: يقولون ربنا قد علمنا الحقائق لَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها يعني أنه لو أراد أن يهدي جميع الخلائق لفعل، فإنه قادر على ذلك بأن يجعل الإيمان في قلوبهم ويدفع عنهم الشيطان والشهوات، ولكن يضل من يشاء ويهدي من يشاء فَذُوقُوا بِما نَسِيتُمْ أي يقال لهم: ذوقوا، والنسيان هنا بمعنى الترك. تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ أي ترتفع والمعنى يتركون مضاجعهم بالليل من كثرة صلاتهم النوافل، ومن صلى العشاء والصبح في جماعة فقد أخذ بحظه من هذا فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ يعني: أنه لا يعلم أحد مقدار ما يعطيهم الله من النعيم وقرأ حمزة أخفي بإسكان الياء على أن يكون فعل المتكلم وهو الله تعالى أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً الآية: يعني المؤمنين والفاسقين على العموم، وقيل: يعني عليّ بن أبي طالب

[سورة السجده (32) : الآيات 19 إلى 26]

وعقبة بن أبي معيط ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ الذي نعت بالعذاب، ولذلك أعاد عليه الضمير المذكور في قوله به، فإن قيل: لم وصف هنا العذاب وأعاد عليه الضمير، ووصف في سبأ النار وأعاد عليها الضمير، وقال عذاب النار التي كنتم بها تكذبون؟ فالجواب من ثلاثة أوجه: الأول أنه خص العذاب في السجدة بالوصف اعتناء به لما تكرر ذكره في قوله: ولنذيقنهم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر، والثاني: أنه قدم في السجدة ذكر النار، فكان الأصل أن يذكرها بعد ذلك بلفظ الضمير، لكنه جعل الظاهر مكان المضمر فكما لا يوصف المضمر لم يوصف ما قام مقامه وهو النار، ووصف العذاب ولم يصف النار، الثالث وهو الأقوى أنه امتنع في السجدة وصف النار فوصف العذاب، وإنما امتنع وصفها لتقدم ذكرها، فإنك إذا ذكرت شيئا ثم كررت ذكره لم يجز وصفه، كقولك: رأيت رجلا فأكرمت الرجل، فلا يجوز وصفه لئلا يفهم أنه غيره. وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى يعني الجوع ومصائب الدنيا وقيل: القتل يوم بدر، وقيل: عذاب القبر وهذا بعيد لقوله «لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ» إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ هذا وعيد لمن ذكّر بآيات ربه فأعرض عنها، وكان الأصل أن يقول: إنا منه منتقمون، ولكنه وضع المجرمين موضع المضمر ليصفهم بالإجرام، وقدّم المجرور في منتقمون للمبالغة فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقائِهِ المرية الشك، والضمير لموسى: أي لا تمتر في لقائك موسى ليلة الإسراء وقيل: المعنى لا تشك في لقاء موسى، والكتاب الذي أنزل عليه، والكتاب على هذا التوراة، وقيل: الكتاب هنا جنس، والمعنى: لقد آتينا موسى الكتاب فلا تشك أنت في لقائك الكتاب الذي أنزل عليك، وعبر باللقاء عن إنزال الكتاب كقوله: «وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ» [النمل: 6] يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ الضمير لجميع الخلق، وقيل: لبني إسرائيل خاصة أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ ذكر في [طه: 128] يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ الضمير في يمشون لأهل مكة: أي يمشون في مساكن القوم المهلكين: كقوله وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَساكِنِهِمْ [العنكبوت: 38] وقيل: الضمير للمهلكين: أي أهلكناهم وهم يمشون في

[سورة السجده (32) : الآيات 27 إلى 30]

مساكنهم، والأول أحسن، لأن فيه حجة على أهل مكة الْأَرْضِ الْجُرُزِ يعني التي لا نبات فيها من شدّة العطش مَتى هذَا الْفَتْحُ أي الحكم بين المسلمين والكفار في الآخرة، وقيل: يعني فتح مكة، وهذا بعيد لقوله قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمانُهُمْ وذلك في الآخرة، وقيل: يعني فتح مكة، لأن من آمن يوم فتح مكة نفعه إيمانه فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ منسوخ بالسيف وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ أي انتظر هلاكهم إنهم ينتظرون هلاكك، وفي هذا تهديد لهم.

سورة الأحزاب

سورة الأحزاب مدنية وآياتها 73 نزلت بعد آل عمران بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (سورة الأحزاب) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ نداء فيه تكريم له، لأنه ناداه بالنبوّة، ونادى سائر الأنبياء بأسمائهم اتَّقِ اللَّهَ أي دم على التقوى وزد منها وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ أي لا تقبل أقوالهم وإن أظهروا أنها نصيحة، ويعني بالكافرين المظهرين للكفر، وبالمنافقين الذين يظهرون الإسلام ويخفون الكفر، وروي أن الكافرين هنا. أبيّ بن خلف، والمنافقين هنا: عبد الله بن أبيّ بن سلول، والعموم أظهر. ما جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ قال ابن عباس: كان في قريش رجل يقال له ذو القلبين لشدّة فهمه، فنزلت الآية نفيا لذلك وقيل: إنما جاء هذا اللفظ توطئة لما بعده من النفي، أي كما لم يجعل الله لرجل من قلبين في جوفه، كذلك لم يجعل أزواجكم أمهاتكم ولا أدعياءكم أبناءكم اللَّائِي تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ أي تقولون للزوجة: أنت عليّ كظهر أمي، وكانت العرب تطلق هذا اللفظ بمعنى التحريم، ويأتي حكمه في سورة المجادلة، وإنما تعدى هذا الفعل بمن لأنه يتضمن معنى يتباعدون منهنّ وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ الأدعياء جمع دعيّ، وهو الذي يدعى ولد فلان وليس بولده، وسببها أمر زيد بن حارثة: وذلك أنه كان فتى من [قبيلة] كلب، فسباه بعض العرب وباعه من خديجة، فوهبته للنبي صلى الله عليه وسلم فتبناه «1» فكان يقال له زيد بن محمد حتى أنزلت هذه الآية ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ الإشارة إلى نسبة الدعي إلى غير أبيه، أو إلى كل ما تقدم من

_ (1) . تبنى النبي صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة حينما جاء حارثة وأخوه يطلبان مفاداة ولدهما زيد فعرض عليهما النبي صلى الله عليه وسلم تخيير زيد فإن اختارهما فهو لهما بغير فداء، وإن اختار البقاء مع النبي صلى الله عليه وسلم فالنبي صلى الله عليه وسلم يكون حينئذ أولى به. فوافقا على ذلك، واستدعي زيد فاختار النبي صلى الله عليه وسلم فحزن أبوه أشد الحزن، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم عند ذلك: إن زيدا حر وهو ابني يرثني وأرثه. فخفف ذلك من لوعته ورجع راضيا. كان ذلك قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم. مصححة.

[سورة الأحزاب (33) : الآيات 5 إلى 8]

المنفيات، وقوله: بِأَفْواهِكُمْ تأكيد لبطلان القول ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ الضمير للأدعياء، أي انسبوهم لآبائهم الذين ولدوهم النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ يقتضي أن يحبوه صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم أكثر مما يحبون أنفسهم، وأن ينصروا دينه أكثر مما ينصرون أنفسهم وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ جعل الله تعالى لأزواج النبي صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم حرمة الأمهات في تحريم نكاحهن ووجوب مبرتهن، ولكن أوجب حجبهن عن الرجال. وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ هذا نسخ لما كان في صدر الإسلام من التوارث بأخوة الإسلام، وبالهجرة وقد تكلمنا عليها في الأنفال فِي كِتابِ اللَّهِ يحتمل أن يريد القرآن، أو اللوح المحفوظ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ يحتمل أن يكون بيانا لأولى الأرحام أو يتعلق بأولي: أي أولو الأرحام أولى بالميراث من المؤمنين، الذين ليسوا بذوي أرحام إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً يريد الإحسان إلى الأولياء الذين ليسوا بقرابة، ونفعهم في الحياة والوصية لهم عند الموت فذلك جائز، ومندوب إليه، وإن لم يكونوا قرابة، وأما الميراث فللقرابة خاصة، واختلف هل يعني بالأولياء المؤمنين خاصة، أو المؤمنين والكافرين؟ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً يعني القرآن أو اللوح المحفوظ وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ هو الميثاق بتبليغ الرسالة والقيام بالشرائع، وقيل: هو الميثاق الذي أخذه حين أخرج بني آدم من صلب آدم كالذر، والأول أرجح لأنه هو المختص بالأنبياء وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ قد دخل هؤلاء في جملة النبيين، ولكنه خصهم بالذكر تشريفا لهم، وقدم محمدا صلى الله عليه وآله وسلم تفضيلا له مِيثاقاً غَلِيظاً يعني الميثاق المذكور، وإنما كرره تأكيدا، وليصفه بأنه غليظ أي وثيق ثابت يجب الوفاء به لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ اللام تحتمل أن تكون لام كي أو لام الصيرورة، والصدق هنا يحتمل أن يكون الصدق في الأقوال، أو الصدق في الأفعال والعزائم ويحتمل أن يريد بالصادقين الأنبياء وغيرهم من المؤمنين. اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ هذه الآية وما بعدها نزلت في قصة غزوة الخندق، والجنود المذكورة هم قريش ومن كان معهم من الكفار، وسماهم الله في هذه السورة الأحزاب، وكانوا نحو عشرة آلاف، حاصروا المدينة وحفر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الخندق حولها ليمنعهم من دخولها فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً أرسل الله عليهم ريح الصبا، فأطفأت نيرانهم وأكفأت قدورهم، ولم يمكنهم معها قرار فانصرفوا خائبين

وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها يعني الملائكة إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ أي حصروا المدينة من أعلاها ومن أسفلها، وقيل: معنى من فوقكم أهل نجد، لأن أرضهم فوق المدينة ومن أسفل منكم أهل مكة وسائر تهامة وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ أي مالت عن مواضعها وذلك عبارة عن شدة الخوف وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ جمع حنجرة وهي الحلق وبلوغ القلب إليها مجاز، وهو عبارة عن شدّة الخوف وقيل: بل هي حقيقة، لأن الرئة تنتفخ من شدة الخوف، فتربو ويرتفع القلب بارتفاعها إلى الحنجرة وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا أي: تظنون أن الكفار يغلبونكم، وقد وعدكم الله بالنصر عليهم، فأما المنافقون فظنوا ظن السوء وصرحوا به، وأما المؤمنون فربما خطرت لبعضهم خطرة مما لا يمكن البشر دفعها، ثم استبصروا ووثقوا بوعد الله، وقرأ نافع [وابن عامر] الظنونا، والرسولا، والسبيلا، بالألف في الوصل وفي الوقف، وقرأ [ابن كثير والكسائي وحفص] بإسقاطها في الوصل دون الوقف، وقرأ أبو عمرو وحمزة بإسقاطها في الوقف دون الوصل فأما إسقاطها فهو الأصل وأما إثباتها فلتعديل رؤوس الآي لأنها كالقوافي، وتقتضي هذه العلة أن تثبت في الوقف خاصة، وأما من أثبتها في الحالين، فإنه أجرى الوصل مجرى الوقف. هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ أي اختبروا أو أصابهم بلاء، والعامل في الظرف ابتلى وقيل: ما قبله وَزُلْزِلُوا أصل الزلزلة شدة التحريك وهو هنا عبارة عن اضطراب القلوب وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ روي أنه معتب بن قشير وَإِذْ قالَتْ طائِفَةٌ قال السهيلي: الطائفة تقع على الواحد فما فوقه، والمراد هنا أوس بن قبطي يا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا يثرب اسم المدينة وقيل: اسم البقعة التي المدينة في طرف منها، ومقام اسم موضع من القيام، أي: لإقرار لكم هنا يعنون موضع القتال وقرئ «1» بالضم وهو اسم موضع من الإقامة، وقولهم: فارجعوا أي إلى منازلكم بالمدينة ودعوا القتال وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ أي يستأذنه في الانصراف والمستأذن أوس بن قبطي وعشيرته وقيل: بنو حارثة إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ أي منكشفة للعدوّ وقيل: خالية للسراق فكذبهم الله في ذلك وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطارِها أي لو دخلت عليهم المدينة من جهاتها ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ يريد بالفتنة الكفر أو قتال المسلمين لَآتَوْها قرئ «2» بالقصر بمعنى جاءوا إليها وبالمدّ بمعنى

_ (1) . قرأ حفص: مقام بضم الميم وقرأ الباقون: مقام بفتحها. (2) . قرأ نافع وابن كثير: لأتوها وقرأ الباقون بالمد: لآتوها.

[سورة الأحزاب (33) : الآيات 15 إلى 19]

أعطوها من أنفسهم وَما تَلَبَّثُوا بِها الضمير للمدينة قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ دخلت قد على الفعل المضارع بمعنى التهديد، وقيل: للتعليل على وجه التهكم الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ أي الذين يعوّقون الناس عن الجهاد، ويمنعونهم منه بأقوالهم وأفعالهم وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنا هم المنافقون الذين قعدوا بالمدينة عن الجهاد، وكانوا يقولون لقرابتهم أو للمنافقون مثلهم: هلم إلى الجلوس معنا بالمدينة وترك القتال، وقد ذكر هلم في [الأنعام: 150] . وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا البأس القتال، وقليلا صفة لمصدر محذوف تقديره: إلا إتيانا قليلا، أو مستثنى من فاعل يأتون: أي إلا قليلا منهم أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ أشحة جمع شحيح بوزن فعيل، معناه يشحون بأنفسهم فلا يقاتلون، وقيل: يشحون بأموالهم، وقيل: معناه أشحة عليكم وقت الحرب، أي يشفقون أن يقتلوا. ونصب أشحة على الحال من القائلين، أو على المعوقين، أو من الضمير في يأتون، أو نصب على الذم فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ أي إذا اشتدّ الخوف من الأعداء. نظر إليك هؤلاء في تلك الحالة ولاذوا بك من شدة خوفهم تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ عبارة عن شدة خوفهم فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ السلق بالألسنة عبارة عن الكلام بكلام مستكره، ومعنى حداد: فصحاء قادرين على الكلام، وإذا نصركم الله فزال الخوف رجع المنافقون إلى إذايتكم بالسب وتنقيص الشريعة، وقيل: إذا غنمتم طلبوا من الغنائم أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أي يشحون بفعل الخير وقيل: يشحون بالمغانم، وانتصابه هنا على الحال من الفاعل في سلقوكم لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ ليس المعنى أنها حبطت بعد ثبوتها، وإنما المعنى أنها لم تقبل، لأن الإيمان شرط في قبول الأعمال، وقيل: إنهم نافقوا بعد أن آمنوا، فالإحباط على هذا حقيقة. يَحْسَبُونَ الْأَحْزابَ لَمْ يَذْهَبُوا الأحزاب هنا هم كفار قريش، ومن معهم، فالمعنى أن المنافقين من شدة جزعهم يظنون أن الأحزاب لم ينصرفوا عن المدينة، وهم قد انصرفوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بادُونَ فِي الْأَعْرابِ معنى يودّوا يتمنوا، وبادون: خارجون في البادية، والأعراب: هم أهل البوادي من العرب، فمعنى الآية: أنه إن أتى الأحزاب إلى المدينة مرة أخرى تمنى هؤلاء المنافقون من شدة جزعهم أن يكونوا في البادية

[سورة الأحزاب (33) : الآيات 27 إلى 30]

مع الأعراب، وأن لا يكونوا في المدينة بل غائبين عنها يسألون من ورد عليهم على أنبائكم. لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ أي قدوة تقتدون به صلى الله عليه وسلم في اليقين والصبر وسائر الفضائل، وقرئ «1» أسوة بضم الهمزة والمعنى واحد هذا ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ قيل: إن هذا الوعد ما أعلمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أمر بحفر الخندق من أن الكفار ينزلون، وأنهم ينصرفون خائبين، وقيل: إنه قول الله تعالى أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ [البقرة: 214] الآية، فعلموا أنهم يبتلون ثم ينصرون فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ يعني: قتل شهيدا قال أنس بن مالك: يعني عمي أنس بن النضر، وقيل: يعني حمزة بن عبد المطلب، وقضاء النحب عبارة عن الموت عند ابن عباس وغيره، وقيل: قضى نحبه: وفي العهد الذي عاهد الله عليه، ويدل على هذا ما ورد أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال «طلحة ممن قضى نحبه» وهو لم يقتل حينئذ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ المفعول محذوف: أي ينتظر أن يقضي نحبه، أو ينتظر الشهادة في سبيل الله على قول ابن عباس، أو ينتظر الحصول في أعلى مراتب الإيمان والصلاح على القول الآخر وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ صَياصِيهِمْ الصياصي هي الحصون، ونزلت الآية في يهود بني قريظة، وذلك أنهم كانوا معاهدين لرسول الله صلى الله عليه وسلم فنقضوا عهده وصاروا مع قريش، فلما انصرفت قريش عن المدينة حصر رسول الله بني قريظة، حتى نزلوا على حكم سعد بن معاذ فحكم بأن يقتل رجالهم ويسبى نساؤهم وذريتهم فَرِيقاً تَقْتُلُونَ يعني الرجال وقتل منهم يومئذ كل من أنبت «2» وكانوا بين ثمانمائة أو تسعمائة وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً يعني النساء والذرية وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ يعني أرض بني قريظة قسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها هذا وعد بفتح أرض لم يكن المسلمون قد وطئوها حينئذ، وهي مكة واليمن والشام والعراق ومصر، فأورث الله المسلمين جميع ذلك وما وراءها إلى أقصى المشرق والمغرب، ويحتمل عندي

_ (1) . قرأ حفص: أسوة بضم الهمزة وقرأ الباقون إسوة بكسر الهمزة. (2) . أي: نبت له الشعر علامة البلوغ.

[سورة الأحزاب (33) : الآيات 31 إلى 34]

أن يريد أرض بني قريظة، لأنه قال: أورثكم بالفعل الماضي، وهي التي كانوا أخذوها حينئذ، وأما غيرها من الأرضين، فإنما أخذوها بعد ذلك فلو أرادها لقال: يورثكم إنما كررها بالعطف ليصفها بقوله: لَمْ تَطَؤُها: أي لم تدخلوها قبل ذلك. يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها الآية: سببها أن أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم تغايرن حتى غمه ذلك وقيل: طلبن منه الملابس ونفقات كثيرة، وكان أزواجه يومئذ تسع نسوة خمس من قريش وهنّ: عائشة بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وحفصة بنت عمر بن الخطاب رضي الله عنه وسودة بنت زمعة، وأم حبيبة بنت أبي سفيان، وأم سلمة بنت أبي أمية المخزومي وأربع من غير قريش وهنّ ميمونة بنت الحارث الهلالية، وصفية بنت حييّ من بني إسرائيل وزينب بنت جحش الأسدية، وجويرية بنت الحارث من بني المصطلق فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلًا أصل: تعال أن يقوله من كان في موضع مرتفع لمن في موضع منخفض، ثم استعملت بمعنى أقبل في جميع الأمكنة وأمتعكن من المتعة وهي الإحسان إلى المرأة إذا طلقت والسراح الطلاق، فمعنى الآية: أن الله أمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يخيّر نساءه بين الطلاق والمتعة إن أرادوا زينة الدنيا، وبين البقاء في عصمته إن أرادوا الآخرة، فبدأ صلى الله عليه وسلم بعائشة: فاختارت البقاء في عصمته، ثم تبعها سائرهن في ذلك، فلم يقع طلاق، وقالت عائشة: خيّرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فاخترناه ولم يعد ذلك طلاقا، وإذا اختارت المخيرة الطلاق: فمذهب مالك أنه ثلاث، وقيل: طلقة بائنة، وقيل: طلقة رجعية ووصف السراح بالجميل: يحتمل أن يريد أنه دون الثلاث، أو يريد أنه ثلاث، وجماله: حسن الرعي والثناء وحفظ العهد لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ من للبيان لا للتبعيض، لأن جميعهنّ محسنات بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ قيل: يعني الزنا، وقيل: يعني عصيان زوجهن عليه الصلاة والسلام، أو تكليفه ما يشق عليه، وقيل: عموم في المعاصي يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ أي يكون عذابها في الآخرة مثل عذاب غيرها مرتين، وإنما ذلك لعلوّ رتبتهن، لأن كل أحد يطالب على مقدار حاله، وقرأ أبو عمرو يضعّف بالياء ورفع العذاب على البناء للمفعول، وقرأ ابن عامر وابن كثير: نضعّف ونصب العذاب على البناء للفاعل وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ قرئ «1» بالياء حملا على لفظ من وبالتاء حملا على المعنى، وكذلك تعمل، والقنوت هنا بمعنى الطاعة نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ أي يضاعف لها

_ (1) . ويعمل، يؤتها وهي قراءة حمزة والكسائي وقرأ الباقون: وتعجل، نؤتها.

[سورة الأحزاب (33) : الآيات 35 إلى 36]

ثواب الحسنات رِزْقاً كَرِيماً يعني الجنة، وقيل: في الدنيا، والأوّل هو الصحيح. لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فضلهن الله على النساء بشرط التقوى، وقد حصل لهن التقوى فحصل التفضيل على جميع النساء، إلا أنه يخرج من هذا العموم فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومريم بنت عمران وآسية امرأة فرعون لشهادة رسول الله صلى الله عليه وسلم لكل واحدة منهن بأنها سيدة نساء عالمها فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ نهى عن الكلام، اللين الذي يعجب الرجال ويميلهن إلى النساء فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ أي فجور وميل للنساء، وقيل: هو النفاق، وهذا بعيد في هذا الموضع وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفاً هو الصواب من الكلام أو الذي ليس فيه شيء مما نهى عنه وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ قرئ بكسر القاف، ويحتمل وجهين: أن يكون من الوقار أو من القرار في الموضع، ثم حذفت الراء الواحدة كما حذفت اللام في ظلت، وأما القراءة بالفتح «1» فمن القرار في الموضع على لغة من يقول قررت بالكسر أقر بالفتح، والمشهور في اللغة عكس ذلك، وقيل: هي من قار يقار إذا اجتمع، ومعنى القرار أرجح، لأن سودة رضي الله عنها قيل لها: لم لا تخرجين؟ فقالت: أمرنا الله بأن نقرّ في بيوتنا، وكانت عائشة إذا قرأت هذه الآية تبكي على خروجها أيام الجمل، وحينئذ قال لها عبد الله بن عمر: إن الله أمرك أن تقري في بيتك وَلا تَبَرَّجْنَ التبرج إظهار الزينة تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى أي مثل ما كان نساء الجاهلية يفعلن، من الانكشاف والتعرض للنظر، وجعلها أولى بالنظر إلى حال الإسلام، وقيل: الجاهلية الأولى ما بين آدم ونوح، وقيل: ما بين موسى وعيسى. الرِّجْسَ أصله النجس، والمراد به هنا النقائص والعيوب أَهْلَ الْبَيْتِ منادى أو منصوب على التخصيص، وأهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم: هم أزواجه وذريته وأقاربه كالعباس وعليّ وكل من حرمت عليه الصدقة، وقيل: المراد هنا أزواجه خاصة، والبيت على هذا المسكن، وهذا ضعيف لأن الخطاب بالتذكير، ولو أراد ذلك لقال: عنكن وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال نزلت هذه الآية في خمسة: في ولد عليّ وفاطمة والحسن والحسين وَاذْكُرْنَ خطاب لأزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم، خصهن بعد دخولهن مع أهل البيت، وهذا الذكر يحتمل أن يكون التلاوة أو التذكر بالقلب، وآيات الله هي القرآن والحكمة هي السنة. إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ الآية: سببها أن بعض النساء قلن: ذكر الله الرجال ولم

_ (1) . وهي قراءة نافع وعاصم، وأما الباقون فقرأوا بالكسر: وقرن.

[سورة الأحزاب (33) : الآيات 37 إلى 39]

يذكرنا، فنزل فيها ذكر النساء وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ الإسلام هو الانقياد، والإيمان هو التصديق، ثم إنهما يطلقان بثلاثة أوجه باختلاف المعنى كقوله: «لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا» وبالاتفاق لاجتماعهما كقوله: «فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ» الآية، وبالعموم فيكون الإسلام أعم، لأنه بالقلب والجوارح، والإيمان أخص لأنه بالقلب خاصة، وهذا هو الأظهر في هذا الموضع وَالْقانِتِينَ وَالْقانِتاتِ يحتمل أن يكون بمعنى العبادة أو الطاعة وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقاتِ يحتمل أن يكون من صدق القول أو من صدق العزم. وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ الآية: معناها أنه ليس لمؤمن ولا مؤمنة اختيار مع الله ورسوله، بل يجب عليهم التسليم والانقياد لأمر الله ورسوله، والضمير في قوله من أمرهم: راجع إلى الجمع الذي يقتضيه قوله لمؤمن ولا مؤمنة لأن معناه العموم في جميع المؤمنين والمؤمنات، وهذه الآية توطئة للقصة المذكورة بعدها، وقيل: سببها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب امرأة ليزوجها لمولاه زيد بن حارثة، فكرهت هي وأهلها ذلك، فلما نزلت الآية قالوا: رضينا يا رسول الله، واختلف هل هذه المخطوبة زينب بنت جحش أو غيرها، وقد قيل: إنها أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط. وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ هو زيد بن حارثة الكلبي، وإنعام الله عليه بالإسلام وغيره، وإنعام النبي صلى الله عليه وسلم بالعتق وكانت عند زيد زينب بنت جحش وهي بنت أميمة عمة النبي صلى الله عليه وسلم، فشكا زيد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم سوء معاشرتها وتعاظمها عليه، وأراد أن يطلقها، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أمسك عليك زوجك واتق الله، يعني فيما وصفها به من سوء المعاشرة، واتق الله ولا تطلقها فيكون نهيا عن الطلاق على وجه التنزيه، كما قال عليه الصلاة والسلام: أبغض المباح إلى الله الطلاق «1» وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ الذي أخفاه رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر جائز مباح لا إثم فيه ولا عتب، ولكنه خاف أن يسلط الله عليه ألسنتهم وينالوا منه، فأخفاه حياء وحشمة وصيانة لعرضه، وذلك أنه روي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان حريصا على أن يطلق زيد زينب ليتزوجها هو صلى الله عليه وسلم لقرابتها منه ولحسبها، فقال: أمسك عليك زوجك وهو يخفي الحرص عليها خوفا من كلام الناس، لئلا يقولوا: تزوج امرأة ابنه إذ كان قد تبناه، فالذي أخفاه صلى الله عليه وسلم هو إرادة تزوجها، فأبدى الله ذلك بأن قضى له بتزوّجها، فقالت عائشة: لو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كاتما شيئا من الوحي لكتم هذه الآية لشدتها عليه،

_ (1) . ذكره المناوي في التيسير وعزاه لأبي داود وابن ماجة عن ابن عمر ولفظه أبغض الحلال.

[سورة الأحزاب (33) : الآيات 40 إلى 49]

وقيل: إن الله كان أوحى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتزوج زينب بعد طلاق زيد، فالذي أخفاه رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما أعلمه الله به من ذلك فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها لم يذكر أحد من الصحابة في القرآن باسمه غير زيد بن حارثة، والوطر الحاجة، أي لما لم يبق لزيد فيها حاجة زوجها الله من نبيه صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم، وأسند الله تزويجها إليه تشريفا لها، ولذلك كانت زينب تفتخر على نساء النبي صلى الله عليه وسلم وتقول: إن الله زوجني نبيه من فوق سبع سموات، واستدل بعضهم بقوله: زوجناكها على أن الأولى أن يقال في كتاب الصداق: أنكحه إياها بتقديم ضمير الزوج على ضمير الزوجة كما في الآية لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ المعنى أن الله زوّج زينب امرأة زيد من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ليعلم المؤمنين أن تزوج نساء أدعيائهم حلال لهم، فإن الأدعياء ليسوا لهم بأبناء حقيقة. ما كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيما فَرَضَ اللَّهُ لَهُ المعنى أنّ تزوّج النبي صلى الله عليه وسلم لزينب بعد زيد حلال، لا حرج فيه ولا إثم ولا عتاب، وفي ذلك ردّ على من تكلم في ذلك من المنافقين. وفرض هنا بمعنى قسم له سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ أي عادة الله في الأنبياء المتقدمين أن ينالوا ما أحل الله لهم، وقيل: الإشارة بذلك إلى داود في تزوجه للمرأة التي جرى له فيها ما جرى، والعموم أحسن، ونصب سنة على المصدر، أو على إضمار فعل أو على الإغراء الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللَّهِ صفة للذين خلوا من قبل، وهم الأنبياء أو رفع على إضمار مبتدإ، أو نصب بإضمار فعل. ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ هذا ردّ على من قال في زيد بن حارثة: زيد بن محمد، فاعترض على النبي صلى الله عليه وسلم تزوّج امرأة زيد، وعموم النفي في الآية لا يعارضه وجود الحسن والحسين، لأنه صلى الله عليه وسلم ليس أبا لهما في الحقيقة لأنهما ليسا من صلبه، وإنما كانا ابني بنته، وأما ذكور أولاده فماتوا صغارا فليسوا من الرجال وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ أي آخرهم فلا نبيّ بعده صلى الله عليه وسلم وقرئ «1» بكسر التاء بمعنى أنه ختمهم فهو خاتم، وبالفتح بأنهم ختموا به فهو كالخاتم والطابع لهم، فإن قيل: إن عيسى ينزل في آخر الزمان فيكون بعده عليه الصلاة والسلام، فالجواب أن النبوّة أوتيت عيسى قبله عليه الصلاة والسلام، وأيضا فإن عيسى يكون إذا نزل على شريعته عليه الصلاة والسلام، فكأنه واحد من أمته.

_ (1) . قرأ جميع القراء بالكسر: خاتم ما عدا عاصم فقرأ: خاتم. [.....]

[سورة الأحزاب (33) : آية 50]

اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً اشترط الله الكثرة في الذكر حيثما أمر به بخلاف سائر الأعمال، والذكر يكون بالقلب وباللسان وهو على أنواع كثيرة من التهليل والتسبيح والحمد والتكبير وذكر أسماء الله تعالى وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا قيل: إن ذلك إشارة إلى صلاة الصبح والعصر، والأظهر أنه أمر بالتسبيح في أول النهار وآخره، وقال ابن عطية: أراد في كل الأوقات فحد النهار بطرفيه هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ هذا خطاب للمؤمنين، وصلاة الله عليهم رحمة لهم، وصلاة الملائكة عليهم دعاؤهم لهم، فاستعمل لفظ يصلي في المعنيين على اختلافهما وقيل: إنه على حذف مضاف تقديره وملائكته يصلون تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ قيل: يعني يوم القيامة، وقيل: في الجنة وهو الأرجح لقوله: وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ [يونس: 10] ، ويحتمل أن يريد تسليم بعضهم على بعض أو قول الملائكة لهم سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ [الزمر: 73] إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً أي يشهد على أمته وَداعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ أي بأمر الله وإرساله وَسِراجاً مُنِيراً استعارة للنور الذي يتضمنه الدين. وَدَعْ أَذاهُمْ يحتمل وجهين أحدهما لا تؤذهم فالمصدر على هذا مضاف إلى المفعول ونسخ من الآية على هذا التأويل ما يخص الكافرين بآية السيف، والآخر احتمل إذايتهم لك، وأعرض عن أقوالهم، فالمصدر على هذا مضاف للفاعل إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ الآية: معناه سقوط العدّة عن المطلقة قبل الدخول، فالنكاح في الآية هو العقد، والمس هو الجماع، وتعتدونها من العدد فَمَتِّعُوهُنَّ هذا يقتضي متعة المطلقة قبل الدخول، سواء فرض لها أو لم يفرض لها صداق، وقوله تعالى في البقرة: 237 «وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ» يقتضي أن المطلقة قبل الدخول وقد فرض لها، يجب لها نصف الصداق ولا متعة لها، وقد اختلف هل هذه الآية ناسخة لآية البقرة أو منسوخة بها؟ ويمكن الجمع بينهما بأن تكون آية البقرة مبينة لهذه، مخصصة لعمومها يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ في معناها قولان أحدهما أن المراد أزواجه اللاتي في عصمته حينئذ، كعائشة وغيرها، وكان قد أعطاهن مهورهن، والآخر أن المراد جميع النساء، فأباح الله له أن يتزوج كل امرأة يعطى مهرها، وهذا أوسع من الأول وَما مَلَكَتْ يَمِينُكَ أباح الله له مع الأزواج السراري بملك اليمين

[سورة الأحزاب (33) : الآيات 51 إلى 52]

ويعني بقوله: أفاء الله عليك: الغنائم وَبَناتِ عَمِّكَ وَبَناتِ عَمَّاتِكَ وَبَناتِ خالِكَ وَبَناتِ خالاتِكَ يعني قرابته من جهة أبيه ومن جهة أمه، وكان له عليه الصلاة والسلام أعمام وعمات إخوة لأبيه، ولم يكن لأمه عليه الصلاة والسلام أخ ولا أخت، وإنما يعني بخاله وخالاته عشيرة أمه وهم بنو زهرة، ولذلك كانوا يقولون نحن أخوال رسول الله صلى الله عليه وسلم. فمن قال: إن المراد بقوله أحللنا لك أزواجك: من كانت في عصمته: فهو عطف عليهن، وإباحة لأن يتزوج قرابته زيادة على من كان في عصمته، ومن قال: إن المراد جميع النساء، فهو تجريد منهن على وجه التشريف بعد دخول هؤلاء في العموم اللَّاتِي هاجَرْنَ مَعَكَ تخصيص تحرز به ممن لم يهاجر، كالطلقاء الذين أسلموا يوم فتح مكة وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ أباح الله له صلى الله عليه وسلم من وهبت له نفسها من النساء، واختلف هل وقع ذلك أم لا؟ فقال ابن عباس: لم تكن عند النبي صلى الله عليه وسلم امرأة إلا بنكاح أو ملك يمين، لا بهبة نفسها، ويؤيد هذا قراءة الجمهور إن وهبت بكسر الهمزة أي إن وقع، وقيل: قد وقع ذلك، وهو على هذا القول قرئ «1» أن وهبت بفتح الهمزة، واختلف على هذا القول فيمن هي التي وهبت نفسها فقيل: ميمونة بنت الحارث، وقيل زينب بنت خزيمة أم المساكين، وقيل: أم شريك الأنصارية، وقيل أم شريك العامرية. خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أي هبة المرأة نفسها مزية خاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم دون غيره، وانظر كيف رجع من الغيبة إلى الخطاب ليخص المخاطب وحده، وقيل: إن خالصة يرجع إلى كل ما تقدم، من النساء المباحات له صلى الله عليه وسلم، لأن سائر المؤمنين قصروا على أربع نسوة، وأبيح له عليه الصلاة والسلام أكثر من ذلك، ومذهب مالك أن النكاح بلفظ الهبة لا ينعقد بخلاف أبي حنيفة، وإعراب: خالصة مصدر أو حال أو صفة لامرأة قَدْ عَلِمْنا ما فَرَضْنا عَلَيْهِمْ فِي أَزْواجِهِمْ يعني أحكام النكاح من الصداق والوليّ والاقتصار على أربع وغير ذلك لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ يتعلق بالآية التي قبله أي: بينا أحكام النكاح لئلا يكون عليك حرج، أو لئلا يظن بك أنك فعلت ما لا يجوز، وقال الزمخشري: يتعلق بقوله خالصة لك تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي «2» إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ معنى ترجي تؤخر وتبعد، ومعنى: تؤوي تضم وتقرب. واختلف في المراد بهذا الإرجاء والإيواء، فقيل إن ذلك في القسمة بينهنّ: أي تكثر لمن شئت، وتقلل لمن شئت، وقيل: إنه في الطلاق أي تمسك

_ (1) . ذكر الطبري تلك القراءة وعزاها للحسن البصري. (2) . قرأ ورش عن نافع تووي بدون همز وقرأ الباقون: تؤوي.

[سورة الأحزاب (33) : الآيات 53 إلى 55]

من شئت وتطلق من شئت وقيل: معناه تتزوج من شئت، وتترك من شئت، والمعنى على كل قول توسعة على النبي صلى الله عليه وسلم، وإباحة له أن يفعل ما يشاء، وقد اتفق الناقلون على أنه صلى الله عليه وسلم كان يعدل في القسمة بين نسائه: أخذا منه بأفضل الأخلاق مع إباحة الله له، والضمير في قوله منهنّ: يعود على أزواجه صلى الله عليه وآله وسلم خاصة أو على كل ما أحل الله له على حسب الخلاف المتقدم وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُناحَ عَلَيْكَ في معناه قولان: أحدهما من كنت عزلته من نسائك فلا جناح عليك في ردّه بعد عزله، والآخر من ابتغيت ومن عزلت سواء في إباحة ذلك، فمن للتبعيض على القول الأول، وأما على القول الثاني فنحو قولك: من لقيك ومن لم يلقك سواء ذلِكَ أَدْنى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ أي إذا علمن أن هذا حكم الله قرّت به أعينهن ورضين به، وزال ما كان بهنّ من الغيرة، فإن سبب نزول هذه الآية ما وقع لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم من غيرة بعضهن على بعض. لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ فيه قولان: أحدهما لا يحل لك النساء غير اللاتي في عصمتك الآن ولا تزيد عليهن، قال ابن عباس لما خيرهنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فاخترن الله ورسوله جازاهن الله على ذلك، بأن حرّم غيرهنّ من النساء كرامة لهنّ، والقول الثاني: لا يحل لك النساء غير الأصناف التي سميت، والخلاف هنا يجري على الخلاف في المراد بقوله: إنا أحللنا لك أزواجك: أي لا يحل لك غير من ذكر حسبما تقدم، وقيل: معنى لا يحل لك النساء: لا يحل لك اليهوديات والنصرانيات من بعد المسلمات المذكورات وهذا بعيد، واختلف في حكم هذه الآية، فقيل: إنها منسوخة بقوله إنا أحللنا لك أزواجك على القول بأن المراد جميع النساء، وقيل: إن هذه الآية ناسخة لتلك على القول بأن المراد من كان في عصمته، وهذا هو الأظهر لما ذكرنا عن ابن عباس، ولأن التسع في حقه عليه الصلاة والسلام كالأربع في حق أمته وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ معناه لا يحل لك أن تطلق واحدة منهن وتتزوج غيرها بدلا منها وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ في هذا دليل على جواز النظر إلى المرأة إذا أراد الرجل أن يتزوجها إِلَّا ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ المعنى أن الله أباح له الإماء، والاستثناء في موضع رفع على البدل من النساء، أو في موضع نصب على الاستثناء من الضمير في حسنهن. لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ سبب هذه الآية ما رواه أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لما تزوج زينب بنت جحش أو لم عليها فدعا الناس، فلما طعموا قعد نفر في طائفة من البيت، فثقل ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم، فخرج ليخرجوا بخروجه، ومر على حجر

نسائه ثم عاد فوجدهم في مكانهم، فانصرف فخرجوا عن ذلك، وقال ابن عباس: نزلت في قوم كانوا يتحينون طعام النبي صلى الله عليه وسلم، فيدخلون عليه قبل الطعام فيقعدون إلى أن يطبخ، ثم يأكلون ولا يخرجون، فأمروا أن لا يدخلوا حتى يؤذن لهم، وأن ينصرفوا إذا أكلوا، قلت: والقول الأول أشهر، وقول ابن عباس أليق بما في الآية من النهي عن الدخول حتى يؤذن لهم، فعلى قول ابن عباس في النهي عن الدخول حتى يؤذن لهم، والقول الأول في النهي عن القعود بعد الأكل، فإن الآية تضمنت الحكمين غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ أي غير منتظرين لوقت الطعام، والإنا الوقت، وقيل: إنا الطعام نضجه وإدراكه، يقال أنى يأنى إناء وَلكِنْ إِذا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا أمر بالدخول بعد الدعوة، وفي ذلك تأكيد للنهي عن الدخول قبلها فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا أي انصرفوا، قال بعضهم: هذا أدب أدّب الله به الثقلاء، وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ معطوف على غير ناظرين، أو تقديره: ولا تدخلوا مستأنسين، ومعناه النهي عن أن يطلبوا الجلوس للأنس بحديث بعضهم مع بعض، أو يستأنسوا لحديث أهل البيت، واستئناسهم: تسمعهم وتجسسهم إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ يعني جلوسهم للحديث أو دخولهم بغير إذن فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ تقديره يستحيي من إخراجكم، بدليل قوله: والله لا يستحيي من الحق: أي أن إخراجكم حق لا يتركه الله. وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ المتاع الحاجة من الأثاث وغيره، وهذه الآية نزلت في احتجاب أزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم، وسببها ما رواه أنس من قعود القوم يوم الوليمة في بيت زينب، وقيل: سببها أنّ عمر بن الخطاب أشار على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بأن يحجب نساءه، فنزلت الآية موافقة لقول عمر، قال بعضهم لما نزلت في أمهات المؤمنين «وإذا سألتموهن متاعا فاسألوهن من وراء حجاب» كن لا يجوز للناس كلامهن إلا من وراء حجاب، ولا يجوز أن يراهن [أحد] متنقبات ولا غير متنقبات، فخصصن بذلك دون سائر النساء ذلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ يريد أنقى من الخواطر التي تعرض للرجال في أمر النساء والنساء في أمر الرجال وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ سببها أن بعض الناس قالوا: لو مات رسول الله صلى الله عليه وسلم لتزوّجت عائشة، فحرم الله على الناس تزوج نسائه بعده كرامة له صلى الله عليه وآله وسلم لا جُناحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبائِهِنَّ وَلا أَبْنائِهِنَّ الآية: لما أوجب الله الحجاب أباح لهن الظهور لذوي محارمهن من القرابة وهم: الآباء، والأبناء، والإخوة، وأولادهم، وأولاد الأخوات وَلا نِسائِهِنَّ قيل يريد بالنساء القرابة والمصرفات لهن، وقيل: يريد نساء

[سورة الأحزاب (33) : الآيات 56 إلى 58]

جميع المؤمنات، ويقوي الأول تخصيص النساء بالإضافة لهن، ويقوى الثاني أنهن كن لا يحتجبن من النساء على الإطلاق ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ واختلف فيمن أبيح لهن الظهور له من ملك اليمين، فقيل: الإماء دون العبيد، وقيل: الإماء والعبيد، وهو أولى بلفظ الآية، ثم اختلف من ذهب إلى هذا فقال قوم: من ملكه من العبيد دون من ملكه غيرهن، وهذا هو الظاهر من لفظ الآية، وقال قوم: جميع العبيد كن في ملكهن أو في ملك غيرهن. إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ هذه الآية تشريف للنبي صلى الله عليه وسلم، وقد ذكرنا معنى صلاة الله وصلاة الملائكة في قوله يصلي عليكم وملائكته [الأحزاب: 43 صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم فرض إسلاميّ، فالأمر به محمول على الوجوب، وأقله مرة في العمر، وأما حكمها في الصلاة: فمذهب الشافعي أنها فرض تبطل الصلاة بتركه، ومذهب مالك أنها سنة وصفتها ما ورد في الحديث الصحيح: اللهم صلي على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وقد اختلفت الروايات في ذلك اختلافا كثيرا أما السلام على النبي صلى الله عليه وسلم فيحتمل أن يريد السلام عليه في التشهد في الصلاة، أو السلام عليه حين لقائه، وأما السلام عليه بعد موته فقد قال صلى الله عليه وسلم: من سلم عليّ قريبا سمعته، ومن سلم عليّ بعيدا أبلغته، فإن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء «1» إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إذاية الله هي بالإشراك به ونسبة الصاحبة والولد به، وليس معنى إذايته أنه يضره الأذى، لأنه تعالى لا يضره شيء ولا ينفعه شيء، وقيل: إنها على حذف مضاف تقديره: يؤذون أولياء الله، والأوّل أرجح، لأنه ورد في الحديث يقول الله تعالى: «يشتمني ابن آدم وليس له أن يشتمني، ويكذبني وليس له أن يكذبني، أما شتمه إياي فقوله: إن لي صاحبة وولدا، وأما تكذيبه إياي فقوله: لا يعيدني كما بدأني» «2» وأما إذاية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فهي التعرض له بما يكره من الأقوال أو الأفعال، وقال ابن عباس: نزلت في الذين طعنوا عليه حين أخذ صفية بنت حييّ. وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا الآية: في البهتان وهو ذكر الإنسان بما ليس فيه، وهو أشد من الغيبة، مع أن الغيبة محرمة، وهي ذكره ما فيه مما يكره يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ وَبَناتِكَ وَنِساءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ كان نساء

_ (1) . روى الإمام أحمد الشطر الأخير من الحديث عن أوس بن أبي أوس الثقفي ج 3 ص 8. (2) . رواه البخاري عن ابن عباس وأوله: كذبني ابن آدم ولم يكن له ذلك. الإتحافات السنية للمناوي.

العرب يكشفن وجوههن كما تفعل الإماء، وكان ذلك داعيا إلى نظر الرجال لهن، فأمرهن الله بإدناء الجلابيب ليسترن بذلك وجوههن، ويفهم الفرق بين الحرائر والإماء، والجلابيب جمع جلباب وهو ثوب أكبر من الخمار، وقيل: هو الرداء وصورة إدنائه عند ابن عباس أن تلويه على وجهها حتى لا يظهر منها إلا عين واحدة تبصر بها وقيل: أن تلويه حتى لا يظهر إلا عيناها، وقيل أن تغطي نصف وجهها ذلِكَ أَدْنى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ أي ذلك أقرب إلى أن يعرف الحرائر من الإماء فإذا عرف أن المرأة حرة لم تعارض بما تعارض به الأمة، وليس المعنى أن تعرف المرأة حتى يعلم من هي، إنما المراد أن يفرق بينها وبين الأمة، لأنه كان بالمدينة إماء يعرفن بالسوء وربما تعرض لهن السفهاء. لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ الآية: تضمنت وعيد هؤلاء الأصناف إن لم ينتهوا، وقيل: إنهم لم ينتهوا: ولم ينفذ الوعيد عليهم ففي ذلك دليل على بطلان القول بوجوب إنفاذ الوعيد في الآخرة، وقيل: إنهم انتهوا وستروا أمرهم، فكف عنهم إنفاذ الوعيد، والمنافقون هم الذين يظهرون الإيمان ويخفون الكفر، والذين في قلوبهم مرض: قوم كان فيهم ضعف إيمان، وقلة ثبات عليه، وقيل: هم الزناة كقوله: فيطمع الذي في قلبه مرض، وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ: قوم كانوا يشيعون أخبار السوء ويخوفون المسلمين، فيحتمل أن تكون هذه الأصناف متفرقة، أو تكون داخلة في جملة المنافقين، ثم جردها بالذكر لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ أي نسلطك عليهم وهذا هو الوعيد ثُمَّ لا يُجاوِرُونَكَ فِيها ذلك لأنه ينفيهم أو يقتلهم، والضمير المجرور للمدينة إِلَّا قَلِيلًا يحتمل أن يريد إلا جوارا قليلا أو وقتا قليلا أو عددا قليلا منهم، والإعراب يختلف بحسب هذه الاحتمالات، فقليلا على الاحتمال الأول مصدر، وعلى الثاني ظرف، وعلى الثالث منصوب على الاستثناء مَلْعُونِينَ نصب على الذم، أو بدل من قليلا على الوجه الثالث أو حال من ضمير الفاعل في يجاورونك تقديره: سينفون ملعونين أَيْنَما ثُقِفُوا أُخِذُوا أي حيث ما ظفر بهم أسروا، والأخذ الأسر سُنَّةَ اللَّهِ أي عادته ونصب على المصدر فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ أي عادته في المنافقين من الأمم المتقدمة وقيل: يعني الكفار في بدر، لأنهم أسروا وقتلوا تَكُونُ قَرِيباً إنما قال قريبا بالتذكير، والساعات مؤنثة على تقدير شيئا قريبا، أو زمانا قريبا، أو لأن تأنيثها غير حقيقي يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ العامل في يوم قوله

[سورة الأحزاب (33) : الآيات 67 إلى 73]

يقولون أو لا يجدون أو محذوف، وتقليب وجوههم: تصريفها في جهة النار كما تدور البضعة [قطعة اللحم] في القدر إذا غلت من جهة إلى جهة، أو تغيرها عن أحوالها. لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى هم قوم من بني إسرائيل، وإذايتهم له: ما ورد في الحديث أن بني إسرائيل كانوا يغتسلون عراة، وكان موسى يستتر منهم إذا اغتسل، فقالوا: إنه لآدر [آدر: أي فيه عيب في خصيته] ، فاغتسل موسى يوما وحده وجعل ثيابه على حجر، ففر الحجر بثيابه، واتبعه موسى وهو يقول: ثوبي حجر ثوبي حجر، فمر في أتباعه على ملأ من بني إسرائيل فرأوه سليما مما قالوا، فذلك قوله: فبرأه الله مما قالوا، وقيل: إذايتهم له أنهم رموه بأنه قتل أخاه هارون، فبعث الله ملائكة فحملته حتى رآه بنو إسرائيل ليس فيه أثر فبرأ الله موسى، وروي أن الله أحياه فأخبرهم ببراءة موسى، والقول الأول هو الصحيح لوروده في الحديث الصحيح قَوْلًا سَدِيداً قيل: يعني لا إله إلا الله، واللفظ أعم من ذلك. إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ الأمانة هي التكاليف الشرعية من التزام الطاعات وترك المعاصي، وقيل: هي الأمانة في الأموال، وقيل: غسل الجنابة، والصحيح العموم في التكاليف، وعرضها على السموات والأرض والجبال يحتمل وجهين: أحدهما: أن يكون الله خلق لها إدراكا فعرضت عليها الأمانة حقيقة فأشفقت منها، وامتنعت من حملها، والثاني أن يكون المراد تعظيم شأن الأمانة، وأنها من الثقل بحيث لو عرضت على السموات والأرض والجبال، لأبين من حملها وأشفقن منها، فهذا ضرب من المجاز كقولك: عرضت الحمل العظيم على الدابة فأبت أن تحمله، والمراد أنها لا تقدر على حمله وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ أي التزم الإنسان القيام بالتكاليف مع شدة ذلك، وصعوبته على الأجرام التي هي أعظم منه، ولذلك وصفه الله بأنه ظلوم جهول، والإنسان هنا جنس، وقيل: يعني آدم، وقيل: قابيل الذي قتل أخاه لِيُعَذِّبَ اللام للصيرورة، فإن حمل الأمانة: كان سبب تعذيب المنافقين والمشركين، ورحمة للمؤمنين.

سورة سبأ

سورة سبأ مكية إلا آية 6 فمدنية وآياتها 54 نزلت بعد لقمان بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (سورة سبأ) وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ يحتمل أن يكون الحمد الأول في الدنيا، والثاني في الآخرة، وعلى هذا حمله الزمخشري، ويحتمل عندي أن يكون الحمد الأول للعموم والاستغراق، فجمع الحمد في الدنيا والآخرة، ثم جرد منه الحمد في الآخرة كقوله: فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ، ثم إن الحمد في الآخرة يحتمل أن يريد به الجنس، أو يريد به قوله: وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ [يونس: 10] أو الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ [الزمر: 74] ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ أي يدخل فيها من المطر والأموات وغير ذلك وَما يَخْرُجُ مِنْها من النبات وغيره وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ من المطر والملائكة والرحمة والعذاب وغير ذلك وَما يَعْرُجُ فِيها أي يصعد ويرتفع من الأعمال وغيرها وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ روي: أن قائل هذه المقالة هو أبو سفيان بن حرب «1» لا يَعْزُبُ أي لا يغيب ولا يخفى وَلا أَصْغَرُ معطوف على مثقال وقال الزمخشري: هو مبتدأ، لأن حرف الاستثناء من حروف العطف، ولا خلاف بين القراء السبعة في رفع أصغر وأكبر في هذا الموضع، وقد حكى ابن عطية الخلاف فيه عن بعض القراء السبعة، وإنما الخلاف في [يونس: 61] فِي كِتابٍ مُبِينٍ يعني اللوح المحفوظ لِيَجْزِيَ متعلق بقوله: لتأتينكم أو بقوله: لا يعزب أو بمعنى قوله: في كتاب مبين. وَالَّذِينَ سَعَوْا مبتدأ وخبره الجملة بعده، وقال ابن عطية: هو معطوف على الذين

_ (1) . قوله: عالم الغيب. قرأها نافع وابن عامر: عالم، وقرأها ابن كثير وأبو عمرو وعاصم: عالم الغيب.

[سورة سبإ (34) : الآيات 10 إلى 13]

الأول، وقد ذكر في [الحج: 51] معنى سعوا، ومعاجزين أَلِيمٌ بالرفع قراءة حفص صفة لعذاب، وبالخفض قراءة نافع وغيره صفة لرجز وَيَرَى معطوف على ليجزي أو مستأنف، وهذا أظهر الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ هم الصحابة أو من أسلم من أهل الكتاب، أو على العموم الْحَقَّ مفعول ثاني ليرى، لأن الرؤية هنا بالقلب بمعنى العلم والضمير ضمير فصل وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أي قال بعضهم لبعض: هل ندلكم على رجل يعني محمدا صلى الله عليه وسلم يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ معنى مزقتم أي: بليتم في القبور، وتقطعت أوصالكم، وكل ممزق: مصدر، والخلق الجديد: هو الحشر في القيامة، والعامل في إذا معنى إنكم لفي خلق جديد، لأن معناه: تبعثون إذا مزقتم، وقيل: العامل فيه فعل مضمر مقدر قبلها وذلك ضعيف، وإنكم لفي خلق جديد معمول ينبئكم وكسرت اللام التي في خبرها، ومعنى الآية أن ذلك الرجل يخبركم أنكم تبعثون بعد أن بليتم في الأرض، ومرادهم استبعاد الحشر أَفْتَرى عَلَى اللَّهِ هذا من جملة كلام الكفار، ودخلت همزة الاستفهام على ألف الوصل فحذفت ألف الوصل وبقيت الهمزة مفتوحة غير ممدودة بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذابِ هذا ردّ عليهم: أي أنه لم يفتر على الله الكذب وليس به جنة، بل هؤلاء الكفار في ضلال وحيرة عن الحق توجب لهم العذاب، ويحتمل أن يريد بالعذاب عذاب الآخرة، أو العذاب في الدنيا بمعاندة الحق، ومحاولة ظهور الباطل. أَفَلَمْ يَرَوْا إِلى ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ الضمير في يروا للكفار المنكرين للبعث، وجعل السماء والأرض بين أيديهم وخلفهم، لأنهما محيطتان بهم، والمعنى ألم يروا إلى السماء والأرض فيعلمون أن الذي خلقهما قادر على بعث الناس بعد موتهم، ويحتمل أن يكون المعنى تهديد لهم ثم فسره بقوله: إن نشأ نخسف بهم الأرض أو نسقط عليهم كسفا من السماء: أي أفلم يروا إلى السماء والأرض أنهما محيطتان بهم، فيعلمون أنهم لا مهرب لهم من الله إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً الإشارة إلى إحاطة السماء بهم، أو إلى عظمة السماء والأرض بأن فيهما آية تدل على البعث. يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ تقديره: قلنا يا جبال، والجملة تفسير لفضلا، ومعنى أوّبي: سبّحي، وأصله من التأويب، وهو الترجيع، لأنه كان يرجّع التسبيح فترجعه معه: وقيل: هو من التأويب بمعنى السير بالنهار، وقيل: كان ينوح فتساعده الجبال بصداها، والطير بأصواتها وَالطَّيْرَ بالنصب عطف على موضع يا جبال، وقيل: مفعول معه، وقيل:

[سورة سبإ (34) : الآيات 14 إلى 17]

معطوف على فضلا، وقرئ بالرفع عطفا على لفظ: يا جبال وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ أي جعلناه له لينا بغير نار كالطين والعجين، وقيل لان له الحديد لشدّة قوته سابِغاتٍ هي الدروع الكاسية وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ معنى السرد هنا نسج الدروع، وتقديرها أن لا يعمل الحلقة صغيرة فتضعف ولا كبيرة فيصاب لابسها من خلالها، وقيل: لا يجعل المسمار دقيقا ولا غليظا وَاعْمَلُوا صالِحاً خطاب لداود وأهله وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ بالنصب على تقدير وسخرنا، وقرئ بالرفع رواية أبي بكر عن عاصم على الابتداء غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ أي كانت تسير به بالغداة مسيرة شهر، وبالعشي مسيرة شهر فكان يجلس على سريره وكان من خشب، يحمل فيها روي أربعة آلاف فارس، فترفعه الريح ثم تحمله وَأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ قال ابن عباس: كانت تسيل له باليمن عين من نحاس، يصنع منها ما أحب، والقطر: النحاس، وقيل: القطر الحديد والنحاس وما جرى مجرى ذلك: كان يسيل له منه أربعة عيون، وقيل: المعنى أن الله أذاب له النحاس بغير نار كما صنع بالحديد لداود نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ يعني نار الآخرة، وقيل: كان معه ملك يضربهم بصوت من نار مَحارِيبَ هي القصور، وقيل: المساجد وتماثيل قيل: إنها كانت على غير صور الحيوان وقيل على صور الحيوان وكان ذلك جائزا عندهم كَالْجَوابِ جمع جابية «1» وهي البركة التي يجتمع فيها الماء راسِياتٍ أي ثابتات في مواضعها لعظمها اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً حكاية ما قيل لآل داود، وانتصب شكرا على أنه مفعول من أجله، أو مصدر في موضع الحال، تقديره: شاكرين، أو مصدر من المعنى لأن العمل شكر تقديره: اشكروا شكرا، أو مفعول به وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ يحتمل أن يكون مخاطبة لآل داود أو مخاطبة لمحمد صلى الله عليه وسلم. دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ المنسأة هي العصا، وقرئ بهمز وبغير همز، ودابة الأرض هي الأرضة، وهي السوسة التي تأكل الخشب وغيره، وقصة الآية أن سليمان عليه السلام دخل قبة من قوارير، وقام يصلي متكئا على عصاه، فقبض روحه وهو متكئ عليها فبقى كذلك سنة، لم يعلم أحد بموته، حتى وقعت العصا فخر إلى الأرض. واختصرنا كثيرا مما ذكره الناس في هذه القصة لعدم صحته تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ من تبين الشيء إذا ظهر، وما بعدها بدل من الجنّ، والمعنى ظهر للناس أن الجن لا يعلمون الغيب، وقيل: تبينت بمعنى علمت، وأن وما بعدها مفعول به على هذه. والمعنى: علمت الجن أنهم لا يعلمون الغيب، وتحققوا أن

_ (1) . قرأ أبو عمرو وورش كالجوابي (في الوصل) .

[سورة سبإ (34) : الآيات 18 إلى 23]

ذلك بعد التباس الأمر عليهم، أو علمت الجن أن كفارهم لا يعلمون الغيب، وأنهم كاذبون في دعوى ذلك فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ يعني الخدمة التي كانوا يخدمون سليمان وتسخيره لهم في أنواع الأعمال، والمعنى لو كانت الجن تعلم الغيب ما خفي عليهم موت سليمان. لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ سبأ: قبيلة من العرب سميت باسم أبيها الذي تناسلت منه، وقيل: باسم أمها، وقيل: باسم موضعها، والأول أشهر، لأنه ورد في الحديث، وكانت مساكنهم «1» بين الشام [الشام هي جبال في اليمن] واليمن جَنَّتانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمالٍ كان لهم واد، وكانت الجنتان عن يمينه وشماله، وجنتان بدل من آية أو مبتدأ أو خبر مبتدأ محذوف كُلُوا تقديره: قيل: لهم كلوا من رزق ربكم، قالت لهم ذلك الأنبياء، وروي أنهم بعث لهم ثلاثة عشر نبيا فكذبوهم بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ أي كثيرة الأرزاق طيبة الهواء سليمة من الهوام فَأَعْرَضُوا أي أعرضوا عن شكر الله، أو عن طاعة الأنبياء فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ كان لهم سدّ يمسك الماء ليرتفع فتسقى به الجنتان، فأرسل الله على السد الجرذ، وهي دويبة خربته فيبست الجنتان، وقيل: لما خرب السدّ حمل السيل الجنتين وكثيرا من الناس، واختلف في معنى العرم: فقيل هو السدّ، وقيل هو اسم ذلك الوادي بعينه، وقيل معناه الشديد، فكأنه صفة للسيل من العرامة، وقيل هو الجرذ الذي خرب السدّ، وقيل: المطر الشديد أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ الأكل بضم الهمزة المأكول، والخمط شجر الأراك، وقيل: كل شجرة ذات شوك، والأثل شجر يشبه الطرفا والسدر شجر معروف، وإعراب خمط بدل من أكل، أو عطف بيان وقرئ بالإضافة وأثل عطف على الأكل لا على خمط، لأن الأثل لا أكل له، والمعنى أنه لما أهلكت الجنتان المذكورتان قيل: أبدلهم الله منها جنتين بضد وصفهما في الحسن والأرزاق وَهَلْ نُجازِي إِلَّا الْكَفُورَ «2» معناه لا يناقش ويجازى بمثل فعله إلا الكفور لأن المؤمن قد يسمح الله له ويتجاوز عنه وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها قُرىً ظاهِرَةً هذه الآية وما بعدها وصف حال سبأ قبل مجيء السيل وهلاك جناتهم، ويعني بالقرى التي باركنا فيها الشام، والقرى الظاهرة قرى متصلة من بلادهم إلى الشام، ومعنى ظاهرة يظهر بعضها من بعض لاتصالها، وقيل: مرتفعة في الآكام، وقال ابن عطية: خارجة عن المدن كما

_ (1) . قوله سبحانه: مسكنهم: قرأ الكسائي مسكنهم بكسر الكاف والنون، وقرأ حفص وحمزة في مسكنهم بفتح الكاف. وقرأ الباقون: مساكنهم بالجمع. (2) . قرأ حمزة والكسائي وحفص: (نجازي) وقرأ نافع وغيره: يجازي بالرفع على ما لم يسم فاعله.

تقول بظاهر المدينة أي خارجها وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ أي: قسمنا مراحل السفر، وكانت القرى متصلة، فكان المسافر يبيت في قرية ويصبح في أخرى، ولا يخاف جوعا ولا عطشا، ولا يحتاج إلى حمل زاد، ولا يخاف من أحد فَقالُوا رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا قرئ باعد وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بعد بالتخفيف والتشديد على وجه الطلب، والمعنى أنهم بطروا النعمة وملّوا العافية، وطلبوا من الله أن يباعد بين قراهم المتصلة ليمشوا في المفاوز ويتزوّدوا للأسفار، فعجل الله إجابتهم، وقرئ باعد بفتح العين على الخبر، والمعنى أنهم قالوا إن الله باعد بين قراهم، وذلك كذب وجحد للنعمة وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ يعني بقولهم باعد بين أسفارنا أو بذنوبهم على الإطلاق وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ أي فرقناهم في البلاد حتى ضرب المثل بفرقتهم، قيل تفرقوا أيدي سبا، وفي الحديث، إن سبأ أبو عشرة من القبائل، فلما جاء السيل على بلادهم تفرقوا فتيامن «1» منهم ستة وتشاءم أربعة. وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ أي وجد ظنه فيهم صادقا يعني قوله: لَأُغْوِيَنَّهُمْ، وقوله: وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ تعجيز للمشركين وإقامة حجة عليهم ويعني بالذين زعمتم آلهتهم، ومفعول زعمتم محذوف أي زعمتم أنهم آلهة أو زعمتم أنهم شفعاء، وروي أن ذلك نزل عند الجوع الذي أصاب قريشا مِنْ شِرْكٍ أي نصيب والظهير المعين وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ المعنى لا تنفع الشفاعة إلا لمن أذن الله له أن يشفع، فإنه لا يشفع أحد إلا بإذنه، وقيل: المعنى لا تنفع الشفاعة إلا لمن أذن له الله أن يشفع فيه، والمعنى أن الشفاعة على كل وجه لا تكون إلا بإذن الله، ففي ذلك ردّ على المشركين الذين كانوا يقولون: هؤلاء شفعاؤنا عند الله حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قالُوا ماذا قالَ رَبُّكُمْ تظاهرت الأحاديث عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم أن هذه الآية في الملائكة عليهم السلام، فإنهم إذا سمعوا الوحي إلى جبريل يفزعون لذلك فزعا عظيما، فإذا زال الفزع عن قلوبهم قال بعضهم لبعض: ماذا قال ربكم فيقولون: قال الحق، ومعنى فزع عن قلوبهم زال عنها الفزع، والضمير في قلوبهم وفي قالوا للملائكة، فإن قيل:

_ (1) . أي ذهبوا لجهة اليمين وتشاءم: ذهبوا نحو الشام.

[سورة سبإ (34) : الآيات 24 إلى 28]

كيف ذلك ولم يتقدم لهم ذكر يعود الضمير عليه؟ فالجواب أنه قد وقعت إليهم إشارة بقوله «وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ» لأن بعض العرب كانوا يعبدون الملائكة، ويقولون: هؤلاء شفعاؤنا عند الله، فذكر الشفاعة يقتضي ذكر الشافعين، فعاد الضمير على الشفعاء الذين دل عليهم لفظ الشفاعة، فإن قيل: بم اتصل قوله حتى إذا فزّع عن قلوبهم ولأي شيء وقعت حتى غائية؟ فالجواب أنه اتصل بما فهم من الكلام من أن ثم انتظارا للإذن، وفزعا وتوقفا حتى يزول الفزع بالإذن في الشفاعة، ويقرب هذا في المعنى من قوله: يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ [عمّ: 38] ولم يفهم بعض الناس اتصال هذه الآية بما قبلها فاضطربوا فيها حتى قال بعضهم: هي في الكفار بعد الموت، ومعنى فزع عن قلوبهم: رأوا الحقيقة، فقيل لهم: ماذا قال ربكم؟ فيقولون: قال الحق. فيقرّون حيث لا ينفعهم الإقرار، والصحيح أنها في الملائكة لورود ذلك في الحديث، ولأن القصد الردّ على الكفار الذين عبدوا الملائكة، فذكره شدّة خوف الملائكة من الله وتعظيمهم له. قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ سؤال قصد به إقامة الحجة على المشركين قُلِ اللَّهُ جواب عن السؤال بما لا يمكن المخالفة فيه، ولذلك جاء السؤال والجواب من جهة واحدة وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ هذه ملاطفة وتنزل في المجادلة إلى غاية الإنصاف كقولك: الله يعلم أن أحدنا على حق وأن الآخر على باطل، ولا تعين بالتصريح أحدهما، ولكن تنبه الخصم على النظر حتى يعلم من هو على الحق ومن هو على الباطل، والمقصود من الآية أن المؤمنين على هدى، وأن الكفار على ضلال مبين قُلْ لا تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنا إخبار يقتضي مسالمة نسخت بالسيف يَفْتَحُ بَيْنَنا أي يحكم، والفتاح الحاكم قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكاءَ إقامة حجة على المشركين، والرؤية هنا رؤية قلب فشركاء مفعول ثالث، والمعنى أروني بالدليل والحجة من هم له شركاء عندكم، وكيف وجه الشركة، وقيل: هي رؤية بصر، وشركاء حال من المفعول في ألحقتم كأنه قال: أين الذين تعبدون من دونه وفي قوله: أَرُونِيَ تحقير للشركاء وازدراء بهم، وتعجيز للمشركين، وفي قوله: كَلَّا ردع لهم عن الإشراك، وفي وصف الله بالعزيز الحكيم: ردّ عليهم بأن شركاءهم ليسوا كذلك. وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ المعنى أن الله أرسل محمدا صلى الله عليه وسلم إلى جميع الناس، وهذه إحدى الخصال التي أعطاه الله دون سائر الأنبياء، وإعراب كافة حال من الناس قدمت للاهتمام، هكذا قال ابن عطية، وقال الزمخشري: ذلك خطأ لأن تقدم حال المجرور عليه

[سورة سبإ (34) : الآيات 29 إلى 34]

لا يجوز، وتقديره عنده: وما أرسلناك إلا رسالة عامة للناس، فكافة صفة للمصدر المحذوف، وقال الزجّاج: المعنى أرسلناك جامعا للناس في الإنذار والتبشير، فجعله حالا من الكاف، والتاء على هذا للمبالغة كالتاء في راوية وعلّامة قُلْ لَكُمْ مِيعادُ يَوْمٍ يعني يوم القيامة، أو نزول العذاب بهم في الدنيا، وهو الذي سألوا عنه على وجه الاستخفاف، فقالوا: متى هذا الوعد وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ يعني الكتب المتقدمة كالتوراة والإنجيل، وإنما قال الكفار هذه المقالة، حين وقع عليهم الاحتجاج بما في التوراة، من ذكر محمد صلى الله عليه وسلم، وقيل: الذي بين يديه يوم القيامة وهذا خطأ وعكس لأن الذي بين يدي الشيء هو ما تقدم عليه. وَلَوْ تَرى جواب لو محذوف تقديره: لرأيت أمرا عظيما يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ الْقَوْلَ أي يتكلمون ويجيب بعضهم بعضا بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ أي كفرتم باختياركم لا بأمرنا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ المعنى أن المستضعفين قالوا للمستكبرين: بل مكركم بنا في الليل والنهار سبب كفرنا، وإعراب مكر مبتدأ وخبره محذوف، أو خبر ابتداء مضمر، وأضاف مكر إلى الليل والنهار على وجه الاتساع، ويحتمل أن يكون إضافة إلى المفعول أو إلى الفاعل على وجه المجاز: كقولهم: نهاره صيام وليله قيام أي يصام فيه ويقام، ودلت الإضافة على كثرة المكر ودوامه بالليل والنهار، فإن قيل: لم أثبت الواو في قول الذين استضعفوا دون قول الذين استكبروا؟ «1» فالجواب أنه قد تقدم كلام الذين استضعفوا قبل ذلك فعطف عليه كلامهم الثاني، ولم يتقدم للذين استكبروا كلام آخر فيعطف عليه وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ أي أخفوها في نفوسهم، وقيل: أظهروها فهو من الأضداد، والضمير لجميع المستضعفين والمستكبرين مُتْرَفُوها يعني أهل الغنى والتنعم في الدنيا، وهم الذين يبادرون إلى تكذيب الأنبياء، والقصد بالآية تسلية النبي صلى الله عليه وسلم على تكذيب أكابر قريش له وَقالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالًا وَأَوْلاداً الضمير لقريش أو للمترفين المتقدمين: قاسوا أمر الدنيا على الآخرة، وظنوا أن الله كما أعطاهم الأموال والأولاد في الدنيا لا يعذبهم في

_ (1) . المقصود بالواو في قوله: وقال الذين استضعفوا وفي الآية قبلها: قال الذين استكبروا بدون واو.

الآخرة قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إخبار يتضمن الردّ عليهم بأن بسط الرزق وقبضه في الدنيا معلق بمشيئة الله، فقد يوسع الله على الكافر وعلى العاصي، ويضيق على المؤمن والمطيع، وبالعكس، فليس في ذلك دليل على أمر الآخرة زُلْفى مصدر بمعنى القرب كأنه قال: تقربكم قربى إِلَّا مَنْ آمَنَ استثناء من المفعول في تقربكم، والمعنى أن الأموال لا تقرب إلا المؤمن الصالح الذي ينفقها في سبيل الله، وقيل الاستثناء منقطع، والأول أحسن جَزاءُ الضِّعْفِ يعني تضعيف الحسنات إلى عشر أمثالها فما فوق ذلك. يَبْسُطُ الرِّزْقَ الآية: كررت لاختلاف القصد، فإن القصد بالأول على الكفار، والقصد هنا ترغيب المؤمنين بالإنفاق فَهُوَ يُخْلِفُهُ الخلف قد يكون بمال أو بالثواب أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ براءة من أن يكون لهم رضا بعبادة المشركين لهم، وليس في ذلك نفي لعبادتهم لهم بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ عبادتهم للجن طاعتهم لهم في الكفر والعصيان، وقيل: كانوا يدخلون في جوف الأصنام فيعبدون بعبادتها، ويحتمل أن يكون قوم عبدوا الجن لقوله: وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ [الأنعام: 100] وَما آتَيْناهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَها الآية: في معناها وجهين: أحدهما ليس عندهم كتب تدل على صحة أقوالهم، ولا جاءهم نذير يشهد بما قالوه فأقوالهم باطلة إذ لا حجة لهم عليها، فالقصد على هذا ردّ عليهم، والآخر: أنهم ليس عندهم كتب ولا جاءهم نذير فهم محتاجون إلى من يعلمهم وينذرهم، ولذلك بعث الله إليهم محمدا صلى الله عليه وسلم، فالقصد على هذا إثبات نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وَما بَلَغُوا مِعْشارَ ما آتَيْناهُمْ المعشار العشر، وقيل عشر العشر، والأول أصح، والضمير في بلغوا لكفار قريش، وفي آتيناهم للكتب المتقدمة: أي إن هؤلاء لم يبلغوا عشر ما أعطى الله للمتقدمين من القوة والأموال، وقيل: الضمير في بلغوا للمتقدمين، وفي آتيناهم لقريش: أي ما بلغ المتقدمون عشر ما أعطى الله هؤلاء من البراهين والأدلة، والأول أصح وهو نظير قوله: كانوا أشدّ منهم قوة فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ أي إنكاري، يعني عقوبة الكفار المتقدمين، وفي ذلك تهديد لقريش.

[سورة سبإ (34) : الآيات 46 إلى 52]

قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ أي بقضية واحدة تقريبا عليكم أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ هذا تفسير القضية الواحدة وأن تقوموا بدل أو عطف بيان أو خبر ابتداء مضمر، ومعناه أن تقوموا للنظر في أمر محمد صلى الله عليه وآله وسلم قياما خالصا لله تعالى ليس فيه اتباع هوى ولا ميل، وليس المراد بالقيام هنا القيام على الرجلين إنما المراد القيام بالأمر والجدّ فيه مَثْنى وَفُرادى حال من الضمير في تقوموا، والمعنى أن تقوموا اثنين اثنين للمناظرة في الأمر وطلب التحقيق وتقوموا واحدا واحدا لإحضار الذهن واستجماع الفكرة، ثم تتفكروا في أمر محمد صلى الله عليه وآله وسلم فتعلموا أن ما به من جنة، لأنه جاء بالحق الواضح، ومع ذلك فإن أقواله وأفعاله تدل على رجاحة عقله ومتانة علمه، وأنه بلغ في الحكمة مبلغا عظيما، فيدل ذلك على أنه ليس بمجنون ولا مفتر على الله ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ متصل بما قبله على الأصح: أي تتفكروا فتعلموا ما بصاحبكم من جنة، وقيل هو استئناف قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ هذا كما يقول الرجل لصاحبه: إن أعطيتني شيئا فخذه، وهو يعلم أنه لم يعطه شيئا، ولكنه يريد البراءة من عطائه، وكذلك معنى هذا، فهو كقولك: قل ما أسألكم عليه من أجر قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ القذف الرمي ويستعار للإلقاء، فالمعنى يلقي الحق إلى أصفيائه، أو يرمي الباطل بالحق فيذهبه عَلَّامُ الْغُيُوبِ خبر ابتداء مضمر أو بدل من الضمير في يقذف أو من اسم إن على الموضع قُلْ جاءَ الْحَقُّ يعني الإسلام وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ الباطل الكفر، ونفى الإبداء والإعادة، على أنه لا يفعل شيئا ولا يكون له ظهور أو عبارة عن ذهابه كقوله: جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ [الإسراء: 81] وقيل: الباطل الشيطان إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ يعني قربه تعالى بعلمه وإحاطته. وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا جواب لو محذوف تقديره: لرأيت أمرا عظيما، أو معنى فزعوا: أسرعوا إلى الهروب، والفعل ماض بمعنى الاستقبال، وكذلك ما بعده من الأفعال، ووقت الفزع البعث، وقيل: الموت، وقيل: يوم بدر فَلا فَوْتَ أي لا يفوتون الله إذ هربوا وَأُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ يعني من الموقف إلى النار إذا بعثوا، أو من ظهر الأرض إلى بطنها إذا ماتوا، أو من أرض بدر إلى القليب، والمراد على كل قول سرعة أخذهم وَقالُوا آمَنَّا بِهِ أي قالوا ذلك عند أخذهم، والضمير المجرور لله تعالى أو للنبي صلى الله عليه وسلم، أو للقرآن أو للإسلام وَأَنَّى لَهُمُ التَّناوُشُ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ التناوش بالواو التناول، إلا أن التناوش تناول

[سورة سبإ (34) : الآيات 53 إلى 54]

قريب سهل لشيء قريب، وقرئ «1» بهمز الواو فيحتمل أن يكون المعنى واحدا، ويكون المهموز بمعنى الطلب، ومعنى الآية استبعاد وصولهم إلى مرادهم، والمكان البعيد: عبارة عن تعذر مقصودهم فإنهم يطلبون ما لا يكون، أو يريدون أن يتناولوا ما لا ينالون وهو رجوعهم إلى الدنيا أو انتفاعهم بالإيمان حينئذ وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ الضمير يعود على ما عاد عليه قولهم آمنا به وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ يقذفون فعل ماض في المعنى معطوف على كفروا، ومعناه أنهم يرمون بظنونهم في الأمور المغيبة فيقولون: لا بعث ولا جنة ولا نار. ويقولون في الرسول عليه الصلاة والسلام: إنه ساحر أو شاعر. والمكان البعيد هنا عبارة عن بطلان ظنونهم وبعد أقوالهم عن الحق وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ أي حيل بينهم وبين دخول الجنة، وقيل: حيل بينهم وبين الانتفاع بالإيمان حينئذ، وقيل: حيل بينهم وبين نعيم الدنيا والرجوع إليها كَما فُعِلَ بِأَشْياعِهِمْ مِنْ قَبْلُ يعني الكفار المتقدمين وجعلهم أشياعهم لاتفاقهم في مذاهبهم، ومن قبل يحتمل أن يتعلق بفعل، أو بأشياعهم على حسب معنى ما قبله فِي شَكٍّ مُرِيبٍ هو أقوى الشك وأشده إظلاما.

_ (1) . قرا بالهمز أبو عمرو وحمزة والكسائي: وأنّى التناؤش.

سورة فاطر

سورة فاطر مكية وآياتها 45 نزلت بعد الفرقان بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (سورة فاطر) جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا أي وسائط بين الله وبين الأنبياء متصرفين في أمر الله مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ صفات للأجنحة ولم ينصرف للعدل والوصف، والمعنى أن الملائكة منهم من له جناحان، ومنهم من له ثلاثة أجنحة، ومنهم من له أربعة أجنحة يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ قيل: يعني حسن الصوت، وقيل: حسن الوجه، وقيل: حسن الحظ، والأظهر أنه يرجع إلى أجنحة الملائكة، أو يكون على الإطلاق في كل زيادة في المخلوقين ما يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها الفتح عبارة عن العطاء والإمساك عبارة عن المنع، والإرسال الإطلاق بعد المنع والرحمة كل ما يمنّ الله به على عباده من خيري الدنيا والآخرة فمعنى الآية: لا مانع لما أعطى الله ولا معطي لما منع الله، فإن قيل: لم أنث الضمير في قوله فَلا مُمْسِكَ لَها وذكّره في قوله: فَلا مُرْسِلَ لَهُ وكلاهما يعود على ما الشرطية، فالجواب: أنه لما فسر من الأولى بقوله من رحمة أنثه لتأنيث الرحمة، وترك الآخر على الأصل من التذكير مِنْ بَعْدِهِ أي من بعد إمساكه هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ رفع غير على الصفة لخالق على الموضع، وخفضه صفة على الرفع، ورزق السماء المطر، ورزق الأرض النبات، والمعنى تذكير بنعم الله وإقامة حجة على المشركين، ولذلك أعقبه بقوله: لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ الآية: تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم على تكذيب قومه كأنه يقول: إن يكذبوك فلا تحزن لذلك فإن الله سينصرك عليهم، كما كذبت رسل من قبلك فنصرهم الله الْغَرُورُ

[سورة فاطر (35) : الآيات 8 إلى 11]

الشيطان، وقيل: التسويف أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ توقيف [سؤال] وجوابه محذوف تقديره: أفمن زين له سوء عمله كمن لم يزين له؟ ثم بنى على ذلك ما بعده، فالذي زين له سوء عمله هو الذي أضله الله، ومن لم يزين له سوء عمله هو الذي هداه الله فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم عن حزنه لعدم إيمانهم، لأن ذلك بيد الله كَذلِكَ النُّشُورُ أي الحشر، والمعنى: كما يحيي الله الأرض بالنبات كذلك يحيي الموتى. مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ الآية تحتمل ثلاثة معان: أحدها وهو الأظهر من كان يريد نيل العزة فليطلبها من عند الله، فإن العزة كلها لله، والثاني من كان يريد العزة بمغالبة الإسلام فلله العزة جميعا، فالمغالب له مغلوب، والثالث من كان يريد أن يعلم لمن العزة فليعلم أن العزة لله جميعا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ قيل: يعني لا إله إلا الله، واللفظ يعم ذلك وغيره من الذكر، والدعاء، وتلاوة القرآن، وتعليم العلم: فالعموم أولى وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ فيه ثلاثة أقوال أحدها أن ضمير الفاعل في يرفعه: الله وضمير المفعول للعمل الصالح، فالمعنى على هذا أن الله يرفع العمل الصالح: أي يتقبله ويثيب عليه، والثاني أن ضمير الفاعل للكلام الطيب، وضمير المفعول للعمل الصالح، والمعنى على هذا: لا يقبل عمل صالح إلا ممن له كلام طيب، وهذا يصح إن قلنا: إن الكلم الطيب لا إله إلا الله، لأنه لا يقبل العمل إلا من موحد، والثالث أن ضمير الفاعل للعمل الصالح، وضمير المفعول للكلم الطيب، والمعنى على هذا أن العمل الصالح هو الذي يرفع الكلم الطيب فلا يقبل الكلم إلا ممن له عمل صالح، وروي هذا المعنى عن ابن عباس، واستبعده ابن عطية وقال: لم يصح عنه لأن اعتقاد أهل السنة أن الله يتقبل من كل مسلم. قال وقد يستقيم بأن يتأول أن الله يزيد في رفعه وحسن موقعه يَمْكُرُونَ السَّيِّئاتِ لا يتعدى مكر فتأويله يمكرون المكرات السيئات، فتكون السيئات مصدرا أو تضمن يمكرون معنى يكتسبون فتكون السيئات مفعولا، والإشارة هنا إلى مكر قريش برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين اجتمعوا في دار الندوة وأرادوا أن يقتلوه أو يحبسوه أو يخرجوه وَمَكْرُ أُولئِكَ هُوَ يَبُورُ البوار الهلاك أو الكساد، ومعناه هنا أن مكرهم يبطل ولا ينفعهم. ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْواجاً أي أصنافا وقيل: ذكرانا وإناثا وهذا أظهر وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتابٍ التعمير: طول العمر والنقص: قصره والكتاب: اللوح

[سورة فاطر (35) : الآيات 12 إلى 14]

المحفوظ فإن قيل: إن التعمير والنقص لا يجتمعان لشخص واحد فيكف أعاد الضمير في قوله: ولا ينقص من عمره على الشخص المعمر؟ فالجواب من ثلاثة أوجه الأول وهو الصحيح أن المعنى ما يعمر من أحد ولا ينقص من عمره إلا في كتاب، فوضع من معمر موضع من أحد، وليس المراد شخصا واحدا، وإنما ذلك كقولك لا يعاقب الله عبدا ولا يثيبه إلا بحق، والثاني أن المعنى لا يزاد في عمر إنسان ولا ينقص من عمره إلا في كتاب، وذلك أن يكتب في اللوح المحفوظ أن فلانا إن تصدق فعمره ستون سنة وإن لم يتصدق فعمره أربعون، وهذا ظاهر قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: صلة الرحم تزيد في العمر، إلا أن ذلك مذهب المعتزلة القائلين بالأجلين وليس مذهب الأشعرية، وقد قال كعب حين طعن عمر: لو دعا الله لزاد في أجله، فأنكر الناس عليه فاحتج بهذه الآية. والثالث أن التعمير هو كتب ما يستقبل من العمر والنقص هو: كتب ما مضى منه في اللوح المحفوظ وذلك حق كل شخص. وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ قد فسرنا البحرين الفرات والأجاج في [الفرقان: 53] وسائغ في [النحل: 66] ، والقصد بالآية التنبيه على قدرة الله ووحدانيته وإنعامه على عباده، وقال الزمخشري: إن المعنى أن الله ضرب للبحرين الملح والعذب مثلين للمؤمن والكافر وهذا بعيد لَحْماً طَرِيًّا يعني الحوت [السمك] حِلْيَةً تَلْبَسُونَها يعني الجوهر والمرجان، فإن قيل: إن الحلية لا تخرج إلا من البحر الملح دون العذب، فكيف قال: ومن كل أي من كل واحد منهما؟ فالجواب من ثلاثة أوجه: الأول أن ذلك تجوّز في العبارة كما قال: امَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ [الأنعام: 13] والرسل إنما هي من الإنس. الثاني أن المرجان إنما يوجد في البحر الملح حيث تنصب أنهار الماء العذب، أو ينزل المطر فلما كانت الأنهار والمطر وهي البحر العذب تنصب في البحر الملح كان الإخراج منهما جميعا. الثالث زعم قوم أنه يخرج اللؤلؤ والمرجان من الملح والعذب، وهذا قول يبطله الحس أي الواقع مَواخِرَ ذكر في [النحل: 14] يُولِجُ ذكر في [لقمان: 29] قِطْمِيرٍ هو القشر الرقيق الأبيض الذي على نوى التمر، والمعنى أن الأصنام لا يملكون أقل الأشياء فكيف أكثرها يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ أي بإشراككم، فالمصدر مضاف للفاعل، وكفر الأصنام بالشرك يحتمل أن يكون بكلام يخلقه الله عندها، أو بقرينة الحال وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ أي لا يخبرك بالأمر مخبر مثل مخبر عالم به، يعني نفسه تعالى في إخباره أن الأصنام يكفرون يوم القيامة بمن عبدهم.

[سورة فاطر (35) : الآيات 15 إلى 24]

أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللَّهِ خطاب لجميع الناس، وإنما عرف الفقر بالألف واللام ليدل على اختصاص الفقر بجنس الناس، وإن كان غيرهم فقراء ولكن فقراء الناس أعظم، ثم وصف نفسه بأنه الغني في مقابلة وصفهم بالفقر، ووصفه بأنه الحميد ليدل على وجوده وكرمه الذي يوجب أن يحمده عباده وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ الحمل عبارة عن الذنوب، والمثقلة الثقيلة الحمل أو النفس الكثيرة الذنوب، والمعنى أنها لو دعت أحدا إلى أن يحمل عنها ذنوبها لم يحمل عنها، وحذف مفعول إن تدع لدلالة المعنى وقصد العموم، وهذه الآية بيان وتكميل لمعنى قوله: وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى [الإسراء: 15] وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى المعنى ولو كان المدعوّ ذا قربى ممن دعاه إلى حمل ذنوبه لم يحمل منه شيئا، لأن كل واحد يقول: نفسي نفسي إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ المعنى أن الإنذار لا ينفع إلا الذين يخشون ربهم، وليس المعنى اختصاصهم بالإنذار بِالْغَيْبِ في موضع حال من الفاعل في يخشون أي يخشون ربهم، وهم غائبون عن الناس فخشيتهم حق لا رياء. وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ تمثيل للكافر والمؤمن وَلَا الظُّلُماتُ وَلَا النُّورُ تمثيل للكفر والإيمان وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ تمثيل للثواب والعقاب وقيل: الظل: الجنة والحرور النار. والحرور في اللغة: شدة الحر بالنهار والليل والسموم بالنهار خاصة وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلَا الْأَمْواتُ تمثيل لمن آمن فهو كالحي ومن لم يؤمن فهو كالميت إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ عبارة عن هداية الله لمن يشاء وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ عبارة عن عدم سماع الكفار للبراهين والمواعظ، فشبههم بالموتى في عدم إحساسهم، وقيل: المعنى أن أهل القبور وهم الموتى حقيقة لا يسمعون، فليس عليك أن تسمعهم، وإنما بعث للأحياء وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ معناه أن الله قد بعث إلى كل أمة نبيا يقيم عليهم الحجة، فإن قيل: كيف ذلك وقد كان بين الأنبياء فترات وأزمنة طويلة؟ ألا ترى أن بين عيسى ومحمدا صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم ستمائة سنة لم يبعث فيها نبي؟ فالجواب أن دعوة عيسى ومن تقدمه من الأنبياء كانت قد بلغتهم فقامت عليهم الحجة. فإن قيل: كيف الجمع بين هذه الآية وبين قوله لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ؟ [السجدة: 3] فالجواب أنهم لم يأتهم نذير معاصر لهم، فلا يعارض ذلك من تقدم قبل عصرهم، وأيضا فإن المراد بقوله: وإن من أمة إلا خلا فيها نذير أن نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ليست ببدع فلا ينبغي أن تنكر، لأن الله أرسله كما

[سورة فاطر (35) : الآيات 25 إلى 31]

أرسل من قبله والمراد بقوله: لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك أنهم محتاجون إلى الإنذار، لكونهم لم يتقدم من ينذرهم فاختلف سياق الكلام فلا تعارض بينهما. وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ الآية تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم للتأسي نَكِيرِ ذكر في سبأ ثَمَراتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوانُها يريد الصفرة والحمرة وغير ذلك من الألوان، وقيل: يريد الأنواع والأول أظهر لذكره البيض والحمر والسود بعد ذلك. وفي الوجهين دليل على أن الله تعالى فاعل مختار، يخلق ما يشاء ويختار. وفيه ردّ على الطبائعيين [الدهريين] لأن الطبيعة لا يصدر عنها إلا نوع واحد جُدَدٌ جمع جدة وهي الخطط والطرائق في الجبال وَغَرابِيبُ جمع غربيب وهو الشديد السواد، وقدم الوصف الأبلغ، وكان حقه أن يتأخر لقصد التأكيد، ولأن ذلك كثيرا ما يأتي في كلام العرب كَذلِكَ يتعلق بما قبله فيتم الوقف عليه والمعنى: أن من الناس والدواب والأنعام مختلف ألوانه، مثل الجبال المختلف ألوانها، والثمرات المختلف ألوانها، وذلك كله استدلال على قدرة الله وإرادته. إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ يعني العلماء بالله وصفاته وشرائعه علما يوجب لهم الخشية من عذابه وفي الحديث: أعلمكم بالله أشدكم له خشية «1» لأن العبد إذا عرف الله خاف من عقابه وإذا لم يعرفه لم يخف منه فلذلك خص العلماء بالخشية إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللَّهِ أي يقرءون القرآن وقيل: معنى يتلون: يتبعون والخبر يرجون تجارة أو محذوف لَنْ تَبُورَ أي لن تكسد ويعني بالتجارة طلب الثواب وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ توفية الأجور، وهو ما يستحقه المطيع من الثواب، والزيادة التضعيف فوق ذلك، وقيل: الزيادة النظر إلى وجه الله مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ تقدم في البقرة. ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا يعني أمة محمد صلى الله عليه وسلم، والتوريث عبارة عن أن الله أعطاهم الكتاب بعد غيرهم من الأمم فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ قال عمر وابن مسعود وابن عباس وكعب وعائشة وأكثر المفسرين هذه الأصناف

_ (1) . لم أعثر عليه بهذا اللفظ ومعناه صحيح والله أعلم.

[سورة فاطر (35) : الآيات 37 إلى 42]

الثلاثة في أمة محمد صلى الله عليه وسلم: فالظالم لنفسه العاصي والسابق التقي والمقتصد بينهما وقال الحسن: السابق من رجحت حسناته على سيئاته، والظالم لنفسه من رجحت سيئاته والمقتصد من استوت حسناته وسيّئاته، وجميعهم يدخلون الجنة وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: [سابقنا سابق ومقتصدنا ناج وظالمنا مغفور له] «1» وقيل: الظالم الكافر والمقتصد المؤمن العاصي، والسابق التقي فالضمير في منهم على هذا يعود على العباد، وأما على القول الأول فيعود على الذين اصطفينا وهو أرجح وأصح لوروده في الحديث، وجلالة القائلين به، فإن قيل: لم قدّم الظالم ووسط المقتصد وأخر السابق؟ فالجواب: أنه قدّم الظالم لنفسه رفقا به لئلا ييئس وأخر السابق لئلا يعجب بنفسه، وقال الزمخشري: قدّم الظالم لكثرة الظالمين وأخر السابق لقلة السابقين ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ إشارة إلى الاصطفاء جَنَّاتُ عَدْنٍ بدل من الفضل أو خبر مبتدأ تقديره: ثوابهم جنات عدن أو مبتدأ تقديره: لهم جنات عدن يَدْخُلُونَها ضمير الفاعل يعود على الظالم، والمقتصد، والسابق، على القول بأن الآية في هذه الأمة: وأما على القول بأن الظالم هو الكافر فيعود على المقتصد والسابق خاصة، وقال الزمخشري: إنه يعود على السابق خاصة وذلك على قول المعتزلة في الوعيد أَساوِرَ ذكر في [الحج: 23] أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ قيل هو عذاب النار، وقيل: أهوال القيامة وقيل: هموم الدنيا والصواب العموم في ذلك كله دارَ الْمُقامَةِ هي الجنة والمقامة هي الإقامة، والموضع وإنما سميت الجنة دار المقامة، لأنهم يقومون فيها ولا يخرجون منها نَصَبٌ النصب تعب البدن، واللغوب تعب النفس، اللازم عن تعب البدن يَصْطَرِخُونَ يفتعلون من الصراخ أي يستغيثون فيقولون: ربنا أخرجنا وفي قولهم: غير الذي كنا نعمل اعتراف بسوء عملهم وتندم عليه.

_ (1) . ذكره في التيسير ج 2 ص 49 وعزاه لابن مردويه والبيهقي في البعث عن ابن عمر ثم قال: وهذا منكر رواه بلفظ: السابق والمقتصد يدخلان الجنة بغير حساب والظالم لنفسه يحاسب حسابا يسيرا ثم يدخل الجنة وعزاه للحاكم عن أبي الدرداء بإسناد صحيح ص 68 وأقول: إن الفرقاء الثلاثة ناجون لقوله سبحانه في أول الآية: اصطفينا من عبادنا- والاصطفاء لا يتفق مع الكفر ولا مع العذاب، إذن فتسمية هؤلاء الفرقاء المصطفين بأنهم ظالم لنفسه ومقتصد وسابق، لبيان اختلاف درجاتهم. كما يقول الصوفية: حسنات الأبرار سيئات المقربين. والله أعلم. مصححة.

[سورة فاطر (35) : الآيات 43 إلى 45]

أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ الآية توبيخ لهم وإقامة حجة عليهم وقيل: إن مدة التذكير ستون سنة وقيل: أربعون وقيل: البلوغ والأول أرجح لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: من عمره الله ستين فقد أعذر إليه في العمر «1» وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ يعني النبي صلى الله عليه وسلم، وقيل: يعني الشيب، لأنه نذير بالموت والأول أظهر إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ أي بما تضمره الصدور وتعتقده، وقال الزمخشري: ذات هنا تأنيث ذو بمعنى صاحب لأن المضمرات تصحب الصدور خَلائِفَ ذكر في الأنعام مَقْتاً المقت احتقار الإنسان وبغضه لأجل عيوبه أو ذنوبه قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكاءَكُمُ الآية احتجاج على المشركين وإبطال لمذهبهم أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ أي نصيب عَلى بَيِّنَةٍ «2» قرأ نافع بيّنات أي على أمر جليّ، والضمير في أتيناهم يحتمل أن يكون للأصنام أو للمشركين وهذا أظهر في المعنى والأول أليق بما قبله من الضمائر أَنْ تَزُولا في موضع مفعول من أجله تقديره كراهة أن تزولا أو مفعول به لأن يمسك بمعنى يمنع وَلَئِنْ زالَتا أي لو فرض زوالهما لم يمسكهما أحد، وقيل: أراد زوالهما يوم القيامة عند طيّ السماء وتبديل الأرض ونسف الجبال مِنْ بَعْدِهِ أي من بعد تركه الإمساك وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ الضمير لقريش وذلك أنهم قالوا: لعن الله اليهود والنصارى جاءتهم الرسل فكذبوهم، والله لئن جاءنا رسول لنكونن أهدى منهم إِحْدَى الْأُمَمِ يعني اليهود والنصارى فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ يعني محمد صلى الله عليه وآله وسلم اسْتِكْباراً بدل من نفورا أو مفعول من أجله وَمَكْرَ السَّيِّئِ هذا من إضافة الصفة إلى الموصوف كقولك: مسجد الجامع وجانب الغربي والأصل أن يقال: المكر السيء وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ أي لا يحيط وبال المكر السيء إلا بمن مكره ودبره، وقال كعب لابن عباس: إن في التوراة من حفر حفرة لأخيه وقع فيها فقال ابن عباس: أنا أجد هذا في كتاب الله: ولا يحيق المكر

_ (1) . ورد في البخاري عن أبي هريرة ونصه: أعذر الله إلى امرئ أخّر أجله حتى بلغ ستين سنة ج/ 7/ 171. [.....] (2) . قرأ نافع وابن عامر وأبو بكر والكسائي: فهم على بينات منه، والباقون: بينة.

السيء إلا بأهله فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ أي هل ينظرون إلا عادة الأمم المتقدمة في أخذ الله لهم وإهلاكهم بتكذيبهم للرسل وَما كانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ أي لا يفوته شيء ولا يصعب عليه ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ الضمير للأرض والدابة عموم في كل ما يدب وقيل: أراد بني آدم خاصة إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى يعني يوم القيامة وباقي الآية وعد ووعيد.

سورة يس

سورة يس مكية إلا 45 فمدنية وآياتها 83 نزلت بعد الجن بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (سورة يس) قد تكلمنا في البقرة على حروف الهجاء وقيل: في يس إنه من أسماء النبي صلى الله عليه وسلم وقيل: معناه يا إنسان تَنْزِيلَ بالرفع «1» خبر ابتداء مضمر وبالنصب مصدر أو مفعول بفعل مضمر لِتُنْذِرَ قَوْماً هم قريش ويحتمل أن يدخل معهم سائر العرب وسائر الأمم ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ ما نافية والمعنى: لم يرسل إليهم ولا لآبائهم رسول ينذرهم، وقيل المعنى: لتنذر قوما مثل ما أنذر آباؤهم، فما على هذا موصولة بمعنى الذي، أو مصدرية والأول أرجح لقوله فَهُمْ غافِلُونَ يعني أن غفلتهم بسبب عدم إنذارهم، وتكون بمعنى قوله: ما أتاهم من نذير من قبلك ولا يعارض هذا بعث الأنبياء المتقدمين، فإن هؤلاء القوم لم يدركوهم ولا آباؤهم الأقربون لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ أي سبق القضاء إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالًا الآية: فيها ثلاثة أقوال: الأول أنها عبارة عن تماديهم على الكفر، ومنع الله لهم من الإيمان، فشبههم بمن جعل في عنقه غل يمنعه من الالتفات، وغطى على بصره فصار لا يرى، والثاني أنها عبارة عن كفهم عن إذاية النبي صلى الله عليه وسلم حين أراد أبو جهل أن يرميه بحجر، فرجع عنه فزعا مرعوبا، والثالث: أن ذلك حقيقة في حالهم في جهنم، والأول أظهر وأرجح لقوله قبلها «فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ» وقوله بعدها «وَسَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ» فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ الذقن هي طرف الوجه حيث تنبت اللحية، والضمير للأغلال، وذلك أن الغل حلقة في العنق، فإذا كان واسعا عريضا وصل إلى الذقن فكان أشدّ على المغلول، وقيل: الضمير للأيدي على أنها لم يتقدم لها ذكر، ولكنها تفهم من سياق الكلام، لأن المغلول تضم يداه في الغل إلى عنقه، وفي مصحف ابن مسعود: إنا جعلنا في أيديهم أغلالا فهي إلى الأذقان. وهذه القراءة تدل على هذا المعنى، وقد أنكره الزمخشري

_ (1) . قرأ نافع بالرفع وقرأ آخرون بالنصب.

[سورة يس (36) : الآيات 9 إلى 18]

فَهُمْ مُقْمَحُونَ يقال قمح البعير إذا رفع رأسه، وأقمحه غيره إذا فعل به ذلك، والمعنى أنهم لما اشتدت الأغلال حتى وصلت إلى أذقانهم اضطرت رؤوسهم إلى الارتفاع، وقيل: معنى مقمحون ممنوعون من كل خير. وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا الآية: السد «1» الحائل بين الشيئين، وذلك عبارة عن منعهم من الإيمان فَأَغْشَيْناهُمْ أي غطينا على أبصارهم وذلك أيضا مجاز يراد به إضلالهم وَسَواءٌ عَلَيْهِمْ الآية: ذكرنا معناها وإعرابها في [البقرة: 6] إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ المعنى أن الإنذار لا ينفع إلا من اتبع الذكر وهو القرآن وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ معناه كقولك: إنما تنذر الذين يخشون ربهم بالغيب وقد ذكرناه في [فاطر: 18] إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى أي نبعثهم يوم القيامة، وقيل: إحياؤهم إخراجهم من الشرك إلى الإيمان، والأوّل أظهر وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ أي ما قدموا من أعمالهم، وما تركوه بعدهم، كعلم علموه أو تحبيس [وقف] حبسوه، وقيل: الأثر هنا: الخطا إلى المساجد، وجاء ذلك في الحديث إِمامٍ مُبِينٍ أي في كتاب وهو اللوح المحفوظ أو صحائف الأعمال. وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا الضمير لقريش، ومثلا وأصحاب القرية مفعولان باضرب على القول بأنها تتعدى إلى مفعولين، وهو الصحيح والقرية أنطاكية إِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ هم من الحواريين الذين أرسلهم عيسى عليه الصلاة والسلام، يدعون الناس إلى عبادة الله، وقيل: بل هم رسل أرسلهم الله، ويدل على هذا قول قومهم: ما أنتم إلا بشر مثلنا، فإن هذا إنما يقال: لمن ادعى أن الله أرسله فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ أي قوينا الاثنين برسول ثالث، قيل: اسمه شمعون رَبُّنا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ إنما أكدوا الخبر هنا باللام لأنه جواب المنكرين، بخلاف الموضع الأول فإنه إخبار مجرد قالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ أي تشاءمنا بكم، وأصل اللفظة من زجر الطير ليستدل على ما يكون من شر أو خير، وإنما تشاءموا بهم لأنهم جاءوهم بدين غير دينهم، وقيل: وقع فيهم الجذام لما كفروا، وقيل: قحطوا قالُوا طائِرُكُمْ مَعَكُمْ أي قال الرسل لأهل القرية: شؤمكم معكم أي إنما الشؤم الذي أصابكم

_ (1) . السد فيه لغتان قرأ نافع بالضم وقرأ الباقون بفتح السين.

[سورة يس (36) : الآيات 31 إلى 39]

بسبب كفركم لا بسببنا أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ دخلت همزة الاستفهام على حرف الشرط وفي الكلام حذف تقديره: أتطيرون أن ذكرتم يَسْعى أي يسرع بجده ونصيحته، وقيل: اسمه حبيب النجار اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ أي هؤلاء المرسلون لا يسألونكم أجرة على الإيمان، فلا تخسرون معهم شيئا من دنياكم، وترجون معهم الاهتداء في دينكم وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي المعنى أي شيء يمنعني من عبادة ربي؟ وهذا توقيف سؤال وإخبار عن نفسه قصد به البيان لقومه، ولذلك قال: وإليه ترجعون فخاطبهم إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفاعَتُهُمْ هذا وصف للآلهة، والمعنى: كيف أتخذ من دون الله آلهة لا يشفعون ولا ينقذونني من الضر إِنِّي إِذاً لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ أي: إن اتخذت آلهة غير الله فإني لفي ضلال مبين إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ خطاب لقومه أي: اسمعوا قولي واعملوا بنصيحتي، وقيل: خطاب للرسل ليشهدوا له. قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قيل: هنا محذوف يدل عليه الكلام، وروي في الأثر وهو أن الرجل لما نصح قومه قتلوه فلما مات قيل له: ادخل الجنة، واختلف هل دخلها حين موته كالشهداء؟ أو هل ذلك بمعنى البشارة بالجنة ورؤيته لمقعده منها؟ قالَ يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ بِما غَفَرَ لِي رَبِّي تمنّى أن يعلم قومه بغفران الله له على إيمانه فيؤمنون، ولذلك ورد في الحديث أنه نصح لهم حيا وميتا، وقيل: أراد أن يعلموا ذلك فيندموا على فعلهم معه وينفعهم ذلك وَما أَنْزَلْنا عَلى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّماءِ المعنى أن الله أهلكهم بصيحة صاحها جبريل، ولم يحتج في تعذيبهم إلى إنزال جند من السماء، لأنهم أهون من ذلك، وقيل: المعنى ما أنزل الله على قومه ملائكة رسلا كما قالت قريش: لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً [الفرقان: 7] ولفظ الجند أليق بالمعنى الأول، وكذلك ذكر الصيحة بعد ذلك وَما كُنَّا مُنْزِلِينَ ما كنا لننزل جندا من السماء على أحد فَإِذا هُمْ خامِدُونَ أي ساكنون لا يتحركون ولا ينطقون. يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ نداء للحسرة كأنه قال: يا حسرة احضري فهذا وقتك، وهذا التفجع عليهم استعارة في معنى التهويل والتعظيم لما فعلوا من استهزائهم بالرسل، ويحتمل أن يكون من كلام الملائكة، أو المؤمنين من الناس، وقيل: المعنى يا حسرة العباد على أنفسهم أَلَمْ يَرَوْا الضمير لقريش أو للعباد على الإطلاق، والرؤية هنا بمعنى العلم وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنا

مُحْضَرُونَ قرئ لما بالتخفيف وهي لام التأكيد دخلت على ما المزيدة وإن على هذا مخففة من الثقيلة، وقرئ بالتشديد وهي بمعنى إلا «1» ، وإن على هذا نافية وَما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ ما معطوفة على ثمره أي ليأكلوا من الثمر وما عملته أيديهم بالحرث والزراعة والغراسة، وقيل ما نافية وقرئ ما عملت من غير هاء «2» وما على هذا معطوفة الْأَزْواجَ يعني أصناف المخلوقات ثم فسرها بقوله: مما تنبت الأرض وما بعده، فمن في المواضع الثلاثة للبيان وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ يعني أشياء لا يعلمها بنو آدم كقوله: وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ [النحل: 8] . نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ أي نجرده منه وهي استعارة وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها أي لحد موقت تنتهي إليه من فلكها، وهي نهاية جريها إلى أن ترجع في المنقلبين الشتاء والصيف، وقيل: مستقرها: وقوفها كل وقت زوال، بدليل وقوف الظل حينئذ، وقيل: مستقرها يوم القيامة حين تكوّر، وفي الحديث: مستقرها تحت العرش تسجد فيه كل ليلة بعد غروبها» ، وهذا أصح الأقوال لوروده عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المروي في البخاري عن أبي ذر «3» ، وقرئ لا مستقر لها أي لا تستقر عن جريها وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ قرأ نافع «4» بالرفع على الابتداء أو عطف على الليل، وآخرون بالنصب على إضمار فعل، ولا بد في قدّرناه من حذف تقديره: قدرنا سيره منازل، ومنازل القمر ثمانية وعشرون ينزل القمر كل ليلة واحدة منها من أول الشهر، ثم يستتر في آخر الشهر ليلة أو ليلتين، وقال الزمخشري: وهذه المنازل هن مواضع النجوم وهي السرطان، البطين، الثريا، الدبران، الهقعة الهنعة، الذراع، النثرة، الطرف، الجبهة، الزبرة الصرفة، العوى، السماك، الغفر، الزباني، الإكليل، القلب، الشولة، النعائم، البلدة، سعد بلع، سعد الذابح، سعد السعود، سعد الأخبية، فرغ الدلو المقدم، فرغ الدلو المؤخر، بطن الحوت حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ العرجون هو غصن النخلة شبه القمر به إذا انتهى في نقصانه، والتشبيه في ثلاثة

_ (1) . قرأ ابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي: لمّا بالتشديد وقرأها الباقون بدون تشديد. (2) . قرأها حمزة والكسائي وأبو بكر: ما عملت، وقرأ الباقون: وما عملته أيديهم. (3) . انظر الجامع الصحيح للبخاري كتاب بدء الخلق ج 4 ص 75. (4) . نافع وابن كثير وأبو عمرو والباقون: والقمر بالنصب.

[سورة يس (36) : الآيات 40 إلى 44]

أوصاف: وهي الرقة، والانحناء، والصفرة، ووصفه بالقديم لأنه حينئذ تكون له هذه الأوصاف لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ المعنى لا يمكن الشمس أن تجتمع مع القمر بالليل فتمحو نوره، وهكذا قال بعضهم، ويحتمل أن يريد أن سير الشمس في الفلك بطيء، فإنها تقطع الفلك في سنة وسير القمر سريع، فإنه يقطع الفلك في شهر، والبطيء لا يدرك السريع وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ يعني أن كل واحد منهما جعل الله له وقتا موقتا واحدا معلوما لا يتعدّاه، فلا يأتي الليل حتى ينفصل النهار، كما لا يأتي النهار حتى ينفصل الليل، ويحتمل أن يريد أن آية الليل وهي القمر لا تسبق آية النهار وهي الشمس: أي لا تجتمع معه فيكون المعنى كالذي قيل في قوله «لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر» فحصل من ذلك أن الشمس لا تجتمع مع القمر وأن القمر لا يجتمع مع الشمس وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ ذكر في [الأنبياء: 33] . وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ معنى المشحون: المملوء، والفلك هنا يحتمل أن يريد به جنس السفن، أو سفينة نوح عليه السلام، وأما الذرية «1» فقيل: إنه يعني الآباء الذين حملهم الله في سفينة نوح عليه السلام، وسمى الآباء ذرية لأنها تناسلت منهم، وأنكر ابن عطية ذلك، وقال: إنه يعني النساء، وهذا بعيد، والأظهر أنه أراد بالفلك جنس السفن، فيعني جنس بن آدم، وإنما خص ذريتهم بالذكر لأنه أبلغ في الامتنان عليهم، ولأن فيه إشارة إلى حمل أعقابهم إلى يوم القيامة، وإن أراد بالفلك سفينة نوح فيعني بالذرية من كان في السفينة، وسماهم ذرية، لأنهم ذرية آدم ونوح، فالضمير في ذريتهم على هذا النوع بني آدم كأنه يقول الذرية منهم وَخَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ ما يَرْكَبُونَ إن أراد بالفلك سفينة نوح فيعني بقوله: من مثله سائر السفن التي يركبها سائر الناس، وإن أراد بالفلك جنس السفن فيعني بقوله من مثله الإبل وسائر المركوبات، فتكون المماثلة على هذا في أنه مركوب لا غير، والأول أظهر، لقوله وإن نشأ نغرقهم، ولا يتصور هذا في المركوبات غير السفن فَلا صَرِيخَ لَهُمْ أي لا مغيث لهم ولا منقذ لهم من الغرق إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا قال الكسائي: نصب رحمة على الاستثناء كأنه قال: إلا أن نرحمهم، وقال الزجاج: نصب رحمة على المفعول من أجله كأنه قال: إلا لأجل رحمتنا إياهم وَمَتاعاً إِلى حِينٍ يعني آجالهم. وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَما خَلْفَكُمْ الضمير لقريش، وجواب إذا محذوف تقديره: أعرضوا يدل عليه إلا كانوا عنها معرضين، والمراد بما بين أيديهم وما خلفهم: ذنوبهم المتقدّمة والمتأخرة، وقيل: ما بين أيديهم عذاب الأمم المتقدمة، وما

_ (1) . قرأ ابن عامر ونافع. ذرياتهم بالجمع وقرأ الباقون: ذريتهم.

خلفهم عذاب الآخرة قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ كان النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنون يحضون على الصدقات وإطعام المساكين فيجيبهم الكفار بهذا الجواب، وفي معناه قولان: أحدهما أنهم قالوا كيف نطعم المساكين ولو شاء الله أن يطعمهم لأطعمهم، ومن حرمهم الله نحن نحرمهم، وهذا كقولهم: كن مع الله على المدبر، والآخر أن قولهم رد على المؤمنين، وذلك أن المؤمنين كانوا يقولون: إن الأمور كلها بيد الله، فكأن الكفار يقولون لهم: لو كان كما تزعمون لأطعم الله هؤلاء فما بالكم تطلبون إطعامهم منا، ومقصدهم في الوجهين احتجاج لبخلهم، ومنعهم الصدقات واستهزاء بمن حضهم على الصدقات إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ يحتمل أن يكون من بقية كلامهم خطابا للمؤمنين، أو يكون من كلام الله خطابا للكافرين وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ يعنون يوم القيامة أو نزول العذاب بهم ما يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً أي ما ينتظرون إلا صيحة واحدة، وهي النفخة الأولى في الصور وهي نفخة الصعق تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ أي يتكلمون في أمورهم وأصل يخصمون «1» يختصمون، ثم أدغم، وقرئ بفتح الخاء وبكسرها واختلاس حركتها فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً أي لا يقدرون أن يوصوا بما لهم وما عليهم لسرعة الأمر وَلا إِلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ أي لا يستطيعون أن يرجعوا إلى منازلهم لسرعة الأمر. وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ هذه النفخة الثانية وهي نفخة القيام من القبور، والأجداث هي القبور، وينسلون يسرعون المشي، وقيل: يخرجون قالُوا يا وَيْلَنا الويل منادى أو مصدر مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا المرقد يحتمل أن يكون اسم مصدر أو اسم مكان، قال أبيّ بن كعب ومجاهد: إن البشر ينامون نومة قبل الحشر، قال ابن عطية هذا غير صحيح الإسناد، وإنما الوجه في معنى قولهم: من مرقدنا: أنها استعارة وتشبيه به يعني أن قبورهم شبهت بالمضاجع، لكونهم فيها على هيئة الرقاد، وإن لم يكن رقاد في الحقيقة هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ هذا مبتدأ وما بعده خبر وقيل: إن هذا صفة لمرقدنا وما وعد الرحمن مبتدأ محذوف الخبر وهذا ضعيف، ويحتمل أن يكون هذا الكلام من بقية كلامهم، أو من كلام الله أو الملائكة أو المؤمنين يقولونها للكفار على وجه التقريع إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً يعني النفخة الثانية وهي نفخة القيام.

_ (1) . فيها ثلاث قراءات: قرأ نافع يخصّمون وقرأ ورش: يخصّمون وعاصم: يخصّمون وقرأ حمزة: يخصمون.

[سورة يس (36) : الآيات 54 إلى 68]

إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ قرأ نافع وغيره شغل بسكون الغين وقرأ عاصم وآخرون بضم الغين، عام في الاشتغال باللذات فاكِهُونَ قرئ بالألف ومعناه أصحاب فاكهة، وبغير ألف وهو من الفكاهة بمعنى الراحة والسرور فِي ظِلالٍ جمع ظل، وبالضم جمع ظلة، عَلَى الْأَرائِكِ جمع أريكة وهي السرير وَلَهُمْ ما يَدَّعُونَ أي ما يتمنون، وقيل: معناه أن ما يدعون به يأتيهم سَلامٌ مبتدأ، وقيل بدل مما يدعون قَوْلًا مصدر مؤكد، والمعنى: أن السلام عليهم قول من الله بواسطة الملك أو بغير واسطة. وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ أي انفردوا عن المؤمنين، وكونوا على حدة جِبِلًّا كَثِيراً الجبلّ الأمة العظيمة، وقال الضحاك: أقلها عشرة آلاف ولا نهاية لأكثرها، وقرأ عاصم ونافع جبلّا بكسر الجيم والباء وتشديد اللام، وبضمها مع التخفيف، وبضم الجيم وإسكان الباء، وهي لغات بمعنى واحد الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ أي نمنعهم من الكلام فتنطق أعضاؤهم يوم القيامة وَلَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا عَلى أَعْيُنِهِمْ هذا تهديد لقريش، والطمس على الأعين هو العمى، والصراط الطريق وأنى استفهام يراد به النفي. فمعنى الآية لو نشاء لأعميناهم فلو راموا أن يمشوا على الطريق لم يبصروه، وقيل: يعني عمى البصائر أي: لو نشاء لختمنا على قلوبهم، فالطريق على هذا استعارة بمعنى الإيمان والخير وَلَوْ نَشاءُ لَمَسَخْناهُمْ هذا تهديد بالمسخ، فقيل: معناه المسخ قردة وخنازير وحجارة، وقيل: معناه لو نشاء لجعلناهم مقعدين مبطولين لا يستطيعون تصرفا، وقيل: إن هذا التهديد كله بما يكون يوم القيامة، والأظهر أنه في الدنيا عَلى مَكانَتِهِمْ المكانة المكان، والمعنى لو نشاء لمسخناهم مسخا يقعدهم في مكانهم فَمَا اسْتَطاعُوا مُضِيًّا وَلا يَرْجِعُونَ أي إذا مسخوا في مكانهم لم يقدروا أن يذهبوا ولا أن يرجعوا وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ «1» أي نحول خلقته من القوة إلى الضعف، ومن الفهم إلى البله «2» وشبه ذلك كما قال تعالى

_ (1) . قرأ أبو عمرو وابن عامر: جبلا بضم الجيم وسكون الباء. وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي: جبلا بضمتين. (2) . ننكسه في الخلق: قرأ عاصم وحمزة: ننكّسه: بتشديد الكاف وقرأ الباقون بدون تشديد. وسكون النون الثانية. وفي بقية الآية: أفلا يعقلون: قرأ نافع وابن عامر: أفلا تعقلون. والباقون بالياء.

[سورة يس (36) : الآيات 69 إلى 75]

ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً [الروم: 54] وإنما قصد بذكر ذلك هنا للاستدلال على قدرته تعالى على مسخ الكفار، كما قدر على تنكيس الإنسان إذا هرم. وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ الضميران لمحمد صلى الله تعالى عليه وآله وسلم، وذلك ردّ على الكفار في قولهم: إنه شاعر، وكان صلى الله تعالى عليه وآله وسلم لا ينظم الشعر ولا يزنه، وإذا ذكر بيت شعر كسر وزنه، فإن قيل: قد روي عنه صلى الله تعالى عليه وآله وسلم أنه قال: أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب وروي أيضا عنه صلى الله عليه وسلم: هل أنت إلا إصبع دميت، وفي سبيل الله ما لقيت، وهذا الكلام على وزن الشعر فالجواب أنه ليس بشعر، وأنه لم يقصد به الشعر، وإنما جاء موزونا بالاتفاق لا بالقصد، فهو كالكلام المنثور، ومثل هذا يقال في مثل ما جاء في القرآن من الكلام الموزون، ويقتضي قوله «وما ينبغي له» تنزيه النبي صلى الله عليه وسلم عن الشعر لما فيه من الأباطيل وإفراط التجاوز، حتى يقال: إن الشعر أطيبه أكذبه، وليس كل الشعر كذلك فقد قال صلى الله عليه وآله وسلم: «إن من الشعر لحكمة» «1» وقد أكثر الناس في ذم الشعر ومدحه، وإنما الإنصاف قول الشافعي الشعر كلام والكلام منه حسن ومنه قبيح إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ الضمير للقرآن يعني أنه ذكر لله أو تذكير للناس أو شرف لهم لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا «2» أي حيّ القلب والبصيرة وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكافِرِينَ أي يجب عليهم العذاب. أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً مقصد الآية تعديد النعم وإقامة الحجة، والأيدي هنا عند أهل التأويل عبارة عن القدرة، وعند أهل التسليم من المتشابه الذي يجب الإيمان به وعلمه عند الله فَمِنْها رَكُوبُهُمْ الركوب بفتح الراء هو المركوب وَلَهُمْ فِيها مَنافِعُ يعني الأكل منها والحمل عليها، والانتفاع بالجلود والصوف وغيره وَمَشارِبُ يعني الألبان لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ الضمير في يستطيعون للأصنام، وفي نصرهم للمشركين، ويحتمل العكس، ولكنّ الأول أرجح، فإنه لما ذكر أن المشركين اتخذوا الأصنام لينصروهم: أخبر أن الأصنام لا يستطيعون نصرهم فخاب أملهم وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ الضمير الأول للمشركين والثاني للأصنام يعني أن المشركين يخدمون الأصنام ويتعصبون لهم حتى أنهم لهم كالجند، وقيل: بالعكس بمعنى أن الأصنام جند محضرون لعذاب المشركين في الآخرة والأول أرجح، لأنه تقبيح لحال المشركين فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم معللة لما بعدها.

_ (1) . حديث رواه أحمد وأبو داود عن ابن عباس وأوله: إن من البيان لسحرا. (2) . قرأ نافع وابن عامر: لتنذر من كان حيا. وقرأ الباقون: لينذر.

أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ هذه الآية وما بعدها إلى آخر السورة براهين على الحشر يوم القيامة، ورد على من أنكر ذلك، والنطفة هي نطفة المني التي خلق الإنسان منها، ولا شك أن الإله الذي قدر على خلق الإنسان من نطفة قادر على أن يخلقه مرة أخرى عند البعث، وسبب الآية أن العاصي بن وائل جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم بعظم رميم فقال: يا محمد من يحيي هذا؟ وقيل إن الذي جاء بالعظم أمية بن خلف وقيل: أبي بن خلف فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: الله يحييه ويميتك ثم يحييك ويدخلك جهنم فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ أي متكلم قادر على الخصام يبين ما في نفسه بلسانه وَضَرَبَ لَنا مَثَلًا إشارة إلى قول الكافرين: من يحيي هذا العظم وَنَسِيَ خَلْقَهُ أي نسي الاستدلال بخلقته الأولى على بعثه، والنسيان هنا يحتمل أن يكون بمعنى الذهول أو الترك وَهِيَ رَمِيمٌ أي بالية متفتتة قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ استدلال بالخلقة الأولى على البعث وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ أي يعلم كيف يخلق كل شيء، فلا يصعب عليه بعث الأجساد بعد فنائها، والخلق هنا يحتمل أن يكون مصدرا أو بمعنى المخلوق الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً هذا دليل آخر على إمكان البعث، وذلك أن الذين أنكروه من الكفار والطبائعيين قالوا: طبع الموت يضاد طبع الحياة فكيف تصير العظام حية؟ فأقام الله عليهم الدليل من الشجر الأخضر الممتلئ ماء، مع مضادة طبع الماء للنار. ويعني بالشجر زناد العرب وهو شجر المرخ والعفار، فإنه يقطع من كل واحد منهما غصنا أخضر يقطر منه الماء، فيسحق المرخ على العفار فتنقدح النار بينهما: قال ابن عباس: ليس من شجرة إلا وفيها نار إلا العناب، ولكنه في المرخ والعفار أكثر. أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ هذا دليل آخر على البعث، بأن الإله الذي قدر على خلق السموات والأرض على عظمهما وكبر أجرامهما قادر على أن يخلق أجساد بني آدم بعد فنائها، والضمير في مثلهم يعود على الناس وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ ذكر في هذين الاسمين أيضا استدلال على البعث، وكذلك في قوله إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ لأن هذا عبارة عن قدرته على جميع الأشياء ولا شك أن الخلاق العليم القدير لا يصعب عليه إعادة الأجساد فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ في هذا استدلال على البعث، وتنزيه لله عما نسبه الكفار إليه من العجز عن البعث، فإنهم ما قدروا الله حق قدره، وكل من أنكر البعث فإنما أنكره لجهله بقدرة الله سبحانه وتعالى.

سورة الصافات

سورة الصافات مكية وآياتها 182 نزلت بعد الأنعام بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (سورة الصافات) وَالصَّافَّاتِ صَفًّا تقديره والجماعات الصافات ثم اختلف فيها فقيل: هي الملائكة التي تصف في السماء صفوفا لعبادة الله، وقيل: هو من يصف من بني آدم في الصلوات والجهاد، والأول أرجح لقوله حكاية عن الملائكة [الآية: 165] وإنا لنحن الصافون فَالزَّاجِراتِ زَجْراً هي الملائكة تزجر السحاب وغيرها، وقيل: الزاجرون بالمواعظ من بني آدم، وقيل: هي آيات القرآن المتضمنة للزجر عن المعاصي فَالتَّالِياتِ ذِكْراً هي الملائكة تتلو القرآن والذكر، وقيل: هم التالون للقرآن والذكر من بني آدم، وهي كلها أشياء أقسم الله بها على أنه واحد وَرَبُّ الْمَشارِقِ يعني مشارق الشمس، وهي ثلاثمائة وستون مشرقا، وكذلك المغارب فإنها تشرق كل يوم من أيام السنة في مشرق منها وتغرب في مغرب، واستغنى بذكر المشارق عن ذكر المغارب لأنها معادلة لها، فتفهم من ذكرها. بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ وقرأ نافع وغيره بإضافة الزينة إلى الكواكب، والزينة تكون مصدرا واسما لما يزان به، فإن كان مصدرا فهو مضاف إلى الفاعل تقديره: بأن زينة الكواكب اسما أو مضاف إلى المفعول تقديره: بأن زينا الكواكب، وإن كانت اسما فالإضافة بيان للزينة، وقرأ حفص وحمزة بتنوين زينة وخفض الكواكب على البدل، ونصب الكواكب على أنها مفعول بزينة أو بدل من موضع زينة وَحِفْظاً منصوب على المصدر تقديره: وحفظناها حفظا، أو مفعول من أجله، والواو زائدة أو محمول على المعنى، لأن المعنى إنا جعلنا الكواكب زينة للسماء وحفظا مارِدٍ أي شديد الشر لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى «1» الضمير في يسمعون للشياطين، والملأ الأعلى هم الملائكة الذين يسكنون في السماء،

_ (1) . قرأ أغلب القراء بالتخفيف يسمعون ما عدا حمزة والكسائي وحفص. [.....]

[سورة الصافات (37) : الآيات 9 إلى 12]

والمعنى أن الشياطين منعت من سماع أحاديث الملائكة. وقرأ حفص وعاصم وحمزة يسمعون بتشديد السين والميم، ووزنه يتفعلون والسمع طلب السماع، فنفى السماع على القراءة الأولى، ونفى طلبه على القراءة بالتشديد، والأول أرجح لقوله إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ [الشعراء: 212] ولأن ظاهر الأحاديث أنهم يستمعون، لكنهم لا يسمعون شيئا، منذ بعث محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأنهم يرجمون بالكواكب وَيُقْذَفُونَ أي يرجمون يعني بالكواكب «1» وهي التي يراها الناس تنقضّ، قال النقاش ومكي: ليست الكواكب الراجمة للشياطين بالكواكب الجارية في السماء لأن تلك لا ترى حركتها وهذه الراجمة ترى حركتها لقربها منا. قال ابن عطية: وفي هذا نظر دُحُوراً أي طردا وإبعادا وإهانة لأن الدحر الدفع بعنف. وإعرابه مفعول من أجله أو مصدر من يقذفون على المعنى أو مصدر في موضع الحال تقديره: مدحورين عَذابٌ واصِبٌ أي دائم، لأنهم يرجمون بالنجوم في الدنيا، ثم يقذفون في جهنم، إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ من في وضع رفع بدل من الضمير في قوله: لا يسمعون والمعنى لا تسمع الشياطين أخبار السماء إلا الشيطان الذي خطف الخطفة شِهابٌ ثاقِبٌ أي شديد الإضاءة. فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ مَنْ خَلَقْنا الضمير لكفار قريش، والاستفتاء نوع من السؤال، وكأنه سؤال من يعتبر قوله ويجعل حجة لأن جوابهم عن السؤال مما تقوم به الحجة عليهم ومن خلقنا يراد به ما تقدم ذكره من الملائكة والسموات والأرض والمشارق والكواكب، وقيل: يراد به ما تقدم من الأمم والأول أرجح لقراءة ابن مسعود أم من عددنا ومقصد الآية: إقامة الحجة عليهم في إنكارهم البعث في الآخرة كأنه يقول: هذه المخلوقات أشد خلقا منكم، فكما قدرنا على خلقهم كذلك نقدر على إعادتكم بعد فنائكم إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ اللازب اللازم أي يلزم ما جاوره ويلصق به، ووصفه بذلك يراد به ضعف خلقة بني آدم، بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ أي عجبت يا محمد من ضلالهم وإعراضهم عن الحق، أو عجبت من قدرة الله على هذه المخلوقات العظام المذكورة، وقرأ حمزة والكسائي عجبت بضم التاء وأشكل ذلك على من يقول: إن التعجب مستحيل على الله فتأولوه بمعنى: أنه جعله على حال يتعجب منها الناس وقيل: تقديره قل يا محمد عجبت وقد جاء التعجب من الله في القرآن والحديث كقوله صلى الله عليه وسلم: «يعجب ربك من شاب ليس له صبوة» «2» وهو صفة فعل وإنما جعلوه مستحيلا على الله، لأنهم قالوا إن التعجب استعظام خفي سببه، والصواب

_ (1) . المشاهد هو الشهب والنيازك، وهي أجرام صغيرة متناشرة في الجو، أما الكواكب فيبعد أن يكون الرجم بها وقد ورد بعد قليل: إلا من خطف الخطفة فأتبعه شهاب ثاقب. والله أعلم. (2) . أخرج أحمد حديثا بمعناه وأوله: يعجب ربك عز وجل من راعي غنم ج 4، 157. وعزاه العجلوني للقضاعي عن عقبة بن عامر وفيه ابن لهيعة.

[سورة الصافات (37) : الآيات 13 إلى 28]

أنه لا يلزم أن يكون خفيّ السبب بل هو لمجرد الاستعظام فعلى هذا لا يستحيل على الله وَيَسْخَرُونَ تقديره وهم يسخرون منك أو من البعث وَإِذا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ الآية هنا العلامة كانشقاق القمر ونحوه، وروي أنها نزلت في مشرك اسمه ركانة، أراه النبي صلى الله عليه وسلم آيات فلم يؤمن، ويستسخرون معناه: يسخرون فيكون فعل واستعمل بمعنى واحد وقيل: معناه يستدعى بعضهم بعضا لأن يسخر، وقيل يبالغون في السخرية. أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً الآية: معناها استبعادهم البعث وقد تقدم الكلام على الاستفهامين في الرعد أَوَآباؤُنَا بفتح الواو دخلت همزة الإنكار على واو العطف، وقرئ «1» بالإسكان عطفا بأو قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ داخِرُونَ أي قل: تبعثون. والداخر الصاغر الذليل زَجْرَةٌ واحِدَةٌ هي النفخة في الصور للقيام من القبور فَإِذا هُمْ يَنْظُرُونَ يحتمل أن يكون من النظر بالأبصار، أو من الانتظار أي: ينتظرون ما يفعل بهم هذا يَوْمُ الدِّينِ يحتمل أن يكون من كلامهم مثل الذي قبله، أو مما يقال لهم مثل الذي بعده احْشُرُوا الآية: خطاب للملائكة خاطبهم به الله تعالى أو خاطب به بعضهم بعضا وَأَزْواجَهُمْ يعني نساءهم المشركات وقيل: يعني أصنامهم وقرناءهم من الجنّ والإنس وَما كانُوا يَعْبُدُونَ يعني الأصنام والآدميين الذي كانوا يرضون بذلك فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ أي دلوهم على طريق جهنم ليدخلوها إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ يعني إنهم يسألون عن أعمالهم، توبيخا لهم وقيل: يسألون عن قول: لا إله إلا الله والأول أرجح، لأنه أهم ويحتمل أن يسألوا عن عدم تناصرهم، على وجه التهكم بهم، فيكون مسؤولون عاملا فيما بعده والتقدير يقال لهم: ما لكم لا ينصر بعضكم بعضا وقد كنتم في الدنيا تقولون: نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ [القمر: 44] مُسْتَسْلِمُونَ أي منقادون عاجزون عن الانتصار قالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ الضمير في قالوا، للضعفاء من الكفار خاطبوا الكبراء منهم في جهنم، أو للإنس خاطبوا الجنّ، واليمين هنا يحتمل ثلاث معان: الأول أن يراد بها طريق الخير والصواب وجاءت العبارة عن ذلك بلفظ اليمين كما أن العبارة عن الشر بالشمال، والمعنى أنهم قالوا لهم: إنكم كنتم تأتوننا عن طريق الخير فتصدوننا عنه والثاني أن يراد به القوة، والمعنى على هذا أنكم كنتم تأتوننا بقوتكم وسلطانكم فتأمروننا بالكفر وتمنعوننا من الإيمان والثالث أن يراد بها اليمين التي يحلف بها أي كنتم تأتوننا بأن تحلفوا لنا أنكم على الحق فنصدقكم في ذلك ونتبعكم.

_ (1) . قرأ نافع وابن عامر: أو آباؤنا. وقرأ الباقون: أو آباؤنا.

[سورة الصافات (37) : الآيات 29 إلى 48]

قالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ الضمير في قالوا للكبراء من الكفار، أو للشياطين والمعنى أنهم قالوا لأتباعهم: ليس الأمر كما ذكرتم، بل كفرتم باختياركم فَحَقَّ عَلَيْنا قَوْلُ رَبِّنا إِنَّا لَذائِقُونَ أي وجب العذاب علينا وعليكم، وإنا لذائقون: معمول القول وحذف معمول ذائقون تقديره، وجب القول بأنا ذائقو العذاب فَأَغْوَيْناكُمْ إِنَّا كُنَّا غاوِينَ أي دعوناكم إلى الغي، لأنا كنّا على غي فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ أي إن المتبوعين والأتباع مشتركون في عذاب النار يَقُولُونَ أَإِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ الضمير في يقولون لكفار قريش، ويعنون بشاعر مجنون: محمد صلى الله عليه وسلم، فردّ الله عليهم بقوله: بَلْ جاءَ بِالْحَقِّ أي جاء بالتوحيد والإسلام، وهو الحق وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ الذين جاءوا قبله: لأنه جاء بمثل ما جاءوا به، ويحتمل المعنى أن يكون صدقهم لأنهم أخبروا بنبوّته، فظهر صدقهم لما بعث عليه الصلاة والسلام. إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ استثناء منقطع بمعنى لكن، وقرئ مخلصين بفتح اللام وكسرها في كل موضع، وقد تقدّم تفسيره عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ السرر جمع سرير، وتقابلهم في بعض الأحيان للسرور بالأنس، وفي بعض الأحيان ينفرد كل واحد بقصره يُطافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ الذين يطوفون عليهم الولدان، حسبما ورد في الآية الأخرى، والكأس الإناء الذي فيه خمر قاله ابن عباس، وقيل: الكأس إناء واسع الفم، ليس له مقبض، سواء كان فيه خمر أم لا، والمعين: الجاري الكثير، لأنه فعيل، والميم فيه أصلية، وقيل: هو مشتق من العين والميم زائدة، ووزنه مفعول لَذَّةٍ أي ذات لذة، فوصفها بالمصدر اتساعا لا فِيها غَوْلٌ الغول: اسم عام في الأذى والضير، ومنه يقال: غاله يغوله إذا أهلكه، وقيل: الغول وجع في البطن، وقيل: صداع في الرأس، وإنما قدم المجرور هنا تعريضا بخمر الدنيا لأن الغول فيها وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ «1» أي لا يسكرون من خمر الجنة، ومنه النزيف، وهو السكران، وعن هنا سببية، كقولك فعلته عن أمرك، أي لا ينزفون بسبب شربها قاصِراتُ الطَّرْفِ معناه أنهن قصرن أعينهن على النظر إلى أزواجهن، فلا ينظرن إلى غيرهن عِينٌ جميع عيناء، وهي الكبيرة العينين

_ (1) . قرأ حمزة والكسائي: ينزفون: بكسر الزاي وقرأ الباقون بفتح الزاي.

[سورة الصافات (37) : الآيات 49 إلى 63]

في جمال كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ قيل شبههن في اللون ببيض النعام، فإنه بياض خالطه صفرة حسنة، وكذلك قال امرؤ القيس: كبكر مقناة البياض بصفرة وقيل: إنما التشبيه بلون قشر البيضة الداخلي الرقيق، وهو المكنون المصون تحت القشرة الأولى، وقيل: أراد الجوهر المصون. فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ هذا إخبار عن تحدّث أهل الجنة. قال الزمخشري: هذه الجملة معطوفة على يطاف عليهم، والمعنى: أنهم يشربون فيتحدّثون على الشراب، بما جرى لهم في الدنيا إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ قيل: إن هذا القائل وقرينه من البشر، مؤمن وكافر، وقيل: إن قرينه كان من الجن يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ معناه أنه كان يقول له على وجه الإنكار: أتصدق بالدنيا والآخرة؟ لَمَدِينُونَ أي مجازون ومحاسبون على الأعمال، ووزنه مفعول، وهو من الدين، بمعنى الجزاء والحساب قالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ أي قال ذلك القائل لرفقائه في الجنة، أو للملائكة أو لخدامه: هل أنتم مطلعون على النار لأريكم ذلك العزيز فيها؟ وروي أن في الجنة كوى ينظرون أهلها منها إلى النار فِي سَواءِ الْجَحِيمِ أي في وسطها قالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ أي تهلكني بإغوائك، والردى الهلاك، وهذا خطاب خاطب به المؤمن قرينه الذي في النار مِنَ الْمُحْضَرِينَ في العذاب أَفَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ هذا من كلام المؤمن، خطاب لقرينه، أو خطابا لرفقائه في الجنة ولهذا قال نحن فأخبر عن نفسه وعنهم، ويحتمل أن يكون من كلامه وكلامهم جميعا إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ يحتمل أن يكون من كلام المؤمن، أو من كلامه وكلام رفقائه في الجنة أو من كلام الله تعالى، وكذلك يحتمل هذه الوجوه في قوله «لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ» والأول أرجح فيه أن يكون من كلام الله تعالى، لأن الذي بعده من كلام الله فيكون متصلا به، ولأن الأمر بالعمل إنما هو حقيقة في الدنيا ففيه تحضيض على العمل الصالح. أَذلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ الإشارة بذلك إلى نعيم الجنة، وكل ما ذكر من وصفها، وقال الزمخشري: الإشارة إلى قوله رزق معلوم، والنزل الضيافة، وقيل: الرزق الكثير وجاء التفضيل هنا بين شيئين، ليس بينهما اشتراك، لأن الكلام تقرير وتوبيخ إِنَّا جَعَلْناها فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ قيل: سببها أن أبا جهل وغيره لما سمعوا ذكر شجرة الزقوم،

[سورة الصافات (37) : الآيات 64 إلى 84]

قالوا: كيف يكون في النار شجرة، والنار تحرق الشجر، فالفتنة على هذا الابتلاء في الدنيا وقيل: معناه، عذاب الظالمين في الآخرة والمراد بالظالمين هنا الكفار إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ أي تنبت في قعر جهنم وترتفع أغصانها إلى دركاتها طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ الطلع ثمر النخل فاستعير لشجرة الزقوم، وشبه برءوس الشياطين مبالغة في قبحه وكراهته، لأنه قد تقرر في نفوس الناس كراهتها وإن لم يروها، ولذلك يقال للقبيح المنظر: وجه شيطان وقيل: رؤوس الشياطين شجرة معروفة باليمن، وقيل: هو صنف من الحيات لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ أي مزاجا من ماء حار، فإن قيل: لم عطف هذه الجملة بثم، فالجواب من وجهين: أحدهما أنه لترتيب تلك الأحوال في الزمان، فالمعنى أنهم يملؤون البطون من شجر الزقوم، وبعد ذلك يشربون الحميم، والثاني أنه لترتيب مضاعفة العذاب، فالمعنى أن شربهم للحميم أشدّ مما ذكر قبله يُهْرَعُونَ الإهراع الإسراع الشديد. وَلَقَدْ نادانا نُوحٌ أي دعانا فالمعنى دعاؤه بإهلاك قومه ونصرته عليهم مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ يعني الغرق وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ أهل الأرض كلهم من ذرية نوح، لأنه لما غرق الناس في الطوفان ونجا نوح ومن كان معه في السفينة، تناسل الناس من أولاده الثلاثة، سام وحام ويافث وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ معناه أبقينا عليه ثناء جميلا في الناس إلى يوم القيامة سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ هذا التسليم من الله على نوح عليه السلام، وقيل: إن هذه الجملة مفعول تركنا، وهي محكية أي تركنا هذه الكلمة، تقال له يعني أن الخلق يسلمون عليه فيبتدأ بالسلام على القول الأول، لا على الثاني والأول أظهر، ومعنى في العالمين على القول الأول تخصيصه بالسلام عليه بين العالمين، كما تقول: أحب فلانا في الناس: أي أحبه خصوصا من بين الناس ومعناه على القول الثاني: أن السلام عليه ثابت في العالمين، وهذا الخلاف يجرى حيث ما ذكر ذلك في هذه السورة. وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ الشيعة الصنف المتفق، فمعنى من شيعته: من على دينه في التوحيد، والضمير يعود على نوح وقيل: على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم والأول أظهر إِذْ جاءَ رَبَّهُ عبارة عن إخلاصه وإقباله على الله تعالى، بكليته وقيل: المراد المجيء بالجسد

[سورة الصافات (37) : الآيات 85 إلى 96]

بِقَلْبٍ سَلِيمٍ أي سليم من الشرك، والشك وجميع العيوب أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ الإفك الباطل وإعرابه هنا مفعول من أجله، وآلهة مفعول به وقيل: أإفكا مفعول به، وآلهة بدل منه وقيل: أإفكا مصدر في موضع الحال، تقديره: آفكين أي كاذبين والأول أحسن فَما ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ المعنى أي شيء تظنون برب العالمين أن يعاقبكم به، وقد عبدتم غيره؟ أو أي شيء تظنون أنه هو حتى عبدتم غيره كما تقول ما ظنك بفلان؟ إذا قصدت تعظيمه، فالمقصد على المعنى الأول تهديد وعلى الثاني تعظيم لله وتوبيخ. لهم فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ روي أن قومه كان لهم عيد يخرجون إليه فدعوه إلى الخروج معهم، فحينئذ قال: إني سقيم ليمتنع عن الخروج معهم، فيكسر أصنامهم إذا خرجوا لعيدهم وفي تأويل ذلك ثلاثة أقوال: الأول أنها كانت تأخذه الحمى في وقت معلوم، فنظر في النجوم ليرى وقت الحمى، واعتذر عن الخروج لأنه سقيم من الحمى، والثاني أن قومه كانوا منجمين وكان هو يعلم أحكام النجوم فأوهمهم أنه أستدل بالنظر في علم النجوم أنه يسقم، فأعتذر بما يخاف من السقم عن الخروج معهم والثالث أن معنى نظر في النجوم أنه نظر وفكر فيما يكون من أمره معهم فقال: إني سقيم والنجوم على هذا ما ينجم من حاله معهم، وليست بنجوم السماء، وهذا بعيد وقوله: إني سقيم على حسب هذه الأقوال يحتمل أن يكون حقا لا كذب فيه، ولا تجوّز أصلا، ويعارض هذا ما ورد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن إبراهيم كذب ثلاث كذبات، أحدها: قوله إني سقيم، ويحتمل إن يكون كذبا صراحا، وجاز له ذلك لهذا الاحتمال، لأنه فعل ذلك من أجل الله إذ قصد كسر الأصنام، ويحتمل أن يكون من المعارضين، فإن أراد أنه سقيم فيما يستقبل، لأن كل إنسان لا بدّ له أن يمرض، أو أراد أنه سقيم النفس من كفرهم وتكذيبهم له، وهذان التأويلان أولى، لأن نفي الكذب بالجملة معارض للحديث، والكذب الصراح لا يجوز على الأنبياء، عند أهل التحقيق، أما المعاريض فهي جائزة فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ أي تركوه إعراضا عنه وخرجوا إلى عيدهم، وقيل: إنه أراد بالسقم الطاعون وهو داء يعدي، فخافوا منه وتباعدوا عنه مخافة العدوى فَراغَ أي مال فَقالَ أَلا تَأْكُلُونَ إنما قال ذلك على وجه الاستهزاء بالذين يعبدون تلك الأصنام ضَرْباً بِالْيَمِينِ أي يمين يديه وقيل بالقوة وقيل: بالحلف، وهو قوله: تالله لأكيدن أصنامكم، والأول أظهر وأليق بالضرب، وضربا مصدر في موضع الحال (يزفون) أي يسرعون. قالَ أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ أى تنجرون والنحت النجارة إشارة إلى صنعهم من الحجارة والخشب وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ ذهب قوم إلى أن ما مصدرية والمعنى: الله

[سورة الصافات (37) : الآيات 97 إلى 101]

خلقكم وأعمالكم، وهذه الآية عندهم قاعدة في خلق أفعال العباد، وقيل: إنها موصولة بمعنى الذي والمعنى: الله خلقكم وخلق أصنامكم التي تعملونها، وهذا أليق بسياق الكلام، وأقوى في قصد الاحتجاج على الذين عبدوا الأصنام، وقيل: إنها نافية، وقيل: إنها استفهامية، وكلاهما باطل قالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْياناً قيل: البنيان في موضع النار، وقيل: بل كان للمنجنيق، الذي رمى عنه فَأَرادُوا بِهِ كَيْداً يعني حرقه بالنار فَجَعَلْناهُمُ الْأَسْفَلِينَ أي المغلوبين وَقالَ إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ قيل: إنه قال هذا بعد خروجه من النار، وأراد أنه ذاهب أي: مهاجر إلى الله فهاجر إلى أرض الشام، وقيل: إنه قال ذلك قبل أن يطرح في النار، وأراد أنه ذاهب إلى ربه بالموت، لأنه ظن أن النار تحرقه، وسيهدين على القول الأول يعني إلى صلاح الدين والدنيا، وعلى القول الثاني إلى الجنة، وقالت المتصوفة: معناه إني ذاهب إلى ربي بقلبي، أي مقبل على الله بكليتي تاركا سواه. رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ يعني ولدا من الصالحين فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ أي عاقل وأختلف الناس في هذا الغلام المبشر به في هذا الموضع وهو الذبيح، هل هو إسماعيل أو إسحاق؟ فقال ابن عباس وابن عمر وجماعة من التابعين هو إسماعيل. وحجتهم من ثلاثة أوجه الأول أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أنا ابن الذبيحين «1» يعني إسماعيل عليه السلام، ووالده عبد الله، حين نذر والده عبد المطلب أن ينحر [أحد أولاده وأصابت القرعة عبد الله] إن يسر الله له أمر زمزم، ففداه بمائة من الإبل والثاني أن الله تعالى قال بعد تمام قصة الذبيح وبشرناه بإسحاق فدل ذلك على أن الذبيح غيره والثالث أنه روي أن إبراهيم جرت له قصة الذبح بمكة، وإنما كان معه بمكة إسماعيل. وذهب عليّ بن أبي طالب وابن مسعود وجماعة من التابعين إلى أن الذبيح إسحاق وحجتهم من وجهين الأول أن البشارة المعروفة لإبراهيم بالوادي إنما كانت بإسحاق لقوله: فبشرناه بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب، والثاني أنه روي أن يعقوب كان يكتب من يعقوب إسرائيل الله ابن إسحاق ذبيح الله. فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ يريد بالسعي هنا العمل والعبادة، وقيل: المشي وكان حينئذ ابن ثلاثة عشر سنة قالَ يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ يحتمل أن يكون رأى في المنام الذبح وهو الفعل، أو أمر في المنام أنه يذبحه، والأول أظهر في اللفظ هنا، والثاني أظهر في قوله: افعل ما تؤمر ورؤيا الأنبياء حق، فوجب عليه الامتثال على الوجهين

_ (1) . أورده العجلوني في كشف الخفاء ذكر اختلاف العلماء حول هذا الحديث والنتيجة أنّه صحيح المعنى وقد صححه الحاكم.

فَانْظُرْ ماذا تَرى إن قيل: لم شاوره في أمر هو حتم من الله؟ فالجواب: أنه لم يشاوره ليرجع إلى رأيه، ولكن ليعلم ما عنده فيثبت قلبه ويوطن نفسه على الصبر، فأجابه بأحسن جواب فَلَمَّا أَسْلَما إي استسلما وانقادا لأمر الله وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ أي صرعه بالأرض على جبينه وللإنسان جبينان حول الجبهة، وجواب لما محذوف عند البصريين تقديره، فلما أسلما كان ما كان من الأمر العظيم، وقال الكوفيون: جوابها تله والواو زائدة، وقال بعضهم: جوابها: ناديناه والواو زائدة قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا يحتمل أنه يريد بقلبك أى كانت عندك رؤيا صادقة فعملت بحسبها، ويحتمل أن يريد بعملك أي وفيت حقها من العمل، فإن قيل: إنه أمر بالذبح ولم يذبح، فكيف قيل له: صدقت الرؤيا؟ فالجواب أنه قد بذل جهده إذ قد عزم على الذبح ولو لم يفده الله لذبحه، ولكن الله هو الذي منعه من ذبحه لما فداه، فامتناع ذبح الولد إنما كان من الله وبأمر الله، وقد قضى إبراهيم ما عليه الْبَلاءُ الْمُبِينُ الذي يظهر به طاعة الله أو المحنة البينة الصعوبة. وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ الذبح اسم لما يذبح، وأراد به هنا الكبش الذي فدى به، وروي أنه من كباش الجنة، وقيل: إنه الكبش الذي قرب به ولد آدم، ووصفه بعظيم لذلك، أو لأنه من عند الله أو لأنه متقبل، وروي في القصص أن الذبيح قال لإبراهيم: أشدد رباطى لئلا أضطرب، وأصرف بصرك عني لئلا ترحمني، وأنه أمر الشفرة على حلقه فلم تقطع، فحينئذ جاءه الكبش من عند الله، وقد أكثر الناس في قصص هذه الآية وتركناه لعدم صحنه، كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إن قيل: لم قال هنا في قصة إبراهيم كذلك دون قوله إنا، وقال في غيرها إنا، فالجواب أنه قد تقدم في قصة إبراهيم نفسها: إنا كذلك فأغنى عن تكرار أنا وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلى مُوسى وَهارُونَ يعني بالنبوة وغير ذلك مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ يعني الغرق أو تعذيب فرعون وإذلاله لهم وَنَصَرْناهُمْ الضمير يعود على موسى وهارون وقومها وقيل: على موسى وهارون خاصة، وعاملهما معاملة الجماعة للتعظيم، وهذا ضعيف وَآتَيْناهُمَا الْكِتابَ الْمُسْتَبِينَ يعني: التوراة ومعنى المستبين البين، وفي هذه الآية وما بعدها نوع من أدوات البيان وهو الترصيع. وَإِنَّ إِلْياسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ إلياس من ذرية هارون وقيل إنه إدريس، وقد أخطأ من

[سورة الصافات (37) : الآيات 124 إلى 145]

قال: إنه إلياس المذكور في أجداد النبيّ صلى الله عليه وسلم أَتَدْعُونَ بَعْلًا «1» البعل في اللغة الرب بلغة أهل اليمن، وقيل: بعل اسم صنم يقال له بعلبك سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ آل هنا على هذه القراءة «2» بمعنى أهل ياسين اسم لإلياس، وقيل: لأبيه، وقيل لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وقرئ إلياسين، بكسر الهمزة ووصل اللام ساكنة على هذا جمع إلياس، أو منسوب لإلياس حذفت منه الياء كما حذفت من أعجمين، وقيل سمى كل واحد من آل ياسين إلياس ثم جمعهم وقيل هو لغة في إلياس عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ قد ذكر. وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ قد ذكرنا قصته في يونس و [الأنبياء: 87] إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ أي هرب إلى السفينة والفلك هنا واحد والمشحون المملوء، وسبب هروبه غضبه على قومه حين لم يؤمنوا، وقيل: إنه أخبرهم أن العذاب يأتيهم في يوم معين حسبما أعلمه الله، فلما رأى قومه مخايل العذاب آمنوا، فرفع الله عنهم العذاب فخاف أن ينسبوه إلى الكذب فهرب فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ معنى ساهم ضارب القرعة والمدحض المغلوب في القرعة والمحاجة، وسبب مقارعته أنه لما ركب السفينة، وقفت ولم تجر، فقالوا: إنما وقفت من حدث أحدثه أحدنا، فنقترع لنرى على من تخرج القرعة فنطرحه فاقترعوا فخرجت القرعة على يونس فطرحوه في البحر فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ أي فعل ما يلام عليه، وذلك خروجه بغير أن يأمره الله بالخروج فَلَوْلا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ تسبيحه هو قوله: لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ، حسبما حكى الله عنه في الأنبياء وقيل: هو قوله سبحان الله وقيل: هو الصلاة، واختلف على هذا هل يعني صلاته في بطن الحوت أو قبل ذلك، واختلف في مدة بقائه في بطن الحوت فقيل: ساعة وقيل: ثلاثة أيام وقيل: سبعة أيام وقيل: أربعون يوما فَنَبَذْناهُ بِالْعَراءِ العراء الأرض الفضاء التي لا شجر فيها، ولا ظل، وقيل يعني الساحل وَهُوَ سَقِيمٌ روي أنه كان كالطفل المولود بضعة لحم.

_ (1) . الله ربكم وربّ: قرأ نافع وآخرون بالرفع: الله ربكم وربّ. وحفص قرأ بالفتح. (2) . قرأ نافع وابن عامر: آل ياسين وقرأ الباقون: إلياسين.

[سورة الصافات (37) : الآيات 146 إلى 157]

وَأَنْبَتْنا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ أي أنبتناها فوقه لتظله وتقيه حر الشمس، واليقطين، القرع وإنما خصه الله به لأنه يجمع برد الظل ولين اللمس وكبر الورق، وأن الذباب لا يقربه، فإن لحم يونس لما خرج من البحر كان لا يحتمل الذباب، وقيل: اليقطين كل شجرة لا ساق لها كالبقول والقرع والبطيخ، والأول أشهر وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ يعني رسالته الأولى التي أبق بعدها وقيل: هذه رسالة ثانية بعد خروجه من بطن الحوت والأول أشهر أَوْ يَزِيدُونَ قيل: أو هنا بمعنى بل، وقرأ ابن عباس، بل يزيدون، وقيل هي بمعنى الواو وقيل: هي للإبهام وقيل: المعنى أن البشر إذا نظر إليهم يتردد فيقول: هم مائة ألف أو يزيدون واختلف في عددهم فقيل: مائة وعشرون ألفا وقيل: مائة وثلاثون ألفا وقيل: مائة وأربعون ألفا وقيل: مائة وسبعون ألفا فَآمَنُوا فَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ روي أنهم خرجوا بالأطفال وأولاد البهائم، وفرقوا بينهم وبين الأمهات، وناحوا وتضرعوا إلى الله وأخلصوا فرفع الله العذاب عنهم إلى حين: يعني لانقضاء آجالهم وقد ذكر الناس في قصة يونس أشياء كثيرة أسقطناها لضعف صحتها. فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَناتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ قال الزمخشري: إن هذا معطوف على قوله فَاسْتَفْتِهِمْ الذي في أول السورة وإن تباعد ما بينهما، والضمير المفعول لقريش وسائر الكفار أي أسألهم على وجه التقرير والتوبيخ عما زعموا من أن الملائكة بنات الله، فجعلوا لله الإناث ولأنفسهم الذكور، وتلك قسمة ضيزى، ثم قررهم على ما زعموا من أن الملائكة إناث وردّ عليهم بقوله: وهم شاهدون، ويحتمل أن يكون بمعنى الشهادة، أو بمعنى الحضور أى أنهم لم يحضروا ذلك ولم يعلموه، ثم أخبر عن كذبهم في قولهم: ولد الله، ثم قررهم على ما زعموا من أن الله اصطفى لنفسه البنات وذلك كله ردّ عليهم وتوبيخ لهم، تعالى الله عن أقوالهم علوا كبيرا أَصْطَفَى دخلت همزة التقرير والتوبيخ على ألف الوصل فحذفت ألف الوصل (مالكم) هذا استفهام معناه التوبيخ، وهي في موضع رفع بالابتداء والمجرور بعدها خبرها، فينبغي الوقف على قوله مالكم أَمْ لَكُمْ سُلْطانٌ مُبِينٌ أي برهان بين فَأْتُوا بِكِتابِكُمْ تعجيز لهم لأنهم ليس لهم كتاب يحتجون به وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً الضمير في جعلوا لكفار العرب، وفي معنى الآية قولان: أحدهما أن الجنّة هنا الملائكة وسميت بهذا الاسم لأنه مشتق من الاجتنان وهو الاستتار، والملائكة مستورين عن أعين بني آدم كالجن، والنسب الذي جعلوه بينهم وبين الله قولهم: إنهم بنات الله، والقول الثاني أن الجن هنا الشياطين، وفي النسب الذي جعلوه بينه وبينهم أن بعض الكفار قالوا: إن الله والشياطين أخوان، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.

[سورة الصافات (37) : الآيات 171 إلى 182]

وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ من قال: إن الجن الملائكة فالضمير في قوله إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ يعود على الكفار أي قد علمت الملائكة أن الكفار محضرون في العذاب ومن قال: إن الجن الشياطين فالضمير يعود عليهم أي قد علمت الشياطين أنهم محضرون في العذاب إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ استثناء منقطع من المحضرين أو من الفاعل في يصفون والمعنى: لكن عباد الله المخلصين لا يحضرون في العذاب، أو لكن عباد الله المخلصين يصفونه بما هو أهله فَإِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفاتِنِينَ إِلَّا مَنْ هُوَ صالِ الْجَحِيمِ هذا خطاب للكفار والمراد بما تعبدون الأصنام وغيرها وما تعبدون عطف على الضمير في إنكم ويجوز أن تكون الواو بمعنى مع ومعنى فاتنين مضلين والضمير في عليه يعود على ما تعبدون وعلى سببية معناها التعليل ومن هو مفعول بفاتنين والمعنى: إنكم أيها الكفار وكل ما تعبدونه لا تضلون أحدا إلا من قضى الله أنه يصلى الجحيم، أي لا تقدرون على إغواء الناس إلا بقضاء الله وقال الزمخشري: الضمير في عليه يعود على الله تعالى. وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ هذا حكاية كلام الملائكة عليهم السلام، تقديره: ما منا ملك إلا وله مقام معلوم، وحذف الموصوف لفهم الكلام، والمقام المعلوم: يحتمل أن يراد به المكان الذي يقومون فيه، لأن منهم من هو في السماء الدنيا، وفي الثانية، وفي السموات، وحيث شاء الله، ويحتمل أن يراد به المنزلة من العبادة والتقريب والتشريف وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ أي الواقفون في العبادة صفوفا، ولذلك أمر المسلمون بتسوية الصفوف في صلاتهم ليقتدوا بالملائكة، وليس أحد من أهل الملل يصلون صفوفا إلا المسلمون وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ قيل: معناه المصلون، لأن الصلاة يقال لها تسبيح، وقيل: معناه القائلون سبحان الله، وفي هذا الكلام الذي قالته الملائكة رد على من قال: إنهم بنات الله وشركاء له، لأنهم اعترفوا على أنفسهم بالعبودية والطاعة لله والتنزيه له، ويدل هذا الكلام أيضا على أن المراد بالجن قبل هذا الملائكة، وقيل: إنه هذا كله من كلام سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وكلام المسلمين، والأول أشهر وَإِنْ كانُوا لَيَقُولُونَ لَوْ أَنَّ عِنْدَنا ذِكْراً مِنَ الْأَوَّلِينَ الضمير لكفار قريش وسائر العرب، والمعنى أنهم كانوا قبل بعث محمد صلى الله عليه وسلم يقولون: أو أرسل الله إلينا رسولا وأنزل علينا كتابا لكنا عباد الله المخلصين فَكَفَرُوا بِهِ الضمير للذكر، أو لسيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم، لأن المعنى يقتضي ذلك وإن لم يتقدم له ذكر فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ تهديد ووعيد لهم على كفرهم. وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ المعنى سبق القضاء بأن

المرسلين منصورون على أعدائهم إِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ هذا النصر والغلبة بظهور الحجة والبرهان، وبهزيمة الأعداء في القتال، وبالسعادة في الآخرة فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ أي أعرض عنهم، وذلك موادعة منسوخة بالسيف، والحين هنا يراد به يوم بدر، وقيل: حضور آجالهم، وقيل: يوم القيامة وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ هذا وعد للنبي صلى الله عليه وسلم ووعيد لهم أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ إشارة إلى قولهم متى هذا الوعد؟ وأمطر علينا حجارة من السماء وشبه ذلك فَإِذا نَزَلَ بِساحَتِهِمْ الساحة: الفناء حول الدار، والعرب تستعمل هذه اللفظة فيما يرد على الإنسان من محظور وسوء فَساءَ صَباحُ الْمُنْذَرِينَ الصباح مستعمل في ورود الغارات والرزايا، ومقصد الآية التهديد بعذاب يحل بهم بعد أن أنذروا، فلم ينفعهم الإنذار، وذلك تمثيل بقوم أنذرهم ناصح بأن جيشا يحل بهم فلم يقبلوا نصحه، حتى جاءهم الجيش وأهلكهم وَأَبْصِرْ كرر الأمر بالتولي عنهم والوعد والوعيد على وجه التأكيد، وقيل: أراد بالوعيد الأول عذاب الدنيا، وبالثاني عذاب الآخرة، فإن قيل: لم قال أولا أبصرهم، وقال هنا: أبصر، فحذف الضمير المفعول؟ فالجواب من وجهين: أحدهما أنه اكتفى بذكره أولا عن ذكره ثانيا فحذفه اقتصارا، والآخر أنه حذفه ليفيد العموم فيمن تقدم وغيرهم كأنه قال: أبصر جميع الكفار بخلاف الأول، فإنه من قريش خاصة. سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ نزه الله تعالى نفسه عما وصفه به الكفار مما لا يليق به، فإنه حكى عنهم في هذه السورة أقوالا كثيرة شنيعة، والعزة إن أراد بها عزة الله: فمعنى رب العزة، ذو العزة وأضافها إليه لاختصاصه بها، وإن أراد بها عزة الأنبياء والمؤمنين: فمعنى رب العزة مالكها وخالقها، ومن هذا قال محمد بن سحنون: من حلف بعزة الله، فإن أراد صفة الله فهي يمين، وإن أراد العزة التي أعطى عباده فليست بيمين، ثم ختم هذه السورة بالسلام على المرسلين وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ فأما السلام على المرسلين فيحتمل أن يريد التحية أو سلامتهم من أعدائهم، ويكون ذلك تكميلا لقوله: إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ، وأما الحمد لله، فيحتمل أن يريد به الحمد لله على ما ذكر في هذه السورة من تنزيه الله ونصرة الأنبياء وغير ذلك، ويحتمل أن يريد الحمد لله على الإطلاق.

سورة ص

سورة ص مكية وآياتها 88 نزلت بعد القمر بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (سورة داود عليه السلام) ص تكلمنا على حروف الهجاء في البقرة، ويختص بهذا أنه قال فيه: معناه صدق محمد، وقيل: هو حرف من اسم الله الصمد أو صادق الوعد، أو صانع المصنوعات وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ هذا قسم جوابه محذوف تقديره: إن القرآن من عند الله، وإن محمدا لصادق وشبه ذلك. وقيل: جوابه في قوله ص إذ هو بمعنى صدق محمد، وقيل: جوابه [الآتي] إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ [ص: 14] وهذا بعيد، وقيل: جوابه إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ [ص: 64] وهذا أبعد، ومعنى ذي الذكر: الشرف، والذكر بمعنى الموعظة، أو ذكر الله وما يحتاج إليه من الشريعة بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ الذين كفروا يعني قريشا، وبل للإضراب عن كلام محذوف، وهو جواب القسم أي: إن كفرهم ليس ببرهان بل هو بسبب العزة والشقاق، والعزة التكبر، والشقاق: العداوة وقصد المخالفة، وتنكيرهما للدلالة على شدتهما، وتفاخم الكفار فيهما كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ إخبار يتضمن تهديدا لقريش فَنادَوْا وَلاتَ حِينَ مَناصٍ المعنى أن القرون الذين هلكوا دعوا واستغاثوا حين لم ينفعهم ذلك، ولات بمعنى: ليس وهي لا النافية زيدت عليها علامة التأنيث، كما زيدت في ربّت وثمة، ولا تدخل لات إلا على زمان، واسمها مضمر، وحين مناص خبرها، والتقدير: ليس الحين الذين دعوا فيه حين مناص، والمناص المفرّ والنجاة من قولك: ناص ينوص إذا فرّ. وَعَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ الضمير لقريش، والمنذر سيدنا صلى الله عليه وآله وسلم، أي استبعدوا أن يبعث الله رسولا منهم، ويحتمل أن يريد من قبيلتهم، أو يريد من البشر مثلهم وَقالَ الْكافِرُونَ كان الأصل وقالوا ولكن وضع الظاهر موضع المضمر قصدا لوصفهم بالكفر أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً هذا إنكار منهم للتوحيد، وسبب نزول هذه الآيات أن قريشا اجتمعوا وقالوا لأبي طالب: كفّ ابن أخيك عنا، فإنه يعيب ديننا ويذم

[سورة ص (38) : الآيات 10 إلى 17]

آلهتنا ويسفه أحلامنا. فكلمه أبو طالب في ذلك، فقال صلى الله عليه وسلم: إنما أريد منهم كلمة واحدة يملكون بها العجم، وتدين لهم بها العرب، فقالوا: نعم وعشر كلمات معها. فقال: قولوا لا إله إلا الله «1» ، فقاموا وأنكروا ذلك وقالوا: أجعل الآلهة إلها واحدا وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا انطلاق الملأ عبارة عن خروجهم عن أبي طالب وقيل: عبارة عن تفرّقهم في طرق مكة وإشاعتهم للكفر، وأن امشوا: معناه يقول بعضهم لبعض: امشوا واصبروا على عبادة آلهتكم، ولا تطيعوا محمدا فيما يدعو إليه من عبادة الله وحده إِنَّ هذا لَشَيْءٌ يُرادُ هذا أيضا مما حكى الله من كلام قريش، وفي معناه وجهان: أحدهما إن الإشارة إلى الإسلام والتوحيد، أي إن هذا التوحيد شيء يراد منا الانقياد إليه، والآخر أن الإشارة إلى الشرك والصبر على آلهتهم، أي إن هذا لشيء ينبغي أن يراد ويتمسك به، أو أن هذا شيء يريده الله منا لما قضى علينا به والأول أرجح، لأن الإشارة فيما بعد ذلك إليه فيكون الكلام على نسق واحد ما سَمِعْنا بِهذا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ هذا أيضا مما حكى الله عنهم من كلامهم، أي ما سمعنا بالتوحيد في الملة الآخرة، والمراد بالملة الآخرة ملة النصارى، لأنها بعد ملة موسى وغيره وهم يقولون بالتثليث لا بالتوحيد، وقيل: المراد ملة قريش أي ما سمعنا بهذا في الملة التي أدركنا عليها آباءنا، وقيل: المراد الملة المنتظرة إذ كانوا يسمعون من الأحبار والكهان أن رسولا يبعث يكون آخر الأنبياء إِنْ هذا إِلَّا اخْتِلاقٌ هذا أيضا مما حكى من كلامهم، والإشارة إلى التوحيد والإسلام، ومعنى الاختلاق الكذب أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا «2» الهمزة للإنكار، والمعنى أنهم أنكروا أن يخص الله محمدا صلى الله تعالى عليه وآله وسلم بإنزال القرآن عليه دونهم بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي هذا ردّ عليهم، والمعنى أنهم ليست لهم حجة ولا برهان، بل هم في شك من معرفة الله وتوحيده، فلذلك كفروا، ويحتمل أن يريد بالذكر القرآن بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ هذا وعيد لهم وتهديد، والمعنى أنهم إنما حملهم على الكفر كونهم لم يذوقوا العذاب، فإذا ذاقوه زال عنهم الشك وأذعنوا للحق. أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ هذا ردّ عليهم فيما أنكروا من اختصاص محمد صلى الله عليه وسلم بالنبوة، والمعنى أنهم ليس عندهم خزائن رحمة الله حتى يعطوا النبوة من شاءوا، ويمنعوا من شاؤوا، بل يعطيها الله لمن يشاء، ثم وصف نفسه بالعزيز الوهاب، لأن العزيز يفعل ما يشاء، والوهاب ينعم على من يشاء، فلا حجة لهم فيما أنكروا أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما هذا أيضا ردّ عليهم، والمعنى: أم لهم الملك فيتصرفون

_ (1) . روى الطبري القصة بسنده. إلى ابن عباس. (2) . قرأ نافع وغيره بهمزة واحدة: أنزل وقرأ الباقون: أأنزل.

فيه كيف شاءوا، بل مالك الملك يفعل في ملكه ما يشاء، وأم الأولى منقطعة بمعنى بل وهمزة الإنكار، وأما أم الثانية فيحتمل أن تكون كذلك، أو تكون عاطفة معادلة لما قبلها فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبابِ هذا تعجيز لهم، وتهكم بهم، ومعنى يرتقوا يصعدوا، والأسباب هنا السلالم والطرق، وشبه ذلك مما يوصل به إلى العلو، وقيل: هي أبواب السماء، والمعنى إن كان لهم ملك السموات والأرض فليصعدوا إلى العرش ويدبروا الملك جُنْدٌ ما هُنالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزابِ هذا وعيد بهزيمتهم في القتال، وقد هزموا يوم بدر وغيره، وما هنالك صفة لجند، وفيها معنى التحقير لهم، والإشارة بهنالك إلى حيث وصفوا أنفسهم من الكفر والاستهزاء، وقيل: الإشارة إلى الارتقاء في الأسباب وهذا بعيد وقيل الإشارة إلى موضع بدر، ومن الأحزاب معناه من جملة الأحزاب الذين تعصبوا للباطل فهلكوا. وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتادِ قال ابن عباس: كانت له أوتاد وخشب يلعب بها وعليها، وقيل: كانت له أوتاد يسمرها في الناس لقتلهم، وقيل: أراد المباني العظام الثابتة، ورجحه ابن عطية، وقال الزمخشري: إن ذلك استعارة في ثبات الملك كقول القائل: في ظل ملك ثابت الأوتاد وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ قد ذكر [الحجر: 78، والشعراء: 176] وَما يَنْظُرُ هؤُلاءِ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً ينظر هنا بمعنى ينتظر، وهؤلاء يعني قريشا، والصيحة الواحدة النفخة في الصور وهي نفخة الصعق، وقيل: الصيحة عبارة عما أصابهم من قتل أو شدة، والأول أظهر، وقد روي تفسيرها بذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم ما لَها مِنْ فَواقٍ فيه ثلاثة أقوال: الأول مالها رجوع أي لا يرجعون بعدها إلى الدنيا، وهو على هذا مشتق من الإفاقة، الثاني مالها من ترداد: أي إنما هي واحدة لا ثانية لها: الثالث مالها من تأخير ولا توقف مقدار فواق ناقة وهي ما بين حلبتي اللبن، وهذا القول الثالث إنما يجرى على قراءة فواق بالضم لأن فواق الناقة بالضم، والقولان الأولان على الفتح والضم وَقالُوا رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا القط في اللغة له معنيان: أحدها الكتاب، والآخر النصيب، وفي معناه هنا ثلاثة أقوال: أحدها نصيبنا من الخير: أي دعوا أن يعجله الله لهم في الدنيا والآخر: نصيبهم من العذاب، فهو كقولهم: أمطر علينا حجارة من السماء. الثالث صحائف أعمالنا. اصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ الأيد القوة، وكان داود جمع قوة البدن وقوة الدين والملك والجنود، والأواب: الرجاع إلى الله، فإن قيل: ما المناسبة بين أمر الله لسيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالصبر على أقوال الكفار وبين أمره له بذكر داود؟ فالجواب عندي أن ذكر داود ومن بعده من الأنبياء في هذه السورة فيه

[سورة ص (38) : الآيات 18 إلى 21]

تسلية للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، ووعد له بالنصر وتفريج الكرب، وإعانة له على ما أمر به من الصبر، وذلك أن الله ذكر ما أنعم به على داود من تسخير الطير والجبال، وشدّة ملكه، وإعطائه الحكمة وفصل الخطاب، ثم الخاتمة له في الآخرة بالزلفى وحسن المآب، فكأنه يقول: يا محمد كما أنعمنا على داود بهذه النعم كذلك ننعم عليك، فاصبر ولا تحزن على ما يقولون، ثم ذكر ما أعطى سليمان من الملك العظيم، وتسخير الريح والجن والخاتمة بالزلفى وحسن المآب، ثم ذكر من ذكر بعد ذلك من الأنبياء. والمقصد: ذكر الإنعام عليهم لتقوية قلب النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأيضا فإن داود وسليمان وأيوب أصابتهم شدائد ثم فرّجها الله عنهم، وأعقبها بالخير العظيم، فأمر سيدنا محمدا صلى الله عليه وآله وسلم بذكرهم، ليعلمه أنه يفرج عنه ما يلقى من إذاية قومه، ويعقبها بالنصر والظهور عليهم، فالمناسبة في ذلك ظاهرة وقال ابن عطية: المعنى: اذكر داود ذا الأيدي في الدين فتأسّ به وتأيد كما تأيد، وأجاب الزمخشري عن السؤال فإنه قال: كأن الله قال لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم: اصبر على ما يقولون، وعظم أمر المعصية في أعين الكفار بذكر قصة داود، وذلك أنه نبي كريم عند الله ثم زلّ زلة فوبخه الله عليها فاستغفر وأناب، فما الظن بكم مع كفركم ومعاصيكم وهذا الجواب لا يخفى ما فيه من سوء الأدب مع داود عليه السلام حيث جعله مثالا يهدد الله به الكفار، وصرح بأنه زل وأن الله وبخه على زلته، ومعاذ الله من ذكر الأنبياء بمثل هذا وَالْإِشْراقِ يعني: وقت الإشراق وهو حين تشرق الشمس: أي تضيء ويصفر شعاعها وهو وقت الضحى، وأما شروقها فطلوعها مَحْشُورَةً أي مجموعة كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ أي كل مسبح لأجل تسبيح داود، ويحتمل أن يكون أوّاب هنا بمعنى رجاع أي ليرجع إلى أمره. وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ قيل: يعني النبوة، وقيل: العلم والفهم وقيل: الزبور وَفَصْلَ الْخِطابِ قال ابن عباس: هو فصل القضاء بين الناس بالحق، وقال عليّ بن أبي طالب: هو إيجاب اليمين على المدعى عليه، والبينة على المدعى، وقيل: أراد قول: أما بعد فإنه أول من قالها، وقال الزمخشري: معنى فصل الخطاب: البيّن من الكلام الذي يفهمه من يخاطب به، وهذا المعنى اختاره ابن عطية، وجعله من قوله تعالى: «إنه لقول فصل» [الطارق: 13] وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ جاءت هذه القصة بلفظ الاستفهام تنبيها للمخاطب ودلالة على أنها من الأخبار العجيبة، التي ينبغي أن يلقى البال لها، والخصم يقع على الواحد والاثنين والجماعة، كقولك: عدل وزور. واتفق الناس على أن هؤلاء الخصم كانوا ملائكة، وروي أنهما جبريل وميكائيل بعثهما الله، ليضرب بهما المثل لداود في نازلة وقع هو في مثلها، فأفتى بفتيا هي واقعة عليه في نازلته، ولما شعر وفهم المراد أناب

[سورة ص (38) : الآيات 22 إلى 23]

واستغفر، وسنذكر القصة بعد هذا، ومعنى تسوّروا المحراب علوا على سوره ودخلوه، والمحراب: الموضع الأرفع من القصر أو المسجد وهو موضع التعبد، ويحتمل أن يكون المتسوّر المحراب اثنين فقط، لأن نفس الخصومة إنما كانت بين اثنين فقط، فتجيء الضمائر في تسوّروا، ودخلوا، وفزع منهم: على وجه التجوز، والعبارة عن الاثنين بلفظ الجماعة، وذلك جائز على مذهب من يرى أن أقل الجمع اثنان، ويحتمل أنه جامع كل واحد من الخصمين جماعة فيقع على تجميعهم خصم، وتجيء الضمائر المجموعة حقيقة، وعلى هذا عوّل الزمخشري. إِذْ دَخَلُوا عَلى داوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ العامل في إذ هنا تسوروا، وقيل: هي بدل من الأولى، وأما إذ الأولى فالعامل فيها أتاك أو تسوروا وردّ الزمخشري ذلك، وقال: إن العامل فيها محذوف تقديره: هل أتاك نبأ تحاكم الخصم إذ تسوروا، وإنما فزع داود منهم لأنهم دخلوا عليه بغير إذن، ودخلوا من غير الباب، وقيل: إن ذلك كان ليلا خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ تقديره نحن خصمان، ومعنى بغى تعدى وَلا تُشْطِطْ أي لا تجر علينا في الحكم، يقال: أشط الحاكم إذا جار، وقرئ في الشاذ: لا تشطط بفتح التاء: أي لا تبعد عن الحق، يقال: شط إذا بعد سَواءِ الصِّراطِ أي وسط الطريق، ويعني القصد والحق الواضح إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ فَقالَ أَكْفِلْنِيها وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ هذه حكاية كلام أحد الخصمين، والأخوة هنا أخوة الدين، والنعجة في اللغة تقع على أنثى بقر الوحش وعلى أنثى الضأن، وهي هنا عبارة عن المرأة، ومعنى أكفلنيها: أملكها لي وأصله اجعلها في كفالتي، وقيل: اجعلها كفلي أي نصيبي، ومعنى عزّني في الخطاب أي: غلبني في الكلام والمحاورة يقال: عز فلان فلانا إذا غلبه، وهذا الكلام تمثيل للقصة التي وقع داود فيها. وقد اختلف الناس فيها وأكثروا القول فيها قديما وحديثا حتى قال عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه: من حدّث بما يقول هؤلاء القصاص في أمر داود عليه السلام جلدته حدّين لما ارتكب من حرمة من رفع الله محله، ونحن نذكر من ذلك ما هو أشهر وأقرب إلى تنزيه داود عليه السلام: روي أن أهل زمان داود عليه السلام كان يسأل بعضهم بعضا أن ينزل له عن امرأته فيتزوجها إذا أعجبته، وكانت لهم عادة في ذلك لا ينكرونها، وقد جاء عن الأنصار في أول الإسلام شيء من ذلك، فاتفق أن وقعت عين داود على امرأة رجل فأعجبته، فسأله النزول عنها ففعل، وتزوّجها داود عليه السلام فولد له منها سليمان عليه السلام، وكان لداود تسع وتسعون امرأة، فبعث الله إليه ملائكة مثالا لقصته، فقال أحدهما إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة إشارة إلى أن ذلك الرجل لم تكن له إلا تلك المرأة الواحدة، فقال أكفلنيها إشارة إلى سؤال داود من الرجل النزول عن

[سورة ص (38) : آية 24]

امرأته فأجابه داود عليه السلام بقوله: لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه، فقامت الحجة عليه بذلك، فتبسم الملكان عند ذلك وذهبا ولم يرهما، فشعر داود أن ذلك عتاب من الله له على ما وقع فيه. فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ ولا تقتضي هذه القصة على هذه الرواية أن داود عليه السلام وقع فيما لا يجوز شرعا، وإنما عوتب على أمر جائز، كان ينبغي له أن يتنزه عنه لعلوّ مرتبته ومتانة دينه، فإنه قد يعاتب الفضلاء على ما لا يعاتب عليه غيرهم، كما قيل: حسنات الأبرار سيئات المقربين، وأيضا فإنه كان له تسع وتسعون امرأة، فكان غنيا عن هذه المرأة فوقع العتاب على الاستكثار من النساء، وإن كان جائزا، وروي هذا الخبر على وجه آخر، وهو أن داود انفرد يوما في محرابه للتعبد، فدخل عليه طائر من كوة فوقع بين يديه فأعجبه، فمد يده ليأخذه فطار على الكوة فصعد داود ليأخذه، فرأى من الكوة امرأة تغتسل عريانة فأعجبته، ثم انصرف فسأل عنها فأخبر أنها امرأة رجل من جنده، وأنه خرج للجهاد مع الجند، فكتب داود إلى أمير تلك الحرب أن يقدم ذلك الرجل يقاتل عند التابوت، وهو موضع قل ما تخلص أحد منه، فقدم ذلك الرجل فقاتل حتى قتل شهيدا، فتزوج داود امرأته فعوتب على تعريضه ذلك الرجل للقتل، وتزوجه امرأته بعده مع أنه كان له تسع وتسعون امرأة سواها، وقيل: إنّ داود همّ بذلك كله ولم يفعله، وإنما وقعت المعاتبة على همه بذلك، وروي أن السبب فيما جرى له مثل ذلك أنه أعجب بعلمه، وظهر منه ما يقتضي أنه لا يخاف الفتنة على نفسه ففتن بتلك القصة، وروي أيضا أن السبب في ذلك أنه تمنى منزلة آبائه إبراهيم وإسحاق ويعقوب، والتزم أن يبتلى كما ابتلوا فابتلاه الله بما جرى له في تلك القصة؟ قالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ سؤال مصدر مضاف إلى المفعول، وإنما تعدى بإلى لأنه تضمن معنى الإضافة كأنه قال: بسؤال نعجتك مضافة أو مضمومة إلى نعاجه، فإن قيل: كيف قال له داود: لقد ظلمك قبل أن يثبت عنده ذلك؟ فالجواب أنه روي أن الآخر اعترف بذلك وحذف ذكر اعترافه اختصارا، ويحتمل أن يكون قوله: لقد ظلمك على تقدير صحة قوله، وقد قيل: إن قوله لأحد الخصمين: لقد ظلمك قبل أن يسمع حجة الآخر كانت خطيئته التي استغفر منها وأناب وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ الخلطاء هم الشركاء في الأموال، ولكن الخلطة أعم من الشركة، ألا ترى أن الخلطة في المواشي ليست بشركة في رقابها، وقصد داود بهذا الكلام الوعظ للخصم الذي بغى، والتسلية بالتأسي للخصم الذي بغي عليه وَقَلِيلٌ ما هُمْ ما زائدة للتأكيد. وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ ظن هنا بمعنى شعر بالأمر، وقيل: بمعنى أيقن، وفتناه معناه اختبرناه وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ معنى خرّ: ألقى بنفسه إلى الأرض، وإنما حقيقة ذلك في

[سورة ص (38) : الآيات 25 إلى 31]

السجود، فقيل: إن الركوع هنا بمعنى السجود، وقيل: خرّ من ركوعه ساجدا بعد أن ركع، ومعنى أناب: تاب، وروي أنه بقي ساجدا أربعين يوما يبكي حتى نبت البقل من دموعه، وهذا الموضع فيه سجدة عند مالك خلافا للشافعي، إلا أنه اختلف في مذهب مالك هل يسجد عند قوله: وأناب، أو عند قوله: وحسن مآب وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ الزلفى القربة والمكانة الرفيعة، والمآب المرجع في الآخرة يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ تقديره قال الله يا داود، وخلافة داود بالنبوة والملك، قال ابن عطية: لا يقال خليفة الله إلا لنبيّ، وأما الملوك والخلفاء فكل واحد منهم خليفة الذي قبله، وقول الناس فيهم خليفة الله تجوّز وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلًا أي عبثا بل خلقهما الله بالحق للاعتبار بهما والاستدلال على خالقهما ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا المعنى أن الكفار لما أنكروا الحشر والجزاء كانت خلقة السموات والأرض عندهم باطلا بغير الحكمة، فإن الحكمة في ذلك إنما تظهر في الجزاء الأخروي أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أم هنا استفهامية يراد بها الإنكار: أي أن الله لا يجعل المؤمنين والمتقين كالمفسدين والفجار، بل يجازي كل واحد بعلمه لتظهر حكمة الله في الجزاء، ففي ذلك استدلال على الحشر والجزاء، وفيه أيضا وعد ووعيد. إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِناتُ الْجِيادُ الصافنات جمع صافن، وهو الفرس الذي يرفع إحدى رجليه أو يديه ويقف على طرف الأخرى، وقيل: الصافن هو الذي يسوّي يديه، والصفن علامة على فراهة الفرس، والجياد السريعة الجري واختلف الناس في قصص هذه الآية، فقال الجمهور: إن سليمان عليه السلام عرضت عليه خيل كان ورثها عن أبيه وقيل: أخرجتها له الشياطين من البحر، وكانت ذوات أجنحة، وكانت ألف فرس، وقيل: أكثر فتشاغل بالنظر إليها حتى غربت الشمس وفاتته صلاة العشي «العصر» ، فأسف لذلك، وقال: ردوا عليّ الخيل وطفق يضرب أعناقها وعراقيبها بالسيف حتى عقرها لما كانت سبب فوات الصلاة، ولم يترك منها إلا اليسير، فأبدله الله أسرع منها وهي الريح، وأنكر بعض العلماء هذه الرواية وقال: تفويت الصلاة ذنب لا يفعله سليمان وعقر الخيل لغير فائدة لا يجوز، فكيف يفعله سليمان عليه السلام؟ وأي ذنب للخيل في تفويت الصلاة فقال بعضهم:

[سورة ص (38) : الآيات 32 إلى 34]

إنما عقرها ليأكلها الناس، وكان زمانهم زمان مجاعة فعقرها تقربا إلى الله، وقال بعضهم، لم تفته الصلاة ولا عقر الخيل، بل كان يصلي فعرضت عليه الخيل فأشار إليهم فأزالوها حتى دخلت اصطبلاتها فلما فرغ من صلاته قال ردّوها عليّ فطفق يمسح عليها بيده كرامة لها ومحبة، وقيل إن المسح عليها كان وسما في سوقها وأعناقها بوسم حبس في سبيل الله. فَقالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي معنى هذا يختلف على حسب الاختلاف في القصة، فأما الذين قالوا إن سليمان عقر الخيل لما اشتغل بها حتى فاتته الصلاة فاختلفوا في هذا على ثلاثة أقوال: أحدها أن الخير هنا يراد به الخيل، وزعموا أن الخيل يقال لها خير، وأحببت بمعنى: آثرت أو بمعنى فعل يتعدى بمن كأنه قال: آثرت حب الخيل فشغلني عن ذكر ربي، والآخر: أن الخير هنا يراد به المال، لأن الخيل وغيرها مال فهو كقوله تعالى «إِنْ تَرَكَ خَيْراً» أي مالا، والثالث: أن المفعول محذوف، وحب الخير مصدر والتقدير: أحببت هذه الخيل مثل حب الخير، فشغلني عن ذكر ربي، وأما الذين قالوا: كان يصلى فعرضت عليه الخيل فأشار بإزالتها فالمعنى أنه قال: إني أحببت حب الخير الذي عند الله في الآخرة بسبب ذكر ربي، وشغلني ذلك عن النظر إلى الخيل حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ الضمير للشمس وإن لم يتقدم ذكرها، ولكنها تفهم من سياق الكلام وذكر العشي يقتضيها، والمعنى حتى غابت الشمس، وقيل: إن الضمير للخيل، ومعنى توارت بالحجاب دخلت اصطبلاتها والأول أشهر وأظهر رُدُّوها عَلَيَّ أي قال سليمان: ردوا الخيل عليّ فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ السوق جمع ساق يعني سوق الخيل وأعناقهم: أي جعل يمسحها مسحا، وهذا المسح يختلف على حسب الاختلاف المتقدم، هل هو قطعها وعقرها أو مسحها باليد محبة لها، أو وسمها للتحبيس. وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنابَ تفسير هذه الآية يختلف على حسب الاختلاف في قصتها، وفي ذلك أربعة أقوال: الأول أن سليمان كان له خاتم ملكه وكان فيه اسم الله، فكان ينزعه إذا دخل الخلاء توقيرا لاسم الله تعالى، فنزعه يوما ودفعه إلى جارية فتمثل لها جني في صورة سليمان وطلب منها الخاتم فدفعته له، روي أن اسمه صخر، فقعد على كرسيّ سليمان يأمر وينهى والناس يظنون أنه سليمان، وخرج سليمان فارّا بنفسه فأصابه الجوع فطلب حوتا ففتح بطنه فوجد فيه خاتمه، وكان الجني قد رماه في البحر فلبس سليمان الخاتم وعاد إلى ملكه، ففتنة سليمان على هذا هي ما جرى له من سلب ملكه، والجسد الذي ألقي على كرسيه هو الجنيّ الذي قعد عليه وسماه جسدا، لأنه تصور في صورة إنسان، ومعنى أناب رجع إلى الله بالاستغفار والدعاء، أو رجع إلى ملكه، والقول الثاني أن سليمان كان له امرأة يحبها وكان أبوها ملكا كافرا قد قتله سليمان فسألته أن يضع لها صورة أبيها فأطاعها في ذلك فكانت تسجد للصورة ويسجد معها جواريها، وصار

[سورة ص (38) : الآيات 35 إلى 40]

صنما معبودا في داره، وسليمان لا يعلم حتى مضت أربعون يوما، فلما علم به كسره فالفتنة على هذا عمل الصورة، والجسد هو الصورة والقول الثالث أن سليمان كان له ولد وكان يحبه حبا شديدا، فقالت الجن إن عاش هذا الولد ورث ملك أبيه فبقينا في السخرة أبدا فلم يشعر إلا وولده ميت على كرسيه، فالفتنة على هذا حبه الولد، والجسد هو الولد لما مات وسمي جسدا لأنه جسد بلا روح، القول الرابع أنه قال: لأطوفن الليلة على مائة امرأة تأتي كل واحدة منهن بفارس يجاهد في سبيل الله، ولم يقل إن شاء الله، فلم تحمل إلا واحدة بشق إنسان، فالفتنة على هذا كونه لم يقل إن شاء الله، والجسد هو شق الإنسان الذي ولد له، فأما القول الأول فضعيف من طريق النقل مع أنه يبعد ما ذكر فيه من سلب ملك سليمان وتسليط الشياطين عليه، وأما القول الثاني فضعيف أيضا مع أنه يبعد أنه يعبد صنم في بيت نبي، أو يأمر نبي بعمل صنم، وأما القول الثالث فضعيف أيضا، وأما القول الرابع فقد روي في الحديث الصحيح «1» عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لكنه لم يذكر في الحديث أن ذلك تفسير الآية. قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي قدم الاستغفار على طلب الملك، لأن أمور الدين كانت عندهم أهم من الدنيا فقدّم الأولى والأهمّ، فإن قيل: لأي شيء قال لا ينبغي لأحد من بعدي، وظاهر هذا طلب الانفراد به حتى قال فيه الحجاج إنه كان حسودا؟ فالجواب من وجهين: أحدهما أنه إنما قال ذلك لئلا يجرى عليه مثل ما جرى من أخذ الجني لملكه، فقصد أن لا يسلب ملكه عنه في حياته ويصير إلى غيره، والآخر أنه طلب ذلك ليكون معجزة، دلالة على نبوته فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ معنى رخاء لينة طيبة، وقيل: طائعة له، وقد ذكرنا الجمع بين هذا وبين قوله عاصِفَةً في الأنبياء: 81، وحيث أصاب: أي حيث قصد وأراد وَالشَّياطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ الشياطين معطوف على الريح، وكل بناء بدل من الشياطين أي سخرنا له الريح والشياطين من يبني منهم ومن يغوص في البحر وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ أي آخرين من الجنّ موثقون في القيود والأغلال هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ الإشارة إلى الملك الذي أعطاه الله له، والمعنى أن الله قال له: أعط من شئت وامنع من شئت، وقيل: المعنى امنن على من شئت من الجنّ بالإطلاق من القيود، وأمسك من شئت منهم في القيود، والأوّل أحسن وهو قول ابن عباس بِغَيْرِ حِسابٍ يحتمل ثلاثة معان: أحدها أنه لا يحاسب في الآخرة على ما فعل، والآخر بغير تضييق عليك في الملك، والثالث بغير حساب ولا عدد بل خارج عن الحصر وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ قد ذكر في قصة داود.

_ (1) . رواه البخاري في كتاب الجهاد والسير من حديث أبي هريرة باب 23 ص 209/ 3.

[سورة ص (38) : الآيات 41 إلى 45]

وَاذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ قد ذكرنا قصة أيوب عليه السلام في [الأنبياء: 83] والنصب يقال بضم النون وإسكان الصاد: وبفتح النون وإسكان الصاد وبضم النون والصاد وبفتحهما، ومعناه واحد وهو المشقة، فإن قيل: لم نسب ما أصابه من البلاء إلى الشيطان؟ فالجواب من أربعة أوجه: أحدها أن سبب ذلك كان من الشيطان، فإنه روي أنه دخل على بعض الملوك فرأى منكرا فلم يغيره، وقيل: إنه كانت له شاة فذبحها وطبخها، وكان له جار جائع فلم يعط جاره منها شيئا، والثاني أنه أراد ما وسوس له الشيطان في مرضه من الجزع وكراهة البلاء، فدعا إلى الله أن يدفع عنه وسوسة الشيطان بذلك، والثالث أنه روي أن الله سلط الشيطان عليه ليفتنه فأهلك ماله فصبر وأهلك أولاده فصبر وأصابه المرض الشديد فصبر فنسب ذلك إلى الشيطان لتسليط الشيطان عليه، والرابع: روي أن الشيطان لقي امرأته فقال لها: قولي لزوجك إن سجد لي سجدة أذهبت ما به من المرض فذكرت المرأة ذلك لأيوب، فقال لها: ذلك عدوّ الله الشيطان وحينئذ دعا ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَشَرابٌ التقدير قلنا له: اركض برجلك فضرب الأرض برجله فنبعت له عين ماء صافية باردة، فشرب منها فذهب كل مرض كان داخل جسده، واغتسل منها فذهب ما كان في ظاهر جسده، وروي أنه ركض الأرض مرتين فنبع له عينان، فشرب من أحدهما واغتسل من الأخرى وَوَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ ذكر في الأنبياء وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ الضغث القبضة من القضبان، وكان أيوب عليه السلام قد حلف أن يضرب امرأته مائة سوط إذا برىء من مرضه، وكان سبب ذلك ما ذكرته له من لقاء الشيطان، وقوله لها إن سجد لي زوجك أذهبت ما به من المرض، فأمره أن يأخذ ضغثا فيه مائة قضيب فيضربها به ضربة واحدة فيبرّ في يمينه، وقد ورد مثل هذا عن نبينا صلى الله عليه وسلم في حدّ رجل زنى وكان مريضا فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وسلم بعذق نخلة فيه شماريخ مائة فضرب به ضربة واحدة ذكر ذلك أبو داود «1» والنسائي، وأخذ به بعض العلماء، ولم يأخذ به مالك ولا أصحابه. أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ الأيدي جمع يد وذلك عبارة عن قوتهم في الأعمال الصالحات، وإنما عبر عن ذلك بالأيدي، لأن الأعمال أكثر ما تعمل بالأيدي، وأما الأبصار فعبارة عن قوة فهمهم وكثرة علمهم من قولك: أبصر الرجل إذا تبينت له الأمور، وقيل: الأيدي جمع يد بمعنى النعمة، ومعناه أولوا النعم التي أسداها الله إليهم من النبوة والفضيلة، وهذا ضعيف، لأن اليد بمعنى النعمة أكثر ما يجمع على أيادي، وقرأ ابن مسعود: أولوا الأيدي بغير ياء، فيحتمل أن تكون الأيدي محذوفة الياء أو يكون الأيد

_ (1) . رواه في كتاب الحدود ج 4 ص 615 عن أبي أمامة بن سهل بن ضيف.

[سورة ص (38) : الآيات 46 إلى 58]

بمعنى القوة: كقوله «داود ذا الأيد» إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ معنى أخلصناهم: جعلناهم خالصين لنا، أو أخلصناهم دون غيرهم، وخالصة صفة حذف موصوفها تقديره: بخصلة خالصة، وأما الباء في قوله بخالصة فإن كان أخلصناهم بمعنى خالصين، فالباء سببية للتعليل، وإن كان أخلصناهم بمعنى جعلناهم خصصناهم فالباء لتعدية الفعل، وقرأ نافع بإضافة خالصة إلى ذكرى من الباقون تنوين، وقرأ غيره بالتنوين على أن تكون ذكرى بدلا من خالصة على وجه البيان والتفسير لها، والدار يحتمل أن يريد به الآخرة أو الدنيا، فإن أراد به الآخرة ففي المعنى ثلاثة أقوال: أحدها أن ذكرى الدار: يعني ذكرهم للآخرة وجهنم فيها، والآخر أن معناه تذكيرهم للناس بالآخرة، وترغيبهم للناس فيما عند الله، والثالث أن معناه ثواب الآخرة: أي أخلصناهم بأفضل ما في الآخرة، والأول أظهر، وإن أراد بالدار الدنيا فالمعنى حسن الثناء والذكر الجميل في الدنيا، كقوله: لسان صدق الْأَخْيارِ جمع خير بتشديد الياء أو خير المخفف من خير كميت مخفف من ميت وَذَا الْكِفْلِ ذكر في الأنبياء: 85. هذا ذِكْرٌ الإشارة إلى ما تقدم في هذه السورة من ذكر الأنبياء، وقيل الإشارة إلى القرآن بجملته، والأول أظهر وكأن قوله: هذا ذكر ختام للكلام المتقدم، ثم شرع بعده في كلام آخر كما يتم المؤلف بابا ثم يقول فهذا باب ثم يشرع في آخر قاصِراتُ الطَّرْفِ ذكر في الصافات: 48 أَتْرابٌ يعني أسنانهم سواء يقال: فلان ترب فلان إذا كان مثله في السن، وقيل: إن أسنانهم وأسنان أزواجهم سواء ما لَهُ مِنْ نَفادٍ أي ماله من فناء ولا انقضاء. هذا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ تقديره الأمر هذا: لما تم ذكر أهل الجنة ختمه بقوله هذا ثم ابتدأ وصف أهل النار، ويعني بالطاغين الكفار هذا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ هذا مبتدأ وخبره حميم فليذوقوه: اعترافا بينهما «1» والحميم الماء الحار والغساق قرأه بالتشديد حفص وحمزة والكسائي والباقي بالتخفيف: غساق بتخفيف السين وتشديدها وهو صديد أهل النار، وقيل: ما يسيل من عيونهم، وقيل: هو عذاب لا يعلمه إلا الله وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْواجٌ آخر معطوف على حميم وغساق تقديره: وعذاب آخر، قيل: يعني الزمهرير، ومعنى من شكله من مثله ونوعه أي من مثل العذاب المذكور، وأزواج معناه أصناف وهو صفة للحميم والغساق والعذاب الآخر والمعنى أنهما أصناف من العذاب، وقال ابن عطية: آخر مبتدأ، واختلف في خبره، فقيل: تقديره ولهم عذاب آخر وقيل: أزواج مبتدأ ومن شكله خبر أزواج، والجملة خبر آخر، وقيل: أزواج

_ (1) . كذا في الأصل، وفي الطبري جاء تفسير: فليذوقوه: معناه التأخير، والله أعلم.

[سورة ص (38) : الآيات 59 إلى 66]

خبر الآخر، ومن شكله في موضع الصفة وقرئ أخر بالجمع وهو أليق أن يكون أزواج خبره لأنه جمع مثله هذا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ الفوج جماعة من الناس، والمقتحم الداخل في زحام وشدة، وهذا من كلام خزنة النار خاطبوا به رؤساء الكفار الذين دخلوا النار أولا، ثم دخل بعدهم أتباعهم وهو الفوج المشار إليه، وقيل: هو كلام أهل النار بعضهم لبعض، والأول أظهر لا مَرْحَباً بِهِمْ أي لا يلقون رحبا ولا خيرا، وهو دعاء من كلام رؤساء الكفار: أي لا مرحبا بالفوج الذين هم أتباع لهم قالُوا بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَباً بِكُمْ هذا حكاية كلام الأتباع للرؤساء لما قالوا لهم: لا مرحبا بهم، أجابوهم بقولهم بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَباً بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنا هذا أيضا من كلام الأتباع خطابا للرؤساء، وهو تعليل لقولهم: بل أنتم لا مرحبا بكم، والضمير في قدمتموه للعذاب، ومعنى قدمتموه أوجبتموه لنا بما قدمتم في الدنيا من إغوائنا، وأمركم لنا بالكفر قالُوا رَبَّنا مَنْ قَدَّمَ لَنا هذا فَزِدْهُ عَذاباً ضِعْفاً فِي النَّارِ هذا أيضا من كلام الأتباع دعوا إلى الله تعالى أن يضاعف العذاب لرؤسائهم، الذين أوجبوا لهم العذاب فهو كقولهم: رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ والضعف زيادة المثل. وَقالُوا ما لَنا لا نَرى رِجالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرارِ الضمير في وقالوا لرؤساء الكفار، وقيل: للطاغين والرجال هم ضعفاء المؤمنين، وقيل: إن القائلين لذلك أبو جهل لعنه الله وأمية بن خلف وعتبة بن ربيعة وأمثالهم وأن الرجال المذكورين هم عمّار وبلال وصهيب وأمثالهم، واللفظ أعم من ذلك والمعنى أنهم قالوا في جهنم: مالنا لا نرى في النار رجالا كنا في الدنيا نعدّهم من الأشرار أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا قرئ أتخذناهم بهمزة قطع ومعناه: توبيخ أنفسهم على اتخاذهم المؤمنين سخريا، وقرئ بألف وصل على أن يكون الجملة صفة لرجال «1» وقرأ نافع وحمزة والكسائي سخريا بالرفع والباقون بالكسر سخريا بضم السين من التسخير بمعنى الخدمة وبالكسر بمعنى الاستهزاء أَمْ زاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصارُ هذا يحتمل ثلاثة أوجه: أحدها أن يكون معادلا لقولهم: ما لنا لا نرى رجالا، والمعنى مالنا لا نراهم في جهنم فهم ليسوا فيها أم هم فيها ولكن زاغت عنهم أبصارنا، ومعنى زاغت عنهم مالت فلم نرهم. الثاني أن يكون معادلا لقولهم: أتخذناهم سخريا والمعنى أتخذناهم سخريا. وأم زاغت الأبصار على هذا: مالت عن النظر إليهم احتقارا لهم. الثالث أن تكون أم منقطعة بمعنى بل والهمزة فلا تعادل شيئا مما قبلها إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ الإشارة إلى ما تقدم من حكاية أقوال أهل النار ثم فسره بقوله تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ وإعراب تخاصم بدل من

_ (1) . قرأ نافع وحمزة والكسائي سخريا بالرفع والباقون بالكسر.

[سورة ص (38) : الآيات 67 إلى 81]

حق أو خبر مبتدأ مضمر قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ النبأ: الخبر، ويعني به ما تضمنته الشريعة من التوحيد والرسالة والدار الآخرة، وقيل: هو القرآن، وقيل: هو يوم القيامة والأول أعم وأرجح ما كانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلى إِذْ يَخْتَصِمُونَ الملأ الأعلى هم الملائكة ومقصد الآية الإحتجاج على نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم، لأنه أخبر بأمور لم يكن يعلمها قبل ذلك، والضمير في يختصمون للملأ الأعلى، واختصامهم هو في قصة آدم حين قال لهم: إني جاعل في الأرض خليفة حسبما تضمنته قصته في مواضع من القرآن، وفي الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى ربه فقال: يا محمد فيم يختصم الملأ الأعلى فقال: لا أدري قال في الكفارات وهي إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطا إلى المساجد الحديث «1» بطوله، وقيل: الضمير في يختصمون للكفار: أي يختصمون في الملأ الأعلى فيقول بعضهم هم بنات الله، ويقول آخرون: هم آلهة تعبد، وهذا بعيد. إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ إذ بدل من إذ يختصمون، وقد ذكرنا في البقرة معنى سجود الملائكة لآدم، ومعنى كفر إبليس وذكرنا في [الحجر: 29] معنى قوله تعالى «مِنْ رُوحِي» قالَ يا إِبْلِيسُ ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ الضمير في قال لله عز وجل، وبيديّ من المتشابه الذي ينبغي الإيمان به، وتسليم علم حقيقته إلى الله، وقال المتأوّلون: هو عبارة عن القدرة، وقال القاضي أبو بكر بن الطيب [الباقلاني] : إن اليد والعين والوجه صفات زائدة على الصفات المتقرّرة، قال ابن عطية: وهذا قول مرغوب عنه، وحكى الزمخشري: أن معنى خلقت بيدي خلقت بغير واسطة أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ دخلت همزة الاستفهام على ألف الوصل فحذفت ألف الوصل، وأم هنا معادلة، والمعنى أستكبرت الآن أم كنت قديما ممن يعلو ويستكبر، وهذا على وجه التوبيخ له رَجِيمٌ أي لعين مطرود إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ يعني القيامة، وقد تقدم الكلام

_ (1) . روى مسلم آخر الحديث عن أبي هريرة وأوله: ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات قالوا بلى يا رسول الله قال: إسباغ الوضوء على المكاره وكثرة الخطا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة فذلكم الرباط فذلكم الرباط. وانظر رياض الصالحين. [.....]

[سورة ص (38) : الآيات 82 إلى 88]

على ذلك في الحجر قالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ الباء للقسم، أقسم إبليس بعزة الله أن يغوي بني آدم قالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ الضمير في قال هنا: لله تعالى، والحق الأوّل مقسم به وهو منصوب بفعل مضمر كقولك: الله لأفعلن، وجوابه: لأملأن جهنم «1» ، بالرفع وهو مبتدأ، أو خبر مبتدأ مضمر تقديره: الحق يميني، وأما الحق الثاني فهو مفعول بأقول، وقوله: والحق أقول جملة اعتراض بين القسم وجوابه على وجه التأكيد للقسم وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ أي الذين يتصنعون ويتحيلون بما ليسوا من أهله وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ هذا وعيد أي لتعلمن صدق خبره بعد حين، والحين يوم القيامة أو موتهم أو ظهور الإسلام يوم بدر وغيره.

_ (1) . وقرأ عاصم قال فالحق بالرفع والحق أقول بالنصب وقرأ الباقون بنصب الحق فيهما.

سورة الزمر

سورة الزمر مكية إلا الآيات 52 و 53 و 54 فمدنية وآياتها 75 نزلت بعد سبإ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (سورة الزمر) تَنْزِيلُ الْكِتابِ تنزيل مبتدأ وخبره: من الله أو خبره ابتداء مضمر تقديره: هذا تنزيل، ومن الله على هذا الوجه يتعلق بتنزيل، أو يكون خبرا بعد خبر أو خبر مبتدأ آخر محذوف، والكتاب هنا القرآن أو السورة واختار ابن عطية أن يراد به جنس الكتب المنزلة وأما الكتاب الثاني فهو القرآن باتفاق بِالْحَقِّ يحتمل معنيين أحدهما أن يكون معناه متضمنا الحق، والثاني أن يكون معناه بالاستحقاق والوجوب مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ أي لا يكون فيه شرك أكبر ولا أصغر وهو الرياء أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ قيل: معناه من حقه ومن واجبه أن يكون له الدين الخالص، ويحتمل أن يكون معناه: إن الدين الخالص هو دين الله وهو الإسلام، الذي شرعه لعباده ولا يقبل غيره، ومعنى الخالص: الصافي من شوائب الشرك، وقال قتادة: الدين الخالص شهادة أن لا إله إلا الله، وقال الحسن: هو الإسلام وهذا أرجح لعمومه. وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ يريد بالأولياء الشركاء المعبودين، ويحتمل أن يريد بالذين اتخذوا الكفار العابدين لهم، أو الشركاء المعبودين، والأول أظهر لأنه يحتاج على الثاني إلى حذف الضمير العائد على الذين تقديره: الذين اتخذوهم، ويكون ضمير الفاعل في اتخذوا عائدا على غير مذكور، وارتفاع الذين على الوجهين بالابتداء وخبره إما قوله: إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ أو المحذوف المقدر قبل قوله ما نعبدهم لأن تقديره: يقولون ما نعبدهم. والأول أرجح لأن المعنى به أكمل ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى هذه الجملة في موضع معمول قول محذوف، والقول في موضع الحال أو في موضع بدل من صلة الذين، وقرأ ابن مسعود: قالوا ما نعبدهم بإظهار القول أي يقول الكفار: ما نعبد هؤلاء الآلهة إلا ليقربونا إلى الله ويشفعوا لنا عنده، ويعني بذلك الكفار الذين عبدوا الملائكة، أو الذين عبدوا الأصنام، أو الذين عبدوا عيسى أو عزير، فإن جميعهم قالوا هذه المقالة. ومعنى زلفى:

[سورة الزمر (39) : الآيات 6 إلى 7]

قربى فهو مصدر من يقربونا إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفَّارٌ إشارة إلى كذبهم في قولهم: ليقربونا إلى الله وقوله: لا يَهْدِي في تأويله وجهان: أحدهما لا يهديه في حال كفره والثاني أن ذلك مختصّ بمن قضي عليه بالموت على الكفر، أعاذنا الله من ذلك. وهذا تأويل: لا يهدي القوم الظالمين والكافرين حيثما وقع لَوْ أَرادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لَاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ الولد يكون على وجهين: أحدهما بالولادة الحقيقية وهذا محال على الله تعالى لا يجوز في العقل والثاني التبني بمعنى الإختصاص والتقريب، كما يتخذ الإنسان ولد غيره ولدا لإفراط محبته له، وذلك ممتنع على الله بإخبار الشرع فإن قوله: وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً يعم نفي الوجهين، فمعنى الآية على ما أشار إليه ابن عطية: لو أراد الله أن يتخذ ولدا على وجه التبني لاصطفى لذلك مما يخلق من موجوداته ومخلوقاته، ولكنه لم يرد ذلك ولا فعله، وقال الزمخشري: معناه لو أراد الله اتخاذ الولد لامتنع ذلك، ولكنه يصطفي من عباده من يشاء على وجه الإختصاص والتقريب، لا على وجه اتخاذه ولدا، فاصطفى الملائكة وشرفهم بالتقريب، فحسب الكفار أنهم أولاده، ثم زادوا على ذلك أن جعلوهم إناثا، فأفرطوا في الكفر والكذب على الله وملائكته. سُبْحانَهُ هُوَ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ نزه تعالى نفسه من اتخاذ الولد، ثم وصف نفسه بالواحد لأن الوحدانية تنافي اتخاذ الولد لأنه لو كان له ولد لكان من جنسه، ولا جنس له لأنه واحد، ووصف نفسه بالقهار ليدل على نفي الشركاء والأنداد، لأن كل شيء مقهور تحت قهره تعالى، فكيف يكون شريكا له؟ ثم أتبع ذلك بما ذكره من خلقة السموات والأرض وما بينهما، ليدل على وحدانيته وقدرته وعظمته يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ التكوير اللف والليّ، ومنه: كوّر العمامة التي يلتوي بعضها على بعض وهو هنا استعارة، ومعناه على ما قال ابن عطية: يعيد من هذا على هذا، فكأن الذي يطيل من النهار أو الليل يصير منه على الآخر جزءا فيستره، وكأن الذي ينقص يدخل في الذي يطول فيستتر فيه. ويحتمل أن يكون المعنى أن كل واحد منهما يغلب الآخر إذا طرأ عليه، فشبه في ستره له بثوب يلف على الآخر لِأَجَلٍ مُسَمًّى يعني يوم القيامة خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ يعني آدم عليه السلام ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها يعني حواء خلقها من ضلع آدم، فإن قيل: كيف عطف قوله: ثم جعل على خلقكم بثم التي تقتضي الترتيب والمهلة، ولا شك أن خلقة حواء كانت قبل خلقة بني آدم؟ فالجواب من ثلاثة أوجه: الأول وهو المختار أن العطف إنما هو على معنى قوله: واحدة لا على خلقكم كأنه قال: خلقكم من نفس كانت واحدة ثم خلق

[سورة الزمر (39) : الآيات 8 إلى 15]

منها زوجها بعد وحدتها الثاني: أن ثم لترتيب الأخبار لا لترتيب الوجود. الثالث: أنه يعني بقوله: خلقكم إخراج بني آدم من صلب أبيهم كالذر وذلك كان قبل خلقه حواء. وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ يعني المذكورة في الأنعام من الضأن اثنين ومن المعز اثنين ومن البقر اثنين وسماها أزواجا لأن الذكر زوج الأنثى والأنثى زوج الذكر. وأما أنزل ففيه ثلاثة أوجه: الأول أن الله خلق أول هذه الأزواج في السماء ثم أنزلها. الثاني أن معنى أنزل قضى وقسم، فالإنزال عبارة عن نزول أمره وقضائه. الثالث أنه أنزل المطر الذي ينبت به النبات الذي تعيش منه هذه الأنعام فعبّر بإنزالها عن إنزال أرزاقها وهذا بعيد خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ يعني أن الإنسان يكون نطفة ثم علقة ثم مضغة إلى أن يتم خلقه، ثم ينفخ فيه الروح فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ هي البطن والرحم والمشيمة، وقيل: صلب الأب والرحم والمشيمة، والأول أرجح لقوله: بطون أمهاتكم ولم يذكر الصلب إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ أي لا يضره كفركم. وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ تأول الأشعرية هذه الآية على وجهين: أحدها أن الرضا بمعنى الإرادة، ويعني بعباده من قضى الله له بالإيمان والوفاة عليه. فهو كقوله: إن عبادي ليس لك عليهم سلطان، والآخر أن الرضا غير الإرادة، والعباد على هذا العموم أي لا يرضى الكفر لأحد من البشر، وإن كان قد أراد أن يقع من بعضهم فهو لم يرضه دينا ولا شرعا. وأراده وقوعا ووجودا أما المعتزلة فإن الرضا عندهم بمعنى الإرادة والعباد على هذا على العموم جريا على قاعدتهم في القدر وأفعال العباد وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ هذا عموم، والشكر الحقيقي يتضمن الإيمان «1» وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ ذكر في الإسراء وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ الآية: يراد بالإنسان هنا الكافر بدليل قوله: وجعل له أندادا، والقصد بهذه الآية عتاب وإقامة حجة، فالعتاب على الكفر وترك دعاء الله، وإقامة الحجة على الإنسان بدعائه إلى الله، في الشدائد، فإن قيل: لم قال هنا وإذا مسّ بالواو وقال بعدها فإذا مس بالفاء؟ فالجواب: أن الذي بالفاء مسبب عن قوله: اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة فجاء بفاء السببية قاله الزمخشري وهو بعيد ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ خوله أعطاه والنعمة هنا يحتمل أن يريد بها كشف الضر المذكور، أو أي نعمة كانت نَسِيَ ما كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ يحتمل أن تكون ما مصدرية

_ (1) . قرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي: يرضهو لكم. وقرأ الباقون يرضه.

[سورة الزمر (39) : الآيات 16 إلى 22]

أي نسي دعاءه، أو تكون بمعنى الذي والمراد بها الله تعالى. أمن هو قانت «1» بتخفيف الميم على إدخال همزة الاستفهام على من وقيل: هي همزة النداء والأول أظهر، وقرئ بتشديدها على إدخال أم على من ومن مبتدأ وخبره محذوف وهو المعادل وتقديره أم من هو قانت كغيره، وإنما حذف لدلالة الكلام عليه وهو ما ذكر قبله وما ذكر بعده، وهو قوله هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ والقنوت هنا بمعنى الطاعة والصلاة بالليل، وآناء الليل ساعاته قُلْ يا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا الآية نزلت في جعفر بن أبي طالب وأصحابه حين عزموا على الهجرة إلى أرض الحبشة، ومعناها التأنيس لهم والتنشيط على الهجرة لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ يحتمل أن يتعلق في هذه الدنيا بأحسنوا، والمعنى الذين أحسنوا في الدنيا لهم الآخرة، أو يتعلق بحسنة، والحسنة على هذا حسن الحال والعافية في الدنيا والأول أرجح وَأَرْضُ اللَّهِ واسِعَةٌ يراد البلاد المجاورة للأرض التي هاجروا منها، والمقصود من ذلك الحض على الهجرة. إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ هذا يحتمل وجهين أحدهما أن الصابر يوفى أجره ولا يحاسب على أعماله، فهو من الذين يدخلون الجنة بغير حساب الثاني أن أجر الصابرين بغير حصر بل أكثر من أن يحصر بعدد أو وزن وهذا قول الجمهور وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ اللام هنا يجوز أن تكون زائدة أو للتعليل ويكون المفعول على هذا محذوف، فإن قيل: كيف عطف أمرت على أمرت والمعنى واحد؟ فالجواب أن الأول أمر بالعبادة والإخلاص والثاني أمر بالسبق إلى الإسلام فهما معنيان اثنيان وكذلك قوله: قل الله أعبد ليس تكرارا لقوله أمرت أن أعبد الله، لأن الأول إخبار بأنه مأمور بالعبادة الثاني إخبار بأنه يفعل العبادة. وقدم اسم الله تعالى للحصر واختصاص العبادة به وحده فَاعْبُدُوا ما شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ هذا تهديد ومبالغة في الخذلان والتخلية لهم على ما هم عليه ظُلَلٌ جمع ظلة بالضم، وهو ما غشي من فوق كالسقف، فقوله من فوقهم بيّن وأما من تحتهم فسماه ظلة لأنه سقف لمن تحتهم فإن جهنم طبقات وقيل: سماه ظلة لأنه يلتهب ويصعد من أسفلهم إلى فوقهم.

_ (1) . قرأ نافع وابن كثير وحمزة: أمن بالتخفيف وقرأ الباقون: بالتشديد: أمّن.

وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوها قيل: إنها نزلت في عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف وسعد وسعيد وطلحة والزبير، إذ دعاهم أبو بكر الصديق إلى الإيمان فآمنوا، وقيل: نزلت في أبي ذر وسلمان، وهذا ضعيف، لأن سلمان إنما أسلم بالمدينة والآية مكية والأظهر أنها عامة، والطاغوت كل ما عبد من دون الله، وقيل: الشياطين الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ قيل: يستمعون القول على العموم فيتبعون القرآن، لأنه أحسن الكلام وقيل: يستمعون القرآن فيتبعون بأعمالهم أحسنه من العفو الذي هو أحسن من الإنتصار، وشبه ذلك وقيل: هو الذي يستمع حديثا فيه حسن وقبيح فيتحدّث بالحسن ويكف عما سواه، وهذا قول ابن عباس، وهو الأظهر وقال ابن عطية: هو علم في جميع الأقوال والقصد الثناء على هؤلاء ببصائر ونظر سديد يفرقون به بين الحق والباطل وبين الصواب والخطأ، فيتبعون الأحسن من ذلك، وقال الزمخشري مثل هذا المعنى أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ فيها وجهان: أحدهما أن يكون الكلام جملة واحدة تقديره: أفمن حق عليه كلمة العذاب أأنت تنقذه، فموضع من في النار موضع المضمر، والهمزة في قوله أفأنت هي الهمزة التي في قوله أفمن. وهي همزة الإنكار كرّرت للتأكد، والثاني أن يكون التقدير أفمن حق عليه العذاب تتأسف عليه، فحذف الخبر ثم استأنف قوله أفأنت تنقذ من في النار؟ وعلى هذا يوقف على العذاب، والأول أرجح لعدم الإضمار فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ معنى سلكه أدخله وأجراه، والينابيع: جمع ينبوع وهو العين، وفي هذا دليل على أن ماء العيون من المطر مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ أي أصنافه كالقمح والأرز والفول وغير ذلك، وقيل: ألوانه الخضرة والحمرة وشبه ذلك، وفي الوجهين دليل على الفاعل المختار ورد على أهل الطبائع [الملحدين] . أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ تقديره: أفمن شرح الله صدره كالقاسي قلبه، وروي أن الذي شرح الله صدره للإسلام عليّ بن أبي طالب وحمزة، والمراد بالقاسية قلوبهم أبو لهب وأولاده، واللفظ أعم من ذلك مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ قال الزمخشري: من هنا سببية أي قلوبهم قاسية من أجل ذكر الله، وهذا المعنى بعيد، ويحتمل عندي أن يكون قاسية تضمن معنى خالية، فلذلك تعدى بمن، والمعنى: أن قلوبهم خالية من ذكر الله.

[سورة الزمر (39) : الآيات 23 إلى 28]

اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ يعني القرآن كِتاباً بدل من أحسن أو حال منه مُتَشابِهاً معناه هنا أنه يشبه بعضه بعضا في الفصاحة والنطق بالحق وأنه ليس فيه تناقض ولا اختلاف مَثانِيَ جمع مثان أي تثنى فيه القصص وتكرر، ويحتمل أن يكون مشتقا من الثناء، لأنه يثنى فيه على الله، فإن قيل: مثاني جمع فكيف وصف به المفرد؟ فالجواب: أن القرآن ينقسم فيه إلى سور وآيات كثيرة فهو جمع بهذا الإعتبار، ويجوز أن يكون كقولهم: برمة أعشار، وثوب أخلاق، أو يكون تمييزا من متشابها كقولك: حسن شمائل ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ إن قيل: كيف تعدّي تلين بإلى؟ فالجواب أنه تضمن معنى فعل تعدى بإلى كأنه قال تميل أو تسكن أو تطمئن قلوبهم إلى ذكر الله. فإن قيل: لم ذكرت الجلود أولا وحدها ثم ذكرت القلوب بعد ذلك معها؟ فالجواب: أنه لما قال أولا تقشعر ذكر الجلود وحدها، لأن القشعريرة من وصف الجلود لا من وصف غيرها، ولما قال ثانيا تلين ذكر الجلود والقلوب، لأن اللين توصف به الجلود والقلوب: أما لين القلوب فهو ضدّ قسوتها، وأما لين الجلود فهو ضد قشعريرتها فاقشعرت أولا من الخوف، ثم لانت بالرجاء ذلِكَ هُدَى اللَّهِ يحتمل أن تكون الإشارة إلى القرآن أو إلى الخشية واقشعرار الجلود أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ الخبر محذوف كما تقدم في نظائره تقديره: أفمن يتقي بوجهه سوء العذاب كمن هو آمن من العذاب ومعنى يتقي يلقى النار بوجهه ليكفها عن نفسه، وذلك أن الإنسان إذا لقي شيئا من المخاوف استقبله بيديه، وأيدي هؤلاء مغلولة، فاتقوا النار بوجوههم ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ أي ذوقوا جزاء ما كنتم تكسبون من الكفر والعصيان. قُرْآناً عَرَبِيًّا نصب على الحال أو بفعل مضمر على المدح غَيْرَ ذِي عِوَجٍ أي ليس فيه تضادّ ولا اختلاف، ولا عيب من العيوب التي في كلام البشر، وقيل معناه: غير مخلوق وقيل: غير ذي لحن، فإن قيل: لم قال غير ذي عوج ولم يقل غير معوج؟ فالجواب: أن قوله غير ذي عوج أبلغ في نفي العوج عنه كأنه قال: ليس فيه شيء من العوج أصلا رَجُلًا فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ أي متنازعون متظالمون، وقيل: متشاجرون وأصله من قولك: رجل شكس إذا كان ضيق الصدر، والمعنى ضرب هذا المثل لبيان حال من يشرك بالله ومن يوحده، فشبه المشرك بمملوك بين جماعة من الشركاء يتنازعون فيه،

[سورة الزمر (39) : الآيات 38 إلى 45]

والمملوك بينهم في أسوإ حال، وشبه من يوحد الله بمملوك لرجل واحد، فمعنى قوله سالما لرجل «1» أي خالصا له وقرئ سلما بغير ألف والمعنى واحد. إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ في هذا وعد للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، ووعيد للكفار، فإنهم إذا ماتوا جميعا وصاروا إلى الله فاز من كان على الحق وهلك من كان على الباطل، وفيه أيضا إخبار بأنه صلى الله عليه وسلم سيموت، لئلا يختلف الناس في موته كما اختلفت الأمم في غيره. وقد جاء أنه لما مات صلى الله عليه وسلم أنكر عمر بن الخطاب رضي الله عنه موته حتى احتج عليه أبو بكر الصديق بهذه الآية فرجع إليها تَخْتَصِمُونَ قيل: يعني الاختصام في الدماء، وقيل: في الحقوق والأظهر أنه اختصام النبي صلى الله عليه وسلم مع الكفار في تكذيبهم له، فيكون من تمام ما قبله. ويحتمل أن يكون على العموم في اختصام الخلائق فيما بينهم من المظالم وغيرها فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ المعنى لا أحد أظلم ممن كذب على الله ويريد بالكذب على الله هنا ما نسبوا إليه من الشركاء والأولاد وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ أي كذب بالإسلام والشريعة. وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ قيل: الذي جاء بالصدق النبي صلى الله عليه وسلم، والذي صدّق به أبو بكر. وقيل: الذي جاء بالصدق جبريل، والذي صدق به محمد صلى الله عليه وسلم وقيل: الذي جاء بالصدق الأنبياء والذي صدق به المؤمنون، واختار ابن عطية أن يكون على العموم، وجعل الذي للجنس كأنه قال: الفريق الذي لأنه في مقابلة من كذب على الله وكذب بالصدق والمراد به العموم أَلَيْسَ اللَّهُ بِكافٍ عَبْدَهُ «2» تقوية لقلب محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وإزالة للخوف الذي كان الكفار يخوفونه وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ الآية احتجاج على التوحيد وردّ على المشركين هَلْ هُنَّ كاشِفاتُ ضُرِّهِ الآية «3» رد على المشركين وبرهان على الوحدانية، روي أن سببها أن المشركين خوّفوا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم من آلهتهم، فنزلت الآية

_ (1) . قرأ ابن كثير وأبو عمرو: سالما. وقرأ الباقون: سلما. (2) . قرأ حمزة والكسائي: بكاف عباده وقرأ الباقون: عبده. (3) . قرأ أبو عمرو وحده: كاشفات ضرّه وممسكات رحمته بالتنوين وقرأ الباقون بالإضافة.

مبينة أنهم لا يقدرون على شيء، فإن قيل كاشفات وممسكات بالتأنيث؟ فالجواب أنها لا تعقل فعاملها معاملة المؤنثة، وأيضا ففي تأنيثها تحقير لها وتهكم بمن عبدها اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ تهديد ومسالمة منسوخة بالسيف بِالْحَقِّ ذكر في أول السورة «1» . اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها هذه الآية اعتبار، ومعناها أن الله يتوفى النفوس على وجهين: أحدهما: وفاة كاملة حقيقية وهي الموت، والآخر: وفاة النوم، لأن النائم كالميت في كونه لا يبصر ولا يسمع ومنه قوله وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ [الإنعام: 60] وتقديرها ويتوفى الأنفس التي لم تمت في منامها فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ أي يمسك الأنفس التي قضى عليها بالموت الحقيقي، ومعنى إمساكها أنه لا يردها إلى الدنيا وَيُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى أي يرسل الأنفس النائمة، وإرسالها هو ردّها إلى الدنيا، والأجل المسمى هو أجل الموت الحقيقي، وقد تكلم الناس في النفس والروح وأكثروا القول في ذلك بالظن دون تحقيق، والصحيح أن هذا مما استأثر بعلمه الله لقوله قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي [الإسراء: 85] أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعاءَ أم هنا بمعنى بل وهمزة الإنكار والشفعاء هم الأصنام وغيرها، لقولهم: هؤلاء شفعاؤنا عند الله [يونس: 18] قُلْ أَوَلَوْ كانُوا دخلت همزة الاستفهام على واو الحال تقديره: يشفعون وهم لا يملكون شيئا ولا يعقلون قُلْ لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً أي هو مالكها، فلا يشفع أحد إليه إلا بإذنه، وفي هذا ردّ على الكفار في قولهم: إن الأصنام تشفع لهم وَإِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ الآية: معناها أن الكفار يكرهون توحيد الله ويحبون الإشراك به، ومعنى إشمأزت انقبضت من شدة الكراهية، وروي أن هذه الآية نزلت حين قرأ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سورة النجم، فألقى الشيطان في أمنيته حسبما ذكرنا في الحج، فاستبشر الكفار بما ألقى الشيطان من تعظيم اللات والعزى، فلما أذهب الله ما ألقى الشيطان استكبروا واشمأزوا.

_ (1) . قرأ حمزة والكسائي: قضي عليها الموت. وقرأ الباقون: قضى عليها الموت.

[سورة الزمر (39) : الآيات 46 إلى 53]

وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ أي ظهر لهم يوم القيامة خلاف ما كانوا يظنون لأنهم كانوا يظنون ظنونا كاذبة. قال الزمخشري: المراد بذلك تعظيم العذاب الذي يصيبهم، أي ظهر لهم من عذاب الله ما لم يكن في حسابهم فهو كقوله في الوعد فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ [السجدة: 17] وقيل: معناها عملوا أعمالا حسبوها حسنات، فإذا هي سيئات وقال الحسن: ويل لأهل الربا من هذه الآية وهذا على أنها في المسلمين والظاهر أنها في الكفار وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ معنى حاق حل ونزل وقال ابن عطية وغيره: إن هذا على حذف مضاف تقديره: حاق بهم جزاء ما كانوا به يستهزئون، ويحتمل أن يكون الكلام دون حذف وهو أحسن، ومعناه حاق بهم العذاب الذي كانوا به يستهزئون لأنهم كانوا في الدنيا يستهزئون، إذا خوفوا بعذاب الله، ويقولون متى هذا الوعد قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ يحتمل وجهين أحدهما وهو الأظهر: أن يريد على علم مني بالمكاسب والمنافع، والآخر: على علم الله باستحقاقي لذلك، وإنما هنا تحتمل وجهين: أحدهما وهو الأظهر: أن تكون ما كافة وعلى علم في موضع الحال، والآخر أن تكون ما اسم إن وعلى علم خبرها وإنما قال: أوتيته بالضمير المذكر وهو عائد على النعمة للحمل على المعنى بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ ردّ على الذي قال إنما أوتيته على علم قَدْ قالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ يعني قارون وغيره. قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ قال علي بن أبي طالب وابن مسعود: هذه أرجى آية في القرآن، وروي أن رسول الله صلى الله عليه آله وسلم قال: ما أحب أن لي الدنيا وما فيها بهذه الآية، واختلف في سببها فقيل: في وحشي قاتل حمزة، لما أراد أن يسلم وخاف أن لا يغفر له ما وقع فيه من قتل حمزة، وقيل: نزلت في قوم آمنوا ولم يهاجروا، ففتنوا فافتتنوا ثم ندموا وظنوا أنهم لا توبة لهم، وهذا قول عمر بن الخطاب: وقد كتب بها إلى هشام بن العاصي، لما جرى له ذلك وقيل: نزلت في قوم من أهل الجاهلية، قالوا: ما ينفعنا الإسلام لأننا قد زنينا، وقتلنا النفوس فنزلت الآية فيهم، ومعناها مع ذلك على العموم في جميع الناس إلى يوم القيامة على تفصيل نذكره،

[سورة الزمر (39) : الآيات 54 إلى 62]

وذلك أن الذين أسرفوا على أنفسهم، إن أراد بهم الكفار فقد اجتمعت الأمة على أنهم إذا أسلموا غفر لهم كفرهم وجميع ذنوبهم لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: الإسلام يجبّ ما قبله «1» ، وأنهم إن ماتوا على الكفر فإن الله لا يغفر لهم، بل يخلدهم في النار، وإن أراد به العصاة من المسلمين فإن العاصي إذا تاب غفر له ذنوبه، وإن لم يتب فهو في مشيئة الله إن شاء عذبه وإن شاء غفر له، فالمغفرة المذكورة في هذه الآية، يحتمل أن يريد بها المغفرة للكفار إذا أسلموا أو للعصاة إذا تابوا، أو للعصاة وإن لم يتوبوا إذا تفضل الله عليهم بالمغفرة، والظاهر أنها نزلت في الكفار، وأن المغفرة المذكورة هي لهم إذا أسلموا، والدليل على أنها في الكفار ما ذكر بعدها إلى قوله وقد جاءتك آياتي فكذبت بها واستكبرت وكنت من الكافرين وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ يعني اتبعوا القرآن وليس أن بعض القرآن أحسن من بعض، لأنه حسن كله. إنما المعنى أن يتبعوا بأعمالهم ما فيه من الأوامر. ويجتنبوا ما فيه من النواهي، فالتفضيل الذي يقتضيه أحسن إنما هو في الإتباع، قيل: يعني اتبعوا الناسخ دون المنسوخ وهذا بعيد أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ في موضع مفعول من أجله تقديره: كراهية أن تقول نفس وإنما ذكر النفس لأن المراد بها بعض الأنفس وهي نفس الكفار فِي جَنْبِ اللَّهِ أي في حق الله وقيل: في أمر الله وأصله من الجنب بمعنى الجانب ثم استعير لهذا المعنى السَّاخِرِينَ أي المستهزئين بَلى جواب للنفس التي حكى كلامها ولا يجاوب ببلى إلا النفي وهي هنا جواب لقوله: لو أن الله هداني لكنت من المتقين لأنه في معنى النفي، لأن لو حرف امتناع. وتقرير الجواب بل قد جاءك الهدى من الله بإرساله الرسل وإنزاله الكتب. وقال ابن عطية: هي جواب لقوله: لو أن لي كرة فإن معناه يقتضي أن العمر يتسع للنظر فقيل له بلى على وجه الرد عليه، والأول أليق بسياق الكلام لأن قوله: قد جاءتك آياتي تفسير لما تضمنته بلى وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ يحتمل أن يريد سواد اللون حقيقة أو يكون عبارة عن شدة الكرب بِمَفازَتِهِمْ «2» أصله من الفوز والتقدير بسبب فوزهم، وقيل معناه: بفضائلهم وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ أي قائم بتدبير كل شيء.

_ (1) . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك لعمرو بن العاص حينما أراد أن يسلم ويشترط العفو عما سبق منه سيرة ابن هشام ج 2 ص 278. (2) . قرأ حمزة والكسائي وأبو بكر: بمفازاتهم. بالجمع وقرأ الباقون بمفازتهم.

[سورة الزمر (39) : الآيات 63 إلى 67]

مَقالِيدُ مفاتيح وقيل خزائن واحدها إقليد، وقيل لا واحد لها من لفظها وأصلها كلمة فارسية، وقال عثمان بن عفان: سألت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن مقاليد السموات والأرض فقال: هي لا إله إلا الله والله أكبر وسبحان الله والحمد الله ولا حول ولا قوة إلا بالله وأستغفر الله هو الأول والآخر والظاهر والباطن بيده الخير يحي ويميت وهو على كل شيء قدير فإن صح هذا الحديث فمعناه أن من قال هذه الكلمات صادقا مخلصا نال الخيرات والبركات من السموات والأرض لأن هذه الكلمات توصل إلى ذلك فكأنها مفاتيح له وَالَّذِينَ كَفَرُوا الآية قال الزمخشري إنها متصلة بقوله وينجي الله الذين اتقوا بمفازتهم وما بينهما من الكلام اعتراض أَفَغَيْرَ اللَّهِ منصوب بأعبد تَأْمُرُونِّي حذفت إحدى النونين تخفيفا «1» وقرئ بإدغام إحدى النونين في الأخرى لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ دليل على إحباط عمل المرتد مطلقا خلافا للشافعي في قوله: لا يحبط عمله إلا إذا مات على الكفر، فإن قيل: الموحى إليهم جماعة والخطاب بقوله: لئن أشركت لواحد: فالجواب أنه أوحى إلى كل واحد منهم على حدته، فإن قيل: كيف خوطب الأنبياء بذلك وهم معصومون من الشرك، فالجواب أن ذلك على وجه الفرض والتقدير: أي لو وقع منهم شرك لحبطت أعمالهم، لكنهم لم يقع منهم شرك بسبب العصمة، ويحتمل أن يكون الخطاب لغيرهم وخوطبوا هم ليدل المعنى على غيرهم بالطريق الأولى وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ أي ما عظموه حق تعظيمه ولا وصفوه بما يجب له ولا نزهوه عما لا يليق به، والضمير في قدروا لقريش وقيل: اليهود وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ المقصود بهذا تعظيم جلال الله والردّ على الكفار الذين ما قدروا الله حق قدره، ثم اختلف الناس فيها كاختلافهم في غيرها من المشكلات، فقالت المتأولة: إن القبضة واليمين عبارة عن القدرة وقال ابن الطيب إنها صفة زائدة على صفات الذات، وأما السلف الصالح فسلموا علم ذلك إلى الله، ورأوا أن هذا من المتشابه الذي لا يعلم علم حقيقته إلا الله، وقد قال ابن عباس ما معناه: إن الأرض في قبضته والسموات مطويات كل ذلك بيمينه، وقال ابن عمر ما معناه: أن الأرض في قبضة اليد الواحدة، والسموات مطويات باليمين الأخرى لأن كلتا يديه يمين وَنُفِخَ فِي الصُّورِ هو القرن الذي ينفخ فيه إسرافيل، وهذه النفخة نفخة الصعق وهو الموت، وقد قيل: إن قبلها نفخة الفزع ولم تذكر في هذه الآية إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ قيل: يعني جبريل وإسرافيل وميكائيل وملك الموت، ثم

_ (1) . قرأ نافع بالتخفيف: تأمروني. وقرأ ابن عامر: تأمرونني وقرأ الباقون: تأمرونّي بتشديد النون.

يميتهم الله بعد ذلك وقيل: استثناء الأنبياء وقيل الشهداء ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى هي نفخة القيام قِيامٌ يَنْظُرُونَ إنه من النظر، وقيل: من الانتظار أي ينتظرون ما يفعل بهم وَوُضِعَ الْكِتابُ يعني صحائف الأعمال وإنما وحّدها لأنه أراد الجنس وقيل: هو اللوح المحفوظ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ ليشهدوا على قومهم وَالشُّهَداءِ يحتمل أن يكون جمع شاهد أو جمع شهيد في سبيل الله، والأول أرجح لأن فيه معنى الوعيد، ولأنه أليق بذكر الأنبياء الشاهدين، والمراد على هذا أمة محمد صلى الله عليه وسلم، لأنهم يشهدون على الناس وقيل: يعني الملائكة الحفظة وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ الضمير لجميع الخلق زُمَراً في الموضعين جمع زمرة وهي الجماعة من الناس وقال صلى الله عليه وآله وسلم: أول زمرة يدخلون الجنة وجوههم على مثل القمر ليلة البدر، والزمرة الثانية على مثل أشد نجم في السماء إضاءة ثم هم بعد ذلك منازل «1» خَزَنَتُها جمع خازن حيث وقع كَلِمَةُ الْعَذابِ يعني القضاء السابق بعذابهم وَفُتِحَتْ أَبْوابُها «2» إنما قال في الجنة وفتحت أبوابها بالواو وقال في النار فتحت بغير واو لأن أبواب الجنة كانت مفتحة قبل مجيء أهلها، والمعنى حتى إذا جاؤها وأبوابها مفتحة، فالواو واو الحال وجواب إذا على هذا محذوف، وأما أبواب النار فإنها فتحت حين جاءوها، فوقع قوله: فتحت جواب الشرط فكأنه بغير واو وقال الكوفيون: الواو في أبواب الجنة واو الثمانية، لأن أبواب الجنة ثمانية وقيل: الواو زائدة وفتحت هو الجواب وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ يعني أرض الجنة والوراثة هنا استعارة كأنهم ورثوا موضع من لم يدخل الجنة نَتَبَوَّأُ أي ننزل من الجنة حيث نشاء ونتخذه مسكنا حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ أي محدقين به دائرين حوله وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ الضمير لجميع الخلق كالموضع الأول، ويحتمل هنا أن يكون للملائكة والقضاء بينهم توفية أجورهم على حسب منازلهم وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ يحتمل أن يكون القائل لذلك الملائكة أو جميع الخلق أو أهل الجنة: لقوله وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ.

_ (1) . الحديث رواه أحمد عن أبي هريرة ج 2 ص 253. (2) . قرأ عاصم وحمزة والكسائي: فتحت وفتحت بالتخفيف وقرأ الباقون: فتّحت وفتّحت بالتشديد.

سورة غافر

سورة غافر مكية إلا آيتي 56 و 57 فمدنيتان وآياتها 85 نزلت بعد الزمر بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (سورة غافر (المؤمن)) حم تقدم الكلام على حروف الهجاء، وتختص حم بأن معناها: حمّ الأمر، أي قضي، وقال ابن عباس: «الر» و «حم» و «ن» هي حروف الرحمن تَنْزِيلُ الْكِتابِ ذكر في الزمر ذِي الطَّوْلِ أي ذي الفضل والإنعام، وقيل: الطول: الغنى والسعة فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ جعل لا يغررك بمعنى لا يحزنك ففيه تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم، ووعيد للكفار وَالْأَحْزابُ يراد بهم عاد وثمود وغيرهم لِيَأْخُذُوهُ أي ليقتلوه لِيُدْحِضُوا أي ليبطلوا به الحق حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ «1» أي وجب قضاؤه وَمَنْ حَوْلَهُ عطف على الذين يحملون وَيُؤْمِنُونَ بِهِ إن قيل: ما فائدة قوله ويؤمنون به، ومعلوم أن حملة العرش ومن حوله يؤمنون بالله؟ فالجواب أن ذلك إظهار لفضيلة الإيمان وشرفه، قال ذلك الزمخشري، وقال: إن فيه فائدة أخرى وهي: أن معرفة حملة العرش بالله تعالى من طريق النظر والاستدلال، كسائر الخلق لا بالرؤية، وهذه نزعته إلى مذهب المعتزلة في استحالة رؤية الله. وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً أصل الكلام وسعت رحمتك وعلمك كل شيء، فالسعة في المعنى مسندة إلى الرحمة والعلم، وإنما أسندتا إلى الله تعالى في اللفظ لقصد

_ (1) . قرأ نافع وابن عامر: حقت كلمات ربك وقرأ الباقون: كلمة.

[سورة غافر (40) : الآيات 9 إلى 12]

المبالغة في وصف الله تعالى بهما كأن ذاته رحمة وعلم واسعان كل شيء وَقِهِمُ السَّيِّئاتِ يحتمل أن يكون المعنى قهم السيئات نفسها، بحيث لا يفعلونها، أو يكون المعنى: قهم جزاء السيئات، فلا تؤاخذهم بها إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ المقت البغض الذي يوجبه ذنب أو عيب، وهذه الحال تكون للكفار عند دخولهم النار فإنهم إذا دخلوها مقتوا أنفسهم، أي مقت بعضهم بعضا، ويحتمل أن يمقت كل واحد منهم نفسه فتناديهم الملائكة وتقول لهم: مقت الله لكم في الدنيا على كفركم أكبر من مقتكم أنفسكم اليوم. فقوله: لمقت الله مصدر مضاف إلى الفاعل، وحذف المفعول لدلالة مفعول مقتكم عليه وقوله: إذ تدعون ظرف العامل فيه مقت الله عاما من طريق المعنى، ويمتنع أن يعمل فيه من طريق قوانين النحو، لأن مقت الله مصدر فلا يجوز أن يفصل بينه وبين بعض صلته، فيحتاج أن يقدر للظرف عامل، وعلى هذا أجاز بعضهم الوقف على قوله أنفسكم، والابتداء بالظرف وهذا ضعيف، لأن المراعى المعنى. وقد جعل الزمخشري مقت الله عاما في الظرف ولم يعتبر الفصل قالُوا رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ هذه الآية كقوله: وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم فالموتة الأولى عبارة عن كونهم عدما، أو كونهم في الأصلاب، أو في الأرحام، والموتة الثانية الموت المعروف، والحياة الأولى حياة الدنيا، والحياة الثانية حياة البعث في القيامة. وقيل: الحياة الأولى حياة الدنيا، والثانية: الحياة في القبر، والموتة الأولى الموت المعروف، والموتة الثانية بعد حياة القبر، وهذا قول فاسد لأنه لا بدّ من الحياة للبعث فتجيء الحياة ثلاث مرات. فإن قيل: كيف اتصال قولهم أمتّنا اثنتين وأحييتنا اثنتين بما قبله؟ فالجواب: أنهم كانوا في الدنيا يكفرون بالبعث، فلما دخلوا النار مقتوا أنفسهم على ذلك، فأقروا به حينئذ ليرضوا الله بإقرارهم، حينئذ فقولهم: أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين إقرار بالبعث على أكمل الوجوه، طمعا منه أن يخرجوا عن المقت الذي مقتهم الله إذ كانوا يدعون إلى الإسلام فيكفرون فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا الفاء هنا رابطة معناها التسبب، فإن قيل: كيف يكون قولهم أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين سببا لاعترافهم بالذنوب؟ فالجواب أنهم كانوا كافرين بالبعث، فلمّا رأوا الإماتة والإحياء قد تكرر عليهم، علموا أن الله قادر على البعث فاعترفوا بذنوبهم، وهي إنكار البعث، وما أوجب لهم إنكاره من المعاصي، فإن من لم يؤمن بالآخرة لا يبالي بالوقوع في المعاصي. ذلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ الباء سببية للتعليل، والإشارة بذلكم يحتمل أن تكون للعذاب الذي هم فيه، أو إلى مقت الله لهم أو مقتهم لأنفسهم،

[سورة غافر (40) : الآيات 13 إلى 18]

والأحسن أن تكون إشارة إلى ما يقتضيه سياق الكلام وذلك أنهم لما قالوا: فهل إلى خروج من سبيل، كأنهم قيل لهم: لا سبيل إلى الخروج، فالإشارة بقوله ذلكم إلى عدم خروجهم من النار يُرِيكُمْ آياتِهِ يعني: العلامات الدالة عليه من مخلوقاته ومعجزات رسله وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ رِزْقاً يعني المطر. رَفِيعُ الدَّرَجاتِ يحتمل أن يكون المعنى مرتفع الدرجات، فيكون بمعنى العالي أو رافع درجات عباده في الجنة وفي الدنيا يُلْقِي الرُّوحَ يعني الوحي مِنْ أَمْرِهِ يحتمل أن يريد الأمر الذي هو واحد الأمور، أو الأمر بالخبر، فعلى الأول تكون من للتبعيض أو لابتداء الغاية، وعلى الثاني تكون لابتداء الغاية أو بمعنى الباء يَوْمَ التَّلاقِ «1» يعني يوم القيامة، وسمي بذلك لأن الخلائق يلتقون فيه، وقيل: لأنه يلتقي فيه أهل السموات والأرض وقيل: لأنه يلتقي الخلق مع ربهم، والفاعل في ينذر ضمير يعود على من يشاء أو على الروح أو على الله لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ هذا من كلام الله تعالى تقريرا للخلق يوم القيامة فيجيبونه ويقولون: لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ وقيل: بل هو الذي يجيب نفسه لأن الخلق يسكتون هيبة له، وقيل: إن القائل لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ملك يَوْمَ الْآزِفَةِ يعني القيامة ومعناه القريبة إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ معناه أن القلوب قد صعدت من الصدور، لشدّة الخوف حتى بلغت الحناجر، فيحتمل أن يكون ذلك حقيقة أو مجاز عبّر به عن شدّة الخوف. والحناجر جمع حنجرة وهي الحلق كاظِمِينَ أي محزونين حزنا شديدا كقوله: فَهُوَ كَظِيمٌ [يوسف: 84] وقيل: معناه يكظمون حزنهم أي يطمعون أن يخفوه، والحال تغلبهم، وانتصابه على الحال من أصحاب القلوب، لأن معناه قلوب الناس، أو من المفعول في أنذرهم أو من القلوب. وجمعها جمع المذكر لمّا وصفها بالكظم الذي هو من أفعال العقلاء ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ أي صديق مشفق وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ يحتمل أن يكون نفى الشفاعة وطاعة الشفيع أو نفى طاعة خاصة. كقولك: ما جاءني رجل صالح فنفيت الصلاح، وإن كان قد جاءك رجل غير صالح، والأول أحسن لأن الكفار ليس لهم من يشفع فيهم يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ أي استراق النظر، والخائنة مصدر بمعنى الخيانة، أو وصف للنظرة وهذا الكلام

_ (1) . قرأ ابن كثير وورش: لينذر يوم التلاقي ويوم التنادي (32) بإثبات الياء في الوصل وأثبتهما ابن كثير في الوقف أيضا. وحذفهما الباقون وصلا ووقفا. [.....]

[سورة غافر (40) : الآيات 28 إلى 34]

متصل بما تقدم من ذكر الله، واعترض في أثناء ذلك بوصف القيامة لما استطرد إليه من قوله لينذر يوم التلاق «1» وَسُلْطانٍ مُبِينٍ حجة ظاهرة وهي المعجزات قالُوا اقْتُلُوا أَبْناءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ هذا القتل غير القتل الذي كانوا يقتلون أولا قبل ميلاد موسى. وَقالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ المعنى: أنه لا يبالى بدعاء موسى لربه، ولا يخاف من ذلك إن قتله، ويظهر من قوله: ذروني أنه كان في الناس من ينازعه في قتل موسى، وذلك يدل على أن فرعون كان قد اضطرب أمره بظهور معجزات موسى أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ يعني فساد أحوالهم في الدنيا، وقرأ [عاصم وحمزة والكسائي] : أو أن يظهر وقرأ [الباقون] بالواو فقط ويظهر بفتح الياء ورفع الفساد على الفاعلية وبضم الياء ونصب الفساد على المفعولية وَقالَ مُوسى إِنِّي عُذْتُ الآية لما سمع موسى ما همّ به فرعون من قتله، استعاذ بالله فعصمه الله منه، وقال: من كل متكبر ليشمل فرعون وغيره، وليكون فيه وصف لغير فرعون بذلك الوصف القبيح. وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ قيل: اسم هذا الرجل حبيب وقيل: حزقيل، وقيل: شمعون بالشين المعجمة، وروي أن هذا الرجل المؤمن كان ابن عم فرعون، فقوله: من آل فرعون صفة للمؤمن، وقيل: كان من بني إسرائيل، فقوله: من آل فرعون على هذا يتعلق بقوله يكتم إيمانه، والأول أرجح لأنه لا يحتاج فيه إلى تقديم وتأخير، ولقوله: «فمن ينصرنا من بأس الله» لأن هذا كلام قريب شفيق، ولأن بني إسرائيل حينئذ كانوا أذلاء، بحيث لا يتكلم أحد منهم بمثل هذا الكلام، وأَنْ يَقُولَ في موضع المفعول من أجله تقديره: أتقتلونه من أجل أن يقول ربي الله وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ أي إن كان

_ (1) . الآية: [20] قوله: والذين يدعون قرأها نافع: تدعون.

[سورة غافر (40) : الآيات 35 إلى 46]

موسى كاذبا في دعوى الرسالة فلا يضركم كذبه، فلأي شيء تقتلونه، فإن قيل: كيف قال: وإن يك كاذبا بعد أن كان قد آمن به؟ فالجواب أنه لم يقل ذلك على وجه التكذيب له، وإنما قاله على وجه الفرض والتقدير، وقصد بذلك المحاجّة لقومه، فقسم أمر موسى إلى قسمين، ليقيم عليهم الحجة في ترك قتله على كل وجه من القسمين وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ قيل: إن بعض هنا بمعنى كل وذلك بعيد، وإنما قال بعض ولم يقل كل مع أن الذي يصيبهم هو كل ما يعدهم ليلاطفهم في الكلام، ويبعد عن التعصب لموسى، ويظهر النصيحة لفرعون وقومه، فيرتجى إجابتهم للحق وَقالَ الَّذِي آمَنَ هو المؤمن المذكور أولا، وقيل: هو موسى عليه السلام وهذا بعيد، وإنما توهموا ذلك لأنه صرح هنا بالإيمان، وكان كلام المؤمن أولا غير صريح بل كان فيه تورية وملاطفة لقومه، إذ كان يكتم إيمانه، والجواب: أنه كتم إيمانه أول الأمر، ثم صرح به بعد ذلك، وجاهرهم مجاهرة ظاهرة، لما وثق بالله حسبما حكى الله من كلامه إلى قوله «فَسَتَذْكُرُونَ ما أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ» يَوْمَ التَّنادِ التنادي يعني: يوم القيامة وسمي بذلك لأن المنادي ينادي الناس، وذلك قوله: يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ وقيل: لأن بعضهم ينادي بعضا، أي ينادي أهل الجنة أَنْ قَدْ وَجَدْنا ما وَعَدَنا رَبُّنا حَقًّا [الأعراف: 44] وينادي أهل النار: أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ [الأعراف: 50] يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ أي منطلقين إلى النار، وقيل: هاربين من النار. وَلَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّناتِ قيل: هو يوسف بن يعقوب، وقيل: هو يوسف بن إبراهيم بن يوسف بن يعقوب، والبينات التي جاء بها يوسف لم تعيّن لنا، واختلف هل أدركه فرعون موسى أو فرعون آخر قبله لأن كل من ملك مصر يقال له فرعون قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا كلامهم هذا لا يدل على أنهم مؤمنون برسالة يوسف، وإنما مرادهم: لم يأت أحد يدّعي الرسالة بعد يوسف، قاله ابن عطية، وقال الزمخشري: إنما هو تكذيب لرسالة من بعده مضموم إلى تكذيب رسالته الَّذِينَ يُجادِلُونَ بدل من مسرف مرتاب وإنما جاز إبدال الجمع من المفرد، لأنه في معنى الجمع، كأنه قال: كل مسرف كَبُرَ مَقْتاً فاعل كبر مصدر يجادلون، وقال الزمخشري: الفاعل ضمير من هو

مسرف الْأَسْبابَ هنا الطرق وقيل: الأبواب، وكررها للتفخيم وللبيان فَأَطَّلِعَ بالرفع «1» عطف على أبلغ وبالنصب بإضمار أن في جواب لعل، لأن الترجّي غير واجب، فهو كالتمني في انتصاب جوابه، ولا نقول: إن لعل أشربت معنى ليت كما قال بعض النحاة (تباب) أي خسران (متاع) أي يتمتع به قليلا، فإن قيل: لم كرر المؤمن نداء قومه مرارا؟ فالجواب: أن ذلك لقصد التنبيه لهم، وإظهار الملاطفة والنصيحة، فإن قيل: لم جاء بالواو في قوله ويا قوم في الثالث دون الثاني؟ فالجواب: أن الثاني بيان للأول وتفسير، فلم يصح عطفه عليه بخلاف الثالث، فإنه كلام آخر فصح عطفه عليه ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ أي ليس لي علم بربوبيته والمراد بنفي العلم نفي المعلوم كأنه قال: وأشرك به ما ليس بإله، وإذا لم يكن إلها لم يصح علم ربوبيته لا جَرَمَ أي لا بد ولا شك لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ قال ابن عطية ليس له قدر ولا حق، يجب أن يدعى إليه كأنه قال: أتدعونني إلى عبادة ما لا خطر له في الدنيا، ولا في الآخرة، ويحتمل اللفظ أن يكون معناه: ليس له دعوة قائمة، أي لا يدعى أحد إلى عبادته فَوَقاهُ اللَّهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا دليل على أن من فوض أمره إلى الله عز وجل كان الله معه النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها النار بدل من سوء العذاب، أو مبتدأ أو خبر مبتدأ مضمر، وعرضهم عليها من حين موتهم إلى يوم القيامة، وذلك مدّة البرزخ بدليل قوله: ويوم القيامة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب، واستدل أهل السنة بذلك على صحة ما ورد من عذاب القبر، وروي أن أرواحهم في أجواف طيور سود تروح بهم وتغدو إلى النار غُدُوًّا وَعَشِيًّا قيل: معناه في كل غدوة وعشية من أيام الدنيا، وقيل: المعنى على تقدير: ما بين

_ (1) . قرأ حفص فأطلع بالنصب والباقون: بالرفع.

[سورة غافر (40) : الآيات 47 إلى 56]

الغدوة والعشية، لأن الآخرة لا غدوة فيها ولا عشية لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ إن قيل: هلا قال الذين في النار لخزنتها فلم صرح باسمها؟ فالجواب أن في ذكر جهنم تهويلا ليس في ذكر الضمير وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ يحتمل أن يكون من كلام خزنة جهنّم فيكون متّصلا بقوله: فَادْعُوا أو يكون من كلام الله تعالى استئنافا. إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا قيل: إن هذا خاص فيمن أظهره الله على الكفار، وليس بعام لأن من الأنبياء من قتله قومه كزكريا ويحي، والصحيح أنه عام، والجواب عما ذكروه أن زكريا ويحيى لم يكونا من الرسل، إنما كانا من الأنبياء الذين ليسوا بمرسلين، وإنما ضمن الله نصر الرسل خاصة، لا نصر الأنبياء كلهم وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ يعني يوم القيامة. والأشهاد جمع شاهد أو شهيد، ويحتمل أن يكون بمعنى الحضور. أو الشهادة على الناس أو الشهادة في سبيل الله، والأظهر أنه بمعنى الشهادة على الناس لقوله: فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ [النساء: 41] يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ يحتمل أنهم لا يعتذرون أو يعتذرون، ولكن لا تنفعهم معذرتهم، والأول أرجح لقوله: وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ [المرسلات: 36] فنفى الاعتذار والانتفاع به إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ يعني وعده لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم بالنصر والظهور على أعدائه الكفار بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ قيل. العشي صلاة العصر والإبكار صلاة الصبح، وقيل: العشي بعد العصر إلى الغروب والإبكار من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ يعني كفار قريش إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ أي تكبر وتعاظم، يمنعهم من أن يتبعوك أن ينقادوا إليك وقيل: كبرهم أنهم أرادوا النبوة لأنفسهم، ورأوا أنهم أحق بها، والأول أظهر لأن إرادتهم النبوة لأنفسهم حسد، والأول هو الكبر ما هُمْ بِبالِغِيهِ أي لا يبلغون ما يقتضيه كبرهم من الظهور عليك، ومن نيل النبوة فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ أي استعذ من شرهم لأنهم أعداء لك، واستعذ من مثل حالهم في الكبر والحسد، واستعذ بالله في جميع أمورك على الإطلاق. لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ الخلق هنا مصدر مضاف إلى

[سورة غافر (40) : الآيات 67 إلى 78]

المفعول، والمراد به الاستدلال على البعث، لأن الإله الذي خلق السموات الأرض على كبرها، قادر على إعادة الأجسام بعد فنائها، وقيل: المراد توبيخ الكفار المتكبرين، كأنه قال: خلق السموات والأرض أكبر من خلق الناس، فما بال هؤلاء يتكبرون على خالقهم، وهم من أصغر مخلوقاته وأحقرهم، والأول أرجح لوروده في مواضع من القرآن لأنه قال بعده: إن الساعة لآتية لا ريب فيها فقدم الدليل، ثم ذكر المدلول. وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ الدعاء هنا هو الطلب والرغبة، وهذا وعد مقيّد بالمشيئة، وهي موافقة القدر لمن أراد أن يستجيب له، وقيل: ادعوني هنا: اعبدوني بدليل قوله بعده: إن الذين يستكبرون عن عبادتي وقوله صلى الله عليه وسلم: الدعاء هو العبادة «1» ثم تلا الآية أَسْتَجِبْ لَكُمْ على هذا القول بمعنى أغفر لكم أو أعطيكم أجوركم. والأول أظهر، ويكون قوله: يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي بمعنى يستكبرون عن الرغبة إليّ كما قال صلى الله عليه وآله وسلم: «من لم يسأل الله يغضب عليه «2» وأما قوله صلى الله عليه وآله وسلم: الدعاء هو العبادة فمعناه أن الدعاء والرغبة إلى الله هي العبادة، لأن الدعاء يظهر فيه افتقار العبد وتضرعه إلى الله داخِرِينَ أي صاغرين لِتَسْكُنُوا فِيهِ ذكر في [يونس: 67] وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ يعني المستلذات، لأنه إذا جاء ذكر الطيبات في معرض الإنعام فيراد به المستلذات، وإذا جاء في معرض التحليل والتحريم فيراد به الحلال والحرام الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ هذا متصل بما قبله، قال ذلك ابن عطية والزمخشري وتقديره: ادعوه مخلصين قائلين الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ ولذلك قال ابن عباس: من قال لا إله إلا الله فليقل الحمد لله رب العالمين، ويحتمل أن يكون الحمد لله استئنافا ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا

_ (1) . حديث رواه أحمد عن النعمان بن بشير ج 4 ص 271. (2) . لم أعثر عليه ومعناه صحيح والله أعلم.

أراد الجنس ولذلك أفرد لفظه مع أن الخطاب لجماعة ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ذكر الأشد في سورة يوسف عليه السلام: [يوسف: 22] واللام تتعلق بفعل محذوف تقديره: ثم يبقيكم لتبلغوا وكذلك ليكونوا أو أما لتبلغوا أجلا مسمى فمتعلق بمحذوف آخر تقديره: فعل ذلك بكم لتبلغوا أجلا مسمى وهو الموت أو يوم القيامة. أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجادِلُونَ يعني كفار قريش، وقيل: هم أهل الأهواء كالقدرية وغيرهم، وهذا مردود بقوله: الذين كذبوا بالكتاب إلا إن جعلته منقطعا مما قبله وذلك بعيد إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ العامل في إذ يعملون وجعل الظرف الماضي من الموضع المستقبل لتحقيق الأمر يُسْحَبُونَ فِي الْحَمِيمِ أي يجرون والحميم الماء الشديد الحرارة ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ هذا من قولك: سجرت التنور إذا ملأته بالنار، فالمعنى أنهم يدخلون فيها كما يدخل الحطب في التنور، ولذلك قال مجاهد في تفسيره: توقد بهم النار (تمرحون) من المرح وهو الأشر والبطر. وقيل: الفخر والخيلاء فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ إن قيل: قياس النظم أن يقول بئس مدخل الكافرين لأنه تقدم قبله ادخلوا. فالجواب أن الدخول المؤقت بالخلود في معنى الثوى فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أصل إما إن نريك ودخلت ما الزائدة بعد إن الشرطية، وجواب الشرط محذوف تقديره: إن أريناك بعض الذي نعدهم من العذاب قرّت عينك بذلك، وإن توفيناك قبل ذلك فإلينا يرجعون، فننتقم منهم أشد الانتقام. مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الله تعالى بعث ثمانية آلاف رسول وفي حديث آخر أربعة آلاف، وفي حديث أبي ذر إن الأنبياء مائة ألف وأربعة وعشرون ألفا منهم الرسل ثلاثمائة وثلاثة عشر «1» فذكر الله بعضهم في القرآن، فهم الذين قص عليه ولم يذكر سائرهم فهم الذين لم يقصص عليه فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ قال الزمخشري:

_ (1) . حديث أبو ذر رواه أحمد بطوله ج 5 ص 265.

[سورة غافر (40) : الآيات 79 إلى 85]

أمر الله: القيامة، وقال ابن عطية: المعنى إذا أراد الله إرسال رسول قضي ذلك، ويحتمل أن يريد بأمر الله إهلاك المكذبين للرسل لقوله وَخَسِرَ هُنالِكَ الْمُبْطِلُونَ هنالك في الموضعين يراد به الوقت والزمان، وأصله ظرف مكان ثم وضع موضع ظرف الزمان (الأنعام) هي الإبل والبقر والضأن والمعز، فقوله لِتَرْكَبُوا مِنْها يعني الإبل، ومنها تأكلون يعني اللحوم والمنافع منها اللبن والصوف وغير ذلك وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْها حاجَةً يعني قطع المسافة البعيدة، وحمل الأثقال على الإبل، وتحملون يريد الركوب عليها وإنما كرره بعد قوله: لتركبوا منها لأنه أراد الركوب الأول المتعارف في القرى والبلدان وبالحمل عليها، الأسفار البعيدة، قاله ابن عطية يُرِيكُمْ آياتِهِ هذا عموم بعد ما قدم من الآيات المخصوصة ولذلك وبخهم بقوله: أَيَّ آياتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ الضمير يعود على الأمم المكذبين وفي تفسير علمهم وجوه: أحدها أنه ما كانوا يعتقدون من أنهم لا يبعثون ولا يحاسبون، والثاني أنه علمهم بمنافع الدنيا ووجوه كسبها، والثالث أنه علم الفلاسفة الذين يحتقرون علوم الشرائع وقيل: الضمير يعود على الرسل، أي فرحوا بما أعطاهم الله من العلم بالله وشرائعه أو بما عندهم من العلم بأن الله ينصرهم على من يكذبهم، وأما الضمير في: وحاق بهم فيعود على الكفار باتفاق، ولذلك ترجح أن يكون الضمير في فرحوا يعود عليهم ليتسق الكلام (سنة الله) انتصب على المصدرية والله سبحانه أعلم.

سورة فصلت

سورة فصلت مكية وآياتها 54 نزلت بعد غافر بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (سورة حم السجدة) فُصِّلَتْ أي بينت وقيل قطعت إلى سور وآيات قُرْآناً عَرَبِيًّا منصوب بفعل مضمر على التخصيص أو حال أو مصدر لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ معناه يعلمون الأشياء ويعقلون الدلائل إذا نظروا فيها، وذلك هو العلم الذي يوجب التكليف وقيل: معناه يعلمون الحق والإيمان فالأول عام وهذا خاص، والأول أولى لقوله: فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ لأن الإعراض ليس من صفة المؤمنين، وقيل: يعلمون لسان العرب فيفهمون القرآن إذ هو بلغتهم، وقوله: لقوم يتعلق بتنزيل أو فصلت والأحسن أن يكون صفة لكتاب فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ أي لا يقبلون ولا يطيعون، وعبّر عن ذلك بعدم السماع على وجه المبالغة فِي أَكِنَّةٍ جمع كنان وهو الغطاء، وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ عبارة عن بعدهم عن الإسلام فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ قيل: معناه اعمل على دينك، وإننا عاملون على ديننا فهي متاركة، وقيل: اعمل في إبطال أمرنا إننا عاملون في إبطال أمرك، فهو تهديد الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ هي زكاة المال، وإنما خصها بالذكر لصعوبتها على الناس، ولأنها من أركان الإسلام، وقيل: يعني بالزكاة التوحيد، وهذا بعيد. وإنما حمله على ذلك لأن الآيات مكية. لم تفرض الزكاة إلا بالمدينة، والجواب أن المراد النفقة في طاعة الله مطلقا، وقد كانت مأمورا بها بمكة أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ أي غير مقطوع من قولك، مننت الحبل إذا قطعته وقيل: غير منقوص وقيل: غير محصور، وقيل: لا يمن عليهم به لأن المن يكدر الإحسان أَنْداداً أي أمثالا وأشباها من الأصنام وغيرها رَواسِيَ يعني الجبال وَبارَكَ فِيها أكثر خيرها وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها

[سورة فصلت (41) : الآيات 12 إلى 21]

أي أرزاق أهلها ومعاشهم وقيل: يعني أقوات الأرض من المعادن وغيرها من الأشياء التي بها قوام الأرض، والأول أظهر فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ يريد أن الأربعة كملت باليومين الأولين، فخلق الأرض في يومين وجعل فيها ما ذكر في يومين، فتلك أربعة أيام وخلق السموات في يومين فتلك ستة أيام حسبما ذكر في مواضع كثيرة، ولو كانت هذه الأربعة الأيام زيادة على اليومين المذكورين قبلها لكانت الجملة ثمانية أيام، بخلاف ما ذكر في المواضع الكثيرة سَواءً بالنصب مصدر تقديره: استوت استواء قاله الزمخشري، وقال ابن عطية انتصب على الحال للسائلين قيل: معناه لمن سأل عن أمرها، وقيل: معناه للطالبين لها، ويعني بالطلب على هذا حاجة الخلق إليها، وحرف الجر يتعلق بمحذوف على القول الأول تقديره: يبين ذلك لمن سأل عنه ويتعلق بقدّر على القول الثاني. ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ أي قصد إليها، ويقتضي هذا الترتيب: أن الأرض خلقت قبل السماء، فإن قيل: كيف الجمع بين ذلك وبين قوله: وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها [النازعات: 30] فالجواب لأنها خلقت قبل السماء، ثم دحيت بعد ذلك وَهِيَ دُخانٌ روي أنه كان العرش على الماء، فأخرج إليه من الماء دخان فارتفع فوق الماء فأيبس الماء فصار أرضا، ثم خلق السموات من الدخان المرتفع فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً هذه عبارة عن لزوم طاعتها، كما يقول الملك لمن تحت يده: افعل كذا شئت أو أبيت، أي: لا بد لك من فعله، وقيل: تقديره ائتيا طوعا وإلا أتيتما كرها، ومعنى هذا الإتيان تصويرهما على الكيفية التي أرادها الله، وقوله لهما ائتيا مجاز، وهو عبارة عن تكوينه لهما وكذلك قولهما: أتينا طائعين عبارة عن أنهما لم يمتنعا عليه حين أراد تكوينهما، وقيل: بل ذلك حقيقة وأنطق الله الأرض والسماء بقولهما: أتينا طائعين وإنما جمع طائعين جمع العقلاء لوصفهما بأوصاف العقلاء فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ أي صنعهنّ والضمير للسموات السبع، وانتصابها على التمييز تفسيرا للضمير، وأعاد عليها ضمير الجماعة المؤنثة لأنها لا تعقل، فهو كقولك: الجذوع انكسرت، وجمعهما جمع المفكر العاقل في قوله طائعين، لأنه وصفهما بالطوع، وهو فعل العقلاء فعاملهما معاملتهم فهو كقوله في [سورة يوسف: 4] : رأيتهم لي ساجدين وأعاد ضمير التثنية في قوله: قالتا أتينا لأنه جعل الأرض فرقة والسماء أخرى وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها أي أوحى إلى سكانها من الملائكة، وإليها نفسها ما شاء من الأمور، التي بها قوامها وصلاحها، وأضاف الأمر إليها لأنه فيها وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ يعني الشمس والقمر والنجوم، وهي زينة للسماء الدنيا سواء كانت فيها أو فيما فوقها من السموات وَحِفْظاً تقديره: وحفظناها حفظا ويجوز أن يكون مفعولا من أجله، على المعنى كأنه قال: وخلقنا المصابيح زينة وحفظا.

[سورة فصلت (41) : الآيات 22 إلى 29]

فَإِنْ أَعْرَضُوا الضمير لقريش صاعِقَةً يعني واقعة واحدة شديدة، وهي مستعارة من صاعقة النار، وقرئ صعقة بإسكان العين وهي الواقعة من قولك صعق الرجل إِذْ جاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ معنى ما بين الأيدي المتقدم، ومعنى ما خلف المتأخر، فمعنى الآية: أن الرسل جاءوهم في الزمان المتقدم، واتصلت نذارتهم إلى زمان عاد وثمود، حتى قامت عليهم الحجة بذلك من بين أيديهم، ثم جاءتهم رسل آخرون عند اكتمال أعمارهم، فذلك من خلفهم، قاله ابن عطية وقال الزمخشري: معناه أتوهم من كل جانب، فهو عبارة عن اجتهادهم في التبليغ إليهم، وقيل: أخبروهم بما أصاب من قبلهم، فذلك ما بين أيديهم، وأنذروهم ما يجري عليهم في الزمان المستقبل وفي الآخرة فذلك من خلفهم أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ أن حرف عبارة وتفسير أو مصدرية على تقدير بأن لا تعبدوا إلا الله فَإِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ ليس فيه اعتراف الكفار بالرسالة، وإنما معناه بما أرسلتم على قولكم ودعواكم، وفيه تهكم رِيحاً صَرْصَراً قيل: إنه من الصرّ وهو شدة البرد فمعناه باردة وقيل: إنه من قولك: صرصر إذا صوت فمعناه لها صوت هائل في أيام نحسات معناه من النحس وهو ضد السعد وقيل شديدة البرد وقيل: متتابعة والأول أرجح، وروي أنها كانت آخر شوال من الأربعاء إلى الأربعاء وقرئ «1» نحسات بإسكان الحاء وكسرها فأما الكسر فهو جمع نحس وهو صفة وأما الإسكان فتخفيف من الكسر على وزن فعل أو وصف بالمصدر. وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ أي بينا لهم فهو بمعنى البيان، لا بمعنى الإرشاد فَهُمْ يُوزَعُونَ «2» أي يدفعون بعنف وَجُلُودُهُمْ يعني الجلود المعروفة، وقيل: هو كناية عن الفروج والأول أظهر وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ الآيات يحتمل أن تكون من كلام الجلود، أو

_ (1) . قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو: نحسات بسكون الحاء وقرأ الباقون: نحسات بكسرها. (2) . في الآية [19] قرأ نافع: ويوم نحشر أعداء الله وقرأ الباقون: يحشر أعداء.

[سورة فصلت (41) : الآيات 30 إلى 41]

من كلام الله تعالى أو الملائكة، وفي معناه وجهان: أحدهما لم تقدروا أن تستتروا من سمعكم وأبصاركم وجلودكم، لأنها ملازمة لكم، فلم يمكنكم احتراس من ذلك فشهدت عليكم، والآخر لم تتحفظوا من شهادة سمعكم وأبصاركم وجلودكم، لأنكم لم تبالوا بشهادتها، ولم تظنوا أنها تشهد عليكم، وإنما استترتم لأنكم ظننتم أن الله لا يعلم كثيرا مما تعملون، وهذا أرجح لاتّساق ما بعده معه، ولما جاء في الحديث الصحيح عن ابن مسعود: أنه قال اجتمع ثلاثة نفر قرشيان وثقفي، قليل فقه قلوبهم كثير شحم بطونهم، فتحدثوا بحديث فقال أحدهم: أترى الله يسمع ما قلنا: قال الآخر إنه يسمع إذا جهرنا ولا يسمع إذا أخفينا فقال الآخر: إن كان يسمع منا شيئا فإنه يسمعه كله فنزلت الآية أَرْداكُمْ أي أهلككم من الردى بمعنى الهلاك وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ هو من العتب بمعنى الرضا أي: إن طلبوا العتبى ليس فيهم من يعطاها وَقَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ أي يسرنا لهم قرناء سوء من الشياطين وغواة الإنس فَزَيَّنُوا لَهُمْ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ ما بين أيديهم ما تقدم من أعمالهم، وما خلفهم ما هم عازمون عليه، أو ما بين أيديهم من أمر الدنيا وما خلفهم من أمر الآخرة، والتكذيب بها وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ أي سبق عليهم القضاء بعذابهم فِي أُمَمٍ أي في جملة أمم، وقيل: في بمعنى مع. وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ روي أن قائل هذه المقالة أبو جهل بن هشام لعنه الله وَالْغَوْا فِيهِ المعنى لا تسمعوا إليه، وتشاغلوا عند قراءته برفع الأصوات وإنشاد الشعر، وشبه ذلك حتى لا يسمعه أحد، وقيل: معناه قعوا فيه وعيبوه أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانا يقولون هذا إذا دخلوا جهنم، فقولهم مستقبل ذكر بلفظ الماضي، ومعنى اللذين أضلانا: كل من أغوانا من الجن والإنس، وقيل: المراد ولد آدم الذي سن القتل وإبليس الذي أمر بالكفر والعصيان، وهذا باطل لأن ولد آدم مؤمن عاصي، وإنما طلب هؤلاء من أضلهم بالكفر تَحْتَ أَقْدامِنا أي في أسفل طبقة من النار ثُمَّ اسْتَقامُوا قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه، استقاموا على قولهم: ربنا الله، فصح إيمانهم ودام توحيدهم وقال عمر بن الخطاب: المعنى استقاموا على الطاعة وترك المعاصي، وقول عمر أكمل وأحوط،

وقول أبي بكر أرجح لما روى أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية وقال: قد قالها قوم كفروا فمن مات عليها فهو ممن استقام، وقال بعض الصوفية: معنى استقاموا أعرضوا عما سوى الله، وهذه حالة الكمال على أن اللفظ لا يقتضيه تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ يعني عند الموت وَلَكُمْ فِيها الضمير للآخرة ما تَدَّعُونَ أي ما تطلبون وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعا إِلَى اللَّهِ أي: لا أحد أحسن قولا منه، ويدخل في ذلك كل من دعا إلى عبادة الله أو طاعته على العموم، وقيل: المراد سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وقيل المؤذنون وهذا بعيد لأنها مكية، وإنما شرع الأذان بالمدينة ولكن المؤذنين يدخلون في العموم وَما يُلَقَّاها الضمير يعود على الخلق الجميل الذي يتضمنه قوله: ادفع بالتي هي أحسن ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ أي حظ من العقل والفضل وقيل: حظ عظيم في الجنة وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ إن شرطية دخلت عليها ما الزائدة، ونزغ الشيطان: وساوسه وأمره بالسوء الَّذِي خَلَقَهُنَّ الضمير يعود على الليل والنهار والشمس والقمر، لأن جماعة ما لا يعقل كجماعة المؤنث، أو كالواحدة المؤنثة، وقيل إنما يعود على الشمس والقمر، وجمعهما لأن الإثنين جمع وهذا بعيد فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ الملائكة لا يَسْأَمُونَ أي لا يملون الْأَرْضَ خاشِعَةً عبارة عن قلة النبات اهْتَزَّتْ ذكر في [الحج: 5] إِنَّ الَّذِي أَحْياها لَمُحْيِ الْمَوْتى تمثيل واحتجاج على صحة البعث إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا أي يطعنون عليها، وهذا الإلحاد هو بالتكذيب وقيل باللغو فيه حسبما تقدم في السورة أَفَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ الآية: قيل إن المراد بالذي يلقى بالنار أبو جهل، وبالذي يأتي آمنا عثمان بن عفان وقيل: عمار بن ياسر واللفظ أعم من ذلك اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ تهديد لا إباحة إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ الذكر هنا القرآن باتفاق، وخبر إن محذوف تقديره ضلوا أو هلكوا، وقيل: خبرها: أولئك ينادون من مكان بعيد، وذلك بعيد.

[سورة فصلت (41) : الآيات 42 إلى 46]

إِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ أي كريم على الله، وقيل منيع من الشيطان لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ أي ليس فيما تقدمه ما يبطله، ولا يأتي بعده ما يبطله والمراد على الجملة أنه لا يأتيه الباطل من جهة من الجهات ما يُقالُ لَكَ إِلَّا ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ في معناه قولان: أحدهما: ما يقول الله لك من الوحي والشرائع، إلا مثل ما قال للرسل من قبلك، والآخر: ما يقول لك الكفار من التكذيب والأذى إلا مثل ما قالت الأمم المتقدمون لرسلهم، فالمراد على هذا تسلية النبي صلى الله عليه وسلم بالتأسي، والمراد على القول الأوّل أنه عليه الصلاة والسلام أتى بما جاءت به الرسل فلا تنكر رسالته إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ يحتمل أن يكون مستأنفا، أو يكون هو المقول في الآية المتقدمة، وذلك على القول الأوّل، وأما على القول الثاني فهو مستأنف منقطع مما قبله. وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آياتُهُ الأعجمي الذي لا يفصح، ولا يبين كلامه سواء كان من العرب أو من العجم، والعجمي الذي ليس من العرب فصيحا كان أو غير فصيح، ونزلت الآية بسبب طعن قريش في القرآن، فالمعنى أنه لو كان أعجميا لطعنوا فيه وقالوا: هلا كان مبينا فظهر أنهم يطعنون فيه على أي وجه كان أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ «1» هذا من تمام كلامهم، والهمزة للإنكار، والمعنى: أنه لو كان القرآن أعجميا لقالوا قرآن أعجمي، ورسول عربي، أو مرسل إليه عربي، وقيل: إنما طعنوا فيه لما فيه من الكلمات العجمية، كسجين وإستبرق، فقالوا أقرآن أعجمي وعربي، أي مختلط من كلام العرب والعجم، وهذا يجري على قراءة أعجمي بفتح العين فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ عبارة عن إعراضهم عن القرآن، فكأنهم صم لا يسمعون وكذلك وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى عبارة عن قلة فهمهم له أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ فيه قولان: أحدهما عبارة عن قلة فهمهم فشبههم بمن ينادى من مكان بعيد فهو لا يسمع الصوت ولا يفقه ما يقال، والثاني أنه حقيقة في يوم القيامة أي ينادون من مكان بعيد ليسمعوا أهل الموقف توبيخهم، والأوّل أليق بالكنايات التي قبلها كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ يعني القدر إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ أي علم زمان وقوعها، فإذا سئل أحد عن ذلك قال: الله هو الذي يعلمها مِنْ أَكْمامِها جمع كم بكسر الكاف وهو غلاف الثمرة قبل ظهورها.

_ (1) . قرأ حمزة والكسائي وأبو بكر: أأعجمي: بهمزتين وقرأ الباقون: آعجمي بالهمز والمدّ.

وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكائِي العامل في يوم محذوف والمراد به يوم القيامة، والضمير للمشركين وقوله: أين شركائي توبيخ لهم، وأضاف الشركاء إلى نفسه على زعم المشركين، كأنه قال: الشركاء الذين جعلتم لي قالُوا آذَنَّاكَ ما مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ المعنى: أنهم قالوا: أعلمناك ما منا من يشهد اليوم بأن لك شريكا، لأنهم كفروا يوم القيامة بشركائهم وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ أي ضل عنهم شركاؤهم، بمعنى أنهم لا يرونهم حينئذ، فما على هذا موصولة، أو ضل عنهم قولهم الذي كانوا يقولون من الشرك، فما على هذا مصدرية وَظَنُّوا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ الظنّ هنا بمعنى اليقين، والمحيص المهرب: أي علموا أنهم لا مهرب لهم من العذاب وقيل: يوقف على ظنوا، ويكون مالهم استئنافا، وذلك ضعيف لا يَسْأَمُ الْإِنْسانُ مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ أي لا يمل من الدعاء بالمال والعافية وشبه ذلك، ونزلت الآية في الوليد بن المغيرة، وقيل في غيره من الكفار واللفظ أعم من ذلك لَيَقُولَنَّ هذا لِي أي هذا حقي الواجب لي، وليس تفضلا من الله ولا يقول هذا إلا كافر، ويدل على ذلك قوله: وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وقوله: وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى معناه إن بعثت تكون لي الجنة، وهذا تخرص وتكبر، وروي أن الآية نزلت في الوليد بن المغيرة وَنَأى بِجانِبِهِ ذكر في الإسراء: 83 دُعاءٍ عَرِيضٍ أي كثير، وذكر الله هذه الأخلاق على وجه الذم لها قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الآية معناها: أخبروني إن كان القرآن من عند الله ثم كفرتم به ألستم في شقاق بعيد؟ فوضع قوله من أضل موضع الخطاب لهم سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ الضمير لقريش وفيها ثلاثة أقوال: أحدها أن الآيات في الآفاق هي فتح الأقطار للمسلمين، والآيات في أنفسهم هي فتح مكة فجمع ذلك وعدا للمسلمين بالظهور، وتهديدا للكفار، واحتجاجا عليهم بظهور الحق وخمول الباطل، والثاني أن الآيات في الآفاق هي ما أصاب الأمم المتقدمة من الهلاك وفي أنفسهم يوم بدر. الثالث أن الآيات في الآفاق: هي خلق السماء وما فيها من العبر والآيات، وفي أنفسهم خلقة بني آدم وهذا ضعيف لأنه قال: سنريهم بسين الاستقبال، وقد كانت السموات وخلقة بني آدم مرئية والأول هو الراجح أَنَّهُ الْحَقُّ الضمير للقرآن أو للإسلام مُحِيطٌ أي بعلمه وقدرته وسلطانه.

سورة الشورى

سورة الشورى مكية إلا الآيات 23 و 24 و 25 و 27 فمدنية وآياتها 53 نزلت بعد فصلت بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (سورة الشورى) حم عسق الكلام فيه كسائر حروف الهجاء حسبما تقدم في سورة البقرة، وقد حكى الطبري أن رجلا سأل ابن عباس عن حم عسق فأعرض عنه، فقال حذيفة: إنما كرهها ابن عباس، لأنها نزلت في رجل من أهل بيته اسمه عبد الله يبني مدينة على نهر من أنهار المشرق، ثم يخسف الله بها في آخر الزمان، والرجل على هذا أبو جعفر المنصور، والمدينة بغداد. وقد ورد في الحديث الصحيح أنها يخسف بها «1» كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ الكاف نعت لمصدر محذوف، والإشارة بذلك إلى ما تضمنه القرآن أو السورة، وقيل: الإشارة لقوله: حم عسق فإن الله أنزل هذه الأحرف بعينها في كل كتاب أنزله، وفي صحة هذا نظر اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ اسم الله فاعل بيوحى، وأما على قراءة يوحي بالفتح فهو فاعل بفعل مضمر، دل عليه يوحى كأن قائلا قال: من الذي أوحى؟ فقيل: الله تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ «2» أي يتشققن من خوف الله وعظيم جلاله، وقيل: من قول الكفار: اتخذ الله ولدا، فهي كالآية التي في مريم قال ابن عطية: وما وقع للمفسرين هنا من ذكر الثقل ونحوه: مردود لأن الله تعالى لا يوصف به مِنْ فَوْقِهِنَّ الضمير للسموات والمعنى يتشققن من أعلاهن، وذلك مبالغة في التهويل، وقيل: الضمير للأرضين وهذا بعيد، وقيل: الضمير للكفار كأنه قال: من فوق الجماعات الكافرة التي من أجل أقوالها تكاد السموات يتفطرن، وهذا أيضا بعيد وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ عموم يراد به الخصوص لأن الملائكة إنما يستغفرون للمؤمنين من أهل الأرض، فهي كقوله: وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا [غافر: 7] . وقيل: إنّ يستغفرون للذين آمنوا نسخ هذه الآية،

_ (1) . في الطبري حديث موقوف على ابن عباس بهذا المعنى وقد زالت دولة بني العباس عام 656 هـ، قبل ولادة الإمام ابن جزي بسنوات، فالله أعلم بما سيكون. (2) . قرأ نافع والكسائي: يكاد بالياء وقرأ الباقون: تكاد بالتاء.

[سورة الشورى (42) : الآيات 6 إلى 12]

وهذا باطل، لأن النسخ لا يدخل في الأخبار، ويحتمل أن يريد بالاستغفار طلب الحلم عن أهل الأرض مؤمنهم وكافرهم، ومعناه: الإمهال لهم، وأن لا يعاجلوا بالعقوبة فيكون عاما، فإن قيل: ما وجه اتصال قوله: والملائكة يسبحون الآية: بما قبلها؟ فالجواب أنا إن فسرنا تفطر السموات بأنه من عظمة الله فإنه يكون تسبيح الملائكة أيضا تعظيما له، فينتظم الكلام، وإن فسرنا تفطرها بأنه من كفر بني آدم فيكون تسبيح الملائكة تنزيها لله تعالى عن كفر بني آدم، وعن أقوالهم القبيحة. أُمَّ الْقُرى هي مكة، والمراد أهلها، ولذلك عطف عليه من حولها يعني من الناس يَوْمَ الْجَمْعِ يعني يوم القيامة وسمي بذلك لأن الخلائق يجتمعون فيه أَمِ اتَّخَذُوا أم منقطعة، والأولياء هنا المعبودون من دون الله فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ أي ما اختلفتم فيه أنتم والكفار من أمر الدين فحكمه إلى الله بأن يعاقب المبطل ويثيب المحق أو ما اختلفتم فيه من الخصومات فتحاكموا فيه إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، كقوله: فردّوه إلى الله والرسول مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً يعني الإناث وَمِنَ الْأَنْعامِ أَزْواجاً يحتمل أن يريد الإناث أو الأصناف يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ معنى يذرؤكم يخلقكم نسلا بعد نسل وقرنا بعد قرن، وقيل: يكثركم، والضمير المجرور يعود على الجعل الذي يتضمنه قوله: جعل لكم، وهذا كما تقول كلمت زيدا كلاما أكرمته فيه، وقيل: الضمير للتزويج الذي دل عليه قوله أزواجا، وقال الزمخشري: تقديره يذرؤكم في هذا التدبير. وهو أن جعل الناس والأنعام أزواجا، والضمير في يذرؤكم خطاب للناس والأنعام غلّب فيه العقلاء على غيرهم، فإن قيل: لم قال يذرؤكم فيه وهلا قال يذرؤكم به؟ فالجواب: أن هذا التدبير جعل كالمنبع والمعدن للبث والتكثير قاله الزمخشري لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ تنزيه لله تعالى عن مشابهة المخلوقين، قال كثير من الناس: الكاف زائدة للتأكيد، والمعنى ليس مثله شيء، وقال الطبري وغيره ليست بزائدة، ولكن وضع مثله موضع هو، والمعنى ليس كهو شيء قال الزمخشري: وهذا كما تقول: مثلك لا يبخل، والمراد: أنت لا تبخل، فنفى البخل عن مثله والمراد نفيه عن ذاته. مَقالِيدُ قد ذكر في [الزمر: 63] شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً اتفق

[سورة الشورى (42) : الآيات 17 إلى 22]

دين سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم مع جميع الأنبياء في أصول الاعتقادات، وذلك هو المراد هنا، ولذلك فسره بقوله: أن أقيموا الدين يعني إقامة الإسلام الذي هو توحيد الله وطاعته، والإيمان برسله وكتبه وبالدار الآخرة، وأما الأحكام الفروعية، فاختلفت فيها الشرائع فليست تراد هنا أَنْ أَقِيمُوا يحتمل أن تكون أن في موضع نصب بدلا من قوله: ما وصى أو في موضع خفض بدلا من به، أو في موضع رفع على خبر ابتداء مضمر، أو تكون مفسرة لا موضع لها من الإعراب كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ أي صعب الإسلام على المشركين اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ الضمير في إليه يعود على الله تعالى، وقيل على الدين وَما تَفَرَّقُوا يعني أهل الأديان المختلفة من اليهود والنصارى وغيرهم وَلَوْلا كَلِمَةٌ يعني القضاء السابق بأن لا يفصل بينهم في الدنيا وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ يعني المعاصرين لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم من اليهود والنصارى، وقيل: يعني العرب، والكتاب على هذا القرآن لَفِي شَكٍّ مِنْهُ الضمير للكتاب، أو للدين أو لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم فَلِذلِكَ فَادْعُ أي إلى ذلك الذي شرع الله، فادع الناس فاللام بمعنى إلى، والإشارة بذلك إلى قوله شرع لكم من الدين أو إلى قوله: ما تدعوهم إليه وقيل: إن اللام بمعنى أجل، والإشارة إلى التفرق والاختلاف، أي لأجل ما حدث من التفرق ادع إلى الله وعلى هذا يكون قوله: واستقم معطوفا، وعلى الأول يكون مستأنفا فيوقف على فادع واستقم كَما أُمِرْتَ أي دم على ما أمرت به من عبادة الله وطاعته وتبليغ رسالته، وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ الضمير للكفار، وأهواؤهم ما كانوا يحبون من الكفر والباطل كله وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ قيل: يعني العدل في الأحكام إذا تخاصموا إليه، ويحتمل أن يريد العدل في دعائهم إلى دين الإسلام، أي أمرت أن أحملكم على الحق لا حُجَّةَ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ أي لا جدال ولا مناظرة، فإن الحق قد ظهر وأنتم تعاندون. وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ أي يجادلون المؤمنين في دين الإسلام، ويعني كفار قريش، وقيل: اليهود مِنْ بَعْدِ ما اسْتُجِيبَ لَهُ الضمير يعود على الله أي من بعد ما استجاب الناس له ودخلوا في دينه، وقيل: يعود على الدين وقيل: على محمد صلى الله عليه وسلم، والأول أظهر وأحسن حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ أي زاهقة باطلة أَنْزَلَ الْكِتابَ يعني جنس

[سورة الشورى (42) : الآيات 23 إلى 26]

الكتاب بِالْحَقِّ أي بالواجب أو متضمنا الحق وَالْمِيزانَ قال ابن عباس وغيره يعني: العدل، ومعنى إنزال العدل، إنزال الأمر به في الكتب المنزلة، وقيل: يعني الميزان المعروف، فإن قيل: ما وجه اتصال ذكر الكتاب والميزان بذكر الساعة؟ فالجواب أن الساعة يوم الجزاء والحساب، فكأنه قال: اعدلوا وافعلوا الصواب قبل اليوم الذي تحاسبون فيه على أعمالكم لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ جاء قريب، بالتذكير، لأن تأنيث الساعة غير حقيقي، ولأن المراد به وقت الساعة يَسْتَعْجِلُ بِهَا أي يطلبون تعجيلها استهزاء بها، وتعجيزا للمؤمنين يُمارُونَ أي يجادلون ويخالفون يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ يعني الرزق الزائد على المضمون لكل حيوان في قوله: وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها [هود: 6] أي ما تقوم به الحياة، فإن هذا على العموم لكل حيوان طول عمره، والزائد خاص بمن شاء الله حَرْثَ الْآخِرَةِ عبارة عن العمل لها، وكذلك حرث الدنيا، وهو مستعار من حرث الأرض لأن الحراث يعمل وينتظر المنفعة بما عمل نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ عبارة عن تضعيف الثواب نُؤْتِهِ مِنْها أي نؤته منها ما قدّر له، لأن كل أحد لا بد أن يصل إلى ما قسم له وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ هذا للكفار، أو لمن كان يريد الدنيا خاصة، ولا رغبة له في الآخرة أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ أم منقطعة للإنكار والتوبيخ، والشركاء الأصنام وغيرها، وقيل: الشياطين شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ الضمير في شرعوا للشركاء، وفي لهم: للكفار، وقيل: بالعكس والأول أظهر ولم يأذن بمعنى: لم يأمر، والمراد بما شرعوا من البواطل في الاعتقادات، وفي الأعمال، كالبحيرة والوصيلة وغير ذلك. وَلَوْلا كَلِمَةُ الْفَصْلِ أي لولا القضاء السابق بأن لا يقضى بينهم في الدنيا لقضي بينهم فيها تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ يعني في الآخرة ذلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبادَهُ تقديره يبشر به، وحذف الجار والمجرور إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى فيه أربعة أقوال: الأول أن القربى بمعنى القرابة، وفي بمعنى من أجل، والمعنى لا أسألكم عليه أجرا إلا أن تودوني لأجل القرابة التي بيني وبينكم فالمقصد على هذا استعطاف قريش، ولم يكن فيهم بطن

إلا وبينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم قرابة: الثاني أن القربى بمعنى الأقارب، أو ذوي القربى، والمعنى إلا أن تودّوا أقاربي وتحفظوني فيهم، والمقصد على هذا وصية بأهل البيت: الثالث أن القربى قرابة الناس بعضهم من بعض، والمعنى أن تودوا أقاربكم، والمقصود على هذا وصية بصلة الأرحام: الرابع أن القربى التقرّب إلى الله، والمعنى إلا أن تتقربوا إلى الله بطاعته، والاستثناء على القول الثالث والرابع منقطع، وأما على الأول والثاني فيحتمل الانقطاع، لأن المودّة ليست بأجر، ويحتمل الاتصال على المجاز كأنه قال: لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة فجعل المودة كالأجر يَقْتَرِفْ أي يكتسب نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً يعني مضاعفة الثواب. أَمْ يَقُولُونَ أم منقطعة للإنكار والتوبيخ فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ فالمقصد بهذا قولان: أحدهما أنه رد على الكفار في قولهم افترى على الله كذبا: أي لو افتريت على الله كذبا لختم على قلبك، ولكنك لم تفتر على الله كذبا فقد هداك وسددك، والآخر أن المراد: إن يشأ الله يختم على قلبك بالصبر على أقوال الكفار وتحمل أذاهم وَيَمْحُ اللَّهُ الْباطِلَ هذا فعل مستأنف غير معطوف على ما قبله، لأن الذي قبله مجزوم، وهذا مرفوع فيوقف على ما قبله ويبدأ به، وفي المراد به وجهان: أحدهما أنه من تمام ما قبله: أي لو افتريت على الله كذبا لختم على قلبك ومحا الباطل الذي كنت تفتريه لو افتريت، والآخر أنه وعد لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بأن يمحو الله الباطل وهو الكفر، ويحق الحق وهو الإسلام وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ «1» عن هنا بمعنى من، وكأنه قال التوبة الصادرة من عباده وقبول التوبة على ثلاثة أوجه: أحدها التوبة من الكفر فهي مقبولة قطعا والثاني التوبة من مظالم العباد فهي غير مقبولة حتى تردّ المظالم أو يستحل منها والثالث التوبة من المعاصي التي بين العبد وبين الله فالصحيح أنها مقبولة بدليل هذه الآية وقيل: إنها في المشيئة وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ العفو مع التوبة على حسب ما ذكرنا، وأما العفو دون التوبة فهو على أربعة أقسام الأول العفو عن الكفر وهو لا يكون أصلا، والثاني العفو عن مظالم العباد وهو كذلك والثالث العفو عن الذنوب الصغائر إذا اجتنبت الكبائر، وهو حاصل باتفاق الرابع العفو عن الكبائر فمذهب أهل السنة أنها في المشيئة، ومذهب المعتزلة أنها لا تغفر إلا بالتوبة وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا فيه ثلاثة أقوال أحدها أن معنى يستجيب يجيب والذين آمنوا مفعول، والفاعل ضمير يعود على الله تعالى أي يجيبهم فيما يطلبون منه. وقال الزمخشري: أي أصله يستجيب للذين آمنوا فحذف اللام. والثاني أن معناه يجيب والذين

_ (1) . قرأ حفص وغيره: ويعلم ما تفعلون بالتاء وقرأ الباقون: يفعلون بالياء.

[سورة الشورى (42) : الآيات 27 إلى 32]

آمنوا فاعل أي يستجيب المؤمنون لربهم باتباع دينه والثالث أن معناه يطلب المؤمنون الإجابة من ربهم واستفعل هذا على بابه من الطلب، والأول أرجح لدلالة قوله: ويزيدهم من فضله ولأنه قول ابن عباس ومعاذ بن جبل. وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ أي يزيدهم ما لا يطلبون، زيادة على الاستجابة فيما طلبوا، وهذه الزيادة روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنها الشفاعة والرضوان. وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ أي بغى بعضهم على بعض، وطغوا لأن الغنى يوجب الطغيان، وقال بعض الصحابة: فينا نزلت لأنا نظرنا إلى أموال الكفار فتمنيناها وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا قيل لعمر رضي الله عنه: اشتد القحط وقنط الناس. فقال: الآن يمطرون، وأخذ ذلك من هذه الآية، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: اشتدي أزمة تنفرجي «1» وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ قيل: يعني المطر فهو تكرار للمعنى الأول بلفظ آخر، وقيل: يعني الشمس وقيل: بالعموم وَما بَثَّ فِيهِما مِنْ دابَّةٍ لا إشكال لأن الدواب في الأرض وأما في السماء فقيل: يعني الملائكة وقيل: يمكن أن تكون في السماء دواب لا نعلمها نحن وقيل: المعنى أنه بث في أحدهما فذكر الاثنين كما تقول في بني فلان كذا وإنما هو في بعضهم وَهُوَ عَلى جَمْعِهِمْ إِذا يَشاءُ قَدِيرٌ يريد جمع الخلق في الحشر يوم القيامة وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ المعنى أن المصائب التي تصيب الناس في أنفسهم وأموالهم إنما هي بسبب الذنوب قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: لا يصيب ابن آدم خدش عود أو عثرة قدم ولا اختلاج عرق إلا بذنب وما يعفو الله عنه أكثر «2» . وقرأ نافع وابن عامر بما كسبت بغير فاء على أن يكون ما أصابكم بمعنى الذي وقرأ الباقون بالفاء على أن يكون ما أصابكم شرطا بِمُعْجِزِينَ قد ذكر الجواري «3» جمع جارية وهي السفينة كَالْأَعْلامِ جمع علم وهو الجبل إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَواكِدَ عَلى ظَهْرِهِ

_ (1) . أورده المناوي في التيسير وعزاه للقضاعي في الشهاب عن علي وفيه ضعف ونكارة. (2) . لم أجده ومعناه صحيح وروى أحمد عن أبي هريرة وأبي سعيد الخدري حديثا يقاربه في المعنى ج 3 ص 18 وأوله: ما يصيب المرء المسلم من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن ولا غم ولا أذى حتى الشوكة يشاكها إلّا كفّر الله به من خطاياه. (3) . الجواري: قرأ نافع بإثبات الياء وصلا دون الوقف، وقرأ أهل الكوفة والشام بدون ياء وصلا ووقفا. [.....]

[سورة الشورى (42) : الآيات 38 إلى 41]

الضمير في يظللن للجواري وفي ظهره للبحر، أي لو أراد الله أن يسكن الرياح لبقيت السفن واقفة على ظهر البحر، فالمقصود تعديد النعمة في إرسال الرياح أو تهديد بإسكانه أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِما كَسَبُوا عطف على يسكن الريح، ومعنى يوبقهن يهلكهن بالغرق، من شدة الرياح العاصفة والضمير فيه للسفن، وفي كسبوا لركابها من الناس والمعنى: أنه لو شاء لأغرقها بذنوب الناس وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِنا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ أي يعلمون أنه لا مهرب لهم من الله، وقرأ نافع وابن عامر يعلم بالرفع على الاستئناف، [وقرأ الباقون] بالنصب واختلف في إعرابه على قولين: أحدهما أنه نصب بإضمار أن بعد الواو لما وقعت بعد الشرط والجزاء لأنه غير واجب. وأنكر ذلك الزمخشري وقال: إنه شاذ فلا ينبغي أن يحمل القرآن عليه، والثاني قول الزمخشري إنه معطوف على تعليل محذوف تقديره: لينتقم منهم ويعلم، قال: ونحوه من المعطوف على التعليل المحذوف في القرآن كثير، ومنه قوله: ولنجعله آية للناس [مريم: 21] كَبائِرَ الْإِثْمِ ذكرنا الكبائر في [النساء: 31] وقيل: كبائر الإثم: هو الشرك، والفواحش: هي الزنا واللفظ أعم من ذلك. وَالَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ قيل: يعني الأنصار، لأنهم استجابوا لما دعاهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الإسلام، ويظهر لي أن هذه الآية إشارة إلى ذكر الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم، لأنه بدأ أولا بصفات أبي بكر الصديق، ثم صفات عمر بن الخطاب، ثم صفات عثمان بن عفان، ثم صفات علي بن أبي طالب، فكونه جمع هذه الصفات، ورتبها على هذا الترتيب يدل على أنه قصد بها من اتصف بذلك، فأما صفات أبي بكر فقوله: الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون، وإنما جعلناها صفة أبي بكر وإن كان جميعهم متصفا بها، لأن أبا بكر كانت له فيها مزية لم تكن لغيره فقد روي: لو وزن إيمان أبي بكر بإيمان الأمة لرجحهم «1» وورد: أنا مدينة الإيمان وأبو بكر بابها «2» وقال أبو بكر: لو كشف الغطاء لما ازددت إلا يقينا، والتوكل إنما يقوى بقوة الإيمان. أما صفات عمر فقوله: والذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش لأن ذلك هو التقوى، وقوله: وإذا ما غضبوا هم يغفرون، وقوله: قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله نزلت في عمر، وأما صفات عثمان فقوله: والذين استجابوا لربهم لأن عثمان لما دعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الإيمان تبعه، وبادر إلى

_ (1) . قال عنه في تخريج الإحياء: رواه البيهقي في الشعب موقوفا على عمر بإسناد صحيح. (2) . المشهور: وعلى بابها وقد ذكره المناوي في التيسير وعزاه للعقيلي وابن عدي والطبراني والحاكم وصححه عن ابن عباس. والحديث مدعوم بكثرة طرقه والله أعلم.

الإسلام وقوله، وأقاموا الصلاة، لأن عثمان كان كثير الصلاة بالليل، وفيه نزلت أمّن هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما الآية: وروي أنه كان يحيي الليل بركعة يقرأ فيها القرآن كله، وقوله: وأمرهم شورى بينهم لأن عثمان ولي الخلافة بالشورى، وقوله: ومما رزقناهم ينفقون، لأن عثمان كان كثير النفقة في سبيل الله، ويكفيك أنه جهّز جيش العسرة، وأما صفة عليّ فقوله: والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون، لأنه لما قاتلته الفئة الباغية قاتلها انتصارا للحق، وانظر كيف سمّى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المقاتلين لعلي الفئة الباغية حسبما ورد في الحديث الصحيح أنه قال لعمار بن ياسر: تقتلك الفئة الباغية فذلك هو البغي الذي أصابه وقوله: «فمن عفا وأصلح فأجره على الله» إشارة إلى فعل الحسن بن عليّ حين بايع معاوية، وأسقط حق نفسه ليصلح أحوال المسلمين، ويحقن دماءهم قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم في الحسن: إن ابني هذا سيّد ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين «1» وقوله: ولمن انتصر بعد ظلمه، فأولئك ما عليهم من سبيل إشارة إلى انتصار قيام الحسين بعد موت الحسن، وطلبه للخلافة وقوله: «إنما السبيل على الذين يظلمون الناس» إشارة إلى بني أمية، فإنهم استطالوا على الناس كما جاء في الحديث عنهم: أنهم جعلوا عباد الله خولا ومال الله دولا، ويكفيك من ظلمهم أنهم كانوا يلعنون علي بن أبي طالب على منابرهم «2» ، وقوله: «ولمن صبر وغفر» الآية إشارة إلى صبر أهل بيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم على ما نالهم من الضر والذل، طول مدّة بني أمية وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها سمى العقوبة باسم الذنب، وجعلها مثلها تحرزا من الزيادة عليها فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ هذا يدل على أن العفو عن الظلمة أفضل من الانتصار، لأنه ضمن الأجر في العفو، وذكر الانتصار بلفظ الإباحة في قوله: «ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل» وقيل: إن الانتصار أفضل، والأول أصح فإن قيل: كيف ذكر الانتصار في صفات المدح في قوله «والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون» والمباح لا مدح فيه ولا ذم، فالجواب: من ثلاثة أوجه أحدها أن المباح قد يمدح لأنه قيام بحق لا بباطل، والثاني أن مدح الانتصار لكونه كان بعد الظلم، تحرزا ممن بدأ بالظلم فكأن المدح إنما هو بترك الابتداء بالظلم، والثالث إن كانت الإشارة بذلك إلى علي بن أبي طالب حسبما ذكرنا فانتصاره محمود، لأن قتال أهل البغي واجب لقوله تعالى «فقاتلوا التي

_ (1) . الحديث في البخاري رواه في كتاب الصلح ج 3/ 170. (2) . عند ما بويع عمر بن عبد العزيز منع السب وأبدله بتلاوة قوله تعالى: إن الله يأمر بالعدل والإحسان وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى إلخ [النحل: 90] .

[سورة الشورى (42) : الآيات 42 إلى 51]

تبغي» يُعْرَضُونَ عَلَيْها أي على النار خاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ عبارة عن الذل والكآبة، ومن الذل يتعلق بخاشعين يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ فيه قولان: أحدهما أنه عبارة عن الذل، لأن نظر الذليل بمهابة واستكانة، والآخر أنهم يحشرون عميا فلا ينظرون بأبصارهم، وإنما ينظرون بقلوبهم واستبعد هذا ابن عطية والزمخشري: والظرف يحتمل أن يريد به العين أو يكون مصدرا يَوْمَ الْقِيامَةِ يتعلق بقال أو بخسروا أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ يحتمل أن يكون من كلام الذين آمنوا أو مستأنفا من كلام الله تعالى لا مَرَدَّ لَهُ ذكر في غافر [11] مِنْ نَكِيرٍ أي إنكار يعني لا تنكرون أعمالكم يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً قدم الإناث اعتناء بهنّ وتأنيسا لمن وهبهن له. قال واثلة بن الأسقع: من يمن المرأة تبكيرها بأنثى قبل الذكر، لأن الله بدأ بالإناث وقال بعضهم: نزلت هذه الآية في الأنبياء عليهم السلام فشعيب ولوط كان لهما إناث دون ذكور، وإبراهيم كان له ذكور دون إناث، ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم جمع الإناث والذكور، ويحيى كان عقيما، والظاهر أنها على العموم في جميع الناس، إذ كل واحد منهم لا يخلو عن قسم من هذه الأقسام الأربعة التي ذكر، وفي الآية من أدوات البيان التقسيم. وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً الآية: بين الله تعالى فيها كلامه لعباده، وجعله على ثلاثة أوجه أحدها الوحي المذكور أولا وهو الذي يكون بإلهام أو منام والآخر أن يسمعه كلامه من وراء حجاب الثالث الوحي بواسطة الملك وهو قوله: أو يرسل رسولا يعني ملكا، فيوحي بإذنه ما يشاء إلى النبي، وهذا خاص بالأنبياء والثاني خاص بموسى وبمحمد صلى الله عليه وآله وسلم إذ كلمه الله ليلة الإسراء، وأما الأول فيكون للأنبياء والأولياء كثيرا، وقد يكون لسائر الخلق ومنه، وأوحى ربك إلى النحل ومنه منامات الناس أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا قرأ نافع يرسل ويوحي بالرفع، على تقدير أو هو يرسل والباقون

[سورة الشورى (42) : الآيات 52 إلى 53]

بالنصب عطفا على وحيا لأن تقديره: أن يوحي عطف على أن المقدرة وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا الروح هنا القرآن، والمعنى مثل هذا الوحي، وهو بإرسال ملك أوحينا إليك القرآن، والأمر هنا يحتمل أن يكون واحد الأمور، أو يكون من الأمر بالشيء ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ المقصد بهذا شيئان: أحدهما تعداد النعمة عليه صلّى الله عليه وسلّم بأن علمه الله ما لم يكن يعلم. والآخر احتجاج على نبوته لكونه أتى بما لم يكن يعلمه ولا تعلمه من أحد، فإن قيل: أما كونه لم يكن يدري الكتاب فلا إشكال فيه، وأما الإيمان ففيه إشكال لأن الأنبياء مؤمنون بالله قبل مبعثهم؟ فالجواب أن الإيمان يحتوي على معارف كثيرة، وإنما كمل له معرفتها بعد بعثه، وقد كان مؤمنا بالله قبل ذلك، فالإيمان هنا يعني به كمال المعرفة وهي التي حصلت له بالنبوة وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً الضمير للقرآن.

سورة الزخرف

سورة الزخرف مكية إلا آية 54 فمدنية وآياتها 89 نزلت بعد الشورى بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (سورة الزخرف) وَالْكِتابِ الْمُبِينِ يعني القرآن، والمبين يحتمل أن يكون بمعنى البيّن، أو المبيّن لغيره وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ أم الكتاب، اللوح المحفوظ، والمعنى: أن القرآن وصف في اللوح بأنه عليّ حكيم، وقيل: المعنى أن القرآن نسخ بجملته في اللوح المحفوظ، ومنه كان جبريل ينقله، فوصفه الله بأنه علي حكيم لكونه مكتوب في اللوح المحفوظ. والأول أظهر وأشهر أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً الهمزة للإنكار والمعنى: أنمسك عنكم الذكر، ونضرب من قولك: أضربت عن كذا: إذا تركته، والذكر يراد به: القرآن، أو التذكير، والوعظ. وصفحا فيه وجهان: أحدهما أنه بمعنى الإعراض، تقول: صفحت عنه إذا أعرضت عنه فكأنه قال: أنترك تذكيركم إعراضا عنكم؟ وإعراب صفحا على هذا مصدر من المعنى، أو مفعول من أجله، أو مصدر في موضع الحال، والآخر أن يكون بمعنى العفو والغفران، فكأنه يقول: أنمسك عنكم الذكر عفوا عنكم وغفرانا لذنوبكم؟ وإعراب صفحا على هذا مفعول من أجله، أو مصدر في موضع الحال أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ قرأ نافع وحمزة والكسائي بكسر الهمزة على الشرط، والجواب في الكلام الذي قبله، وقرأ الباقون بالفتح على أنه مفعول من أجله أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً الضمير لقريش وهم المخاطبون بقوله: أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ، فإن قيل: كيف قال: إن كنتم على الشرط بحرف إن التي معناها الشك، ومعلوم أنهم كانوا مسرفين؟ فالجواب أن في ذلك إشارة إلى توبيخهم على الإسراف، وتجهيلهم في ارتكابه، فكأنه شيء لا يقع من عاقل، فلذلك وضع حرف التوقع في موضع الواقع وَمَضى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ أي تقدّم في القرآن ذكر حال الأولين وكيفية إهلاكهم لما كفروا.

[سورة الزخرف (43) : الآيات 9 إلى 16]

وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ الآية احتجاج على قريش لأنهم كانوا يعترفون أن الله هو الذي خلق السموات والأرض وكانوا مع اعترافهم بذلك يعبدون غيره، ومقتضى جوابهم أن يقولوا: خلقهن الله، فلما ذكر هذا المعنى جاءت العبارة عن الله بالعزيز العليم لأن اعترافهم بأنه خلق السموات والأرض يقتضي أن يعترفوا بأنه عزيز عليم، وأما قوله: الذي جعل لكم فهو من كلام الله لا من كلامهم مِهاداً «1» أي فراشا على وجه التشبيه سُبُلًا أي طرقا تمشون فيها ماءً بِقَدَرٍ أي بمقدار ووزن معلوم وقيل: معناه بقضاء كَذلِكَ تُخْرَجُونَ تمثيل للخروج من القبور بخروج النبات من الأرض الْأَزْواجَ كُلَّها يعني أصناف الحيوان والنبات وغير ذلك لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ الضمير يعود على ما تركبون ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ يحتمل أن يكون هذا الذكر بالقلب أو باللسان، ويحتمل أن يريد النعمة في تسخير هذا المركوب أو النعمة على الإطلاق، وكان بعض السلف إذا ركب دابة يقول: الحمد لله الذي هدانا للإسلام، ثم يقول: سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ أي مطيقين وغالبين وَإِنَّا إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ اعتراف بالحشر فإن قيل: ما مناسبة هذا للركوب؟ فالجواب: أن راكب السفينة أو الدابة متعرض للهلاك بما يخاف من غرق السفينة، أو سقوطه عن الدابة، فأمر بذكر الحشر ليكون مستعدا للموت الذي قد يعرض له، وقيل يذكر عند الركوب ركوب الجنازة، وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً الضمير في جعلوا لكفار العرب، وفي له لله تعالى، وهذا الكلام متصل بقوله: ولئن سألتهم الآية والمعنى أنهم جعلوا الملائكة بنات الله، فكأنهم جعلوا جزءا من عباده نصيبا له وحظا دون سائر عباده. وقال الزمخشري: معناه أنهم جعلوا الملائكة جزءا منه وقال بعض اللغويين: الجزء في اللغة الإناث واستشهد على ذلك ببيت شعر قال الزمخشري وذلك كذب على اللغة والبيت موضوع. أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَناتٍ أم للإنكار والرد على الذين قالوا: إن الملائكة بنات الله ومعنى أصفاكم: خصكم. أي كيف يتخذ لنفسه البنات وهن أدنى، وأصفاكم بالبنين وهم أعلى «2» وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلًا أي إذا بشر بالأنثى، وقد ذكر هذا

_ (1) . قرأ عاصم وحمزة والكسائي: مهدا والباقون: مهادا. (2) . هذا حسب معايير الزمان الجاهلي، أما اليوم فالأمر مختلف.

[سورة الزخرف (43) : الآيات 23 إلى 30]

المعنى في النحل والمراد أنهم يكرهون البنات فكيف ينسبونها إلى الله؟ تعالى الله عن قولهم. أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ المراد بمن ينشأ في الحلية النساء، والحلية هي الحلي من الذهب والفضة، وشبه ذلك. ومعنى ينشأ فيها يكبر وينبت في استعمالها. وقرئ «1» ينشأ بضم الياء وتشديد الشين بمعنى يربّى فيها، والمقصد الرد على الذين قالوا: الملائكة بنات الله. كأنه قال: أجعلتم لله من ينشأ في الحلية وذلك صفة النقص، ثم أتبعها بصفة نقص أخرى وهي قوله: وهو في الخصام غير مبين، يعني أن الأنثى إذا خاصمت أو تكلمت لم تقدر أن تبين حجّتها لنقص عقلها، وقلّ ما تجد امرأة إلا تفسد الكلام وتخلط المعاني، فكيف ينسب لله من يتصف بهذه النقائص؟ وإعراب ينشأ مفعول بفعل مضمر تقديره: أجعلتم لله من ينشأ أو مبتدأ وخبره محذوف تقديره أو من ينشأ في الحلية خصصتم به الله وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً الضمير في جعلوا لكفار العرب، فحكى عنهم ثلاثة أقوال شنيعة أحدها أنهم نسبوا إلى الله الولد، والآخر أنهم نسبوا إليه البنات دون البنين، والثالث أنهم جعلوا الملائكة المكرمين إناثا، وقرئ «2» عند الرحمن بالنون، والمراد به قرب الملائكة وتشريفهم كقوله والذين عند ربك، وقرئ عباد بالباء جمع عبد والمراد به أيضا الاختصاص والتشريف أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ «3» هذا ردّ على العرب في قولهم: إن الملائكة إناث، والمعنى لم يشهدوا خلق الملائكة، فكيف يقولون ما ليس لهم به علم؟ سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ وَيُسْئَلُونَ أي تكتب شهادتهم التي شهدوا بها على الملائكة، ويسألون عنها يوم القيامة وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ الضمير في قالوا للكفار، وفي عبدناهم للملائكة، وقال ابن عطية للأصنام: والأول أظهر وأشهر، والمعنى: احتجاج احتجّ به الذين عبدوا الملائكة، وذلك أنهم قالوا: لو أراد الله أن لا نعبدهم ما عبدناهم، فكونه يمهلنا وينعم علينا: دليل على أنه يرضى عبادتنا لهم، ثم رد الله عليهم بقوله ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ يعني أن قولهم بلا دليل وحجة، وإنا هو تخرّص منهم أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً مِنْ قَبْلِهِ أي من قبل القرآن، وهذا أيضا رد عليهم لكونهم ليس لهم كتاب يحتجون به بَلْ قالُوا إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ أي على دين وطريقة، والمعنى أنهم ليس لهم حجة، وإنما هم مقلدو آبائهم وَكَذلِكَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ الآية المعنى كما اتبع

_ (1) . قرأ عاصم وحمزة والكسائي بالتشديد والباقون: ينشأ بالتخفيف. (2) . قرأ نافع وابن عامر وابن كثير: عند الرحمن وقرأ الباقون: عباد الرحمن. (3) . قرأ نافع أأشهدوا.

[سورة الزخرف (43) : الآيات 31 إلى 36]

هؤلاء الكفار آباءهم بغير حجة اتبع كل من كان قبلهم من الكفار آباءهم بغير حجة، بل بطريق التقليد المذموم قل أولو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم هذا رد على الذين اتبعوا آباءهم، والمعنى قل لهم أتتبعونهم ولو جئتكم بدين أهدى من الدين الذي وجدتم عليه آباءكم، وقرئ «1» قال أو لو جئتكم، والفاعل ضمير يعود على النذير المتقدم، وأما قراءة قل بالأمر فهو خطاب لمحمد صلّى الله عليه وسلّم، أمره الله أن يقول ذلك لقريش وقيل: هو للنذير المتقدم، أمره الله أن يقول ذلك لقومه، والأول أظهر، وعلى هذا تكون هذه الجملة اعتراضا بين قصة المتقدمين، فإن قوله قالوا إنا بما أرسلتم به كافرون: حكاية عن الكفار المتقدمين، وكذلك قوله: فانتقمنا منهم: يعني من المتقدمين. إِنَّنِي بَراءٌ أي بريء وبراء في الأصل مصدر ثم استعمل صفة، ولذلك استوى فيها الواحد والجماعة كعدل وشبهه إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي يحتمل أن يكون استثناء منقطعا، وذلك إن كانوا لا يعبدون الله، أو يكون متصلا إن كانوا يعبدون الله ويعبدون معه غيره، وإعرابه على هذا بدل مما تعبدون فهو في موضع خفض، أو منصوب على الاستثناء فهو في موضع نصب سَيَهْدِينِ قال هنا: سيهدين، وقال مرة أخرى: فهو يهدين، ليدل على أن الهداية في الحال والاستقبال [من الله] وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ ضمير الفاعل في جعلها يعود على إبراهيم عليه السلام، وقيل على الله تعالى، والأول أظهر، والضمير يعود على الكلمة التي قالها وهي: إنني براء مما تعبدون، ومعناه: التوحيد، ولذلك قيل: يعود على الإسلام لقوله: هو سماكم المسلمين من قبل، وقيل: يعود على لا إله إلا الله، والمعنى متقارب: أي جعل إبراهيم تلك الكلمة ثابتة في ذريته لعل من أشرك منهم يرجع إلى التوحيد، والعقب هو الولد وولد الولد ما تناسلا أبدا بَلْ مَتَّعْتُ هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ الإشارة بهؤلاء إلى قريش، وهذا الكلام متصل بما قبله، لأن قريشا من عقب إبراهيم عليه السلام، فالمعنى لكن هؤلاء ليسوا ممن بقيت الكلمة فيهم، بل متعتهم بالنعم والعافية، فلم يشكروا عليها واشتغلوا بها عن عبادة الله حَتَّى جاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ وهو محمد صلّى الله عليه وسلّم. وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ الضمير في قالوا لقريش، والقريتان مكة والطائف، ومن القريتين: معناها من إحدى القريتين، كقولك: يخرج منهما

_ (1) . قرأ حفص وابن عامر: قال وقرأ الباقون: قل.

اللؤلؤ والمرجان: أي من أحدهما، وقيل: معناه على رجل من رجلين من القريتين، فالرجل الذي من مكة الوليد بن المغيرة، وقيل: عتبة بن ربيعة، والرجل الذي من الطائف عروة بن مسعود، وقيل حبيب بن عمير، ومعنى الآية أن قريشا استبعدوا نزول القرآن على محمد صلى الله عليه وآله وسلم، واقترحوا أن ينزل على أحد هؤلاء، وصفوه بالعظمة يريدون الرئاسة في قومه وكثرة ماله، فردّ الله عليهم بقوله أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ يعني أن الله يخص بالنبوّة من يشاء من عباده على ما تقتضيه حكمته وإرادته، وليس ذلك بتدبير المخلوقين، ولا بإرادتهم، ثم أوضح ذلك بقوله نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا أي كما قسمنا المعايش في الدنيا كذلك قسمنا المواهب الدينية، وإذا كنا لم نهمل الحظوظ الفانية الحقيرة، فأولى وأحرى أن لا نهمل الحظوظ الشريفة الباقية لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا وهو من التسخير في الخدمة: أي رفعنا بعضهم فوق بعض ليخدم بعضهم بعضا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ هذا تحقير للدنيا، والمراد برحمة ربك هنا النبوة وقيل: الجنة. وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً الآية: تحقير أيضا للدنيا، ومعناها لولا أن يكفر الناس كلهم، لجعلنا للكفار سقفا من فضة، وذلك لهوان الدنيا على الله، كما قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: لو كانت الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة ما سقى كافرا منها جرعة ماء «1» وَمَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ المعارج: الأدراج والسلالم، ومعنى يظهرون يرتفعون، ومنه «فما استطاعوا أن يظهروه» والسرر جمع سرير، والزخرف الذهب «2» ، وقيل أثاث البيت من الستور والنمارق، وشبه ذلك وقيل: هو التزويق والنقش وشبه ذلك من التزيين كقوله: حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها وَازَّيَّنَتْ [يونس: 24] وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً يعش من قولك: عشي الرجل إذا أظلم بصره، والمراد به هنا ظلمة القلب والبصيرة، وقال الزمخشري: يعشى بفتح الشين إذا حصلت الآفة في عينيه، ويعشو بضم الشين إذا نظر نظرة الأعشى، وليس به آفة، فالفرق بينهما كالفرق بين

_ (1) . أورده المناوي في التيسير وعزاه للترمذي والضياء المقدسي عن سهل بن سعد الساعدي وبلفظ: تزن بدل: تعدل، وشربة بدل: جرعة. (2) . قوله: لما متاع قرأ عاصم وحمزة بالتشديد وقرأ الباقون بالتخفيف.

[سورة الزخرف (43) : الآيات 37 إلى 44]

قولك: عمي وتعامى، فمعنى القراءة بالضم: يتجاهل ويجحد معرفته بالحق، والظاهر أن ذلك عبارة عن الغفلة وإهمال النظر، وذكر الرحمن، وقال الزمخشري يريد به القرآن، وقال ابن عطية: يريد به ما ذكر الله به عباده من المواعظ، فالمصدر مضاف إلى الفاعل، ويحتمل عندي أن يريد ذكر العبد لله، ومعنى الآية: أن من غفل عن ذكر الله يسّر الله له شيطانا يكون له قرينا، فتلك عقوبة على الغفلة عن الذكر بتسليط الشيطان، كما أن من داوم على الذكر تباعد عنه الشيطان. وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ الضمير في إنهم للشياطين، وضمير المفعول في يصدونهم لمن يعش عن ذكر الرحمن، وجمع الضميرين لأن المراد به جمع حَتَّى إِذا جاءَنا قرأ نافع وابن كثير وابن عامر وأبو بكر جاءانا بضمير الاثنين وهما من يعش وشيطانه، وقرأ الباقون بغير ألف على أنه ضمير واحد وهو من يعش، والضمير في قال: لمن يعش، وقيل: للشيطان بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فيه قولان. أحدهما أنه يعني المشرق والمغرب، وغلّب أحدهما في التشبيه، كما قيل: القمران، والآخر: أنه يعني المشرقين والمغربين، وحذف المغربين لدلالة المشرقين عليه وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ هذا كلام يقال للكفار في الآخرة، ومعناه أنهم لا ينفعهم اشتراكهم في العذاب، ولا يجدون راحة التأسي التي يجدها المكروب في الدنيا، إذا رأى غيره قد أصابه مثل الذي أصابه، والفاعل في ينفعكم قوله: «إنكم في العذاب مشتركون» ، وإذ ظلمتم: تعليل معناه: بسبب ظلمكم، وقيل: الفاعل مضمر، وهو التبري الذي يقتضيه قوله: «يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين» وأنكم على هذا تعليل، والأول أرجح أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ الآية: خطاب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، والمراد بالصم والعمي الكفار إذ كانوا لا يعقلون براهين الإسلام فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ إما مركبة من إن الشرطية وما الزائدة، ومقصد الآية وعيد للكفار، والمعنى إن عجلنا وفاتك قبل الانتقام منهم فإنا سننتقم منهم بعد وفاتك، وإن أخرنا وفاتك إلى حين الانتقام منهم فإنا عليهم مقتدرون، وهذا الانتقام يحتمل أن يريد به قتلهم يوم بدر، وفتح مكة وشبه ذلك من الانتقام في الدنيا، أو يريد به عذاب الآخرة، وقيل: إن الضمير في منهم منتقمون للمسلمين، وأن معنى ذلك أن الله قضى أن ينتقم منهم بالفتن والشدائد، وإنه أكرم نبيه عليه السلام بأن توفاه قبل أن يرى الانتقام من أمته، والأول أشهر وأظهر. وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ الضمير في إنه للقرآن أو للإسلام، والذكر هنا بمعنى

[سورة الزخرف (43) : الآيات 45 إلى 51]

الشرف، وقوم النبي صلى الله عليه وآله وسلم هم قريش وسائر العرب، فإنهم نالوا بالإسلام شرف الدنيا والآخرة، ويكفيك أن فتحوا مشارق الأرض ومغاربها، وصارت فيهم الخلافة والملك، وورد عن ابن عباس أنه لما نزلت هذه الآية علم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن الأمر بعده لقريش، ويحتمل أن يريد بالذكر التذكير والموعظة، فقومه على هذا أمته كلهم وكل من بعث إليهم وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ أي تسألون عن العمل بالقرآن وعن شكر الله عليه وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا إن قيل: كيف أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يسأل الرسل المتقدّمين وهو لم يدركهم؟ فالجواب من ثلاثة أوجه: الأول أنه رآهم ليلة الإسراء. الثاني أن المعنى اسأل أمة من أرسلنا قبلك. الثالث أنه لم يرد سؤالهم حقيقة، وإنما المعنى أن شرائعهم متفقة على توحيد الله، بحيث لو سألوا: هل مع الله آلهة يعبدون لأنكروا ذلك ودانوا بالتوحيد وَما نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِها الآيات هنا المعجزات كقلب العصا حية، وإخراج اليد بيضاء وقيل: البراهين والحجج العقلية، والأول أظهر ومعنى أكبر من أختها أنها في غاية الكبر والظهور، ولم يرد تفضيلها على غيرها من الآيات، إنما المعنى أنها إذا نظرت وجدت كبيرة، وإذا نظرت غيرها وجدت كبيرة فهو كقول الشاعر [وهو عبيد بن الأبرص أو غيره] : من تلق منهم تقل لاقيت سيّدهم ... مثل النجوم التي يسري بها الساري هكذا قال الزمخشري، ويحتمل عندي أن يريد ما نريهم من آية إلا هي أكبر مما تقدمها، فالمراد أكثر من أختها المتقدّمة عليها. وَقالُوا يا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنا رَبَّكَ ظاهر كلامهم هذا التناقض، فإن قولهم: يا أيها الساحر يقتضي تكذيبهم له، وقولهم: ادع لنا ربك يقتضي تصديقه، والجواب من وجهين: أحدهما أن القائلين لذلك كانوا مكذبين، وقولهم ادْعُ لَنا رَبَّكَ يريدون على قولك وزعمك، وقولهم: إننا لمهتدون وعد نووا خلافه، والآخر: أنهم كانوا مصدّقين، وقولهم: يا أيها الساحر إما أن يكون عندهم غير مذموم، لأن السحر كان علم أهل زمانهم، وكأنهم قالوا: يا أيها العالم، وإما أن يكون ذلك اسما قد ألفوا تسمية موسى به من أول ما جاءهم، فنطقوا به بعد ذلك من غير اعتقاد معناه وَنادى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ يحتمل أنه ناداهم بنفسه أو أمر مناديا ينادي فيهم قالَ يا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ قصد بذلك الافتخار على

[سورة الزخرف (43) : الآيات 52 إلى 57]

موسى، ومصر هي البلد المعروف وما يرجع إليه، ومنتهى ذلك من نهر إسكندرية إلى أسوان بطول النيل وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي يعني: الخلجان الكبار الخارجة من النيل كانت تجرى تحت قصره، وأعظمها أربعة أنهار: نهر الإسكندرية وتنيس ودمياط، ونهر طولون أَفَلا تُبْصِرُونَ أَمْ أَنَا خَيْرٌ مذهب سيبويه أن أم هنا متصلة معادلة، والمعنى أفلا تبصرون أم تبصرون، ثم وضع قوله: أنا خير موضع تبصرون لأنهم إذا قالوا له أنت خير فإنهم عنده بصراء، وهذا من وضع السبب موضع المسبب، وكان الأصل أن يقول: فلا تبصرون أم تبصرون، ثم اقتصر على أم وحذف الفعل الذي بعدها واستأنف قوله: أنا خير على وجه الإخبار. ويوقف على هذا القول على أم وهذا ضعيف وقيل أم بمعنى بل فهي منقطعة مَهِينٌ أي ضعيف وَلا يَكادُ يُبِينُ إشارة إلى ما بقي في لسان موسى من أثر الجمرة، وذلك أنها كانت قد أحدثت في لسانه عقدة، فلما دعا أن تحل أجيبت دعوته وبقي منها أثر كان معه لكنة، وقيل: يعني العيّ في الكلام، وقوله: ولا يكاد يبين: يقتضي أنه كان يبين، لأن كاد إذا نفيت تقتضي الإثبات فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ «1» يريد لولا ألقاها الله إليه كرامة له ودلالة على نبوّته، والأسورة جمع سوار وأسوار، وهو ما يجعل في الذراع من الحلي، وكان الرجال حينئذ يجعلونه مُقْتَرِنِينَ أي مقترنين به لا يفارقونه، أو متقارنين بعضهم مع بعض ليشهدوا له ويقيموا الحجة فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ أي طلب خفتهم بهذه المقالة واستهوى عقولهم آسَفُونا أي أغضبونا فَجَعَلْناهُمْ سَلَفاً وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ السلف بفتح السين واللام جمع سالف، وقرأ حمزة والكسائي: سلفا بضمها جمع سليف ومعناه متقدم: أي تقدم قبل الكفار ليكون موعظة لهم، ومثلا يعتبرون به لئلا يصيبهم مثل ذلك. وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ «2» روي عن ابن عباس وغيره في تفسيره هذه الآية: أنه لما نزل في القرآن ذكر عيسى ابن مريم والثناء عليه، قالت قريش: ما يريد محمد إلا أن نعبده نحن كما عبدت النصارى عيسى فهذا كان صدودهم من ضربه مثلا، حكى ذلك ابن عطية والذي ضرب المثل على هذا هو الله في القرآن، ويصدون بمعنى يعرضون، وقال الزمخشري: لما قرأ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على

_ (1) . قرأ حفص: أسورة وقرأ الباقون: أساورة. (2) . يصدون قرأ نافع وابن عامر والكسائي بضم الدال وقرأ الباقون: يصدّون بكسرها. [.....]

[سورة الزخرف (43) : الآيات 58 إلى 60]

قريش: إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ [الأنبياء: 98] امتعضوا من ذلك، وقال عبد الله بن الزبعرى: أخاصة لنا ولآلهتنا أم لجميع الأمم؟ فقال صلى الله عليه وسلم هو لكم ولآلهتكم ولجميع الأمم، فقال: خصمتك ورب الكعبة ألست تزعم أن عيسى ابن مريم نبي وتثني عليه خيرا، وقد علمت أن النصارى عبدوه، فإن كان عيسى في النار فقد رضينا أن نكون نحن وآلهتنا معه، ففرحت قريش بذلك، وضحكوا وسكت النبي صلى الله عليه وآله وسلم. فأنزل الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ [الأنبياء: 101] ، ونزلت هذه الآية، فالمعنى على هذا: لما ضرب ابن الزبعرى عيسى مثلا وجادل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعبادة النصارى إياه، إذا قريش من هذا المثل يصدون: أي يضحكون ويصيحون من الفرح، وهذا المعنى إنما يجري على قراءة يصدون بكسر الصاد بمعنى الضجيج والصياح. وَقالُوا أَآلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ «1» يعنون بهو عيسى، والمعنى أنهم قالوا آلهتنا خير أم عيسى، فإن كان عيسى يدخل النار فقد رضينا أن نكون نحن وآلهتنا معه، لأنه خير من آلهتنا، وهذا الكلام من تمام ما قبله على ما ذكره الزمخشري في تفسير الآية التي قبله، وأما على ما ذكر ابن عطية فهذا ابتداء معنى آخر، وحكى الزمخشري في معنى هذه الآية قولا آخر: وهو أنهم لما سمعوا ذكر عيسى قالوا: نحن أهدى من النصارى، لأنهم عبدوا آدميا ونحن عبدنا الملائكة، وقالوا آلهتنا وهم الملائكة خير أم عيسى فمقصدهم تفضيل آلهتهم على عيسى. وقيل: إن قولهم أم هو: يعنون به محمدا صلى الله عليه وسلم، فإنهم لما قالوا إنما يريد محمد أن نعبده كما عبدت النصارى عيسى. قالوا: أآلهتنا خير أم هو يريدون تفضيل آلهتهم على محمد والأظهر أن المراد بهو عيسى وهو قول الجمهور، ويدل على ذلك تقدم ذكره ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا أي ما ضربوا لك هذا المثال إلا على وجه الجدل، وهو أن يقصد الإنسان أن يغلب من يناظره سواء غلبه بحق أو بباطل، فإن ابن الزبعرى وأمثاله ممن لا يخفى عليه أن عيسى لم يدخل في قوله تعالى: حصب جهنم، ولكنهم أرادوا المغالطة، فوصفهم الله بأنهم قوم خصمون إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ يعني عيسى والإنعام عليه بالنبوة والمعجزات، وغير ذلك وَلَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ في معناها قولان: أحدهما لو نشاء لجعلنا بدلا منكم ملائكة يسكنون الأرض ويخلفون فيها بني آدم، فقوله منكم يتعلق ببدل المحذوف أو بيخلفون، والآخر لو نشاء لجعلنا منكم، أي لولدنا منكم أولادا ملائكة يخلفونكم في الأرض كما يخلفكم أولادكم، فإنا قادرون على أن نخلق من أولاد الناس ملائكة فلا تنكروا أن خلقنا عيسى من غير والد، حكى ذلك الزمخشري.

_ (1) . قرأ نافع: آلهتنا. وقرأ أهل الكوفة: أآلهتنا.

[سورة الزخرف (43) : الآيات 61 إلى 79]

وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ الضمير لعيسى وقيل لمحمد صلى الله عليه وسلم وقيل للقرآن، فأما على القول بأنه لعيسى أو لمحمد فالمعنى أنه شرط من أشراط الساعة، يوجب العلم بها فسمى الشرط علما لحصول العلم به، ولذلك قرأ ابن عباس لعلم بفتح العين واللام: أي علامة وأما على القول بأنه للقرآن: فالمعنى أنه يعلمكم بالساعة وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ إنما بيّن البعض دون الكل، لأن الأنبياء إنما يبينون أمور الدين لا الدنيا، وقيل: بعض بمعنى كل وهذا ضعيف فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ ذكر في مريم هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أي ينتظرون، والضمير لقريش أو للأحزاب الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ الأخلاء: جمع خليل وهو الصديق، وإنما يعادي الخليل خليله يوم القيامة، لأن الضرر دخل عليه من صحبته، ولذلك استثنى المتقين، لأن النفع دخل على بعضهم من بعض يا عِبادِ «1» الآية. تقديره: يقول الله يوم القيامة للمتقين يا عبادي، لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون تُحْبَرُونَ أي تنعمون وتسرون وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ أي يائسون من الخير وَنادَوْا يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ المعنى أنهم طلبوا الموت ليستريحوا من العذاب، وروي أن مالكا يبقى بعد ذلك ألف سنة، وحينئذ يقول لهم: إنكم ماكثون أي دائمون في النار لَقَدْ جِئْناكُمْ بِالْحَقِّ الآية من كلام الله تعالى لأهل النار، أو من كلام الله لقريش في الدنيا أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ الضمير لكفار قريش، والمعنى أنهم إن أحكموا كيد النبي صلى الله عليه وسلم فإنا محكمون نصره وحمايته أَمْ يَحْسَبُونَ الآية: روي أنها نزلت في

_ (1) . يا عبادي: قرأها أهل المدينة (نافع) والشام بإثبات الياء وصلا ووقفا. وحذفها أهل مكة والكوفة في الحالين.

الأخنس بن شريق والأسود بن عبد يغوث اجتمعا وقال الأخنس: أترى الله يسمع سرنا، فقال الآخر: يسمع نجوانا ولا يسمع سرنا سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ السرّ ما يحدث الإنسان به نفسه أو غيره في خفية، والنجوى: ما تكلموا به فيما بينهم بَلى أي نسمع ورسلنا مع ذلك تكتب ما يقولون، والرسل هنا الملائكة الحافظون للأعمال. قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ في تأويل الآية أربعة أقوال: الأول أنها احتجاج وردّ على الكفار، على تقدير قولهم، ومعناها لو كان للرحمن ولد كما يقول الكفار لكنت أنا أول من يعبد ذلك الولد كما يعظم خدم الملك ولد الملك لتعظيم والده، ولكن ليس للرحمن ولد، فلست بعابد إلا الله وحده، وهذا نوع من الأدلة يسمى دليل التلازم لأنه علق عبادة الولد بوجوده، ووجوده محال فعبادته محال، القول الثاني إن كان للرحمن ولد فأنا أول من عبد الله وحده، وكذبكم في قولكم أن له ولدا، والعابدين على هذين القولين بمعنى العبادة، القول الثالث أن العابدين بمعنى المنكرين: يقال عبد الرجل إذا أنف وتكبر وأنكر الشيء، والمعنى: إن زعمتم أن للرحمن ولدا فأنا أول المنكرين لذلك، وإن على هذه الأقوال الثلاثة شرطية، القول الرابع قال قتادة وابن زيد: إن هنا نافية بمعنى ما كان للرحمن ولد وتم الكلام، ثم ابتدأ قوله فأنا أول العابدين، والأول هو الصحيح لأنه طريقة معروفة في البراهين والأدلة، وهو الذي عوّل عليه الزمخشري، وقال الطبري: هو ملاطفة الخطاب ونحوه قوله تعالى وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [سبأ: 24] وقال ابن عطية منه قوله تعالى في مخاطبة الكفار أَيْنَ شُرَكائِيَ [النحل: 27] يعني شركائي على قولكم فَذَرْهُمْ الآية موادعة منسوخة بالسيف. وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ أي هو الإله لأهل الأرض وأهل السماء، والمجرور يتعلق بإله، لأن فيه معنى الوصفية وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ أي علم زمان وقوعها وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفاعَةَ أي لا يملك كل من عبد من دون الله أن يشفع عند الله، لأن الله لا يشفع أحد عنده إلا بإذنه فهو المالك للشفاعة وحده إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ اختلف هل يعني بمن شهد بالحق الشافع أو المشفوع فيه، فإن أراد المشفوع فيه فالاستثناء منقطع، والمعنى لا يملك المعبودون شفاعة لكن من شهد بالحق وهو عالم به فهو الذي يشفع فيه، ويحتمل على هذا أن يكون من شهد مفعولا بالشفاعة على إسقاط حرف الجر تقديره: الشفاعة فيمن شهد بالحق، وإن أراد بمن شهد

[سورة الزخرف (43) : الآيات 87 إلى 89]

بالحق الشافع فيحتمل أن يكون الاستثناء منقطعا وأن يكون متصلا إلا فيمن عبد عيسى والملائكة، والمعنى على هذا لا يملك المعبودون شفاعة إلا من شهد بالحق وَقِيلِهِ يا رَبِّ إِنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ القيل مصدر كالقول، والضمير يعود على النبي صلى الله عليه وسلم، وقرئ قيله بالنصب والخفض «1» وقرئ في غير السبع بالرفع، فأما النصب فقيل هو معطوف على سرهم ونجواهم، وقيل: هو معطوف على موضع الساعة لأنها مفعول أضيف إلى المصدر وقيل: معطوف على مفعول محذوف تقديره: يكتبون أقوالهم وقيله، وأما الخفض فقيل: إنه معطوف على لفظ الساعة، ويحتمل أن يكون معطوفا على قوله بالحق، وأما على الرفع فقيل: إنه مبتدأ وخبره ما بعده، وضعّف الزمخشري ذلك كله وقال: إنه من باب القسم فالنصب والخفض على إضمار حرف القسم كقولك: الله لأضربنّ زيدا والرفع كقولهم: أيمن الله ولعمرك، وجواب القسم قوله: إن هؤلاء قوم لا يؤمنون كأنه قال: أقسم بقيله أن هؤلاء قوم لا يؤمنون فَاصْفَحْ عَنْهُمْ منسوخ بالسيف وَقُلْ سَلامٌ تقديره أمري سلام: أي مسالمة، وقيل سلام عليكم على جهة الموادعة وهو منسوخ على الوجهين فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ «2» تهديد.

_ (1) . قرأ عاصم وحمزة: وقيله: بكسر اللام، وقرأ الباقون: وقيله بالنصب. (2) . قرأ نافع وابن عامر: تعلمون بالتاء وقرأ الباقون: يعلمون بالياء.

سورة الدخان

سورة الدخان مكية وآياتها 59 نزلت بعد الزخرف بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (سورة الدخان) وَالْكِتابِ الْمُبِينِ ذكر في الزخرف وهو قسم جوابه إنا أنزلناه، وقيل إنا كنا منذرين وهو بعيد إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ يعني ليلة القدر من رمضان، وكيفية إنزاله فيها أنه أنزل إلى السماء الدنيا جملة واحدة، ثم نزل به جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم شيئا بعد شيء، وقيل: معناه أنه ابتدأ إنزاله في ليلة القدر، وقيل: يعني بالليلة المباركة ليلة النصف من شعبان وذلك باطل، لقوله: «إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ» مع قوله «شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ» [البقرة: 185] فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ معنى يفرق يفصل ويخلص، والأمر الحكيم أرزاق العباد وآجالهم، وجميع أمورهم في ذلك العام نسخ من اللوح المحفوظ في ليلة القدر، ليتمثل الملائكة ذلك بطول السنة القابلة، وقيل: إن هذا يكون ليلة النصف من شعبان وهذا باطل لما قدمنا أَمْراً مِنْ عِنْدِنا مفعول بفعل مضمر على الاختصاص قاله الزمخشري، وقال ابن عطية نصب على المصدر، وقيل: على الحال مُرْسِلِينَ إرسال الرسل عليهم السلام، وقيل من إرسال الرحمة والأول أظهر «1» . فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ في هذا قولان أحدهما قول علي بن أبي طالب وابن عباس أن الدخان يكون قبل يوم القيامة يصيب المؤمن منه مثل الزكام، وينضج رؤوس الكافرين والمنافقين وهو من أشراط الساعة، وروى حذيفة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن أول أشراط الساعة الدخان، والثاني: قول ابن مسعود إن الدخان عبارة عما أصاب قريشا حين دعا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجدب، فكان الرجل يرى دخانا بينه وبين السماء من

_ (1) . الآية [7] : ربّ السموات والأرض: قرأ عاصم وحمزة والكسائي: ربّ بالكسر والباقون: بالضم.

[سورة الدخان (44) : الآيات 11 إلى 29]

شدّة الجوع. قال ابن مسعود: خمس قد مضين الدخان واللزام والبطشة والقمر والردم هذا عَذابٌ أَلِيمٌ يحتمل أن يكون من كلام الله تعالى، أو من قول الناس لما أصابهم الدخان، وهذا أظهر لأن ما بعده من كلامهم باتفاق فيكون الكلام متناسقا أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى هذا من كلام الله تعالى، ومعناه استبعاد تذكير الكفار مع تكذيبهم للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، والواو في قوله: وقد جاءهم واو الحال رَسُولٌ مُبِينٌ يعني محمدا صلى الله عليه وسلم وَقالُوا مُعَلَّمٌ أي يعلمه بشر الْبَطْشَةَ الْكُبْرى قال ابن عباس: هي يوم القيامة، وقال ابن مسعود: هي يوم بدر. رَسُولٌ كَرِيمٌ يعني موسى عليه السلام أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبادَ اللَّهِ أن هنا مفسرة نائب مناب القول، وأدّوا فعل أمر من الأداء وعباد الله مفعول به وهم بنو إسرائيل، والمعنى أرسلوا بني إسرائيل كما قال في طه «أرسل معنا بني إسرائيل» وقيل: عباد الله منادى، والمعنى أدّوا إليّ الطاعة والإيمان يا عباد الله، والأول أظهر وَأَنْ لا تَعْلُوا أي لا تتكبروا بِسُلْطانٍ أي حجة وبرهان أَنْ تَرْجُمُونِ اختلف هل معناه الرجم بالحجارة أو السب والأول أظهر فَاعْتَزِلُونِ أي اتركون وخلوا سبيلي فَأَسْرِ بِعِبادِي هذا أمر من الله لموسى عليه السلام، والعباد هنا بنو إسرائيل أي أخرج بهم بالليل إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ إخبار أن فرعون وجنوده يتبعونهم وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً أي ساكنا على هيئته وقيل: يابسا وروي أن موسى لما جاوز البحر أراد أن يضربه بعصاه فينطبق كما ضربه فانفلق، فقال الله له: اتركه كما هو ليدخله فرعون وقومه فيغرقوا فيه، وقيل: معنى رهوا سهلا، وقيل: منفرجا وَعُيُونٍ يحتمل أن يريد الخلجان الخارجة من النيل، وكانت ثم عيون في ذلك الزمان، وقيل يعني الذهب والفضة وهو بعيد وَمَقامٍ كَرِيمٍ فيه قولان المنابر والمساكن الحسان وَنَعْمَةٍ من التنعم بالأرزاق وغيرها فاكِهِينَ أي متنعمين، وقيل: فرحين وقيل: أصحاب فاكهة كَذلِكَ في موضع نصب أي مثل ذلك الإخراج أخرجناهم، أو في موضع رفع تقديره: الأمر كذلك وَأَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِينَ يعني بني إسرائيل حكاه الزمخشري والماوردي، وضعفه ابن عطية قال: لأنه لم يرو في مشهور التواريخ أن بني إسرائيل رجعوا

[سورة الدخان (44) : الآيات 30 إلى 44]

إلى مصر في ذلك الزمان «1» ، وقد قال الحسن إنهم رجعوا إليها، ويدل على أن المراد بنو إسرائيل قوله في الشعراء: وَأَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ [الشعراء: 59] فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ فيه ثلاثة أقوال: الأول أنه عبارة عن تحقيرهم، وذلك أنه إذا مات رجل خطير قالت العرب في تعظيمه: بكت عليه السماء والأرض على وجه المجاز والمبالغة، فالمعنى أن هؤلاء ليسوا كذلك لأنهم أحقر من أن يبالى بهم. الثاني قيل: إذا مات المؤمن بكى عليه من الأرض موضع عبادته، ومن السماء موضع صعود عمله، فالمعنى أن هؤلاء ليسوا كذلك لأنهم كفار، أو ليس لهم عمل صالح: الثالث أن المعنى ما بكى عليهم أهل السماء ولا أهل الأرض، والأوّل أفصح وهو منزع معروف في كلام العرب وَما كانُوا مُنْظَرِينَ أي مؤخرين مِنْ فِرْعَوْنَ بدل من العذاب عالِياً أي متكبرا اخْتَرْناهُمْ عَلى عِلْمٍ أي كنا عالمين بأنهم مستحقون لذلك عَلَى الْعالَمِينَ أي على أهل زمانهم بَلؤُا مُبِينٌ أي اختبار. إِنَّ هؤُلاءِ يعني كفار قريش فَأْتُوا بِآبائِنا خاطبت قريش بذلك النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه على وجه التعجيز، روي أنهم طلبوا أن يحيي لهم قصي بن كلاب يسألوه عن أحوال الآخرة أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ كان تبع ملك من حمير وكان مؤمنا وقومه كفارا، فذم قومه ولم يذمه، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ما أدري أكان تبع نبيا أو غير نبيّ، ومعنى الآية: أقريش أشدّ وأقوى أم قوم تبع والذين من قبلهم من الكفار، وقد أهلكنا قوم تبع وغيرهم لما كفروا فكذلك نهلك هؤلاء، فمقصود الكلام تهديد وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ عطف على قوم تبع: وقيل هو مبتدأ فيوقف على ما قبله والأول أصح لاعِبِينَ حال منفية ذكرت في الأنبياء يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى المولى هنا يعم الولي والقريب وغير ذلك من الموالي إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ استثناء منقطع إن أراد بقوله ولا هم ينصرون الكفار، ومتصل إن أراد بذلك جميع الناس طَعامُ الْأَثِيمِ أي الفاجر وهو من الإثم، وقيل: يعني أبا جهل

_ (1) . قلت: الثابت أن موسى ومن معه ظلوا في التيه 40 سنة ثم من بقي منهم دخلوا الأرض المقدسة وأما قوم فرعون فقد قام في مصر سلالة أخرى. والله أعلم.

[سورة الدخان (44) : الآيات 45 إلى 59]

فالألف واللام للعهد، والأظهر أنها للجنس فتعم أبا جهل وغيره كَالْمُهْلِ «1» هو درديّ الزيت، وقيل ما يذاب من الرصاص وغيره فَاعْتِلُوهُ أي سوقوه بتعنيف ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذابِ الْحَمِيمِ المصبوب في الحقيقة إنما هو الحميم وهو الماء الحار، ولكن جعل المصبوب هنا العذاب المضاف إلى الحميم مجازا لأن ذلك أبلغ وأشد تهويلا، وقد جاء الأصل في قوله في الحج [19] يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ يقال هذا للكافر على وجه التوبيخ والتهكم به، أي كنت العزيز الكريم عند نفسك، وروي أن أبا جهل قال: ما بين جبليها أعز مني ولا أكرم. فنزلت الآية تَمْتَرُونَ تفتعلون من المرية وهو الشك. فِي مَقامٍ أَمِينٍ قرأ نافع وابن عامر بضم الميم أي موضع إقامة، والباقون بفتحها أي موضع قيام والمراد به الجنة، والأمين من الأمن أي مأمون فيه، وقيل: من الأمنة وصف به المكان مجازا مِنْ سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ السندس الرقيق من الديباج والإستبرق الغليظ منه كَذلِكَ في موضع رفع أي الأمر كذلك، أو في موضع نصب أي مثل ذلك زوّجناهم يَدْعُونَ فِيها أي يدعون خدامهم إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى استثناء منقطع، والمعنى لا يذوقون فيها الموت: قد ذاقوا الموتة الأولى خاصة قبل ذلك، ولولا قوله فيها لكان متصلا لعموم لفظ الموت، وقيل: إلا هنا بمعنى بعد وذلك ضعيف يَسَّرْناهُ أي سهلناه والضمير للقرآن بِلِسانِكَ أي بلغتك وهي لسان العرب فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ أي ارتقب نصرنا لك وإهلاكهم، فإنهم مرتقبون ضدّ ذلك، ففيه وعد له ووعيد لهم.

_ (1) . كالمهل يغلي: قرأ ابن كثير وحفص بالياء والباقون: تغلي بالتاء.

سورة الجاثية

سورة الجاثية مكية إلا آية 14 فمدنية وآياتها 37 نزلت بعد الدخان بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (سورة الجاثية) تَنْزِيلُ ذكر في الزمر، وما بعد ذلك تنبيه على الاعتبار بالموجودات، وقد ذكر معناه في مواضع وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ الأفاك مبالغة من الإفك وهو الكذب، والأثيم من الإثم، وقيل: إنها نزلت في النضر بن الحارث ولفظها على العموم يُصِرُّ أي يدوم على حاله من الكفر، وإنما عطفه بثم لاستعظام الإصرار على الكفر، بعد سماعه آيات الله، واستبعاد ذلك في العقل والطبع وَإِذا عَلِمَ مِنْ آياتِنا أي إذا بلغه منها شيء، ولم يرد العلم الحقيقي مِنْ وَرائِهِمْ جَهَنَّمُ كقوله مِنْ وَرائِهِ عَذابٌ غَلِيظٌ، وقد ذكر في إبراهيم: 17 وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ يعني الشمس والقمر والملائكة وبني آدم والحيوانات والنبات وغير ذلك جَمِيعاً مِنْهُ أي كل نعمة فمن الله تعالى، والمجرور في موضع الحال أو خبر ابتداء مضمر، وقرأ ابن عباس: منه «1» قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ أمر الله المؤمنين أن يتجاوزوا عن الكفار، ولا يؤاخذوهم إذا آذوهم، وكان ذلك في صدر الإسلام، قيل: إنها منسوخة بالسيف، «2»

_ (1) . قراءة ابن عباس: منه وبمراجعتها في الطبري لم يتضح المراد ولعلّها: منّه أي عطاؤه. (2) . رجز أليم: قرأ ابن كثير وحفص: رجز أليم وقرأ الباقون: رجز أليم كما في سورة [سبأ: 5] .

[سورة الجاثية (45) : الآيات 15 إلى 21]

وقيل: ليست بمنسوخة، لأن احتمال الأذى مندوب إليه على كل حال، وأما القتال على الإسلام فليس من ذلك، وروي: أن الآية نزلت في عمر بن الخطاب شتمه رجل من الكفار فأراد عمر أن يبطش به، وأيام الله هي نعمه، فالرجاء على أصله، وقيل: أيام الله عبارة عن عقابه، فالرجاء بمعنى الخوف ويغفروا مجزوم في جواب شرط مقدر دل عليه قل، قال الزمخشري حذف معمول القول، والمعنى: قل لهم اغفروا يغفروا لِيَجْزِيَ قَوْماً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ فاعل يجزي ضمير يعود على الله، وقرئ «1» بنون المتكلم، وقال ابن عطية إن الآية وعيد، فالقوم على هذا هم الذين لا يرجون أيام الله ويكسبون يعني السيئات، وقال الزمخشري: القوم هم الذين آمنوا وجزاؤهم الثواب بما كانوا يكسبون بكظم الغيظ واحتمال المكروه عَلَى الْعالَمِينَ ذكر في البقرة: 47 بَيِّناتٍ مِنَ الْأَمْرِ أي معجزات من أمر الدين جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ أي ملة ودين. أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا أم هنا للإنكار، واجترحوا اكتسبوا، والمراد بالذين اجترحوا السيئات الكفار لمقابلته بالذين آمنوا، ولأن الآية مكية: وقد يتناول لفظها المذنبين من المؤمنين، ولذلك يذكر أن الفضيل بن عياض قرأها بالليل فما زال يردّدها ويبكي طول الليل، ويقول لنفسه: من أي الفريقين أنت؟ ومعناها: إنكار ما حسبه الكفار من أن يكونوا هم والمؤمنون سواء في المحيا والممات، وفي تأويلها مع ذلك قولان: أحدهما أن المراد ليس المؤمنون سواء مع الكفار، لا في المحيا ولا في الممات، فإن المؤمنين عاشوا على التقوى والطاعة، والكفار عاشوا على الكفر والمعصية وكذلك ملتهم ليست سواء، والقول الآخر أنهم استووا في المحيا في أمور الدنيا من الصحة والرزق فلا يستوون في الممات، بل يسعد المؤمنون ويشقى الكافرون، فالمراد بها إثبات الجزاء في الآخرة، وتفضيل المؤمنين على الكافرين في الآخرة، وهذا المعنى هو الأظهر والأرجح فيكون معنى الآية كقوله: أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ [القلم: 35] وكقوله: أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ [ص: 28] سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ هذه الجملة بدل من الكاف في قوله: حسبه الكفار من أن يكونوا هم والمؤمنون سواء في المحيا والممات، وفي تأويلها مع ذلك قولان: أحدهما أن المراد ليس المؤمنون سواء مع الكفار، لا في المحيا ولا في الممات، فإن المؤمنين عاشوا على التقوى والطاعة، والكفار عاشوا على الكفر والمعصية وكذلك ملتهم ليست سواء، والقول الآخر أنهم استووا في المحيا في أمور الدنيا من الصحة والرزق فلا يستوون في الممات، بل يسعد المؤمنون ويشقى الكافرون، فالمراد بها إثبات الجزاء في الآخرة، وتفضيل المؤمنين على الكافرين في الآخرة، وهذا المعنى هو الأظهر والأرجح فيكون معنى الآية كقوله: أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ [القلم: 35] وكقوله: أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ [ص: 28] سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ هذه الجملة بدل من الكاف في قوله: كَالَّذِينَ آمَنُوا وهي مفسرة للتشبيه، وهي داخلة فيما أنكره الله مما حسبه الكفار، وقيل:

_ (1) . قرأ ابن عامر وحمزة والكسائي: لنجزي قوما وقرأ الباقون: ليجزي.

[سورة الجاثية (45) : الآيات 22 إلى 27]

هي كلام مستأنف والمعنى على هذا أن محيا المؤمنين ومماتهم سواء وأن محيا الكفار ومماتهم سواء لأن كل واحد يموت على ما عاش عليه، وهذا المعنى بعيد، والصحيح أنها من تمام ما قبلها على المعنى الذي اخترناه، وأما إعرابها فمن قرأ سواء بالرفع فهو مبتدأ وخبره محياهم ومماتهم، والجملة بدل من الجار والمجرور الواقع مفعولا ثانيا لنجعل، ومن قرأ سواء «1» بالنصب فهو حال أو مفعول ثان لنجعل، ومحياهم فاعل بسواء، لأنه في معنى مستوى ساءَ ما يَحْكُمُونَ أي ساء حكمهم في تسويتهم بين أنفسهم وبين المؤمنين لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ معطوف على قوله بالحق، لأن فيه معنى التعليل، أو على تعليل محذوف تقديره: خلق الله السموات والأرض ليدل بهما على قدرته ولتجزى كل نفس بما كسبت. اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ أي أطاعه حتى صار له كالإله وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلى عِلْمٍ أي علم من الله سابق، وقيل: على علم من هذا الضال بأنه على ضلال، ولكنه يتبع الضلال معاندة خَتَمَ ذكر في البقرة [7] فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ قال ابن عطية: فيه حذف مضاف تقديره: من بعد إضلال الله إياه، ويحتمل أن يريد فمن يهديه غير الله وَقالُوا الضمير لمن اتخذ إلهه هواه أو لقريش نَمُوتُ وَنَحْيا فيه أربع تأويلات: أحدها أنهم أرادوا يموت قوم ويحيا قوم، والآخر نموت نحن ويحيا أولادنا، الثالث نموت حين كنا عدما أو نطفا، ونحيا في الدنيا، والرابع نموت الموت المعروف، ونحيا قبله في الدنيا فوقع في اللفظ تقديم وتأخير، ومقصودهم على كل وجه إنكار الآخرة، ويظهر أنهم كانوا على مذهب الدهرية [الملاحدة] لقولهم: وما يهلكنا إلا الدهر «2» ، فردّ الله عليهم بقوله: وما لهم بذلك من علم الآية قالُوا ائْتُوا بِآبائِنا ذكر في الدخان [36] قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ الآية: ردّ على المنكرين للحشر والاستدلال على وقوعه بقدرة الله تعالى على الإحياء والإماتة. وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً أي تجثو على الركب، وتلك هيئة الخائف الذليل

_ (1) . قرأ حمزة والكسائي وحفص بالنصب والباقون بالرفع. (2) . الدهر: باصطلاح الفلاسفة هو الزمان. وأما شرعا فقد ورد الحديث: لا تسبّوا الدهر فإن الله هو الدهر. رواه أحمد عن أبي هريرة ج 2 ص: 395 ويكون معنى الحديث: الله سبحانه هو خالق الزمان وكل ما يجري فيه.

كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا أي إلى صحائف أعمالها، وقيل: الكتاب المنزل عليها، والأول أرجح لقوله هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ الآية: فإن قيل: كيف أضاف الكتاب تارة إليهم وتارة إلى الله تعالى؟ فالجواب: أنه أضافه إليهم لأن أعمالهم ثابتة فيه، وأضافه إلى الله تعالى لأنه مالكه، وأنه هو الذي أمر الملائكة أن يكتبوه إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أي نأمر الملائكة الحافظين بكتب أعمالكم، وقيل: إن الله يأمر الحفظة أن تنسخ أعمال العباد من اللوح المحفوظ، ثم يمسكونه عندهم فتأتي أفعال العباد على ذلك فتكتبها الملائكة، فذلك هو الاستنساخ وكان ابن عباس يحتج على ذلك بأن يقول: لا يكون الاستنساخ إلا من أصل أَفَلَمْ تَكُنْ تقديره: يقال لهم ذلك وَحاقَ ذكر مرارا الْيَوْمَ نَنْساكُمْ النسيان هنا بمعنى الترك، وأما في قوله: كما نسيتم فيحتمل أن يكون بمعنى الترك أو الذهول وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ من العتبى وهي الرضا.

سورة الأحقاف

سورة الأحقاف مكية إلا الآيات 10، 15، 35 فمدنية وآياتها 35 نزلت بعد الجاثية بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (سورة الأحقاف) تَنْزِيلُ ذكر في الزمر إِلَّا بِالْحَقِّ ذكر مرارا وَأَجَلٍ مُسَمًّى يعني يوم القيامة أَرُونِي ماذا خَلَقُوا احتجاج على التوحيد وردّ على المشركين، فالأمر بمعنى التعجيز شِرْكٌ فِي السَّماواتِ أي نصيب ائْتُونِي بِكِتابٍ تعجيز لأنهم ليس لهم كتاب يدل على الإشراك بالله، بل الكتب كلها ناطقة بالتوحيد أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ أي بقية من علم قديم يدل على ما يقولون، وقيل: معناه من علم تثيرونه أي تستخرجونه، وقيل: هو الإسناد، وقيل: هو الخط في الرمل، وكانت العرب تتكهن به، وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: كان نبي من الأنبياء يخط في الرمل فمن وافق خطه فذاك «1» وَمَنْ أَضَلُّ الآية. معناها لا أحد أضل ممن يدعو إلها لا يستجيب له، وهي الأصنام فإنها لا تسمع ولا تعقل، ولذلك وصفها بالغفلة عن دعائهم، لأنها لا تسمعه وَإِذا حُشِرَ النَّاسُ كانُوا لَهُمْ أَعْداءً أي كان الأصنام أعداء للذين عبدوها وَكانُوا بِعِبادَتِهِمْ كافِرِينَ الضمير في كانوا للأصنام: أي تتبرأ الأصنام من الذين عبدوها، وإنما ذكر الأصنام بضمائر مثل ضمائر العقلاء لأنه أسند إليهم ما يسند إلى العقلاء، من الاستجابة والغفلة والعداوة قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أي: لو افتريته لعاقبني الله على الافتراء عقوبة لا تقدرون على دفعها، ولا تملكون شيئا من ردّها عليه، فكيف أفتريه وأتعرض لعقاب الله هُوَ أَعْلَمُ بِما تُفِيضُونَ فِيهِ أي بما تتكلمون به، يقال: أفاض الرجل في الحديث إذا خاض فيه واستمر قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ

_ (1) . رواه أحمد عن أبي هريرة ومعاوية بن الحكم السلمي ج 5 ص 447.

البدع والبديع من الأشياء: ما لم ير مثله أي ما كنت أول رسول، ولا جئت بأمر لم يجيء به أحد قبلي، بل جئت بما جاء به ناس كثيرون قبلي، فلأي شيء تنكرون ذلك وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ فيها أربعة أقوال: الأوّل أنها في أمر الآخرة وكان ذلك قبل أن يعلم أنه في الجنة، وقبل أن يعلم أن المؤمنين في الجنة وأن الكفار في النار، وهذا بعيد، لأنه لم يزل يعلم ذلك من أول ما بعثه الله والثاني أنها في أمر الدنيا: أي لا أدري بما يقضي الله عليّ وعليكم، فإن مقادير الله مغيبة وهذا هو الأظهر. الثالث ما أدري ما يفعل بي ولا بكم من الأوامر والنواهي وما تلزمه الشريعة. الرابع أن هذا كان في الهجرة إذ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد رأى في المنام أنه يهاجر إلى أرض بها نخل، فقلق المسلمون لتأخير ذلك فنزلت هذه الآية قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ معنى الآية: أرأيتم إن كان القرآن من عند الله وكفرتم به ألستم ظالمين؟ ثم حذف قوله ألستم ظالمين وهو الجواب، لأنه دل على أن الله لا يهدي القوم الظالمين وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ هذه الجملة معطوفة على الجملة التي قبلها، فالمعنى: أرأيتم إن اجتمع كون القرآن من عند الله، مع شهادة شاهد من بني إسرائيل على مثله، ثم آمن به هذا الشاهد وكفرتم أنتم، ألستم أضل الناس وأظلم الناس؟ واختلف في الشاهد المذكور على ثلاثة أقوال: أحدها أنه عبد الله بن سلام، فقيل على هذا إن الآية مدنية، لأنه إنما أسلم بالمدينة، وقيل إنها مكية وأخبر بشهادته قبل وقوعها ثم وقعت على حسب ما أخبر، وكان عبد الله بن سلام يقول فيّ نزلت الآية، الثاني أنه رجل من بني إسرائيل كان بمكة: الثالث أنه موسى عليه السلام ورجّح ذلك الطبري. والضمير في مثله للقرآن أي يشهد على مثله فيما جاء به من التوحيد والوعد والوعيد، والضمير في آمن للشاهد فإن كان عبد الله بن سلام أو الرجل الآخر فإيمانه بيّن، وإن كان موسى عليه السلام، فإيمانه هو تصديقه بأمر محمد صلى الله عليه وسلم وتبشيره به. وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ أي لو كان الإسلام خيرا ما سبقنا إليه هؤلاء، والقائلون لهذه المقالة هم أكابر قريش لما أسلم الضعفاء كبلال وعمار وصهيب وقيل بل قالها كنانة وقبائل من العرب لما أسلمت غفار ومزينة وجهينة، وقيل: بل قالها اليهود لما أسلم عبد الله بن سلام، والأول أرجح لأن الآية مكية، وكانت مقالة قريش بمكة. وأما مقالة الآخرين فإنما كانت بعد الهجرة، ومعنى الذين آمنوا من أجل الذين آمنوا: أي قالوا ذلك عنهم في غيبتهم، وليس المعنى أنهم خاطبوهم بهذا الكلام، لأنه لو كان خطابا لقالوا ما سبقتمونا وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ أي لما لم يهتدوا قالوا هذا إفك قديم ونحو هذا ما جاء في المثل: من جهل شيئا عاداه، ووصفه

[سورة الأحقاف (46) : الآيات 12 إلى 15]

بالقدم لأنه قد قيل قديما، فإن قيل: كيف تعمل فسيقولون في إذ وهي للماضي والعامل مستقبل؟ فالجواب: أن العامل في إذ محذوف تقديره إذ لم يهتدوا به ظهر عنادهم فسيقولون، قال ذلك الزمخشري، ويظهر لي أن إذ هنا بمعنى التعليل لا ظرفية بمعنى الماضي فلا يلزم السؤال، والمعنى أنهم قالوا: هذا إفك بسبب أنهم لم يهتدوا به، وقد جاءت إذ بمعنى التعليل في القرآن وفي كلام العرب، ومنه وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ [الزخرف: 39] أي بسبب ظلمكم وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً الضمير في قبله للقرآن وكتاب موسى هو التوراة، وإماما حال، ومعناه: يقتدى به وَهذا كِتابٌ مُصَدِّقٌ لِساناً عَرَبِيًّا «1» الإشارة بهذا إلى القرآن، ومعنى مصدق مصدق بما قبله من الكتب، وقد ذكرنا ذلك في البقرة [89] ولسان حال من الضمير في مصدق، وقيل: مفعول بمصدق أي صدق ذا لسان عربي وهو محمد صلى الله عليه وسلم، واختار هذا ابن عطية اسْتَقامُوا ذكر في حم [السجدة: 30] إِحْساناً «2» ذكر في العنكبوت [8] . حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً أي حملته بمشقة ووضعته بمشقة، ويقال كره بفتح الكاف وضمها بمعنى واحد «3» وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً أي مدة حمله ورضاعه ثلاثون شهرا، وهذا لا يكون إلا بأن ينقص من أحد الطرفين، وذلك إما أن يكون مدة الحمل ستة أشهر ومدة الرضاع حولين كاملين، أو تكون مدة الحمل تسعة أشهر ومدة الرضاع حولين غير ثلاثة أشهر، ومن هذا أخذ علي بن أبي طالب رضي الله عنه والعلماء أن أقل مدة الحمل ستة أشهر، وإنما عبّر عن مدة الرضاع بالفصال وهو الفطام لأنه منتهى الرضاع بَلَغَ أَشُدَّهُ ذكر في يوسف [22] وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً هذا حدّ كمال العقل والقوة، ويقال: إن الآية نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وقيل: إنها عامة فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ «4» أي في جملة

_ (1) . بقية الآية: لتنذر الذي ظلموا هكذا قرأها نافع وابن عامر بالتاء، والباقون: لينذر بالياء. [.....] (2) . قرأ عاصم وحمزة والكسائي: إحسانا وقرأ الباقون: حسنا. (3) . قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو: كرها بفتح الكاف وقرأ الباقون: كرها بضمها. (4) . الآية [16] قوله سبحانه: أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ ... وَنَتَجاوَزُ عَنْ. هكذا قرأها حمزة والكسائي وحفص وقرأها الباقون أولئك الذين يتقبل ... ويتجاوز عن بالياء.

[سورة الأحقاف (46) : الآيات 21 إلى 28]

أصحاب الجنة كما تقول: رأيت فلانا في الناس، أي مع الناس. وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما هي على الإطلاق فيمن كان على هذه الصفة من الكفر والعقوق لوالديه، ويدل على أنها عامة قوله تعالى أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ بصيغة الجمع، ولو أراد واحدا بعينه لقال ذلك الذي حق عليه القول، وقد ذكرنا معنى أف في الإسراء [23] أَتَعِدانِنِي أَنْ أُخْرَجَ أي أتعدانني أنا أن أخرج من القبر إلى البعث وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي أي وقد مضت قرون من الناس ولم يبعث منهم أحد وَهُما يَسْتَغِيثانِ اللَّهَ الضمير لوالديه أي يستغيثان بالله من كراهتهما لما يقول منهما ثم يقولان له: ويلك ثم يأمرانه بالإيمان: فيقول: ما هذا إلا أساطير الأولين: أي قد سطره الأولون في كتبهم، وذلك تكذيب بالبعث والشريعة. وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا «1» أي للمحسنين والمسيئين درجات في الآخرة بسبب أعمالهم، فدرجات أهل الجنة إلى علو، ودرجات أهل النار إلى سفل، وليوفيهم تعليل بفعل محذوف وبه يتعلق تقديره: جعل جزاءهم درجات ليوفيهم أعمالهم وَيَوْمَ يُعْرَضُ العامل فيه محذوف تقديره اذكر أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ تقديره يقال لهم: أذهبتم طيباتكم والطيبات هنا الملاذ من المآكل وغيرها وقرأ أكثر القراء أذهبتم بهمزة واحدة على الخبر، وابن عامر بهمزتين على التوبيخ، والآية في الكفار بدليل قوله: يعرض الذين كفروا وهي مع ذلك واعظة لأهل التقوى من المؤمنين، ولذلك قال عمر لجابر بن عبد الله وقد رآه اشترى لحما أما تخشى أن تكون من أهل هذه الآية عَذابَ الْهُونِ أي العذاب الذي يقترن به هوان. وَاذْكُرْ أَخا عادٍ يعني هودا عليه السلام بِالْأَحْقافِ جمع حقف وهو الكدس من الرمل، واختلف أين كانت فقيل بالشام، وقيل: بين عمان ومهرة وقيل: بين عمان وحضرموت، والصحيح أن بلاد عاد كانت باليمن وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ أي تقدمت من قبله ومن بعده، والنذر جمع نذير، فإن قيل: كيف يتصور تقدمها من بعده؟ فالجواب أن هذه الجملة اعتراض، وهي إخبار من الله تعالى أنه قد بعث رسلا متقدمين قبل هود وبعده،

_ (1) . قوله: وليوفيهم أعمالهم: قرأها ابن كثير وأبو عمرو وعاصم. وقرأها الباقون: لنوفيهم بالنون.

[سورة الأحقاف (46) : الآيات 29 إلى 35]

وقيل: معنى من خلفه في زمانه قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ أي قل: إن العذاب الذي قلتم ائتنا به ليس لي علم متى يكون، وإنما يعلمه الله، وما عليّ إلا أن أبلغكم ما أرسلت به فَلَمَّا رَأَوْهُ عارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ العارض السحاب الذي يعرض في أفق السماء، والضمير في رأوه يعود على ما تعدنا أو على المرئي المبهم الذي فسره قوله عارضا قال الزمخشري: وهذا أعرب وأفصح، وروي أنهم كانوا قد قحطوا مدّة، فلما رأوا هذا العارض ظنوا أنه مطر ففرحوا به فقال لهم هود عليه السلام: بل هو ما استعجلتم به من العذاب وقوله: ريح بدل من ما استعجلتم أو خبر ابتداء مضمر تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّها «1» عموم يراد به الخصوص وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ هذا خطاب لقريش على وجه التهديد أي مكنا عادا فيما لم نمكنكم فيه من القوة والأموال وغير ذلك، ثم أهلكنا لما كفروا وإن هنا نافية بمعنى ما، وعدل عن ما كراهية لاجتماعها مع التي قبلها، وقيل: إن شرطية، وجوابها محذوف تقديره: إن مكنّاكم فيه طغيتم، قال ابن عطية: وهذا تنطع في التأويل وَلَقَدْ أَهْلَكْنا ما حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرى يعني بلاد عاد وثمود وسبأ وغيرها، والمراد إهلاك أهلها فَلَوْلا نَصَرَهُمُ الآية عرض معناه النفي أي لم تنصرهم آلهتهم التي عبدوا من دون الله قُرْباناً أي تقربوا بهم إلى الله وقالوا هؤلاء شفعاؤنا عند الله، وانتصاب قربانا على الحال، ولا يصح أن يكون قربانا مفعولا ثانيا لاتخذوا وآلهة بدل منه لفساد المعنى، قاله الزمخشري، وقد أجازه ابن عطية بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ أي تلفوا لهم «2» وغابوا عن نصرهم حين احتاجوا إليهم. وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ أي أملناهم نحوك، والنفر دون العشرة، وروي أن الجن كانوا سبعة وكانوا كلهم ذكرانا، لأن النفر الرجال دون النساء، وكانوا من أهل نصيبين، وقيل من أهل الجزيرة «3» ، واختلف هل رآهم النبي صلى الله عليه وسلم؟ قيل: إنه لم يرهم، ولم

_ (1) . قوله فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم. هكذا قرأها عاصم وحمزة وقرأها الباقون: لا ترى إلا مساكنهم. (2) . كذا في المطبوعة ولعل ثمة خطأ وصحته: خذلوهم. أو ما أشبه والله أعلم. (3) . هي الجزيرة الفراتية وتقع في الزاوية الشرقية الشمالية من بلاد الشام على الحدود التركية الحالية.

يعلم باستماعهم حتى أعلمه الله بذلك، وقيل: بل علم بهم واستعد لهم واجتمع معهم، وقد ورد في ذلك عن عبد الله بن مسعود أحاديث مضطربة، وسبب استماع الجن أنهم لما طردوا من استراق السمع من السماء برجم النجوم قالوا: ما هذا إلا لأمر حدث، فطافوا بالأرض ينظرون ما أوجب ذلك، حتى سمعوا قراءة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في صلاة الفجر في سوق عكاظ، فاستمعوا إليه وآمنوا به أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى في هذا دلالة على أنهم كانوا على دين اليهود، وقيل: كانوا لم يعلموا ببعث عيسى مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ ذكر في البقرة [89] داعِيَ اللَّهِ هو رسول الله صلى الله عليه وسلم يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ من هنا للتبعيض على الأصح، أي يغفر لكم الذنوب التي فعلتم قبل الإسلام، وأما التي بعد الإسلام فهي في مشيئة الله، وقيل: معنى التبعيض أن المظالم لا تغفر وقيل: إن من زائدة وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ أي من النار، واختلف الناس هل للجن ثواب زائد على النجاة من النار، أم ليس لهم ثواب إلا النجاة خاصة وَمَنْ لا يُجِبْ داعِيَ اللَّهِ الآية: يحتمل أن يكون من كلام الجن، أو من كلام الله تعالى، ومعنى ليس بمعجز أي لا يفوت أَوَلَمْ يَرَوْا الآية: احتجاج على بعث الأجساد بخلق السموات والأرض وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ يقال: عييت بالأمر إذا لم تعرفه، فالمعنى أنه تعالى علم كيف خلق السموات والأرض، وأحكم خلقتها، فلا شك أنه قادر على إحياء الموتى بِقادِرٍ في موضع رفع لأنه خبر أن، وإنما دخلت الباء لاشتمال النفي في أول الآية على أن وخبرها بَلى جواب لما تقدم، أي هو قادر على أن يحي الموتى فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ هذا خطاب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم أي اصبر على تكذيب قومك وأولوا العزم هم، نوح وإبراهيم وعيسى وموسى، وقيل: هم الثمانية عشر المذكورون في سورة الأنعام لقوله: فبهداهم اقتده، وقيل: كل من لقي من أمته شدة، وقيل: الرسل كلهم أولوا عزم، فمن الرسل على هذا لبيان الجنس وعلى الأقوال المتقدمة للتبعيض وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ أي لا تستعجل نزول العذاب بهم، فإنهم صائرون إليه فإنهم إذا هلكوا كأنهم لم يلبثوا في الدنيا إلا ساعة من نهار لاستقصار أعمارهم بَلاغٌ خبر ابتداء مضمر تقديره: هذا الذي وعظتم به بلاغ بمعنى: كفاية في الموعظة، أو بلاغ من الرسول عليه الصلاة والسلام، أي بلغ هذه المواعظ والبراهين.

سورة محمد

سورة محمد مدنية الآية 13 فنزلتفي الطريق أثناء الهجرة وآياتها 38 نزلت بعد الهجرة بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ سورة محمد صلى الله عليه وسلم [وتسمى سورة القتال] الَّذِينَ كَفَرُوا يعني كفار قريش، وعموم اللفظ يعم كل كافر، كما أن قوله بعد هذا: والذين آمنوا يعني الصحابة، وعموم اللفظ يصلح لكل مؤمن وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ يحتمل أن يكون صدّوا بمعنى: أعرضوا فيكون غير متعد أو يكون بمعنى صدوا الناس فيكون متعديا، وسبيل الله: الإسلام والطاعة أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ أي أبطلها وأحبطها، وقيل: المراد بأعمالهم هنا ما أنفقوا في غزوة بدر فإن هذه الآية نزلت بعد بدر، واللفظ أعم من ذلك وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ هذا تجريد للاختصاص والاعتناء، بعد عموم قوله: آمنوا وعملوا الصالحات ولذلك أكده بالجملة الاعتراضية، وهو قوله: وهو الحق من ربهم وَأَصْلَحَ بالَهُمْ قيل: معناه أصلح حالهم وشأنهم، وحقيقة البال الخاطر الذي في القلب، وإذا صلح القلب صلح الجسد كله، فالمعنى: إصلاح دينهم بالإيمان والإخلاص والتقوى. فَضَرْبَ الرِّقابِ أصله فاضربوا الرقاب ضربا، ثم حذف الفعل وأقام المصدر مقامه، والمراد، اقتلوهم. ولكن عبّر عنه بضرب الرقاب، لأنه الغالب في صفة القتل حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ أي هزمتموهم، والإثخان أن يكثر فيهم القتل والأسر فَشُدُّوا الْوَثاقَ عبارة عن الأسر فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً المن: العتق، والفداء: فك الأسير بمال، وهما جائزان. فإن مذهب مالك أن الإمام مخيّر في الأسارى بين خمسة أشياء: وهي: المن والفداء والقتل والاسترقاق وضرب الجزية. وقيل: لا يجوز المنّ ولا الفداء لأن الآية منسوخة بقوله: اقتلوا المشركين فلا يجوز على هذا إلا قتلهم. والصحيح أنها محكمة وانتصب منّا وفداء على المصدرية، والعامل فيهما فعلان مضمران حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها الأوزار في اللغة:

الأثقال، فالمعنى حتى تذهب وتزول أثقالها، وهي آلاتها وقيل: الأوزار: الآثام، لأن الحرب لا بد أن يكون فيها إثم في أحد الجانبين، واختلف في الغاية المرادة هنا فقيل: حتى يسلموا جميعا فحينئذ تضع الحرب أوزارها وقيل: حتى تقتلوهم وتغلبوهم، وقيل: حتى ينزل عيسى ابن مريم: قال ابن عطية: ظاهر اللفظ أنها استعارة يراد بها التزام الأمر أبدا، كما تقول: أنا فاعل ذلك إلى يوم القيامة ذلِكَ تقديره: الأمر ذلك وَلَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ «1» أو لو شاء الله لأهلك الكفار بعذاب من عنده، ولكنه تعالى أراد اختبار المؤمنين، وأن يبلو بعض الناس ببعض عَرَّفَها لَهُمْ أي جعلهم يعرفون منازلهم فيها، فهو من المعرفة وقيل: معناه طيّبها لهم فهو من العرف وهو طيب الرائحة، وقيل: معناه شرّفها ورفعها، فهو من الأعراف التي هي الجبال فَتَعْساً لَهُمْ أي عثارا وهلاكا. وانتصابه على المصدرية، والعامل فيه فعل مضمر، وعلى هذا الفعل عطف وأضلّ أعمالهم وَلِلْكافِرِينَ أَمْثالُها أي لكفار قريش أمثال عاقبة الكفار المتقدمين من الدمار والهلاك. مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا أي وليهم وناصرهم، وكذلك وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ معناه: لا ناصر لهم، ولا يصح أن يكون المولى هنا بمعنى السيد، لأن الله مولى المؤمنين والكافرين بهذا المعنى ولا تعارض بين هذه الآية وبين قوله: وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ [الأنعام: 62] لأن معنى المولى مختلف في الموضعين فمعنى مولاهم الحق: ربهم وهذا على العموم في جميع الخلق بخلاف قوله: مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا فإنه خاص بالمؤمنين لأنه بمعنى الولي والناصر وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ عبارة عن كثرة أكلهم، وعن غفلتهم عن النظر كالبهائم مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ يعني مكة. وخروجه صلى الله عليه وآله وسلم من وقت الهجرة، ونسب الإخراج إلى القرية. والمراد أهلها، لأنهم آذوه حتى خرج أَهْلَكْناهُمْ الضمير للقرى المتقدمة المذكورة في قوله: وكأين من قرية وجمعه حملا على المعنى والمراد أهلكنا: أهلها أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ أي على حجة ويعني به النبي صلى الله عليه وآله وسلم، كما يعني قريشا بقوله: كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ واللفظ أعم من ذلك.

_ (1) . قوله تعالى: والذين قاتلوا في سبيل الله. قرأها أبو عمرو وحفص قتلوا. والباقون: قاتلوا.

[سورة محمد (47) : الآيات 15 إلى 19]

مَثَلُ الْجَنَّةِ ذكر في الرعد [35] غَيْرِ آسِنٍ أي غير متغير كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ تقديره: أمثل أهل الجنة المذكورة كمن هو خالد في النار؟ فحذف هذا على التقدير والمراد به النفي، وإنما حذف لدلالة التقدير المتقدم وهو قوله: أفمن كان على بينة من ربه وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ يعني المنافقين، وجاء يستمعون «1» بلفظ الجمع رعيا لمعنى من قالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ روي أنه عبد الله بن مسعود ماذا قالَ آنِفاً كانوا يقولون ذلك على أحد وجهين: إما احتقارا لكلامه، كأنهم قالوا: أي فائدة فيه، وإما جهلا منهم ونسيانا، لأنهم كانوا وقت كلامه معرضين عنه، وآنفا معناه الساعة الماضية قريبا، وأصله من: استأنفت الشيء إذا ابتدأته وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً يعني المؤمنين والضمير في زادهم لله تعالى أو للكلام الذي قال فيه المنافقون: ماذا قال آنفا. وقيل: يعني بالذين اهتدوا قوما من النصارى آمنوا بسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، فاهتداؤهم هو إيمانهم بعيسى وزيادة هداهم إسلامهم فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ الضمير للمنافقين، والمعنى هل ينتظرون إلا الساعة لأنها قريبة فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها أي علاماتها والذي كان قد جاء من ذلك مبعث سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، لأنه قال: أنا من أشراط الساعة، وبعثت أنا والساعة كهاتين «2» فَأَنَّى لَهُمْ إِذا جاءَتْهُمْ ذِكْراهُمْ أي كيف لهم الذكرى إذا جاءتهم الساعة بغتة؟ فلا يقدرون على عمل ولا تنفعهم التوبة، ففاعل جاءتهم الساعة، وذكراهم مبتدأ وخبره الاستفهام المتقدم، والمراد به الاستبعاد. فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ أي دم على العلم بذلك، واستدل بعضهم بهذه الآية على أن النظر والعلم قبل العمل، لأنه قدم قوله: فاعلم على قوله: واستغفر وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْواكُمْ قيل: متقلبكم تصرفكم في الدنيا، ومثواكم إقامتكم في القبور. وقيل: متقلبكم تصرفكم في اليقظة، ومثواكم منامكم لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ كان المؤمنون يقولون ذلك على وجه الحرص على نزول القرآن، والرغبة فيه لأنهم كانوا يفرحون به ويستوحشون من إبطائه مُحْكَمَةٌ يحتمل أن يريد بالمحكمة أي ليس فيها منسوخ، أو يراد متقنة، وقرأ ابن مسعود سورة محدثة رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ يعني المنافقين،

_ (1) . قوله: يستمعون: خلاف الآية: ومنهم من يستمع فلعل المؤلف وهم والله أعلم. (2) . قوله: بعثت أنا والساعة كهاتين رواه أحمد عن أنس وجابر بن سمرة ج 3 ص 237.

ونظرهم ذلك في شدّة الخوف من القتل لأن نظر الخائف قريب من نظر المغشي عليه فَأَوْلى لَهُمْ في معناه قولان: أحدهما أنه بمعنى أحق وخبره على هذا طاعة. والمعنى أن الطاعة والقول المعروف أولى لهم وأحق والآخر أن أولى لهم كلمة معناها التهديد والدعاء عليهم كقولك: ويل لهم ومنه: أولى لك فأولى، فيوقف على أولى لهم على هذا القول، ويكون طاعة ابتداء كلام، تقديره: طاعة وقول معروف أمثل، أو المطلوب منهم طاعة وقول معروف، وقولهم لك يا محمد طاعة وقول معروف بألسنتهم دون قلوبهم فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ أسند العزم إلى الأمر مجازا كقولك: نهاره صائم وليله قائم صَدَقُوا اللَّهَ يحتمل أن يريد صدق اللسان، أو صدق العزم والنية وهو أظهر. فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ هذا خطاب للمنافقين المذكورين خرج من الغيبة إلى الخطاب، ليكون أبلغ في التوبيخ والمعنى هل يتوقع منكم، إلّا فساد في الأرض وقطع الأرحام إن توليتم، ومعنى توليتم: صرتم ولاة على الناس وصار الأمر لكم، وعلى هذا قيل: إنها نزلت في بني أمية. وقيل: معناه أعرضتم عن الإسلام إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ نزلت في المنافقين الذين نافقوا بعد إسلامهم وقيل: نزلت في قوم من اليهود، كانوا قد عرفوا نبوة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم من التوراة ثم كفروا به سَوَّلَ لَهُمْ أي زيّن لهم ورجّاهم ومنّاهم ووَ أَمْلى لَهُمْ أي مدّ لهم في الأماني والآمال، والفاعل هو الشيطان وقيل: الله تعالى والأول أظهر، لتناسب الضمير بين الفاعلين، في سوّل وأملى سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ «1» قال ذلك اليهود للمنافقين، وبعض الأمر: يعنون به مخالفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومحاربته فَكَيْفَ إِذا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ أي كيف يكون حالهم إذا توفتهم الملائكة؟ يعني ملك الموت ومن معه، والفاء رابطة للكلام مع ما قبله. والمعنى: هذا جزعهم من ذكر القتال، فكيف يكون حالهم عند الموت؟ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ ضمير الفاعل للملائكة، وقيل: إنه للكفار أي يضربون وجوه أنفسهم وذلك ضعيف.

_ (1) . تتمة الآية: والله يعلم أسرارهم: قرأها حمزة والكسائي وحفص: إسرارهم بكسر الهمزة والباقون بالفتح.

[سورة محمد (47) : الآيات 29 إلى 35]

أَمْ حَسِبَ الآية: معناها ظن المنافقون أن لن يفضحهم الله. والضغن: الحقد، ويراد به هنا النفاق والبغض في الإسلام وأهله وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ أي لو نشاء لأريناك المنافقين بأعيانهم حتى تعرفهم بعلامتهم، ولكن الله ستر عليهم إبقاء عليهم وعلى أقاربهم من المسلمين، وروي أن الله لم يذكر واحدا منهم باسمه وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ معنى لحن القول مقصده وطريقته، وقيل: اللحن هو الخفي المعنى كالكناية والتعريض، والمعنى أنه صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم سيعرفهم من دلائل كلامهم، وإن لم يعرفه الله بهم على التعيين وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ أي نختبركم حَتَّى نَعْلَمَ أي نعلمه علما ظاهرا في الوجود تقوم به الحجة عليكم وقد علم الله الأشياء قبل كونها، ولكنه أراد إقامة الحجة على عباده بما يصدر منهم، وكان الفضيل بن عياض إذا قرأ هذه الآية بكى وقال: اللهم لا تبتلينا، فإنك إذا ابتليتنا فضحتنا وهتكت أستارنا وَشَاقُّوا الرَّسُولَ أي خالفوه وعادوه، ونزلت الآية في المنافقين وقيل: في اليهود. وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ يحتمل أربعة معان: أحدها لا تبطلوا أعمالكم بالكفر بعد الإيمان والثاني لا تبطلوا حسناتكم بفعل السيئات ذكره الزمخشري وهذا على مذهب المعتزلة، خلافا للأشعرية فإن مذهبهم أن السيئات لا تبطل الحسنات. والثالث لا تبطلوا أعمالكم بالرياء والعجب، والرابع لا تبطلوا أعمالكم بأن تقتطعوها قبل تمامها، وعلى هذا أخذ الفقهاء الآية: وبهذا يستدلون على أن من ابتدأ نافلة لم يجز له قطعها، وهذا أبعد هذه المعاني، والأول أظهر لقوله قبل ذلك في الكفار أو المنافقين، وسيحبط أعمالهم فكأنه يقول: يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا أعمالكم مثل هؤلاء الذين أحبط الله أعمالهم بكفرهم وصدهم عن سبيل الله ومشاقتهم الرسول فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ هذا قطع بأن من مات على الكفر لا يغفر الله له، وقد أجمع المسلمون على ذلك فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ «1» أي لا تضعفوا عن مقاتلة الكفار وتبتدئوهم بالصلح، هو كقوله: وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها [الأنفال: 61] وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ أي لن ينقصكم أجور أعمالكم، يقال: وترت

_ (1) . قوله: السّلم: قرأها أبو بكر وحمزة: السّلم بكسر السين والباقون بالفتح. وهما لغتان.

[سورة محمد (47) : الآيات 36 إلى 38]

الرجل أتره إذا نقصته شيئا، أو أذهبت له متاعا وَلا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ أي لا يسألكم جميعها إنما يسألكم ما يخفّ عليكم مثل ربع العشر وذلك خفيف إِنْ يَسْئَلْكُمُوها فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا معنى يحفكم يلح عليكم، والإحفاء أشد السؤال وتبخلوا جواب الشرط وَيُخْرِجْ أَضْغانَكُمْ الفاعل الله تعالى أو البخل، والمعنى يخرج ما في قلوبكم من البخل وكراهة الإنفاق هؤُلاءِ منصوب على التخصيص أو منادى لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ يعني الجهاد والزكاة وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ أي إنما ضرر بخله على نفسه فكأنه بخل على نفسه بالثواب الذي يستحقه بالإنفاق وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ أي يأت بقوم على خلاف صفتكم، بل راغبين في الإنفاق في سبيل الله، فقيل إن هذا الخطاب لقريش، والقوم غيرهم هم الأنصار وهذا ضعيف لأن الآية مدنية نزلت والأنصار حاضرون، وقيل: الخطاب لكل من كان حينئذ بالمدينة، والقوم هم أهل اليمن وقيل فارس.

سورة الفتح

سورة الفتح مدنية نزلت في الطريق عند الانصراف من الحديبية وآياتها 29 نزلت بعد الجمعة بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (سورة الفتح) نزلت هذه السورة حين انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحديبية، لما أراد أن يعتمر بمكة فصدّه المشركون، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمر وهما راجعان إلى المدينة: لقد نزلت عليّ سورة هي أحب إليّ من الدنيا وما فيها، إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً يحتمل هذا الفتح في اللغة أن يكون بمعنى الحكم، أي حكمنا لك على أعدائك، أو من الفتح بمعنى العطاء كقوله: ما يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ [فاطر: 2] أو من فتح البلاد، واختلف في المراد بهذا الفتح على أربعة أقوال: الأول أنه فتح مكة وعده الله به قبل أن يكون، وذكره بلفظ الماضي لتحققه، وهو على هذا بمعنى فتح البلاد، الثاني أنه ما جرى في الحديبية من بيعة الرضوان، ومن الصلح الذي عقده رسول الله صلى الله عليه وسلم مع قريش، وهو على هذا بمعنى الحكم، أو بمعنى العطاء، ويدل على صحة هذا القول: أنه لما وقع صلح الحديبية، شق ذلك على بعض المسلمين لشروط كانت فيه، حتى أنزل الله هذه السورة، ويتبين أن ذلك الصلح له عاقبة محمودة، وهذا هو الأصح لأنه روي أنها لما نزلت قال بعض الناس: ما هذا الفتح وقد صدنا المشركون عن البيت؟ فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: بل هو أعظم الفتوح، قد رضي المشركون أن يدفعوكم عن بلادهم بالروح، ورغبوا إليكم في الأمان، الثالث أنه ما أصاب المسلمون بعد الحديبية من الفتوح كفتح خيبر وغيرها، الرابع أنه الهداية إلى الإسلام ودليل هذا القول قوله: لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ فجعل الفتح علة للمغفرة، ولا حجة في ذلك إذ يتصور في الجهاد وغيره أن يكون علة للمغفرة أيضا، أو تكون اللام، للصيرورة والعاقبة لا للتعليل فيكون المعنى: إنا فتحنا لك فتحا مبينا فكان عاقبة أمرك أن جمع الله لك بين سعادة الدنيا والآخرة بأن غفر لك، وأتم نعمته عليك، وهداك ونصرك. هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ أي السكون والطمأنينة، يعني سكونهم في صلح الحديبية

[سورة الفتح (48) : الآيات 11 إلى 16]

وتسليمهم بفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وقيل: معناه الرحمة الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ معناه أنهم ظنوا أن الله يخذل المؤمنين وقالوا: لن ينقلب الرسول والمؤمنون إلى أهليهم أبدا. وقيل: معناه أنهم لا يعرفون الله بصفاته، فذلك هو ظن السوء به، والأول أظهر بدليل ما بعده عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ «1» يحتمل أن يكون خبرا أو دعاء إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً أي تشهد على أمتك وَتُعَزِّرُوهُ أي تعظموه وقيل: تنصرونه، وقرئ تعززوه بزاءين منقوطتين، والضمير في تعزروه وتوقروه للنبي صلى الله عليه وسلم، وفي تسبحوه لله تعالى، وقيل: الثلاثة لله. إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ هذا تشريف للنبي صلى الله عليه وسلم حيث جعل مبايعته بمنزلة مبايعة الله، ثم أكد هذا المعنى بقوله: يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ وذلك على وجه التخييل والتمثيل، يريد أن يد رسول الله صلى الله عليه وسلم التي تعلو يد المبايعين له هي يد الله في المعنى، وإن لم تكن كذلك في الحقيقة. وإنما المراد أن عقد ميثاق البيعة مع الرسول عليه الصلاة والسلام، كعقده مع الله كقوله «مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ» [النساء: 80] وتأوّل المتأوّلون ذلك بأن يد الله معناها النعمة أو القوة، وهذا بعيد هنا ونزلت الآية في بيعة الرضوان تحت الشجرة وسنذكرها بعد فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ «2» يعني أن ضرر نكثه على نفسه ويراد بالنكث هنا نقض البيعة. سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ الآية: سماهم بالمخلفين، لأنهم تخلفوا عن غزوة الحديبية، والأعراب هم أهل البوادي من العرب، لما خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى مكة يعتمر، رأوا أنه يستقبل عدوا كثيرا من قريش وغيرهم، فقعدوا عن الخروج معه، ولم يكن إيمانهم متمكنا، فظنوا أنه لا يرجع هو والمؤمنون من ذلك السفر ففضحهم الله في هذه السورة، وأعلم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بقولهم واعتذارهم قبل أن يصل إليهم، وأعلمه أنهم كاذبون في اعتذارهم يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ

_ (1) . قرأ ابن كثير وأبو عمرو: السوء: بضم السين والباقون بفتحها وسكون الواو السّوء. (2) . قوله تعالى: وَمَنْ أَوْفى ... فَسَيُؤْتِيهِ قرأ نافع وغيره: فسنؤتيه بالنون وقرأ غيرهم فسيؤتيه بالياء. وقوله: بما عاهد عليه الله هكذا قرأها حفص، والباقون قرءوها: عليه بكسر الهاء. [.....]

يحتمل أن يريد قولهم: شغلتنا أموالنا وأهلونا لأنهم كذبوا في ذلك، أو قولهم: فاستغفر لنا لأنهم قالوا ذلك رياء من غير صدق ولا توبة قَوْماً بُوراً أي هالكين من البوار، وهو الهلاك ويعني به الهلاك في الدين سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ الآية: أخبر الله رسوله صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم أن المخلفين عن غزوة الحديبية يريدون الخروج معه إذا خرجوا إلى غزوة أخرى، وهي غزوة خيبر. فأمر الله بمنعهم من ذلك، وأن يقول لهم: لن تتبعونا يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ أي يريدون أن يبدلوا وعد الله لأهل الحديبية، وذلك أن الله وعدهم أن يعوضهم من غنيمة مكة غنيمة خيبر وفتحها، وأن يكون ذلك مختصا بهم دون غيرهم، وأراد المخلفون أن يشاركوهم في ذلك، فهذا هو ما أرادوا من التبديل. وقيل: كلام الله قوله: فلن تخرجوا معي أبدا ولن تقاتلوا معي عدوا. وهذا ضعيف لأن هذه الآية نزلت بعد رجوع رسول الله صلى الله عليه وسلم من تبوك بعد الحديبية بمدة كَذلِكُمْ قالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ يريد وعده باختصاصه أهل الحديبية بغنائم خيبر فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنا معناه يعز عليكم أن نصيب معكم مالا وغنيمة، وبل هنا للإضراب عن الكلام المتقدم وهو قوله: لن تتبعونا كذلكم قال الله من قبل فمعناها: رد أن يكون الله حكم بأن لا يتبعوهم. وأما بل في قوله تعالى بل كانوا لا يفقهون إلا قليلا فهي إضراب عن وصف المؤمنين بالحسد، وإثبات لوصف المخلفين بالجهل. سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ اختلف في هؤلاء القوم على أربعة أقوال الأول: أنهم هوازن ومن حارب النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة خيبر والثاني أنهم الروم إذ دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قتالهم في غزوة تبوك والثالث أنهم أهل الردة من بني حنيفة وغيرهم الذين قاتلهم أبو بكر الصديق والرابع أنهم الفرس ويتقوى الأول والثاني بأن ذلك ظهر في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقوّى المنذر بن سعيد القول الثالث بأن الله جعل حكمهم القتل أو الإسلام ولم يذكر الجزية، قال: وهذا لا يوجد إلا في أهل الردّة، قلت: وكذلك هو موجود في كفار العرب، إذ لا تؤخذ منهم الجزية فيقوّي ذلك أنهم هوازن أو يسلمون عطف على تقاتلونهم وقال ابن عطية: هو مستأنف وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يريد في غزوة

[سورة الفتح (48) : الآيات 17 إلى 20]

الحديبية لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ الآية «1» معناها أن الله تعالى عذر الأعمى والأعرج والمريض في تركهم للجهاد لسبب أعذارهم لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يدخل النار إن شاء الله أحد من أهل الشجرة الذين بايعوا تحتها وفي الحديث أنهم كانوا ألفا وأربعمائة، وقيل: ألفا وخمسمائة. وسبب هذه البيعة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بلغ الحديبية، وهي موضع على نحو عشرة أميال من مكة، أرسل عثمان بن عفان رضي الله عنه رسولا إلى أهل مكة، يخبرهم أنه إنما جاء ليعتمر، وأنه لا يريد حربا. فلما وصل إليهم عثمان حبسه أقاربه كرامة له، فصرخ صارخ أن عثمان قد قتل. فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس إلى البيعة على القتال وأن لا يفر أحد. وقيل: بايعوه على الموت ثم جاء عثمان بعد ذلك سالما، وانعقد الصلح بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين أهل مكة على أن يرجع ذلك العام ويعتمر في العام القابل، والشجرة المذكورة كانت سمرة هنا لك ثم ذهبت بعد سنين. فمر عمر بن الخطاب بالموضع في خلافته، فاختلف الصحابة في موضعها فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ يعني من صدق الإيمان وصدق العزم على ما بايعوا عليه، وقيل: من كراهة البيعة على الموت وهذا باطل. لأنه ذم للصحابة وقد ذكرنا السكينة وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً يعني: فتح خيبر وقيل: فتح مكة والأول أشهر، أي جعل الله ذلك ثوابا لهم على بيعة الرضوان، زيادة على ثواب الآخرة. وأما المغانم المذكورة أوّلا فهي غنائم خيبر، وهي المعطوفة على الفتح القريب. وأما المغانم الكثيرة التي وعدهم الله وهي المذكورة ثانيا فهي: كل ما يغنم المسلمون إلى يوم القيامة، والإشارة بقوله فعجل لكم هذه إلى خيبر. وقيل: إن المغانم التي وعدهم هي خيبر والإشارة بهذه إلى صلح الحديبية وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ أي كف أهل مكة عن قتالكم في الحديبية. وقيل: كف اليهود وغيرهم عن إضرار نسائكم وأولادكم بينما خرجتم إلى الحديبية وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ أي تكون هذه الفعلة وهي كف أيدي الناس عنكم آية للمؤمنين، يستدلون بها على النصر، واللام تتعلق بفعل محذوف تقديره: فعل الله ذلك لتكون آية وَأُخْرى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها يعني فتح مكة، وقيل: فتح بلاد فارس والروم وقيل: مغانم هوازن في حنين، والمعنى لم تقدروا أنتم عليها، وقد

_ (1) . قوله: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ ومن يقول يعذبه عذابا أليما هكذا قرأها القراء ما عدا نافع وابن عامر فقرأ: ندخله- نعذبه بالنون بدلا من الياء.

[سورة الفتح (48) : الآيات 25 إلى 26]

أحاط الله بها بقدرته ووهبها لكم، وإعراب أخرى عطف على عجل لكم هذه أو مفعول بفعل مضمر تقديره: أعطاكم أخرى أو مبتدأ وَلَوْ قاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا يعني أهل مكة سُنَّةَ اللَّهِ أي عادته والإشارة إلى يوم بدر، وقيل: الإشارة إلى نصر الأنبياء قديما. وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ روي في سببها أن جماعة من فتيان قريش خرجوا إلى الحديبية، ليصيبوا من عسكر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد في جماعة من المسلمين فهزموهم وأسروا منهم قوما، وساقوهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأطلقهم، فكفّ أيدي الكفار هو أن هزموا وأسروا. وكفّ أيدي المؤمنين عن الكفار هو إطلاقهم من الأسر، وسلامتهم من القتل، وقوله مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ يعني من بعد ما أخذتموهم أسارى هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا يعني أهل مكة وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ يعني أنهم منعوهم عن العمرة بالمسجد الحرام عام الحديبية وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ الهدي ما يهدى إلى البيت من الأنعام، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ساق حينئذ مائة بدنة وقيل: سبعين ليهديها، والمعكوف المحبوس، ومحله موضع نحره يعني: مكة والبيت، وإعراب الهدي عطف على الضمير المفعول في صدّوكم ومعكوفا حال من الهدي، وأن يبلغ مفعول بالعكف فالمعنى: صدوكم عن المسجد الحرام، وصدوا الهدي عن أن يبلغ محله، والعكف المذكور يعني به منع المشركين للهدي عن بلوغ مكة، أو حبس المسلمين بالهدي بينما ينظرون في أمورهم. وَلَوْلا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ الآية تعليل لصرف الله المؤمنين عن استئصال أهل مكة بالقتل، وذلك أنه كان بمكة رجال مؤمنون ونساء مؤمنات يخفون إيمانهم، فلو سلط الله المسلمين على أهل مكة، لقتلوا أولئك المؤمنين وهم لا يعرفونهم، ولكن كفّهم رحمة للمؤمنين الذين كانوا بين أظهرهم، وجواب لولا محذوف تقديره: لولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات لسلطناكم عليهم أَنْ تَطَؤُهُمْ في موضع بدل من رجال ونساء، أو بدل من الضمير المفعول في لم تعلموهم والوطء هنا الإهلاك بالسيف وغيره فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ أي تصيبكم من قتلهم مشقة وكراهة، واختلف هل يعني الإثم في قتلهم أو الدية أو الكفارة أو الملامة، أو عيب الكفار لهم بأن يقولوا: قتلوا أهل دينهم، أو تألم نفوسهم من قتل المؤمنين، وهذا أظهر لأن قتل المؤمن الذي لا يعلم إيمانه وهو بين أهل الحرب لا إثم فيه ولا دية، ولا ملامة، ولا عيب، لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ

[سورة الفتح (48) : الآيات 27 إلى 28]

يعني رحمة للمؤمنين الذين كانوا بين أظهر الكفار، بأن كف سيوف المسلمين عن الكفار من أجلهم أو رحمة لمن شاء من الكفار بأن يسلموا بعد ذلك، واللام تتعلق بمحذوف يدل عليه سياق الكلام تقديره: كان كف القتل عن أهل مكة ليدخل الله في رحمته من يشاء لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا معنى تزيلوا تميزوا عن الكفار، والضمير للمؤمنين المستوري الإيمان، أي لو انفصلوا عن الكفار لعذبنا الكفار فقوله: لعذبنا جواب لو الثانية، وجواب الأولى محذوف كما ذكرنا، ويحتمل أن يكون لعذبنا جواب لو الأولى، وكررت لو الثانية تأكيدا إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ يعني أنفة الكفر وهي منعهم للنبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين عن العمرة، ومنعهم من أن يكتب في كتاب الصلح بسم الله الرحمن الرحيم، ومنعهم من أن يكتب محمد رسول الله، وقولهم: لو نعلم أنك رسول الله لاتبعناك، ولكن اكتب اسمك اسم أبيك، والعامل في إذ جعل محذوف تقديره: اذكر أو قوله لعذبنا والسكينة هي سكون المسلمين ووقارهم حين جرى ذلك وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى قال الجمهور هي: لا إله إلا الله، وقد روي ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وقيل: لا إله إلا الله محمد رسول الله وقيل: لا إله إلا الله والله أكبر، وهذه كلها متقاربة وقيل: هي بسم الله الرحمن الرحيم التي أبى الكفار أن تكتب وَكانُوا أَحَقَّ بِها وَأَهْلَها أي كانوا كذلك في علم الله وسابق قضائه لهم، وقيل: أحق بها من اليهود والنصارى. لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد رأى في منامه عند خروجه إلى العمرة أنه يطوف بالبيت هو وأصحابه بعضهم محلقون وبعضهم مقصرون، وروي أنه أتاه ملك في النوم فقال له: لتدخلن المسجد الحرام الآية: فأخبر الناس برؤياه: ذلك، فظنوا أن ذلك يكون في ذلك العام، فلما صده المشركون عن العمرة عام الحديبية قال المنافقون: أين الرؤيا، ووقع في نفوس المسلمين شيء من ذلك، فأنزل الله تعالى: لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق أي تلك الرؤيا صادقة، وسيخرج تأويلها بعد ذلك، فاطمأنت قلوب المؤمنين وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في العام المقبل، هو وأصحابه فدخلوا مكة واعتمروا، وأقاموا بمكة ثلاثة أيام، وظهر صدق رؤياه وتلك عمرة القضية [القضاء] ثم فتح مكة بعد ذلك، ثم حج هو وأصحابه، وصدق في هذا الموضع يتعدى إلى مفعولين، وبالحق يتعلق بصدق، أو بالرؤيا على أن يكون حالا منها إِنْ شاءَ اللَّهُ لما كان الاستثناء بمشيئة الله يقتضي الشك في الأمر، وذلك محال على الله، اختلف في هذا الاستثناء على خمسة أقوال: الأول أنه استثناء قاله الملك الذي رآه النبي صلى الله عليه وآله وسلم في المنام، فحكى الله مقالته كما وقعت والثاني: أنه تأديب من الله لعباده ليقولوا إن شاء الله في

[سورة الفتح (48) : آية 29]

كل أمر مستقبل، والثالث أنه استثناء بالنظر إلى كل إنسان على حدته لأنه يمكن أن يتم له الأمر أو يموت أو يمرض فلا يتم له، والرابع أن الاستثناء راجع إلى قوله آمنين لا لدخول المسجد، والخامس أن إن شاء الله بمعنى إذا شاء الله مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ الحلق والتقصير من سنة الحج والعمرة، والحلق أفضل من التقصير، لقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: رحم الله المحلقين ثلاثا ثم قال في المرة الأخيرة والمقصرين «1» فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا يريد ما قدره من ظهور الإسلام في تلك المدّة، فإنه لما انعقد الصلح، وارتفعت الحرب ورغب الناس في الإسلام، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة الحديبية في ألف وخمسمائة، وقيل ألف وأربعمائة وغزا غزوة الفتح بعدها بعامين ومعه عشرة آلاف فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً يعني فتح خيبر، وقيل بيعة الرضوان وقيل صلح الحديبية، وهذا هو الأصح لأن عمر قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أفتح هو يا رسول الله؟ قال نعم. وقيل: هو فتح مكة وهذا ضعيف، لأن معنى قوله: من دون ذلك قبل دخول المسجد الحرام، وإنما كان فتح مكة بعد ذلك، فإن الحديبية كانت عام ستة من الهجرة وعمرة القضية عام سبعة، وفتح مكة عام ثمانية لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ ذكره في براءة [33] وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً أي شاهدا بأن محمدا رسول الله، أو شاهدا بإظهار دينه. وَالَّذِينَ مَعَهُ يعني جميع أصحابه وقيل: من شهد معه الحديبية، وإعراب الذين معطوف على محمد رسول الله صفته وأشداء خبر عن الجميع، وقيل: الذين معه مبتدأ وأشداء خبره ورسول الله خبر محمد ورجح ابن عطية هذا. والأول عندي أرجح لأن الوصف بالشدة والرحمة يشمل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وأما على ما اختاره ابن عطية فيكون الوصف بالشدة والرحمة مختصا بالصحابة دون النبي صلى الله عليه وسلم، وما أحق النبي صلى الله عليه وسلم بالوصف بذلك لأن الله قال فيه: بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ [براءة: 128] ، وقال جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ [براءة: 73، والتحريم: 9] فهذه هي الشدة على الكفار والرحمة بالمؤمنين سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ السيما العلامة وفيه ستة أقوال، الأول أنه الأثر الذي يحدث في جبهة المصلى من كثرة السجود والثاني أنه أثر التراب في الوجه الثالث أنه صفرة الوجه من السهر والعبادة، الرابع حسن الوجه لما ورد في الحديث [من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار] «2» وهذا الحديث غير صحيح، بل وقع فيه غلط من الراوي فرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو غير مروي عنه، الخامس أنه الخشوع، السادس: أن ذلك يكون

_ (1) . الحديث رواه ابن عمر وأخرجه أحمد في مسنده ج 2 ص 160. (2) . الحديث أعلاه ذكره المناوي في التيسير وعزاه لابن ماجة عن جابر ثم قال: إن موضوع.

في الآخرة يجعل الله لهم نورا من أثر السجود كما يجعل غرة من أثر الوضوء وهذا بعيد لأن قوله: تراهم ركعا سجدا وصف حالهم في الدنيا فكيف يكون سيماهم في وجوههم كذلك، والأول أظهر، وقد كان بوجه علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب وعلي بن عبد الله بن العباس أثر ظاهر من أثر السجود ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ أي وصفهم فيها وتم الكلام هنا، ثم ابتدأ قوله ومثلهم في الإنجيل، كزرع، وقيل: إن مثلهم في الإنجيل عطف على مثلهم في التوراة ثم ابتدأ قوله: كزرع وتقديره هم كزرع، والأول أظهر، ليكون وصفهم في التوراة بما تقدم من الأوصاف الحسان، وتمثيلهم في الإنجيل بالزرع المذكور بعد ذلك، وعلى هذا يكون مثلهم في الإنجيل بمعنى التشبيه والتمثيل. وعلى القول الآخر يكون المثل بمعنى الوصف كمثلهم في التوراة كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ هذا مثل ضربه الله للإسلام حيث بدأ ضعيفا، ثم قوي وظهر. وقيل: الزرع مثل للنبي صلى الله عليه وسلم لأنه بعث وحده وكان كالزرع حبة واحدة، ثم كثر المسلمون فهم كالشطء، وهو فراخ السنبلة التي تنبت حول الأصل، ويقال: بإسكان الطاء وفتحها بمد وبدون مد وهي لغات فَآزَرَهُ أي قوّاه وهو من الموازرة بمعنى المعاونة ويحتمل أن يكون الفاعل الزرع، والمفعول شطأه أو بالعكس لأن كل واحد منهما يقوّي الآخر، وقيل: معناه ساواه طولا فالفاعل على هذا الشطأ ووزن آزره فاعله وقيل أفعله، وقرئ بقصر الهمزة على وزن فعل فَاسْتَغْلَظَ أي صار غليظا فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ جمع ساق أي قام الزرع على سوقه، وقيل: قوله: كزرع يعني النبي صلى الله عليه وسلم أخرج شطأه بأبي بكر فآزره بعمر فاستغلظ بعثمان فاستوى على سوقه بعليّ بن أبي طالب لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ تعليل لما دل عليه المثل المتقدم من قوّة المسلمين فهو يتعلق بفعل يدل عليه الكلام تقديره: جعلهم الله كذلك ليغيظ بهم الكفار، وقيل: يتعلق بوعد وهو بعيد مِنْهُمْ لبيان الجنس لا للتبعيض لأنه وعد عم جميعهم رضي الله عنهم.

سورة الحجرات

سورة الحجرات مدنية وآياتها 18 نزلت بعد الجاثية بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (سورة الحجرات) لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فيه ثلاثة أقوال: أحدها لا تتكلموا بأمر قبل أن يتكلم هو به، ولا تقطعوا في أمر إلا بنظره والثاني لا تقدموا الولاة بمحضره فإنه يقدم من شاء، والثالث لا تتقدموا بين يديه إذا مشى، وهذا إنما يجري على قراءة يعقوب لا تقدموا بفتح التاء والقاف والدال، والأول هو الأظهر لأن عادة العرب الاشتراك في الرأي، وأن يتكلم كل أحد بما يظهر له، فربما فعل ذلك قوم مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فنهاهم الله عن ذلك، ولذلك قال مجاهد: معناه لا تفتاتوا على الله شيئا حتى يذكره على لسان رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، وإنما قال: بين يدي الله لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما يتكلم بوحي من الله لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ أمر الله المؤمنين أن يتأدبوا مع النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الأدب، كرامة له وتعظيما، وسببها أن بعض جفاة الأعراب كانوا يرفعون أصواتهم أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ مفعول من أجله تقديره: مخافة أن تحبط أعمالكم إذا رفعتم أصواتكم فوق صوته، أو جهرتم له بالقول صلى الله عليه وسلم، فالمفعول من أجله يتعلق بالفعلين معا من طريق المعنى، وأما من طريق الإعراب فيتعلق عند البصريين بالثاني وهو: لا تَجْهَرُوا وعند الكوفيين بالأول وهو لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ، وهذا الإحباط لأن قلة الأدب معه صلى الله عليه وسلم والتقصير في توقيره يحبط الحسنات وإن فعله مؤمن، لعظيم ما وقع فيه من ذلك. وقيل: إن الآية خطاب للمنافقين وهذا ضعيف، لقوله في أولها: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا وقوله: وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ فإنه لا يصح أن يقال هذا لمنافق، فإنه يفعله «جرأة» وهو يقصده. إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ نزلت في أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، فإنه لما نزلت الآية قبلها قال أبو بكر: والله يا رسول الله لا أكلمنك إلا سرا. وكان عمر يخفي كلامه حين يستفهمه النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولفظها مع ذلك على

عمومه، ومعنى امْتَحَنَ: اختبر فوجدها كما يجب، مثل ما يختبر الذهب بالنار، فيوجد طيبا، وقيل معناها: درّبها للتقوى حتى صارت قوية على احتماله بغير تكلف. وقيل: معناه أخلصها الله للتقوى إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ الحجرات: جمع حجرة وهي قطعة من الأرض يحجر عليها بحائط، وكان لكل واحدة من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم حجرة. ونزلت الآية في وفد بني تميم، قدموا على النبي صلى الله عليه وآله وسلم فدخلوا المسجد ودنوا من حجرات أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ووقفوا خارجها ونادوا: يا محمد أخرج إلينا فكان في فعلهم ذلك جفاء وبداوة وقلة توقير، فتربص رسول الله صلى الله عليه وسلم مدة ثم خرج إليهم، فقال له واحد منهم وهو الأقرع بن حابس: يا محمد إنّ مدحي زين وذمّي شين. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ويحك ذلك الله تعالى أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ يحتمل وجهين: أحدهما أن يكون فيهم قليل ممن يعقل ونفي العقل عن أكثرهم لا عن جميعهم، والآخر أن يكون جميعهم ممن لا يعقل، وأوقع القلة موضع النفي والأول أظهر في مقتضى اللفظ. والثاني أبلغ في الذم وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ يعني خيرا في الثواب، وفي انبساط نفس النبي صلى الله عليه وسلم، وقضائه حوائجهم، وإنكار فعلهم فيه تأديب لهم، وتعليم لغيرهم. إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا سببها أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث الوليد بن عقبة بن أبي معيط إلى بني المصطلق، ليأخذ زكاتهم، فروي أنه كان معاديا لهم، فأراد إذايتهم فرجع من بعض طريقه فكذب عليهم، وقال للنبي صلى الله عليه وسلم: إنهم قد منعوني الصدقة وطردوني وارتدوا، فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهمّ بغزوهم، ونظر في ذلك فورد وفدهم منكرين لذلك، وروي أن الوليد بن عقبة لما قرب منهم خرجوا إليه متلقين له [بالسلاح] ، فرآهم على بعد ففزع منهم وظنّ بهم الشر، فانصرف فقال ما قال. وروي أنه بلغه أنهم قالوا: لا نعطيه صدقة ولا نطيعه فانصرف، وقال ما قال. فالفاسق المشار إليه في الآية هو الوليد بن عقبة، ولم يزل بعد ذلك يفعل أفعال الفساق، حتى صلى بالناس صلاة الصبح أربع ركعات وهو سكران، ثم قال لهم: أزيدكم إن شئتم، ثم هي باقية في كل من اتصف بهذه الصفة إلى آخر الدهر، وقرئ فتبينوا من التبين، وتثبتوا بالثاء من التثبت، ويقوي هذه القراءة أنها لما نزلت روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: التثبت من الله والعجلة من الشيطان، واستدل بهذه الآية القائلون بقبول خبر الواحد، لأن دليل الخطاب يقتضي أن خبر غير الفاسق مقبول، قال المنذر بن سعيد البلوطي: وهذه الآية تردّ على من قال: إن المسلمين كلهم عدول، لأن الله أمر بالتبين قبل القبول، فالمجهول الحال يخشى أن يكون فاسقا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ في موضع المفعول من أجله تقديره: مخافة أن تصيبوا قوما بجهالة، والإشارة إلى قتال بني

[سورة الحجرات (49) : الآيات 7 إلى 9]

المصطلق لما ذكر عنهم الوليد ما ذكر لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ أي لشقيتم، والعنت المشقة، وإنما قال: لو يطيعكم ولم يقل لو أطاعكم، للدلالة على أنهم كانوا يريدون استمرار طاعته عليه الصلاة والسلام لهم، والحق خلاف ذلك، وإنما الواجب أن يطيعوه هم لا أن يطيعهم هو، وذلك أن رأي رسول الله صلى الله عليه وسلم خير وأصوب من رأي غيره، ولو أطاع الناس في رأيهم لهلكوا، فالواجب عليهم الانقياد إليه والرجوع إلى أمره، وإلى ذلك الإشارة بقوله: وَلكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ الآية. وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما اختلف في سبب نزولها، فقال الجمهور: هو ما وقع بين المسلمين وبين المتحزبين منهم لعبد الله بن أبيّ بن سلول حين مر به رسول صلى الله عليه وسلم وهو متوجه إلى زيارة سعد بن عبادة في مرضه، فبال حمار رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال عبد الله بن أبيّ للنبي صلى الله عليه وسلم: لقد آذاني نتن حمارك، فردّ عليه عبد الله بن رواحة وتلاحى الناس حتى وقع بين الطائفتين ضرب بالجريد، وقيل: بالحديد، وقيل: سببها أن فريقين من الأنصار وقع بينهما قتال، فصالحهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد جهد، ثم حكمها باق إلى آخر الدهر. وإنما قال اقتتلوا ولم يقل اقتتلا لأن الطائفة في معنى القوم والناس، فهي في معنى الجمع فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي أمر الله في هذه الآية بقتال الفئة الباغية، وذلك إذا تبين أنها باغية، فأما الفتن التي تقع بين المسلمين فاختلف العلماء فيها على قولين: أحدهما أنه لا يجوز النهوض في شيء منها ولا القتال، وهو مذهب سعد بن أبي وقاص وأبي ذر وجماعة من الصحابة رضي الله عنهم، وحجتهم قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: قتال المسلم كفر «1» . وأمره عليه الصلاة والسلام بكسر السيوف في الفتن، والقول الثاني أن النهوض فيها واجب لتكفّ الطائفة الباغية، وهذا قول علي وعائشة وطلحة والزبير وأكثر الصحابة، وهو مذهب مالك وغيره من الفقهاء، وحجتهم هذه الآية فإذا فرّعنا على القول الأول، فإن دخل داخل على من اعتزل الفريقين منزله يريد نفسه أو ماله فليدفعه عن نفسه وإن أدّى ذلك إلى قتله لقوله صلى الله عليه وسلم: من قتل دون نفسه أو ماله فهو شهيد «2» ، وإذا فرّعنا على القول الثاني فاختلف مع من يكون النهوض في الفتن فقيل: مع السواد الأعظم وقيل: مع العلماء وقيل: مع من يرى أن الحق معه، وحكم القتال في الفتن: أن لا يجهز على جريح، ولا يطلب هارب، ولا يقتل أسير ولا يقسم فيء حَتَّى تَفِيءَ أي ترجع إلى

_ (1) . الحديث رواه سعد بن أبي وقاص وأخرجه أحمد ج 1 ص 178. (2) . الحديث رواه عبد الله بن عمرو وأخرجه أحمد ج 2 ص 217.

[سورة الحجرات (49) : الآيات 10 إلى 11]

الحق فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ إنما ذكره بلفظ التثنية لأن أقل من يقع بينهم البغي اثنان، وقيل أراد بالأخوين الأوس والخزرج، وقرأ ابن عامر بين إخوتكم بالتاء على الجمع، وقرئ بين إخوانكم بالنون على الجمع أيضا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ نهى عن السخرية وهي الاستهزاء بالناس عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ أي لعل المسخور منه خير من الساخر عند الله، وهذا تعليل للنهي وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ لما كان القوم لا يقع إلا على الذكور عطف النساء عليهم وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ أي لا يطعن بعضكم على بعض واللمز: العيب، سواء كان بقول أو إشارة أو غير ذلك، وسنذكر الفرق بينه وبين الهمز في سورة الهمزة وأنفسكم هنا بمنزلة قوله: فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ [النور: 27] وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ أي لا يدع أحد أحدا بلقب، والتنابز بالألقاب التداعي بها، وقد أجاز المحدثون أن يقال الأعمش والأعرج ونحوه إذا دعت إليه الضرورة ولم يقصد النقص والاستخفاف. بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ يريد بالاسم أن يسمى الإنسان فاسقا بعد أن سمي مؤمنا، وفي ذلك ثلاثة أوجه: أحدها استقباح الجمع بين الفسق وبين الإيمان، فمعنى ذلك أن من فعل شيئا من هذه الأشياء التي نهي عنها فهو فاسق وإن كان مؤمنا، والآخر بئس ما يقوله الرجل للآخر يا فاسق بعد إيمانه، كقولهم لمن أسلم من اليهود: يا يهودي، الثالث أن يجعل من فسق غير مؤمن وهذا على مذهب المعتزلة اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ يعني ظن السوء بالمسلمين، وأما ظن الخير فهو حسن إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ قيل: في معنى الإثم هنا الكذب لقوله صلى الله عليه وسلم: الظن أكذب الحديث «1» لأنه قد لا يكون مطابقا للأمر، وقيل: إنما يكون إثما إذا تكلم به وأما إذا لم يتكلم به فهو في فسحة لأنه لا يقدر على دفع الخواطر، واستدل بعضهم بهذه الآية على صحة سد الذرائع في الشرع، لأنه أمر باجتناب كثير من الظن، وأخبر أن بعضه إثم باجتناب الأكثر من الإثم احترازا من الوقوع في البعض الذي هو إثم وَلا تَجَسَّسُوا أي لا تبحثوا عن مخبآت الناس وقرأ الحسن: تحسسوا بالحاء والتجسس بالجيم في الشر وبالحاء في الخير، وقيل: التجسس ما كان من وراء والتحسس بالحاء الدخول والاستعلام وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً المعنى: لا يذكر أحدكم من أخيه المسلم ما يكره لو سمعه، والغيبة هي ما يكره الإنسان ذكره من خلقه أو خلقه أو دينه أو أفعاله أو غير ذلك، وفي الحديث أنه عليه الصلاة والسلام قال: الغيبة أن تذكر

_ (1) . الحديث رواه أبو هريرة وأخرجه أحمد وأوله: إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث. ج 2 ص 245.

أخاك المؤمن بما يكره، قيل يا رسول الله وإن كان حقا، قال إذا قلت باطلا فذلك بهتان «1» وقد رخّص في الغيبة في مواضع منها: في التجريح في الشهادة، والرواية، والنكاح، وشبهه وفي التحذير من أهل الضلال، أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وقرأ نافع: ميّتا شبه الله الغيبة بأكل لحم ابن آدم ميتا، والعرب تشبه الغيبة بأكل اللحم، ثم زاد في تقبيحه أن جعله ميتا لأن الجيفة مستقذرة، ويجوز أن يكون ميتا حال من الأخ أو من لحمه، وقيل: فكرهتموه إخبار عن حالهم بعد التقرير. كأنه لما قررهم قال: هل يحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا أجابوا فقالوا: لا نحب ذلك فقال لهم. فكرهتموه وبعد هذا محذوف تقديره: فكذلك فاكرهوا الغيبة التي هي تشبهه، وحذف هذا لدلالة الكلام عليه، وعلى هذا المحذوف يعطف قوله: واتقوا الله، قاله أبو علي الفارسي، وقال الرماني: كراهة هذا اللحم يدعو إليها الطبع، وكراهة الغيبة يدعو إليها العقل، وهو أحق أن يجاب لأنه بصير عالم، والطبع أعمى جاهل، وقال الزمخشري: في هذه الآية مبالغات كثيرة منها الاستفهام الذي معناه التقرير، ومنها جعل ما هو في الغاية من الكراهة موصولا بالمحبة، ومنها إسناد الفعل إلى أحدكم، والإشعار بأن أحد من الأحدين لا يحب ذلك، ومنها أنه لم يقتصر على تمثيل الغيبة بأكل لحم الإنسان حتى جعله ميتا، ومنها أنه لم يقتصر على تمثيل الغيبة بأكل لحم الإنسان حتى جعله أخا له. يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى الذكر والأنثى هنا آدم وزوجه قال ابن عطية: ويحتمل أن يريد الجنس كأنه قال: إنا خلقنا كل واحد منكم من ذكر وأنثى، والأول أظهر وأصح لقوله صلى الله عليه وسلم: أنتم من آدم وآدم من التراب «2» ومقصود الآية: التسوية بين الناس، والمنع مما كانت العرب تفعله من التفاخر بالأحساب، والطعن في الأنساب، فبين الله أن الكرم والشرف عند الله ليس بالحسب والنسب إنما هو بالتقوى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحب أن يكون أكرم الناس فليتق الله «3» ، وروي أن سبب الآية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بني بياضة أن يزوجوا أبا هند امرأة منهم فقالوا كيف نزوج بناتنا لموالينا وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا الشعوب: جمع شعب بفتح الشين، وهو أعظم من القبيلة، وتحته القبيلة ثم البطن ثم الفخذ ثم الفصيلة، وهم القرابة

_ (1) . الحديث ذكره المناوي في التيسير وعزاه لأبي داود عن أبي هريرة وأخرجه مسلم عنه بلفظ: أتدرون ما الغيبة؟ إلخ. (2) . أورد المناوي هذا الحديث بلفظ: كلكم بنو آدم وآدم خلق من تراب وعزاه للبزار عن حذيفة وتوجد رواية للترمذي وأبي داود وأحمد انظر كشف الخفاء ص 326 ج 2. (3) . لم أعثر عليه بهذا اللفظ ولكن يوجد حديث بمعناه وجوابا على سؤال: من أكرم الناس؟ قال: اتقاهم رواه أحمد ج 2 ص 431.

[سورة الحجرات (49) : الآيات 14 إلى 18]

الأدنون فمضر وربيعة وأمثالها شعوبا، وقريش قبيلة، وبني عبد مناف بطن، وبنو هاشم فخذ، ويقال بإسكان الخاء فرقا بينه وبين الجارحة، وبنو عبد المطلب فصيلة. وقيل: الشعوب في العجم والقبائل في العرب والأسباط في بني إسرائيل، ومعنى لتعارفوا ليعرف بعضكم بعضا قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا نزلت في بني أسد بن خزيمة، وهي قبيلة كانت تجاور المدينة أظهروا الإسلام، وكانوا إنما يحبون المغانم وعرض الدنيا، فأكذبهم الله في قولهم آمنا وصدقهم لو قالوا أسلمنا، وهذا على أن الإيمان هو التصديق بالقلب، والإسلام هو الانقياد بالنطق بالشهادتين، والعمل بالجوارح فالإسلام والإيمان في هذا الموضع متباينان في المعنى، وقد يكونان متفقان، وقد يكون الإسلام أعم من الإيمان فيدخل فيه الإيمان حسبما ورد في مواضع أخر وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمالِكُمْ شَيْئاً معنى لا يلتكم لا ينقصكم شيئا من أجور أعمالكم، وفيه لغتان يقال لات وعليه قراءة نافع لا يلتكم بغير همز، ويقال: ألت وعليه قراءة أبو عمرو لا يألتكم بهمزة قبل اللام، فإن قيل: كيف يعطيهم أجور أعمالهم وقد قال: إنهم لم يؤمنوا ولا يقبل عمل إلا من مؤمن؟ فالجواب: أن طاعة الله ورسوله تجمع صدق الإيمان وصلاح الأعمال، فالمعنى إن رجعتم عما أنتم عليه من الإيمان بألسنتكم دون قلوبكم، وعملتم أعمالا صالحة فإن الله لا ينقصكم منها شيئا ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا أي لم يشكوا في إيمانهم وفي ذلك تعريض بالأعراب المذكورين بأنهم في شك وكذلك قوله في هؤلاء: أولئك هم الصادقون تعريض أيضا بالأعراب إذ كذبوا في قولهم آمنا. وإنما عطف ثم لم يرتابوا بثم إشعارا بثبوت إيمانهم في الأزمنة المتراخية المتطاولة وَجاهَدُوا يريد جهاد الكفار، لأنه دليل على صحة الإيمان، ويبعد أن يريد جهاد النفس والشيطان لقوله: بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا نزلت في بني أسد أيضا فإنهم قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: إنا آمنا بك واتبعناك ولم نحاربك كما فعلت هوازن وغطفان وغيرهم بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ أي هداكم للإيمان على زعمكم، ولذلك قال: إن كنتم صادقين، ويمنّ عليكم يحتمل أن يكون بمعنى ينعم عليكم أو بمعنى: يذكر إنعامه، وهذا أحسن لأنه في مقابلة يمنون عليك.

سورة ق

سورة ق مكية إلا آية 38 فمدنية وآياتها 45 نزلت بعد المرسلات بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (سورة ق) تكلمنا على حروف الهجاء في أول سورة البقرة ويختص ق بأنه قيل: إنه من اسم الله القاهر، أو القدير وقيل: هو اسم للقرآن وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ من المجد، وهو الشرف والكرم وجواب هذا القسم محذوف تقديره: ما ردّوا أمرك بحجة وما كذبوك ببرهان وشبه ذلك، وعبّر عن هذا المحذوف، وقع الإضراب ببل وقيل: الجواب ما يلفظ من قول، وقيل: إن في ذلك لذكرى، وقيل: قد علمنا ما تنقص الأرض منهم وهذه الأقوال ضعيفة متكلفة بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ الضمير في عجبوا لكفار قريش، والمنذر هو سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وقيل: الضمير لجميع الناس واختاره ابن عطية قال: ولذلك قال تعالى: فقال الكافرون أي الكافرون من الناس، والصحيح أنه لقريش، وقوله: قال الكافرون وضع الظاهر موضع المضمر لقصد ذمّهم بالكفر، كما تقول: جاءني فلان فقال الفاجر كذا، إذا قصدت ذمه وقوله: منذر منهم إن كان الضمير لقريش فمعنى منهم من قبيلتهم يعرفون صدقه وأمانته وحسبه فيهم، وإن كان الضمير لجميع الناس فمعنى منهم إنسان مثلهم، وتعجبهم يحتمل أن يكون من أن بعث الله بشرا أو من الأمر الذي يتضمنه الإنذار وهو الحشر، ويؤيد هذا ما يأتي بعد أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً العامل في إذا محذوف تقديره: أنبعث إذا متنا ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ الرجع مصدر: رجعته والمراد به: البعث بعد الموت، ومعنى بعيد أي: بعيد الوقوع عندهم، وقيل: الرجع: الجواب، أي جوابهم هذا بعيد عن الحق، وعلى هذا يكون قوله: ذلك رجع بعيد من كلام الله تعالى، وأما على الأول فهو حكاية كلام الكفار وهو أظهر. قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ هذا رد على الكفار في إنكارهم للبعث معناه: قد علمنا ما تنقص الأرض منهم من لحومهم وعظامهم فلا يصعب علينا بعثهم، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: كل جسد ابن آدم تأكله الأرض إلا عجب الذنب منه خلق وفيه يركب «1» .

_ (1) . رواه أحمد عن أبي هريرة ج 2 ص 499 ولفظه: يبلى كل عظم من ابن آدم إلا عجب الذنب وفيه يركب الخلق يوم القيامة.

[سورة ق (50) : الآيات 5 إلى 15]

وقيل: المعنى قد علمنا ما يحصل في بطن الأرض من موتاهم، والأول قول ابن عباس والجمهور وهو أظهر وَعِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ يعني اللوح المحفوظ، ومعنى حفيظ: جامع لا يشذ عنه شيء. وقيل: معناه محفوظ من التغيير والتبديل. بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ هذا الإضراب أتبع به الإضراب الأول، للدلالة على أنهم جاءوا بما هو أقبح من تعجبهم، وهو التكذيب بالحق الذي هو النبوة، وما تضمنته من الإخبار بالحشر وغير ذلك، وقال ابن عطية: هذا الإضراب عن كلام محذوف تقديره: ما أجادوا النظر ونحو ذلك فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ أي مضطرب، لأنهم تارة يقولون: شاعر، وتارة ساحر، وغير ذلك من أقوالهم. وقيل: معناه منكر، وقيل: ملتبس. وقيل: مختلط. وَزَيَّنَّاها يعني بالنجوم وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ أي من شقوق، وذلك دليل على إتقان الصنعة رَواسِيَ يعني الجبال مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ أي من كل نوع جميل ماءً مُبارَكاً يعني المطر كله وقيل: الماء المبارك ماء مخصوص ينزله الله كل سنة، وليس كل مطر يتصف بالمبارك، وهذا ضعيف حَبَّ الْحَصِيدِ هو القمح والشعير ونحو ذلك مما يحصد باسِقاتٍ أي طويلات طَلْعٌ نَضِيدٌ الطلع أول ما يظهر من الثمر، وهو أبيض منضد كحب الرمان، فما دام ملتصقا بعضه ببعض فهو نضيد، فإذا تفرق فليس بنضيد كَذلِكَ الْخُرُوجُ تمثيل لخروج الموتى من القبور بخروج النبات من الأرض وَأَصْحابُ الرَّسِّ قوم كانت لهم بئر عظيم وهي الرس، بعث إليهم نبي فجعلوه في الرس وردموا عليه فأهلكهم الله وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ يعني قوم شعيب وقد ذكر وَقَوْمُ تُبَّعٍ ذكر في الدخان [37] فَحَقَّ وَعِيدِ أي حل بهم الهلاك أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ يقال: عيي بالأمر إذا لم يعرف علمه، والخلق الأول: خلق الإنسان من نطفة ثم من علقة وقيل: يعني خلق آدم، وقيل خلق السموات والأرض، والأول أظهر، ومقصود الآية الاستدلال بالخلقة الأولى على البعث والهمزة للإنكار بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ أي هم في شك من البعث، وإنما نكّر الخلق الجديد لأنه كان غير معروف عند الكفار المخاطبين، وعرّف الخلق الأول لأنه معروف معهود. وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ يعني جنس الإنسان، ومعنى توسوس به نفسه: تحدثه نفسه في فكرتها. وذلك أخفى الأشياء وقيل: يعني آدم ووسوسته عند أكله من الشجرة، والأول

أظهر وأشهر وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ هو عرق كبير في العنق، وهما وريدان عن يمين وشمال، وهذا مثل في فرط القرب، والمراد به: قرب علم الله واطلاعه على عبده، وإضافة الحبل إلى الوريد كقولك: مسجد الجامع أو يراد بالحبل: العاتق إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ يعني الملكين الحافظين الكاتبين للأعمال، والتلقي هو: تلقّي الكلام بحفظه وكتابته، والعامل في إذ نحن أقرب، وقيل: مضمر تقديره: اذكر. واختاره ابن عطية عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ أي قاعد، وقيل: مقاعد بمعنى مجالس، وردّه ابن عطية بأن المقاعد إنما يكون مع قعود الإنسان، والقاعد يكون على جميع هيئة الإنسان، وإنما أفرده وهما اثنان لأن التقدير: عن اليمين قعيد وعن الشمال قعيد من المتلقيين، فحذف أحدهما لدلالة الآخر عليه، وقال الفراء: لفظ قعيد يدل على الاثنين والجماعة فلا يحتاج إلى حذف. ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ العتيد: الحاضر، وفي الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن مقعد الملكين على الشفتين قلمهما اللسان ومدادهما الريق «1» ، وعموم الآية يقتضي أن الملكين يكتبان جميع أعمال العبد، ولذلك قال الحسن وقتادة: يكتبان جميع الكلام فيثبت الله من ذلك الحسنات والسيئات ويمحو غير ذلك، وقال عكرمة: إنما تكتب الحسنات والسيئات لا غير وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ أي بلقاء الله أو فراق الدنيا، وفي مصحف عبد الله بن مسعود: وجاءت سكرة الحق بالموت، وكذلك قرأها أبو بكر الصديق، وإنما قال: جاءت بالماضي لتحقق الأمر وقربه، وكذلك ما بعده من الأفعال ذلِكَ ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ أي تفر وتهرب، والخطاب للإنسان سائِقٌ وَشَهِيدٌ السائق ملك يسوقه، وأما الشهيد فقيل: ملك آخر يشهد عليه وهو الأظهر، وقيل: صحائف الأعمال، وقيل: جوارح الإنسان لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا خطاب للإنسان الذي يقتضيه قوله: كل نفس، يريد أنه كان غافلا عما لقي في الآخرة، وقيل: هو خطاب لسيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم، أي كنت في غفلة من هذا القصص وهذا في غاية الضعف لأنه خروج عن سياق الكلام فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ قيل: كشف الغطاء معاينته أمور الآخرة فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ أي يبصر ما لم يبصره قبل، وقد ورد: الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا «2» وَقالَ قَرِينُهُ هذا ما لَدَيَّ عَتِيدٌ القرين هنا: الشيطان الذي كان يغويه،

_ (1) . لم أعثر عليه فيما بين يدي من مصادر. (2) . قال الحافظ العراقي في تخريج أحاديث الإحياء 4/ 23: لم أجده مرفوعا وإنما ينسب للإمام علي بن أبي طالب.

[سورة ق (50) : الآيات 24 إلى 29]

وقيل: الملك الذي يتولى عذابه في جهنم، والأول أرجح لأنه هو القرين المذكور بعد، ولقوله: نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً، فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ [الزخرف: 36] ومعنى قوله: هذا ما لديّ عتيد، أي هذا الإنسان حاضر لدي أعتدته ويسرته لجهنم، وكذلك المعنى إن قلنا: إن القرين هو الملك السائق، وإن قلنا: إنه أحد الزبانية فمعناه هذا العذاب لديّ حاضر، ويحتمل أن يكون ما في قوله، ما لديّ، موصوفة أو موصولة، فإن كانت موصوفة فعتيد وصف لها، وإن كانت موصولة، فعتيد بدل منها، أو خبر بعد خبر، أو خبر مبتدأ محذوف، وما هي خبر المبتدأ على هذه الوجوه، ويحتمل أن يكون عتيد الخبر وتكون ما بدلا من هذا أو منصوبة بفعل مضمر أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ الخطاب للملكين السائق والشهيد، وقيل: إنه خطاب لواحد على أن يكون بالنون المؤكدة الخفيفة، ثم أبدل منها ألف، أو على أن يكون معناه: ألق ألق مثنى مبالغة وتأكيدا، أو على أن يكون على عادة العرب من مخاطبة الاثنين كقولهم: خليلي وصاحبي وهذا كله تكلف بعيد، ومما يدل على أن الخطاب لاثنين قوله: فألقياه في العذاب الشديد مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ قيل: مناع للزكاة المفروضة والصحيح العموم مُرِيبٍ شاك في الدين فهو من الريب بمعنى الشك الَّذِي جَعَلَ يحتمل أن يكون مبتدأ وخبره فألقياه وأدخل فيه ألفا لتضمنه معنى الشرط، أو يكون بدلا أو صفة، ويكون فألقياه تكرار للتوكيد. قالَ قَرِينُهُ رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ القرين هنا شيطانه الذي وكّل به في الدنيا، بلا خلاف ومعنى ما أطغيته: ما أوقعته في الطغيان، ولكنه طغى باختياره، وإنما حذف الواو هنا لأن هذه جملة مستأنفة بخلاف قوله: وقال قرينه قبل هذا فإنه عطف لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ خطاب للناس وقرنائهم من الشياطين ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ أي قد حكمت بتعذيب الكفار فلا تبديل لذلك، وقيل: معناه لا يكذب أحد لدي لعلمي بجميع الأمور، فالإشارة على هذا إلى قول القرين ما أطغيته «1» وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ الفعل مسند إلى جهنم، وقيل: إلى خزنتها من الملائكة، والأول أظهر واختلف هل تتكلم جهنم حقيقة أو مجازا بلسان الحال؟ والأظهر أنه حقيقة، وذلك على الله يسير، ومعنى قوله: «هل من مزيد» إنما تطلب الزيادة وكانت لم تمتلئ. وقيل: معناه لا مزيد أي ليس عندي موضع للزيادة، فهي على هذا قد امتلأت والأول أظهر وأرجح، لما ورد في الحديث «لا تزال جهنم يلقى فيها

_ (1) . قوله: يوم نقول لجهنم: قرأ نافع وأبو بكر: يوم يقول لجهنم بالياء وقرأ الباقون: نقول بالنون.

وتقول: هل من مزيد حتى يلقى فيها الجبار قدمه «1» » ، وفي الحديث كلام ليس هذا موضعه، والمزيد يحتمل أن يكون مصدرا كالمحيض أو اسم مفعول فإن كان مصدرا فوزنه مفعل، وإن كان اسم مفعول فوزنه مفعول. وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ أي قرّبت ثم أكد ذلك بقوله غير بعيد لِكُلِّ أَوَّابٍ أي كثير الرجوع إلى الله، فهو من آب يؤوب إذا رجع، وقيل: هو المسبح لله من قوله يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ [سبأ: 1] حَفِيظٍ أي حافظ لأوامر الله فيفعلها، ولنواهيه فيتركها مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ أي اتقى الله وهو غائب عن الناس، فالمجرور في موضع الحال، من خشي بدل أو مبتدأ، فإن قيل: كيف قرن بالخشية الاسم الدال على الرحمة؟ فالجواب: أن ذلك لقصد المبالغة في الثناء على من يخشى الله لأنه يخشاه مع علمه برحمته وعفوه، قال ذلك الزمخشري ويحتمل أن يكون الجواب عن ذلك أن الرحمن صار يستعمل استعمال الاسم الذي ليس بصفة كقولنا الله وَلَدَيْنا مَزِيدٌ قيل معناه النظر إلى وجه الله، كقوله: الْحُسْنى وَزِيادَةٌ [يونس: 26] وقيل: يعني ما لم يخطر على قلوبهم كما ورد في الحديث مما يرويه النبي صلى الله عليه وسلم عن ربه أنه قال: أعددت لعبادي الصالحين مالا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر «2» هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً الضمير في هم للقرون المتقدمة، وفي منهم لكفار قريش فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ أي طافوا فيها، وأصله دخولها من أنقابها، أو من التنقب عن الأمر، بمعنى البحث عنه هَلْ مِنْ مَحِيصٍ أي قالوا: هل من مهرب من الله أو من العذاب لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أي قلب واع يعقل ويفهم أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ أي استمع وهو حاضر القلب وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ اللغوب الإعياء والتعب. فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ يعني كفار قريش وغيرهم وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ يحتمل أن يريد التسبيح باللسان، أو يريد الصلاة وقد ذكر الزمخشري فيه الوجهين وقال ابن عطية: معناه: صلّ بإجماع من المتأوّلين، وهي على هذا إشارة إلى الصلوات الخمس فقبل طلوع الشمس: الصبح، وقبل الغروب: الظهر والعصر. ومن الليل: المغرب والعشاء، وقيل:

_ (1) . رواه أحمد عن أنس ج 3 ص 234 بلفظ قريب منه. [.....] (2) . الحديث أخرجه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجة عن أبي هريرة وانظر رياض الصالحين.

[سورة ق (50) : الآيات 40 إلى 45]

هي النوافل وَأَدْبارَ السُّجُودِ «1» قال عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما: الركعتين بعد المغرب وقال ابن عباس: هي النوافل بعد الفرائض، وقيل: الوتر وَاسْتَمِعْ معناه انتظر. فهو عامل في يوم يناد على أنه مفعول به صريح، وقيل: المعنى استمع لما نقص عليك من أهوال القيامة. فعلى هذا لا يكون عاملا في يوم يناد فيوقف على استمع والأول أظهر يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ المنادي «2» هنا إسرافيل الذي ينفخ في الصور، وقيل: إنما وصفه بالقرب لأنه يسمعه جميع الخلق، وقيل: المكان صخرة بيت المقدس، وإنما وصفها بالقرب لقربها من مكة يَوْمُ الْخُرُوجِ يعني خروج الناس من القبور وَيَوْمَ تَشَقَّقُ «3» العامل في هذا الظرف معنى قوله: حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ أو هو بدل مما قبله وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ أي بقهار تقهرهم على الإيمان كقوله لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ [الغاشية: 22] وقيل إخبار بأنه صلى الله عليه وسلم رؤوف بهم غير جبار عليهم، وهذا أظهر فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ كقوله: إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ [فاطر: 18] لأنه لا ينفع التذكير إلا من يخاف.

_ (1) . قرأ نافع وابن كثير وحمزة: وإدبار السجود بكسر الهمزة وقرأ الباقون: وأدبار بالفتح. (2) . قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو: ينادي المنادي بإثبات الياء في الوصل وقرأ الباقون: المناد بدون ياء. (3) . قرأ نافع وابن كثير وابن عامر: تشّقّق بتشديد الشين وقرأ الباقون: تشقّق بتخفيف الشين.

سورة الذاريات

سورة الذاريات مكية وآياتها 60 نزلت بعد الأحقاف بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (سورة الذاريات) وَالذَّارِياتِ ذَرْواً هي الرياح تذرو التراب وغيره، ومنه قوله تعالى: تَذْرُوهُ الرِّياحُ [الكهف: 45] وانتصب ذروا على المصدرية فَالْحامِلاتِ وِقْراً هي السحاب تحمل المطر، والوقر: الحمل وهو مفعول به فَالْجارِياتِ يُسْراً هي السفن تجري في البحر، وإعراب يسرا صفة لمصدر محذوف ومعناه بسهولة فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً هي الملائكة تقسم أمر الملكوت من الأرزاق والآجال وغير ذلك، وأمرا مفعول به، وقيل: إن الحاملات وقرا: السفن، وقيل: جميع الحيوان الحامل، وقيل: إن الجاريات يسرا: السحاب، وقيل: الجواري من الكواكب والأول أشهر، وهو قول علي بن أبي طالب إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ هذا جواب القسم ويحتمل: توعدون أن يكون من الوعد أو من الوعيد، والأظهر أنه يراد به البعث في الآخرة وهو يشمل الوعد والوعيد وَإِنَّ الدِّينَ لَواقِعٌ الدين هنا الجزاء، وقيل: الحساب وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ أي ذات الطرائق، مثل الطرائق التي تكون في الماء إذا هبت عليه الرياح، وكذلك حبك الزرع، وهي الطرائق التي فيه. وقيل: الحبك: النجوم. وقيل: زينة السماء وقيل: حسن خلقتها وواحد الحبك حباك أو حبيكة. إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ يحتمل أن يكون خطابا لجميع الناس، لأنهم اختلفوا فمنهم مؤمن ومنهم كافر، ويحتمل أن يكون خطابا للكفار خاصة، لأنهم اختلفوا فقال بعضهم: ساحر، وقال بعضهم: كاهن وقال بعضهم: شاعر يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ معنى يؤفك: يصرف، والضمير في عنه يحتمل أربعة أوجه أحدها: أن يكون للنبي صلى الله عليه وآله وسلم أو للقرآن أو للإسلام والمعنى: يصرف عن الإيمان به من صرف، أي من سبق في علم الله أنه مصروف. الثاني: أن يكون الضمير لما توعدون أو للدين، والمعنى يصرف عن الإيمان به من صرف. الثالث: أن يكون الضمير للقول المختلف، والمعنى يصرف عن ذلك القول إلى الإسلام من قضى الله بسعادته، وهذا القول حسن، إلا أن عرف الاستعمال

[سورة الذاريات (51) : الآيات 10 إلى 17]

في أفك ويؤفك إنما هو في العرف من خير إلى شر، وهذا من شر إلى خير. الرابع: أن يكون الضمير للقول المختلف، وتكون عن سببية والمعنى: يصرف بسبب ذلك القول من صرف عن الإيمان قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ دعاء عليهم كقولهم: قاتلك الله، وقيل: قتل بمعنى لعن، قال ابن عطية: واللفظ لا يقتضي ذلك وقال الزمخشري: أصله الدعاء بالقتل، ثم جرى مجرى لعن وقبح، والخراصون الكذابون، وأصل الخرص: التخمين والقول بالظن والإشارة إلى الكفار، وقيل: إلى الكهان والأول أظهر الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ ساهُونَ الغمرة ما يغطي عقل الإنسان، وأصله من غمرة الماء، والمراد به هنا الجهالة والغفلة عن النظر يَسْئَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ أي يقولون: متى يوم الدين على وجه الاستبعاد والاستخفاف يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ هذا جواب عن سؤالهم، ومعنى يفتنون: يحرقون ويعذبون، ومنه قيل للحرّة: فتين لأن الشمس أحرقت حجارتها، ويحتمل أن يكون يومهم معربا والعامل فيه مضمر تقديره: يقع ذلك يوم هم على النار يفتنون، وأن يكون مبنيا لإضافته إلى مبني، وعلى هذا يجوز أن يكون في موضع نصب بالفعل المضمر حسبما ذكرنا، أو في موضع رفع والتقدير هو: يوم هم على النار يفتنون ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ أي يقال لهم: ذوقوا حرقتكم. آخِذِينَ ما آتاهُمْ رَبُّهُمْ يعنى يأخذون في الجنة ما أعطاهم ربهم من الخيرات والنعيم، وقيل: المعنى آخذين في الدنيا ما آتاهم ربهم من شرعه، والأول أظهر وأرجح لدلالة الكلام عليه كانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ الهجوع النوم. وفي معنى الآية قولان: أحدهما: وهو الصحيح: أنهم كانوا ينامون قليلا من الليل، ويقطعون أكثر الليل بالسهر في الصلاة والتضرع والدعاء، والآخر: أنهم كانوا لا ينامون بالليل قليلا ولا كثيرا، ويختلف الإعراب باختلاف المعنيين فأما على القول الأول ففي الإعراب أربعة أوجه: الأول أن يكون قليلا خبر كانوا وما يهجعون فاعل بقليلا، لأن قليلا صفة مشبهة باسم الفاعل، وتكون ما مصدرية، والتقدير: كانوا قليلا هجوعهم من الليل، والثاني: مثل هذا إلا أن ما موصولة والتقدير: كانوا قليلا الذي يهجعون فيه من الليل، والثالث: أن تكون ما زائدة، وقليلا ظرف، والعامل فيه يهجعون، والتقدير: كانوا يهجعون وقتا قليلا من الليل، والرابع مثل هذا إلا أن قليلا صفة لمصدر محذوف، والتقدير: كانوا يهجعون هجوعا قليلا، وأما على القول الثاني ففي الإعراب وجهان: أحدهما أن تكون ما نافية، وقليلا ظرف، والعامل فيه يهجعون، والتقدير: كانوا ما يهجعون قليلا من الليل، والآخر أن تكون ما نافية، وقليلا خبر كان، والمعنى كانوا قليلا في الناس، ثم ابتدأ بقوله من الليل ما يهجعون وكلا الوجهين باطل عند أهل العربية، لأن ما نافية لا يعمل ما بعدها فيما قبلها، فظهر ضعف هذا المعنى لبطلان إعرابه.

[سورة الذاريات (51) : الآيات 18 إلى 25]

وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ أي يطلبون من الله مغفرة ذنوبهم، والأسحار آخر الليل، وقد جاء في الحديث أن الله تعالى يقول في الثلث الآخر من الليل: من يستغفرني فأغفر له «1» ، وقيل: معنى يستغفرون: يصلون وهذا بعيد من اللفظ وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ الحق هنا نوافل الصدقات، وقيل: المراد الزكاة وهذا بعيد لأن الآية مكية، وإنما فرضت الزكاة بالمدينة، وقيل: إن الآية منسوخة بالزكاة، وهذا لا يحتاج إليه لأن النسخ إنما يكون مع التعارض، ولا تعارض بين الزكاة والنوافل. وتسمية النوافل بالحق كقوله: حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ [البقرة: 236] وإن كان غير واجب، وقال بعض العلماء: حق سوى الزكاة. ورجحه ابن عطية. واختلف الناس في المحروم حتى قال الشعبي: أعياني أن أعلم ما المحروم، وقيل: المحروم الذي ليس له في بيت المال سهم، وقيل الذي اجتيحت ثمرته، وقيل: الذي ماتت ماشيته، والمعنى الجامع لها أن المحروم هو الفقير المستور الحال وَفِي أَنْفُسِكُمْ إشارة إلى ما في خلقة الإنسان من الآيات والعبر، ولقد قال بعض العلماء فيه: إن فيه خمسة آلاف حكمة، وقال بعضهم: الإنسان نسخة مختصرة من العالم وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ معنى: في السماء رزقكم: المطر، وقيل: القضاء والقدر، ويحتمل أن يكون ما توعدون من الوعد والوعيد والكل في السماء، ولذلك قيل: يعني الجنة والنار. وقيل: الخير والشر إِنَّهُ لَحَقٌّ هذا جواب القسم، والضمير لما تقدم من الآيات أو الرزق أو لما توعدون مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ أي حق مثل نطقكم لا يمكن الشك فيه، وما زائدة: وقرئ مثل بالنصب والرفع «2» فالرفع صفة لحق، والنصب على الحال من حق أو من الضمير المستتر فيه، أو صفة لحق وبني لإضافته إلى مبني، أو لتركيبه مع ما فيصير نحو أينما وكلما. هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ المراد بالاستفهام في مثل هذا التفخيم والتهويل، وضيف إبراهيم هم الملائكة الذين جاءوا ليبشروه بالولد وبإهلاك قوم لوط، ووصفهم بالمكرمين لأنهم مكرمون عند الله، ولأن إبراهيم عليه السلام أكرمهم، لأنه خدمهم بنفسه وعجل لهم الضيافة، والعامل في إذ دخلوا على هذا: المكرمين، ويحتمل أن يكون العامل فيه محذوف تقديره: اذكر فَقالُوا سَلاماً نصب هذا لأنه في معنى الطلب

_ (1) . هو جزء من حديث النزول وهو من الصحيح المتفق عليه رواه أبو هريرة وأوله: ينزل الله تعالى كل ليلة ... إلخ راجع البخاري ج 2 كتاب التجهد باب: 14 ص 47. (2) . قرأ حمزة والكسائي وأبو بكر: لحق مثل بالضم والباقون: مثل بالفتح.

[سورة الذاريات (51) : الآيات 26 إلى 43]

وهو مفعول بفعل مضمر، ورفع الثاني لأنه خبر تقديره: أمري سلام، وهذا على أن يكون السلام بمعنى السلامة، وإن كان بمعنى التحية فإنما رفع الثاني ليدل على إثبات السلام، فيكون قد حياهم بأكثر مما حيوه، وينتصب السلام الأول على هذا على المصدرية تقديره: سلمنا عليك سلاما، ويرتفع الثاني بالابتداء تقديره: سلام عليكم قوم منكرون أي لم يعرفهم قالَ أَلا تَأْكُلُونَ يحتمل أن يكون ألا حضا على الأكل، أو تكون الهمزة للإنكار دخلت على لا النافية فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً إنما خاف منهم لما لم يأكلوا. وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ هو إسحاق عليه السلام لقوله: فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ [هود: 71] فِي صَرَّةٍ أي صيحة، وذلك قولها: يا وَيْلَتى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ [هود: 72] وهو من صرّ القلم وغيره إذا صوّت، وقيل: معناه في جماعة في النساء فَصَكَّتْ وَجْهَها أي ضربته حياء منهم وتعجبا من ولادتها وهي عجوز وَقالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ تقديره: قالت أنا عجوز عقيم فكيف ألد؟ أو تقديره: أتلد عجوز عقيم؟ قالَ فَما خَطْبُكُمْ أي ما شأنكم وخبركم، والخطب أكثر ما يقال في الشدائد قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ يعني قوم سيدنا لوط، وقد ذكرنا الحجارة ومسومة في هود فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الضمير المجرور لقرية قوم سيدنا لوط، لأن الكلام يدل عليها وإن لم يتقدم ذكرها، والمراد بالمؤمنين لوط وأهله: أمرهم الله بالخروج من القرية لينجو من العذاب الذي أصاب أهلها، ووصفهم بالمؤمنين وبالمسلمين لأنهم جمعوا الوصفين وقد ذكرنا معنى الإسلام والإيمان في الأحزاب وَفِي مُوسى معطوف على قوله وفي الأرض آيات للموقنين أو على قوله: وتركنا فيها آية فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ معنى تولى أعرض عن الإيمان، وركنه سلطانه وقوته قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ أي قالوا إن موسى ساحر أو مجنون: فأو للشك أو للتقسيم، وقيل: بمعنى الواو وهذا ضعيف ولا يستقيم هنا هُوَ مُلِيمٌ أي فعل ما يلام عليه يعني فرعون الرِّيحَ الْعَقِيمَ وصفها بالعقم، لأنها لا بركة فيها من إنشاء المطر أو إلقاح الشجر كَالرَّمِيمِ أي الفاني المنقطع، والعموم هنا يراد به الخصوص فيما أذن للريح أن تهلكه وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ فيه قولان: أحدهما أن الحين هي الثلاثة الأيام

[سورة الذاريات (51) : الآيات 44 إلى 60]

بعد عقرهم الناقة والآخر أن الحين من بعد ما بعث صالح عليه السلام إلى حين هلاكهم، وعلى هذا يكون: فعتوا مترتبا بعد تمتعهم، وأما على الأول فيكن إخبارا عن حالهم غير مرتب على ما قبله فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ يعني الصيحة التي صاحها جبريل وَهُمْ يَنْظُرُونَ أي يعاينونها لأنها كانت بالنهار. وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ أي بقوة، وانتصاب السماء بفعل مضمر وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ فيه ثلاثة أقوال: أحدها أن معناه قادرون فهو من الوسع وهو الطاقة، ومنه عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ [البقرة: 236] أي القوي على الإنفاق، والآخر جعلنا السماء واسعة، أو جعلنا بينها وبين الأرض سعة، والثالث أوسعنا الأرزاق بمطر السماء فَنِعْمَ الْماهِدُونَ الماهد الموطئ للموضع وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ أي نوعين مختلفين كالليل والنهار، والسواد والبياض، والصحة والمرض وغير ذلك فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ أمر بالرجوع إليه بالتوبة والطاعة وفي اللفظ تحذير وترهيب أَتَواصَوْا بِهِ توقيف [سؤال] وتعجيب أي هم بمثابة من أوصى بعضهم بعضا أن يقول ذلك فَتَوَلَّ عَنْهُمْ منسوخ بالسيف فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ أي قد بلغت الرسالة فلا لوم عليك وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ قيل: معناه خلقتهم لكي آمرهم بعبادتي، وقيل ليتذللوا لي: فإن جميع الإنس والجن متذلل ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ أي ما أريد أن يرزقوا أنفسهم ولا غيرهم وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ أي لا أريد أن يطعمون، لأني منزه عن الأكل وعن صفات البشر، وأنا غني عن العالمين، وقيل: المعنى ما أريد أن يطعموا عبيدي، فحذف المضاف تجوزا، وقيل: معناه ما أريد أن ينفعوني لأني غنيّ عنهم، وعبّر عن النفع العام بالإطعام، والأول أظهر الْمَتِينُ أي الشديد القوة فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوباً الذنوب النصيب، ويريد به هنا نصيبا من العذاب، وأصل الذنوب الدلو، والمراد بالذين ظلموا كفار قريش، وبأصحابهم من تقدم من الكفار فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ يحتمل أن يريد يوم القيامة أو يوم هلاكهم ببدر، والأول أرجح لقوله في المعارج ذلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ [44] يعني يوم القيامة.

سورة الطور

سورة الطور مكية وآياتها 49 نزلت بعد السجدة بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (سورة الطور) وَالطُّورِ هو الجبل الذي كلم الله عليه موسى عليه السلام، وقيل: الطور كل جبل فكأنه أقسم بجنس الجبال وَكِتابٍ مَسْطُورٍ قيل: هو اللوح المحفوظ، وقيل: القرآن، وقيل: صحائف الأعمال فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ الرق في اللغة: الصحيفة، وخصصت في العرف بما كان من جلد، والمنشور خلاف المطوي وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ هو بيت في السماء السابعة يدخله كل يوم سبعون ألف ملك، لا يعودون إليه أبدا وبهذا عمرانه، وهو حيال الكعبة، وقيل: البيت المعمور: الكعبة وعمرانها بالحجاج والطائفين، والأول أظهر، وهو قول علي وابن عباس وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ يعني السماء وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ هو بحر الدنيا، وقيل: بحر في السماء تحت العرش: والأول أظهر وأشهر، ومعنى المسجور: المملوء ماء، وقيل: الفارغ من الماء، ويروى أن البحار يذهب ماؤها يوم القيامة، واللغة تقتضي الوجهين: لأن اللفظ من الأضداد، وقيل: معناه الموقد نارا من قولك: سجرت التنور، واللغة أيضا تقتضي هذا، وروي أن جهنم في البحر إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ هذا جواب القسم، ويعني عذاب الآخرة يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً أي: تجيء وتذهب، وقيل: تدور، وقيل: تتشقق، والعامل في الظرف واقع ودافع أو محذوف الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ الخوض: التخبط في الأباطيل شبّه بخوض الماء يَوْمَ يُدَعُّونَ أي يدفعون بتعنيف، ويوم بدل من الظرف المتقدم. أَفَسِحْرٌ هذا؟ توبيخ للكفار على ما كانوا يقولونه في الدنيا من أن القرآن سحر أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ توبيخ أيضا لهم، وتهكم بهم أي هل أنتم لا تبصرون هذا العذاب الذي حل بكم كما كنتم في الدنيا لا تبصرون الحقائق؟ فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا ليس المراد بذلك الأمر بالصبر ولا النهي عنه، وإنما المراد التسوية بين الصبر وعدمه في أن كل واحد من الحالين لا ينفعهم، ولا يخفف عنهم شيئا من العذاب إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ هذا

تعليل لما ذكر من عذابهم، وليس تعليلا للصبر ولا لعدمه كما قال بعض الناس فاكِهِينَ يحتمل أن يكون معناه أصحاب فاكهة، فيكون نحو لابن وتامر صاحب لبن وصاحب تمر أو يكون من الفكاهة بمعنى السرور وَوَقاهُمْ معطوف على قوله: في جنات أو على آتاهم ربهم، أو تكون الواو للحال كُلُوا وَاشْرَبُوا أي يقال لهم: كلوا هَنِيئاً صفة لمصدر محذوف تقديره: كلوا أكلا هنيئا، ويحتمل أن يكون وقع موقع فعل تقديره: هنأكم الأكل والشرب بِحُورٍ عِينٍ الحور: جمع حوراء وهي الشديدة بياض بياض العين وسواد سوادها، والعين جمع عيناء وهي الكبيرة العينين مع جمالها، وإنما دخلت الباء في قوله بحور لأنه تضمن قوله: زوّجناهم معنى قرناهم، قاله الزمخشري وقال: إن الذين آمنوا معطوف على بحور عين أي قرناهم بحور للتلذذ بهن، وبالذين آمنوا للأنس معهم. والأظهر أن الكلام تمّ في قوله «بحور عين» ويكون والذين آمنوا مبتدأ خبره ألحقنا. وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ «1» معنى الآية ما ورد في الحديث الشريف أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال: «إن الله يرفع ذرية المؤمن في درجته في الجنة، وإن كانوا دونه في العمل لتقر بهم عينه» «2» فذلك كرامة للأبناء بسبب الآباء، قيل: إن ذلك في الأولاد الذين ماتوا صغارا، وقيل: على الإطلاق في الأبناء المؤمنين، وبإيمان في موضع الحال من الذرية، والمعنى أنهم اتبعوا آباءهم في الإيمان، وقال الزمخشري: إن هذا المجرور يتعلق بألحقنا، والمعنى عنده بسبب الإيمان ألحقنا بهم ذريتهم، والأول أظهر، فإن قيل: لم قال بإيمان بالتنكير؟ فالجواب: أن المعنى بشيء من الإيمان لم يكونوا به أهلا لدرجة آبائهم، ولكنهم لحقوا بهم كرامة لآباء، فالمراد تقليل إيمان الذرية ولكنه رفع درجتهم، فكيف إذا كان إيمانا عظيما وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ أي ما أنقصناهم من ثواب أعمالهم بل وفينا لهم أجورهم، وقيل المعنى: ألحقنا ذريتهم بهم، وما نقصناهم شيئا من ثواب أعمالهم بسبب ذلك، بل فعلنا ذلك تفضلا زيادة إلى ثواب أعمالهم، والضمير على القولين يعود على الذين آمنوا، وقيل: إنه يعود على الذرية كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ أي مرتهن، فإما أن تنجيه حسناته، وإما أن تهلكه

_ (1) . اختلف القراء في قراءتها: فقرأ أهل الكوفة ذريتهم بالافراد الأولى بالرفع والثانية بالنصب وقرأ نافع ذريتهم الأولى بالافراد: ذرياتهم. والثاني بالجمع والكسر: ذرياتهم وقرأ أبو عمر: وأتبعناهم ذرياتهم، وألحقنا بهم ذرياتهم بالجمع والكسر وقرأ ابن عامر: وأتبعتهم ذرياتهم بالألف والضم. وألحقنا بهم ذرياتهم بالجمع والكسر. (2) . لم أعثر عليه ولا شك بأن معناه صحيح لورود القرآن به، وقد أورده الطبري موقوفا على ابن عباس.

[سورة الطور (52) : الآيات 22 إلى 34]

سيئاته وَأَمْدَدْناهُمْ بِفاكِهَةٍ الإمداد هو الزيادة مرة بعد مرة يَتَنازَعُونَ فِيها كَأْساً أي يتعاطونها إذ هم جلساء على الشراب لا لَغْوٌ فِيها وَلا تَأْثِيمٌ «1» اللغو الكلام الساقط، والتأثيم: الذنب فهي بخلاف خمر الدنيا غِلْمانٌ لَهُمْ يعني خدامهم كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ اللؤلؤ الجوهر، والمكنون المصون، وذلك لحسنه وقيل: هو الذي لم يخرج من الصدف قالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنا مُشْفِقِينَ أي كنا في الدنيا خائفين من الله، والإشفاق شدة الخوف السَّمُومِ أشد الحر وقيل: هو من أسماء جهنم إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ يحتمل أن يكون بمعنى نعبده، أو من الدعاء بمعنى الرغبة، ومن قبل يعنون في الدنيا قبل لقاء الله إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ البر الذي يبرّ عباده ويحسن إليهم، وقرأ نافع والكسائي أنه بفتح الهمزة على أن يكون مفعولا من أجله، أو يكون هذا اللفظ هو المدعو به وقرأ الباقون بكسرها على الاستئناف. فَذَكِّرْ فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ هذا خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، أي ذكّر الناس. ثم نفى عنه ما نسبه إليه الكفار من الكهانة والجنون. ومعنى: بنعمة ربك: بسبب إنعام الله عليك أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ أم في هذا الموضع وفيما بعده للاستفهام بمعنى الإنكار، والتربص الانتظار، وريب المنون، حوادث الدهر، وقيل: الموت، وكانت قريش قد قالت: إنما هو شاعر ننتظر به ريب المنون فيهلك كما هلك من كان قبله من الشعراء كزهير والنابغة قُلْ تَرَبَّصُوا أمر على وجه التهديد أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهذا الأحلام العقول: أي كيف تأمرهم عقولهم بهذا، والإشارة إلى قولهم هو شاعر، أو إلى ما هم عليه من الكفر والتكذيب، وإسناد الأمر إلى الأحلام مجاز كقوله: أصلاتك تأمرك [هود: 87] أَمْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ أم هنا بمعنى بل، ويحتمل أن تكون بمعنى بل وهمزة الاستفهام بمعنى الإنكار كما هي في هذه المواضع كلها أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ أي اختلقه من تلقاء نفسه، وضمير الفاعل لرسول الله صلى الله عليه وسلم وضمير المفعول للقرآن فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ ردّ عليهم وإقامة حجة عليهم، والأمر هنا للتعجيز أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ فيه ثلاثة أقوال: أحدها أن معناه أم خلقوا من غير رب أنشأهم واستعبدهم،

_ (1) . قرأ ابن كثير وأبو عمرو بالنصب: لا لغو فيها ولا تأثيم مثل الآية: [196] البقرة: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ.

فهم من أجل ذلك لا يعبدون الله: الثاني أم خلقوا من غير أب ولا أم كالجمادات فهم لا يؤمرون ولا ينهون كحال الجمادات: الثالث أم خلقوا من غير أن يحاسبوا ولا يجازوا بأعمالهم فهو على هذا كقوله: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً [المؤمنون: 115] أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ معناه أهم الخالقون لأنفسهم بحيث لا يعبدون الخالق؟ أم هم الخالقون للمخلوقات بحيث يتكبرون؟ أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَبِّكَ المعنى أعندهم خزائن الله بحيث يستغنون عن عبادته؟ وقيل: أعندهم خزائن الله بحيث يعطون من شاءوا ويمنعون من شاءوا؟ ويخصون بالنبوّة من شاءوا أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ «1» أي الأرباب الغالبون، وقيل: المسيطر المسلط القاهر أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ يعني أم لهم سلم يصعدون به إلى السماء، فيسمعون ما تقول الملائكة، بحيث يعلمون صحة دعواهم. ثم عجّزهم بقوله: فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ أي بحجة واضحة على دعواهم أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ معناه أتسألهم على الإسلام أجرة، فيثقل عليهم غرمها فيشق عليهم اتباعك أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ المعنى أعندهم علم اللوح المحفوظ فهم يكتبون ما فيه حتى يقولوا: لا نبعث وإن بعثنا لا نعذب؟ وقيل: المعنى فهم يكتبون للناس سننا وشرائع من عبادة الأصنام وتسييب السوائب وشبه ذلك أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً إشارة إلى كيدهم في دار الندوة «2» بالنبي صلى الله عليه وسلم، حيث تشاوروا في قتله أو إخراجه فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ أي المغلوبون في الكيد، والذين كفروا يعني من تقدم الكلام فيهم وهم كفار قريش، فوضع الظاهر موضع المضمر، ويحتمل أن يريد جميع الكفار أَمْ لَهُمْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ المعنى هل لهم إله غير الله يعصمهم من عذاب الله ويمنعهم منه؟ وحصر الله في هذه الآية جميع المعاني التي توجب التكبر والبعد من الدخول في الإسلام ونفاها عنهم ليبين أن تكبرهم من غير موجب وكفرهم من غير حجة. وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّماءِ ساقِطاً يَقُولُوا سَحابٌ مَرْكُومٌ كانوا قد طلبوا أن ينزل عليهم كسفا من السماء، فالمعنى أنهم لو رأوا الكسف ساقطا عليهم لبلغ بهم الطغيان والجهل والعناد أن يقولوا: ليس بكسف وإنما هو سحاب مركوم: أي كثيف بعضه فوق

_ (1) . قرأ ابن كثير وحفص: المسيطرون وقرأ حمزة بالإشمام وقرأ الباقون بالصاد المصيطرون. (2) . مركز اجتماعات كان في مكة قبل الإسلام.

[سورة الطور (52) : الآيات 45 إلى 49]

بعض فَذَرْهُمْ منسوخ بالسيف يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ «1» يعني يوم القيامة والصعقة فيه هي النفخة الأولى، وقيل: غير ذلك والصحيح ما ذكرنا لقوله في المعارج [44] عن يوم القيامة ذلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ، عَذاباً دُونَ ذلِكَ يعني قتلهم يوم بدر، وقيل الجوع بالقحط، وقيل: عذاب القبر وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ أي اصبر على تكذيبهم لك وإمهالنا لهم فإنا نراك وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ فيه ثلاثة أقوال: أحدها أنه قول سبحان الله، ومعنى حين تقوم من كل مجلس، وقيل: أراد حين تقوم وتقعد، وفي كل حال وجعل القيام مثالا: الثاني أنه الصلوات النوافل والثالث أنه الصلوات الفرائض، فحين تقوم الظهر والعصر: أي حين تقوم من نوم القائلة، ومن الليل المغرب والعشاء، وإدبار النجوم: الصبح ومن قال: هي النوافل، جعل إدبار النجوم ركعتي الفجر.

_ (1) . قرأ ابن عامر وعاصم: يصعقون، وقرأ الباقون: يصعقون بفتح الياء.

سورة النجم

سورة النجم مكية إلا آية 32 فمدنية وآياتها 62 نزلت بعد الإخلاص بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (سورة النجم) وَالنَّجْمِ إِذا هَوى فيه ثلاثة أقوال: أحدها أنها الثريا لأنها غلب عليها التسمية بالنجم، ومعنى هوى غرب وانتثر يوم القيامة، الثاني أنه جنس النجوم، ومعنى هوى كما ذكرنا، أو انقضت ترجم الشياطين. الثالث أنه من نجوم القرآن، وهو الجملة التي تنزل، وهوى على هذا معناه نزل ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى هذا جواب القسم، والخطاب لقريش، وصاحبكم هو النبي صلى الله عليه وسلم، فنفى عنه الضلال والغيّ، والفرق بينهما: أن الضلال بغير قصد، والغيّ بقصد وتكسب وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى أي ليس يتكلم بهواه وشهوته، إنما يتكلم بما يوحي الله إليه إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى يعني القرآن عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى ضمير المفعول للقرآن أو للنبي صلى الله عليه وسلم، والشديد القوى: جبريل، وقيل: الله تعالى، والأول أرجح لقوله: ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ [التكوير: 20] والقوى جمع: قوة ذُو مِرَّةٍ أي ذو قوّة، وقيل: ذو هيئة حسنة، والأول هو الصحيح في اللغة فَاسْتَوى أي استوى جبريل في الجو إذ رآه النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو ب [غار] حراء، وقيل: معنى استوى: ظهر في صورته على ستمائة جناح، قد سدّ الأفق بخلاف ما كان يتمثل به من الصور إذا نزل بالوحي، وكان غالبا ما ينزل في صورة الصحابي دحية الكلبي وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى الضمير لجبريل وقيل: لسيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم والأول أصح ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى الضميران لجبريل أي دنا من سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم فتدلّى في الهواء، وهو عند بعضهم من المقلوب تقديره: فتدلى فدنا. فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى القاب: مقدار المسافة، أي كان جبريل من سيدنا محمد عليهما الصلاة والسلام في القرب بمقدار قوسين عربيتين، ومعناه من طرف العود إلى الطرف الآخر، وقيل: من الوتر إلى العود، وقيل: ليس القوس التي يرمى بها، وإنما هي ذراع تقاس بها المقادير ذكره الثعلبي. وقال: إنه من لغة أهل الحجاز، وتقدير الكلام: فكان مقدار مسافة جبريل من سيدنا محمد عليهما الصلاة والسلام مثل قاب قوسين. ثم

حذفت هذه المضافات، ومعنى أو أدنى أو أقرب وأو هنا مثل قوله: أَوْ يَزِيدُونَ [الصافات: 147] وأشبه التأويلات فيها أنه إذا نظر إليه البشر احتمل عنده أن يكون قاب قوسين أو يكون أدنى، وهذا الذي ذكرنا أن هذه الضمائر المتقدمة لجبريل هو الصحيح، وقد ورد ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث الصحيح، وقيل: إنها لله تعالى، وهذا القول يردّ عليه الحديث والعقل، إذ يجب تنزيه الله تعالى عن تلك الأوصاف من الدنو والتدلي وغير ذلك فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى في هذه الضمائر ثلاثة أقوال: الأول أن المعنى أوحى الله إلى عبده محمد صلى الله عليه وآله وسلم ما أوحى. الثاني أوحى الله إلى عبده جبريل ما أوحى، وعاد الضمير على الله في القولين، لأن سياق الكلام يقتضي ذلك وإن لم يتقدم ذكره، فهو كقوله: إنا أنزلناه في ليلة القدر. الثالث أوحى جبريل إلى عبد الله محمد ما أوحى، وفي قوله: ما أوحى إبهام مراد يقتضي التفخيم والتعظيم ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى «1» أي ما كذب فؤاد محمد صلى الله عليه وسلم ما رآه بعينه، بل صدق بقلبه أن الذي رآه بعينه حق، والذي رأى هو جبريل، يعني حين رآه بمقدار ملأ الأفق، وقيل: رأى ملكوت السموات والأرض، والأول أرجح لقوله: وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى وقيل: الذي رآه هو الله تعالى، وقد أنكرت «2» ذلك عائشة، وسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل رأيت ربك؟ فقال: نور أنّى أراه؟ «3» أَفَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى «4» هذا خطاب لقريش، والمعنى أتجادلونه على ما يرى، وكانت قريش قد كذبت لما قال إنه رأى ما رأى وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى أي لقد رأى محمد جبريل عليهما الصلاة والسلام مرة أخرى وهو ليلة الإسراء، وقيل: ضمير المفعول لله تعالى، وأنكرت ذلك عائشة، وقالت: من زعم أن محمدا رأى ربه ليلة الإسراء فقد أعظم الفرية على الله تعالى. عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى «5» هي شجرة في السماء السابعة قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ثمرتها كالقلال وورقها كآذان الفيلة، وسميت سدرة المنتهى لأن إليها ينتهي علم كل عالم، ولا يعلم ما وراءها إلا الله تعالى. وقيل: سميت بذلك لأن ما نزل من أمر الله يلتقي عندها، فلا يتجاوزها ملائكة العلو إلى أسفل، ولا يتجاوزها ملائكة السفل إلى أعلى عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى يعني أن الجنة التي

_ (1) . قرأ هشام عن ابن عامر: ما كذّب الفؤاد. وقرأ الباقون بالتخفيف: ما كذب. (2) . روى الترمذي في كتاب التفسير (6) ص 262 ج 5 عن عائشة قالت: ثلاث من تكلم بواحدة منهن فقد أعظم على الله العزية: من زعم أن محمدا رأى ربه فقد أعظم العزية على الله والله يقول: لا تدركه الأبصار، وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير.. إلخ. [.....] (3) . رواه مسلم عن أبي ذر ج 1/ 161 كتاب الإيمان. (4) . أفتمارونه على ما يرى: قرأها حمزة والكسائي أفتمرونه: بدون ألف والباقون بالألف. (5) . ورد الحديث عن سدرة المنتهى في البخاري كتاب مناقب الأنصار ص 248 ج 4.

[سورة النجم (53) : الآيات 16 إلى 14]

وعدها الله عباده هي عند سدرة المنتهى، وقيل: هي جنة أخرى تأوي إليها أرواح الشهداء، والأول أظهر وأشهر إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى فيه إبهام لقصد التعظيم، قال ابن مسعود: غشيها فراش من ذهب، وقيل: كثرة الملائكة، وفي الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فغشيها ألوان لا أدري ما هي، وهذا أولى أن تفسر به الآية ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى أي ما زاغ بصر سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم عما رآه من العجائب، بل أثبتها وتيقنها، وما طغى: أي ما تجاوز ما رأى إلى غيره لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى يعني ما رأى ليلة الإسراء من السموات والجنة والنار والملائكة والأنبياء وغير ذلك. ويحتمل أن تكون الكبرى مفعولا أو نعتا لآيات ربه، والمعنى يختلف على ذلك أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى هذه أوثان كانت تبعد من دون الله، فخاطب الله من كان يعبدها من العرب على وجه التوبيخ لهم، وقال ابن عطية: الرؤيا هنا رؤية العين لأن الأوثان المذكورة أجرام مرئية، فأما اللات فصنم كان بالطائف، وقيل: كان بالكعبة، وأما العزّى فكانت صخرة بالطائف، وقيل: شجرة فبعث إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد فقطعها فخرجت منها شيطانة ناشرة شعرها تدعو بالويل فضربها بالسيف حتى قتلها، وقيل: كانت بيتا تعظمه العرب وأصل لفظ العزى مؤنثة الأعز، وأما مناة فصخرة كانت لهذيل وخزاعة بين مكة والمدينة. وكانت أعظم هذه الأوثان، قال ابن عطية: ولذلك قال تعالى: الثالثة الأخرى فأكدها بهاتين الصفتين، وقال الزمخشري: الأخرى ذم وتحقير أي المتأخرة الوضيعة القدر. ومنه: قالَتْ أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ [الأعراف: 38] أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى كانوا يقولون: إن الملائكة وهذه الأوثان بنات الله، فأنكر الله عليهم ذلك أي كيف تجعلون لأنفسكم الأولاد الذكور، وتجعلون لله البنات التي هي عندكم حقيرة بغيضة، وقد ذكر هذا المعنى في النحل وغيرها، ويحتمل أن يكون أنكر عليهم جعل هذه الأوثان شركاء لله تعالى مع أنهن إناث والإناث حقيرة بغيضة عندهم تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى «1» أي هذه القسمة التي قسمتم جائرة غير عادلة، يعني جعلهم الذكور لأنفسهم والإناث لله تعالى ووزن ضيزى فعلى بضم الفاء، ولكنها كسرت لأجل الياء التي بعدها إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها الضمير للأوثان، وقد ذكر هذا المعنى في الأعراف: 71 في قوله أَتُجادِلُونَنِي فِي أَسْماءٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ يعني أنهم يقولون أقوالا بغير حجة كقولهم: إن الملائكة بنات الله، وقولهم: إن الأصنام تشفع لهم وغير ذلك أَمْ لِلْإِنْسانِ ما تَمَنَّى أم هنا

_ (1) . ضيزى: قرأها ابن كثير بالهمز: ضئزى والباقون بالياء.

[سورة النجم (53) : الآيات 25 إلى 37]

للإنكار، والإنسان هنا جنس بني آدم: أي ليس لأحد ما يتمنى بل الأمر بيد الله، وقيل: إن الإشارة إلى ما طمع فيه الكفار من شفاعة الأصنام، وقيل: إلى قول العاصي بن وائل: لأوتين مالا وولدا، وقيل: هو تمني بعضهم أن يكون نبيا، والأحسن حمل اللفظ على إطلاقه. وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ الآية: رد على الكفار في قولهم: إن الأوثان تشفع لهم، كأنه يقول: الملائكة الكرام لا تغني شفاعتهم شيئا إلا بإذن الله فكيف أوثانكم؟ إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشاءُ وَيَرْضى معناه أن الملائكة لا يشفعون لشخص إلا بعد أن يأذن الله لهم في الشفاعة فيه ويرضى عنه لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثى يعني قولهم: إن الملائكة بنات الله، ثم ردّ عليهم بقوله: وما لهم به من علم ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ أي إلى ذلك انتهى علمهم لأنهم علموا ما ينفع في الدنيا، ولم يعلموا ما ينفع في الآخرة لِيَجْزِيَ اللام متعلقة بمعنى ما قبلها، والتقدير: أن الله مالك أمر السموات والأرض ليجزي الذي أساؤوا بما عملوا. وقيل: يتعلق بضل واهتدى كَبائِرَ الْإِثْمِ «1» ذكرنا الكبائر في النساء [31] إِلَّا اللَّمَمَ فيه أربعة أقوال: الأول: أنه صغائر الذنوب فالاستثناء على هذا منقطع. الثاني: أنه الإلمام بالذنوب على وجه الفلتة والسقطة دون دوام عليها. الثالث: أنه ما ألموا به في الجاهلية من الشرك والمعاصي: الرابع: أنه الهمّ بالذنوب وحديث النفس به دون أن يفعل أَجِنَّةٌ جمع جنين فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ أي لا تنسبوا أنفسكم إلى الصلاح والخير، قال ابن عطية: ويحتمل أن يكون نهى عن أن يزكي بعض الناس بعضا، وهذا بعيد لأنه تجوز التزكية في الشهادة وغيرها. أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى الآية: نزلت في الوليد بن المغيرة، وقيل نزلت في العاصي بن وائل وَأَكْدى أي قطع العطاء وأمسك وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى قيل: وفي طاعة الله في ذبح ولده، وقيل: وفي تبليغ الرسالة، وقيل: وفي شرائع الإسلام، وقيل: وفي الكلمات التي ابتلاه الله بهن، وقيل: وفي هذه العشر الآيات أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ذكر فيما تقدم،

_ (1) . كبائر الإثم: قرأها حمزة والكسائي: كبير الإثم والباقون: كبائر.

وهذه الجملة تفسير لما في صحف إبراهيم وموسى عليهما السلام. وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى السعي هنا بمعنى العمل، وظاهرها أنه لا ينتفع أحد بعمل غيره، وهي حجة لمالك في قوله: لا يصوم أحد عن وليه إذا مات وعليه صيام، واتفق العلماء على أن الأعمال المالية كالصدقة والعتق يجوز أن يفعلها الإنسان عن غيره، ويصل نفعها إلى من فعلت عنه، واختلفوا في الأعمال البدنية كالصلاة والصيام وقيل: إن هذه الآية منسوخة بقوله أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ والصحيح أنها محكمة لأنها خبر: والأخبار لا تنسخ. وفي تأويلها ثلاثة أقوال: الأول: أنها إخبار عما كان في شريعة غيرنا فلا يلزم في شريعتنا الثاني: أن للإنسان ما عمل بحق وله ما عمل له غيره بهبة العامل له، فجاءت الآية في إثبات الحقيقة دون ما زاد عليها. الثالث: أنها في الذنوب، وقد اتفق أنه لا يحتمل أحد ذنب أحد، ويدل على هذا قوله بعدها: أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وكأنه يقول: لا يؤاخذ أحد بذنب غيره ولا يؤاخذ إلا بذنب نفسه وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى قيل: معناه يراه الخلق يوم القيامة، والأظهر أنه صاحبه لقوله: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى فيه قولان أحدهما أن معناه إلى الله المصير في الآخرة، والآخر أن معناه أن العلوم تنتهي إلى الله، ثم يقف العلماء عند ذلك، وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا فكرة في الرب «1» . وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى قيل: معناه أضحك أهل الجنة، وأبكى أهل النار، وهذا تخصيص لا دليل عليه، وقيل: أبكى السماء بالمطر وأضحك الأرض بالنبات، وهذا مجاز وقيل: خلق في بني آدم الضحك والبكاء والصحيح أنه عبارة عن الفرح والحزن لأن الضحك دليل على السرور والفرح، كما أن البكاء دليل على الحزن. فالمعنى أن الله تعالى أحزن من شاء من عباده، وأسر من شاء أَماتَ وَأَحْيا يعني الحياة المعروفة والموت المعروف وقيل: أحيا بالإيمان وأمات بالكفر والأول أرجح، لأنه حقيقة مِنْ نُطْفَةٍ يعني المني إِذا تُمْنى من قولك: أمنى الرجل إذا خرج منه المنيّ النَّشْأَةَ الْأُخْرى يعني الإعادة للحشر وأقنى يعني أكسب عباده المال، وهو من قنية المال وهو كسبه وادخاره وقيل: معنى أقنى: أفقر وهذا لا تقتضيه اللغة، وقيل: معناه أرضى وقيل: قنع عبده

_ (1) . لم أجده بهذا اللفظ وجاء في تخريج أحاديث الإحياء ج 4 ص 424. تفكروا في خلق الله ولا تتفكروا في الله فإنكم لن تقدروا قدره. وعزاه لأبي نعيم في الحلية وإسناده ضعيف والطبراني في الأوسط عن ابن عمر.

[سورة النجم (53) : الآيات 52 إلى 62]

الشِّعْرى نجم في السماء، وتسمى كلب الجبار وهما شعريان وهما: الغميصاء والعبور. وخصها بالذكر دون سائر النجوم لأن بعض العرب كان يعبدها عاداً الْأُولى وصفها بالأولى لأنها كانت في قديم الزمان، فهي الأولى بالإضافة إلى الأمم المتأخرة، وقيل: إنما سميت أولى لأن ثم عادا أخرى متأخرة وهذا لا يصح، وقرأ نافع عاد لّولى بإدغام تنوين عاد في لام الأولى بحذف الهمزة، ونقل حركتها إلى اللام وضعّف المزني والمبرد هذه القراءة وهمز قالون الأولى دون ورش وقرأ الباقون على الأصل بكسر تنوين عادا وإسكان لام الأولى وَثَمُودَ فَما أَبْقى «1» أي ما أبقى منهم أحدا، وقيل: ما أبقى عليهم وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوى فَغَشَّاها ما غَشَّى هي مدينة قوم لوط، ومعنى أهوى طرحها من علو إلى أسفل، وفي قوله ما غشى تعظيم للأمر. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمارى هذا مخاطبة للإنسان على الإطلاق معناه: بأي نعم ربك تشك هذا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولى يعني القرآن أو النبي صلى الله عليه وسلم، ومعنى من النذر الأولى من نوعها وصفتها أَزِفَتِ الْآزِفَةُ أي قربت القيامة كاشِفَةٌ يحتمل لفظه ثلاثة أوجه: أن يكون مصدرا كالعافية، أي ليس لها كشف وأن يكون بمعنى كاشف والتاء للمبالغة كعلامة، وأن يكون صفة لمحذوف تقديره: نفس كاشفة أو جماعة كاشفة ويحتمل معناه وجهين: أحدهما أن يكون من الكشف بمعنى: الإزالة أي ليس لها من يزيلها إذا وقعت والآخر أن يكون بمعنى الاطلاع أي ليس لها من يعلم وقتها إلا الله أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ الإشارة إلى القرآن وتعجبهم منه إنكاره وَأَنْتُمْ سامِدُونَ أي لاعبون لاهون، وقيل: غافلون مفرطون فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا هذا موضع سجدة عند الشافعي وغيره، وقد قال ابن مسعود قرأها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فسجد وسجد كل من كان معه.

_ (1) . وثمود: قرأها عاصم وحمزة بفتحة، وقرأها الباقون، وثمودا.

سورة القمر

سورة القمر مكية إلا الآيات 4 و 45 و 46 فمدنية وآياتها 55 نزلت بعد الطارق بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (سورة القمر) اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ أي قربت القيامة، ومعنى قربها أنها بقي لها من الزمان [شيء] قليل بالنسبة إلى ما مضى، ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: بعثت أنا والساعة كهاتين «1» ، وأشار بالسبابة والوسطى وَانْشَقَّ الْقَمَرُ هذا إخبار بما جرى في زمان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وذلك أن قريشا سألته آية فأراهم انشقاق القمر. فقال صلى الله عليه وآله وسلم: اشهدوا «2» ، وقال ابن مسعود: انشق القمر فرأيته فرقتين فرقة وراء الجبل وأخرى دونه، وقيل: معنى انشق القمر أنه ينشق يوم القيامة، وهذا قول باطل تردّه الأحاديث الصحيحة الواردة بانشقاق القمر، وقد اتفقت الأمة على وقوع ذلك وعلى تفسير الآية بذلك إلا من لا يعتبر قوله وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ هذه الضمائر لقريش والآية المشار إليها انشقاق القمر وعند ذلك قالت قريش: سحر محمد القمر ومعنى مستمر: دائم- وقيل: معناه ذاهب يزول عن قريب- وقيل: شديد وهو على هذا المعنى من المرة وهي القوة وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ أي كل شيء لا بد له من غاية، فالحق يحق والباطل يبطل وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنَ الْأَنْباءِ ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ الأنباء هنا، يراد بها ما ورد في القرآن من القصص والبراهين والمواعظ، ومزدجر اسم مصدر بمعنى الازدجار أو اسم موضع بمعنى أنه مظنة أن يزدجر به حِكْمَةٌ بالِغَةٌ بدل من ما فيه أو خبر ابتداء مضمر فَما تُغْنِ النُّذُرُ يحتمل أن تكون ما نافية أو استفهامية لمعنى الاستبعاد والإنكار فَتَوَلَّ عَنْهُمْ أي أعرض عنهم لعلمك أن الإنذار لا ينفعهم.

_ (1) . قال العجلوني فيه: رواه الشيخان عن أنس وأحمد عن سهل بن سعد وجابر بن عبد الله. (2) . رواه أحمد عن ابن مسعود ج أول ص 456.

[سورة القمر (54) : الآيات 7 إلى 14]

يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ «1» العامل في يوم مضمر تقديره: اذكر أو قوله: يَخْرُجُونَ بعد ذلك، وليس العامل فيه تول عنهم لفساد المعنى. فقد تم الكلام في قوله: تول عنهم فيوقف عليه وقيل: المعنى تولّ عنهم أي يوم يدع الداع والأول أظهر وأشهر. والداعي جبريل أو إسرافيل إذ ينفخ في الصور، والشيء النكر الشديد الفظيع. وأصله من الإنكار. أي: هو منكور لأنه لم ير قط مثله، والمراد به يوم القيامة خُشَّعاً أَبْصارُهُمْ كناية عن الذلة وانتصب خشعا على الحال من الضمير في يخرجون يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ أي من القبور كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ شبّههم بالجراد في خروجهم من الأرض، فكأنه استدلال على البعث كالاستدلال بخروج النبات. وقيل: إنما شبههم بالجراد في كثرتهم، وأن بعضهم يموج في بعض مُهْطِعِينَ أي مسرعين وقيل: ناظرين إلى الداع «2» فَكَذَّبُوا عَبْدَنا يعني نوحا عليه السلام، ووصفه هنا بالعبودية تشريفا له واختصاصا وَازْدُجِرَ أي زجروه بالشتم والتخويف وقالوا له: لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ [الشعراء: 116] فَدَعا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ أي قد غلبني الكفار فانتصر لي أو انتصر لنفسك، فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ عبارة عن كثرة المطر، فكأنه يخرج من أبواب، وقيل: فتحت في السماء أبواب يومئذ حقيقة، والمنهمر الكثير فَالْتَقَى الْماءُ ماء السماء وماء الأرض عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ أي قد قضي في الأزل، ويحتمل أن يكون المعنى أنه قدر بمقدار معلوم، وروي في ذلك أنه علا فوق الأرض أربعين ذراعا وَحَمَلْناهُ عَلى ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ يعني السفينة والدسر هي المسامير واحدها دسار، وقيل: هي مقادم السفينة، وقيل: أضلاعها والأول أشهر تَجْرِي بِأَعْيُنِنا عبارة عن حفظ الله ورعيه لها جَزاءً لِمَنْ كانَ كُفِرَ أي جزاء لنوح: وقيل: جزاء لله تعالى والأول أظهر، وانتصب جزاء على أنه مفعول من أجله، والعامل فيه ما تقدم من فتح أبواب السماء وما بعده من الأفعال أي جعلنا ذلك كله جزاء لنوح، ويحتمل أن يكون قوله: كفر من الكفر بالدين والتقدير لمن كفر به فحذف الضمير، أو يكون من الكفر بالنعمة لأن نوحا عليه السلام نعمة من الله كفرها قومه، فلا يحتاج على هذا إلى الضمير المحذوف.

_ (1) . قوله: يدع الداع: قرأ قالون عن نافع والبزي وأبو عمرو: يوم يدع الداعي بإثبات الياء وصلا وحذفها الباقون. (2) . قوله: مهطعين إلى الداع. قرأ أهل الحجاز والبصرة: (مهطعين إلى الداعي) بإثبات الياء وصلا وأثبتها ابن كثير وقفا وحذفها الباقون وصلا ووقفا.

[سورة القمر (54) : الآيات 15 إلى 25]

وَلَقَدْ تَرَكْناها آيَةً الضمير للقصة المذكورة أو الفعلة أو السفينة وروي في هذا المعنى أنها بقيت على الجودي حتى نظر إليها أوائل هذه الأمة فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ تحضيض على الادّكار فيه ملاطفة جميلة من الله لعباده، ووزن مدكر مفتعل وأصله مدتكر ثم أبدل من التاء دالا وأدغمت فيها الدال فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ «1» توقيف [سؤال] فيه تهديد لقريش والنذر جمع نذير وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ أي يسرناه للحفظ، وهذا معلوم بالمشاهدة، فإنه يحفظه الأطفال الأصاغر وغيرهم حفظا بالغا بخلاف غيره من الكتب، وقد روي أنه لم يحفظ شيء من كتب الله عن ظهر قلب إلا القرآن. وقيل: معنى الآية سهلناه للفهم والاتعاظ به لما تضمن من البراهين والحكم البليغة، وإنما كرر هذه الآية البليغة وقوله: فذوقوا عذابي ونذر لينبه السامع عند كل قصة، فيعتبر بها إذ كل قصة من القصص التي ذكرت عبرة وموعظة، فختم كل واحدة بما يوقظ السامع من الوعيد في قوله: فكيف كان عذابي ونذر، ومن الملاطفة في قوله: ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر رِيحاً صَرْصَراً أي مصوتة فهو من الصرير يعني الصوت وقيل: معناه باردة فهو من الصر يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ روي أنه كان يوم أربعاء، حتى رأى بعضهم أن كل يوم أربعاء نحس ورووا: آخر أربعاء من الشهر يوم نحس مستمر «2» تَنْزِعُ النَّاسَ أي تقلعهم من مواضعهم كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ أعجاز النخل هي: أصولها، والمنقعر: المنقطع. فشبه الله عادا لما هلكوا بذلك لأنهم طوال عظام الأجساد كالنخل، وقيل: كانت الريح تقطع رؤوسهم فتبقى أجسادا بلا رؤوس، فشبههم بأعجاز النخل لأنها دون أغصان: وقيل: كانوا حفروا حفرا يمتنعون بها من الريح. فهلكوا فيها فشبههم بأعجاز النخل إذا كانت في حفرها أَبَشَراً هو صالح عليه السلام، وانتصب بفعل مضمر والمعنى أنهم أنكروا أن يتبعوا بشرا وطلبوا أن يكون الرسول من الملائكة، ثم زادوا أن أنكروا أن يتبعوا واحدا وهم جماعة كثيرون وَسُعُرٍ أي عناد، وقيل: معناه جنون، وقيل: معناه هم وغم وأصله من السعير بمعنى النار. وكأنه احتراق النفس بالهم.

_ (1) . قوله تعالى: وَنُذُرِ تكررت عدة مرات في هذه السورة وقد قرأها ورش عن نافع بالياء: ونذري وحذفها الباقون. (2) . هذا الحديث ذكره المناوي في التيسير وعزاه لوكيع بن الجراح في الغرر وابن مردويه وهو ضعيف.

[سورة القمر (54) : الآيات 26 إلى 47]

أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا أنكروا أن يخصه الله بالنبوة دونهم، وذلك جهل منهم، فإن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء أَشِرٌ بطر متكبر وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْماءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ أي لهم يوم وللناقة يوم من غير أن يتعدوا على الناقة، فالضمير في نبئهم يعود على ثمود. وعلى الناقة تغليبا للعقلاء، وقيل: إن الضمير لثمود، والمعنى لا يتعدى بعضهم على بعض كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ أي مشهود فَنادَوْا صاحِبَهُمْ يعني: عاقر الناقة واسمه قدار وهو أحيمر ثمود وأشقاها فَتَعاطى أي اجترأ على أمر عظيم، وهو عقر الناقة وقيل: تعاطى السيف صَيْحَةً واحِدَةً صاح بها جبريل صيحة فماتوا منها فَكانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ الهشيم هو ما تكسر وتفتت من الشجر وغيرها، والمحتظر الذي يعمل الحظيرة وهي حائط من الأغصان أو القصب ونحو ذلك، أو يكون تحليقا للمواشي أو السكنى فشبه الله ثمود لما هلكوا بما يتفتت من الحظيرة من الأوراق وغيرها، وقيل: المحتظر المحترق حاصِباً ذكر في العنكبوت [40] فَتَمارَوْا بِالنُّذُرِ تشككوا وَلَقَدْ راوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ الضيف هنا هم: الملائكة الذين أرسلهم الله إلى لوط، ليهلكوا قومه. وكان قومه قد ظنوا أنهم من بني آدم، وأرادوا منهم الفاحشة فطمس الله على أعينهم، فاستوت مع وجوههم، وقيل: إن الطمس عبارة عن عدم رؤيتهم لهم، وأنهم دخلوا منزل لوط فلم يروا فيه أحدا أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ هذا خطاب لقريش على وجه التهديد، والهمزة للإنكار ومعناه: هل الكفار منكم خير عند الله من الكفار المتقدمين المذكورين، بحيث أهلكناهم لما كذبوا الرسل وتنجون أنتم وقد كذبتم رسلكم؟ بل الذي أهلكهم يهلككم أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ فِي الزُّبُرِ معناه أم لكم في كتاب الله براءة من العذاب؟ أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ أي نحن نجتمع وننتصر لأنفسنا بالقتال سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ هذا وعد من الله لرسوله بأنه سيهزم جمع قريش، وقد ظهر ذلك يوم بدر وفتح مكة إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ المراد بالمجرمين هنا الكفار وضلالهم في الدنيا، والسعر لهم في الآخرة

[سورة القمر (54) : الآيات 48 إلى 55]

وهو الاحتراق، وقيل: أراد بالمجرمين القدرية لقوله في الرد عليهم: إنا كل شيء خلقناه بقدر والأول أظهر يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ أي يجرون فيها إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ المعنى أن الله خلق كل شيء بقدر، أي بقضاء معلوم سابق في الأزل، ويحتمل أن يكون معنى بقدر بمقدار في هيئته وصفته وغير ذلك، والأول أرجح وفيه حجة لأهل السنة على القدرية. وانتصب كل شيء بفعل مضمر يفسره خلقناه وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ عبارة عن سرعة التكوين ونفوذ أمر الله، والواحدة يراد بها الكلمة وهي قوله كن وَلَقَدْ أَهْلَكْنا أَشْياعَكُمْ يعني أشياعكم من الكفار وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ أي كل ما فعلوه مكتوب في صحائف الأعمال مُسْتَطَرٌ أي مكتوب وهو من السطر. تقول سطرت واستطرت بمعنى واحد، والمراد الصغير والكبير من أعمالهم وقيل: جميع الأشياء وَنَهَرٍ يعني أنهار الماء والخمر واللبن والعسل واكتفى باسم الجنس فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ أي في مكان مرضي.

سورة الرحمن

سورة الرحمن مدنية وآياتها 78 نزلت بعد الرعد بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (سورة الرحمن عز وجل) الرَّحْمنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ هذا تعديد نعمة على من علمه الله القرآن، وقيل: معنى علّم القرآن جعله علامة وآية لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم. والأول أظهر وارتفع الرحمن بالابتداء، والأفعال التي بعده أخبار متوالية، ويدل على ذلك مجيئها بدون حرف عطف خَلَقَ الْإِنْسانَ قيل: جنس الناس وقيل: يعني آدم وقيل: يعني سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، ولا دليل على التخصيص. والأول أرجح عَلَّمَهُ الْبَيانَ يعني النطق والكلام الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ أي يجريان في الفلك بحسبان معلوم وترتيب مقدر، وفي ذلك دليل على الصانع الحكيم المريد القدير وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ النجم عند ابن عباس النبات الذي لا ساق له كالبقول، والشجر النبات الذي له ساق، وقيل: النجم جنس نجوم السماء. والسجود عبارة عن التذلل والانقياد لله تعالى: وقيل: سجود الشمس: غروبها وسجود الشجر ظله وَوَضَعَ الْمِيزانَ يعني الميزان المعروف الذي يوزن به الطعام وغيره، وكرر ذكره اهتماما به وقيل: أراد العدل وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ أي لا تنقصوا إذا وزنتم لِلْأَنامِ أي للناس وقيل: الإنس والجن وقيل: الحيوان كله. الأكمام: يحتمل أن يكون جمع كم بالضم، وهو ما يغطي ويلف النخل من الليف، وبه شبّه كم القميص، أو يكون جمع كم بكسر الكاف وهو غلاف الثمرة الْعَصْفِ «1» ورق الزرع وقيل: التبن وَالرَّيْحانُ قيل: هو الريحان المعروف، وقيل: كل مشموم طيب الريح من النبات، وقيل: هو الرزق. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ الآلاء هي: النعم. واحدها إلى على وزن معي. وقيل:

_ (1) . قوله: والحبّ ذو العصف. قرأها ابن عامر: والحبّ ذا العصف بالنصب والباقون بالرفع. [.....]

[سورة الرحمن (55) : الآيات 14 إلى 24]

ألى على وزن قضى وقيل: ألي على وزن أمد أو على وزن حصر، والخطاب للثقلين الإنس والجن بدليل قوله: سنفرغ لكم أيها الثقلان. روي أن هذه الآية لما قرأها رسول صلى الله عليه وسلم سكت أصحابه فقال: جواب الجن خير من سكوتكم. إني لما قرأتها على الجن قالوا: لا نكذب بشيء من آلاء ربنا «1» وكرر هذه الآية تأكيدا ومبالغة وقيل: إن كل موضع منها يرجع إلى معنى الآية التي قبله فليس بتأكيد، لأن التأكيد لا يزيد على ثلاث مرات خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ الإنسان هو آدم، والصلصال الطين اليابس، فإذا طبخ فهو فخار وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ الجان الجن يعني إبليس والد الجن، والمارج اللهيب المضطرب من النار رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ يريد مشرق الشمس والقمر ومغرب الشمس والقمر. وقيل: مشرقي الصيف والشتاء ومغربيهما مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ ذكر في الفرقان، أي يلتقى ماء هذا وماء هذا، وذلك إذ نزل المطر في البحر على القول بأن البحر العذب هو المطر، وأما على القول بأن البحر العذب هو الأنهار والعيون، فالتقاؤهما بانصباب الأنهار في البحر، وأما على قول من قال إن البحرين بحر فارس وبحر الروم، أو بحر القلزم الأحمر واليمن فضعيف لقوله في الفرقان [53] هذا عَذْبٌ فُراتٌ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وكل واحد من هذه أجاج، والمراد بالبحرين في هذه السورة ما أراد في الفرقان بَيْنَهُما بَرْزَخٌ أي حاجز يعني جرم الأرض، أو حاجز من قدرة الله لا يَبْغِيانِ أي لا يبغي أحدهما على الآخر بالاختلاط، وقيل: لا يبغيان على الناس بالفيض. يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ «2» اللؤلؤ كبار الجوهر والمرجان صغاره، وقيل: بالعكس وقيل: إن المرجان أحجار حمر، قال ابن عطية: وهذا هو الصواب «3» وأما قوله منهما ولا يخرج إلا من أحدهما، فقد تكلمنا عليه في فاطر. وَلَهُ الْجَوارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ يعني السفن وسماها منشآت لأن الناس ينشئونها، وقرأ حمزة وأبو بكر المنشئات بكسر الشين بمعنى أنها تنشئ السير أو تنشئ

_ (1) . روى الطبري هذا الحديث بسنده إلى عبد الله بن عمر. (2) . قوله: يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان. قرأ نافع وأبو عمر: يخرج بضم الياء. (3) . اللؤلؤ هي حبوب تستخرج من أصداف بحرية مخصوصة تسمى واحدتها المحارة وهي ذات ألوان فمنها الأبيض والأسود والزهري، وأما المرجان فهو عروق تنمو على بعض الصخور في البحر كعروق النبات ثم تقطع وتصير صلبة حمراء.

[سورة الرحمن (55) : الآيات 25 إلى 34]

الموج، والأعلام الجبال شبه السفن بها كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ الضمير في عليها للأرض يدل على ذلك سياق الكلام وإن لم يتقدم لها ذكر، ويعني بمن عليها بني آدم وغيرهم من الحيوان، ولكنه غلّب العقلاء وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ الوجه هنا عبارة عن الذات، وذو الجلال صفة للذات لأن من أسمائه تعالى الجليل، ومعناه يقرب من معنى العظيم، وأما وصفه بالإكرام فيحتمل أن يكون بمعنى أنه يكرم عباده كما قال في الإسراء [7] : وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ أو بمعنى أن عباده يكرمونه بتوحيده وتسبيحه وعبادته يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ المعنى أن كل من في السموات والأرض يسأل حاجته من الله، فمنهم من يسأله بلسان المقال، وهم المؤمنون، ومنهم من يسأله بلسان الحال لافتقار الجميع إليه كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ المعنى أنه تعالى يتصرف في ملكوته تصرفا يظهر في كل يوم من العطاء والمنع، والإماتة والإحياء وغير ذلك، وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأها فقيل له وما ذلك الشأن، قال من شأنه أن يغفر ذنبا ويفرج كربا ويرفع قوما ويضع آخرين «1» وسئل بعضهم. كيف قال: كل يوم هو في شأن والقلم قد جف بما هو كائن إلى يوم القيامة؟ فقال: هو في شأن يبديه لا في شأن يبتديه. سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ «2» معناه الوعيد كقولك لمن تهدده: سأفرغ لعقوبتك، وليس المراد التفرغ من شغل، ويحتمل أن يريد انتهاء مدة الدنيا، وإنه حينئذ ينقضي شأنها، فلا يبقى إلا شأن الآخرة فعبّر عن ذلك بالتفرغ. قال الإمام جعفر بن محمد: سمى الإنس والجن ثقلين، كأنهما ثقلا بالذنوب إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا هذا كلام يقال للجن والإنس يوم القيامة أي: إن قدرتم على الهروب والخروج من أقطار السموات والأرض فافعلوا، وروي أنهم يفرون يومئذ لما يرون من أهوال القيامة فيجدون سبعة صفوف من الملائكة، قد أحاطت بالأرض فيرجعون، وقيل: بل خوطبوا بذلك في الدنيا والمعنى: إن استطعتم الخروج عن قهر الله وقضائه عليكم فافعلوا، وقوله: فانفذوا أمر يراد به التعجيز لا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطانٍ أي لا تقدرون على النفوذ إلا بقوة، وليس لكم قوة يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ مِنْ نارٍ وَنُحاسٌ الشواظ لهيب النار، والنحاس الدخان وقيل: هو الصفر يذاب ويصب على رؤوسهم وقرئ شواظ بضم الشين

_ (1) . رواه الطبري بسنده إلى عبد الله الأزدي. (2) . قوله: سنفرغ: قرأها حمزة والكسائي: سيفرغ. والباقون بالنون: سنفرغ.

وابن كثير بكسرها وهما لغتان وقرئ «1» نحاس بالرفع على شواظ وبالخفض عطف على نار فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ جواب إذا قوله: فيومئذ وقال ابن عطية: جوابها محذوف فَكانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهانِ معنى وردة حمراء كالوردة، وقيل: هو من الفرس الورد، قال قتادة السماء اليوم خضراء ويوم القيامة حمراء، والدهان جمع دهن كالزيت وشبهه شبه السماء يوم القيامة به لأنها تذاب من شدّة الهول، وقيل: يشبه لمعانها بلمعان الدهن، وقيل: إن الدهان هو الجلد الأحمر فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ السؤال المنفي هنا هو على وجه الاستخبار وطلب المغفرة إذ لا يحتاج إلى ذلك، لأن المجرمين يعرفون بسيماهم، ولأن أعمالهم معلومة عند الله مكتوبة في صحائفهم، وأما السؤال الثابت في قوله: فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ [الحجر: 92] وغيره، فهو سؤال على وجه الحساب والتوبيخ، فلا تعارض بين المنفي والمثبت وقيل: إن ذلك باختلاف المواطن والأول أحسن. يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ يعني بعلامتهم وهي سواد الوجوه وغير ذلك، والمجرمون هنا الكفار بدليل قوله: هذه جهنم التي يكذب بها المجرمون فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَالْأَقْدامِ قيل معناه: يؤخذ بعض الكفار بناصيته وبعضهم بقدميه، وقيل: بل يؤخذ كل واحد بناصيته وقدميه فيطوى ويطرح في النار يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ الحميم الماء السخن، والآن الشديد الحرارة، وقيل: الحاضر من قولك آن الشيء إذا حضر، والأول أظهر وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ مقام ربه القيام بين يديه للحساب، ومنه: يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ [المطففين: 6] ، وقيل: قيام الله بأعماله، ومنه: أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ [الرعد: 33] ، وقيل: معناه لمن خاف ربه وأقحم المقام، كقولك: خفت جانب فلان. واختلف هل الجنتان لكل خائف على انفراده؟ أو للصنف الخائف وذلك مبنى على قوله: لمن خاف مقام ربه هل يراد به واحد أو جماعة؟ وقال الزمخشري: إنما قال جنتان، لأنه خاطب الثقلين فكأنه قال جنة للإنس وجنة للجن، ذَواتا أَفْنانٍ ثنى ذات هنا على الأصل لأن أصله ذوات، قاله ابن عطية، والأفنان جمع فنن وهو الغصن، أو جمع فن

_ (1) . قوله: من نار ونحاس فلا تنتصران. قرأها كل من ابن كثير وأبو عمرو: ونحاس وقرأ الباقون: ونحاس.

[سورة الرحمن (55) : الآيات 51 إلى 68]

وهو الصنف من الفواكه وغيرها مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجانِ أي نوعان وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دانٍ الجنا هو ما يجتنى من الثمار، ودان قريب، وروي أن الإنسان يجتنى الفاكهة في الجنة على أي حال كان من قيام أو قعود أو اضطجاع لأنها تتدلى له إذا أرادها وفي قوله جنا الجنتين ضرب من ضروب التجنيس قاصِراتُ الطَّرْفِ ذكر في الصافات [48] لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ المعنى أنهن أبكار، ولم يطمثهن معناه لم يفتضهن، وقيل: الطمث الجماع سواء كان لبكر أو غيرها، ونفي أن يطمثهن إنس أو جان، مبالغة وقصدا للعموم، فكأنه قال لم يطمثهن شيء، وقيل: أراد لم يطمث نساء الإنس إنس ولم يطمث نساء الجن جن، وهذا القول يفيد بأن الجن يدخلون الجنة ويتلذذون فيها بما يتلذذ البشر كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ وَالْمَرْجانُ شبه النساء بالياقوت والمرجان في الحمرة والجمال، وقد ذكرنا المرجان في أول السورة. هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ المعنى أن جزاء من أحسن بطاعة الله أن يحسن الله إليه بالجنة، ويحتمل أن يكون الإحسان هنا هو الذي سأل عنه جبريل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: «أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك» «1» ، وذلك هو مقام المراقبة والمشاهدة، فجعل جزاء ذلك الإحسان بهاتين الجنتين، ويقوي هذا أنه جعل هاتين الجنتين الموصوفتين هنا لأهل المقام العلي، وجعل جنتين دونها لمن كان دون ذلك، فالجنتان المذكورتان أولا للسابقين، والجنتان المذكورتين ثانيا بعد ذلك لأصحاب اليمين حسبما ورد في الواقعة، وانظر كيف جعل أوصاف هاتين الجنتين، أعلى من أوصاف الجنتين اللتين بعدهما فقال هنا: عينان تجريان وقال في الآخرتين: عينان نضّاختان، والجري أشد من النضخ وقال هنالك: من كل فاكهة زوجان، وقال هنا فاكهة ونخل ورمان، وكذلك صفة الحور هنا أبلغ من صفتها هنالك، وكذلك صفة البسط ويفسر ذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: جنتان من ذهب آنيتهما وكل ما فيهما، وجنتان من فضة آنيتهما وكل ما فيهما «2» مُدْهامَّتانِ أي تضربان إلى السواد من شدة الخضرةيْنانِ نَضَّاخَتانِ أي تفوران بالماء والنضخ بالخاء المعجمة أشد من النضح بالحاء المهملة فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ خص النخل

_ (1) . هذا جزء من حديث صحيح رواه مسلم عن عمر بن الخطاب، انظر الأربعين النووية الحديث الثاني. (2) . الحديث رواه مسلم عن عبد الله بن قيس (أبو موسى الأشعري) كتاب الإيمان 163/ 1.

[سورة الرحمن (55) : الآيات 69 إلى 78]

والرمان بالذكر بعد دخولهما في الفاكهة تشريفا لهما، وبيانا لفضلهما على سائر الفواكه. وهذا هو التجريد خَيْراتٌ حِسانٌ خيرات جمع خيرة وقال الزمخشري وغيره: أصله خيرات بالتشديد ثم خفف كميت وقرئ بالتشديد، قالت أم سلمة يا رسول الله أخبرني عن قوله تعالى: خَيْراتٌ حِسانٌ قال: خيرات الأخلاق حسان الوجوه «1» حُورٌ مَقْصُوراتٌ فِي الْخِيامِ الحور جمع حوراء والمقصورات المحجوبات، لأن النساء يمدحن بملازمة البيوت ويذممن بكثرة الخروج، والخيام هي البيوت التي من الخشب والحشيش ونحو ذلك، وخيام الجنة من اللؤلؤ مُتَّكِئِينَ عَلى رَفْرَفٍ خُضْرٍ الرفرف البسط، وقيل الوسائد وقيل رياض الجنة وَعَبْقَرِيٍّ حِسانٍ العبقري الطنافس، وقيل الزرابي [أي السجاد بلغة اليوم] ، وقيل الديباج الغليظ، وهو منسوب إلى عبقري وتزعم العرب أنه بلد الجن فإذا أعجبتها شيء نسبته إليه تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذكر تبارك في الفرقان وغيرها، والاسم هنا يراد به المسمى على الأظهر. وقرأ الجمهور ذي الجلال بالياء صفة لربك، وقرأ ابن عامر بالواو صفة للاسم، وقد ذكر معنى ذي الجلال والإكرام.

_ (1) . رواه الطبري بسنده إلى أم سلمة رضي الله عنها.

سورة الواقعة

سورة الواقعة مكية إلا آيتي 81 و 82 فمدنيتان وآياتها 96 نزلت بعد طه بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (سورة الواقعة) روى ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من قرأ سورة الواقعة لم تصبه فاقة أبدا» ولما حضرت ابن مسعود الوفاة قيل له ما تركت لبناتك، قال: تركت لهن سورة الواقعة إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ يعني إذا قامت القيامة فالواقعة اسم من أسماء القيامة، تدل على هولها كالطامة والصاخة وقيل: الواقعة الصيحة وهي النفخة في الصور لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ يحتمل ثلاثة أوجه: الأول أن تكون الكاذبة مصدر كالعافية والمعنى ليس لها كذب ولا رد. الثاني أن تكون كاذبة صفة محذوف كأنه قال: ليس لها حالة كاذبة أي هي صادقة الوقوع ولا بدّ، وهذا المعنى قريب من الأول. الثالث أن يكون التقدير: ليس لها نفس كاذبة أي تكذيب في إنكار البعث، لأن كل نفس تؤمن حينئذ خافِضَةٌ رافِعَةٌ تقديره: هي خافضة رافعة، فينبغي أن يوقف على ما قبله لبيان المعنى، والمراد بالخفض والرفع أنها تخفض أقواما إلى النار وترفع أقواما إلى الجنة، وقيل: ذلك عبارة عن هولها، لأن السماء تنشق والأرض تتزلزل وتمر، والجبال تنسف فكأنها تخفض بعض هذه الأجرام وترفع بعضها إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا أي زلزلت وحركت تحريكا شديدا وإذا هنا بدل من إذا وقعت ويحتمل أن يكون العامل فيه خافضة رافعة وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا أي فتت وقيل: سيرت هَباءً مُنْبَثًّا الهباء ما يتطاير في الهواء من الأجزاء الدقيقة، ولا تكاد ترى إلا في الشمس إذا دخلت على كوّة قاله ابن عباس. وقال عليّ بن أبي طالب: هو ما يتطاير من حوافر الدواب من التراب، وقيل: ما تطاير من شرر النار، فإذا طفى لم يوجد شيئا والمنبث المتفرق. وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً هذا خطاب لجميع الناس لأنهم ينقسمون يوم القيامة إلى هذه الأصناف الثلاثة: وهم السابقون، وأصحاب اليمين وأصحاب الشمال، فأما السابقون فهم: أهل الدرجات العلى في الجنة، وأما أصحاب اليمين فهم سائر أهل الجنة، وأما أصحاب الشمال

_ (1) . قال في تخريج أحاديث الإحياء ج 342 أول إن الحديث ضعيف.

[سورة الواقعة (56) : الآيات 8 إلى 19]

فهم أهل النار فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ هذا ابتداء خبر فيه معنى التعظيم، كقولك: زيد ما زيد، والميمنة يحتمل أن تكون مشتقة من اليمن وهو ضد الشؤم، وتكون المشأمة به مشتقة من الشؤم أو تكون الميمنة من ناحية اليمين والمشأمة من ناحية الشمال، واليد الشؤمى هي الشمال، وذلك لأن العرب تجعل الخير من اليمين، والشر من الشمال، أو لأن أهل الجنة يحملون إلى جهة اليمين، وأهل النار يحملون إلى جهة الشمال، أو يكون من أخذ الكتاب باليمين أو الشمال وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ الأول مبتدأ والثاني خبره على وجه التعظيم كقولك: أنت أنت أو على معنى أن السابقين إلى طاعة الله هم السابقون إلى الجنة، وقيل: إن السابقون الثاني صفة للأول أو تأكيد، والخبر أولئك المقربون، والأرجح أن يكون الثاني خبر الأول لأنه في مقابلة قوله: أصحاب الميمنة ما أصحاب الميمنة، وأصحاب المشأمة ما أصحاب المشأمة، وعلى هذا يوقف على السابقون الثاني ويبتدئ بما بعده. ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ الثلة الجماعة من الناس، فالمعنى أن السابقين من الأولين أكثر من السابقين من الآخرين، والأولون هم أول هذه الأمة والآخرون المتأخرون من هذه الأمة، والدليل على ذلك ما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الفرقتان في أمتي، وذلك لأن صدر هذه الأمة خير ممن بعدهم فكثر السابقون من السلف الصالح، وقلوا بعد ذلك ويشهد لذلك قوله صلى الله عليه وسلم: خير القرون قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم «1» وقيل إن الفرقتين في أمة كل نبيّ، فالسابقون في كل أمة يكثرون في أولها ويقلون في آخرها، وقيل: إن الأولين هم من كان قبل هذه الأمة، والآخرين هم هذه الأمة، فيقتضي هذا أن السابقين من الأمم المتقدمة أكثر من السابقين من هذه الأمة وهذا بعيد، وقيل إن السابقين يراد بهم الأنبياء، لأنهم كانوا في أول الزمان أكثر مما كانوا في آخره عَلى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ السرر جمع سرير والموضونة المنسوجة وقيل المشبكة بالدر والياقوت، وقيل معناه متواصلة قد أدنى بعضها من بعض مُتَقابِلِينَ أي وجوه بعضهم إلى بعض وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ الولدان صغار الخدم، والمخلدون الذين لا يموتون، وقيل المقرطون بالخلدات وهي ضرب من الاقراط، والأول أظهر بِأَكْوابٍ وَأَبارِيقَ الأكواب جمع كوب، وهو الإناء وهو الذي لا أذن له ولا خرطوم يمسك به، والأباريق جمع إبريق وهو الإناء الذي له خرطوم أو أذن يمسك وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ ذكر في الصافات [45] لا يُصَدَّعُونَ عَنْها وَلا يُنْزِفُونَ أي

_ (1) . أخرج مسلم عن عبد الله بن مسعود قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الناس خير قال: «قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم» ج 2 ص 1863، وثمة روايات بألفاظ متقاربة.

[سورة الواقعة (56) : الآيات 20 إلى 30]

لا يلحق رؤوسهم الصداع الذي يصيب من خمر الدنيا، وقيل لا يفرقون عنها فهو من الصدع وهو الفرقة، ومعنى لا ينزفون «1» لا يسكرون وَفاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ قيل: يتخيرون ما شاؤوا لكثرتها، وقيل: مخيرة مرضية وَحُورٌ عِينٌ قدمنا معناه، والقراءة بالرفع على تقدير فيها حور، أو عطف على الضمير في متكئين، أو على ولدان وقرأ حمزة والكسائي حور بالخفض عطف على المعنى كأنه قال: ينعمون بهذا كله وبحور عين، وقيل: خفض على الجوار كَأَمْثالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ شبههن باللؤلؤ في البياض ووصفه بالمكنون لأنه أبعد عن تغيير حسنه، وسألت أم سلمة رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذا التشبيه فقال: صفاؤهن كصفاء الدر في الأصداف الذي لا تمسه الأيدي لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً اللغو الكلام الساقط كالفحش وغيره، والتأثيم مصدر بمعنى لا يؤثم أحد هناك نفسه ولا غيره إِلَّا قِيلًا سَلاماً سَلاماً انتصب سلاما على أنه بدل من قيلا أو صفة له أو مفعول به لقيلا، لأن معناه قولا، ومعنى السلام على هذا التحية، والمعنى أنهم يفشون السلام فيسلمون سلاما بعد سلام، ويحتمل أن يكون معناه السلامة، فينتصب بفعل مضمر تقديره اسلموا سلاما. وَأَصْحابُ الْيَمِينِ ما أَصْحابُ الْيَمِينِ هذا مبتدأ وخبره قصد به التعظيم فيوقف عليه، ويبتدأ بما بعده ويحتمل أن يكون الخبر في سدر، ويكون ما أصحاب اليمين اعتراضا، والأول أحسن، وكذلك إعراب أصحاب الشمال فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ السدر شجر معروف، قال ابن عطية هو الذي يقال له شجر أم غيلان النبق وهو كثير في بلاد المشرق وهي في بعض بلاد الأندلس دون بعض، والمخضود الذي لا شوك له كأنه خضد شوكه، وذلك أن سدر الدنيا له شوك، فوصف سدر الجنة بضد ذلك وقيل: المخضود هو الموقر الذي انثنت أغصانه من كثرة حمله، فهو على هذا من خضد الغصن إذا ثناه وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ الطلح شجر عظيم كثير الشوك، قاله ابن عطية وقال الزمخشري هو شجر الموز، وحكي ابن عطية هذا عن علي بن أبي طالب وابن عباس وقرأ علي بن أبي طالب: وطلع منضود بالعين فقيل له إنما هو، وطلح بالحاء فقال: ما للطلح والجنة فقيل له أنصلحها في المصحف فقال: المصحف اليوم لا يغيّر، والمنضود الذي تنضد بالثمر من أعلاه إلى أسفله، حتى لا يظهر له ساق وَظِلٍّ مَمْدُودٍ أي منبسط لا يزول لأنه لا تنسخه الشمس، وقال رسول صلى الله عليه وسلم إن في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها. اقرءوا إن شئتم وظل ممدود «2» . وَماءٍ مَسْكُوبٍ: أي مصبوب، وذلك عبارة عن كثرته وقيل: المعنى

_ (1) . قرأ عاصم وحمزة والكسائي: ينزفون بكسر الفاء وقرأ الباقون ينزفون بالفتح. (2) . أخرجه البخاري في عدة كتب منها التفسير والرقاق وبدء الخلق عن سهل بن سعد ج 7/ 201.

أنه جار في غير أخاديد وقيل: المعنى أنه يجري من غير ساقية ولا دلو ولا تعب لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ أي لا ينقطع إبّانها كفاكهة الدنيا، فإن شجر الجنة يثمر في كل وقت، ولا تمتنع ببعد تناولها ولا بغير ذلك من وجوه المنع وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ هي الأسرة، وقد روي ارتفاع السرير منها مسيرة خمسمائة عام وقيل: هي النساء وهذا بعيد إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ الضمير لنساء الجنة، فإن سياق الكلام يقتضي ذلك، وإن لم يتقدم ذكرهن، ولكن تقدّم ذكر الفرش وهي تدل على النساء وأما من قال: إن الفرش هي النساء فالضمير عائد عليها وقيل: يعود على الحور العين المذكورة قبل هذا وذلك بعيد، فإن ذلك في وصف جنات السابقين، وهذا في وصف جنات أصحاب اليمين، ومعنى إنشاء النساء أن الله تعالى يخلقهن في الجنة خلقا آخر في غاية الحسن، بخلاف الدنيا فالعجوز ترجع شابة والقبيحة ترجع حسنة فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً عُرُباً جمع عروب وهي المتوددة إلى زوجها بإظهار محبته، وعبّر عنهن ابن عباس بأنهن العواشق لأزواجهن، وقيل: هي الحسنة الكلام أَتْراباً لِأَصْحابِ الْيَمِينِ أي مستويات في السن مع أزواجهن، وروي أنهن يكونون في سن أبناء ثلاث وثلاثين عاما ولأصحاب اليمين يتعلق بقوله أنشأناهن على ما قاله الزمخشري. ويحتمل أن يتعلق بأترابا، وهذا هو الذي يقتضيه المعنى أي أترابا لأزواجهن ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ أي جماعة من أول هذه الأمة وجماعة من آخرها، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الفرقتان من أمتي، وفي ذلك رد على من قال إنهما من غير هذه الأمة. وتأمل كيف جعل أصحاب اليمين ثلة من الأولين وثلة من الآخرين، بخلاف السابقين فإنهم قليل في الآخرين وذلك لأن السابقين في أول هذه الأمة أكثر منهم في آخرها لفضيلة السلف الصالح، وأما أصحاب اليمين فكثير في أولها وآخرها. فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ السموم الحر الشديد والحميم الماء الحار جدّا واليحموم هو الأسود وظل من يحموم هو الدخان في قول الجمهور، وقيل: سرادق النار المحيط بأهلها فإنه يرتفع من كل جهة حتى يظلهم وقيل: هو جبل في جهنم وَكانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ معنى يصرون يدومون من غير إقلاع والحنث هو الإثم، وقيل: هو الشرك، وقيل: هو الحنث في اليمين أو اليمين الغموس أَإِذا مِتْنا الآية معناها أنهم أنكروا البعث بعد الموت، وقد ذكرنا قراءة الاستفهامين في الرعد، وآباؤنا في

[سورة الواقعة (56) : الآيات 51 إلى 64]

الصافات أَيُّهَا الضَّالُّونَ خطاب لكفار قريش وسائر الكفار فَشارِبُونَ عَلَيْهِ الضمير للمأكول فَشارِبُونَ شُرْبَ «1» الْهِيمِ وزن الهيم فعل بضم الفاء، وكسرت الهاء لأجل الياء وهو جمع أهيم، وهو الجمل الذي أصابه الهيام بضم الهاء. وهو داء معطش يشرب معه الجمل حتى يموت أو يسقم، والأنثى هيماء، وقيل: جمع هائم وهائمة، وقيل: الهيم الرمال التي لا تروى من الماء، وهو على هذا جمع هيام بفتح الهاء. وقرئ شرب بضم الشين «2» واختلف هل هو مصدر أو اسم المشروب وقرئ بالفتح وهو مصدر فإن قيل: كيف عطف قوله: فشاربون على شاربون ومعناهما واحد، فالجواب أن المعنى مختلف لأن الأول يقتضى الشرب مطلقا، والآخر يقتضي الشرب الكثير المشبه لشرب الهيم هذا نُزُلُهُمْ النزل أول ما يأكله الضيف فكأنه يقول: هذا أول عذابهم فما ظنك بسائره فَلَوْلا تُصَدِّقُونَ تحضيض على التصديق إما بالخالق تعالى، وإما بالبعث لأن الخلقة الأولى دليل عليه. أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ هذه الآية وما بعدها تتضمن إقامة براهين على الوحدانية، وعلى البعث وتتضمن أيضا وعيدا وتعديد نعم. ومعنى تمنون: تقذفون المني أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ هذا توقيف [سؤال] يقتضي أن يجيبوا عليه بأن الله هو الخالق لا إله إلا هو نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ «3» أي جعلناه مقدرا بآجال معلومة وأعمار منها طويل وقصير ومتوسط وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ المسبوق على الشيء هو المغلوب عليه بحيث لا يقدر عليه ونبدل أمثالكم: معناه نهلككم ونستبدل قوما غيركم، وقيل: نمسخكم قردة وخنازير وننشئكم معناه نبعثكم بعد هلاككم وفيما لا تعلمون معناه ننشئكم في خلقة لا تعلمونها على وجه لا تصل عقولكم إلى فهمه. فمعنى الآية أن الله قادر على أن يهلكهم وعلى أن يبعثهم ففيها تهديد واحتجاج [إقامة الحجة] على البعث فَلَوْلا تَذَكَّرُونَ تحضيض على التذكير والاستدلال بالنشأة الأولى على النشأة الآخرة، وفي هذا دليل على صحة القياس أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ المراد بالزراعة هنا إنبات ما يزرع وتمام خلقته، لأن ذلك مما انفرد الله به ولا يدعيه غيره، قال

_ (1) . قوله أو آباؤنا قرأ نافع وابن عامر أو آباؤنا بسكون الواو في أو وقرأ الباقون بالفتح. [.....] (2) . قرأ عاصم ونافع وحمزة: شرب بضم الشين وقرأ الباقون بالفتح: شرب. (3) . قرأ ابن كثير: قدرنا بدون تشديد والباقون: قدّرنا. وهما لغتان بمعنى واحد.

[سورة الواقعة (56) : الآيات 65 إلى 75]

رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يقولنّ أحدكم زرعت ولكن يقول حرثت «1» والمراد بالحرث قلب الأرض وإلقاء الزريعة فيها وقد يقال لهذا زرع ومنه قوله يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ [الفتح: 29] لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ حُطاماً فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ الحطام اليابس المفتت وقيل: معناه تبن بلا قمح فظلتم تفكهون أي: تطرحون الفاكهة وهي المسرة، يقال: رجل فكه إذا كان مسرورا منبسط النفس ويقال: تفكه إذا زالت عنه الفكاهة فصار حزينا، لأن صيغة تفاعل تأتي لزوال الشيء كقولهم: تحرج وتأثم إذا زال عنه الحرج والإثم. فالمعنى: صرتم تحزنون على الزرع لو جعله الله حطاما. وقد عبر بعضهم عن تفكهون بأن معناه: تتفجعون وقيل: تندمون وقيل: تعجبون وهذه معان متقاربة والأصل ما ذكرنا إِنَّا لَمُغْرَمُونَ بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ تقديره: تقولون ذلك لو جعل الله زرعكم حطاما والمغرم المعذب. لأن الغرام هو أشد العذاب، ويحتمل أن يكون من الغرم أي مثقلون بما غرمنا من النفقة على الزرع، والمحروم الذي حرمه الله الخير. مِنَ الْمُزْنِ هي السحاب، والأجاج الشديد الملوحة، فإن قيل: لم ثبتت اللام في قوله لو نشاء لجعلناه حطاما وسقطت في قوله: لو نشاء جعلناه أجاجا؟ فالجواب من وجهين أحدهما أنه أغنى إثباتها أولا عن إثباتها ثانيا مع قرب الموضعين. والآخر أن هذه اللام تدخل للتأكيد، فأدخلت في آية المطعوم دون آية المشروب للدلالة على أن الطعام أوكد من الشراب، لأن الإنسان لا يشرب إلا بعد أن يأكل النَّارَ الَّتِي تُورُونَ أي تقدحونها من الزناد، والزناد قد يكون من حجرين ومن حجر وحديدة، ومن شجر وهو المرخ والعفار ولما كانت عادة العرب في زنادهم من شجر، قال الله تعالى «أَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها» أي الشجرة التي توقد النار منها. وقيل: أراد بالشجرة نفس النار كأنه يقول: نوعها أو جنسها فاستعار الشجرة لذلك وهذا بعيد نَحْنُ جَعَلْناها تَذْكِرَةً أي تذكر بنار جهنم وَمَتاعاً لِلْمُقْوِينَ المتاع ما يتمتع به، ويحتمل المقوين أن يكون من الأرض القواء وهي الفيافي، ومعنى المقوين الذين دخلوا في القواء، ولذلك عبر ابن عباس عنه بالمسافرين، ويحتمل أن يكون من قولهم: أقوى المنزل إذا خلا فمعناه الذين خلت بطونهم أو موائدهم من الطعام، ولذلك عبّر بعضهم عنه بالجائعين. فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ لا في هذا الموضع وأمثاله زائدة، وكأنها زيدت لتأكيد القسم، أو لاستفتاح الكلام نحو ألا. وقيل: هي نافية لكلام الكفار كأنه يقول: لا صحة

_ (1) . الحديث المذكور رواه الإمام الطبري في تفسيره بسنده إلى أبي هريرة.

[سورة الواقعة (56) : الآيات 76 إلى 79]

لما يقول الكفار وهذا ضعيف والأول حسن، لأن زيادة لا كثيرة معروفة في كلام العرب، ومواقع النجوم فيه قولان: أحدهما قال ابن عباس: إنها نجوم القرآن إذ نزل على النبي صلى الله عليه وسلم مقطعا بطول عشرين سنة فكل قطعة منه نجم والآخر قول كثير من المفسرين: أن النجوم الكواكب ومواقعها مغاربها ومساقطها، وقيل: مواضعها من السماء وقيل: انكدارها يوم القيامة. وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ هذه جملة اعتراض بين القسم وجوابه، وقوله: لو تعلمون اعتراض بين الموصوف وصفته فهو اعتراض في اعتراض، والمقصود بذلك تعظيم المقسم به وهو مواقع النجوم وجواب القسم: إنه لقرآن كريم وأعاد الضمير على القرآن لأن المعنى يقتضيه، أو لأنه مذكور على قول من قال إن مواقع النجوم نزول القرآن فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ أي مصون، والمراد بهذا الكتاب المكنون المصاحف التي كتب فيها القرآن، أو صحف القرآن التي بأيدي الملائكة عليهم السلام. لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ الضمير يعود على الكتاب المكنون، ويحتمل أن يعود على القرآن المذكور قبله إلا أن هذا ضعيف لوجهين أحدهما: أن مسّ الكتاب حقيقة ومس القرآن مجاز، والحقيقة أولى من المجاز والآخر أن الكتاب أقرب والضمير يعود على أقرب مذكور فإذا قلنا: إنه يعود على الكتاب المكنون فإن قلنا إن الكتاب المكنون هو الصحف التي بأيدي الملائكة، فالمطهرون يراد بهم الملائكة، لأنهم مطهرون من الذنوب والعيوب والآية إخبار بأنه لا يمسه إلا هم دون غيرهم، وإن قلنا إن الكتاب المكنون هو الصحف التي بأيدي الناس، فيحتمل أن يريد بالمطهرين المسلمين، لأنهم مطهرون من الكفر أو يريد المطهرين من الحدث الأكبر، وهي الجنابة أو الحيض، فالطهارة على هذا الاغتسال أو المطهرين من الحدث الأصغر، فالطهارة على هذا الوضوء ويحتمل أن يكون قوله: لا يمسه خبرا أو نهيا. على أنه قد أنكر بعض الناس أن يكون نهيا وقال لو كان نهيا لكان بفتح السين. وقال المحققون: إن النهي يصح مع ضم السين لأن الفعل المضاعف إذا كان مجزوما أو اتصل به ضمير المفرد المذكر ضمّ عند التقاء الساكنين اتباعا لحركة الضمير، وإذا جعلناه خبرا فيحتمل أن يقصد به مجرد الإخبار، أو يكون خبرا بمعنى النهي. وإذا كان لمجرّد الإخبار فالمعنى أنه: لا ينبغي أن يمسه إلا المطهرون. أي هذا حقه وإن وقع خلاف ذلك واختلف الفقهاء فيمن يجوز له مس المصحف على حسب الاحتمالات في الآية، فأجمعوا على أنه لا يجوز أن يمسه كافر لأنه إن أراد بالمطهرين المسلمين، فذلك طاهر وإن أراد الطهارة من الحدث فالإسلام حاصل مع ذلك. وأما الحدث ففيه ثلاثة أقوال: الأول أنه لا يجوز أن يمسه الجنب ولا الحائض ولا المحدث حدثا أصغر وهو قول مالك وأصحابه، ومنعوا أيضا أن يحمله بعلاقة أو وسادة. وحجتهم الآية على أن يراد بالمطهرين الطهارة من الحدث الأكبر والأصغر. وقد احتج مالك في الموطأ بالآية على المسألة. ومن

[سورة الواقعة (56) : الآيات 80 إلى 81]

حجتهم أيضا كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عمرو بن حزم «أن لا يمس القرآن إلا طاهر» «1» ، الثاني أنه يجوز مسه للجنب والحائض والمحدث حدثا أصغر وهو مذهب أحمد بن حنبل والظاهرية وحملوا المطهرون على أنهم المسلمون والملائكة أو جعلوا لا يمسه لمجرد الإخبار، والقول الثالث أنه يجوز مسه بالحدث الأصغر دون الأكبر، ورخص مالك في مسه على غير وضوء للمعلم والصبيان، لأجل المشقة. واختلفوا في قراءة الجنب للقرآن فمنعه الشافعي وأبو حنيفة مطلقا، وأجازه الظاهرية مطلقا، وأجاز مالك قراءة الآية اليسيرة. واختلف في قراءة الحائض والنفساء للقرآن عن ظهر قلب فعن مالك في ذلك روايتان، وفرق بعضهم بين اليسير والكثير. أَفَبِهذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ هذا خطاب للكفار، والحديث المشار إليه هو القرآن، ومدهنون معناه متهاونون، وأصله من المداهنة وهي لين الجانب والموافقة بالظاهر لا بالباطن قال ابن عباس معناه مكذبون وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ قال ابن عطية: أجمع المفسرون على أن الآية توبيخ للقائلين في المطر إنه نزل بنوء كذا وكذا، والمعنى تجعلون شكر رزقكم التكذيب، فحذف شكر أنكم تكذبون وكذلك قرأ ابن عباس إلا أنه قرأ تكذّبون بضم التاء والتشديد كقراءة الجماعة وقراءة علي بفتح التاء وإسكان الكاف من الكذب أي يكذبون في قولهم: نزل المطر بنوء كذا ومن هذا المعنى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله تعالى يقول أصبح من عبادي مؤمن بي كافر بالكوكب وكافر بي مؤمن بالكوكب فأما من قال مطرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب وأما من قال مطرنا بنوء كذا وكوكب كذا فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب» «2» . والمنهي عنه في هذا الباب أن يعتقد أن للكوكب تأثيرا في المطر، وأما مراعاة العوائد التي أجراها الله تعالى فلا بأس به لقوله صلى الله عليه وسلم: إذا أنشأت بحرية ثم تشاءمت فتلك عين غديقة «3» ، وقد قال عمر للعباس وهما في الاستسقاء: كم بقي من نوء الثريا فقال العباس: العلماء يقولون إنها تعترض في الأفق بعد سقوطها سبعا، قال ابن الطيب: فما مضت سبع حتى مطروا، وقيل: إن معنى الآية تجعلون سبب رزقكم تكذيبكم للنبي صلى الله عليه وسلم فإنهم كانوا يقولون: إن آمنا به حرمنا الله الرزق، كقولهم: إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا [القصص: 57] فأنكر الله عليهم ذلك. وإعراب أنكم على هذا القول مفعول بتجعلون على حذف مضاف تقديره: تجعلون

_ (1) . ذكره المناوي في التيسير وعزاه للطبراني عن ابن عمر وإسناده صحيح. (2) . رواه البخاري في كتاب الأذان باب 156 ص 205 عن زيد بن خالد الجهني. (3) . رواه مالك في الموطأ كتاب الاستسقاء حديث 5 ص 192 وهو الحديث الرابع الموقوف إسناده على مالك.

[سورة الواقعة (56) : الآيات 82 إلى 90]

سبب رزقكم التكذيب، ويحتمل أن يكون مفعولا من أجله تقديره: تجعلون رزقكم حاصلا من أجل أنكم تكذبون، وأما على القول الأول فإعراب أنكم تكذبون مفعول لا غير. فَلَوْلا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ لولا هنا عرض والضمير في بلغت للنفس، لأن سياق الكلام يقتضي ذلك وبلوغها للحلقوم حين الموت، والفعل الذي دخلت عليه لولا هو قوله ترجعونها أي: هلا رددتم النفس حين الموت، ومعنى الآية احتجاج على البشر وإظهار لعجزهم لأنهم إذا حضر أحدهم الموت لم يقدروا أن يردوا روحه إلى جسده، وذلك دليل على أنهم عبيد مقهورون وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ هذا خطاب لمن يحضر الميت من أقاربه وغيرهم، يعني تنظرون إليه ولا تقدرون له على شيء وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ يحتمل أن يريد قرب نفسه تعالى بعلمه واطلاعه، أو قرب الملائكة الذين يقبضون الأرواح، فيكون من قرب المسافة وَلكِنْ لا تُبْصِرُونَ إن أراد بقوله نحن أقرب الملائكة فقوله: لا تبصرون من رؤية العين، وإن أراد نفسه تعالى فهو من رؤية القلب فَلَوْلا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ تَرْجِعُونَها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ لولا هنا عرض كالأولى وكررت للتأكيد والبيان لما طال الكلام، والفعل الذي دخلت عليه لولا الأولى والثانية قوله ترجعونها أي: هلا رددتم النفس إلى الجسد إذا بلغت الحلقوم إن كنتم غير مدينين، وغير مربوبين ومقهورين، فافعلوا ذلك إن كنتم صادقين في كفركم. وترتيب الكلام: فلولا ترجعون النفس إذا بلغت الحلقوم إن كنتم غير مدينين فارجعوا إن كنتم صادقين فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ الضمير في كان للمتوفي وكرر هنا ما ذكره في أول السورة من تقسيم الناس إلى ثلاثة أصناف السابقين وأصحاب اليمين وأصحاب الشمال فالمراد بالمقربين هنا السابقون المذكورون هناك فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ الروح الاستراحة وقيل: الرحمة روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ فروح بضم الراء ومعناه الرحمة وقيل: الخلود أي بقاء الروح وأما الريحان فقيل: إنه الرزق وقيل: الاستراحة وقيل: الطيب وقيل الريحان المعروف وفي قوله: روح وريحان ضرب من ضروب التجنيس. فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ معنى هذا على الجملة نجاة أصحاب اليمين وسعادتهم، والسلام هنا يحتمل أن يكون بمعنى السلامة أو التحية، والخطاب في ذلك يحتمل أن يكون للنبي صلى الله عليه وسلم أو لأحد من أصحاب اليمين فإن كان للنبي صلى الله عليه وسلم فالسلام بمعنى السلامة والمعنى: سلام لك يا محمد منهم أي لا ترى منهم إلا السلامة من العذاب، وإن كان الخطاب لأحد من أصحاب اليمين فالسلام بمعنى التحية والمعنى: سلام لك أي تحية لك يا صاحب اليمين من إخوانك، وهم أصحاب اليمين، أي يسلمون عليك فهو كقوله: إلا قيلا سلاما سلاما، أو يكون بمعنى السلامة والتقدير: سلامة لك يا صاحب اليمين، ثم

يكون قوله: من أصحاب اليمين خبر ابتداء مضمر تقديره أنت من أصحاب اليمين وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ يعني الكفار وهم أصحاب الشمال وأصحاب المشأمة فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ النزل أول شيء يقدّم للضيف إِنَّ هذا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ الإشارة إلى ما تضمنته هذه السورة من أحوال الخلق في الآخرة، وحق اليقين معناه: الثابت من اليقين، وقيل: إن الحق واليقين بمعنى واحد، فهو من إضافة الشيء إلى نفسه كقوله: مسجد الجامع، واختار ابن عطية أن يكون كقولك في أمر تؤكده: هذا يقين اليقين أو صواب الصواب، بمعنى أنه نهاية الصواب فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ لما نزلت هذه الآية قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: اجعلوها في ركوعكم فلما نزلت سبح اسم ربك الأعلى قال عليه السلام: اجعلوها في سجودكم، فلذلك استحب مالك وغيره أن يقول في السجود سبحان ربي الأعلى وفي الركوع سبحان ربي العظيم وأوجبه الظاهرية، ويحتمل أن يكون المعنى تسبيح الله بذكر أسمائه، والاسم هنا جنس الأسماء والتعظيم صفة للرب أو يكون الاسم هنا واحدا والعظيم صفة له، وكأنه أمره أن يسبح بالاسم الأعظم. ويؤيد هذا ويشير إليه اتصال سورة الحديد بها وفي أولها التسبيح وجملة من أسماء الله وصفاته، قال ابن عباس: اسم الله العظيم الأعظم موجود في ست آيات من أول سورة الحديد، وروي أن الدعاء عند قراءتها مستجاب.

سورة الحديد

سورة الحديد مدنية وآياتها 29 نزلت بعد الزلزلة بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (سورة الحديد) سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ هذا التسبيح المذكور هنا وفي أوائل سائر السور المسبحات يحتمل أن يكون حقيقة، أو أن يكون بلسان الحال لأن كل ما في السموات والأرض دليل على وجود الله وقدرته، وحكمته، والأول أرجح لقوله: وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ [الإسراء: 44] ، وذكر التسبيح هنا وفي الحشر والصف بلفظ سبح الماضي، وفي الجمعة والتغابن بلفظ يسبح المضارع، وكل واحد منهما يقتضي الدوام هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ أي ليس لوجوده بداية ولا لبقائه نهاية وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ أي الظاهر للعقول بالأدلة، والبراهين الدالة على الباطن، الذي لا تدركه الأبصار، أو الباطن الذي لا تصل العقول إلى معرفة كنه ذاته، وقيل: الظاهر: العالي على كل شيء فهو من قولك: ظهرت على الشيء إذا علوت عليه، والباطن الذي بطن كل شيء أي علم باطنه، والأول أظهر وأرجح. ودخلت الواو بين هذه الصفات لتدل على أنه تعالى جامع لها، مع اختلاف معانيها، وفي ذلك مطابقة لفظية، وهي من أحسن أدوات البيان ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ قد ذكر في الأعراف [53] وكذلك ما بعده وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ يعني أنه حاضر مع كل أحد بعلمه وإحاطته. وأجمع العلماء على تأويل هذه الآية بذلك يُولِجُ اللَّيْلَ ذكر في الحج ولقمان [29] وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ يعني الإنفاق في سبيل الله وطاعته، وروي أنها نزلت في الإنفاق في غزوة تبوك، وعلى هذا روي أن قوله «فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا» نزلت في عثمان بن عفان رضي الله عنه، فإنه جهز جيش العسرة يومئذ،

[سورة الحديد (57) : الآيات 8 إلى 10]

ولفظ الآية مع ذلك عام وحكمها باق لجميع الناس، وقوله مستخلفين فيه يعني أن الأموال التي بأيديكم إنما هي أموال الله لأنه خلقها، ولكنه متّعكم بها وجعلكم خلفاء بالتصرف فيها، فأنتم فيها بمنزلة الوكلاء، فلا تمنعوها من الإنفاق فيما أمركم مالكها أن تنفقوها فيه، ويحتمل أن يكون جعلكم مستخلفين عمن كان قبلكم فورثتم عنه الأموال، فأنفقوها قبل أن تخلفوها لمن بعدكم، كما خلفها لكم من كان قبلكم، والمقصود على كل وجه: تحريض على الإنفاق وتزهيد في الدنيا وَما لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ معناه أي شيء يمنعكم من الإيمان، والرسول يدعوكم إليه بالبراهين القاطعة والمعجزات الظاهرة؟ فقوله: ما لكم استفهام يراد به الإنكار. ولا تؤمنون في موضع الحال من معنى الفعل الذي يقتضيه ما لكم. في قوله والرسول يدعوكم واو الحال وَقَدْ أَخَذَ مِيثاقَكُمْ يحتمل أن يكون هذا الميثاق ما جعل في العقول من النظر الذي يؤدي إلى الإيمان، أو يكون الميثاق الذي أخذه على بني آدم حين أخرجهم من ظهر آدم، وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم؟ قالوا: بلى. هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلى عَبْدِهِ آياتٍ يعني سيدنا محمدا صلى الله تعالى عليه وآله وسلم، والعبودية هنا للتشريف والاختصاص، والآيات هنا القرآن وَما لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الآية: معناه أي شيء يمنعكم من الإنفاق في سبيل الله؟ والله يرث ما في السموات والأرض إذا فني أهلها. ففي ذلك تحريض على الإنفاق وتزهيد في الدنيا لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ الفتح هنا فتح مكة، وقيل: صلح الحديبية، والأول أظهر وأشهر، ومعنى الآية التفاوت في الأجر والدرجات بين من أنفق في سبيل الله وقاتل قبل فتح مكة، وبين من أنفق وقاتل بعد ذلك، فإن الإسلام قبل الفتح كان ضعيفا، والحاجة إلى الانفاق والقتال كانت أشد، ويؤخذ من الآية أن من أنفق في شدة أعظم أجرا ممن أنفق في حال الرخاء، وفي الآية حذف دل عليه الكلام تقديره: لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل مع من أنفق من بعد الفتح وقاتل. ثم حذف ذلك لدلالة قوله: أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وفي هذا المعنى قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لا تسبوا أصحابي فلو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما بلغ مدّ أحدهم ولا نصيفه «1» ، يعني السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار وخاطب بذلك من جاء بعدهم من سائر الصحابة، ويدخل في الخطاب كل من يأتي إلى يوم القيامة وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى أي

_ (1) . رواه أحمد عن أبي سعيد الخدري ج 3 ص 11، 63.

[سورة الحديد (57) : الآيات 11 إلى 12]

كل واحدة من الطائفتين الذين أنفقوا وقاتلوا قبل الفتح وبعده وعدهم الله الجنة. مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً «1» ذكر في [البقرة: 245] يَوْمَ تَرَى العامل في الظرف أجر كريم أو تقدير اذكر يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ قيل: إن هذا النور استعارة يراد به الهدى والرضوان، والصحيح هو قول الجمهور أنه حقيقة، وقد روي ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالمعنى على هذا أن المؤمنين يكون لهم يوم القيامة نور يضيء قدّامهم وعن يمين كل واحد منهم. وقيل: يكون أصله في إيمانهم يحملونه فينبسط نوره قدامهم، وروي أن نور كل أحد على قدر إيمانه، فمنهم من يكون نوره كالنخلة، ومنهم من يضيء ما قرب من قدميه، ومنهم من يضيء مرة ويهمّ بالإطفاء مرة، قال ابن عطية: ومن هذه الآية أخذ الناس مشي المعتق بالشمعة قدّام معتقه إذا مات بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ أي يقال لهم ذلك. يَوْمَ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ يوم بدل من يوم ترى أو متعلق بالفوز العظيم، أو بمحذوف: تقديره اذكر ومعنى الآية: أن كل مؤمن مظهر للإيمان يعطى يوم القيامة نورا فيبقى نور المؤمنين وينطفئ نور المنافقين، فيقول المنافقون للمؤمنين، انظرونا نقتبس من نوركم أي نأخذ منه ونستضيء به. ومعنى انظرونا: انتظرونا. وذلك لأن المؤمنين يسرعون إلى الجنة كالبرق الخاطف، والمنافقون ليسوا كذلك. ويحتمل أن يكون من النظر أي انظروا إلينا، لأنهم إذا نظروا إليهم استقبلوهم بوجوههم فاستضاءوا بنورهم. ولكن يضعف هذا لأن نظر إذا كان بمعنى النظر بالعين يتعدى بإلى، وقرئ أنظرونا «2» بهمزة قطع ومعناه أخرونا أي أمهلونا في مشيكم حتى نلحقكم قِيلَ ارْجِعُوا وَراءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً يحتمل أن يكون هذا من قول المؤمنين، أو قول الملائكة ومعناه الطرد للمنافقين، والتهكم بهم لأنهم قد علموا أن ليس وراءهم نور، ووراءكم ظرف العامل فيه ارجعوا وقيل: إنه لا موضع له من الإعراب، وأنه كما لو قال: ارجعوا ومعنى هذا الرجوع، ارجعوا إلى الموقف فالتمسوا فيه النور، أو ارجعوا إلى الدنيا فالتمسوا النور بتحصيل الإيمان أو ارجعوا خائبين، وتنحوا عنا فالتمسوا نورا آخر، فلا سبيل لكم إلى هذا النور فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ أي ضرب بين المؤمنين والمنافقين بسور يفصل بينهم، وفي ذلك السور باب لأهل الجنة يدخلون منه وقيل: إن هذا السور هو الأعراف وهو سور بين الجنة والنار. وقيل: هو الجدار الشرقي من بيت المقدس وهذا بعيد

_ (1) . بقية الآية: فيضاعفه له. قرأ عاصم بفتح الفاء وقرأ نافع وغيره فيضاعفه بضم الفاء وقرأ ابن كثير: فيضعّفه. (2) . قرأ حمزة: أنظرونا بهمزة القطع أي: أمهلونا. وقال الفراء هي أيضا بمعنى: انتظرونا.

باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ باطنه هو جهة المؤمنين، وظاهره هو جهة المنافقين وهي خارجه. كقوله ظاهر المدينة أي خارجها. والضمير في باطنه وظاهره يحتمل أن يكون للسور أو للباب والأول أظهر يُنادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ أي ينادي المنافقون المؤمنين فيقولون لهم: ألم نكن معكم في الدنيا؟ يريدون إظهارهم الإيمان فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ أي أهلكتموها وأضللتموها بالنفاق وَتَرَبَّصْتُمْ أي أبطأتم بإيمانكم وقيل: تربصتم الدوائر بالنبي صلى الله عليه وسلم وبالمسلمين وَارْتَبْتُمْ أي شككتم في الإيمان وَغَرَّتْكُمُ الْأَمانِيُّ أي طول الأمل والتمني، ومن ذلك أنهم كانوا يتمنون أن يهلك النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، أو يهزمون إلى غير ذلك من الأماني الكاذبة حَتَّى جاءَ أَمْرُ اللَّهِ أي الفتح وظهور الإسلام، أو موت المنافقين على الحال الموجبة للعذاب الْغَرُورُ هو الشيطان هِيَ مَوْلاكُمْ أي هي أولى بكم، وحقيقة المولى الولي الناصر، فكان هذا استعارة منه، أي لا وليّ لكم تأوون إليه إلا النار. أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ «1» معنى ألم يأن: ألم يحن. يقال: أنى الأمر إذا حان وقته، وذكر الله يحتمل أن يريد به القرآن أو الذكر، أو التذكير بالمواعظ وهذه آية موعظة وتذكير قال ابن عباس: عوتب المؤمنون بهذه الآية بعد ثلاثة عشر سنة من نزول القرآن، وسمع الفضيل بن عياض قارئا يقرأ هذه الآية فقال: قد آن فكان سبب رجوعه إلى الله. وحكي أن عبد الله بن المبارك أخذ العود في صباه ليضربه فنطق بهذه الآية فكسره ابن المبارك، وتاب إلى الله وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ عطف ولا يكونوا على أن تخشع ويحتمل أن يكون نهيا، والمراد التحذير من أن يكون المؤمنون كأهل الكتب المتقدمة وهم اليهود والنصارى فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ أي مدة الحياة وقيل: انتظار القيامة، وقيل: انتظار الفتح والأول أظهر اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها أي يحييها بإنزال المطر وإخراج النبات، وقيل: إنه تمثيل للقلوب أي: يحيى الله القلوب بالمواعظ كما يحيى الأرض بالمطر، وفي هذا تأنيس للمؤمنين الذين ندبوا إلى أن تخشع قلوبهم، والأول أظهر وأرجح لأنه الحقيقة. إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقاتِ بتشديد الصاد من الصدقة وأصله المتصدقين، وكذلك

_ (1) . بقية الآية: وما نزل من الحق. هكذا قرأها نافع وحفص وقرأ الباقون: وما نزّل من الحق بالتشديد.

[سورة الحديد (57) : الآيات 19 إلى 20]

قرأ أبيّ بن كعب وقرأ بالتخفيف من التصديق، أي صدقوا الرسول عليه الصلاة والسلام، وَأَقْرَضُوا اللَّهَ معطوف على المعنى، كأنه قال إن الذين تصدقوا وأقرضوا، وقد ذكرنا معنى أقرضوا في قوله: من ذا الذي يقرض الله الصِّدِّيقُونَ مبالغة من الصدق أو من التصديق، وكونه من الصدق أرجح لأن صيغة فعّيل لا تبنى إلا من فعل ثلاثي في الأكثر، وقد حكي بناؤها من رباعي كقولهم: رجل مسّيك من أمسك وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ يحتمل أن يكون الشهداء مبتدأ وخبره ما بعده، أو يكون معطوفا على الصديقين، فإن كان مبتدأ ففي المعنى قولان: أحدهما أنه جمع شهيد في سبيل الله فأخبر أنهم عند ربهم لهم أجرهم ونورهم والآخر أنه جمع شاهد، ويراد به الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، لأنهم يشهدون على قومهم، وإن كان معطوفا ففي المعنى قولان، أحدهما: أنه جمع شهيد فوصف الله المؤمنين بأنهم صديقون وشهداء: أي جمعوا الوصفين، وروي في هذا المعنى أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: مؤمنو أمتي شهداء «1» وتلا هذه الآية، والآخر أنه جمع شاهد، لأن المؤمنين يشهدون على الناس كقوله: لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ [البقرة: 143] لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ هذا خبر عن الشهداء خاصة إن كان مبتدأ، أو خبر عن المؤمنين إن كان الشهداء معطوفا، ونورهم هو النور الذي يكون لهم يوم القيامة، حسبما ذكره في هذه السورة، وقيل: هو عبارة عن الهدى والإيمان، كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ الآية معناها تشبيه الدنيا بالزرع الذي ينبته الغيث في سرعة تغيره بعد حسنه، وتحطمه بعد ظهوره والكفّار هنا يراد به الزراع فهو من قوله: كفرت الحبّ إذا سترته تحت الأرض: وخصهم بالذكر لأنهم أهل البصر بالزرع والفلاحة، فلا يعجبهم إلا ما هو حقيق أن يعجب، وقيل: أراد الكفار بالله وخصهم بالذكر لأنهم أشد إعجابا بالدنيا وأكثر حرصا عليها. سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أي سابقوا إلى الأعمال التي تستحقون بها المغفرة، فقيل: المعنى كونوا في أول صف من القتال، وقيل: احضروا تكبيرة الإحرام مع الإمام، وقيل: كونوا أول داخل إلى المسجد، وأول خارج منه وهذه أمثلة، والمعنى العام: المسابقة إلى جميع الأعمال الصالحات، وقد استدل بها قوم على أن الصلاة في أول الوقت

_ (1) . روى هذا الحديث الإمام الطبري في تفسيره بسنده إلى البراء بن عازب.

أفضل وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ السماء هنا يراد به جنس السموات بدليل قوله في آل عمران [133] ، وقد ذكرنا هناك معنى عرضها ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها المعنى أن الأمور كلها مقدرة مكتوبة في اللوح المحفوظ من قبل أن تكون، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله كتب مقادير الأشياء قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة» «1» وعرشه على الماء، والمصيبة هنا عبارة عن كل ما يصيب من خير أو شر، وقيل: أراد به المصيبة في العرف وهو ما يصيب من الشر، وخص ذلك بالذكر لأنه أهم على الناس، وفي الأرض يعني القحوط والزلازل وغير ذلك، وفي أنفسكم يعني الموت، والفقر، وغير ذلك ونبرأها معناه: نخلقها والضمير يعود على المصيبة أو على أنفسكم أو على الأرض، وقيل: يعود على جميعها لأن المعنى صحيح في كلها لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ المعنى فعل الله ذلك وأخبركم به لكيلا تتأسفوا على ما فاتكم، ومعنى لا تأسوا: لا تحزنوا أي فلا تحزنوا على ما فاتكم منها ولا تفرحوا فيها، وقرأ الجمهور بما آتاكم بالمدّ أي بما أعطاكم الله من الدنيا، وقرأ أبو عمرو بما أتاكم بالقصر أي بما جاءكم من الدنيا فإن قيل: إن الإنسان لا يملك نفسه أن يفرح بالخير ويحزن للشر كما قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه لما أتي بمال كثير اللهم إنا لا نستطيع إلا أن نفرح بما زينت لنا، فالجواب: أن النهي عن الفرح إنما هو عن الذي يقود إلى الكبر والطغيان، وعن الحزن الذي يخرج عن الصبر والتسليم كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ المختال صاحب الخيلاء، والفخور شديد الفخر على الناس الَّذِينَ يَبْخَلُونَ «2» بدل من كل مختال فخور أو خبر ابتداء مضمر تقديره: هم الذين أو منصوب بإضمار: أعني أو مبتدأ وخبره محذوف وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ الكتاب هنا جنس الكتب والميزان العدل وقيل: الميزان الذي يوزن به، وروي أن جبريل نزل بالميزان ودفعه إلى نوح وقال له: مر قومك يزنوا به وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ خبر عن خلقه وإيجاده بالإنزال وقيل: بل أنزله حقيقة، لأن آدم نزل من الجنة ومعه المطرقة والإبرة فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ يعني أنه يعمل منه سلاح

_ (1) . لم أعثر عليه فيما بين يدي من مصادر. (2) . بقية الآية: فإن الله هو الغني الحميد. قرأ نافع وابن عامر: فإن الله الغني الحميد.. بدون هو.

[سورة الحديد (57) : الآيات 26 إلى 28]

للقتال ولذلك قال: وليعلم الله من ينصره ورسله والمنافع للناس: سكك الحرث والمسامير وغير ذلك فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ أي من ذرية نوح وإبراهيم مهتدون قليلون، وأكثرهم فاسقون لأن منهم اليهود والنصارى وغيرهم. وَقَفَّيْنا ذكر في البقرة [87] وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً هذا ثناء عليهم بمحبة بعضهم في بعض كما وصف أصحاب سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، بأنهم رحماء بينهم وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها الرهبانية هي الانفراد في الجبال، والانقطاع عن الناس في الصوامع، ورفض النساء وترك الدنيا، ومعنى ابتدعوها أي أحدثوها من غير أن يشرعها الله لهم، وإعراب رهبانية معطوف على رأفة ورحمة أي جعل الله في قلوبهم الرأفة والرحمة والرهبانية، وابتدعوها صفة للرهبانية، والجعل هنا بمعنى الخلق. والمعتزلة يعربون رهبانية مفعولا بفعل مضمر يفسره ابتدعوها لأن مذهبهم أن الإنسان يخلق أفعاله، فأعربوها على مذهبهم، وكذلك أعربها أبو علي الفارسي وذكر الزمخشري الوجهين ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللَّهِ كتبنا هنا بمعنى، فرضنا وشرعنا وفي هذا قولان: أحدهما أن الاستثناء منقطع، والمعنى ما كتبنا عليهم الرهبانية، ولكنهم فعلوها من تلقاء أنفسهم، ابتغاء رضوان الله، والآخر أن الاستئناف متصل والمعنى كتبناها عليهم ابتغاء رضوان الله والأول أرجح لقوله «ابتدعوها» ولقراءة عبد الله بن مسعود: ما كتبناها عليهم لكن ابتدعوها فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها أي لم يدوموا عليها، ولم يحافظوا على الوفاء بها، يعني أن جميعهم لم يرعوها وإن رعاها بعضهم. والضمير في رعوها للذين ابتدعوا الرهبانية وكان يجب عليهم إتمامها، وإن لم يكتبها الله سبحانه وتعالى عليهم، لأن من دخل في شيء من النوافل يجب عليه إتمامه وقيل: الضمير لمن جاء بعد الذين ابتدعوا الرهبانية من أتباعهم. وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ إن قيل: كيف خاطب الذين آمنوا وأمرهم بالإيمان وتحصيل الحاصل لا ينبغي؟ فالجواب من وجهين: أحدهما أن معنى آمنوا دوموا على الإيمان وأثبتوا عليه، والآخر أنه خطاب لأهل الكتاب فالمعنى: يا أيها الذين آمنوا بموسى وعيسى آمنوا بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم، ويؤيد هذا قوله: يؤتكم كفلين من رحمته أي نصيبين، وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه وآمن بي «1» الحديث وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ يحتمل أن يريد النور

_ (1) . رواه أحمد عن أبي موسى الأشعري ج 4 ص 402، 405. [.....]

[سورة الحديد (57) : آية 29]

الذي يسعى بين أيدي المؤمنين يوم القيامة، أو يكون عبارة عن الهدى ويؤيد الأول أنه مذكور في هذه السورة، ويؤيد الثاني قوله: وجعلنا له نورا يمشي به في الناس لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ لا في قوله لئلا زائدة، والمعنى: ليعلم أهل الكتاب وكذلك قرأها ابن عباس وقرأ ابن مسعود لكيلا يعلم، والمعنى: إن كان الخطاب لأهل الكتاب: يا أهل الكتاب آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم، ليعلم أهل الكتاب الذين لم يؤمنوا أن لا يقدروا على شيء من فضل الله الذي وعد من آمن منكم، وهو تضعيف الأجر والنور والمغفرة، لأنهم لم يسلموا، فلم ينالوا شيئا، من ذلك، وإن كان الخطاب للمسلمين، فالمعنى: ليعلم أهل الكتاب الذين لم يؤمنوا أنهم لا يقدرون أن ينالوا شيئا مما أعطى الله المسلمين من تضعيف الأجر والنور والمغفرة، وقد روي في سبب نزول الآية: أن اليهود افتخرت على المسلمين فنزلت الآية في الرد عليهم، وهو يقوي هذا القول، وروي أيضا أن سببها أن الذين أسلموا من أهل الكتاب افتخروا على غيرهم من المسلمين بأنهم يؤتيهم الله أجرهم مرتين فنزلت الآية معلمة أن المسلمين مثلهم في ذلك.

سورة المجادلة

سورة المجادلة مدنية وآياتها 22 نزلت بعد المنافقون بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (سورة المجادلة) قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها نزلت الآية في خولة بنت حكيم، وقيل خولة بنت ثعلبة، وقيل خولة بنت خويلد، وقيل: اسمها جميلة وكانت امرأة أوس بن الصامت الأنصاري أخي عبادة بن الصامت. فظاهر منها، وكان الظهار في الجاهلية يوجب تحريما مؤبدا، فلما فعل أوس ذلك جاءت امرأته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله إن أوسا أكل شبابي ونثرت له بطني، فلما كبرت ومات أهلي ظاهر مني. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما رأيتك إلا قد حرمت عليه، فقالت يا رسول الله لا تفعل إني وحيدة، ليس لي أهل سواه، فراجعها رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم بمثل مقالته فراجعته، فهذا هو جدالها وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ كانت تقول اللهم: إني أشكو إليك حالي وانفرادي وفقري، وروي أنها كانت تقول: اللهم إن لي منه صبية صغارا إن ضممتهم إليّ جاعوا، وإن ضممتهم إليه ضاعوا وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما المحاورة هي المراجعة في الكلام قالت عائشة رضي الله عنها: سبحان من وسع سمعه الأصوات، لقد كنت حاضرة وكان بعض كلام خولة يخفى علي وسمع الله كلامها، ونزل القرآن في ذلك فبعث رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم إلى زوجها وقال له: أتعتق رقبة؟، فقال: والله ما أملكها. فقال: أتصوم شهرين متتابعين؟، فقال والله، ما أقدر، فقال له: أتطعم ستين مسكينا؟ فقال لا أجد إلا أن يعينني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بمعونة وصلاة، يريد الدعاء فأعانه رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمسة عشر صاعا. وقيل: بثلاثين صاعا ودعا له، فكفّر بالإطعام وأمسك زوجته. الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ قرئ يظاهرون «1» بألف بعد الظاء وبحذفها

_ (1) . قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو ويظّهّرون بتشديد الظاء وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي: يظّاهرون. وقرأ عاصم يظاهرون.

[سورة المجادلة (58) : الآيات 7 إلى 10]

وبالتشديد والتخفيف والمعنى واحد وهو إيقاع الظهار، والظهار المجمع عليه هو أن يقول الرجل لامرأته: أنت علي كظهر أمي، ويجري مجرى ذلك عند مالك تشبيه الزوجة بكل امرأة محرّمة على التأبيد، كالبنت والأخت وسائر المحرمات بالنسب، والمحرمات بالرضاع والمصاهرة، سواء ذكر لفظ الظهر أو لم يذكره كقوله: أنت علي كأمي أو كبطن أمي أو يدها أو رجلها خلافا للشافعي فإن ذلك كله عنده ليس بظهار. لأنه وقف عند لفظ الآية وقاس مالك عليها لأنه رأى أن المقصد تشبيه حلال بحرام ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ ردّ الله بهذا على من كان يوقع الظهار ويعتقده حقيقة، وأخبر تعالى: أن تصير الزوجة أمّا باطل، فإن الأم في الحقيقة إنما هي الوالدة وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً أخبر تعالى أن الظهار منكر وزور، فالمنكر هو الذي لا تعرف له حقيقة، والزور هو الكذب. وإنما جعله كذبا لأن المظاهر يصيّر امرأته كأمه. وهي لا تصير كذلك أبدا. والظهار محرم ويدل على تحريمه أربعة أشياء أحدها قوله تعالى: ما هن أمهاتهم فإن ذلك تكذيب للمظاهر والثاني أنه سماه منكرا والثالث أنه سماه زورا والرابع قوله: وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ فإن العفو والمغفرة لا تقع إلا عن ذنب وهو مع ذلك لازم للمظاهر حتى يرفعه بالكفارة وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ جعل الله الكفارة في الظهار «1» على ثلاثة أنواع مرتبة لا ينتقل إلى الثاني حتى يعجز عن الأول ولا ينتقل إلى الثالث حتى يعجز عن الثاني فالأول تحرير رقبة والثاني صيام شهرين متتابعين والثالث إطعام ستين مسكينا والطعام يكون من غالب قوت البلد مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا مذهب مالك والجمهور أن المسيس هنا يراد به الوطء وما دونه من اللمس والتقبيل فلا يجوز للمظاهر أن يفعل شيئا من ذلك حتى يكفر، ذلِكَ لِتُؤْمِنُوا قال ابن عطية: الإشارة إلى الرخصة في النقل من التحرير إلى الصوم وقال الزمخشري: المعنى: ذلك البيان والتعليم لتؤمنوا، وهذا أظهر لأنه أعم. إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ أي يخالفون ويعادون كُبِتُوا أي هلكوا وقيل: لعنوا وقيل: كبت الرجل إذا بقي خزيان ونزلت الآية في المنافقين واليهود ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ يحتمل أن يكون النجوى هنا بمعنى الكلام الخفي، فيكون ثلاثة مضاف إليه بمعنى

_ (1) . الظهار من الأمور التي أصبحت من الماضي ولا حاجة إلى كل ما ذكره المصنف ولذلك رأيت الاختصار أولى.

[سورة المجادلة (58) : الآيات 11 إلى 12]

الجماعة من الناس فيكون ثلاثة بدل أو صفة، والأول أحسن إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ يعني بعلمه وإحاطته، وكذلك سادسهم، وهو معهم أينما كانوا. أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى نزل في قوم من اليهود كانوا يتناجون فيما بينهم ويتغامزون على المؤمنين فنهاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فعادوا، وقيل: نزلت في المنافقين، والأول أرجح لقوله: وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ لأن هذا من فعل اليهود والأحسن أن المراد اليهود والمنافقين معا لقوله: ألم تر إلى الذين تولوا قوما غضب الله عليهم فنزلت الآية في الطائفتين وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ كانت اليهود يأتون رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقولون: السام عليك يا محمد بدلا من السلام: عليكم. والسام: الموت. وهو ما أرادوه بقولهم وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول لهم: وعليكم. فسمعتهم عائشة يوما فقالت: بل عليكم السام واللعنة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مهلا يا عائشة إن الله يكره الفحش والتفحش فقالت: أما سمعت ما قالوا؟ قال أما سمعت ما قلت لهم إني قلت: وعليكم. ويريد بقوله ما لم يحيك به الله قوله تعالى: قل الحمد الله وسلام على عباده الذين اصطفى [النمل: 59] وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِما نَقُولُ كانوا يقولون: لو كان نبيا لعذبنا الله بإذايته فقال الله حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ أي يكفيهم ذلك عذابا إِنَّمَا النَّجْوى مِنَ الشَّيْطانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا قيل: يعني النجوى بالإثم والعدوان ومعصية الرسول، وحذف وصفها بذلك لدلالة الأول عليه وقيل: أراد نجوى اليهود والمنافقين ويؤيد هذا قوله: ليحزن الذين آمنوا. إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ فَافْسَحُوا اختلف في سبب نزول الآية فقيل: نزلت في مقاعد الحرب والقتال، وقيل: نزلت بسبب ازدحام الناس، في مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وحرصهم على القرب منه، وقيل: أقام النبي صلى الله عليه وسلم قوما ليجلس أشياخا من أهل بدر في مواضعهم، فنزلت الآية. ثم اختلفوا هل هي مقصورة على مجلس النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو هي عامة في جميع المجالس؟ فقال قوم إنها مخصوصة ويدل على ذلك قراءة المجلس بالإفراد «1» ، وذهب الجمهور إلى أنها عامة ويدل على ذلك قراءة المجالس بالجمع، وهذا هو الأصح ويكون المجلس بالإفراد على هذا للجنس، والتفسيح المأمور به

_ (1) . قرأ المجالس بالجمع عاصم وقرأ الباقون: المجلس بالإفراد..

[سورة المجادلة (58) : الآيات 13 إلى 21]

هو التوسع دون القيام ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يقم أحد من مجلسه ثم يجلس الرجل فيه، ولكن تفسحوا وتوسعوا «1» وقد اختلف في هذا النهي عن القيام من المجلس لأحد هل هو على التحريم أو الكراهة يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ أي يوسع لكم في جنته ورحمته وَإِذا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا «2» أي إذا قيل لكم: ارتفعوا وقوموا فافعلوا ذلك، واختلف في هذا النشوز المأمور به فقيل: إذا دعوا إلى قتال أو صلاة أو فعل طاعة، وقيل: إذا أمروا بالقيام من مجلس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، لأنه كان يحب الانفراد أحيانا، وربما جلس قوم حتى يؤمروا بالقيام، وقيل: المراد القيام في المجلس للتوسع. يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ فيها قولان أحدهما: يرفع الله المؤمنين العلماء درجات فقوله: والذين أوتوا العلم درجات صفة للذين آمنوا كقوله: جاءني العاقل الكريم وأنت تريد رجلا واحدا، والثاني: يرفع الله المؤمنين والعلماء الصنفين جميعا درجات، فالدرجات على الأول للمؤمنين بشرط أن يكونوا علماء، وعلى الثاني للمؤمنين الذين ليسوا علماء، وللعلماء أيضا ولكن بين درجات العلماء وغيرهم تفاوت يوجد في موضع آخر كقوله صلى الله عليه وسلم «فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب» «3» ، وقوله عليه الصلاة والسلام «فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم «4» رجلا» وقوله عليه السلام: «يشفع يوم القيامة الأنبياء ثم العلماء ثم الشهداء» «5» فإذا كان لهم فضل على العابدين والشهداء، فما ظنك بفضلهم على سائر المؤمنين إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً قال ابن عباس: سببها أن قوما من شبان المسلمين كثرت مناجاتهم للنبي صلى الله عليه وسلم في غير حاجة، لتظهر منزلتهم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم سمحا لا يرد أحدا، فنزلت الآية مشددة في أمر المناجاة، وقيل: سببها أن الأغنياء غلبوا الفقراء على مناجاة النبي صلى الله عليه وسلم، وهذه الآية منسوخة باتفاق نسخها قوله بعدها أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ الآية: فأباح الله لهم المناجاة دون تقديم صدقة، بعد أن كان أوجب تقديم

_ (1) . ورد الحديث في مسند أحمد عن ابن عمر ج 2 ص 22 ونصه: لا يقيم الرجل الرجل عند مقعده ثم يقعد فيه ولكن تفسحوا وتوسعوا. (2) . قرأ نافع وحفص وابن عامر: فانشزوا بضم الشين وقرأ الباقون فانشزوا بكسرها. وهما لغتان. (3) . حديث فضل العالم على العابد رواه أحمد عن أبي الدرداء ج 5 ص 196. (4) . وحديث فضل العالم.. كفضلي على أدناكم: في الإحياء عزاه للترمذي عن أبي أمامة. (5) . حديث يشفع يوم القيامة.. قال في الإحياء: رواه ابن ماجة عن عثمان بإسناد ضعيف.

[سورة المجادلة (58) : آية 22]

الصدقة قبل مناجاته عليه السلام، واختلف هل كان هذا النسخ بعد أن عمل بالآية أم لا؟ فقال قوم: لم يعمل بها أحد وقال قوم: عمل بها عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه روي أنه كان له دينار فصرفه بعشرة دراهم وناجاه عشر مرات، تصدق في كل مرة منها بدرهم. وقيل: تصدق في كل مرة بدينار، ثم أنزل الله الرخصة لمن كان قادرا على الصدقة، وأما من لم يجد فالرخصة لم تزل ثابتة له بقوله: فإن لم تجدوا فإن الله غفور رحيم وَتابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ التوبة هنا يراد بها عفو الله عنهم في تركهم للصدقة التي أمروا بها، أو تخفيفها بعد وجوبها فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ أي دوموا على هذه الأعمال التي هي قواعد شرعكم، دون ما كنتم قد كلفتم من الصدقة عند المناجاة. أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ نزلت في قوم من المنافقين تولوا قوما من اليهود، وهم الذين غضب الله عليهم ما هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ يعني أن المنافقين ليسوا من المسلمين، ولا من اليهود فهو كقوله فيهم مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ لا إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ يعني أن المنافقين كانوا إذا عوتبوا على سوء أقوالهم وأفعالهم حلفوا أنهم ما قالوا، ولا فعلوا وقد صدر ذلك منهم مرارا كثيرة وهي مذكورة في السير وغيرها اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً أصل الجنة ما يستتر به ويتقى به المحذور كالترس، ثم استعمل هنا استعارة لأنهم كانوا يظهرون الإسلام لتعصم دماؤهم وأموالهم، وقرئ اتخذوا بكسر الهمزة اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ أي غلب عليهم وتملك نفوسهم فِي الْأَذَلِّينَ أي في جملة الأذلين: أي معهم كَتَبَ اللَّهُ أي قضى وقدر. لا تَجِدُ قَوْماً الآية: معناها لا تجد مؤمنا يحب كافرا ولو كان أقرب الناس إليه، وهذه حال المؤمن الصادق الإيمان، ولذلك كان الصحابة رضي الله عنهم يقاتلون آباءهم وأبناءهم وإخوانهم إذا كانوا كفارا، فقد قتل أبو عبيدة بن الجراح أباه يوم أحد، وقتل مصعب بن عمير أخاه عزيزا بن عمير يوم أحد، ودعا أبو بكر الصديق ابنه يوم بدر للبراز فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يقعد، وقيل: إن الآية نزلت في حاطب حين كتب إلى المشركين يخبرهم بأخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم، والأحسن أنها على العموم، وقيل: نزلت فيمن يصحب

السلطان وذلك بعيد يُوادُّونَ هذه مفاعلة من المودّة فتقتضي أن المودّة من الجهتين مَنْ حَادَّ اللَّهَ أي عاداه وخالفه كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ أي أثبته فيها كأنه مكتوب وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ أي بلطف وهدى وتوفيق وقيل بالقرآن، وقيل بجبريل أُولئِكَ حِزْبُ اللَّهِ هذه في مقابلة قوله: أولئك حزب الشيطان، والحزب هم الجماعة المتحزبون لمن أضيفوا إليه.

سورة الحشر

سورة الحشر مدنية وآياتها 24 نزل بعد البينة بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (سورة الحشر) نزلت هذه السورة في يهود بني النضير وكانوا في حصون بمقربة من المدينة، وكان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد، فأرادوا غدره فأطلعه الله على ذلك، فخرج إليهم وحاصرهم إحدى وعشرين ليلة حتى صالحوه على أن يخرجوا من حصونهم، فخرجوا منها وتفرقوا في البلاد هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا يعني بني النضير لِأَوَّلِ الْحَشْرِ في معناه أربعة أقوال: أحدها أنه حشر القيامة أي خروجهم من حصونهم أول الحشر والقيام من القبور آخره، وروي في هذا المعنى أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال لهم: امضوا هذا أول الحشر، وأنا على الأثر: الثاني أن: المعنى لأول موضع الحشر وهو الشام، وذلك أن أكثر بني النضير خرجوا إلى الشام، وقد جاء في الأثر أن حشر القيامة إلى أرض الشام، وروي في هذا المعنى أن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال لبني النضير: أخرجوا قالوا إلى أين؟ قال إلى أرض المحشر. الثالث أن المراد الحشر في الدنيا الذي هو الجلاء والإخراج، فإخراجهم من حصونهم أول الحشر، وإخراج أهل خيبر آخره. الرابع أن معناه إخراجهم من ديارهم لأول ما حشر لقتالهم لأنه أول قتال قاتلهم النبي صلى الله عليه وسلم وقال الزمخشري: اللام في قوله لأول بمعنى عند كقولك جئت لوقت كذا ما ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا يعني لكثرة عدتهم ومنعة حصونهم فَأَتاهُمُ اللَّهُ عبارة عن أخذ الله لهم يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ «1» أما إخراب المؤمنين فهو هدم أسوار الحصون ليدخلوها، وأسند ذلك إلى الكفار في قوله يخربون لأنه كان بسبب كفرهم وغدرهم، وأما إخراب الكفار لبيوتهم فلثلاثة مقاصد: أحدها حاجتهم إلى الخشب

_ (1) . قرأ أبو عمرو: يخرّبون بالتشديد والباقون بالتخفيف.

[سورة الحشر (59) : الآيات 3 إلى 7]

والحجارة ليسدوا بها أفواه الأزقة ويحصنوا ما خرّبه المسلمون من الأسوار، والثاني ليحملوا معهم ما أعجبهم من الخشب والسواري وغير ذلك. الثالث أن لا تبقى مساكنهم مبنية للمسلمين فهدموها شحا عليها فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ استدل الذين أثبتوا القياس في الفقه بهذه الآية، واستدلالهم بها ضعيف خارج عن معناها وَلَوْلا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيا الجلاء هو الخروج عن الوطن، فالمعنى لولا أن كتب الله على بني النضير خروجهم عن أوطانهم لعذبهم في الدنيا بالسيف كما فعل بإخوانهم بني قريظة، ولهم مع ذلك عذاب النار شَاقُّوا ذكر في الأنفال. ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ اللينة هي النخلة وقيل: هي الكريمة من النخل، وقيل: النخلة التي ليست بعجوة، وقيل: ألوان النخل المختلط، وسبب الآية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزل على حصون بني النضير قطع المسلمون بعض نخلهم، وأحرقوه فقال بنو النضير: ما هذا إلا فساد يا محمد وأنت تنهى عن الفساد، فنزلت الآية معلمة أن كل ما جرى من قطع أو إمساك فإن الله أذن للمسلمين في ذلك لِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ يعني بني النضير، واستدل بعض الفقهاء بهذه الآية على أن كل مجتهد مصيب، فإن الله قد صوب فعل من قطع النخل ومن تركها، واختلف العلماء في قطع شجر المشركين وتخريب بلادهم فأجازه الجمهور لهذه الآية، ولإقرار رسول الله صلى الله عليه وسلم على تحريق نخل بني النضير، وكرهه قوم لوصية أبي بكر الصديق رضي الله عنه الجيش الذي وجهه إلى الشام أن لا يقطعوا شجرا مثمرا. وَما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ معنى أفاء الله: جعله فيئا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأوجفتم من الوجيف وهو سرعة السير، والركاب هي الإبل، والمعنى أن ما أعطى الله رسوله من أموال بني النضير لم يمش المسلمون إليه بخيل ولا إبل ولا تعبوا فيه ولا حصلوه بقتال، ولكن حصل بتسليط رسوله صلى الله عليه وسلم على بني النضير، فأعلم الله من هذه الآية أن ما أخذه من بني النضير وما أخذه من فدك: فهو فيء خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم يفعل فيه ما يشاء، لأنه لم يوجف عليها، ولا قوتلت كبير قتال. فهما بخلاف الغنيمة التي تؤخذ بالقتال فأخذ رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم لنفسه من أموال بني النضير قوت عياله، وقسم سائرها في المهاجرين، ولم يعط الأنصار منها شيئا غير أن أبا دجانة وسهل بن حنيف شكوا فاقة فأعطاهما رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم منها سهما، هذا قول جماعة، وقال عمر بن الخطاب كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم ينفق منها على أهله نفقة سنة وما بقي جعله في السلاح والكراع عدة في سبيل الله.

وقال قوم من العلماء: وكذلك كل ما فتحه الأئمة مما لم يوجف عليه فهو لهم خاصة يأخذون منه حاجتهم ويصرفون باقيه في مصالح المسلمين، ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ الآية اضطرب الناس في تفسير هذه الآية وحكمها اضطرابا عظيما فإن ظاهرها أن الأموال التي تؤخذ للكفار تكون لله وللرسول ومن ذكر بعد ذلك ولا يخرج منها خمس، ولا تقسم على من حضر الوقيعة وذلك يعارض ما ورد في الأنفال من إخراج الخمس، وقسمة سائر الغنيمة على من حضر الوقيعة فقال بعضهم: إن هذه الآية منسوخة بآية الأنفال، وهذه خطأ لأن آية الأنفال نزلت قبل هذه بمدة. وقال بعضهم: إن آية الأنفال في الأموال التي تغنم ما عدا الأرض، وأن هذه الآية في أرض الكفار. قالوا: ولذلك لم يقسم عمر بن الخطاب رضي الله عنه أرض مصر والعراق بل تركها لمصالح المسلمين، وهذا التخصيص لا دليل عليه وقيل: غير ذلك، والصحيح أنه لا تعارض بين هذه الآية وبين آية الأنفال، فإن آية الأنفال في حكم الغنيمة التي تؤخذ بالقتال وإيجاف الخيل والركاب، فهذا يخرج منه الخمس ويقسم باقية على الغانمين، وأما هذه الآية ففي حكم الفيء وهو ما يؤخذ من أموال الكفار من غير قتال ولا إيجاف خيل ولا ركاب، وإذا كان كذلك فكل واحدة من الآيتين في معنى غير معنى الأخرى. ولها حكم غير حكم الأخرى فلا تعارض بينهما ولا نسخ، وانظر كيف ذكر هنا لفظ الفيء وفي الأنفال لفظ الغنيمة وقد تقرر في الفقه الفرق بين الفيء والغنيمة، وأن حكمهما مختلف، قاله أبو محمد بن الفرس: وهو قول الجمهور وبه قال مالك وجميع أصحابه وهو أظهر الأقوال. وأما فعل عمر في أرض مصر والعراق، فالصحيح أنه فعل ذلك لمصلحة المسلمين بعد استطابة نفوس الغانمين بقوله تعالى ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى يريد بغير قتال ولا إيجاف خيل ولا ركاب كما كانت أموال بني النضير، ولكنه حذف هذا لقوله في الآية قبل هذا: فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب، فاستغنى بذكر ذلك أولا عن ذكره ثانيا، ولذلك لم تدخل الواو العاطفة في هذه الجملة لأنها من تمام الأولى فهي غير أجنبية منها فإنه بين في الآية الأولى حكم أموال بني النضير، وبين في هذه الآية حكم ما كان مثلها من أموال غيرهم على العموم، ويصرف الفيء فيما يصرف فيه خمس الغنائم لأن الله سوّى بينهما في قوله: فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ، وقد ذكرنا ذلك في الأنفال فأغنى عن إعادته، وقد ذكرنا في الأنفال معنى قوله: لله وللرسول وما بعد ذلك كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ أي كيلا يكون الفيء الذي أفاء الله على رسوله من أهل القرى دولة ينتفع به الأغنياء دون الفقراء، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قسم أموال بني النضير على المهاجرين فإنهم كانوا حينئذ فقراء، ولم يعط الأنصار منها شيئا، فإنهم كانوا أغنياء فقال بعض الأنصار: لنا سهمنا من هذا الفيء فأنزل

[سورة الحشر (59) : آية 8]

الله هذه الآية، والدولة بالضم والفتح ما يدول الإنسان أي يدور عليه من الخير، ويحتمل أن يكون من المداولة، أي كي لا يتداول ذلك المال الأغنياء بينهم ويبقى الفقراء بلا شيء. وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا نزلت بسبب الفيء المذكور: أي ما أتاكم الرسول من الفيء فخذوه، وما نهاكم عنه فانتهوا، فكأنها أمر للمهاجرين بأخذ الفيء ونهي للأنصار عنه، ولفظ الآية مع ذلك عام في أوامر رسول الله صلى الله عليه وسلم أو نواهيه، ولذلك استدل بها عبد الله بن مسعود على المنع من لبس المحرم المخيط ولعن الواشمة والواصلة في القرآن لورود ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. لِلْفُقَراءِ هذا بدل من قوله لذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل ليبين بذلك أن المراد المهاجرين، ووصفهم بأنهم أخرجوا من ديارهم وأموالهم لأنهم هاجروا من مكة وتركوا فيها أموالهم وديارهم وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ هم الأنصار والدار هي المدينة لأنها كانت بلدهم، والضمير في قبلهم للمهاجرين، فإن قيل: كيف قال تبوؤا الدار والإيمان وإنما تتبوّأ الدار. أي تسكن ولا يتبوأ الإيمان؟ فالجواب من وجهين: الأول أن معناه تبوؤا الدار وأخلصوا الإيمان فهو كقولك: فعلفتها تبنا وماء باردا: تقديره: علفتها تبنا وسقيتها ماء باردا، الثاني أن المعنى أنهم جعلوا الإيمان كأنه موطن لهم لتمكنهم فيه، كما جعلوا المدينة كذلك. فإن قيل: قوله من قبلهم يقتضي أن الأنصار سبقوا المهاجرين بنزول المدينة وبالإيمان، فأما سبقهم لهم بنزول المدينة فلا شك فيه لأنها كانت بلدهم، وأما سبقهم لهم بالإيمان فمشكل، لأن أكثر المهاجرين أسلم قبل الأنصار. فالجواب من وجهين: أحدهما أنه أراد بقوله من قبلهم من قبل هجرتهم، والآخر أنه أراد تبوؤا الدار مع الإيمان معا. أي جمعوا بين الحالتين قبل المهاجرين، لأن المهاجرين إنما سبقوهم بالإيمان لا بتبوّئ الدار فيكون الإيمان على هذا مفعولا معه، وهذا الوجه أحسن، لأنه جواب عن هذا السؤال وعن السؤال الأول، فإنه إذا كان الإيمان مفعولا معه لم يلزم السؤال الأول، إذ لا يلزم إلا إذا كان الإيمان معطوفا على الدار. وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا قيل: إن الحاجة هنا بمعنى الحسد، ويحتمل أن تكون بمعنى الاحتجاج على أصلها، والضمير في يجدون للأنصار، وفي أوتوا المهاجرين، والمعنى. أن الأنصار تطيب نفوسهم بما يعطاه المهاجرون من الفيء وغيره، ولا يجدون في صدورهم شيئا بسبب ذلك وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ أي يؤثرون غيرهم بالمال على أنفسهم ولو كانوا في غاية الاحتياج، والخصاصة هي الفاقة، وروي أن سبب هذه

الآية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قسم هذه القرى على المهاجرين دون الأنصار قال للأنصار: إن شئتم قسمتم للمهاجرين من أموالكم ودياركم، وشاركتموهم في هذه الغنيمة. وإن شئتم أمسكتم أموالكم وتركتم لهم هذه فقالوا: بل نقسم لهم من أموالنا ونترك لهم هذه الغنيمة «1» ، وروي أيضا أن سببها أن رجلا من الأنصار أضاف رجلا من المهاجرين فذهب الأنصاري بالضيف إلى منزله فقالت له امرأته: والله ما عندنا إلا قوت الصبيان. فقال لها: نوّمي صبيانك وأطفئي السراج، وقدمي ما عندك للضيف، ونوهمه نحن أنا نأكل ولا نأكل. ففعلا ذلك، فلما غدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: عجب الله من فعلكما البارحة ونزلت الآية وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ شحّ النفس: هو البخل والطمع وفي هذا إشارة إلى أن الأنصار وقاهم الله شح أنفسهم فمدحهم الله بذلك، وبأنهم يؤثرون على أنفسهم وبأنهم لا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتي المهاجرون وأنهم يحبون المهاجرين. وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ هذا معطوف على المهاجرين والأنصار المذكورين قبل، فالمعنى أن الفيء للمهاجرين والأنصار ولهؤلاء الذين جاءوا من بعدهم، ويعني بهم الفرقة الثالثة من الصحابة وهم من عدا المهاجرين والأنصار كالذين أسلموا يوم فتح مكة. وقيل: يعني من جاء بعد الصحابة وهم التابعون ومن تبعهم إلى يوم القيامة، وعلى هذا حملها مالك فقال: إن من قال في أحد من الصحابة قول سوء فلا حظ له في الغنيمة والفيء، لأن الله وصف الذين جاءوا بعد الصحابة بأنهم: يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان، فمن قال ضدّ ذلك فقد خرج عن الذين وصفهم الله. أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا الآية: نزلت في عبد الله بن أبيّ بن سلول وقوم من المنافقين بعثوا إلى بني النضير، وقالوا لهم: اثبتوا في حصونكم فإنا معكم كيف ما تقلبت حالكم وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً أي لا نسمع فيكم قول قائل، ولا نطيع من يأمرنا بخذلانكم، ثم كذبهم الله في هذه المواعيد التي وعدوا بها، فإن قيل: كيف قال لئن نصروهم ليولنّ الأدبار بعد قوله لا ينصرونهم؟ فالجواب: أن المعنى على الفرض والتقدير أي لو فرضنا أن ينصروهم لولوا الأدبار لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ الرهبة هي

_ (1) . هذا معنى: ويؤثرون على أنفسهم. وقد مدحهم الله بالإيثار ولو كان بهم خصاصة.

[سورة الحشر (59) : الآيات 14 إلى 20]

الخوف، والمعنى أن المنافقين واليهود يخافون الناس أكثر مما يخافون الله لا يُقاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلَّا فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَراءِ جُدُرٍ أي لا يقدرون على قتالكم مجتمعين إلا وهم في قرى محصنة بالأسوار والخنادق أو من وراء الحيطان دون أن يخرجوا إليكم بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ يعني عداوة بعضهم لبعض تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى أي تظن أنهم مجتمعون بالألفة والمودة وقلوبهم متفرقة بالمخالفة والشحناء كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيباً أي هؤلاء اليهود كمثل الذين من قبلهم يعني: يهود بني قينقاع فإن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أجلاهم عن المدينة قبل بني النضير، فكانوا أمثالهم. وقيل: يعني أهل بدر الكفار، فإنهم قبلهم ومثلا لهم في أن غلبوا وقهروا. والأول أرجح: لأن قوله: قريبا يقتضي أنهم كانوا قبلهم بمدة يسيرة، وذلك أوقع على بني قينقاع وأيضا فإن تمثيل بني النضير ببني قينقاع أليق لأنهم يهود مثلهم، وأخرجوا من ديارهم كما فعل بهم وذلك هو المراد بقوله: ذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ وقريبا ظرف زمان. كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ مثّل الله المنافقين الذين أغووا يهود بني النضير ثم خذلوهم بعد ذلك بالشيطان فإنه يغوي ابن آدم ثم يتبرأ منه، والمراد بالشيطان والإنسان هنا الجنس، وقيل: أراد الشيطان الذي أغوى قريشا يوم بدر وقال لهم: إني جار لكم، فَكانَ عاقِبَتَهُما أَنَّهُما فِي النَّارِ الضميران يعودان على الشيطان والإنسان، وفي ذلك تمثيل للمنافقين واليهود. وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ هذا أمر بأن تنظر كل نفس ما قدمت من أعمالها ليوم القيامة، ومعنى ذلك محاسبة النفس لتكف عن السيئات وتزيد من الحسنات، وإنما عبّر عن يوم القيامة بغد تقريبا له، لأن كل ما هو آت قريب، فإن قيل: لم كرر الأمر بالتقوى؟ فالجواب من وجهين: أحدهما أنه تأكيد، والآخر وهو الأحسن أنه أمر أولا بالتقوى استعدادا ليوم القيامة، ثم أمر به ثانيا لأن الله خبير بما يعلمون، فلما اختلف الموجبات كرره مع كل واحد منهما وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ يعني الكفار، والنسيان هنا يحتمل أن يكون بمعنى الترك أو الغفلة، أي نسوا حقّ الله فأنساهم حقوق أنفسهم والنظر لها. لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ الآية: توبيخ لابن آدم على قسوة قلبه، وقلة

خشوعه عند تلاوة القرآن فإنه إذا كان الجبل يخشع ويتصدع لو سمع القرآن فما ظنك بابن آدم عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ أي يعلم ما غاب عن المخلوقين وما شاهدوه، وقيل: الغيب الآخرة والشهادة الدنيا، والعموم أحسن الْقُدُّوسُ مشتق من التقديس، وهو التنزه عن صفات المخلوقين، وعن كل نقص وعيب وصيغة فعول للمبالغة كالسبوح السَّلامُ في معناه قولان: أحدهما الذي سلّم عباده من الجور، والآخر السليم من النقائص، وأصله مصدر بمعنى السلامة، وصف به مبالغة أو على حذف مضاف تقديره ذو السلام الْمُؤْمِنُ فيه قولان: أحدهما أنه من الأمن أي الذي أمّن عباده، والآخر أنه من الإيمان أي المصدق لعباده في إيمانهم، أو في شهادتهم على الناس يوم القيامة، أو المصدق نفسه في أقواله الْمُهَيْمِنُ في معناه ثلاثة أقوال الرقيب والشاهد والأمين، قال الزمخشري أصله مؤيمن بالهمزة ثم أبدلت هاء الْجَبَّارُ في معناه قولان: أحدهما أنه من الإجبار بمعنى القهر، والآخر أنه من الجبر أن يجبر عباده برحمته، والأول أظهر الْمُتَكَبِّرُ أي الذي له التكبر حقا الْبارِئُ أي الخالق يقال: أبرأ الله الخلق أي خلقهم ولكن البارئ والفاطر يراد بهما الذي برأ الخلق واخترعه الْمُصَوِّرُ أي خالق الصور لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن لله تسعة وتسعين اسما من أحصاها دخل الجنة «1» ، قال المؤلف قرأت القرآن على الأستاذ الصالح أبي عبد الله بن الكماد فلما بلغت إلى آخر سورة الحشر قال لي: ضع يدك على رأسك فقلت له ولم ذلك؟ قال لأني قرأت على القاضي أبي علي بن أبي الأحوص فلما انتهيت إلى خاتمة الحشر قال لي، ضع يدك على رأسك وأسند الحديث إلى عبد الله بن مسعود قال: قرأت على النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم فلما انتهيت إلى خاتمة الحشر قال لي: ضع يدك على رأسك قلت ولم ذاك يا رسول الله فداك أبي وأمي؟ قال: أقرأني جبريل القرآن فلما انتهيت إلى خاتمة الحشر، قال لي ضع يدك على رأسك يا محمد قلت: ولم ذاك قال: إن الله تبارك وتعالى افتتح القرآن فضرب فيه فلما انتهى إلى خاتمة سورة الحشر أمر الملائكة أن تضع أيديها على رؤوسها. فقالت: يا ربنا ولم ذاك قال إنه شفاء من كل داء إلا السام، والسام الموت.

_ (1) . رواه أحمد عن أبي هريرة ج 2 ص 258.

سورة الممتحنة

سورة الممتحنة مدنية وآياتها 13 نزلت بعد الأحزاب بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (سورة الممتحنة) لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ العدو يطلق على الواحد والجماعة، والمراد به هنا كفار قريش، وهذه الآية نزلت بسبب حاطب بن أبي بلتعة، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أراد الخروج إلى مكة عام الحديبية، فورّى عن ذلك بخيبر. فشاع في الناس أنه خارج إلى خيبر، وأخبر هو جماعة من كبار أصحابه بقصده إلى مكة. منهم حاطب فكتب بذلك حاطب إلى قوم من أهل مكة، فجاء الخبر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من السماء. فبعث علي بن أبي طالب والزبير والمقداد وقال: انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ فإن بها ظعينة «1» معها كتاب من حاطب إلى المشركين، فانطلقوا حتى وجدوا المرأة فقالوا لها: أخرجي الكتاب. فقالت: ما معي كتاب، ففتشوا جميع رحلها فما وجدوا شيئا فقال بعضهم: ما معها كتاب. فقال عليّ بن أبي طالب: ما كذب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا كذب الله، والله لتخرجنّ الكتاب أو لنجردنك قالت: أعرضوا عني، فأخرجته من قرون رأسها وضفائرها وقيل: أخرجته من حجزتها فجاؤوا به رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لحاطب: من كتب هذا؟ قال: أنا يا رسول الله. ولكن لا تعجل عليّ، فو الله ما فعلت ذلك ارتدادا عن ديني، ولا رغبة في الكفر، ولكني كنت أمرأ ملصقا في قريش، ولم أكن من أنفسها، فأحببت أن تكون لي عندهم يد يرعونني بها في قرابتي، فقال عمر بن الخطاب: دعني يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: صدق حاطب إنه من أهل بدر، وما يدريك يا عمر لعل الله قد اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم. لا تقولوا لحاطب إلا خيرا «2» . فنزلت الآية عتابا لحاطب وزجرا عن أن يفعل أحد مثل فعله، وفيها مع ذلك تشريف له، لأن الله شهد له بالإيمان في قوله يا أيها الذين آمنوا. تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ عبارة عن إيصال المودّة إليهم، وألقى يتعدى بحرف جر

_ (1) . المرأة التي تسافر على الجمل ضمن الهودج. (2) . انظر لمزيد تفصيل ما جاء في الطبري.

[سورة الممتحنة (60) : الآيات 4 إلى 9]

وبغير حرف جر كقوله أَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وهذه الجملة في موضع الحال من الضمير في قوله: لا تتخذوا أو في موضع الصفة لأولياء أو استئناف وَقَدْ كَفَرُوا حال من الضمير في لا تتخذوا أو في تلقون يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أي يخرجون الرسول ويخرجونكم: يعني إخراجهم من مكة، فإنهم ضيقوا عليهم وآذوهم حتى خرجوا منها مهاجرين إلى المدينة، ومنهم من خرج إلى أرض الحبشة أَنْ تُؤْمِنُوا مفعول من أجله أي يخرجونكم من أجل إيمانكم إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهاداً فِي سَبِيلِي جواب هذا الشرط محذوف لدلالة ما قبله عليه وهو: لا تتخذوا، والتقدير إن كنتم خرجتم جهادا في سبيلي وابتغاء مرضاتي فلا تتخذوا عدوّي وعدوّكم أولياء، وجهادا مصدر في موضع الحال أو مفعول من أجله وكذلك ابتغاء إِنْ يَثْقَفُوكُمْ معناه إن يظفروا بكم وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ أي تمنوا أن تكفروا فتكونون مثلهم، قال الزمخشري: وإنما قال: ودّوا بلفظ الماضي بعد أن ذكر جواب الشرط بلفظ المضارع لأنهم أرادوا كفركم قبل كل شيء لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ إشارة إلى ما قصد حاطب من رعي قرابته يَوْمَ الْقِيامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ «1» يحتمل أن يكون من الفصل بالحكم بينهم أو من الفصل بمعنى التفريق، أي يفرق بينكم وبين قرابتكم يوم القيامة، وقيل: إن العامل في يوم القيامة ما قبله وذلك بعيد. قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ الأسوة هو الذي يقتدى به، فأمر الله المسلمين أن يقتدوا بإبراهيم الخليل عليه السلام وبالذين معه في عداوة الكفار والتبري منهم، ومعنى: والذين معه من آمن به من الناس، وقيل: الأنبياء الذين كانوا في عصره وقريبا من عصره، ورجح ابن عطية هذا القول بما ورد في الحديث أن إبراهيم عليه السلام قال لزوجته: ما على الأرض مؤمن بالله غيري وغيرك بَراءٌ جمع بريء كَفَرْنا بِكُمْ أي كذبناكم في أقوالكم، ويحتمل أن يكون عبارة عن إفراط البغض والمقاطعة لهم إِلَّا قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ هذا استثناء من قوله أسوة حسنة، فالمعنى اقتدوا بهم في عداوتهم للكفار، ولا تقتدوا بهم في هذا، لأن إبراهيم وعد أباه أن يستغفر له، فلما

_ (1) . قوله: يفصل بينكم: قرأها عاصم: يفصل بينكم وقرأها نافع وابن كثير وأبو عمرو: يفصل. وقرأ حمزة والكسائي: يفصّل بالتشديد والكسر، وقرأ ابن عامر: يفصّل بالتشديد والفتح. [.....]

[سورة الممتحنة (60) : آية 10]

تبين له أنه عدو لله تبرأ منه، وقيل: الاستثناء من التبري والقطيعة، والمعنى تبرأ إبراهيم والذين معه من الكفار، إلا أن إبراهيم وعد أباه أن يستغفر له رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا هذا من كلام سيدنا إبراهيم عليه السلام، والذين معه وهو متصل بما قبل الاستثناء، فهو من جملة ما أمروا أن يقتدوا به رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا في معناه قولان: أحدهما لا تنصرهم علينا فيكون ذلك لهم فتنة وسبب ضلالهم لأنهم يقولون: غلبناهم فيكون ذلك لهم، لأنا على الحق وهم على الباطل. والآخر: لا تسلطهم علينا فيفتنونا عن ديننا، ورجح ابن عطية هذا، لأنه دعاء لأنفسهم وأما على القول الأول فهو دعاء للكفار، ولكن مقصدهم ليس الدعاء للكفار، وإنما هو دعاء لأنفسهم بالنصر بحيث لا يفتتن الكفار بذلك. عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً لما أمر الله المسلمين بعداوة الكفار ومقاطعتهم فامتثلوا ذلك على ما كان بينهم وبين الكفار من القرابة، فعلم الله صدقهم فآنسهم بهذه الآية، ووعدهم بأن يجعل بينهم مودة، وهذه المودة كملت في فتح مكة فإنه أسلم حينئذ سائر قريش، وقيل: المودّة تزوّج النبي صلى الله عليه وسلم أم حبيبة بنت أبي سفيان بن حرب سيد قريش، ورد ابن عطية هذا القول بأن تزوج أم حبيبة كان قبل نزول هذه الآية لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ رخص الله للمسلمين في مبرة من لم يقاتلهم من الكفار، واختلف فيهم على أربعة أقوال، الأول أنهم قبائل من العرب منهم خزاعة وبنو الحارث بن كعب كانوا قد صالحوا رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم على أن لا يقاتلوا، ولا يعينوا عليه. الثاني أنهم كانوا من كفار قريش لم يقاتلوا المسلمين ولا أخرجوهم من مكة، والآية على هذين القولين منسوخة بالقتال: الثالث أنهم النساء والصبيان، وفي هذا ورد أن أسماء بنت أبي بكر الصديق قالت: يا رسول الله إن أمي قدمت عليّ وهي مشركة أفأصلها قال نعم صلي أمك «1» . الرابع أنه أراد من كان بمكة من المؤمنين الذين لم يهاجروا، وأما الذين نهى الله عن مودتهم لأنهم قاتلوا المسلمين وظاهروا على إخراجهم فهم كفار قريش. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ أي اختبروهن

_ (1) . الحديث متفق عليه وأورده النووي في رياض الصالحين باب بر الوالدين.

[سورة الممتحنة (60) : آية 11]

لتعلموا صدق إيمانهن، وإنما سماهن مؤمنات لظاهر حالهن، وقد اختلف في هذا الامتحان على ثلاثة أقوال: أحدها أن تستحلف المرأة أنها ما هاجرت لبغضها في زوجها، ولا لخوف وغير ذلك من أعراض الدنيا سوى حب الله ورسوله والدار الآخرة، والثاني أن يعرض عليها شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله، والثالث أن تعرض عليها الشروط المذكورة بعد هذا من ترك الإشراك والسرقة، وقتل أولادهن وترك الزنا والبهتان، والعصيان، فإذا أقرت بذلك فهو امتحانها قالته عائشة رضي الله تعالى عنها فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ نزلت هذه الآية أثر صلح الحديبية، وكان ذلك الصلح قد تضمن أن يردّ المسلمون إلى الكفار كل من جاءهم مسلما من الرجال والنساء، فنسخ الله أمر النساء بهذه الآية، ومنع من رد المؤمنة إلى الكفار إذا هاجرت إلى المسلمين، وكانت المرأة التي هاجرت حينئذ أميمة بنت بشر امرأة حسان بن الدحداحة، وقيل: سبيعة الأسلمية، ولما هاجرت جاء زوجها فقال يا محمد ردها علينا، فإن ذلك في الشرط الذي لنا عليك فنزلت الآية: فامتحنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يردها، وأعطى مهرها لزوجها، وقيل: نزلت في أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط، هربت من زوجها إلى المسلمين، واختلف في الرجال هل حكمهم في ذلك كالنساء فلا تجوز المهادنة على ردّ من أسلم منهم، أو يجوز حتى الآن على قولين: والأظهر الجواز لأنه إنما نسخ ذلك في النساء لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ هذا تعليل للمنع من ردّ المرأة إلى الكفار، وفيه دليل على ارتفاع النكاح بين المشركين والمسلمات. وَآتُوهُمْ ما أَنْفَقُوا يعني أعطوا الكفار ما أعطوا نساءهم من الصدقات إذا هاجرن، ثم أباح للمسلمين تزوجهن بالصداق وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ «1» العصم جمع عصمة أي النكاح، فأمر الله المسلمين أن يفارقوا نساءهم الكوافر، يعني المشركات من عبدة الأوثان، فالآية على هذا محكمة، وقيل: يعني كل كافرة. فعلى هذا نسخ منها جواز تزوج الكتابيات لقوله: وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ [المائدة: 5] ، وروي أن الآية نزلت في امرأة لعمر بن الخطاب كانت كافرة فطلقها وَسْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْئَلُوا ما أَنْفَقُوا أي اطلبوا من الكفار ما أنفقتم من الصدقات على أزواجكم، اللاتي فررن إلى الكفار وليطلب الكفار منكم ما أنفقوا على أزواجهم، اللاتي هاجرن إلى المسلمين وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ مِثْلَ ما أَنْفَقُوا

_ (1) . قوله تمسكوا. قرأ أبو عمرو: تمسّكوا بالتشديد والباقون: بالتخفيف.

[سورة الممتحنة (60) : الآيات 12 إلى 13]

معنى فاتكم شيء من أزواجكم إلى الكفار: هروب نساء المسلمين إلى الكفار، والخطاب في قوله فَعاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ للمسلمين وقوله: عاقبتم ليس من العقاب على الذنب، وإنما هو من العقبى أي أصبتم عقبى، وهي الغنيمة أو من التعاقب على الشيء، كما يتعاقب الرجلان على الدابة إذا ركبها هذا مرة وهذا مرة أخرى، فلما كان بعض نساء المسلمين يهربون إلى الكفار وبعض نساء الكفار يهربون إلى المسلمين جعل ذلك كالتعاقب على النساء، وسبب الآية أنه لما قال الله: واسألوا ما أنفقتم وليسألوا ما أنفقوا: قال الكفار: لا نرضى بهذا الحكم، ولا نعطي صداق من هربت زوجته إلينا من المسلمين، فأنزل الله هذه الآية الأخرى وأمر الله المسلمين أن يدفعوا الصداق لمن هربت زوجته إلينا من المسلمين إلى الكفار «1» ، ويكون هذا المدفوع من مال الغنائم على قول من قال: إن معنى فعاقبتم غنمتم، وقيل: من مال الفيء، وقيل: من الصدقات التي كانت تدفع للكفار إذا فر أزواجهم إلى المسلمين فأزال الله دفعها إليهم حين لم يرضوا حكمه. وهذه الأحكام التي تضمنتها هذه الآية، قد ارتفعت [أي لا يعمل بها] لأنها نزلت في قضايا معينة، وهي مهادنة النبي صلى الله عليه وسلم مع مشركي العرب ثم زالت هذه الأحكام بارتفاع الهدنة فلا تجوز مهادنة المشركين من العرب، إنما هو في حقهم الإسلام أو السيف، وإنما تجوز مهادنة أهل الكتاب والمجوس لأن الله قال في المشركين: اقتلوا المشركين حيث وجدتموهم، وقال في أهل الكتاب: حتى يعطوا الجزية، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: في المجوس: سنّوا بهم سنة أهل الكتاب «2» . يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ هذه البيعة بيعة النساء في ثاني يوم الفتح على جبل الصفا، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبايعهن بالكلام، ولا تمس يده يد امرأة ورد هذا في الحديث الصحيح عن عائشة وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ معناه عند الجمهور أن تنسب المرأة إلى زوجها ولدا ليس له، واختار ابن عطية أن يكون البهتان هنا على العموم، بأن ينسب للرجل غير ولده، أو تفتري على أحد بالقول، أو تكذب فيما ائتمنها الله عليه من الحيض والحمل وغير ذلك، وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ أي لا يعصينك فيما جاءت به الشريعة من الأوامر والنواهي، ومن ذلك النهي عن النياحة وشق الجيوب، ووصل الشعر وغير ذلك مما كان

_ (1) . تبدو العبارة مضطربة وصوابها: أمر الله المسلمين بدفع الصداق للزوج المسلم الذي هربت زوجته إلى الكفار. والله أعلم. (2) . أي عاملوهم كأهل الكتاب ما عدا أكل ذبائحهم ونكاح نسائهم والحديث رواه مالك بن أنس في الموطأ عن عبد الرحمن بن عوف ج أول ص 278.

نساء الجاهلية يفعلنه، وورد في الحديث أن النساء لما بايعن رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه المبايعة، فقررهنّ على أن لا يسرقن قالت هند بنت عتبة: وهي امرأة أبي سفيان بن حرب يا رسول الله إن أبا سفيان رجل شحيح، فهل عليّ إن أخذت من ماله بغير إذنه، فقال لها خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف «1» فلما قررهن على أن لا يزنين، قالت هند يا رسول الله أتزني الحرة؟ فقال عليه الصلاة والسلام لا تزني الحرة يعني في غالب المرأة، وذلك أن الزنا في قريش إنما كان في الإماء فلما قال: ولا يقتلن أولادهن فقالت: نحن ربيناهم صغارا وقتلتهم أنت ببدر كبارا، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما وقفهن على أن لا يعصينه في معروف، قالت: ما جلسنا هذا المجلس وفي أنفسنا أن نعصيك. وهذه المبايعة للنساء غير معمول بها اليوم، لأنه أجمع العلماء على أنه ليس للإمام أن يشترط عليهن هذا فإما أن تكون منسوخة ولم يذكر الناسخ، أو يكون ترك هذه الشروط لأنها قد تقررت وعلمت من الشرع بالضرورة فلا حاجة إلى اشتراطها لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ يعني اليهود، وكان بعض فقراء المسلمين يتودّد إليهم ليصيبوا من أموالهم، وقيل: يعني كفار قريش، والأول أظهر لأن الغضب قد صار عرفا لليهود كقوله غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ من قال: إن القوم الذين غضب الله عليهم هو اليهود، فمعنى يئسوا من الآخرة يئسوا من خير الآخرة والسعادة فيها، ومن قال: إن القوم الذين غضب الله عليهم هم كفار قريش، فالمعنى يئسوا من وجود الآخرة، وصحتها لأنهم مكذبون بها تكذيبا جزما وقوله كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ يحتمل وجهين: أحدهما أن يريد كما يئس الكفار المكذبون بالبعث من بعث أصحاب القبور، فقوله: من أصحاب يتعلق بيئس، وهو على حذف مضاف، والآخر أن يكون من أصحاب القبور لبيان الجنس أي كما يئس الذين في القبور من سعادة الآخرة، لأنهم تيقنوا أنهم يعذبون فيها.

_ (1) . انظر الحديث في البخاري ج 3 ص 101 عن عائشة.

سورة الصف

سورة الصف مدنية وآياتها 14 نزلت بعد التغابن بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (سورة الحواريين) لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ في سببها ثلاثة أقوال: أحدها قول ابن عباس أن جماعة قالوا: وددنا أن نعرف أحب الأعمال إلى الله فنعمله، ففرض الله الجهاد فكرهه قوم فنزلت الآية والآخر أن قوما من شبان المسلمين كانوا يتحدثون عن أنفسهم في الغزو بما لم يفعلوا، ويقولون فعلنا وصنعنا وذلك كذب، فنزلت الآية زجرا لهم والثالث أنها نزلت في المنافقين، لأنهم كانوا يقولون للمؤمنين: نحن معكم ومنكم ثم يظهر من أفعالهم خلاف ذلك وهذا ضعيف، لأنه خاطبهم بقوله: يا أيها الذين آمنوا إلا أن يريد أنهم آمنوا بزعمهم، وفيما يظهرون. ومع ذلك فحكم الآية على العموم في زجر من يقول ما لا يفعل كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ كان بعض السلف يستحي أن يعظ الناس لأجل هذه الآية ويقول: أخاف من مقت الله، والمقت هو البغض لريبة أو نحوها، وانتصب مقتا على التمييز وأن تقولوا فاعل وقيل: فاعل كبر محذوف تقديره: كبر فعلكم مقتا وأن تقولوا بدل من الفاعل المحذوف أو خبر ابتداء مضمر إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا ورود هذه الآية هنا دليل على أن الآية التي قبلها في شأن القتال، وقال بعض الناس: قتال الرجالة أفضل من قتال الفرسان، لأن التراص فيه يتمكن أكثر مما يتمكن للفرسان. قاله ابن عطية وهذا ضعيف، خفي على قائله مقصد الآية، وليس المراد نفس التراص، وإنما المراد الثبوت والجد في القتال كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ المرصوص هو الذي يضم بعضه إلى بعض. وقيل: هو المعقود بالرصاص ولا يبعد أن يكون هذا أصل اللفظ. وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي كانوا يؤذونه بسوء الكلام وبعصيانه وتنقيصه وانظر في الأحزاب لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى [69] وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي

رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ هذا إقامة حجة عليهم وتوبيخ لهم، وتقبيح لإذايته مع علمهم بأنه رسول الله، ولذلك أدخل قد الدالة على التحقيق فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ هذه عقوبة على الذنب بذنب، وزيغ القلب هو ميله عن الحق وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ إنما قال موسى يا قوم، وقال عيسى يا بني إسرائيل، لأنه لم يكن له فيهم أب مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ معناه مذكور في [البقرة: 41] في قوله مصدقا لما معكم ومُبَشِّراً بِرَسُولٍ عن كعب أن الحواريين قالوا لعيسى: يا روح الله هل بعدنا من أمة؟ قال نعم أمة أحمد حكماء علماء أتقياء أبرار اسْمُهُ أَحْمَدُ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لي خمسة أسماء أنا محمد وأنا أحمد وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر وأنا الحاشر الذي يحشر الله الناس على قدمي وأنا العاقب فلا نبي بعدي «1» وأحمد مشتق من الحمد، ويحتمل أن يكون فعلا سمي به، أو يكون صفة سمي بها كأحمد، ويحتمل أن يكون بمعنى حامد أو بمعنى محمود كمحمد فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْبَيِّناتِ «2» يحتمل أن يريد عيسى أو محمدا عليهما الصلاة والسلام ويؤيد الأول اتصاله بما قبله، ويؤيد الثاني قوله وهو يدعى إلى الإسلام لأن الداعي إلى الإسلام هو محمد صلى الله عليه وسلم يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ «3» ذكر في براءة [32] تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ الآية تفسير للتجارة المذكورة، قال الأخفش: هو عطف بيان عليها يَغْفِرْ لَكُمْ جزم في جواب تؤمنون لأنه بمعنى الأمر، وقد قرأه ابن مسعود آمنوا وجاهدوا على الأمر لأنه يقتضي التحضيض وَأُخْرى تُحِبُّونَها ارتفع أخرى على أنه خبر ابتداء مضمر تقديره: ولكم نعمة أخرى، أو انتصب على أنه مفعول بفعل مضمر تقديره: ويمنحكم أخرى نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ تفسير لأخرى فهو بدل منها وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ قال الزمخشري عطف على تؤمنون

_ (1) . رواه البخاري في كتاب المناقب ص 162 ج 4 عن جبير بن مطعم. (2) . بقية الآية: سحر مبين: قرأها حمزة والكسائي: ساحر مبين. (3) . بقية الآية: متم نوره، قرأ نافع وأبو عمرو وغيرهما: والله متمّ نوره بالتنوين.

[سورة الصف (61) : آية 14]

بالله لأنه في معنى الأمر كونوا أنصارا لله «1» جمع ناصر وقد غلب اسم الأنصار على الأوس والخزرج، سماهم الله به وليس ذلك المراد هنا كَما قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ هذا التشبيه محمول على المعنى لأن ظاهره: كونوا أنصار الله كقول عيسى والمعنى: كونوا أنصار الله كما قال الحواريون حين قال لهم عيسى: من أنصاري إلى الله وقد ذكر في آل عمران [52] معنى الحواريين وأنصاري إلى الله فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ قيل: إنهم ظهروا بالحجة، وقيل: إنهم غلبوا الكفار بالقتال بعد رفع عيسى عليه السلام، وقيل: إن ظهور المؤمنين منهم هو بمحمد صلى الله عليه وسلم.

_ (1) . كونوا أنصار الله: قرأها نافع وابن كثير وأبو عمرو كونوا أنصارا لله.

سورة الجمعة

سورة الجمعة مدنية وآياتها 11 نزلت بعد الصف بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (سورة الجمعة) الْقُدُّوسِ ذكر في الحشر [24] هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يعني سيدنا محمدا صلى الله عليه وسلم، والأميين: هم العرب، وقد ذكر معنى الأمي في الأعراف [157] وَآخَرِينَ مِنْهُمْ عطفا على الأميين، وأراد بهؤلاء فارس وسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: من هؤلاء الآخرون فأخذ بيد سلمان الفارسي، وقال لو كان العلم بالثريا لناله رجال من هؤلاء «1» يعني فارس، وقيل: هم الروم ومنهم على هذين القولين يريد به في البشرية وفي الدين، لا في النسب وقيل: هم أهل اليمن وقيل: التابعون، وقيل: هم سائر المسلمين، والأول أرجح لوروده في الحديث الصحيح لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ أي لما يلحقوا بهم بالنفي وسيلحقون، وذلك أن لما لذكر الماضي القريب من الحال ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ إشارة إلى نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وهداية الناس به مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ يعني اليهود ومعنى حملوا التوراة كلفوا العمل بها والقيام بأوامرها ونواهيها لَمْ يَحْمِلُوها لم يطيعوا أمرها ولم يعملوا بها، شبههم الله بالحمار الذي يحمل الأسفار على ظهره، ولم يدر ما فيها بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ يعني اليهود الذين كذبوا سيدنا محمدا صلى الله عليه وسلم وهم الذين حملوا التوراة ولم يحملوها لأن التوراة تنطق بنبوته صلى الله تعالى عليه وآله وسلم، فكل من قرأها ولم يؤمن به فقد خالف التوراة فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ ذكر في البقرة [94] .

_ (1) . رواه أحمد عن أبي هريرة ج 2 ص 297 وله عدة ألفاظ: لو كان الإيمان، لو كان الدين.

[سورة الجمعة (62) : الآيات 7 إلى 9]

إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ النداء للصلاة هو الأذان لها، ومن في قوله من يوم الجمعة لبيان إذا، وتفسير له وذكر الله: يراد به الخطبة والصلاة، ويتعلق بهذه الآية ثمان مسائل الأولى اختلف في الأذان للجمعة هل هو سنة كالأذان لسائر الصلوات؟ أو واجب لظاهر الآية لأنه شرط في السعي لها أن يكون عند الأذان والسعي واجب فالأذان واجب. الثانية كان الأذان للجمعة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم على جدار المسجد وقيل: على باب المسجد وقيل: كان بين يديه صلى الله عليه وآله وسلم وهو على المنبر، وقد كان بنو أمية يأخذون بهذا، وبقي بقرطبة زمانا وهو باق في المشرق إلى الآن. قال أبو محمد بن الفرس. قال مالك في المجموعة إن هشام بن عبد الملك هو الذي أحدث الأذان بين يديه قال: وهذا دليل على أن الحديث في ذلك ضعيف. الثالث كان الأذان للجمعة واحدا ثم زاد عثمان رضي الله عنه النداء على الزوراء [مكان وسط السوق] ليسمع الناس. واختلف الفقهاء هل المستحب أن يؤذن فيها اثنان أو ثلاثة: الرابعة، السعي في الآية بمعنى المشي لا بمعنى الجري، وقرأ عمر بن الخطاب: فامضوا إلى ذكر الله وهذا تفسير للسعي، فهو بخلاف السعي في قول رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: إذا نودي للصلاة فلا تأتونها وأنتم تسعون. الخامسة، حضور الجمعة واجب، لحمل الأمر الذي في الآية على الوجوب باتفاق، إلا أنها لا تجب على المرأة ولا على الصبي ولا على المريض باتفاق، ولا على العبد والمسافر عند مالك والجمهور خلافا للظاهرية. وتعلقوا بعموم الآية وحجة الجمهور قول رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم: الجمعة واجبة على كل مسلم في جماعة إلا أربعة عبد مملوك أو امرأة أو صبي أو مريض «1» وحجتهم في المسافر أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان لا يقيم الجمعة في السفر، واختلف هل تسقط الجمعة بسبب المطر أم لا؟ وهل يجوز للعروس «2» التخلف عنها أم لا، والمشهور أنها لا تسقط عنه لعموم الآية، السادسة اختلف متى يتعين الإقبال إلى الصلاة؟ فقيل: إذا زالت الشمس، وقيل: إذا أذن المؤذن وهو ظاهر الآية، السابعة اختلف في الموضع الذي يجب منه السعي إلى الجمعة. فقيل: ثلاثة أميال وهو مذهب مالك، وقيل: ستة أميال وقيل: على من كان داخل المصر، وقيل: على من سمع النداء، وقيل: على من آواه الليل إلى أهله، الثامنة اختلف في الوالي «3» هل هو من شرط الجمعة أم لا على قولين، والمشهور سقوطه لأن الله لم يشترطه في الآية.

_ (1) . حديث وجوب الجمعة رواه الإمام الشافعي في الأمّ ونصه: تجب الجمعة على كل مسلم إلا امرأة أو صبيا أو مملوكا. (2) . العروس: كلمة تطلق على الرجل والمرأة لغة وهو الحديث عهد بعرس. (3) . الوالي يراد به الحاكم أو الحكومة باصطلاح: زماننا.

[سورة الجمعة (62) : آية 10]

وَذَرُوا الْبَيْعَ أمر بترك البيع يوم الجمعة إذا أخذ المؤذنون في الأذان، وذلك على الوجوب، فيقتضي تحريم البيع. واختلف في البيع الذي يعقد في ذلك الوقت هل يفسخ أم لا؟ واختلف في بيع من لا تلزمهم الجمعة من النساء والعبد هل يجوز في ذلك الوقت أم لا؟ والأظهر جوازه لأنه إنما منع منه من يدعى إلى الجمعة فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ هذا الأمر للإباحة باتفاق، وحكى الإجماع على ذلك ابن عطية وابن الفرس وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ قيل: معناه طلب المعاش، فالأمر على هذا للإباحة، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: الفضل المبتغى عيادة مريض أو صلة صديق أو اتباع جنازة وقيل: هو طلب العلم وإن صح الحديث لم يعدل إلى سواه. وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها سبب الآية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان قائما على المنبر يخطب يوم الجمعة، فأقبلت عير [قافلة] من الشام بطعام، وصاحب أمرها دحية بن خليفة الكلبي، وكانت عادتهم أن تدخل العير المدينة بالطبل والصياح سرورا بها، فلما دخلت العير كذلك انفض أهل المسجد إليها، وتركوا رسول الله صلى الله عليه وسلم قائما على المنبر، ولم يبق معه إلا اثنا عشر رجلا. قال جابر بن عبد الله: أنا أحدهم. وذكر بعضهم أن منهم العشرة المشهود لهم بالجنة واختلف في الثاني عشر فقيل: عبد الله بن مسعود وقيل: عمار بن ياسر وقيل: إنما بقي معه صلى الله عليه وسلم ثمانية وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال لهؤلاء: لقد كانت الحجارة سوّمت في السماء على المنفضين. وظاهر الآية يقتضي أن الجماعة شرط في الجمعة وهو مذهب مالك والجمهور، إلا أنهم اختلفوا في مقدار الجماعة الذين تنعقد بهم الجمعة؟ فقال مالك ليس في ذلك عدد محدود، وإنما هم جماعة تقوم بهم قرية. وروى ابن الماجشون عن مالك ثلاثون. وقال الشافعي: أربعون وقال أبو حنيفة: ثلاثة مع الإمام وقيل: اثنا عشر عدد الذين بقوا مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فإن قيل: لم قال انفضوا إليها بضمير المفرد وقد ذكر التجارة واللهو؟ فالجواب من وجهين: أحدهما أنه أراد انفضوا إلى اللهو وانفضوا إلى التجارة، ثم حذف أحدهما لدلالة الآخر عليه. قاله الزمخشري. والآخر أنه قال ذلك مهتما بالتجارة إذ كانت أهم، وكانت هي سبب اللهو، ولم يكن اللهو سببها قاله ابن عطية. وَتَرَكُوكَ قائِماً اختلفوا في القيام في الخطبة هل هو واجب أم لا؟ وإذا قلنا بوجوبه فهل هو شرط فيها أم لا فمن أوجبه واشترطه أخذ بظاهر الآية من ذكر القيام. ومن لم يوجبه رأى أن ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك لم يكن على الوجوب. ومذهب مالك أن من سنة الخطبة الجلوس قبلها والجلوس بين الخطبتين وقال أبو حنيفة: لا يجلس بين الخطبتين

لظاهر الآية وذكر القيام فيها دون الجلوس «1» ، وحجة مالك فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم قُلْ ما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجارَةِ إن قيل: لم قدم اللهو هنا على التجارة وقدم التجارة قبل هذا على اللهو؟ فالجواب أن كل واحد من الموضعين جاء على ما ينبغي فيه وذلك أن العرب تارة يبتدئون بالأكثر ثم ينزلون إلى الأقل كقولك: فلان يخون في الكثير والقليل فبدأت بالكثير ثم أردفت عليه الخيانة فيما دونه، وتارة يبتدئون بالأقل ثم يرتقون إلى الأكثر كقولك: فلان أمين على القليل والكثير فبدأت بالقليل ثم أردفت عليه الأمانة فيما هو أكثر منه، ولو عكست في كل واحد من المثالين لم يكن حسنا فإنك لو قدمت في الخيانة القليل لعلم أنه يخون في الكثير. من باب أولى وأحرى، ولو قدمت في الأمانة ذكر الكثير لعلم أنه أمين في القليل من باب أولى وأحرى، فلم يكن لذكره بعد ذلك فائدة وكذلك قوله إذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها. قدم التجارة هنا ليبين أنهم ينفضون إليها، وأنهم مع ذلك ينفضون إلى اللهو الذي هو دونها وقوله: خير من اللهو ومن التجارة قدم اللهو ليبين أن ما عند الله خير من اللهو، وأنه أيضا خير من التجارة التي هي أعظم منه، ولو عكس كل واحد من الموضعين لم يحسن.

_ (1) . هنا غير صحيح فقد ورد في كتاب الهداية للمرغيناني: (ويخطب خطبتين يفصل بينهما بقعدة) به جرى التوارث. [.....]

سورة المنافقون

سورة المنافقون مدنية وآياتها 11 نزلت بعد الحج بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (سورة المنافقون) إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ كانوا يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم فلذلك كذبهم الله بقوله: وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ أي كذبوا في دعواهم الشهادة بالرسالة، وأما قوله: والله يعلم إنك لرسوله فليس من كلام المنافقين، وإنما هو من كلام الله تعالى، ولو لم يذكره لكان يوهم أن قوله: والله يشهد إن المنافقين لكاذبون إبطال للرسالة، فوسطه بين حكاية المنافقين وبين تكذيبهم ليزيل هذا الوهم وليحقق الرسالة، وعلى هذا ينبغي أن يوقف على قوله: لرسول الله جُنَّةً ذكر في المجادلة [16] ذلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا الإشارة إلى سوء عملهم وفضيحتهم وتوبيخهم، وأما قوله: آمنوا ثم كفروا فيحتمل وجهين: أحدهما أن يكون فيمن آمن منهم إيمانا صحيحا ثم نافق بعد ذلك، والآخر أن يريد آمنوا في الظاهر كقوله: إذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا [البقرة: 14] . وَإِذا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ يعني أنهم حسان الصور وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ يعني أنهم فصحاء الخطاب، والضمير في قوله: وإذا رأيتهم تعجبك وفي قوله: تسمع لقولهم للنبي صلى الله عليه وسلم، ولكل مخاطب كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ «1» شبههم بالخشب في قلة أفهامهم، فكان لهم منظر بلا مخبر، وقال الزمخشري: إنما شبههم بالخشب المسندة إلى حائط، لأن الخشب إذا كانت كذلك لم يكن فيها منفعة، بخلاف الخشب التي في سقف أو مغروسة في جدار فإن فيها حينئذ منفعة. فالتشبيه على هذا في عدم المنفعة، وقيل: كانوا يستندون في مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم فشبههم في استنادهم بالخشب المسندة إلى الحائط

_ (1) . خشب: قرأها أبو عمرو والكسائي بتسكين الشين: خشب والباقون بالضم.

[سورة المنافقون (63) : الآيات 5 إلى 9]

يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ عبارة عن شدّة خوفهم من المسلمين، وذلك أنهم كانوا إذا سمعوا صياحا ظنوا أن النبي صلى الله عليه وسلم يأمر بقتلهم قاتَلَهُمُ اللَّهُ الدعاء عليهم يتضمن ذمّهم وتقبيح أحوالهم أَنَّى يُؤْفَكُونَ أي كيف يصرفون عن الإيمان مع ظهوره. وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ «1» أي أمالوها إعراضا واستكبارا. وقصص هذه الآية وما بعدها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج في غزوة بني المصطلق، فبلغ الناس إلى ماء ازدحموا عليه، فكان ممن ازدحم عليه جهجاه بن سعيد أجير لعمر بن الخطاب وسنان الجهني حليف لعبد الله بن أبي بن سلول رأس المنافقين، فلطم الجهجاه سنانا، فغضب سنان ودعا بالأنصار ودعا جهجاه بالمهاجرين، فقال عبد الله بن أبيّ: والله ما مثلنا ومثل هؤلاء يعني المهاجرين إلا كما قال الأول: سمّن كلبك يأكلك. ثم قال: لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل يعني: بالأعز نفسه وأتباعه، ويعني بالأذل رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه، ثم قال لقومه: إنما يقيم هؤلاء المهاجرون بالمدينة بسبب معونتكم وإنفاقكم عليهم، ولو قطعتم ذلك عنهم لفرّوا عن مدينتكم. فسمعه زيد بن أرقم فأخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبلغ ذلك عبد الله بن أبي بن سلول. فحلف أنه ما قال من ذلك شيئا. وكذّب زيدا فنزلت السورة عند ذلك. فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى زيد، وقال: لقد صدّقك الله يا زيد، فخزي عبد الله بن أبي بن سلول ومقته الناس، فقيل له: امض إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يستغفر لك، فلوى رأسه إنكارا لهذا الرأي وقال: أمرتموني بالإسلام فأسلمت، وأمرتموني بأداء زكاة مالي ففعلت، ولم يبق لكم إلا أن تأمروني أن أسجد لمحمد. ثم مات عبد الله بن أبيّ بعد ذلك بقليل. وأسندت هذه الأقوال التي قالها عبد لله بن أبيّ إلى ضمير الجماعة، لأنه كان له أتباع من المنافقين يوافقونه عليها. سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ روي أنه لما نزلت إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ [التوبة: 8] قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لأزيدن على السبعين. فلما فعل عبد لله بن أبيّ وأصحابه ما فعلوا شدّد الله عليهم في هذه

_ (1) . لوّوا: قرأها بالتشديد عامة القراء وقرأ نافع لووا بدون تشديد.

[سورة المنافقون (63) : الآيات 10 إلى 11]

السورة، وأخبر أنه لا يغفر لهم بوجه. وفي هذا نظر لأن هذه السورة نزلت في غزوة بني المصطلق قبل الآية الأخرى بمدّة لا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ أي لا تشغلكم. وذكر الله هنا على العموم في الصلاة والدعاء والعبادة، وقيل: يعني الصلاة المكتوبة والعموم أولى وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ عموم في الزكاة وصدقة التطوع والنفقة في الجهاد وغير ذلك، وقيل: يعني الزكاة المفروضة والعموم أولى وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ بالجزم عطف على موضع جواب الشرط، وقرأ أبو عمرو فأكون بالنصب عطف على فأصدق «1» .

_ (1) . قوله: في آخر آية: [والله خبير بما تعملون] قرأها الجميع. تعملون بالتاء ما عدا أبي بكر فقد قرأها، [بالياء يعملون] .

سورة التغابن

سورة التغابن مدنية وآياتها 18 نزلت بعد التحريم بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (سورة التغابن) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ في تأويل الآية وجهان: أحدهما الذي خلقكم فكان يجب على كل واحد منكم الإيمان به، لكن منكم من كفر ومنكم من آمن، فالكفر والإيمان على هذا هو من اكتساب العبد. والآخر أن المعنى هو الذي خلقكم على صنفين: فمنكم من خلقه مؤمنا ومنكم من خلقه كافرا، فالإيمان والكفر على هذا هو ما قضى الله على كل واحد، والأول أظهر، لأنه عطفه على خلقكم بالفاء يقتضي أنّ الكفر والإيمان واقعان بعد الخلقة لا في أصل الخلقة خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ ذكر معناه في مواضع وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ تعديد نعمة في حسن خلقة بني آدم لأنهم أحسن صورة من جميع أنواع الحيوان وإن وجد بعض الناس قبيح المنظر، فلا يخرجه ذلك عن حسن الصورة الإنسانية، وإنما هو قبيح بالنظر إلى من هو أحسن منه من الناس. وقيل: يعني العقل والإدراك الذي خصّ به الإنسان. والأول أرجح لأن الصورة إنما تطلق على الشكل أَلَمْ يَأْتِكُمْ خطاب لقريش وسائر الكفار فَقالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنا معناه أنهم استبعدوا أن يرسل الله بشرا أو تكبروا عن اتباع بشر، والبشر يقع على الواحد والجماعة زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قال عبد الله بن عمر: زعم كناية عن كذب.

[سورة التغابن (64) : الآيات 9 إلى 15]

يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ «1» العامل في يوم لتنبؤن أو محذوف تقديره اذكر، ويحتمل أن يكون مبتدأ وخبره ذلك يوم التغابن يعني، يوم القيامة. والتغابن مستعار من تغابن الناس في التجارة، وذلك إذا فاز السعداء بالجنة، فكأنهم غبنوا الأشقياء في منازلهم التي كانوا ينزلون منها لو كانوا سعداء، فالتغابن على هذا بمعنى الغبن، وليس على المتعارف في صيغة تفاعل من كونه بين اثنين، كقولك تضارب وتقاتل إنما هي فعل واحد كقولك: تواضع قال ابن عطية والزمخشري: يعني نزول السعداء منازل الأشقياء ونزول الأشقياء منازل السعداء، والتغابن على هذا بين اثنين قال: وفيه تهكم بالأشقياء، لأن نزولهم في جهنم ليس في الحقيقة بغبن للسعداء ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ يحتمل أن يريد بالمصيبة الرزايا، وخصها بالذكر لأنها أهم على الناس. أو يريد جميع الحوادث من خير أو شر وبإذن الله عبارة عن قضائه وإرادته تعالى وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ قيل: معناه من يؤمن بأن كل شيء بإذن الله يهد الله قلبه للتسليم والرضا بقضاء الله، وهذا أحسن إلا أن العموم أحسن منه. إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ سببها أن قوما أسلموا وأرادوا الهجرة، فثبطهم أزواجهم وأولادهم عن الهجرة، فحذرهم الله من طاعتهم في ذلك. وقيل: نزلت في عوف بن مالك الأشجعي، وذلك أنه أراد الجهاد فاجتمع أهله وأولاده فشكوا من فراقه، فرقّ لهم ورجع. ثم إنه ندم وهمّ بمعاقبتهم، فنزلت الآية محذرة من فتنة الأولاد، ثم صرف الله تعالى عن معاقبتهم بقوله: وإن تعفوا وتصفحوا الآية، ولفظ الآية مع ذلك على عمومه في التحذير ممن يكون للإنسان عدوا من أهله وأولاده، سواء كانت عداوتهم بسبب الدين أو الدنيا اللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ ترغيب في الآخرة وتزهيد في الأموال والأولاد، التي فتن الناس بها فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ قيل: إن هذا ناسخ لقوله:

_ (1) . بقية الآية: يعمل صالحا يكفر عنه سيئاته ويدخله: قرأ نافع وابن عامر: نكفر بالنون وندخله وقرأ الباقون بالياء في كلا الكلمتين.

اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ [آل عمران: 102] وروي أنه لما نزل حق تقاته شق ذلك على الناس حتى نزل ما استطعتم وقيل: لا نسخ بينهما لأن حق تقاته معناه فيما استطعتم، إذ لا يمكن أن يفعل أحد إلا ما يستطيع. وهذه الآية على هذا مبينة لتلك، وتحرز بالاستطاعة من الإكراه والنسيان وما لا يؤاخذ به العبد، وإعراب ما في قوله ما استطعتم ظرفية خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ منصوب بإضمار فعل لا يظهر عند سيبويه، وقيل هو مفعول بأنفقوا، لأن الخير بمعنى المال وقيل: هو نعت لمصدر محذوف تقديره: أنفقوا إنفاقا خيرا لأنفسكم وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ ذكر في الحشر [9] إِنْ تُقْرِضُوا «1» ذكر في البقرة: 245 وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ ذكر في اللغات.

_ (1) . قوله سبحانه: يضاعفه قرأ ابن كثير وابن عامر: يضعّفه.

سورة الطلاق

سورة الطلاق مدنية وآياتها 12 نزلت بعد الإنسان بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (سورة الطلاق) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ إن قيل: لم نودي النبي صلى الله عليه وسلم وحده ثم جاء بعد ذلك خطاب الجماعة؟ فالجواب: أنه لما كان حكم الطلاق يشترك فيه النبي صلى الله عليه وآله وأمته، قيل: إذا طلقتم خطابا له ولهم، وخصّ هو عليه الصلاة والسلام بالنداء تعظيما له، كما يقال لرئيس القوم وكبيرهم: يا فلان افعلوا أي: افعل أنت وقومك، ولأنه عليه الصلاة والسلام هو المبلغ لأمته، فكأنه قال: يا أيها النبي إذا طلقت أنت وأمتك. وقيل: تقديره يا أيها النبي قل لأمتك إذا طلقتم. وهذا ضعيف لأنه يقتضي أن هذا الحكم مختص بأمته دونه، وقيل: إنه خوطب النبي صلى الله عليه وآله وسلم بطلقتم تعظيما له، كما تقول للرجل المعظم: أنتم فعلتم، وهذا أيضا ضعيف، لأنه يقتضي اختصاصه عليه الصلاة والسلام بالحكم دون أمته، ومعنى إذا طلقتم هنا: إذا أردتم الطلاق. واختلف في الطلاق هل هو مباح أو مكروه؟ فأما إذا كان على غير وجه السنة فهو ممنوع. ولكن يلزم، وأما اليمين بالطلاق فممنوع «1» فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ تقديره: طلقوهن مستقبلات لعدتهن، ولذلك قرأ عثمان وابن عباس وأبيّ بن كعب: فطلقوهن في قبل عدتهن وقرأ ابن عمر: لقبل عدتهن ورويت القراءتان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومعنى ذلك كله: لا يطلقها وهي حائض، فهو منهي عنه بإجماع، لأنه إذا فعل ذلك لم يقع طلاقه في الحال التي أمر الله بها وهو استقبال العدة، واختلف في النهي عن الطلاق في الحيض هل هو معلل بتطويل العدة، أو هو تعبد، والصحيح أنه معلل بذلك، وينبني على هذا الخلاف فروع منها: هل يجوز إذا رضيت به المرأة أم لا؟ ومنها هل يجوز طلاقها وهي حامل أم لا؟ ومنها هل يجوز طلاقها قبل الدخول وهي حائض أم لا؟ فالتعليل بتطويل العدّة يقتضي جواز هذه الفروع، والتعبد يقتضي المنع، ومن طلق في الحيض لزمه الطلاق، ثم يؤمر بالرجعة على وجه الإجبار عند مالك، وبدون إجبار عند الشافعي حتى تطهر ثم تحيض ثم

_ (1) . قول المصنف: ممنوع، عجيب، إذ يؤخذ به من المذاهب ما عدا قول ابن تيمية ومن وافقه.

[سورة الطلاق (65) : آية 2]

تطهر، ثم إن شاء طلق وإن شاء أمسك، حسبما ورد في حديث ابن عمر، حين طلق امرأته وهي حائض فذكر ذلك عمر للنبي صلى الله عليه وسلم فقال له: مره فليراجعها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر ثم إن شاء طلق وإن شاء أمسك. واشترط مالك أن يطلقها في طهر لم يمسها فيه، ليعتد بذلك الطهر، فإنه إن طلقها في طهر بعد أن جامعها فيه، فلا تدري هل تعتد بالوضع [وضع الحمل] أو بالأقراء فليس طلاقا لعدتها كما أمر الله وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ أمر بذلك لما ينبني عليها من الأحكام، في الرجعة والسكنى والميراث وغير ذلك. لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ نهى الله سبحانه وتعالى أن يخرج الرجل المرأة المطلقة من المسكن الذي طلقها فيه، ونهاها هي أن تخرج باختيارها، فلا يجوز لها المبيت خارجا عن بيتها ولا أن تغيب عنه نهارا إلا لضرورة التصرف، وذلك لحفظ النسب وصيانة المرأة، فإن كان المسكن ملكا للزوج، أو مكترى عنده، لزمه إسكانها فيه، وإن كان المسكن لها فعليه كراؤه مدة العدة، وإن كانت قد أمتعته فيه مدة الزوجية ففي لزوم خروج العدة له قولان في المذهب [المالكي] والصحيح لزومه لأن الامتناع قد انقطع بالطلاق إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ «1» اختلف في هذه الفاحشة التي أباحت خروج المعتدة ما هي؟ على خمسة أقوال: الأول أنها الزنا فتخرج لإقامة الحدّ، قاله الليث بن سعد والشعبي. الثاني أنه سوء الكلام مع الأصهار فتخرج ويسقط حقها من السكنى، ويلزمها الإقامة في مسكن تتخذه حفظا للنسب، قاله ابن عباس ويؤيده قراءة أبي بن كعب، إلا أن يفحشن عليكم. الثالث أنه جميع المعاصي من القذف والزنا والسرقة وغير ذلك، فمتى فعلت شيئا من ذلك سقط حقها في السكنى، قاله ابن عباس أيضا وإليه مال الطبري الرابع أنه الخروج عن بيتها خروج انتقال فمتى فعلت ذلك سقط حقها في السكنى قاله ابن الفرس: وإلى هذا ذهب مالك في المرأة إذا نشزت في العدة، الخامس أنه النشوز قبل الطلاق، فإذا طلقها بسبب نشوزها فلا يكون عليه سكنى قاله قتادة. لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً المراد به الرجعة عند الجمهور، أي أحصوا العدة وامتثلوا ما أمرتم به، لعل الله يحدث الرجعة لنسائكم، وقيل: إن سبب الرجعة المذكورة في الآية تطليق النبي صلى الله عليه وسلم لحفصة بنت عمر فأمره الله بمراجعتها فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ يريد آخر العدة والإمساك بمعروف هو: تحسين العشرة وتوفية النفقة، والفراق بالمعروف هو: أداء الصداق والإمتاع حين الطلاق والوفاء بالشروط ونحو ذلك وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ هذا خطاب للأزواج، والمأمور به هو الإشهاد على الرجعة عند الجمهور، وقد اختلف فيه هل هو واجب أو مستحب على

_ (1) . مبينة: قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بفتح الياء: مبينة وقرأ الباقون بكسر الياء.

[سورة الطلاق (65) : الآيات 3 إلى 5]

قولين في المذهب. وقال ابن عباس: هو الشهادة على الطلاق وعلى الرجعة، وهذا أظهر لأن الإشهاد به يرفع الإشكال والنزاع، ولا فرق في هذا بين الرجعة والطلاق، وقد ذكرنا العدالة في البقرة وقوله: ذوي عدل يدل على أنه إنما يشهد في الطلاق والنكاح الرجال دون النساء، وهو مذهب مالك. خلافا لمن أجاز شهادة النساء في ذلك. وقوله: منكم يريد من المسلمين وقيل: من الأحرار فيؤخذ من ذلك ردّ شهادة العبيد، وهو مذهب مالك وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ هذا خطاب للشهود، وإقامة الشهادة يحتمل أن يريد بها القيام، فإذا استشهد وجب عليه أن يشهد وهو فرض كفاية، وإلى هذا المعنى أشار ابن الفرس ويحتمل أن يريد إقامتها بالحق دون ميل ولا غرض، وبهذا فسره الزمخشري وهو أظهر لقوله: لله وهو كقوله كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ [النساء: 135] شهداء لله ذلِكُمْ إشارة إلى ما تقدم من الأحكام. وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً قيل إنها في الطلاق، ومعناها: من يتق الله فيطلق طلقة واحدة، حسبما تقتضيه السنة يجعل له مخرجا بجواز الرجعة متى ندم على الطلاق، وفي هذا المعنى روي عن ابن عباس أنه قال لمن طلق ثلاثا: إنك لم تتق الله فبانت منك امرأتك، ولا أرى لك مخرجا أي لا رجعة لك. وقيل: إنها على العموم أي من يتق الله في أقواله وأفعاله يجعل له مخرجا من كرب الدنيا والآخرة، وقد روي هذا أيضا عن ابن عباس، وهذا أرجح لخمسة أوجه أحدها حمل اللفظ على عمومه فيدخل في ذلك الطلاق وغيره، الثاني أنه روي أنها نزلت في عوف بن مالك الأشجعي، وذلك أنه أسر ولده وضيق عليه رزقه، فشكى ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمره بالتقوى، فلم يلبث إلا يسيرا وانطلق ولده ووسع الله رزقه، والثالث أنه روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قرأها فقال: مخرجا من شبهات الدنيا، ومن غمرات الموت، ومن شدائد يوم القيامة. والرابع روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: إني لأعلم آية لو أخذ الناس بها لكفتهم «ومن يتق الله يجعل له مخرجا» الآية: فما زال يقرؤها ويعيدها الخامس قوله: ويرزقه من حيث لا يحتسب، فإن هذا لا يناسب الطلاق وإنما يناسب التقوى على العموم. قال بعض العلماء: الرزق على نوعين رزق مضمون لكل حي طول عمره، وهو الغذاء الذي تقوم به الحياة وإليه الإشارة بقوله: وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها، ورزق موعود للمتقين خاصة، وهو المذكور في هذه الآية وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ أي كافيه بحيث لا يحتاج معه إلى غيره، وقد تكلمنا على التوكل في آل عمران إِنَّ اللَّهَ بالِغُ أَمْرِهِ «1» أي يبلغ ما يريد ولا يعجزه شيء، هذا حض على التوكل وتأكيد له، لأن العبد إذا تحقق أن الأمور كلها بيد الله توكل عليه وحده ولم يعوّل على سواه

_ (1) . بالغ أمره: قرأ حفص بالإضافة وقرأ الباقون: بالغ أمره.

[سورة الطلاق (65) : آية 6]

قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً أي مقدارا معلوما ووقتا محدودا. وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ روي أنه لما نزل قوله: والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء قالوا يا رسول الله فما عدة من لا قرء لها من صغر أو كبر؟ فنزلت هذه الآية معلمة أن المطلقة إذا كانت ممن لا تحيض فعدتها ثلاثة أشهر فقوله: اللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ: يعني التي انقطعت حيضتها لكبر سنها وقوله وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ يعني الصغيرة التي لم تبلغ المحيض وهو معطوف على اللائي يئسن أو مبتدأ وخبره محذوف تقديره واللائي لم يحضن كذلك وقوله إِنِ ارْتَبْتُمْ هو من الريب بمعنى الشك وفي معناه قولان: أحدهما إن ارتبتم في حكم عدتها فاعلموا أنها ثلاثة أشهر. والآخر: إن ارتبتم في حيضها هل انقطع أو لم ينقطع فهي على التأويل الأول في التي انقطعت حيضتها لكبر سنها حسبما ذكرنا وهو الصحيح وهي على التأويل الثاني في المرتابة وهي التي غابت عنها الحيضة وهي في سن من تحيض. وقد اختلف العلماء في عدتها على ثلاثة أقوال: أحدها أنها ثلاثة أشهر خاصة حسبما تقتضيه الآية على هذا التأويل، والآخر أنها ثلاثة أشهر بعد تسعة أشهر تستبرئ بها أمد الحمل وهذا مذهب مالك: وقدوته في ذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه والثالث أنها تعتد بالأقراء ولو بقيت ثلاثين سنة حتى تبلغ سن من لا تحيض وهو مذهب الشافعي وأبي حنيفة. وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ هذه الآية عند مالك والشافعي وأبي حنيفة وسائر العلماء عامة في المطلقات والمتوفى عنهن، فمتى كانت إحداهن حاملا فعدتها وضع حملها. وقال علي بن أبي طالب وابن عباس إنما هذه الآية في المطلقات الحوامل فهن اللاتي عدتهن وضع حملهن. وأما المتوفى عنها إذا كانت حاملا فعدتها عندهما أبعد الأجلين إما الوضع أو انقضاء الأربعة الأشهر وعشرا، فحجة الجمهور حديث سبيعة الأسلمية أنها كانت زوجا لسعد بن خولة فتوفى عنها في حجة الوداع وهي حبلى، فلما وضعت خطبها أبو السنابل بن بعكك، فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لها انكحي من شئت، وقد ذكر أن ابن عباس رجع إلى هذا الحديث لما بلغه ولو بلغ عليا رضي الله عنه لرجع إليه، وقال عبد الله بن مسعود: إن هذه الآية التي نزلت في سورة النساء القصوى يعني سورة الطلاق نزلت بعد الآية التي في البقرة وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً [البقرة: 234] فهي مخصصة لها حسبما قاله جمهور العلماء أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ أمر الله بإسكان المطلقة طول العدة، فأما المطلقة غير المبتوتة فيجب لها على زوجها السكنى والنفقة باتفاق، وأما المبتوتة ففيها ثلاثة أقوال:

[سورة الطلاق (65) : الآيات 7 إلى 12]

أحدها أنها يجب لها السكنى دون النفقة، وهو مذهب مالك والشافعي، والثاني يجب لها السكنى والنفقة وهو مذهب أبي حنيفة، والثالث أنها ليس لها سكنى ولا نفقة، فحجة مالك حديث فاطمة بنت قيس، وهو أن زوجها طلقها البتة، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس لك عليه نفقة، فيؤخذ من هذا أن لها السكنى دون النفقة، وحجة من أوجب لها السكنى: قول عمر بن الخطاب: لا ندع آية من كتاب ربنا لقول امرأة. إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول: لها السكنى والنفقة، وحجة من لا يجعل لها لا سكنى ولا نفقة أن في بعض الروايات عنها أنها قالت: لم يجعل لي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نفقة ولا سكنى، وقوله مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ معناه: أسكنوهن مكانا من بعض مساكنكم فمن للتبعيض، ويفسر ذلك قول قتادة لو لم يكن له إلا بيت واحد أسكنها في بعض جوانبه مِنْ وُجْدِكُمْ الوجد هو الطاقة والسعة في المال فالمعنى: أسكنوهن مسكنا مما تقدرون عليه، وإعرابه عطف بيان لقوله: حيث سكنتم، ويجوز في الوجد ضم الواو وفتحها وكسرها وهو بمعنى واحد، والضم أكثر وأشهر. وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ اتفق العلماء على وجوب النفقة في العدة للمطلقة الحامل عملا بهذه الآية سواء كان الطلاق رجعيا أو بائنا، واتفقوا على أن للمطلقة غير الحامل النفقة في العدة إذا كان الطلاق رجعيا، فإن كان بائنا فاختلفوا في نفقتها حسبما ذكرناه، وأما المتوفى عنها زوجها إذا كانت حاملا فلا نفقة لها عند مالك والجمهور، لأنهم رأوا أن هذه الآية إنما هي في المطلقات، وقال قوم: لها النفقة في التركة فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ المعنى إن أرضع هؤلاء الزوجات المطلقات أولادكم فآتوهن أجرة الرضاع، وهي النفقة وسائر المؤن حسبما ذكر في كتب الفقه وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ هذا خطاب للرجال والنساء، والمعنى أن يأمر كل واحد صاحبه بخير من المسامحة والرفق والإحسان، وقيل: معنى ائتمروا تشاوروا ومنه: إن الملأ يأتمرون بك وَإِنْ تَعاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى المعنى إن تشططت الأم على الأب في أجرة الرضاع، وطلبت منه كثيرا، فللأب أن يسترضع لولده امرأة أخرى بما هو أرفق له، إلا أن لا يقبل الطفل غير ثدي أمه، فتجبر حينئذ على رضاعه بأجرة مثلها ومثل الزوج. لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ أمر بأن ينفق كل واحد على مقدار حاله، ولا يكلف الزوج ما لا يطيق، ولا تضيّع الزوجة بل يكون الحال معتدلا. وفي الآية دليل على أن النفقة تختلف باختلاف أحوال الناس، وهو مذهب مالك خلافا لأبي حنيفة فإنه اعتبر الكفاية، ومن عجز عن نفقة امرأته فمذهب مالك والشافعي أنها تطلق عليه خلافا لأبي

حنيفة وإن عجز عن الكسوة دون النفقة ففي التطليق عليه قولان في المذهب فَحاسَبْناها حِساباً شَدِيداً أي حاسبنا أهلها قيل: يعني الحساب في الآخرة، وكذلك العذاب المذكور بعده، وقيل: يعني في الدنيا وهذا أرجح لأنه ذكر عذاب الآخرة بعد ذلك في قوله: أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً، أو لأن قوله: فَحاسَبْناها وَعَذَّبْناها بلفظ الماضي فهو حقيقة فيما وقع، مجاز فيما لم يقع فمعنى حاسبناها أي آخذناهم بذنوبهم ولم يغتفر لهم شيء من صغائرها، والعذاب هو عقابهم في الدنيا، والنكر هو الشديد الذي لم يعهد مثله. قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً رَسُولًا «1» الذكر هنا هو القرآن، والرسول هو محمد صلى الله عليه وسلم، وإعراب رسولا مفعول بفعل مضمر تقديره: أرسل رسولا. وهذا الذي اختاره ابن عطية وهو أظهر الأقوال. وقيل: إن الذكر والرسول معا يراد بهما القرآن، والرسول على هذا بمعنى الرسالة. وقيل: إنهما يراد بهما القرآن على حذف مضاف تقديره ذكرا ذا رسول، وقيل: رسولا مفعول بالمصدر الذي هو الذكر. وقال الزمخشري: الرسول هو جبريل بدل من الذكر، لأنه نزل به أو سمى ذكرا لكثرة ذكره لله وهذا كله بعيد وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ لا خلاف أن السموات سبع، وأما الأرض فاختلف فيها فقيل: إنها سبع أرضين لظاهر هذه الآية ولقوله صلى الله عليه وسلم: من غصب شبرا من أرض طوقه يوم القيامة من سبع أرضين «2» . وقيل: إنما هي واحدة فقوله: مثلهن على القول الأول يعني به المماثلة في العدد، وعلى القول الثاني: يعني به المماثلة في عظم الجرم وكثرة العمار وغير ذلك، والأول أرجح يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ يحتمل أن يريد بالأمر الوحي أو أحكام الله وتقديره لخلقه.

_ (1) . في الآية [11] قوله: يعمل صالحا يدخله جنات. قرأ نافع وابن عامر: ندخله جنات بالنون وقرأ الباقون: ويعمل صالحا يدخله جنات. (2) . الحديث ذكره في التيسير وأوله: من ظلم وعزاه للشيخين وأحمد عن عائشة وسعيد بن زيد. وهو في المسند ج 1 ص 187، وج 6 ص 79.

سورة التحريم

سورة التحريم مدنية وآياتها 12 نزلت بعد الحجرات بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (سورة التحريم) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ في سبب نزولها روايتان أحدهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء يوما إلى بيت زوجه حفصة بنت عمر بن الخطاب، فوجدها قد خرجت لزيارة أبيها، فبعث إلى جاريته مارية فجامعها في البيت، فجاءت حفصة فقالت: يا رسول الله ما كان في نسائك أهون عليك مني. أتفعل هذا في بيتي وعلى فراشي؟ فقال لها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مترضيا لها: أيرضيك أن أحرمها قالت: نعم فقال: إني قد حرّمتها، والرواية الأخرى أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يدخل على زوجه زينب بنت جحش فيشرب عندها عسلا فاتفقت عائشة وحفصة وسودة بنت زمعة على أن تقول من دنا منها: أكلت مغافير، والمغافير صمغ العرفط، وهو حلو كريه الريح، ففعلن ذلك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا ولكني شربت عسلا، فقلن له: جرست نحله العرفط فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا أشربه أبدا. وكان يكره أن توجد منه رائحة كريهة، فدخل بعد ذلك على زينب فقالت: ألا أسقيك من ذلك: فقال لا حاجة لي به، فنزلت الآية عتابا له على أن يضيق على نفسه بتحريم الجارية أو تحريم العسل، والرواية الأولى أشهر، وعليها تكلم الناس في فقه السورة، وقد خرج الرواية الثانية البخاري وغيره. ولنتكلم على فقه التحريم، فأما تحريم الطعام والمال وسائر الأشياء ما عدا النساء، فلا يلزم، ولا شيء عليه عند مالك، وأوجب عليه أبو حنيفة الكفارة، وأما تحريم الأمة فإن نوى به العتق لزم، وإن لم ينو به ذلك لم يلزم. وكان حكمه ما ذكرنا في الطعام. وأما تحريم الزوجة فاختلف الناس فيه على أقوال كثيرة فقال أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب وابن عباس وعائشة وغيرهم: إنما يلزم فيه كفارة يمين. وقال مالك في المشهور عنه: ثلاث تطليقات في المدخول بها وينوي في غير المدخول بها فيحكم بما نوى من طلقة أو اثنتين أو ثلاث، وقال ابن الماجشون هي ثلاث في الوجهين، وروي عن مالك أنها طلقة بائنة، وقيل طلقة رجعية.

[سورة التحريم (66) : الآيات 2 إلى 3]

تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ أي تطلب رضا أزواجك بتحريم ما أحل الله لك يعني تحريمه للجارية ابتغاء رضا حفصة، وهذا يدل على أنها نزلت في تحريم الجارية، وأما تحريم العسل فلم يقصد فيه رضا أزواجه وإنما تركه لرائحته وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ في هذا إشارة إلى أن الله غفر له ما عاتبه عليه من التحريم، على أن عتابه في ذلك إنما كان كرامة له، وإنما وقع العتاب على تضييقه عليه السلام على نفسه، وامتناعه مما كان له فيه أرب، وبئس ما قال الزمخشري في أن هذا كان منه زلة لأنه حرّم ما أحل الله، وذلك قلة أدب على منصب النبوة قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ التحلة هي الكفارة وأحال تعالى هنا على ما ذكر في سورة المائدة [89] من صفتها، واختلف في المراد بها هنا فأما على قول من قال: إن الآية نزلت في تحريم الجارية فاختلف في ذلك. فمن قال إن التحريم يلزم فيه كفارة يمين استدل بها، ومن قال: إن التحريم يلزم فيه طلاق قال: إن الكفارة هنا إنما هي لأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حلف وقال: والله لا أطؤها أبدا. وأما على القول بأن الآية نزلت في تحريم العسل فاختلف أيضا فمن أوجب في تحريم الطعام كفارة قال: هذه الكفارة للتحريم ومن قال: لا كفارة فيه قال: إنما هذه الكفارة لأنه حلف ألا يشربه، وقيل: هي في يمينه عليه السلام أن لا يدخل على نسائه شهرا وَاللَّهُ مَوْلاكُمْ يحتمل أن يكون المولى بمعنى الناصر أو بمعنى السيد الأعظم. وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً اختلف في هذا الحديث على ثلاثة أقوال: أحدها أنه تحريم الجارية، فإنه لما حرمها قال لحفصة: لا تخبري بذلك أحدا، والآخر أنه قال: إن أبا بكر وعمر يليان الأمر من بعده، والثالث أنه قوله شربت عسلا والأول أشهر وبعض أزواجه حفصة فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ كانت حفصة قد أخبرت عائشة بما أسر إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم من تحريم الجارية، فأخبر الله رسوله عليه السلام بذلك، فعاقب حفصة على إفشائها لسره فطلقها، ثم أمره الله بمراجعتها فراجعها. وقيل: لم يطلقها. فقوله فلما نبأت به حذف المفعول وهو عائشة. وقوله: وأظهره الله عليه أي أطلعه على إخبارها به، وقوله: عرف بعضه أي عاتب حفصة على بعضه وأعرض عن بعض حياء وتكريما، فإن من عادة الفضلاء التغافل عن الزلات والتقصير في العتاب، وقرأ [الكسائي] عرف بالتخفيف من المعرفة فَلَمَّا نَبَّأَها بِهِ قالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هذا أي لما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم حفصة بأنها قد أفشت سره، ظنت بأن عائشة هي التي أخبرته فقالت له: من أنبأك هذا؟ فلما أخبرها أن الله هو الذي أنبأه سكتت وسلمت. إِنْ تَتُوبا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما هذا خطاب لعائشة وحفصة، وتوبتهما مما

[سورة التحريم (66) : الآيات 6 إلى 10]

جرى منهما في قصة تحريم الجارية أو العسل. ومعنى صغت أي: مالت عن الصواب وقرأ ابن مسعود زاغت والمعنى: إن تتوبا إلى الله فقد صدر منكما ما يوجب التوبة وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ «1» المعنى إن تعاونتما عليه صلى الله عليه وسلم بما يسؤوه من إفراط الغيرة، وإفشاء سره ونحو ذلك فإن له من ينصره، ومولاه هنا يحتمل أن يكون بمعنى السيد الأعظم، فيوقف على مولاه ويكون جبريل مبتدأ وظهير خبره وخبر ما عطف عليه، ويحتمل أن يكون المولى هنا بمعنى الولي الناصر، فيكون جبريل معطوف فيوصل مع ما قبله، ويوقف على صالح المؤمنين ويكون الملائكة مبتدأ وظهير خبره، وهذا أظهر وأرجح لوجهين: أحدهما أن معنى الناصر أليق بهذا الموضع، فإن ذلك كرامة للنبي صلى الله عليه وسلم وتشريفا له، وأما إذا كان بمعنى السيد فذلك يشترك فيه النبي صلى الله عليه وسلم مع غيره، لأن الله تعالى مولى جميع خلقه بهذا المعنى، فليس في ذلك إظهار مزية له، الوجه الثاني أنه ورد في الحديث الصحيح أنه لما وقع ذلك جاء عمر إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا رسول الله ما يشق عليك من شأن النساء فإن كنت طلقتهن فإن الله معك وملائكته وجبريل معك وأبو بكر معك وأنا معك، فنزلت الآية موافقة لقول عمر، فقوله يقتضي معك النصرة وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ اختلف في صالح هل هو مفرد أو جمع محذوف النون للإضافة؟ فعلى القول بأنه مفرد هو أبو بكر، وقيل: علي بن أبي طالب، وعلى القول بأنه جمع فهو على العموم في كل صالح. عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ «2» الآية، نصرة للنبي صلى الله عليه وسلم، وروي أن عمر قال ذلك ونزل القرآن بموافقته، ولقد قال عمر حينئذ للنبي صلى الله عليه وسلم: والله يا رسول الله لئن أمرتني بضرب عنق حفصة لضربت عنقها، وقد ذكرنا معنى الإسلام والإيمان والقنوت، والسائحات: معناه الصائمات قاله ابن عباس. وقد روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقيل معناه مهاجرات وقيل ذاهبات إلى الله، لأن أصل السياحة الذهاب في الأرض، وقوله: ثيبات وأبكارا، قال بعضهم: المراد بالأبكار هنا مريم بنت عمران وآسية امرأة فرعون فإن الله يزوج النبي صلى الله عليه وآله وسلم إياهما في الجنة وهذا يفتقر إلى نقل صحيح، ودخلت الواو هنا للتقسيم. ولو سقطت لاختل المعنى لأن الثيوبة والبكارة لا يجتمعان، وقال الكوفيون: هي واو الثمانية وذلك ضعيف قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً أي أطيعوا الله وأمروا أهلكم بطاعته، لتقوا أنفسكم وأهليكم بطاعته من النار، فعبر بالمسبب وهو وقاية

_ (1) . قوله: تظاهرا عليه: قرأ حمزة والكسائي وعاصم: تظاهرا بدون تشديد وقرأ الباقون: تظّاهرا والأصل: تتظاهرا. (2) . بقية الآية: أن يبدله. قرأها نافع وأبو عمرو: أن يبدّله. بتشديد الدال والباقون بالتخفيف.

النار عن السبب وهو الطاعة وَقُودُهَا ذكر في البقرة [24] مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ يعني زبانية النار وغلظهم وشدتهم، يحتمل أن يريد في أجرامهم وفي قساوة قلوبهم وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ قيل: إن هذا تأكيد لقوله: لا يعصون الله، وقيل: إن معنى لا يعصون امتثال الأمر، ومعنى يفعلون ما يؤمرون جدهم ونشاطهم فيما يؤمرون به من عذاب الناس لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ يعني يوم القيامة، ويحتمل أن يكون هذا خطاب من الله للكفار أو خطاب من الملائكة. تَوْبَةً نَصُوحاً قال عمر بن الخطاب التوبة النصوح هي أن تتوب من الذنب ثم لا تعود إليه أبدا، ولا تريد أن تعود. وقيل: معناه توبة خالصة فهو من قولهم: عسل ناصح إذا خلص من الشمع، وقيل هو أن تضيق على التائب الأرض بما رحبت كتوبة الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا [التوبة: 118] قال الزمخشري: وصفت التوبة بالنصح على الإسناد المجازي، والنصح في الحقيقة صفة التائبين، وهو أن ينصحوا بالتوبة أنفسهم، وقد تكلمنا على التوبة في قوله: وتوبوا إلى الله جميعا: في النور [31] يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ العامل في يوم يحتمل أن يكون ما قبله، أو ما بعده أو محذوف تقديره: اذكر، والوقف والابتداء يختلف على ذلك وَالَّذِينَ آمَنُوا يحتمل أن يكون معطوفا على النبي أو مبتدأ وخبره بعده نُورُهُمْ يَسْعى ذكر في الحديد [19] جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ ذكر في براءة [88] امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ قيل اسم امرأة نوح والهة، واسم امرأة لوط والعة، وهذا يفتقر إلى صحة نقل فَخانَتاهُما قال ابن عباس: خيانة امرأة نوح في أنها كانت تقول: إنه مجنون وخيانة امرأة لوط بأنها كانت تخبر قومه بأضيافه إذا قدموا عليه، وكانتا مع ذلك كافرتين، وقيل: خانتا بالزنا، وأنكر ابن عباس ذلك وقال: ما زنت امرأة نبي قط تنزيها من الله لهم عن هذا النقص، وضرب الله المثل بهاتين المرأتين للكفار الذين بينهم وبين الأنبياء وسائل كأنه يقول: لا يغني أحد عن أحد ولو كان أقرب الناس إليه كقرب امرأة نوح وامرأة لوط من أزواجهما. وقيل: هذا مثال لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم فيما ذكر في أول السورة، وهذا باطل لأن الله إنما ضربه للذين كفروا. وامرأة فرعون اسمها آسية وكانت قد آمنت بموسى عليه السلام

[سورة التحريم (66) : الآيات 11 إلى 12]

فبلغ ذلك فرعون فأمر بقتلها، فدعت بهذا الدعاء فقبض الله روحها، وروي في قصصها غير هذا مما يطول وهو غير صحيح مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ تعني: كفره وظلمه، وقيل: مضاجعته لها وهذا ضعيف. أَحْصَنَتْ فَرْجَها يعني الفرج الذي هو الجارحة، وإحصانها له هو صيانتها وعفتها عن كل مكروه فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا عبارة عن نفخ جبريل في فرجها «1» ، فخلق الله فيه عيسى عليه السلام وأضاف الله الروح إلى نفسه إضافة مخلوق إلى خالقه، وفي ذلك تشريف له وَصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها وَكُتُبِهِ كلمات ربها يحتمل أن يريد بها الكتب التي أنزل الله أو كلامه مع الملائكة وغيرهم، وكتابه «2» بالإفراد يحتمل أن يريد به التوراة أو الإنجيل أو جنس الكتب، وقرأ أبو عمرو وحفص بالجمع يعني: جميع كتب الله مِنَ الْقانِتِينَ أي من العابدين، فإن قيل: لم قال من القانتين بجمع المذكر وهي أنثى؟ فالجواب: أن القنوت صفة تجمع الرجال والنساء فغلب الذكور.

_ (1) . قوله في الآية: وكتابه بالإفراد قرأها معظم القراء ما عدا حفص وأبي عمرو. (2) . قال الطبري: وكل ما كان في الدرع من خرق أو فتق فإنه يسمى فرجا. (فنفخنا فيه) : فنفخنا في جيب درعها. [.....]

سورة الملك

سورة الملك مكية وآياتها 30 نزلت بعد الطور بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (سورة الملك) ورد في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ هذه السورة كل ليلة إذا أخذ مضجعه وأنه عليه الصلاة والسلام قال: إنها تنجي من عذاب القبر «1» تَبارَكَ فعل مشتق من البركة، وقيل معناه تعاظم وهو مختص بالله تعالى ولم ينطق له بمضارع بِيَدِهِ الْمُلْكُ يعني ملك السموات والأرض والدنيا والآخرة، وقيل: يعني ملك الملوك في الدنيا فهو كقوله: مالك الملك والأول أعم وأعظم خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ يعني موت الخلق وحياتهم، وقيل: الموت الدنيا لأن أهلها يموتون، والحياة الآخرة لأنها باقية فهو كقوله: وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ [العنكبوت: 64] وهو على هذا وصف بالمصدر والأول أظهر لِيَبْلُوَكُمْ أي ليختبركم، واختبار الله لعباده إنما هو لتقوم عليهم الحجة بما يصدر منهم، وقد كان الله علم ما يفعلون قبل كونه، والمعنى ليبلوكم فيجازيكم بما ظهر منكم أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأها فقال: أيكم أحسن عملا وأشدكم الله خوفا وأورع عن محارم الله، وأسرع في طاعة الله سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً أي بعضها فوق بعض، والطباق مصدر وصفت به السموات، أو على حذف مضاف تقديره: ذوات طباق وقيل: إنه جمع طبقة. ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ أي: من قلة تناسب وخروج عن الإتقان، والمعنى أن خلقة السموات في غاية الإتقان وقيل: أراد خلقة جميع المخلوقات، ولا شك أن جميع المخلوقات متقنة، ولكن تخصيص الآية بخلقة السموات أظهر لورودها بعد قوله خلق سبع سموات طباقا فبان قوله: ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت بيان وتكميل ما قبله، والخطاب في قوله: ما ترى وارجع البصر وما بعده للنبي صلى الله عليه وسلم، أو لكل مخاطب ليعتبر

_ (1) . روى أبو داود والترمذي عن أبي هريرة من القرآن سورة ثلاثون آية شفعت لرجل حتى غفر له. وقال: حديث حسن.

[سورة الملك (67) : الآيات 4 إلى 7]

فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ الفطور الشقوق جمع فطر، وهو الشق. وإرجاع البصر: ترديده في النظر، ومعنى الآية: الأمر بالنظر إلى السماء فلا يرى فيها شقاق ولا خلل بل هي ملتئمة مستوية ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ أي انظر نظرا بعد نظر للتثبت والتحقق، وقال الزمخشري: معنى التثنية في كرتين التكثير لا مرتين خاصة. كقولهم: لبيك فإن معناه إجابات كثيرة يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ الخاسئ هو المبعد عن الشيء الذي طلبه، والحسير هو الكليل الذي أدركه التعب، فمعنى الآية أنك إذا نظرت إلى السماء مرة بعد مرة لترى فيها شقاقا أو خلالا رجع بصرك ولم تر شيئا من ذلك فكأنه خاسئ لأنه لم يحصل له ما طلب من رؤية الشقاق والخلل، وهو مع ذلك كليل من شدة النظر وكثرة التأمل. وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ السماء الدنيا: هي القريبة منا، والمصابيح يراد بها النجوم فإن كانت النجوم كلها في السماء الدنيا فلا إشكال، لأنها ظاهرة فيها لنا، ويحتمل أن يريد أنه زيّن السماء الدنيا بالنجوم التي فيها دون التي في غيرها. على أن القول بموضع الكواكب وفي أي سماء هي لم يرد في الشريعة وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ أي جعلنا منها رجوما، لأن الكواكب الثابتة ليست ترجم الشياطين، فهو كقولك: أكرمت بني فلان إذا أكرمت بعضهم، والرجوم جمع رجم وهو مصدر سمي به ما يرجم به، قال الزمخشري: معنى كون النجوم رجوما للشياطين: والشهب تنقض من النجوم لرجم الشياطين الذين يسترقون السمع من السماء، فالشهب الراجمة منفصلة من نار الكواكب «1» ، لا أن الراجمة هي الكواكب أنفسها لأنها ثابتة في الفلك. قال قتادة: خلق الله النجوم لثلاثة أشياء زينة السماء ورجوم الشياطين ويهتدى بها في ظلمات البر والبحر وَأَعْتَدْنا لَهُمْ عَذابَ السَّعِيرِ يعني للشياطين سَمِعُوا لَها شَهِيقاً الشهيق أقبح ما يكون من صوت الحمار، ويعني به هنا ما يسمع من صوت جهنم لشدّة غليانها وهولها أو شهيق أهلها، والأول أظهر وَهِيَ تَفُورُ أي تغلي بأهلها غليان القدر بما فيها تَكادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ أي تكاد جهنم ينفصل بعضها من بعض لشدّة غيظها على الكفار، فيحتمل أن تكون هي المغتاظة بنفسها، ويحتمل أن يريد غيظ الزبانية والأول أظهر لأن حال الزبانية يذكر بعد هذا، وغيظ النار يحتمل أن يكون حقيقة بإدراك يخلقه الله لها، أو يكون عبارة عن شدتها كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ أي كلما ألقي في جهنم جماعة من الكفار سألتهم الزبانية هل جاءكم من نذير؟ أي رسول، وهذا السؤال على وجه

_ (1) . الشهب هي قطع صغيرة من حجارة أو معدن تلمع عند ما تصدم بالغلاف الجوي وتتناثر في الهواء والنيازك قطع كبيرة تصل إلى الأرض فتحدث فيها الحرائق أو الحفر العميقة. وهذا لا يعارض معنى الآية.

التوبيخ وإقامة الحجة عليهم، ولذلك اعترفوا فقالوا: بلى قد جاءنا نذير، وقوله: كلما يقتضي أن يقال ذلك لكل جماعة تلقى في النار إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ يحتمل أن يكون من قول الملائكة للكفار، أو من قول الكفار للرسل في الدنيا. وَقالُوا الضمير للكفار أي لو كنا نسمع كلام الرسل ونعقل الصواب ما كنا في أصحاب السعير فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ اعترافهم هذا في وقت لا ينفعهم الاعتراف، وذنبهم هنا يراد به تكذيب الرسل فَسُحْقاً لِأَصْحابِ السَّعِيرِ انتصب فسحقا بفعل مضمر على معنى الدعاء عليهم بِالْغَيْبِ فيه قولان: أحدهما أن معناه وهم غائبون عن الناس، ففي ذلك وصف لهم بالإخلاص والآخر أن الغيب ما غاب عنهم من أمور الآخرة وغيرها. على أن هذا القول إنما يحسن في قوله يؤمنون بالغيب وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ المعنى سواء جهرتم أو أسررتم، فإن الله يعلم الجهر والسر أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ هذا برهان على أن الله تعالى يعلم كل شيء، لأن الخالق يعلم مخلوقاته، ويحتمل أن يكون من خلق فاعلا يراد به الخالق والمفعول محذوف تقديره: ألا يعلم الخالق خلقه أو يكون من خلق مفعولا والفاعل مضمر تقديره: ألا يعلم الله من خلق، والأول أرجح لأن من خلق إذا كان مفعولا اختص بمن يعقل، والمعنى الأول يعم من يعقل ومن لا يعقل الْأَرْضَ ذَلُولًا فعول هنا بمعنى: مفعول، أي ذلولة فهي كركوب وحلوب فَامْشُوا فِي مَناكِبِها قال ابن عباس: هي الجبال وقيل: الجوانب والنواحي وقيل: الطرق والمعنى تعديد النعمة في تسهيل المشي على الأرض، فاستعار لها الذل والمناكب تشبيها بالدواب وَإِلَيْهِ النُّشُورُ يعني البعث يوم القيامة أَأَمِنْتُمْ «1» الآية مقصودها التهديد والتخويف للكفار، وكذلك الآية التي بعدها تَمُورُ ذكر في الطور [9] حاصِباً يحتمل أن يريد حجارة أو ريحا شديدة نَذِيرِ بمعنى الإنذار وكذلك النكير بمعنى الإنكار أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صافَّاتٍ تنبيه على الاعتبار بطيران الطيور في الهواء من غير شيء يمسكها، وصافّات جمع صافة وهي التي تبسط جناحها للطيران، والقبض: ضم الجناحين إلى الجنب وعطف يقبض على صافات، لأن الفعل في معنى الاسم تقديره: قابضات فإن قيل: لم لم يقل قابضات على

_ (1) . أأمنتم: هكذا قرأها أهل الشام والكوفة (عاصم) وقرأها نافع وأبو عمر: آمنتم ومثلها في البقرة: أَأَنْذَرْتَهُمْ.

[سورة الملك (67) : الآيات 20 إلى 30]

طريقة صافات؟ فالجواب أن بسط الجناحين هو الأصل في الطيران، كما أن مدّ الأطراف هو الأصل في السباحة، فذكر بصيغة اسم الفاعل لدوامه وكثرته، وأما قبض الجناحين فإنما يفعله الطائر قليلا للاستراحة والاستعانة، فذكر بلفظ الفعل لقلته أَمَّنْ هذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ خطاب للكفار على وجه التوبيخ والتهديد وإقامة الحجة عليهم، ودخلت أم التي يراد بها الإنكار على من فأدغمت فيها، وكذلك أمّن هذا الذي يرزقكم والضمير في أمسك لله أي من يرزقكم إن منع الله رزقه، بل لجّوا أي تمادوا في العتوّ والنفور عن الإيمان. أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ الآية توقيف على الحالتين، أيهما أهدى والمراد بها توبيخ الكفار، وفي معناها قولان: أحدهما أن المشي هنا استعارة في سلوك طريق الهدى والضلال في الدنيا، والآخر أنه حقيقة في المشي في الآخرة لأن الكافر يحمل على المشي إلى جهنم على وجهه، فأما على القول الأول فقيل: إن الذي يمشي مكبا أبو جهل والذي يمشي سويا سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وقيل: حمزة وقيل: هي على العموم في كل مؤمن وكافر، وقد تمشي هذه الأقوال أيضا على الثاني، والمكب هو الذي يقع على وجهه يقال: أكب الرجل وكبه غيره، فالمعدي دون همزة والقاصر بالهمزة بخلاف سائر الأفعال وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ الضمير للكفار والوعد يراد به البعث أو عذابهم في الدنيا فَلَمَّا رَأَوْهُ ضمير الفاعل للكفار وضمير المفعول للعذاب الذي يتضمنه الوعد زُلْفَةً أي قريبا وقيل: عيانا سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا أي ظهر فيها السوء لما حل بها وَقِيلَ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ تفتعلون من الدعاء أي تطلبون وتستعجلون به، والقائلون لذلك الملائكة أو يقال لهم بلسان الحال قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ الآية سببها أن الكفار كانوا يتمنون هلاك النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين، فأمره الله أن يقول لهم: إن أهلكني الله وأهلك من معي أو رحمنا فإنكم لا تنجون من العذاب الأليم على كل حال، والهلاك هنا يحتمل أن يراد به الموت أو غيره، ومعنى من يجير الكافرين من عذاب أليم: من يمنعهم من العذاب قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً الآية احتجاج على المشركين، والغور مصدر وصف به فهو بمعنى غاير أي ذاهب في الأرض، والمعين الكثير، واختلف هل وزنه فعيل أو مفعول فالمعنى إن غار ماؤكم الذي تشربون هل يأتيكم غير الله بماء معين؟

سورة القلم

سورة القلم مكية إلا آية 17 إلى غاية آية 33 ومن آية 48 إلى غاية آية 50 فمدنية وآياتها 52 نزلت بعد العلق بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (سورة القلم) ن حرف من حروف الهجاء وقد تقدم الكلام عليها في البقرة، ويختص ن بأنه قيل: إنه حرف من الرحمن فإن حروف الرحمن ألف ولام وراء وحاء وميم ون وقيل: إن نون هنا يراد به الحوت، ومنه ذو النون يونس وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ اختلف فيه على قولين أحدهما: أنه القلم الذي كتب به اللوح المحفوظ، فالضمير في يسطرون للملائكة والآخر: أنه القلم المعروف عند الناس، أقسم الله به لما فيه من المنافع والحكم، والضمير في يسطرون على هذا لبني آدم ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ هذا جواب القسم وهو خطاب لمحمد صلى الله عليه وسلم معناه: نفي نسبة الكفار له من الجنون، وبنعمة ربك اعتراض بين ما وخبرها كما تقول: أنت بحول الله أفضل والمجرور في موضع الحال، وقال الزمخشري: إن العامل فيه بمجنون غَيْرَ مَمْنُونٍ ذكر في فصلت [8] . وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ هذا ثناء على خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت عائشة رضي الله عنها: كان خلق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم القرآن «1» ، تعني التأدب بآدابه وامتثال أوامره، وعبر ابن عباس عن الخلق بالدين والشرع وذلك رأس الخلق، وتفصيل ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جمع كل فضيلة، وحاز كل خصلة جميلة، فمن ذلك شرف النسب ووفور العقل وصحة الفهم، وكثرة العلم، وشدّة الحياء، وكثرة العبادة والسخاء والصدق والشجاعة والصبر والشكر والمروءة والتودد والاقتصاد والزهد والتواضع والشفقة والعدل والعفو وكظم الغيظ وصلة الرحم وحسن المعاشرة وحسن التدبير وفصاحة اللسان وقوة الحواس وحسن الصورة وغير ذلك، حسبما ورد في أخباره وسيره صلى الله عليه وآله وسلم ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: بعثت لأتمم مكارم الأخلاق «2» ، وقال

_ (1) . حديث عائشة أخرجه المنادى في التيسير وعزاه لأحمد ومسلم وأبي داود. (2) . الحديث قال العجلوني فيه: رواه مالك في الموطأ بلاغا وأوله: إنما بعثت وقال ابن عبد البر هو متصل بسند صحيح إلى أبي هريرة فانظره هناك.

[سورة القلم (68) : الآيات 5 إلى 14]

الجنيد: سمى خلقه عظيما، لأنه لم تكن له همة سوى الله عز وجل فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ قيل: إن المفتون هنا بمعنى المجنون، ويحتمل غير ذلك من معاني الفتنة، والخطاب في قوله: فستبصر للنبي صلى الله عليه وسلم وفي قوله ويبصرون لكفار قريش، واختلف في الباء التي في قوله بأيكم على أربعة أقوال: الأول أنها زائدة، الثاني أنها غير زائدة والمعنى بأيكم الفتنة فأوقع المفتون موقع الفتنة كقولهم: ماله معقول أي عقل، الثالث أن الباء بمعنى في والمعنى في أي فريق منكم المفتون واستحسن ابن عطية هذا، الرابع أن المعنى بأيكم فتنة المفتون ثم حذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه. وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ المداهنة هي الملاينة والمداراة فيما لا ينبغي، وروي أن الكفار قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: لو عبدت آلهتنا لعبدنا إلهك، فنزلت الآية ولم ينتصب فيدهنون في جواب التمني بل رفعه بالعطف على تدهن قاله ابن عطية، وقال الزمخشري: هو خبر مبتدأ محذوف تقديره فهم يدهنون حَلَّافٍ كثير الحلف في الحق والباطل مَهِينٍ هو الضعيف الرأي والعقل قال ابن عطية: هو من مهن إذا ضعف، فالميم فاء الفعل، وقال الزمخشري: هو من المهانة وهي الذلة والحقارة وقال ابن عباس: المهين الكذاب هَمَّازٍ هو الذي يعيب الناس مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ أي كثير المشي بالنميمة، يقال: نميم ونميمة بمعنى واحد، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يدخل الجنة نمام «1» مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ أي شحيح، لأن الخير هنا هو المال. وقيل: معناه مناع من الخير، أي يمنع الناس من الإسلام، والعمل الصالح مُعْتَدٍ هو من العدوان وهو الظلم أَثِيمٍ من الإثم وهو ارتكاب المحرمات عُتُلٍّ أي غليظ الجسم، قاسي القلب بعيد الفهم، كثير الجهل زَنِيمٍ أي ولد زنا وقيل: هو الذي في عنقه زنمة كزنمة الشاة التي تعلق في حلقها، وقيل: معناه مريب قبيح الأفعال. وقيل: ظلوم، وقيل: لئيم وقوله: بعد ذلك أي بعد ما ذكرنا من عيوبه، فهذا الترتيب في الوصف لا في الزمان، واختلف في الموصوف بهذه الأوصاف الذميمة، فقيل: لم يقصد بها شخص معين، بل كل من اتصف بها، وقيل: المقصود بها الوليد بن المغيرة، لأنه وصفه بأنه ذو مال وبنين، وكذلك كان، وقيل: أبو جهل وقيل: الأخنس بن شريق، ويؤيد هذا أنه كانت له زنمة في عنقه، قال ابن عباس: عرفناه بزنمته وكان لقيطا من ثقيف، ويعدّ في بني زهرة، فيصح وصفه بزنيم على القولين، وقيل: الأسود بن عبد يغوث أَنْ كانَ ذا مالٍ وَبَنِينَ في موضع مفعول من أجله يتعلق بقوله: لا تطع أي لا تطعه بسبب كثرة ماله وبنيه، ويجوز أن

_ (1) . رواه الشيخان وأبو داود والترمذي عن حذيفة وفي رواية (قتات) .

[سورة القلم (68) : الآيات 15 إلى 24]

يتعلق بما بعده، والمعنى على هذا أنه قال في القرآن أساطير الأولين، لأنه ذو مال وبنين، يتكبر بماله وبنيه، والعامل في أن كان على هذا فعل من المعنى، ولا يجوز أن يعمل فيه قال الذي هو جواب إذا، لأن ما بعد الشرط لا يعمل فيما قبله والأول أظهر، وقد تقدم معنى أساطير الأولين سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ أصل الخرطوم: أنف السبع [والفيل] ثم استعير للإنسان استخفافا به، وتقبيحا له والمعنى نجعل له سمة. وهي العلامة على خرطومه، واختلف في هذه السمة قيل: هي الضربة بالسيف يوم بدر، وقيل: علامة من نار تجعل على أنفه في جهنم. وقيل: علامة تجعل على أنفه يوم القيامة ليعرف بها. إِنَّا بَلَوْناهُمْ كَما بَلَوْنا أَصْحابَ الْجَنَّةِ أي بلونا قريشا كما بلونا أصحاب الجنة، وكانوا إخوة من بني إسرائيل لهم جنة، روي أنها بمقربة من صنعاء، فحلفوا أن لا يعطوا مسكينا منها شيئا، وباتوا عازمين على ذلك، فأرسل الله على جنتهم طائفا من نار فأحرقتها، فلما أصبحوا إلى جنتهم لم يروها، فحسبوا أنهم أخطئوا الطريق، ثم تبينوها فعرفوها، وعلموا أن الله عاقبهم فيها بما قالوا، فندموا وتابوا إلى الله، ووجه تشبيه قريش بأصحاب الجنة أن الله أنعم على قريش ببعث محمد صلى الله عليه وسلم، كما أنعم على أصحاب الجنة بالجنة، فكفر هؤلاء بهذه النعمة كما فعل أولئك، فعاقبهم الله كما عاقبهم وقيل: شبّه قريشا لما أصابهم الجوع بشدة القحط، حين دعا عليهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بأصحاب الجنة لما هلكت جنتهم إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّها مُصْبِحِينَ أي حلفوا أن يقطعوا غلة جنتهم عند الصباح وكانت الغلة ثمرا وَلا يَسْتَثْنُونَ في معناه ثلاثة أقوال: أحدها لم يقولوا إن شاء الله حين حلفوا ليصرمنها، والآخر لا يستثنون شيئا من ثمرها إلا أخذوه لأنفسهم والثالث لا يتوقفون في رأيهم ولا ينتهون عنه أي لا يرجعون عنه فَطافَ عَلَيْها طائِفٌ قال الفراء: الطائف الأمر الذي يأتي بالليل فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ فيه أربعة أقوال: الأول أصبحت كالليل لأنها اسودّت لما أصابها، والصريم في اللغة الليل الثاني أصبحت كالنهار لأنها ابيضت كالحصيد ويقال: صريم لليل والنهار. الثالث أن الصريم: الرماد الأسود بلغة بعض العرب الرابع أصبحت كالمصرومة أي المقطوعة فَتَنادَوْا مُصْبِحِينَ أي نادى بعضهم بعضا حين أصبحوا وقال بعضهم لبعض: اغْدُوا عَلى حَرْثِكُمْ أي جنتكم إِنْ كُنْتُمْ صارِمِينَ أي حاصدين لثمرتها يَتَخافَتُونَ يكلم بعضهم بعضا في السر ويقولون: لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ وأن في قوله: أن اغدوا وأن لا يدخلنها حرف عبارة وتفسير.

[سورة القلم (68) : الآيات 25 إلى 41]

وَغَدَوْا عَلى حَرْدٍ قادِرِينَ في الحرد أربعة أقوال: الأول أنه المنع الثاني أنه القصد الثالث أنه الغضب الرابع أن الحرد اسم للجنة وقادرين يحتمل أن يكون من القدرة، أي قادرين في زعمهم أو من التقدير: بمعنى التضييق أي ضيقوا على المساكين إِنَّا لَضَالُّونَ أي أخطأنا طريق الجنة. قالوا ذلك لما لم يعرفوها، فلما عرفوها ورأوا ما أصابها قالوا: بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ أي حرمنا الله خيرها قالَ أَوْسَطُهُمْ أي خيرهم وأفضلهم ومنه أمة وسطا أي خيارا: لَوْلا تُسَبِّحُونَ أي تقولون: سبحان الله وقيل: هو عبارة عن طاعة الله وتعظيمه، وقيل: أراد الاستثناء في اليمين كقولهم: إن شاء الله. والأول أظهر لقولهم بعد ذلك سبحان ربنا. والمعنى أن هذا الذي هو أفضلهم كان قد حضهم على التسبيح يَتَلاوَمُونَ أي يلوم بعضهم بعضا على ما كانوا عزموا عليه من منع المساكين، أو على غفلتهم عن التسبيح بدليل قوله: ألم أقل لكم لولا تسبحون عَسى رَبُّنا أَنْ يُبْدِلَنا خَيْراً مِنْها يحتمل أنهم طلبوا البدل في الدنيا، أو في الآخرة. والأول أرجح لأنه روي عن ابن مسعود أن الله أبدلهم جنة يحمل البغل منها عنقودا كَذلِكَ الْعَذابُ أي مثل هذا العذاب الذي ينزل بأهل الجنة ينزل بقريش. أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ الهمزة للإنكار أي كيف يسوّي الله بين المسلمين والمجرمين؟ بل يجازي كل أحد بعمله، والمراد بالمجرمين هنا الكفار ما لَكُمْ توبيخ للكفار وما مبتدأ ولكم خبره، وتم الكلام هنا فينبغي أن يوقف عليه كَيْفَ تَحْكُمُونَ توبيخ آخر أي كيف تحكمون بأهوائكم وتقولون ما ليس لكم به علم؟ إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَما تَخَيَّرُونَ هذه الجملة معمول تدرسون، وكان أصل إن الفتح وكسرت لأجل اللام التي في خبرها. وتخيّرون معناه تختارون لأنفسكم، ومعنى الآية: هل لكم كتاب، من عند الله تدرسون فيه أن لكم ما تختارونه لأنفسكم أَمْ لَكُمْ أَيْمانٌ عَلَيْنا بالِغَةٌ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَما تَحْكُمُونَ المعنى هل حلفنا لكم أيمانا أن لكم ما تحكمون؟ ومعنى بالغة ثابتة واصلة إلى يوم القيامة، وقوله: إن لكم هو جواب القسم الذي يقتضيه الأيمان، ولذلك أكده بإن واللام وما تحكمون هو اسم إن دخلت عليه اللام المؤكدة سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذلِكَ زَعِيمٌ؟ أي يا محمد اسأل قريشا أيهم زعيم بهذه الأمور، والزعيم: هو الضامن للأمر القائم به أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكائِهِمْ هذا تعجيز للكفار، ومعناه: إن كان لكم شركاء يقدرون على

[سورة القلم (68) : الآيات 42 إلى 48]

شيء فأتوا بهم، واختلف هل قوله: فليأتوا بهم في الدنيا، أي أحضروهم حتى يرى حالهم أو يقال لهم ذلك يوم القيامة والشركاء هم المعبودون من الأصنام وغيرها. وقال الزمخشري: معناه أم لكم ناس يشاركونكم في هذا القول، ويوافقونكم عليه فأتوا بهم. يعني أنهم لا يوافقهم أحد عليه، والأول أظهر. يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ قال المتأولون ذلك عبارة عن هول يوم القيامة وشدّته، وفي الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «1» : ينادي مناد يوم القيامة: لتتبع كل أمة ما كانت تعبد، فيتبع الشمس من كان يعبد الشمس، ويتبع القمر من كان يعبد القمر، ويتبع كل أحد ما كان يعبد، ثم تبقى هذه الأمة وغبرات من أهل الكتاب معهم منافقوهم فيقال لهم: ما شأنكم فيقولون ننتظر ربنا قال فيجيئهم الله في غير الصورة التي عرفوه فيقول: أنا ربكم فيقولون: نعوذ بالله منك، قال فيقول: أتعرفونه بعلامة ترونها فيقولون نعم فيكشف لهم عن ساق فيقولون: نعم أنت ربنا ويخرون للسجود فيسجد كل مؤمن، وترجع أصلاب المنافقين عظما واحدا فلا يستطيعون سجودا وتأويل الحديث كتأويل الآية وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ تفسيره في الحديث الذي ذكرنا، فإن قيل: كيف يدعون في الآخرة إلى السجود وليست الآخر دار تكليف؟ فالجواب: أنهم يدعون إليه على وجه التوبيخ لهم على تركهم السجود في الدنيا لا على وجه التكليف والعبادة وَقَدْ كانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سالِمُونَ أي قد كانوا في الدنيا يدعون إلى السجود فيمتنعون منه، وهم سالمون في أعضائهم قادرون عليه فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ تهديد للمكذبين بالقرآن وإعراب من يكذب مفعول معه أو معطوف، وقد ذكرنا في الأعراف [182] سنستدرجهم وما بعده أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً معناه أنت لا تسألهم أجرة على الإسلام فتثقل عليهم، فلا عذر لهم في تركهم الإسلام، وقد فسرنا هذا وما بعده في الطور [40] فَاصْبِرْ يقتضي مسالمة للكفار، نسخت بالسيف وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ هو يونس عليه السلام وسماه صاحب الحوت، لأن الحوت ابتلعه، وهو أيضا ذو النون، والنون هو الحوت، وقد ذكرنا قصته في الأنبياء والصافات، فنهى الله محمدا صلى الله عليه وسلم أن يكون مثله في الضجر والاستعجال، حتى ذهب مغاضبا، وروي أن هذه الآية نزلت لما همّ النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو على الكفار إِذْ نادى وَهُوَ مَكْظُومٌ

_ (1) . الحديث رواه الإمام الطبري في تفسير هذه الآية بسنده إلى أبي سعيد الخدري بألفاظ قريبة فانظره فيه.

[سورة القلم (68) : الآيات 49 إلى 52]

هذا آخر ما جرى ليونس ونداؤه هو قوله في بطن الحوت لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين، والمكظوم الشديد الحزن لَنُبِذَ بِالْعَراءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ هو جواب لولا، والمنفي هو الذم لا نبذه بالعراء، فإنه قد قال في الصافات فنبذناه بالعراء فالمعنى لولا رحمة الله لنبذ بالعراء وهو مذموم، لكنه نبذ وهو غير مذموم، وقد ذكرنا العراء في الصافات وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ عبارة عن شدة عداوتهم، وإن مخففة من الثقيلة بدليل دخول اللام وليزلقونك معناه يهلكونك كقولك: نظر فلان إلى عدوه نظرة كاد يصرعه، وأصله من زلق القدم، وقرأ نافع بفتح الياء والباقون بضمها وهما لغتان وقيل: إن المعنى: يأخذونه بالعين، وكان ذلك في بني أسد كان الرجل منهم يجوع ثلاثة أيام فلا يتكلم على شيء إلا أصابه بالعين، فأراد بعضهم أن يصيب النبي صلى الله عليه وسلم فعصمه الله من ذلك، وقال الحسن دواء من أصيب بالعين قراءة هذه الآية وَما هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ يعني القرآن أو هو موعظة وتذكير للخلق.

سورة الحاقة

سورة الحاقة مكية وآياتها 52 نزلت بعد الملك بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (سورة الحاقة) الْحَاقَّةُ هي القيامة، ووزنها فاعلة وسميت الحاقة لأنها تحق، أي يصح وجودها، ولا ريب في وقوعها ولأنها حقت لكل أحد جزاء عمله، أو لأنها تبدئ حقائق الأمور مَا الْحَاقَّةُ ما استفهامية يراد بها التعظيم، وهي مبتدأ وخبرها ما بعده والجملة خبر الحاقة، وكان الأصل الحاقة ما هي، ثم وضع الظاهر موضع المضمر زيادة في التعظيم والتهويل، وكذلك، وما أدراك ما الحاقة لفظه استفهام والمراد به التعظيم والتهويل بِالْقارِعَةِ هي القيامة سميت بذلك لأنها تقرع القلوب بأهوالها بِالطَّاغِيَةِ يعني الصيحة التي أخذت ثمود، وسميت بذلك لأنها جاوزت الحدّ في الشدة، وقيل: الطاغية مصدر فكأنه قال: أهلكوا بطغيانهم، فهو كقوله: كذبت ثمود بطغواها وقيل: هي صفة لمحذوف تقديره أهلكوا بسبب الفعلة الطاغية، أو الفئة الطاغية والباء، على هذين القولين سببية. وعلى القول الأول كقولك: قتلت زيدا بالسيف بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ ذكر في فصلت [16] ، وعاتية أي شديدة. وسميت بذلك لأنها عتت على عاد، وقيل: عتت على خزانها، فخرجت بغير إذنهم سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ روي أنها بدت صبيحة يوم الأربعاء لثمان بقين من شوال، وتمادت بهم إلى آخر يوم الأربعاء تكملة الشهر حُسُوماً قال ابن عباس: معناه كاملة متتابعة لم يتخللها غير ذلك، وقيل: معناه شؤما وقيل: هو جمع حاسم من الحسم. وهو القطع أي قطعتهم بالإهلاك، فحسوما على القول الأول والثاني مصدر في موضع الحال، وعلى الثالث حال أو مفعول من أجله فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى جمع صريع وهو المطروح بالأرض، والضمير المجرور يعود على منازلهم، لأن المعنى يقتضيها وإن لم يتقدم ذكرها، أو على الأيام والليالي، أو على الريح كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ تقدم في القمر معنى تشبيههم بأعجاز النخل، والخاوية هي التي خلت من طول بلائها

[سورة الحاقة (69) : الآيات 8 إلى 15]

وفسادها مِنْ باقِيَةٍ أي من بقية، وقيل: من فئة باقية وقيل: إنه مصدر بمعنى البقاء. وَمَنْ قَبْلَهُ يريد من تقدم قبله من الأمم الكافرة، وأقربهم إليه قوم شعيب، والظاهر أنهم المراد لأن عادا وثمود قد ذكرا، وقوم لوط هم المؤتفكات، وقوم نوح قد أشير إليهم في قوله: لما طغى الماء حملناكم في الجارية، وقرأ [أبو عمرو والكسائي قبله] بكسر القاف وفتح الباء ومعناه: جنده وأتباعه بِالْخاطِئَةِ إما أن يكون مصدرا بمعنى الخطيئة أو صفة لمحذوف تقديره: بالفعلة الخاطئة فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ إن عاد الضمير على فرعون وقومه، فالرسول موسى عليه السلام، وإن عاد على المؤتفكات: فالرسول لوط عليه السلام، وإن عاد على الجميع: فالرسول اسم جنس أو بمعنى الرسالة رابِيَةً أي عظيمة وهي من قولك: ربا الشيء إذا كثر طَغَى الْماءُ عبارة عن كثرته، فيحتمل أن يريد أنه طغى على أهل الأرض، أو على خزانه يعني وقت طوفان نوح عليه السلام حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ هي السفينة، فإن أراد سفينة نوح فمعنى حملناكم حملنا آباءكم لأن كل من على الأرض من ذرية نوح وأولاده الثلاثة الذين كانوا معه في السفينة، وإن أراد جنس السفن فالخطاب على حقيقته. لِنَجْعَلَها لَكُمْ تَذْكِرَةً الضمير للفعلة وهي الحمل في السفينة وقيل: للسفينة، فإن أراد جنس السفن: فالمعنى أنها تذكرة بقدرة الله ونعمته لمن ركب أو سمع بها، وإن أراد سفينة نوح فقد قيل: إن الله أبقاها حتى رأى بعض عيدانها أول هذه الأمة وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ الضمير يعود على ما عاد عليه ضمير لنجعلها، وهذا يقوي أن يكون للفعلة، والأذن الواعية: هي التي تفهم ما تسمع وتحفظه، يقال: وعيت العلم إذا حصلته، ولذلك عبّر بعضهم عنها بأنها التي عقلت عن الله، وروي «1» أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعلي بن أبي طالب: إني دعوت الله أن يجعلها أذنك يا عليّ، قال عليّ فما نسيت بعد ذلك شيئا سمعته، قال الزمخشري: إنما قال: أذن واعية بالتوحيد والتنكير، للدلالة على قلة الوعاة ولتوبيخ الناس بقلة من يعي منهم، وللدلالة على أن الأذن الواحدة إذا عقلت عن الله تعالى فهي المعتبرة عند الله دون غيرها نَفْخَةٌ واحِدَةٌ يعني نفخة الصور وهي الأولى فَدُكَّتا الضمير للأرض والجبال، ومعنى دكتا ضرب بعضها ببعض حتى تندق، وقال الزمخشري: الدك أبلغ من الدق، وقيل: معناه بسطت حتى تستوي الأرض والجبال. وَقَعَتِ الْواقِعَةُ أي قامت القيامة، وقيل: وقعت صخرة بيت المقدس وهذا ضعيف

_ (1) . روى هذا الحديث الإمام الطبري في تفسيره للآية بسنده إلى مكحول وبريدة الأسلمي.

[سورة الحاقة (69) : الآيات 16 إلى 24]

واهِيَةٌ أي مسترخية ساقطة القوة، ومنه قولهم: دار واهية أي ضعيفة الجدران وَالْمَلَكُ عَلى أَرْجائِها الملك هنا اسم جنس والأرجاء الجوانب واحدها رجى مقصور، والضمير يعود على السماء، والمعنى إن الملائكة يكونون يوم القيامة على جوانب السماء، لأنها إذا وهيت وقفوا على أطرافها، وقيل: يعود على الأرض لأن المعنى يقتضيه، وإن لم يتقدم ذكرها، وروي في ذلك أن الله يأمر الملائكة فتقف صفوفا على جوانب الأرض. والأول أظهر وأشهر وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ قال ابن عباس: هي ثمانية صفوف من الملائكة لا يعلم أحد عدّتهم. وقيل: ثمانية أملاك رؤوسهم تحت العرش وأرجلهم تحت الأرض السابعة، ويؤيد هذا ما روي «1» عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: هو اليوم أربعة، فإذا كان يوم القيامة قوّاهم الله بأربعة سواهم. يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ خطاب لجميع العالم، والعرض: البعث أو الحساب خافِيَةٌ أي حال خافية من الأعمال والسرائر، ويحتمل المعنى لا يخفى من أجسادهم لأنهم يحشرون حفاة عراة فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ الكتاب هنا صحائف الأعمال هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ هاؤم اسم فعل، قال ابن عطية: معناه تعالوا وقال الزمخشري: هو صوت يفهم منه معنى خذ، وكتابيه مفعول يطلبه هاؤم واقرءوا من ضمير المعنى تقديره هاؤم كتاب اقرؤا كتابي ثم حذف لدلالة الآخر عليه وعمل فيه العامل، الثاني: وهو اقرءوا عند البصريين، والعامل الأول هو هاؤم عند الكوفيين، والدليل على صحة قول البصريين أنه لو عمل الأول لقال اقرءوه، والهاء في كتابيه للوقف، وكذلك في حسابيه وماليه وسلطانيه، وكان الأصل أن تسقط في الوصل لكنها ثبتت فيه مراعاة لخط المصحف وقد أسقطها في الوصل [حمزة] ، ومعنى الآية: أن العبد الذي يعطى كتابه بيمينه يقول للناس: اقرءوا كتابيه على وجه الاستبشار والسرور بكتابه إِنِّي ظَنَنْتُ الظن هنا بمعنى اليقين راضِيَةٍ أي ذات رضا كقولهم: تامر لصاحب التمر. قال ابن عطية: ليست بياء اسم فاعل، وقال الزمخشري: يجوز أن يكون اسم فاعل نسب الفعل إليها مجازا وهو لصاحبها حقيقة قُطُوفُها جمع قطف وهو ما يجتنى من الثمار ويقطف كالعنقود دانِيَةٌ أي قريبة، وروي أن العبد يأخذها بفمه من شجرها، على أي حال كان من قيام أو جلوس أو اضطجاع أَسْلَفْتُمْ أي قدمتم من الأعمال الصالحة فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ أي الماضية يعني أيام الدنيا.

_ (1) . هذا الحديث رواه الإمام الطبري في تفسيره لهذه الآية بسنده إلى ابن إسحاق فقط.

[سورة الحاقة (69) : الآيات 25 إلى 36]

وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ هم الكفار بدليل قوله: إنه كان لا يؤمن بالله العظيم فجعل علة إعطائهم كتبهم بشمالهم عدم إيمانهم، وأما المؤمنون فيعطون كتبهم بأيمانهم، لكن اختلف فيمن يدخل النار منهم، هل يعطى كتابه قبل دخول النار أو بعد خروجه منها؟ وهذا أرجح لقوله: هاؤم اقرءوا كتابيه، لأن هذا كلام سرور فيبعد أن يقوله من يحمل إلى النار فَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ أي يتمنى أنه لم يعط كتابه وقال ابن عطية: يتمنى أن يكون معدوما لا يجري عليه شيء والأول أظهر يا لَيْتَها كانَتِ الْقاضِيَةَ أي ليت الموتة الأولى كانت القاضية بحيث لا يكون بعدها بعث ولا إحياء ما أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ «1» يحتمل أن يكون نفيا، أو استفهاما يراد به النفي هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ أي زال عني ملكي وقدرتي وقيل: ذهبت عني حجتي. خُذُوهُ خطاب للزبانية يقوله لهم الله تعالى أو الملائكة بأمر الله فَغُلُّوهُ أي اجعلوا غلا في عنقه وروي أنها نزلت في أبي جهل ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً معنى ذرعها أي طولها، واختلف في هذا الذراع فقيل: إنه الذراع المعروف، وقيل: بذراع الملك وقيل: في الذراع سبعون باعا، كل باع ما بين مكة والكوفة، ولله در الحسن البصري في قوله: الله أعلم بأي ذراع هي، وجعلها سبعين ذراعا لإرادة وصفها بالطول، فإن السبعين من الأعداد التي تقصد بها العرب التكثير، ويحتمل أن تكون هذه السلسلة لكل واحد من أهل النار، أو تكون بين جميعهم وقد حكى الثعلبي ذلك فَاسْلُكُوهُ أي أدخلوه روي أنها تلتوي عليه حتى تعمه وتضغطه، فالكلام على هذا على وجهه وهو المسلوك فيها، وإنما قدم قوله: في سلسلة على اسلكوه لإرادة الحصر، أي لا تسلكوه إلا في هذه السلسلة وكذلك قدّم الحميم على صلّوه لإرادة الحصر أيضا طَعامِ الْمِسْكِينِ يحتمل أنه أراد إطعام مسكين، فوضع الاسم موضع المضمر أو يقدر: لا يحض على بذل طعام المسكين، وأضاف الطعام إلى المسكين لأن له إليه نسبة، ووصفه بأنه لا يحض على طعام المسكين يدل على أنه لا يطعمه من باب أولى، وهذه الآية تدل على عظم الصدقة وفضلها، لأنه قرن منع طعام المسكين بالكفر بالله فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هاهُنا حَمِيمٌ فيه قولان: أحدهما ليس له صديق والآخر: ليس له شراب وَلا طَعامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ فإن الحميم الماء

_ (1) . قوله: ماليه، سلطانيه: قرأ حمزة بحذف الهاء فيهما وصلا. وقرأ الباقون بإثبات الهاء. وأجمع الجميع على إثبات الهاء في الوقف.

[سورة الحاقة (69) : الآيات 37 إلى 52]

الحار، والغسلين صديد أهل النار عند ابن عباس. وقيل: شجر يأكله أهل النار، وقال اللغويون: هو ما يجري من الجراح إذا غسلت وهو فعلين من الغسل الْخاطِؤُنَ جمع خاطئ وهو الذي يفعل ضد الصواب متعمّدا، والمخطئ الذي يفعله بغير تعمد. فَلا أُقْسِمُ لا زائدة غير نافية بِما تُبْصِرُونَ وَما لا تُبْصِرُونَ يعني جميع الأشياء لأنها تنقسم إلى ما يبصر وما لا يبصر، كالدنيا والآخرة والإنس والجن والأجسام والأرواح وغير ذلك إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ هذا جواب القسم والضمير للقرآن والرسول الكريم جبريل وقيل: لمحمد عليه الصلاة والسلام قَلِيلًا ما تُؤْمِنُونَ «1» قال ابن عطية: يحتمل أن تكون ما نافية، فنفى إيمانهم بالجملة أو تكون مصدرية فوصف إيمانهم بالقلة، وقال الزمخشري: القلة هنا بمعنى العدم، أي لا تؤمنون ولا تذكرون البتة. وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ التقوّل هو أن ينسب إلى أحد ما لم يقل، ومعنى الآية: لو تقوّل علينا محمد لعاقبناه، ففي ذلك برهان على أن القرآن من عند الله لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ قال ابن عباس: هنا القوة ومعناه: لو تقوّل علينا لأخذناه بقوتنا وقيل: هي عبارة عن الهوان كما يقال لمن يسجن: أخذ بيده وبيمينه، قال الزمخشري: معناه لو تقوّل علينا لقتلناه، ثم صور صورة القتل ليكون أهول، عبر عن ذلك بقوله: لأخذنا منه باليمين، لأن السيّاف إذا أراد أن يضرب المقتول في جسده أخذ بيده اليمنى ليكون ذلك أشد عليه لنظره إلى السيف الْوَتِينَ نياط القلب، وهو عرق إذا قطع مات صاحبه، فالمعنى لقتلناه فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ الحاجز المانع، والمعنى: لو عاقبناه لم يمنعه أحد منكم ولم يدفع عنه وإنما جمع حاجزين، لأن أحد في معنى الجماعة وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ الضمير للقرآن وقيل: لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم والأول أظهر وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكافِرِينَ أي حسرة عليهم في الآخرة، لأنهم يتأسفون إذا رأوا ثواب المؤمنين وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ قال الكوفيون هذا من إضافة الشيء إلى نفسه، كقولك: مسجد الجامع، وقال الزمخشري: المعنى: عين اليقين ومحض اليقين، وقال ابن عطية: ذهب الحذاق إلى أن الحق مضاف إلى الأبلغ من وجوهه.

_ (1) . قوله تؤمنون ثم تذكرون: قرأهما ابن كثير بالياء: يؤمنون يذكرون.

سورة المعارج

سورة المعارج مكية وآياتها 44 نزلت بعد الحاقة بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (سورة المعارج) سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ من قرأ «1» سأل بالهمز احتمل معنيين أحدهما أن يكون بمعنى الدعاء، أي دعا داع بعذاب واقع، وقد تكون الإشارة إلى قول الكفار: أمطر علينا حجارة من السماء، وكان الذي قالها النضر بن الحرث، والآخر أن يكون بمعنى الاستخبار، أي سأل سائل عن عذاب واقع، والباء على هذا بمعنى عن، وتكون الإشارة إلى قوله متى هذا الوعد؟ وغير ذلك، وأما من قرأ سال بغير همز فيحتمل وجهين. أحدهما: أن يكون مخففا من المهموز، فيكون فيه المعنيان المذكوران، والثاني أن يكون من سال السيل إذا جرى، ويؤيد ذلك قراءة ابن عباس: سال سيل، وتكون الباء على هذا كقولك ذهبت بزيد، وإذا كان من السيل احتمل وجهين: أحدهما أن يكون شبّه العذاب في شدته وسرعة وقوعه بالسيل وثانيهما أن تكون حقيقة قال زيد بن ثابت: في جهنم واد يقال له سائل، فتلخص من هذا أن في القراءة بالهمز يحتمل معنيين وفي القراءة بغير همز أربعة معان لِلْكافِرينَ يحتمل أن يتعلق بواقع وتكون اللام بمعنى على، أو تكون صفة للعذاب، أو يتعلق بسأل إذا كانت بمعنى دعا، أي دعا للكافرين بعذاب، أو تكون مستأنفا كأنه قال: هو للكافرين مِنَ اللَّهِ يحتمل أن يتعلق بواقع أي واقع من عند الله، أو بدافع أي ليس له دافع من عند الله، أو يكون صفة للعذاب أو مستأنفا ذِي الْمَعارِجِ جمع معرج وهو المصعد إلى علو كالسلم، والمدارج التي يرتقى بها قال ابن عطية: هي هنا مستعارة في الفضائل والصفات الحميدة، وقيل: هي المراقي إلى السماء، وهذا أظهر لأنه فسرها بما بعدها من عروج الملائكة. وَالرُّوحُ إِلَيْهِ أي إلى عرشه، ومن حيث تهبط أوامره وقضاياه، فالعروج هو من الأرض إلى العرش، والروح هنا جبريل عليه السلام بدليل قوله: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ [الشعراء: 193] وقيل: الروح ملائكة حفظة على الملائكة، وهذا ضعيف مفتقر إلى صحة نقل. وقيل: الروح جنس أرواح الناس وغيرهم فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ

_ (1) . وهي قراءة نافع وابن عامر.

[سورة المعارج (70) : الآيات 5 إلى 13]

اختلف في هذا اليوم على قولين: أحدهما أنه يوم القيامة والآخر أنه في الدنيا والصحيح أنه يوم القيامة لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث مانع الزكاة: «ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي زكاتها إلا صفحت له صفائح من نار يكوى بها جبينه وجنبه وظهره في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يقضى بين العباد» «1» يعني يوم القيامة ثم اختلف هل مقداره خمسون ألف سنة حقيقة؟ وهذا هو الأظهر، أو هل وصف بذلك لشدة أهواله؟ كما يقال: يوم طويل إذا كان فيه مصائب وهموم، وإذا قلنا إنه في الدنيا فالمعنى أن الملائكة والروح يعرجون في يوم لو عرج فيه الناس لعرجوا في خمسين ألف سنة وقيل: الخمسون ألف سنة هي مدة الدنيا والملائكة تعرج وتنزل في هذه المدة، وهذا كله على أن يكون قوله: في يوم يتعلق بتعرج ويحتمل أن يكون في يوم صفة للعذاب، فيتعين أن يكون اليوم يوم القيامة والمعنى على هذا مستقيم. فَاصْبِرْ هذا متصل بما قبله من العذاب وغيره، أي: اصبر على أقوال الكافرين حتى يأتيهم العذاب، ولذلك وصفه بالقرب مبالغة في تسلية النبي صلى الله عليه وسلم إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً يحتمل أن يعود الضمير على العذاب، أو على اليوم الذي مقداره خمسين ألف سنة، والبعيد يحتمل أن يراد به بعد الزمان أو بعد الإمكان، وكذلك القرب يحتمل أن يراد به قرب الزمان لأن كل آت قريب، ولأن الساعة قد قربت، وقرب الإمكان لقدرة الله عليه يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ يوم هنا بدل من يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، أو بدل من الضمير المنصوب في نراه أو منصوب بقوله: قريبا أو بقوله يود المجرم أو بفعل مضمر تقديره: أذكر والمهل: هو دردي الزيت شبه السماء به في سوادها وانكدار أنوارها يوم القيامة، وقيل: هو ما أذيب من الفضة ونحوها شبّه السماء به في تلوّنه وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ العهن هو الصوف، شبّه الجبال به في انتفاشه وتخلخل أجزائه وقيل: هو الصوف المصبوغ ألوانا فيكون التشبيه في الانتفاش، وفي اختلاف الألوان، لأن الجبال منها بيض وسود وحمر وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً الحميم هنا الصديق والمعنى لا يسأل أحد من حميمه نصرة ولا إعانة لعلمه أنه لا يقدر له على شيء، وقيل: لا يسأله عن حاله لأن كل أحد مشغول بنفسه. يُبَصَّرُونَهُمْ يقال: بصر الرجل بالرجل إذا رآه، وبصّرته إياه بالتشديد إذا أريته إياه، والضميران يعودان على الحميمين لأنهما في معنى الجمع، والمعنى أن كل حميم يبصر حميمه يوم القيامة فيراه ولكنه لا يسأله «2» وَصاحِبَتِهِ يعني امرأته وَفَصِيلَتِهِ يعني القرابة الأقربين تُؤْوِيهِ أي تضمه، فيحتمل أن يريد تضمه في الانتماء إليها أو في نصرته وحفظه

_ (1) . رواه الإمام أحمد ج 2 ص 262 وص 383 بطوله وأوله: ما من صاحب كنز لا يؤدي حقه.. من حديث أبي هريرة. (2) . في بقية الآية: مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ قرأ نافع والكسائي: يومئذ بفتح الميم. [.....]

[سورة المعارج (70) : الآيات 14 إلى 33]

من المضرات ثُمَّ يُنْجِيهِ الفاعل الافتداء الذي يقتضيه لو يفتدي، وهذا الفعل معطوف على لو يفتدى وإنما عطفه بثم إشعارا ببعد النجاة وامتناعها، ولذلك زجره عن ذلك بقوله كَلَّا إِنَّها لَظى الضمير للنار لأن العذاب يدل عليها، ويحتمل أن يكون ضمير القصة وفسره بالخبر ولظى علم لجهنم مشتق من اللظى بمعنى اللهب نَزَّاعَةً لِلشَّوى الشوى أطراف الجسد، وقيل: جلد الرأس، فالمعنى أن النار تنزعها ثم تعود، ونزاعة بالرفع «1» بدل من لظى أو خبر ابتداء مضمر أو خبر لأنها إن جعلنا لظى منصوبا على التخصيص أو بدل من الضمير، أو خبر ثان لأنها إن جعلنا لظى خبر لها ونزاعة بالنصب حال تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى يعني الكفار الذين تولوا عن الإسلام، ودعاؤها لهم عبارة عن أخذها لهم، وقال ابن عباس: تدعوهم حقيقة بأسمائهم وأسماء آبائهم، وقيل: معناه تهلك، حكاه الخليل عن العرب وَجَمَعَ فَأَوْعى يقال: أوعيت المال وغيره إذا جمعته في وعاء، فالمعنى جمع المال وجعله في وعاء، وهذه إشارة إلى قوم من أغنياء الكفار جمعوا المال من غير حله ومنعوه من حقه. إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً الإنسان هنا اسم جنس بدليل الاستثناء منه، سئل أحمد بن يحيى مؤلف الفصيح عن الهلوع فقال: قد فسره الله فلا تفسيرا أبين من تفسيره وهو قوله: إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً، وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً وذكره الله على وجه الذم لهذه الخلائق، ولذلك استثنى منه المصلين، لأن صلاتهم تحملهم على قلة الاكتراث بالدنيا، فلا يجزعون من شرها ولا يبخلون بخيرها الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ الدوام عليها هو المواظبة بطول العمر، والمحافظة عليها المذكورة بعد ذلك هي أداؤها في أوقاتها وتوفية الطهارة لها حَقٌّ مَعْلُومٌ قد ذكرنا في الذاريات [19] معنى حق والسائل والمحروم، ووصفه هنا بالمعلوم إن أراد الزكاة فهي معلومة المقدار شرعا، وإن أراد غيرها فمعنى المعلوم، أن العبد يجعل على نفسه وظيفة معلومة عنده غَيْرُ مَأْمُونٍ أي لا يكون أحد آمنا منه فإن الأمن من عذاب الله حرام، فلا ينبغي للعبد أن يزيل عنه الخوف حتى يدخل الجنة لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ ذكر في المؤمنين [8] وكذلك لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهاداتِهِمْ قائِمُونَ «2» قال ابن عباس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله،

_ (1) . قرأ حفص: نزاعة بالنصب والباقون بالرفع. (2) . قوله لأماناتهم وبشهاداتهم هي قراءة حفص: وقرأ الباقون أماناتهم ما عدا ابن كثير، كما قرءوا بشهادتهم بالإفراد ما عدا حفص.

[سورة المعارج (70) : الآيات 34 إلى 44]

وقال الجمهور: يعني الشهادة عند الحكام، ثم اختلف على هذا في معنى القيام بها فقيل: هو التحقيق لها كقوله صلى الله عليه وسلم: «على مثل الشمس فاشهدوا» . وقيل هو المبادرة إلى أدائها من غير امتناع، فأما إن دعي الشاهد إلى الأداء فهو واجب عليه، وأما إذا لم يدع إلى الأداء فالشهادة على ثلاثة أقسام أحدها حقوق الناس، فلا يجوز أداؤها حتى يدعوه صاحب الحق إلى ذلك، والثاني حقوق الله التي يستدام فيها التحريم كالطلاق والعتق والأحباس، فيجب أداء الشهادة بذلك دعي أو لم يدع الثالث حقوق الله التي لا يستدام فيها التحريم كالحدود، فهذا ينبغي ستره، حتى يدعى إليه. فَمالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ أي مسرعين مقبلين إليك بأبصارهم، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أقبل [سارع] الكفار ينظرون إليه ويستمعون قراءته، ومعنى قبلك في جهتك وما يليك عِزِينَ أي جماعات شتى وهو: جمع عزة بتخفيف الزاي وأصله عزوة، وقيل عزهة ثم حذفت لامها وجمعت بالواو والنون عوضا من اللام المحذوفة أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ كانوا يقولون إن كان ثم جنة فنحن أهلها كَلَّا ردع لهم عما طمعوا فيه من دخول الجنة إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ كناية عن المنيّ الذي خلق الإنسان منه، وفي المقصود بهذا الكلام ثلاثة أوجه أحدها: تحقير الإنسان والردّ على المتكبرين. الثاني: الردّ على الكفار في طمعهم أن يدخلوا الجنة كأنه يقول: إنا خلقناكم مما خلقنا منه الناس، فلا يدخل أحد الجنة إلا بالعمل الصالح لأنكم سواء في الخلقة، الثالث: الاحتجاج على البعث بأن الله خلقهم من ماء مهين، فهو قادر على أن يعيدهم كقوله: أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى [القيامة: 37] إلى آخر السورة. فَلا أُقْسِمُ معناه أقسم ولا زائدة بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ ذكر في الصافات [5] إِنَّا لَقادِرُونَ عَلى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ تهديد للكفار بإهلاكهم، وإبدال خير منهم وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ أي مغلوبين، والمعنى: إنا لا نعجز عن التبديل المذكور أو عن البعث فَذَرْهُمْ وعيد لهم، وفيه مهادنة منسوخة بالسيف يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ يعني يوم القيامة، بدليل أنه أبدل منه يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ وهي القبور كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ النصب الأصنام، وأصله كل ما نصب إلى الإنسان، فهو يقصد إليه مسرعا من علم أو بناء أو غير ذلك، وفيه لغات «1» فتح النون وإسكان الصاد، وضم النون وإسكان الصاد وضمها، ويوفضون معناه: يسرعون والمعنى أنهم يسرعون الخروج من القبور إلى المحشر، كما يسرعون المشي إلى أصنامهم في الدنيا.

_ (1) . قرأ ابن عامر وحفص بضم النون والصاد: نصب وقرأ الباقون: نصب وقرأ أبو العالية: نصب.

سورة نوح

سورة نوح مكية وآياتها 28 نزلت بعد النحل بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (سورة نوح عليه السلام) أَنْ أَنْذِرْ وأَنِ اعْبُدُوا يحتمل أن تكون أن مفسرة أو مصدرية على تقدير بأن أنذر وبأن اعبدوا والأول أظهر عَذابٌ أَلِيمٌ يحتمل أن يريد عذاب الآخرة أو الغرق الذي أصابهم يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ من هنا للتبعيض أي يغفر لكم ما فعلتم من الذنوب قبل أن تسلموا لأن الإسلام يجبّ ما قبله، ولم يضمن أن يغفر لهم ما بعد إسلامهم، لأن ذلك في مشيئة الله تعالى، وقيل: إن من هنا زائدة وذلك باطل لأن من لا تزاد عند سيبويه إلا في غير الواجب. وقيل: هي لبيان الجنس وقيل: لابتداء الغاية وهذان القولان ضعيفان في المعنى، والأول هو الصحيح لأن التبعيض فيه متجه وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ظاهر هذا يقتضي أنهم إن فعلوا ما أمروا به أخروا إلى أجل مسمى وإن لم يفعلوا لم يؤخروا، وذلك يقتضى القول بالأجلين. وهو مذهب المعتزلة وعلى هذا حملها الزمخشري، وأما على مذهب أهل السنة، فهي من المشكلات وتأولها ابن عطية فقال: ليس للمعتزلة في الآية مجال لأن المعنى أن نوحا عليه الصلاة والسلام لم يعلم هل هم ممن يؤخر أو ممن يعاجل؟ ولا قال لهم: إنكم تؤخرون عن أجل قد حان. لكن قد سبق في الأزل إما ممن قضى له بالإيمان والتأخير أو ممن قضى له بالكفر والمعاجلة. وكأن نوحا عليه السلام قال لهم: آمنوا يظهر في الوجود أنكم ممن قضى له بالإيمان والتأخير. وإن بقيتم على كفركم يظهر في الوجود أنكم ممن قضى عليه بالكفر والمعاجلة، فكان الاحتمال الذي يقتضيه ظاهر الآية إنما هو فيما يبرزه الغيب من حالهم إذ يمكن أن يبرز إما الإيمان والتأخير، وإما الكفر والمعاجلة، وأما عند الله فالحال الذي يكون منهم معلوم مقدر محتوم، وأجلهم كذلك معلوم مقدر محتوم. إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذا جاءَ لا يُؤَخَّرُ هذا يقتضي أن الأجل محتوم كما قال تعالى: إِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ [يونس: 49] وفي هذا حجة لأهل السنة

[سورة نوح (71) : الآيات 13 إلى 22]

وتقوية للتأويل الذي ذكرنا، وفيه أيضا رد على المعتزلة في قولهم بالأجلين، ولما كان كذلك قال الزمخشري: إن ظاهر هذا مناقض لما قبله من الوعد بالتأخير إن آمنوا، وتأول ذلك على مقتضى مذهبه بأن الأجل الذي لا يؤخر هو الأجل الثاني. وذلك أن قوم نوح قضى الله أنهم إن آمنوا عمرهم الله مثلا ألف عام، وإن لم يؤمنوا عمرهم تسعمائة عام فالألف عام هي التي تؤخر إذا جاءت والتسعمائة عام هي التي وعدوا بالتأخير عنها إلى الألف عام إن أمنوا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ أي دعوتهم ليؤمنوا فتغفر لهم، فذكر المغفرة التي هي سبب عن الإيمان ليظهر قبح إعراضهم عنه فإنهم أعرضوا عن سعادتهم جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ فعلوا ذلك لئلا يسمعوا كلامه، فيحتمل أنهم فعلوا ذلك حقيقة أو يكون عبارة عن إفراط إعراضهم حتى كأنهم فعلوا ذلك وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ أي جعلوها غشاوة عليهم لئلا يسمعوا كلامه، أو لئلا يراهم ويحتمل أنهم فعلوا ذلك حقيقة، أو يكون عبارة عن إعراضهم وَأَصَرُّوا أي داوموا على كفرهم دَعَوْتُهُمْ جِهاراً إعراب جهارا مصدر من المعنى كقولك: قعد القرفصاء، أو صفة لمصدر محذوف تقديره: دعا جهارا أو مصدر في موضع الحال أي مجاهرا ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْراراً ذكر أولا أنه دعاهم بالليل والنهار، ثم ذكر أنه دعاهم جهارا، ثم ذكر أنه جمع بين الجهر والإسرار، وهذه غاية الجد في النصيحة وتبليغ الرسالة صلى الله تعالى عليه وآله وسلم، قال ابن عطية: الجهاد دعاؤهم في المحافل ومواضع اجتماعهم، والإسرار دعاء كل واحد على حدته يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً مفعول من الدرّ وهو كثرة الماء، وفي الآية دليل على أن الاستغفار يوجب نزول الأمطار، ولذلك خرج عمر بن الخطاب إلى الاستسقاء فلم يزد على أن استغفر ثم انصرف، فقيل له ما رأيناك استسقيت فقال والله لقد استسقيت أبلغ الاستسقاء ثم نزل المطر، وشكا رجل إلى الحسن الجدب فقال له: استغفر الله. ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً فيه أربع تأويلات: أحدها أن الوقار بمعنى التوقير والكرامة، فالمعنى: ما لكم لا ترجون أن يوقركم الله في دار ثوابه. قال ذلك الزمخشري. وقوله: لله على هذا بيان للموقر، ولو تأخر لكان صفة لوقارا. والثاني أن الوقار بمعنى التؤدة والتثبت والمعنى ما لكم لا ترجون لله وقارا، متثبتين حتى تتمكنوا من النظر بوقاركم وقوله: لله على هذا مفعول دخلت عليه اللام كقولك: ضربت لزيد وإعراب وقارا على هذا مصدر في موضع الحال. الثالث أن الرجاء هنا بمعنى الخوف، والوقار بمعنى العظمة والسلطان فالمعنى: ما لكم لا تخافون عظمة الله وسلطانه ولله على هذا صفة للوقار في

[سورة نوح (71) : الآيات 23 إلى 28]

المعنى، الرابع: أن الرجاء بمعنى الخوف، والوقار بمعنى الاستقرار من قولك: وقر بالمكان إذا استقر فيه والمعنى: ما لكم لا تخافون الاستقرار في دار القرار إما في الجنة أو النار وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً أي طورا بعد طور، يعني أن الإنسان كان نطفة ثم علقة ثم مضغة إلى سائر أحواله، وقيل: الأطوار الأنواع المختلفة، فالمعنى أن الناس على أنواع في ألوانهم وأخلاقهم وألسنتهم وغير ذلك طِباقاً ذكر في الملك [3] وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً القمر إنما هو في السماء الدنيا، وساغ أن يقول فيهن لما كان في إحداهن فهو في الجميع كقولك: فلان في الأندلس، إذا كان في بعضها، وجعل القمر نورا والشمس سراجا، لأن ضوء السراج أقوى من النور، فإن السراج هو الذي يضيء فيبصر به والنور قد يكون أقل من ذلك. وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً هذا عبارة عن إنشائهم من تراب الأرض، ونباتا مصدر على غير المصدر أو يكون تقديره: أنبتكم فنبتم إنباتا، ويحتمل أن يكون منصوبا على الحال ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها يعني بالدفن وَيُخْرِجُكُمْ إِخْراجاً يعني بالبعث من القبور وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِساطاً شبه الأرض بالبساط في امتدادها واستقرار الناس عليها، وأخذ بعضهم من لفظ البساط أن الأرض بسيطة غير كروية، خلافا لما ذهب إليه أهل التعديل وفي ذلك نظر سُبُلًا فِجاجاً ذكر في الأنبياء [31] وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَساراً يعني اتبعوا أغنياءهم وكبراءهم وقرئ ولده بفتحتين «1» وولد بضم الواو وسكون اللام وهما بمعنى واحد وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً الكبّار بالتشديد أبلغ من الكبار بالتخفيف، والكبار بالتخفيف أبلغ من الكبير. وَقالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ أي وصى بعضهم بعضا بذلك وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُواعاً هذه أسماء أصنامهم، كان قوم نوح يعبدونها، وروي أنها أسماء رجال صالحين كانوا في صدر الدنيا، فلما ماتوا صوّرهم أهل ذلك العصر من حجارة، وقالوا: ننظر إليها لنتذكر أعمالهم الصالحة، فهلك ذلك الجيل وكثر تعظيمهم من بعدهم لتلك الصور، حتى عبدوها من دون الله، ثم انتقلت تلك الأصنام بأعيانها وقيل بل الأسماء فقط إلى قبائل العرب، فكان ودّا لكلب بدومة الجندل، وكان سواع لهذيل، وكان يغوث لمراد وكان يعوق لهمدان، وكان نسرا لذي الكلاع من حمير. وقرئ ودا بفتح الواو وضمها ودا «2» وهما

_ (1) . قرأ نافع وابن عامر وعاصم: وولده. وقرأ الباقون: وولده. وهما لغتان. (2) . قرأ نافع ودا بضم الواو. والباقون بفتحها.

لغتان وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً الضمير للرؤساء من قوم نوح، والمعنى أضلوا كثيرا من أتباعهم، وهذا من كلام نوح عليه السلام، وكذلك لا تزد الظالمين إلا ضلالا من كلامه، وهو دعاء عليهم. وقال الزمخشري: إنه معطوف على قوله: رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي والتقدير: قال رب إنهم عصوني وقال: «لا تزد الظالمين إلا ضلالا» مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا «1» هذا من كلام الله إخبارا عن أمرهم، وما زائدة للتأكيد وإنما قدم هذا المجرور للتأكيد أيضا ليبين أن إغراقهم وإدخالهم النار، إنما كان بسبب خطاياهم وهي الكفر وسائر المعاصي فَأُدْخِلُوا ناراً يعني جهنم. وعبّر عن ذلك بالفعل الماضي لأن الأمر محقق، وقيل: أراد عرضهم على النار وعبر عنه بالإدخال. وَقالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً ديّارا من الأسماء المستعملة في النفي العام، يقال: ما في الدار ديار، أي ما فيها أحد، ووزنه فيعال وكان أصله ديوار ثم قبلت الواو ياء وأدغمت في الياء، وليس وزنه فعال لأنه لو كان كذلك لقيل: دوار لأنه مشتق من الدور أو من الدار، وروي أن نوحا عليه السلام لم يدع على قومه بهذا الدعاء إلا بعد أن يئس من إيمانهم، وبعد أن أخرج الله كل مؤمن من أصلابهم رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ يؤخذ من هذا أن سنة الدعاء أن يقدم الإنسان الدعاء لنفسه على الدعاء لغيره، وكان والدا نوح عليه السلام مؤمنين قال ابن عباس: لم يكن لنوح أب كافر ما بينه وبين آدم عليهما السلام واسم والد نوح لمك بن متوشلخ وأمه شمخا بنت أنوش، حكاه الزمخشري وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً قيل: بيته المسجد، وقيل السفينة. وقيل شريعته سماها بيتا استعارة وهذا بعيد وقيل: داره وهذا أرجح لأنه الحقيقة وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ هذا دعاء بالمغفرة لكل مؤمن ومؤمنة على العموم، وفيه دليل على جواز ذلك خلافا لمن قال من المتأخرين: إنه لا يجوز الدعاء بالمغفرة لجميع المؤمنين على العموم، وهذا خطأ وتضييق لرحمة الله الواسعة، قال بعض العلماء: إن الإله الذي استجاب لنوح عليه السلام فأغرق بدعوته جميع أهل الأرض الكفار حقيق أن يستجيب له فيرحم بدعوته جميع المؤمنين والمؤمنات تَباراً أي هلاكا والله أعلم.

_ (1) . قرأ أبو عمرو: خطاياهم. والباقون: خطيئاتهم.

سورة الجن

سورة الجن مكية وآياتها 28 نزلت بعد الأعراف بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (سورة الجن) قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ تقدمت في الأحقاف [29] قصة هؤلاء الجن الذين استمعوا القرآن من النبي صلى الله عليه وسلم وأسلموا فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً أي قال ذلك بعضهم لبعض، وعجبا مصدر وصف به للمبالغة لأن العجب مصدر قولك: عجبت عجبا وقيل: هو على حذف مضاف تقديره ذا عجب وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا جدّ الله: جلاله وعظمته وقيل: معناه من قولك: فلان مجدود إذا استغنى، وقرئ أنه في هذا الموضع بفتح الهمزة وقرأ نافع بكسرها وكذلك فيما بعده إلى قوله: وأنا منا المسلمون. فأما الكسر فاستئناف أو عطف على إنا سمعنا، لكنه كسر في معمول القول، فيكون ما عطف عليه من قول الجن، وأما الفتح فقيل: إنه عطف على قوله: أنه استمع نفر وهذا خطأ من طريق المعنى لأن قوله: استمع نفر في موضع معمول أوحي، فيلزم أن يكون المعطوف عليه مما أوحي وأن لا يكون من كلام الجن. وقيل: إنه معطوف على الضمير المجرور في قوله: آمنا به وهذا ضعيف، لأن الضمير المجرور لا يعطف عليه إلا بإعادة الخافض. وقال الزمخشري: هو معطوف على محل الجار والمجرور في آمنا به كأنه قال: صدقناه وصدقنا أنه تعالى جد ربنا، وكذلك ما بعده ولا خلاف في فتح ثلاث مواضع هي: أنه استمع، وأن لو استقاموا، وأن المساجد لله لأن ذلك مما أوحي لا من كلام الجن وَأَنَّهُ كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا عَلَى اللَّهِ شَطَطاً «1» هذا من كلام الجن، وسفيههم أبوهم إبليس، وقيل: هو اسم جنس لكل سفيه منهم، واختار ذلك ابن عطية، والشطط: التعدي ومجاوزة الحد وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِباً «2» أي ظننا أن الأقوال التي كان الإنس والجن يقولونها على الله صادقة وليست بكذب لأنا ظننا أنه لا يكذب أحد على الله. وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ «3» تفسير هذا ما روي أن

_ (1) . الكلمات: وأنه وأنا وأنه: جميعها تقرأ مكسورة الهمزة عند نافع: وإنه وإنا وإنه. (2) . الكلمات: وأنه وأنا وأنه: جميعها تقرأ مكسورة الهمزة عند نافع: وإنه وإنا وإنه. (3) . الكلمات: وأنه وأنا وأنه: جميعها تقرأ مكسورة الهمزة عند نافع: وإنه وإنا وإنه.

العرب كانوا إذا حل أحد منهم بواد صاح بأعلى صوته: يا عزيز هذا الوادي إني أعوذ بك من السفهاء الذين في طاعتك، ويعتقد أن ذلك الجن الذي بالوادي يحميه فَزادُوهُمْ رَهَقاً ضمير الفاعل للجن، وضمير المفعول للإنس، والمعنى: أن الجن زادوا الإنس ضلالا وإثما لما عاذوا بهم، أو زادوهم تخويفا لما رأوا ضعف عقولهم، وقيل: ضمير الفاعل للإنس، وضمير المفعول للجن: والمعنى أن الإنس زادوا الجن تكبرا وطغيانا لما عاذوا بهم، حتى كان الجن يقول: أنا سيد الجن والإنس وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَما ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَداً «1» الضمير في ظنوا لكفار الإنس، وظننتم خطاب الجن بعضهم لبعض، فالمعنى أن كفار الإنس والجن ظنوا أن لن يبعث الله أحدا، والبعث هنا يحتمل أن يريد به بعث الرسل أو البعث من القبور وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً «2» هذا إخبار عن ما حدث عند مبعث النبي صلى الله عليه وسلم من منع الجن من استراق السمع من السماء ورجمهم، واللمس المس، واستعير هنا للطلب، والحرس اسم مفرد في معنى الحراس كالخدم في معنى الخدام، ولذلك وصف بشديد وهو مفرد، ويحتمل أن يريد به الملائكة الحراس، أو النجوم الحارسة، وكرر الشهب لاختلاف اللفظ وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ «3» المقاعد جمع مقعد، وقد فسر رسول الله صلى الله عليه وسلم صورة قعود الجن أنهم كانوا واحدا فوق واحد، فمتى أحرق الأعلى طلع الذي تحته مكانه، فكانوا يسترقون الكلمة فيلقونها إلى الكهان ويزيدون معها، ثم يزيد الكهان للكلمة مائة كذبة، فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً الرصد اسم جمع للراصد، كالحراس للحارس وقال ابن عطية: هو مصدر وصف به ومعناه منتظر قال بعضهم: إن رمي الجن بالنجوم إنما حدث بعد مبعث النبي صلى الله عليه وسلم واختار ابن عطية والزمخشري أنه كان قبل المبعث قليلا، ثم زاد بعد المبعث وكثر حتى منع الجن من استراق السمع بالكلية، والدليل أنه كان قبل المبعث قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه وقد رأى كوكبا انقض: ما كنتم تقولون لهذا في الجاهلية؟ قالوا كنا نقول ولد ملك أو مات ملك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ليس الأمر كذلك، ثم وصف استراق الجن للسمع وقد ذكر شعراء الجاهلية ذلك في أشعارهم. وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ «4» الآية: قال ابن عطية معناه لا ندري أيؤمن الناس بهذا النبي فيرشدوا، أو يكفرون به فينزل بهم الشر؟ وقال الزمخشري: معناه لا ندري هل أراد الله بأهل الأرض خيرا أو شرا من عذاب أو رحمة أو من خذلان أو من توفيق؟ وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ «5» أي منا قوم دون ذلك فحذف الموصوف وأراد به الذين ليس صلاحهم كاملا، أو الذين ليس لهم صلاح، فإن دون قد تكون بمعنى أقل أو

_ (1) . الكلمات في أوائل الآيات: وأنهم وأنا، وأنا، وأنا وأنا، وأنا: كلها قرأ بها نافع بالكسر. والآية [14] أيضا: وأنا من المسلمون. (2) . الكلمات في أوائل الآيات: وأنهم وأنا، وأنا، وأنا وأنا، وأنا: كلها قرأ بها نافع بالكسر. والآية [14] أيضا: وأنا من المسلمون. (3) . الكلمات في أوائل الآيات: وأنهم وأنا، وأنا، وأنا وأنا، وأنا: كلها قرأ بها نافع بالكسر. والآية [14] أيضا: وأنا من المسلمون. (4) . الكلمات في أوائل الآيات: وأنهم وأنا، وأنا، وأنا وأنا، وأنا: كلها قرأ بها نافع بالكسر. والآية [14] أيضا: وأنا من المسلمون. (5) . الكلمات في أوائل الآيات: وأنهم وأنا، وأنا، وأنا وأنا، وأنا: كلها قرأ بها نافع بالكسر. والآية [14] أيضا: وأنا من المسلمون. [.....]

[سورة الجن (72) : الآيات 12 إلى 18]

بمعنى غير كُنَّا طَرائِقَ قِدَداً الطرائق: المذاهب والسير وشبهها، والقدد المختلفة وهو جمع قدة. وهذا بيان للقسمة المذكورة قبل، وهو على حذف مضاف أي كنا ذوي طرائق وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ الظن هنا بمعنى العلم، وقال ابن عطية: هذا إخبار منهم عن حالهم بعد إيمانهم، ويحتمل أن يكونوا اعتقدوا هذا الاعتقاد قبل إسلامهم سَمِعْنَا الْهُدى يعنون القرآن فَلا يَخافُ بَخْساً وَلا رَهَقاً البخس النقص والظلم، والرهق تحمل ما لا يطاق، وقال ابن عباس: البخس نقص الحسنات، والرهق الزيادة في السيئات. وَمِنَّا الْقاسِطُونَ يعني الظالمين: يقال قسط الرجل إذا جار، وأقسط بالألف إذا عدل. هاهنا انتهى ما حكاه الله من كلام الجن، وأما قوله: فمن أسلم فأولئك تحروا رشدا يحتمل أن يكون من بقية كلامهم. أو يكون ابتداء كلام الله تعالى وهو الذي اختاره ابن عطية، وأما قوله: وأن لو استقاموا فهو من كلام الله باتفاق وليس من كلامهم تَحَرَّوْا أي قصدوا الرشد وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً الماء الغدق الكثير وذلك استعارة في توسيع الرزق، والطريقة هي طريقة الإسلام وطاعة الله، فالمعنى لو استقاموا على ذلك لوسع الله أرزاقهم فهو كقوله: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ [الأعراف: 96] وقيل: هي طريقة الكفر، والمعنى على هذا: لو استقاموا على الكفر لوسع الله عليهم في الدنيا أملاكهم استدراجا، ويؤيد هذا قوله لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ والأول أظهر، والضمير في استقاموا يحتمل أن يكون للمسلمين أو للقاسطين المذكورين، أو لجميع الجن أو للجن الذين سمعوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو لجميع الخلق لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ إن كانت الطريقة الإيمان والطاعة، فمعنى الفتنة الاختبار هل يسلمون أم لا؟ وإن كانت الطريقة الكفر فمعنى الفتنة الإضلال والاستدراج نسلكه عذابا صعدا «1» معنى نسلكه ندخله والصعد الشديد المشقة، وهو مصدر صعد يصعد، ووصف بالمصدر للمبالغة يقال: فلان في صعد أي في مشقة. وقيل: صعدا جبل في النار. وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ أراد المساجد على الإطلاق وهي بيوت عبادة الله، وروي أن الآية نزلت بسبب تغلب قريش على الكعبة، وقيل: أراد الأعضاء التي يسجد عليها، واحدها مسجد بفتح الجيم وهذا بعيد، وعطف أن المساجد لله على أوحي إليّ أنه استمع وقال الخليل: معنى الآية: لأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا، أي لهذا السبب فلا تعبدوا غير الله.

_ (1) . قرأ نافع وآخرون بالنون: نسلكه، وقرأ عاصم وحمزة والكسائي: يسلكه بالياء.

[سورة الجن (72) : الآيات 19 إلى 25]

وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ «1» عبد الله هنا محمد صلى الله عليه وسلم ووصفه بالعبودية اختصاصا له وتقريبا وتشريفا وقال الزمخشري: أنه سماه هنا عبد الله ولم يقل الرسول أو النبي؟ لأن هذا واقع في كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نفسه، لأنه مما أوحى إليه فذكر صلى الله عليه وسلم نفسه على ما يقتضيه التواضع والتذلل، وهذا الذي قاله بعيد مع أنه إنما يمكن على قراءة أنه لما قام بفتح الهمزة فيكون عطفا على أوحي إلي أنه استمع وأما على القراءة بالكسر على الاستئناف فيكون إخبارا من الله، أو من جملة كلام الجن فيبطل ما قاله كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً «2» اللبد الجماعات واحدها لبدة، والضمير في كادوا يحتمل أن يكون للكفار من الناس، أي كادوا يجتمعون على الردّ عليه وإبطال أمره، أو يكون للجن الذين استمعوا، أي كادوا يجتمعون عليه لاستماع القرآن والبركة به «3» مُلْتَحَداً أي ملجأ إِلَّا بَلاغاً بدل من ملتحدا أي لا أجد ملجأ إلا بلاغ الرسالة، ويحتمل أن يكون استثناء منقطعا مِنَ اللَّهِ قال الزمخشري: هذا الجار والمجرور ليس بصلة البلاغ إنما هو بمعنى بلاغا كائنا من الله، ويحتمل عندي أن يكون متعلقا ببلاغا والمعنى بلاغ من الله وَرِسالاتِهِ قال الزمخشري: إنه معطوف على بلاغا كأنه قال: إلا التبليغ والرسالة، ويحتمل أن يكون ورسالاته معطوفا على اسم الله. وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً جمع خالدين على معنى من يعص لأنه في معنى الجمع، والآية في الكفار، وحملها المعتزلة على عصاة المؤمنين لأن مذهبهم خلودهم في النار. والدليل على أنها في الكفار وجهان: أحدهما أنها مكية والسورة المكية إنما الكلام فيها مع الكفار. والآخر دلالة ما قبلها وما بعدها على أن المراد بها الكفار حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ تعلقت حتى بقوله يكونون عليه لبدا وجعلت غاية لذلك. والمعنى: أنهم يكفرون ويتظاهرون عليه حتى إذا رأوا ما يوعدون قال ذلك الزمخشري وقال أيضا: يجوز أن يتعلق بمحذوف يدل على المعنى كأنه قيل: لا يزالون على ما هم عليه من الكفر حتى إذا رأوا ما يوعدون، وهذا أظهر قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ ما تُوعَدُونَ إن هنا نافية. والمعنى قل: لا أدري أقريب ما توعدون أم بعيد وعبر عن بعده بقوله: أم يجعل له ربي أمدا ويعني بما توعدون قتلهم يوم بدر، أو يوم القيامة.

_ (1) . وأنه قرأ نافع بفتح الهمزة كالجميع ما عدا ابن كثير وأبو عمرو. (2) . قرأ هشام فقط: لبدا بضم اللام والباقون بكسرها. (3) . الآية [20] وأوّلها: قُلْ إِنَّما أَدْعُوا رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً قرأ عاصم وحمزة: قل على الأمر والباقون، قال على الخبر.

[سورة الجن (72) : الآيات 26 إلى 28]

فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ أي لا يطلع أحدا على علم الغيب إلا من ارتضى، وهم الرسل فإنه يطلعهم على ما شاء من ذلك. ومن في قوله: من رسول لبيان الجنس لا للتبعيض، والرسل هنا يحتمل أن يراد بهم الرسل من الملائكة وعلى هذا حملها ابن عطية، أو الرسل من بني آدم، وعلى هذا حملها الزمخشري. واستدل بها على نفي كرامات الأولياء الذين يدعون المكاشفات، فإن الله خص الاطلاع على الغيب بالرسل دون غيرهم. وفيها أيضا دليل على إبطال الكهانة والتنجيم وسائر الوجوه التي يدعي أهلها الاطلاع على الغيب لأنهم ليسوا من الرسل فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً المعنى أن الله يسلك من بين يدي الرسل ومن خلفه ملائكة يكونون رصدا يحفظونه من الشياطين، وقد ذكرنا رصدا في هذه السورة قال بعضهم: ما بعث الله رسولا إلا ومعه ملائكة يحرسونه حتى يبلغ رسالة ربه لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ في الفاعل بيعلم ثلاثة أقوال: الأول أي ليعلم الله أن الرسل قد بلغوا رسالات ربهم أي يعلمه موجودا وقد كان علم ذلك قبل كونه. الثاني ليعلم محمد أن الملائكة الرصد أبلغوا رسالات ربهم. الثالث ليعلم من كفر أن الرسل قد بلغوا الرسالة والأول أظهر وجمع الضمير في أبلغوا وفي ربهم حملا على المعنى، لأن من ارتضى من رسول يراد به جماعة وَأَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ أي أحاط الله بما عند الرسل من العلوم والشرائع، وهذه الجملة معطوفة على قوله: ليعلم لأن معناه أنه قد علم قال ذلك ابن عطية ويحتمل أن تكون هذه الجملة في موضع الحال وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً هذا عموم في جميع الأشياء وعددا منصوب على الحال أو تمييز أو مصدر من معنى أحصى.

سورة المزمل

سورة المزمل مكية إلا الآيات 10 و 11 و 20 فمدنية وآياتها 20 نزلت بعد القلم بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (سورة المزمل) يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ نداء للنبي صلى الله عليه وسلم، ووزن المزمل متفعل فأصله متزمل. ثم سكنت التاء وأدغمت في الزاي وفي تسمية النبي صلى الله عليه وسلم بالمزمل ثلاثة أقول أحدها أنه كان في وقت نزول الآية متزملا في كساء أو لحاف، والتزمل الالتفاف في الثياب بضم وتشمير هذا قول عائشة والجمهور، والثاني أنه كان قد تزمل في ثيابه للصلاة، الثالث أن معناه المتزمل للنبوّة أي المتشمر، المجدّ في أمرها والأول هو الصحيح لما ورد في البخاري ومسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما جاءه الملك وهو في غار حراء في ابتداء الوحي رجع صلى الله عليه وسلم إلى خديجة ترعد فرائصه فقال: زملوني زملوني فنزلت يا أيها المدثر، وعلى هذا نزلت يا أيها المزمل فالمزمل على هذا تزمله من أجل الرعب الذي أصابه أول ما جاءه جبريل. وقال الزمخشري: كان نائما في قطيفة فنودي: يا أيها المزمل، ليبين الله الحالة التي كان عليها من التزمل في القطيفة، لأنه سبب للنوم الثقيل المانع من قيام الليل. وهذا القول بعيد غير سديد. وقال السهيلي في ندائه بالمزمل فائدتان: إحداهما الملاطفة فإن العرب إذا قصدت ملاطفة المخاطب نادوه باسم مشتق من حالته التي هو عليها، كقول النبي صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم لعلي: قم أبا تراب، والفائدة الثانية التنبيه لكل متزمل راقد بالليل ليتنبه إلى ذكر الله، لأن الاسم المشتق من الفعل يشترك فيه المخاطب وكل من اتصف بتلك الصفة قُمِ اللَّيْلَ هذا الأمر بقيام الليل اختلف هل هو واجب أو مندوب، فعلى القول بالندب فهو ثابت غير منسوخ، وأما على القول بالوجوب ففيه ثلاثة أقوال: أحدها أنه فرض على النبي صلى الله عليه وسلم وحده، ولم يزل فرضا عليه حتى توفي، الثاني أنه فرض عليه وعلى أمته فقاموا حتى انتفخت أقدامهم، ثم نسخ بقوله في آخر السورة: إن ربك يعلم أنك تقوم الآية: وصار تطوعا، هذا قول عائشة رضي الله عنها وهو الصحيح، واختلف كم بقي فرضا فقالت عائشة عاما وقيل: ثمانية أشهر وقيل: عشرة أعوام فالآية الناسخة على هذا مدنية، الثالث أنه فرض عليه صلى الله عليه وسلم وعلى أمته وهو ثابت غير منسوخ، ولكن ليس الليل كله إلا ما تيسر منه، وهو مذهب الحسن وابن سيرين إِلَّا قَلِيلًا نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا أَوْ زِدْ عَلَيْهِ

[سورة المزمل (73) : الآيات 5 إلى 6]

في معنى هذا الكلام أربعة أقوال: الأول وهو الأشهر والأظهر أن الاستثناء من الليل، وقوله نصفه بدل من الليل أو من قليلا، وجعل النصف قليلا بالنسبة إلى الجميع والضميران في قوله: أو انقص منه، أو زد عليه: عائدان على النصف. والمعنى أن الله خيّره بين ثلاثة أحوال: وهو أن يقوم نصف الليل، أو ينقص من النصف قليلا أو يزد عليه. الثاني: قال الزمخشري: إلا قليلا استثناء من النصف كأنه قال: نصف الليل إلا قليلا. فخيّره على هذا بين حالتين وهما أن يقوم أقل من النصف أو أكثر منه وهذا ضعيف، لأن قوله أو انقص منه قليلا تضمن معنى النقص من النصف فلا فائدة زائدة في استثناء القليل من النصف، القول الثالث قاله الزمخشري أيضا: يجوز أن يريد بقوله أو انقص منه قليلا نصف النصف وهو الربع ويكون الضمير في قوله أو زد عليه يعود على ذلك، أي زد على الربع فيكون ثلثا فيكون التخيير على هذا بين قيام النصف أو الثلث أو الربع، وهذا أيضا بعيد، القول الرابع قاله ابن عطية: يحتمل أن يكون معنى إلا قليلا الليالي التي يمنعه العذر من القيام فيها، والمراد بالليل على هذا: الليالي، فهو جنس. وهذا بعيد، لأنه قد فسر هذا القليل المستثنى بما بعد ذلك من نصف الليل أو النقص منه أو الزيادة عليه، فدل ذلك على أن المراد بالليل المستثنى بعض أجزاء الليل، لا بعض الليالي، إن قيل: لم قيد النقص من النصف بالقلة. فقال: أو انقص منه قليلا وأطلق في الزيادة فقال: أو زد عليه ولم يقل قليلا؟ فالجواب: أن الزيادة تحسن فيها الكثرة فلذلك لم يقيدها بالقلة بخلاف النقص، فإنه لو أطلقه لاحتمل أن ينقص من النصف كثيرا. وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا الترتيل هو التمهل والمد وإشباع الحركات وبيان الحروف، وذلك معين على التفكر في معاني القرآن، بخلاف الهذر الذي لا يفقه صاحبه ما يقول، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقطّع قراءته حرفا حرفا ولا يمرّ بآية رحمة إلا وقف وسأل، ولا يمرّ بآية عذاب إلا وقف وتعوّذ إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا هذه الآية اعتراض بين آية قيام الليل، والقول الثقيل هو القرآن واختلف في وصفه بالثقل على خمسة أقوال أحدها: أنه سمى ثقيلا لما كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يلقاه من الشدة عند نزول الوحي عليه، حتى إن جبينه ليتفصّد عرقا في اليوم الشديد البرد، وقد كان يثقل جسمه عليه الصلاة والسلام بذلك حتى إنه إذا أوحي إليه وهو على ناقته بركت به، وأوحي إليه وفخذه على فخذ زيد بن ثابت فكادت أن ترض فخذ زيد، والثقل على هذا حقيقة، الثاني أنه ثقيل على الكفار بإعجازه ووعيده، الثالث أنه ثقيل في الميزان، الرابع أنه كلام له وزن ورجحان، الخامس أنه ثقيل لما تضمن من التكاليف والأوامر والنواهي، وهذا اختيار ابن عطية. وعلى هذا يناسب الاعتراض بهذه الآية، قيام الليل لمشقته. إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ في الناشئة سبعة أقوال: الأول أنه النفس الناشئة بالليل، أي التي

[سورة المزمل (73) : الآيات 7 إلى 15]

تنشأ من مضجعها وتقوم للصلاة، الثاني الجماعات الناشئة الذين يقومون للصلاة، الثالث العبادة الناشئة بالليل أي تحدث فيه، الرابع الناشئة القيام بعد النوم فمن قام أول الليل قبل أن ينام فلم يقم ناشئة، الخامس الناشئة القيام أول الليل بعد العشاء، السادس الناشئة بعد المغرب والعشاء، السابع ناشئة الليل ساعاته كلها هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً يحتمل معنيين أحدهما: أثقل وأصعب على المصلي ومنه قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: اللهم اشدد وطأتك على مضر «1» ، والأثقل أعظم أجرا، فالمعنى تحريض على قيام الليل لكثرة الأجر. الثاني أشدّ ثبوتا من أجل الخلوة وحضور الذهن والبعد عن الناس، ويقرب هذا من معنى أقوم قيلا وقرأ أبو عمرو وابن عامر وطاء بكسر الواو على وزن فعال ومعناه موافقة. أي يوافق القلب اللسان بحضور الذهن إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلًا السبح هنا عبارة عن التصرف في الاشتغال، والمعنى: يكفيك النهار للتصرف في أشغالك وتفرغ بالليل لعبادة ربك، وقيل: المعنى إن فاتك شيء من صلاة الليل فأدّه بالنهار فإنه طويل يسع ذلك وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ قيل: معناه قل: بسم الله الرحمن الرحيم في أول صلاتك. واللفظ أعم من ذلك وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا أي انقطع إليه بالعبادة والتوكل عليه وحده. وقيل: التبتل رفض الدنيا. وتبتيلا مصدر على غير قياس فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا الوكيل هو القائم بالأمور والذي توكل إليه الأشياء، فهو أمر بالتوكل على الله. وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ أي على ما يقول الكفار. والآية منسوخة بالسيف وقيل: إنما المنسوخ المهادنة التي يقتضيها قوله: اهجرهم هجرا جميلا وأما الصبر فمأمور به في كل وقت وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ هذا تهديد لهم وانتصب المكذبين على أنه مفعول معه أو معطوف أُولِي النَّعْمَةِ أي التنعم في الدنيا، وروي أن الآية نزلت في بني المغيرة وهم قوم من قريش كانوا متنعمين في الدنيا أَنْكالًا جمع نكل وهو القيد من الحديد. روي أنها قيود سود من نار وَطَعاماً ذا غُصَّةٍ شجرة الزقوم ومعنى ذا غصة: أي يغصّ به آكلوه وقيل: هو شوك يعترض في حلوقهم لا ينزل ولا يخرج، وروي أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قرأ هذه الآية فصعق يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ أي تهتز وتتزلزل والعامل في يوم معنى الكلام المتقدم وهو «إِنَّ لَدَيْنا أَنْكالًا» وَكانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً مَهِيلًا الكثيب كدس الرمل، والمهيل اللين الرخو، الذي تهيله الريح أي تنشره وزنه مفعول، والمعنى أن الجبال تصير إذا نسفت يوم القيامة مثل الكثيب إِنَّا أَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ رَسُولًا خطاب لجميع الناس، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث إلى الناس كافة، وقال الزمخشري: هو خطاب لأهل مكة

_ (1) . رواه البخاري في كتاب الجهاد والسير ج 3 ص 234 عن أبي هريرة.

[سورة المزمل (73) : الآيات 16 إلى 19]

شاهِداً عَلَيْكُمْ أي يشهد على أعمالكم من الكفر والإيمان والطاعة والمعصية، وإنما يشهد على من أدركه لقوله صلى الله عليه وسلم: أقول كما قال أخي عيسى وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ [المائدة: 117] كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولًا يعني موسى عليه السلام وهو المراد بقوله: فعصى فرعون الرسول فاللام للعهد أَخْذاً وَبِيلًا أي عظيما شديدا. يَوْماً مفعول به، وناصبه تتقون أي: كيف تتقون يوم القيامة وأهواله إن كفرتم وقيل: هو مفعول به على أن يكون كفرتم بمعنى جحدتم، وقيل، هو ظرف أي كيف لكم بالتقوى يوم القيامة، ويحتمل أن يكون العامل فيه محذوف تقديره: اذكروا قوله السماء منفطر به يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً الولدان جمع وليد وهو الطفل الصغير، والشيب بكسر الشين جمع أشيب ووزنه فعل بضم الفاء وكسرت لأجل الياء، ويجعل يحتمل أن يكون مسندا إلى الله تعالى أو إلى اليوم، والمعنى أن الأطفال يشيبون يوم القيامة، فقيل: إن ذلك حقيقة، وقيل: إنه عبارة عن هول ذلك اليوم، وقيل: إنه عبارة عن طوله السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ الانفطار: الانشقاق، والضمير المجرور يعود على اليوم أي: تتفطر السماء لشدة هوله ويحتمل أن يعود على الله أي تنفطر بأمره وقدرته والأول أظهر، والسماء مؤنثة. وجاء منفطر بالتذكير لأن تأنيثها غير حقيقة أو على الإضافة تقديره: ذات انفطار أو لأنه أراد السقف كانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا الضمير في وعده يحتمل أن يعود على اليوم أو على الله والأول أظهر لأنه ملفوظ به إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ الإشارة إلى ما تقدم من المواعظ والوعيد فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا يريد سبيل التقرب إلى الله، ومعنى الكلام حض على ذلك وترغيب فيه. إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ هذه الآية نزلت ناسخة لما أمر به في أول السورة من قيام الليل، ومعناها أن الله يعلم أنك ومن معك من المسلمين تقومون قياما مختلفا، مرة يكثر ومرة يقل، لأنكم لا تقدرون على إحصاء أوقات الليل وضبطها، فإنه لا يقدر على ذلك إلا الله فخفف عنكم وأمركم أن تقرأوا ما تيسر من القرآن وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ من قرأها بالخفض [مثل نافع وابن عامر وأبو عمرو] فهو عطف على ثلثي الليل، أي تقوم أقل من ثلثي الليل وأقل من نصفه وثلثه، ومن قرأ بالنصب [باقي القراء] فهو عطف على أدنى أي تقوم أدنى من ثلثي الليل وتقوم نصفه تارة وثلثه تارة وَطائِفَةٌ يعني المسلمين وهو معطوف على الضمير الفاعل في تقوم عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ الضمير يعود على ما يفهم من سياق الكلام، أي لن تحصوا تقدير الليل، وقيل: معناه لن تطيقوه أي: لن تطيقوا

قيام الليل كله فَتابَ عَلَيْكُمْ عبارة عن التخفيف كقوله: فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ [المجادلة: 13] فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ أي إذا لم تقدروا على قيام الليل كله، فقوموا بعضه، واقرءوا في صلاتكم بالليل ما تيسر من القرآن، وهذا الأمر للندب، وقال ابن عطية: هو للإباحة عند الجمهور. وقال قوم منهم الحسن وابن سيرين: هو فرض لا بد منه ولو أقل ما يمكن، حتى قال بعضهم: من صلى الوتر فقد امتثل هذا الأمر، وقيل: كان فرضا ثم نسخ بالصلوات الخمس، وقال بعضهم: هو فرض على أهل القرآن دون غيرهم عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى ذكر الله في هذه الآية الأعذار التي تكون لبني آدم تمنعهم من قيام الليل فمنها المرض ومنها السفر للتجارة وهي الضرب في الأرض لابتغاء فضل الله ومنها الجهاد ثم كرر الأمر بقراءة ما تيسر، تأكيدا للأمر به أو تأكيدا للتخفيف وهذا أظهر لأنه ذكره بأثر الأعذار وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ يعني المكتوبتين وَأَقْرِضُوا اللَّهَ معناه تصدقوا، وقد ذكر في البقرة [245] هُوَ خَيْراً نصب خيرا لأنه مفعول ثان لتجدوه والضمير فصل وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ قال بعض العلماء إن الاستغفار بعد الصلاة مستنبط من هذه الآية وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سلم من صلاته استغفر ثلاثا.

سورة المدثر

سورة المدثر مكية وآياتها 56 نزلت بعد المزمّل بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (سورة المدثر) يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ وزنه متفعل ومعناه الذي تدثر في كساء أو ثياب وتسميته بذلك كتسميته بالمزمل، حسبما ذكرنا في موضعه. وقال السهيلي: في ندائه بالمدثر ثلاثة فوائد: الاثنتان اللتان ذكرنا في المزمل وفائدة ثالثة وهي أن العرب يقولون: النذير العريان، للنذير الذي يكون في غاية الجد والتشمير، والنذير بالثياب ضد هذا، فكأنه تنبيه على ما يجب من التشمير، وقيل: إن هذه أول سورة نزلت من القرآن: والصحيح أن سورة اقرأ نزلت قبلها قُمْ فَأَنْذِرْ أي أنذر الناس وهذه بعثة عامة وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ أي عظّمه ويحتمل أن يريد قول: الله أكبر ويؤيد ذلك ما روي عن أبي هريرة أن المسلمين قالوا: بم نفتتح صلاتنا فنزلت: وربك فكبر وقوله: وربك فكبر: من المقلوب الذي يقرأ طردا وعكسا من أوله وآخره وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ فيه ثلاثة أقوال أحدها أنه حقيقة في تطهير الثياب من النجاسة واختلف في هذا هل يحمل على الوجوب، فتكون إزالة النجاسة واجبة أو على الندب فتكون سنة، والآخر أنه يراد به الطهارة من الذنوب والعيوب، فالثياب على هذا مجاز، الثالث: أن معناه لا تلبس الثياب من مكسب خبيث وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ «1» فيه ثلاثة أقوال، أحدها: أن الرجز الأوثان، روي ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو قول عائشة، والآخر أن الرجز السخط والعذاب وهذا أصله في اللغة، فمعناه اهجر ما يؤدي إليه ويوجبه، الثالث: أنه المعاصي والفجور، قال بعضهم كل معصية رجز وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ يحتمل قوله: تَمْنُنْ أن يكون بمعنى العطاء أو بمعنى المنّ وهو ذكر العطاء وشبهه، أو بمعنى الضعف فإن كان بمعنى العطاء ففيه وجهان، أحدهما: أن معناه لا تعط شيئا لتأخذ أكثر منه، قال بعضهم: هذا خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم ومباح لأمّته، والآخر: لا تعط الناس عطاء وتستكثره، لأن الكريم يستقل ما يعطي وإن كثيرا، وإن كان من المنّ بالشيء ففيه وجهان،

_ (1) . قرأ حفص والرّجز بضم الراء والباقون بكسر الراء.

[سورة المدثر (74) : الآيات 7 إلى 19]

الأول: لا تمنن على الناس بنبوتك تستكثر بأجر أو مكسب تطلبه، الثاني: لا تمنن على الله بعملك تستكثر أعمالك وتقع لك بها إعجاب، وإن كان من الضعف فمعناه لا تضعف عن تبليغ الرسالة وتستكثر ما حملناك من ذلك وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ أي اصبر لوجهه وطلب رضاه، ويحتمل أن يريد الصبر على المكاره والمصائب، أو على إذاية الكفار له، أو على العبادة فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ يعني نفخ في الصور، ويحتمل أن يريد النفخة الأولى والثانية. ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً هذا وعيد وتهديد، ونزلت الآية في الوليد بن المغيرة باتفاق، وفي معنى وَحِيداً ثلاثة أقوال: أحدها: روي أنه كان يلقب الوحيد، أي لا نظير له في ماله وشرفه، وكونه وحيدا نعمة عددها الله عليه، الثاني: أن معناه خلقته منفردا ذليلا، الثالث: أن معناه خلقته وحدي فوحيدا على هذا من صفة الله تعالى، وإعرابه على هذا حال من الضمير الفاعل في قوله خلقت وهو على القولين الأولين حال من الضمير المفعول وَجَعَلْتُ لَهُ مالًا مَمْدُوداً أي كثيرا، واختلف في مقداره فقيل: ألف دينار، وقيل عشرة آلاف دينار، وقيل: يعني الأرض لأنها مدت وَبَنِينَ شُهُوداً أي حضورا، وروي أنه كان له عشرة من الأولاد، وقيل: ثلاث عشرة لا يفارقونه. وأسلم منهم ثلاثة وهم: خالد وهشام وعمار وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً أي بسطت له في الدنيا بالمال والقوة وطيب العيش ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ أي يطمع في الزيادة على ما أعطاه الله، وهذا غاية الحرص كَلَّا زجر عما طمع فيه من الزيادة عَنِيداً أي معاندا مخالفا، والآيات هنا يراد بها القرآن لأن الوليد قال فيه: إنه سحر، ويحتمل أن يريد الدلائل سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً الصعود العقبة الصعبة، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنها عقبة في جهنم، كلما صعدها الإنسان ذاب ثم يعود، فالمعنى سأشق عليه بتكليفه الصعود فيها. إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ أي فكر فيما يقول، وقدر في نفسه ما يقول في القرآن أي: هيّأ كلامه، روي أن الوليد سمع القرآن فأعجبه وكاد يسلم، ودخل إلى أبي بكر الصديق فعاتبه أبو جهل، وقال له: إن قريشا قد أبغضتك لمقاربتك أمر محمد، وما يخلصك عندهم إلا أن تقول في كلام محمد قولا يرضيهم، فافتتن وقال: أفعل ذلك ثم فكر فيما يقول في القرآن فقال: أقول شعر ما هو شعر، أقول كهانة ما هو بكهانة، أقول إنه سحر وإنه قول البشر ليس منزلا من عند الله فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ دعاء عليه وذم، وكرره تأكيدا لذمه وتقبيح حاله، قال ابن عطية: ويحتمل أن يكون مقتضاه استحسان منزعه الأول حين أعجبه القرآن، فيكون قوله: قتل لا يراد به الدعاء عليه، وإنما هو كقولهم: قاتل الله فلانا ما أشجعه، يريدون التعجب من حاله واستعظام وصفه، وقال الزمخشري: يحتمل أن يكون ثناء عليه

[سورة المدثر (74) : الآيات 20 إلى 31]

على طريقة الاستهزاء أو حكاية لقول قريش تهكما بهم ثُمَّ نَظَرَ أي نظر في قوله ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ البسور هو تقطيب الوجه وهو أشد من العبوس، وفعل ذلك من حسده للنبي صلى الله عليه وسلم أي عبس في وجهه عليه الصلاة والسلام، أو عبس لما ضاقت عليه الحيل ولم يدر ما يقول ثُمَّ أَدْبَرَ أي أعرض عن الإسلام سِحْرٌ يُؤْثَرُ أي ينقل عمن تقدم وَما أَدْراكَ ما سَقَرُ تعظيم لها وتهويل لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ مبالغة في وصف عذابها، أي لا تدع غاية من العذاب إلا أذاقته إياها أو لا تبقي شيئا ألقي فيها إلا أهلكته وإذا أهلك لم تذره هالكا بل يعود للعذاب لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ معنى لوّاحة مغيّرة يقال: لوّحه السفر إذا غيره والبشر جمع بشرة وهي الجلدة، فالمعنى أنها تحرق الجلود وتسودها وقيل: لواحة من لاح إذا ظهر، والبشر الناس أي تلوح للناس، وقال الحسن: تلوح لهم من مسيرة خمسمائة عام. تِسْعَةَ عَشَرَ يعني الزبانية خزنة جهنم فقيل: هم تسعة عشر ملكا وقيل: تسعة عشر صفا من الملائكة والأول أشهر وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً سبب الآية أنه لما نزل عليها تسعة عشر قال أبو جهل: أيعجز عشرة منكم عن واحد من هؤلاء التسعة عشر أن يبطشوا به، فنزلت الآية ومعناها أنهم ملائكة لا طاقة لكم بهم وروي أن الواحد منهم يرمي بالجبل على الكفار وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا أي جعلناهم هذا العدد ليفتتن الكفار بذلك ويطمعوا أن يغلبوهم ويقولون ما قالوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ أي ليعلم أهل التوراة والإنجيل أن ما أخبر به محمد صلى الله عليه وسلم من عدد ملائكة النار حق لأنه موافق لما في كتبهم وَلا يَرْتابَ أي لا يشك الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْمُؤْمِنُونَ أن ما قاله محمد صلى الله عليه وسلم حق، فإن قيل: كيف نفى عنهم الشك بعد أن وصفهم باليقين والمعنى واحد، وهو تكرار؟ فالجواب أنه لما وصفهم باليقين نفى عنهم أن يشكوا فيما يستقبل بعد يقينهم الحاصل الآن، فكأنه وصفهم باليقين في الحال والاستقبال، وقال الزمخشري ذلك مبالغة وتأكيد وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ المرض عبارة عن الشك، وأكثر ما يطلق الذين في قلوبهم مرض على المنافقين. فإن قيل: هذه السورة مكية ولم يكن حينئذ منافقون وإنما حدث المنافقون بالمدينة، فالجواب من وجهين أحدهما أن معناه يقول المنافقون إذا حدثوا ففيه إخبار بالغيب، والآخر أن يريد من كان بمكة من أهل الشك. وقولهم: ماذا أراد الله بهذا مثلا: استبعاد لأن يكون هذا من عند الله وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ يحتمل القصد بهذا وجهين أحدهما وصف جنود الله بالكثرة أي: هم من كثرتهم لا يعلمهم إلا الله، والآخر رفع اعتراض الكفار

[سورة المدثر (74) : الآيات 32 إلى 48]

على التسعة عشر أي لا يعلم أعداد جنود الله إلا هو لأن منهم عددا قليلا ومنهم عددا قليلا ومنهم عددا كثيرا حسبما أراد الله وَما هِيَ إِلَّا ذِكْرى لِلْبَشَرِ الضمير لجهنم أو للآيات المتقدمة. كَلَّا ردع للكفار عن كفرهم، وقال الزمخشري: هي إنكار لأن تكون لهم ذكرى إذ أدبر «1» أي ولى وقرئ دبر بغير ألف والمعنى واحد. وقيل: معناه دبر الليل والنهار أي جاء في دبره وَالصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ أي أضاء، ومنه الإسفار بصلاة الصبح إِنَّها لَإِحْدَى الْكُبَرِ الضمير لجهنم، أو للآيات والنذارة أي هي من الأمور العظام، والكبر جمع كبرى وقال ابن عطية: جمع كبيرة والأول هو الصحيح نَذِيراً لِلْبَشَرِ تمييز أو حال من إحدى الكبر وقيل: النذير هنا الله، فالعامل فيه على هذا محذوف. وهذا ضعيف وقيل: هو حال من هذه السورة أي قم فأنذر نذيرا وهذا بعيد قال الزمخشري: هو من بدع التفاسير لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ التقديم عبارة عن تقديم سلوك طريق الهدى والتأخر ضده، ولمن شاء بدل من البشر أي هم متمكنون من التقدم والتأخر وقيل: معناه الوعيد كقوله: فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ [الكهف: 29] وعلى هذا أعرب الزمخشري أن يتقدم مبتدأ ولمن شاء خبره والأول أظهر رَهِينَةٌ قال ابن عطية الهاء في رهينة للمبالغة أو على تأنيث النفس. وقال الزمخشري: ليست بتأنيث رهين لأن فعيلا بمعنى مفعول يستوي فيه المذكر والمؤنث، وإنما هي بمعنى الرهن أي كل نفس رهن عند الله بعملها إِلَّا أَصْحابَ الْيَمِينِ أي أهل السعادة فإنهم فكوا رقابهم بأعمالهم الصالحة، كما فكّ الراهن رهنه بأداء الحق وقال علي بن أبي طالب: أصحاب اليمين هم الأطفال لأنهم لا أعمال لهم يرتهنون بها وقال ابن عباس: هم الملائكة يَتَساءَلُونَ عَنِ الْمُجْرِمِينَ أي يسأل بعضهم بعضا عن حال المجرمين الذين في النار ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ أي ما أدخلكم النار، وهذا خطاب للمجرمين يحتمل أن خاطبهم به المسلمون أو الملائكة فأجابوهم بقولهم: لم نك من المصلين وما بعده أي هذا الذي أوجب دخولهم النار، وإنما أخر التكذيب بيوم الدين تعظيما له لأنه أعظم جرائمهم نَخُوضُ الخوض هو كثرة الكلام بما لا ينبغي من الباطل وشبهه حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ هو الموت عند المفسرين وقال ابن عطية: إنما اليقين الذي أرادوا ما كانوا يكذبون في الدنيا، فيتيقنونه بعد الموت فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ إنما ذلك لأنهم كفار، وأجمع العلماء أنه لا يشفع أحد في الكفار، وجمع الشافعين دليل على

_ (1) . قرأ نافع وحمزة وحفص: والليل إذ أدبر. وقرأ الباقون: إذا دبر. وهما لغتان.

[سورة المدثر (74) : الآيات 49 إلى 56]

كثرتهم كما ورد في الآثار، تشفع الملائكة والأنبياء والعلماء والشهداء والصالحين فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ يعني كفار قريش كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ المستنفرة بفتح الفاء «1» التي استنفرها الفزع، وبالكسر بمعنى النافرة شبه الكفار بالحمر النافرة في جهلهم ونفورهم عن الإسلام ويعني حمر الوحش. فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ قال ابن عباس: القسورة الرماة وقال أيضا هو: الأسد، وقيل: أصوات الناس، وقيل: الرجال الشداد، وقيل: سواد أول الليل بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً المعنى: يطمع كل إنسان منهم أن ينزل عليه كتابا من الله، ومعنى منشرة: منشورة غير مطوية أي طرية كما كتبت لم تطو بعد، وذلك أنهم قالوا للرسول صلى الله عليه وسلم: لا نتبعك حتى تأتي كل واحد منا بكتاب من السماء فيه من رب العالمين إلى فلان بن فلان نؤمر باتباعك كَلَّا ردع عما أرادوه بَلْ لا يَخافُونَ الْآخِرَةَ أي هذه هي العلة والسبب في إعراضهم كَلَّا تأكيد للردع الأول أو ردع عن عدم خوفهم الآخرة إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ الضمير لما تقدم من الكلام أو للقرآن بجملته فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ «2» فاعل شاء ضمير يعود على من، وفي ذلك حض وترغيب وقيل: الفاعل هو الله ثم قيد فعل العبد بمشيئة الله هُوَ أَهْلُ التَّقْوى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ أي هو أهل لأن يتّقى لشدة عقابه، وهو أهل لأن يغفر الذنوب لكرمه وسعة رحمته وفضله.

_ (1) . قرأ نافع وابن عامر: مستنفرة بفتح الفاء وقرأ الباقون بكسر الفاء. (2) . وبقية الآية: وما يذكرون قرأ نافع: وما تذكرون بالتاء والباقون بالياء.

سورة القيامة

سورة القيامة مكية وآياتها 40 نزلت بعد القارعة بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (سورة القيامة) لا أُقْسِمُ في الموضعين معناه أقسم. ولا زائدة لتأكيد القسم، وقيل: هي استفتاح كلام بمنزلة ألا. وقيل: هي نفي لكلام الكفار بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ هي التي تلوم نفسها على فعل الذنوب، أو التقصير في الطاعات، فإن النفوس على ثلاثة أنواع فخيرها النفس المطمئنة وشرها النفس الأمارة بالسوء وبينهما النفس اللوامة، وقيل: اللوامة هي المذمومة الفاجرة، وهذا بعيد لأن الله لا يقسم إلا بما يعظم من المخلوقات، ويستقيم إن كان لا أقسم نفيا للقسم أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ الإنسان هنا للجنس، أو الإشارة به للكفار المنكرين للبعث، ومعناه أيظن أن لن نجمع عظامه للبعث بعد فنائها في التراب؟ وهذه الجملة هي التي تدل على جواب القسم المتقدم بَلى تقديره نجمعها قادِرِينَ منصوب على الحال من الضمير في نجمع، والتقدير: نجمعها ونحن قادرون عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ البنان الأصابع، وفي المعنى قولان: أحدهما أنه إخبار بالقدرة على البعث أي قادرين على أن نسوى أصابعه أي نخلقها بعد فنائها مستوية متقنة «1» ، وإنما خص الأصابع دون سائر الأعضاء لدقة عظامها وتفرقها، والآخر أنه تهديد في الدنيا، أي قادرين على أن نجعل أصابعه مستوية، ملتصقة كيد الحمار وخف الجمل، فلا يمكنه تصريف يديه في منافعه. والأول أليق بسياق الكلام بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ هذه الجملة معطوفة على أيحسب الإنسان، ويجوز أن يكون استفهاما مثلها أو تكون خبرا، وليست بل هنا للإضراب عن الكلام الأول بمعنى إبطاله وإنما هي للخروج منه إلى ما بعده، وليفجر: معناه ليفعل أفعال الفجور، وفي معنى أمامه ثلاثة أقوال: أحدها أنه عبارة عما يستقبل من

_ (1) . رؤوس الأصابع اكتشف حديثا ما في خلقها من أعجاز وهو عدم تشابه الخطوط التي على رأس كل إصبع فالبصمات لكل إنسان تختلف عن غيره

[سورة القيامة (75) : الآيات 6 إلى 16]

الزمان، أي يفجر بقية عمره الثاني أنه عبارة عن اتباع أغراضه وشهواته، يقال: مشى فلان قدامه إذا لم يرجع عن شيء يريده، والضمير على هذين القولين يعود على الإنسان، الثالث أن الضمير يعود على يوم القيامة. والمعنى يريد الإنسان أن يفجر قبل يوم القيامة. يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ أيان معناها متى وهذا السؤال على يوم القيامة هو على وجه الاستخفاف والاستعداد بَرِقَ الْبَصَرُ هذا إخبار عن يوم القيامة، وقيل: عن حالة الموت وهذا خطأ لأن القمر لا يخسف عند موت أحد، ولا يجمع بينه وبين الشمس وبرق «1» بفتح الراء معناه لمع وصار له برق وقرئ بكسر الراء ومعناه تحيّر من الفزع، وقيل: معناه شخص فيتقارب معنى الفتح والكسر وَخَسَفَ الْقَمَرُ ذهب ضوؤه، يقال: خسف هو وخسفه الله والخسوف للقمر والكسوف للشمس، وقيل: الكسوف ذهاب بعض الضوء، والخسوف: ذهاب جميعه، وقيل: بمعنى واحد وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ في جمعهما ثلاثة أقوال: أحدها أنهما يجمعان حيث يطلعهما الله من المغرب، والآخر أنهما يجمعان يوم القيامة، ثم يقذفان في النار، وقيل: في البحر، فتكون النار الكبرى. الثالث أنهما يجمعان فيذهب ضوؤهما لا وَزَرَ أي لا ملجأ ولا مغيث بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ أي بجميع أعماله ما قدّم منها في أول عمره وما أخر في آخره، وقيل: ما تقدم في حياته وما أخر من سنة أو وصية بعد مماته، وقيل: ما قدم لنفسه من ماله وما أخر منه لورثته. بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ في معناه قولان: أحدهما: أنه شاهد على نفسه بأعماله، إذ تشهد عليه جوارحه يوم القيامة، والآخر: أنه حجة بينة لأن خلقته تدل على خالقه، فوصف بالبصارة مجازا لأن من نظر فيه أبصر الحق، والأول أليق بما قبله وما بعده كأنه قال: ينبؤ الإنسان يومئذ بأعماله بل هو يشهد بأعماله وإن لم ينبأ بها، وكذلك يلتئم مع قوله: وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ ، ويكون هو جواب لو حسبما نذكره وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ فيه قولان، أحدهما: أن المعاذير الأعذار أي الإنسان يشهد على نفسه بأعماله ولو اعتذر عن قبائحها والآخر أن المعاذير: الستور، أي الإنسان يشهد على نفسه يوم القيامة ولو سدل الستور على نفسه في الدنيا، حين يفعل القبائح لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ الضمير في به يعود على القرآن دلت على ذلك قرينة الحال وسبب الآية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا نزل عليه جبريل بالقرآن يحرك به شفتيه، مخافة أن ينساه لحينه، فأمره الله أن ينصت ويستمع، وقيل: كان يخاف أن ينسى القرآن فكان يدرسه حتى غلب عليه ذلك، وشق عليه فنزلت

_ (1) . هي قراءة نافع والباقون: برق بكسر الراء.

[سورة القيامة (75) : الآيات 17 إلى 26]

الآية والأول هو الصحيح. لأنه ورد في البخاري وغيره إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ ضمن الله له أن يجمعه في صدره، فلا يحتاج إلى تحريك شفيته عند نزوله، ويحتمل قرآنه هنا وجهين، أحدهما: أن يكون بمعنى القراءة فإن القرآن قد يكون مصدرا من قرأت، والآخر: أن يكون معناه تأليفه في صدره فهو مصدر من قولك: قرأت الشيء أي جمعته فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ أي إذا قرأه جبريل، فاجعل قراءة جبريل قراءة الله لأنها من عنده، ومعنى اتبع قرآنه اسمع قراءته واتبعها بذهنك لتحفظها، وقيل: اتبع القرآن في الأوامر والنواهي ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ أي علينا أن نبينه لك ونجعلك تحفظه، وقيل: علينا أن نبين معانيه وأحكامه، فإن قيل: ما مناسبة قوله: لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ الآية لما قبلها فالجواب أنه لعله نزل معه في حين واحد فجعل على ترتيب النزول. بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ «1» أي تحبون الدنيا، وهذا الخطاب توبيخ للكفار، ومن كان على مثل حالهم في حب الدنيا، وكلا ردع عن ذلك وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ بالضاد أي ناعمة، ومنه نَضْرَةَ النَّعِيمِ [المطففين: 24] إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ هذا من النظر بالعين، وهو نص في نظر المؤمنين إلى الله تعالى في الآخرة، وهو مذهب أهل السنة، وأنكره المعتزلة وتأولوا ناظرة بأن معناه منتظرة، وهذا باطل لأن نظر بمعنى انتظر يتعدى بغير حرف جر، تقول نظرتك أي انتظرتك، وأما المتعدي بإلى فهو من نظر العين، ومنه قوله: وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ [يونس: 43] وقال بعضهم: إلى هنا ليست بحرف جر وإنما هي واحد الآلاء بمعنى النعم، وهذا تكلف في غاية البعد، وتأوله الزمخشري بأن معناه كقول الناس: فلان ناظر إلى فلان إذا كان يرتجيه ويتعلق به، وهذا بعيد وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في النظر إلى الله أحاديث صحيحة مستفيضة صريحة المعنى لا تحتمل التأويل فهي تفسير الآية «2» . باسِرَةٌ أي عابسة تظهر عليها الكآبة والبسور أشد من العبوس تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ أي مصيبة قاصمة الظهر، والظن هنا يحتمل أن يكون على أصله أو بمعنى اليقين. إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ يعني حالة الموت والتراقي جمع ترقوة وهو عظام أعلى الصدر،

_ (1) . قرأ ابن كثير وابن عامر وأبو عمرو: يحبون العاجلة: ويذرون الآخرة بالياء وقرأ الباقون بالتاء تحبون وتذرون. (2) . ومنها الحديث المتفق عليه عن جرير بن عبد الله رضي الله عنه قال: «كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فنظر إلى القمر ليلة البدر وقال: إنكم سترون ربكم عيانا كما ترون هذا القمر، لا تضامون في رؤيته» صدقت يا رسول الله، من رياض الصالحين.

[سورة القيامة (75) : الآيات 27 إلى 40]

والفاعل لبلغت نفس الإنسان دل على ذلك سياق الكلام، وهو عبارة عن حال الحشرجة وسياق الموت وَقِيلَ مَنْ راقٍ «1» أي قال أهل المريض: من يرقيه عسى أن يشفيه؟ وقيل: معناه أن الملائكة تقول: من يرقى بروحه أي يصعد بها إلى السماء؟ فالأول من الرقية وهو أشهر وأظهر، والثاني من الرقيّ وهو العلو وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِراقُ أي تيقن المريض أن ذلك الحال فراق الدنيا وفراق أهله وماله وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ هذا عبارة عن شدة كرب الموت وسكراته، أي التفت ساقه على الأخرى عند السياق وقيل هو مجاز كقوله كشفت الحرب عن ساقها إذا اشتدت، وقيل: معناه ماتت ساقه فلا تحمله وقيل: التفت أي لفها الكافر إذا كفر وفي قوله: الساق والمساق ضرب من ضروب التجنيس إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ هذا جواب إذا بلغت التراقي والمساق مصدر من السوق كقوله: إِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ [آل عمران: 28] فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى لا هنا نافية وصدّق هنا يحتمل أن يكون من التصديق بالله ورسله أو من الصدقة، ونزلت هذه الآية وما بعدها في أبي جهل يَتَمَطَّى أي يتبختر في مشيته، وذلك عبارة عن التكبر والخيلاء، وكانت هذه المشية معروفة في بني مخزوم الذين كان أبو جهل منهم أَوْلى لَكَ وعيد وتهديد فَأَوْلى وعيد ثان ثم كرر ذلك تأكيدا، وروي أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لبّب أبا جهل وقال له: إن الله يقول لك: أولى لك فأولى ثم أولى لك فأولى. فنزل القرآن بموافقة ذلك. أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً هذا توبيخ ومعناه أيظن أن يترك من غير بعث ولا حساب ولا جزاء، فهو كقوله: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً [المؤمنون: 115] ، والإنسان هنا جنس، وقيل نزلت في أبي جهل ولا يبعد أن يكون سببها خاصا ومعناها عام أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى النطفة النقطة وتمنى «2» من قولك: أمنى الرجل، ومعنى الآية: الاستدلال بخلقة الإنسان على بعثه، كقوله: قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ [ياسين: 79] والعلق: الدم لأن المني يصير في الرحم دما فَخَلَقَ فَسَوَّى أي خلقه بشرا فسوى صورته أي أتقنها أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى هذا تقرير واحتجاج، وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا قرأ آخر هذه السورة قال بلى وفي رواية: سبحانك اللهم بلى.

_ (1) . قرأ حفص: من راق بإظهار النون وقرأها الباقون بالإدغام. [.....] (2) . يمنى بالياء هي قراءة حفص والباقون: تمنى بالتاء.

سورة الإنسان

سورة الإنسان مدنية وآياتها 31 نزلت بعد الرحمن بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (سورة الإنسان) هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً هل هنا بمعنى التقرير لا لمجرد الاستفهام، وقيل: هل بمعنى قل، والإنسان هنا جنس، والحين الذي أتى عليه حين كان معدوما قبل أن يخلق، وقيل: الإنسان هنا آدم، والحين الذي أتى عليه حين كان طينا قبل أن ينفخ فيه الروح وهذا ضعيف لوجهين أحدهما قوله: إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ وهو هنا جنسها باتفاق إذ لا يصح هنا في آدم، والآخر أن مقصد الآية تحقير الإنسان مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ أي أخلاط واحدها مشج بفتح الميم والشين وقيل: مشج بوزن عدل، وقال الزمخشري: ليس أمشاج بجمع وإنما هو مفرد كقولهم: برمة أعشار، ولذلك أوقع صفة للمفرد واختلف في معنى الأخلاط هنا فقيل: اختلاط ماء الرجل والمرأة وقيل: معناه ألوان وأطوار، أي يكون نطفة ثم علقة ثم مضغة نَبْتَلِيهِ أي نختبره وهذه الجملة في موضع الحال أي: خلقناه مبتلين له وقيل: معناه نصرفه في بطن أمه نطفة ثم علقة فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً هذا معطوف على خلقنا الإنسان، ومن جعل نبتليه بمعنى نصرفه في بطن أمه فهذا عطف عليه، وقيل أن نبتليه مؤخر في المعنى أي جعلناه سميعا بصيرا لنبتليه وهذا تكلف بعيد. إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ أي سبيل الخير والشر ولذلك قسم الإنسان إلى قسمين شاكرا أو كفورا وهما حالان من الضمير في هديناه والهدى هنا بمعنى: بيان الطريقين، وموهبة العقل الذي يميز به بينهما، ويحتمل أن يكون بمعنى الإرشاد، أي هدى المؤمن للإيمان والكافر للكفر. قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ [النساء: 78] سلاسلا «1» من قرأه بغير تنوين فهو الأصل إذ هو لا ينصرف، لأنه جمع لا نظير له في الآحاد. ومن قرأه بالتنوين فله ثلاث توجيهات:

_ (1) . قرأ نافع وأبو بكر والكسائي: سلاسلا بالتنوين. وقرأ الباقون: سلاسل بفتحة واحدة لأنه ممنوع من الصرف.

أحدها أنها لغة لبعض العرب يصرفون كل ما لا ينصرف إلا ما كان على وزن أفعل والآخر أن النون بدل من حرف الإطلاق، وأجرى الوصل مجرى الوقف والثالث أن يكون صاحب هذه القراءة راوية للشعر، قد عوّد لسانه صرف ما لا ينصرف فجرى على ذلك الْأَبْرارَ جمع بار أو برّ، ومعناه العاملون بالبر وهو غاية التقوى والعمل الصالح حتى قال بعضهم: الأبرار هم الذين لا يؤذون الذر مِنْ كَأْسٍ ذكر في الصافات [45] معنى الكأس ومن هنا يحتمل أن تكون للتبعيض أو لابتداء الغاية مِزاجُها كافُوراً أي تمزج الخمر بالكافور وقيل: المعنى أنه كافور في طيب رائحته كما تمدح طعاما فتقول هذا مسك عَيْناً بدل من كافورا على القول بأن الخمر تمزج بالكافور، أو بدل من موضع من كأس على القول الآخر كأنه قال: يشربون خمرا خمر عين وقيل: هو مفعول يشربون وقيل منصوب بإضمار فعل يَشْرَبُ بِها قال ابن عطية: الباء زائدة والمعنى يشربها وهذا ضعيف لأن الباء إنما تزاد في مواضع ليس هذا منها، وإنما هي كقولك: شربت الماء بالعسل لأن العين المذكورة تمزج بها الكأس من الخمر عِبادُ اللَّهِ وصفهم بالعبودية، وفيه معنى التشريف والاختصاص. كقوله: وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً [الفرقان: 63] يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً أي يفجرونها حيث شاؤوا من منازلهم تفجيرا سهلا لا يصعب عليهم، وفي الأثر أن في قصر النبي صلى الله عليه وسلم في الجنة عينا تفجر إلى قصور الأنبياء عليهم الصلاة والسلام والمؤمنين مُسْتَطِيراً أي منتشرا شائعا ومنه، استطار الفجر: إذا انشق ضوؤه. وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ نزلت هذه الآية وما بعدها في علي بن أبي طالب وفاطمة والحسن والحسين رضي الله عنهم «1» فإنهم كانوا صائمين فلما وضعوا فطورهم ليأكلوه جاء مسكين فرفعوه له، وباتوا طاوين وأصبحوا صائمين، فلما وضعوا فطورهم جاء يتيم فدفعوه له، وباتوا طاوين وأصبحوا صائمين فلما وضعوا فطورهم جاء أسير فدفعوه له، وباتوا طاوين والآية على هذا مدنية لأن عليا إنما تزوج فاطمة بالمدينة وقيل: إنما هي مكية وليست في علي عَلى حُبِّهِ الضمير للطعام أي يطعمونه مع حبه والحاجة إليه فهو كقوله: لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ [آل عمران: 92] وقوله: وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ [الحشر: 9] ففي قوله على حبه تتميم وهو من أدوات البيان وقيل: الضمير لله وقيل: للإطعام المفهوم من يطعمون والأول أرجح وأظهر مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً قد ذكرنا المسكين واليتيم وأما الأسير ففيه خمسة أقوال أحدها أن الأسير الكافر بين المسلمين ففي إطعامه أجر لأنه: «في كل ذي كبد رطبة أجر» «2» وقيل نسخ ذلك

_ (1) . القصة مشهورة وفيها إيثار المسكين ثم اليتيم ثم الأسير ثلاث ليال متواليات على أنفسهم. (2) . الحديث في البخاري عن أبي هريرة كتاب الشرب والمساقاة ص 77 ج 3.

[سورة الإنسان (76) : الآيات 9 إلى 15]

بالسيف، والآخر: أنه الأسير المسلم إذا خرج من دار الحرب لطلب الفدية والثالث أنه المملوك الرابع أنه المسجون الخامس أنه المرأة لقوله «1» صلى الله عليه وسلم: استوصوا بالنساء خيرا لأنهن عوان عندكم وهذا بعيد والأول أرجح لأنه روي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يؤتى بالأسير المشرك فيدفعه إلى بعض المسلمين ويقول له: أحسن إليه إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ عبارة عن الإخلاص لله، ولذلك فسروه وأكدوه بقولهم: لا نريد منكم جزاء ولا شكورا والشكور مصدر كالشكر ويحتمل أنهم قالوا هذا الكلام بألسنتهم، أو قالوا في نفوسهم، فهو عبارة عن النية والقصد يَوْماً عَبُوساً وصف اليوم بالعبوس مجاز على وجهين: أحدهما أن يوصف اليوم بصفة أهله كقولهم: نهاره صائم وليله قائم. وروي أن الكافر يعبس يومئذ حتى يسيل الدم من عينيه مثل القطران والآخر يشبّه في شدّته بالأسد العبوس قَمْطَرِيراً قال ابن عباس: معناه طويل وقيل: شديد. وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً النضرة: التنعم. وهذا في مقابلة عبوس الكافر. وقوله: وقاهم ولقاهم من أدوات البيان بِما صَبَرُوا أي بصبرهم على الجوع وإيثار غيرهم على أنفسهم، حسبما ذكرنا من قصة علي وفاطمة والحسن والحسين رضي الله عنهم، وقد ذكرنا الأرائك «2» لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً عبارة عن اعتدال هوائها أي ليس فيها حر ولا برد، والزمهرير هو البرد الشديد، وقيل: هو القمر بلغة طيء، والمعنى على هذا أن للجنة ضياء فلا يحتاج فيها إلى شمس ولا قمر وَدانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها معناه أن ظلال الأشجار متدلية عليهم قريبة منهم، وإعراب دانية معطوف على متكئين، وقال الزمخشري: هو معطوف على الجملة التي قبلها وهي: لا يرون فيها شمسا ولا زمهريرا، لأن هذه الجملة في حكم المفرد تقديره: غير رائين فيها شمسا ولا زمهريرا ودانية، ودخلت الواو للدلالة على أن الأمرين يجتمعان لهم، أي جامعين بين البعد عن الحر والبرد وبين دنو الظلال، وقيل: هو صفة لجنة عطف بالواو كقولك: فلان عالم وصالح. وقيل: هو معطوف عليها أي وجنة أخرى دانية عليهم ظلالها وَذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلًا القطوف جمع قطف وهو العنقود من النخل والعنب، وشبه ذلك، وتذليلها هو أن تتدلى إلى الأرض، وروي أن أهل الجنة يقطعون الفواكه على أي حال كانوا من قيام أو جلوس أو اضطجاع، لأنها تتدلى لهم كما يريدون، وهذه الجملة في موضع الحال من دانية، أي دانية في حال تذليل قطوفها أو معطوفة عليها. بِآنِيَةٍ هي جمع إناء ووزنها أفعلة وقد ذكرنا الأكواب في الواقعة قَوارِيرَا القوارير هي الزجاج، فإن قيل: كيف يتفق أنها زجاج مع قوله من فضة؟ فالجواب: أن

_ (1) . الحديث متفق عليه عن أبي هريرة والترمذي عن عمرو بن الأحوص، وهو من خطبة حجة الوداع. (2) . سبق ورودها في الكهف: 31 ويس: 56.

[سورة الإنسان (76) : الآيات 16 إلى 21]

المراد أنها في أصلها من فضة وهي تشبه الزجاج في صفائها وشفيفها، وقيل: هي من زجاج، وجعلها من فضة على وجه التشبيه لشرف الفضة وبياضها، ومن قرأ قوارير بغير تنوين فهو على الأصل ومن نوّنه «1» فعلى ما ذكرنا في سلاسل قَدَّرُوها تَقْدِيراً هذه صفة للقوارير والمعنى قدّروها على قدر الأكف أو على قدر ما يحتاجون من الشراب، قال مجاهد: هي لا تغيض ولا تفيض، وقيل: قدروها على حسب ما يشتهون، والضمير الفاعل في قدّروها يحتمل أن يكون للشاربين بها أو للطائفين بها مِزاجُها زَنْجَبِيلًا هو كما ذكرنا في مزاجها كافورا سَلْسَبِيلًا معناه سلسل منقاد الجرية، وقيل: سهل الانحدار في الحلق، يقال: شراب سلسل وسلسال وسلسبيل بمعنى واحد. وزيدت الباء في التركيب للمبالغة في سلاسته، فصارت الكلمة خماسية، وقيل: سل فعل أمر سبيلا مفعول به وهذا في غاية الضعف وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ ذكر في الواقعة لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً شبههم باللؤلؤ في الحسن والبياض، وبالمنثور منه في كثرتهم وانتشارهم في القصور. وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَّ مفعول رأيت محذوف ليكون الكلام على الإطلاق في كل ما يرى فيها، وثم ظرف مكان، وقال الفراء: تقديره إذا رأيت ما ثم فما مفعوله ثم حذفت، قال الزمخشري: وهذا خطاب لأن ثمّ صلة لما، ولا يجوز حذف الموصول وترك الصلة مُلْكاً كَبِيراً يعني كثرة ما أعطاهم الله، حتى إن أدنى أهل الجنة منزلة له مثل الدنيا وعشرة أمثاله معه، حسبما ورد في الحديث «2» وقيل: أراد أن الملائكة تسلم عليهم، وتستأذن عليهم، فهم بذلك كالملوك عالِيَهُمْ «3» بسكون الياء مبتدأ خبره ثِيابُ سُندُسٍ أي ما يعلوهم من الثياب ثياب سندس، وقرئ عاليهم بالنصب على الحال، من الضمير في يطوف عليهم أو في حسبتهم. وقال ابن عطية: العامل فيه لقّاهم أو جزاهم، وقال أيضا يجوز أن ينتصب على الظرف لأن معناه فوقاهم، وقد ذكرنا معنى السندس والإستبرق وقرئ خُضْرٌ بالخفض صفة لسندس وبالرفع صفة لثياب وَإِسْتَبْرَقٌ بالرفع عطف على ثياب، وبالخفض عطف على سندس وَحُلُّوا وزنه فعلوا معناه جعل لهم حلي أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ ذكرنا الأساور في الكهف، فإن قيل كيف قال هنا أساور من فضة، وفي موضع آخر أساور من

_ (1) . قرأ بالتنوين: قواريرا نافع وأبو بكر والكسائي. وقرأ الباقون: قوارير. لأنها ممنوعة من الصرف ما عدا ابن كثير فإنه قرأ الأولى بالتنوين لأنها رأس آية والثانية بدون تنوين على الأصل. (2) . الحديث رواه مسلم عن المغيرة بن شعبة وأوله: «إن موسى عليه السلام سأل ربه: ما أدنى أهل الجنة، منزلة؟ فقال: رجل يجيء بعد ما دخل أهل الجنة الجنة فيقال له: ادخل الجنة» . انظر الترغيب والترهيب ج 4/ ص 245. (3) . قرأ نافع وحمزة: عاليهم بكسر اللام وسكون الياء والباقون: عاليهم بفتح الياء.

[سورة الإنسان (76) : الآيات 22 إلى 31]

ذهب؟ فالجواب أن ذلك يختلف باختلاف درجات أهل الجنة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «جنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما وجنتان من فضة آنيتهما وما فيهما» «1» . فلعل الذهب للمقربين، والفضة لأهل اليمين، ويحتمل أن يكون أهل الجنة لهم أساور من فضة ومن ذهب معا شَراباً طَهُوراً أي ليس بنجس كخمر الدنيا. وقيل معناه: أنه لم تعصره الأقدام، وقيل معناه لا يصير بولا إِنَّ هذا كانَ لَكُمْ جَزاءً أي يقال لهم هذا يقوله الله تعالى والملائكة آثِماً أَوْ كَفُوراً أو هنا للتنويع، فالمعنى لا تطع النوعين، فاعلا للإثم ولا كفورا، وقيل: هي بمعنى الواو أي جامعا للوصفين لأن هذه هي حالة الكفار، وروي أن الآية نزلت في أبي جهل، وقيل: أن الآثم عتبة بن ربيعة، والكفور الوليد بن المغيرة، والأحسن أنها على العموم، لأن لفظها عام، وإن كان سبب نزولها خاصا بُكْرَةً وَأَصِيلًا هذا أمر بذكر الله في كل وقت، وقيل: إشارة إلى الصلوات الخمس، فالبكرة صلاة الصبح، والأصيل الظهر والعصر، ومن الليل المغرب والعشاء. إِنَّ هؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ أي الدنيا والإشارة إلى الكفار واليوم الثقيل يوم القيامة، ووصفه بالثقل عبارة عن هوله وشدته وَشَدَدْنا أَسْرَهُمْ الأسر الخلقة وقيل: المفاصل والأوصال، وقيل: القوة بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ تَبْدِيلًا أي أهلكناهم وأبدلنا منهم غيرهم. وقيل: مسخناهم فبدلنا صورهم وهذا تهديد إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ الإشارة إلى الآية أو السورة أو الشريعة بجملتها فَمَنْ شاءَ تحضيض وترغيب ثم قيّد مشيئتهم بمشيئة الله وَالظَّالِمِينَ منصوب بفعل مضمر تقديره: ويعذب الظالمين.

_ (1) . الحديث رواه أحمد في الجزء 4 ص 416، 411. وأوله: «جنات الفردوس أربع: جنتان من ذهب» عن أبي موسى الأشعري.

سورة المرسلات

سورة المرسلات مكية إلا آية 48 فمدنية وآياتها 50 نزلت بعد الهمزة بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (سورة المرسلات) اختلف في معنى المرسلات والعاصفات والناشرات والفارقات على قولين: أحدهما أنها الملائكة والآخر أنها الرياح. فعلى القول بأنها الملائكة سماهم المرسلات لأن الله تعالى يرسلهم بالوحي وغيره، وسماهم العاصفات لأنهم يعصفون كما تعصف الرياح في سرعة مضيهم إلى امتثال أوامر الله تعالى، وسماهم ناشرات لأنهم ينشرون أجنحتهم في الجو، وينشرون الشرائع في الأرض، أو ينشرون صحائف الأعمال وسماهم الفارقات لأنهم يفرقون بين الحق والباطل، وعلى القول بأنها الرياح، سماها المرسلات لقوله اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ [الروم: 48] وسماها العاصفات من قوله: رِيحٌ عاصِفٌ أي شديدة، وسماها الناشرات لأنها تنشر السحاب في الجو ومنه قوله: يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً [الروم: 48] وسماها الفارقات لأنها تفرق بين السحاب ومنه قوله: فيجعله كسفا وأما الملقيات ذكرا فهم الملائكة لأنهم يلقون الذكر للأنبياء عليهم السلام، والأظهر في المرسلات والعاصفات أنها الرياح لأن وصف الريح بالعصف حقيقة، والأظهر في الناشرات والفارقات أنها الملائكة لأن الوصف بالفارقات أليق بهم من الرياح، ولأن الملقيات المذكورة بعدها هي الملائكة ولم يقل أحد أنها الرياح، ولذلك عطف المتجانسين بالفاء فقال: والمرسلات فالعاصفات ثم عطف ما ليس من جنس بالواو فقال: والناشرات ثم عطف عليه المتجانسين بالفاء وقد قيل في المرسلات والملقيات أنهم الأنبياء عليهم السلام عُرْفاً معناه: فضلا وإنعاما وانتصابه على أنه مفعول من أجله وقيل: معناه متتابعة وهو مصدر في موضع الحال وأما عصفا ونشرا وفرقا فمصادر، وأما ذكرا فمفعول به عُذْراً أَوْ نُذْراً العذر فسّره ابن عطية وغيره بمعنى: إعذار الله إلى عباده لئلا تبقى لهم حجة أو عذر. وفسره الزمخشري بمعنى الاعتذار. يقال: عذر إذا محا الإساءة، وأما نذرا فمن الإنذار وهو التخويف وقرأ الأعشى التميمي بضم الذال في الموضعين وبقية القراء

[سورة المرسلات (77) : الآيات 7 إلى 28]

بإسكانها، ويحتمل أن يكونا مصدرين فيكون نصبهما على البدل من ذكرا أو مفعولا بذكر، أو يحتمل أن يكون عذرا جمع عذير أو عاذر، ونذرا جمع نذير فيكون نصبهما على الحال إِنَّما تُوعَدُونَ لَواقِعٌ يعني البعث والجزاء وهو جواب القسم فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ أي زال ضوؤها وقيل: محيت وَإِذَا السَّماءُ فُرِجَتْ أي انشقت وَإِذَا الْجِبالُ نُسِفَتْ أي صارت غبارا وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ أي جعل لها وقت معلوم، فحان ذلك الوقت وجمعت للشهادة على الأمم يوم القيامة وقرأ أبو عمرو وقّتت بالواو وهو الأصل، والهمزة بدل من الواو لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ هو من الأجل كما أن التوقيت من الوقت، وفيه توقيف [سؤال] يراد به تعظيم لذلك اليوم ثم بينه بقوله: لِيَوْمِ الْفَصْلِ أي يفصل فيه بين العباد ثم عظّمه بقوله: وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الْفَصْلِ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ تكراره في هذه السورة قيل: إنه تأكيد وقيل: بل في كل آية ما يقتضي التصديق فجاء ويل يومئذ للمكذبين راجعا إلى ما قبله في كل موضع منها. أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ يعني الكفار المتقدمين، كقوم نوح وغيرهم ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ يعني قريشا وغيرهم من الكفار بمحمد صلى الله عليه وسلم، وهذا وعيد لهم ظهر مصداقه يوم بدر وغيره كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ أي مثل هذا الفعل نفعل بكل مجرم يعني الكفار أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ يعني المني، والمهين الضعيف فَجَعَلْناهُ فِي قَرارٍ مَكِينٍ يعني رحم المرأة إِلى قَدَرٍ مَعْلُومٍ يعني وقت الولادة، وهو معلوم عند تسعة أشهر، أو أقل منها أو أكثر فَقَدَرْنا بالتشديد من التقدير «1» وبالتخفيف من القدرة، فإذا كان من القدرة اتفق مع قوله فنعم القادرون، وإذا كان من التقدير فهو تجنيس أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً أَحْياءً وَأَمْواتاً الكفات من: كفت إذا ضم وجمع. فالمعنى أن الأرض تكفت الأحياء على ظهرها، والموتى في بطنها. وانتصب أحياء وأمواتا على أنه مفعول بكفاتا لأن الكفات اسم لما يضم ويجمع، فكأنه قال: جامعة أحياء وأمواتا ويجوز أن يكون المعنى: تكفتهم أحياء وأمواتا. فيكون نصبهما على الحال من الضمير، وإنما نكّر أحياء وأمواتا للتفخيم ودلالة على كثرتهم رَواسِيَ يعني الجبال شامِخاتٍ أي مرتفعات ماءً فُراتاً أي

_ (1) . قرأ نافع والكسائي بالتشديد والباقون بالتخفيف.

[سورة المرسلات (77) : الآيات 29 إلى 50]

حلوا انْطَلِقُوا خطاب للمكذبين وقرأ يعقوب بفتح اللام على أنه فعل ماض ثم كرره لبيان المنطلق إليه إِلى ظِلٍّ يعني دخان جهنم ومنه ظل من يحموم ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ أي يتفرع من الدخان ثلاث شعب فتظلهم، بينما يكون المؤمنون في ظلال العرش وقيل: إن هذه الآية في عبدة الصليب لأنهم على ثلاثا شعب فيقال لهم انطلقوا إليه لا ظَلِيلٍ نفى عنه أن يظلهم كما يظل العرش المؤمنين ونفى أيضا أن يمنع عنهم اللهب إِنَّها تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ الضمير في إنها لجهنم والقصر واحد القصور، وهي الديار العظام شبه الشرر به في عظمته وارتفاعه في الهواء، وقيل: هو الغليظ من الشجر واحده قصرة كجمرة وجمر كأنّه جمالات صفر «1» في الجمالات قولان أحدهما: أنها جمع جمال شبه بها الشرر وصفر على ظاهره لأن لون النار يضرب إلى الصفرة. وقيل: صفر هنا بمعنى سود يقال: جمل أصفر أي أسود. وهذا أليق بوصف جهنم. الثاني أن الجمالات قطع النحاس الكبار، فكأنه مشتق من الجملة. وقرئ جمالات بضم الجيم وهي قلوس السفن وهي حبالها العظام هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ هذا في مواطن، وقد يتكلمون في مواطن أخر لقوله: يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها [النحل: 111] فَإِنْ كانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ تعجيز لهم وتعريض بكيدهم في الدنيا وتقريع عليه كُلُوا وَاشْرَبُوا يقال لهم ذلك في الجنة بلسان الحال أو بلسان المقال هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ نصب هنيئا على الحال أو على الدعاء كُلُوا وَتَمَتَّعُوا خطاب للكفار على وجه التهديد تقديره: قل لهم كلوا وتمتعوا قليلا في الدنيا وَإِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ هذا إخبار عن حال الكفار في الدنيا، وذكر الركوع عبارة عن الصلاة وقيل: معنى اركعوا اخشعوا وتواضعوا. وقيل: هو إخبار عن حال المنافقين يوم القيامة لأنهم إذا قيل لهم: اركعوا لا يقدرون على الركوع كقوله: وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ [القلم: 42] والأول أشهر وأظهر فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ الضمير للقرآن.

_ (1) . قرأ حمزة والكسائي وحفص: جمالة بدون ألف وقرأ الباقون: جمالات وهي جمع الجمع.

سورة النبأ

سورة النبأ مكية وآياتها 40 نزلت بعد المعارج بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (سورة النبأ) عَمَّ يَتَساءَلُونَ أصل عمّ عن ما ثم أدغمت النون في الميم وحذفت ألف ما لأنها استفهامية، تقديرها: عن أي شيء يتساءلون، وليس المراد بها هنا مجرد الاستفهام، وإنما المراد تفخيم الأمر. والضمير في يتساءلون لكفار قريش، أو لجميع الناس ومعناه يسأل بعضهم بعضا عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ هو ما جاءت به الشريعة من التوحيد والبعث والجزاء وغير ذلك، ويتعلق عن النبإ بفعل محذوف يفسره الظاهر تقديره: يتساءلون عن النبأ. ووقعت هذه الجملة جوابا عن الاستفهام وبيانا للمسئول عنه كأنه لما قال: عم يتساءلون أجاب فقال يتساءلون عن النبأ العظيم. وقيل: يتعلق عن النبأ بيتساءلون الظاهر والمعنى على هذا لأي شيء يتساءلون عن النبأ العظيم؟ والأول أفصح وأبرع وينبغي على ذلك أن يوقف على قوله: عَمَّ يَتَساءَلُونَ الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ إن كان الضمير في يتساءلون لكفار قريش، فاختلافهم أن منهم من يقطع بالتكذيب، ومنهم من يشك أو يكون اختلافهم قول بعضهم سحر، وقول بعضهم شعر وكهانة وغير ذلك، وإن كان الضمير لجميع الناس فاختلافهم أن منهم المؤمن والكافر. كَلَّا سَيَعْلَمُونَ ردع وتهديد ثم كرره للتأكيد أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً أي فراشا، وإنما ذكر الله تعالى هنا هذه المخلوقات على جهة التوقيف [السؤال] ليقيم الحجة على الكفار فيما أنكروه من البعث كأنه يقول: إن الإله الذي قدر على خلقة هذه المخلوقات العظام قادر على إحياء الناس بعد موتهم، ويحتمل أنه ذكرها حجة على التوحيد لأن الذي خلق هذه المخلوقات هو الإله وحده لا شريك له وَالْجِبالَ أَوْتاداً شبهها بالأوتاد لأنها تمسك الأرض أن تميد وَخَلَقْناكُمْ أَزْواجاً أي من زوجين ذكرا وأنثى، وقيل: معناه أنواعا في ألوانكم وصوركم وألسنتكم وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً أي راحة لكم، وقيل: معناه

[سورة النبإ (78) : الآيات 10 إلى 23]

قطعا للأعمال والتصرف. والسبت: القطع. وقيل: معناه موتا لأن النوم هو الموت الأصغر، ومنه قوله تعالى اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها [الزمر: 42] وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً شبهه بالثياب التي تلبس لأنه ستر عن العيون وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً أي تطلب فيه المعيشة، فهو على حذف مضاف تقديره ذا معاش، وقال الزمخشري: معناه يعاش فيه فجعله بمعنى الحياة في مقابلة السبات، الذي بمعنى الموت وَبَنَيْنا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِداداً يعني السموات وَجَعَلْنا سِراجاً وَهَّاجاً يعني الشمس. والوهّاج الوقاد الشديد الإضاءة، وقيل: الحار الذي يضطرم من شدة لهبه وَأَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ ماءً ثَجَّاجاً يعني: المطر. والمعصرات: هي السحاب وهو مأخوذ من العصر لأن السحاب ينعصر فينزل منه الماء أو من العصرة بمعنى الإغاثة. ومنه: وفيه يعصرون، وقيل: هي السموات وقيل: الرياح والثجّاج السريع الاندفاع لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَباتاً الحب هو القمح والشعير وسائر الحبوب والنبات هو العشب وَجَنَّاتٍ أَلْفافاً أي ملتفة وهو جمع لف بضم اللام، وقيل: بالكسر وقيل: لا واحد له كانَ مِيقاتاً أي في وقت معلوم. يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ يعني نفخة القيام من القبور فَتَأْتُونَ أَفْواجاً أي جماعات فَكانَتْ أَبْواباً «1» أي تنفخ فتكون فيها شقاق كالأبواب وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ أي حملت فَكانَتْ سَراباً عبارة عن تلاشيها وفنائها والسراب في اللغة: ما يظهر على البعد أنه ماء، وليس ذلك المراد هنا وإنما هو تشبيه في أنه لا شيء مِرْصاداً أي موضع المرصاد والرصد هو الارتقاب والانتظار، أي تنتظر الكفار ليدخلوها وقيل: معناه طريقا للمؤمنين يمرون عليه إلى الجنة لأن الصراط منصوب على جهنم مَآباً أي مرجعا لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً جمع حقبة أو حقب وهي المدة الطويلة من الدهر غير محدودة، وقيل إنها محدودة ثم اختلف في مقدارها، فروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنها ثمانون ألف سنة، وقال ابن عباس: ثلاثون سنة وقيل ثلاثمائة سنة، وعلى القول بالتحديد فالمعنى أنهم يبقون فيها أحقابا، كلما انقضى حقب جاء آخر إلى غير نهاية وقيل: إنه كان يقتضي أن مدة العذاب تنقضي، ثم نسخ بقوله: «فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذاباً» وهذا خطاب لأن الأخبار لا تنسخ، وقيل: هي في عصاة المؤمنين الذين يخرجون من النار، وهذا خطأ لأنها في الكفار لقوله: وكذبوا بآياتنا وقيل: معناها أنهم يبقون أحيانا لا يذوقون فيها بردا ولا شرابا، ثم يبدل لهم نوع آخر

_ (1) . أول الآية: وفتحت السماء قرأ عاصم وحمزة والكسائي بالتخفيف وقرأ الباقون بالتشديد: وفتّحت.

[سورة النبإ (78) : الآيات 24 إلى 39]

من العذاب لا يَذُوقُونَ فِيها بَرْداً وَلا شَراباً أي لا يذوقون برودة تخفف عنهم حر النار. وقيل: لا يذوقون ماء باردا وقيل: البرد هنا النوم والأول أظهر إِلَّا حَمِيماً وَغَسَّاقاً استثناء من الشراب وهو متصل، والحميم: الماء الحار. والغساق: صديد أهل النار، وقد ذكر في سورة داود [ص: 57] جَزاءً وِفاقاً أي موافقا أعمالهم لأن أعمالهم كفر وجزاؤهم النار، ووفاقا مصدر وصف به أو هو على حذف مضاف تقديره ذو وفاق إِنَّهُمْ كانُوا لا يَرْجُونَ حِساباً هذا مثل لا يرجون لقاءنا وقد ذكر «1» كِذَّاباً بالتشديد مصدر بمعنى تكذيب وبالتخفيف بمعنى الكذب أو المكاذبة، وهي تكذيب بعضهم لبعض فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذاباً قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما نزل في أهل النار أشد من هذه الآية» «2» . مَفازاً أي موضع فوز يعني الجنة حَدائِقَ أي بساتين وَكَواعِبَ جمع كاعب وهي الجارية التي خرج ثديها أَتْراباً أي على سن واحد وَكَأْساً دِهاقاً أي ملأى وقيل: صافية والأول أشهر عَطاءً حِساباً أي كافيا من أحسب الشيء إذا كفاه، وقيل: معناه على حسب أعمالهم رَبِّ السَّماواتِ بالرفع «3» مبتدأ أو خبر ابتداء مضمر وبالخفض صفة لربك، والرحمن بالخفض صفة، وبالرفع خبر المبتدأ أو خبر ابتداء مضمر لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطاباً قال ابن عطية: الضمير للكفار أي لا يملكون أن يخاطبوه بمقدرة ولا غيرها، وقيل: المعنى لا يقدرون أن يخاطبهم كقوله: وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وقال الزمخشري: الضمير لجميع الخلق أي ليس بأيديهم شيء من خطاب الله يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ قيل هو جبريل، وقيل: ملك عظيم يكون هو وحده صفا والملائكة صفا، وقيل: يعني أرواح بني آدم فهو اسم جنس ويوم يتعلق بلا يملكون أو لا يتكلمون لا يَتَكَلَّمُونَ الضمير للملائكة والروح، أي تمنعهم الهيبة من الكلام إلا من بعد أن يأذن الله لهم. وقول الصواب يكون في ذلك الموطن على هذا. وقيل: الضمير للناس خاصة والصواب المشار إليه قول: لا إله إلا الله أي من قالها في الدنيا ذلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ أي الحق وجوده ووقوعه فَمَنْ شاءَ

_ (1) . لا يرجون لقاءنا: وردت في سورة يونس 7، 11، 15، والفرقان: 21. [.....] (2) . روى الطبري هذا الحديث. بسنده إلى عبد الله بن عمرو في تفسير الآية. (3) . قراءة نافع وابن كثير وأبو عمرو. وقرأ عاصم وابن عامر: ربّ بالكسر.

[سورة النبإ (78) : آية 40]

تخصيص وترغيب اباً قَرِيباً يعني عذاب الآخرة ووصفه بالقرب لأن كل آت قريب، أو لأن الدنيا على آخرهاوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ ما قَدَّمَتْ يَداهُ المرء هنا عموم في المؤمن والكافر، وقيل: هو المؤمن وقيل: هو الكافر والعموم أحسن، لأن كل أحد يرى ما عمل لقوله تعالى: فمن يعمل مثقال ذرة الآية يَقُولُ الْكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً يتمنى أن يكون يوم القيامة ترابا فلا يحاسب ولا يجازى، وقيل: تمنى أن يكون في الدنيا ترابا أي لم يخلق، وروي أن البهائم تحشر ليقتص لبعضهم من بعض ثم ترد ترابا، فيتمنى الكافر أن يكون ترابا مثلها، وهذا يقوّي الأول، وقيل: الكافر هنا إبليس يتمنى أن يكون خلق من تراب، مثل آدم وذريته لما رأى ثوابهم، وقد كان احتقر التراب في قوله: خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ [الأعراف: 12] .

سورة النازعات

سورة النازعات مكية وآياتها 46 نزلت بعد النبأ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (سورة النازعات) اختلف في معنى النازعات والناشطات والسابقات والسابحات والمدبرات، فقيل: إنها الملائكة وقيل: النجوم، فعلى القول بأنها الملائكة سماهم نازعات لأنهم ينزعون نفوس بني آدم من أجسادها، وناشطات لأنهم ينشطونها أي يخرجونها فهو من قولك: نشطت الدلو من البئر: إذا أخرجتها وسابحات لأنهم يسبحون في سيرهم، أي يسرعون فيسبقون فيدبرون أمور العباد، والرياح والمطر وغير ذلك حسبما يأمرهم الله وعلى القول بأنها النجوم سماها نازعات لأنها تنزع من المشرق إلى المغرب، وناشطات لأنها تنشط من برج إلى برج، وسابحات لأنها تسبح في الفلك ومنه كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ [يس: 40] فتسبق في جريها فتدبر أمرا من علم الحساب، وقال ابن عطية: لا أعلم خلافا أن المدبرات أمرا الملائكة، وحكى الزمخشري فيها ما ذكرنا. وقد قيل في النازعات والناشطات أنها النفوس، تنزع من معنى النزع بالموت، فتنشط من الأجساد، وقيل: في السابحات والسابقات أنها الخيل وأنها السفن غَرْقاً إن قلنا النازعات الملائكة ففي معنى غرقا وجهان: أحدهما أنها من الغرق أي تغرق الكفار في جهنم، والآخر أنه من الإغراق في الأمر، بمعنى المبالغة فيه، أي تبالغ في نزعها فتقطع الفلك كله، وإن قلنا إنها النفوس، فهو أيضا من الإغراق أي تغرق في الخروج من الجسد، والإعراب غرقا مصدر في موضع الحال، ونشطا وسبحا وسبقا مصادر، وأمرا مفعول به، وجواب القسم محذوف، وهو بعث الموتى بدلالة ما بعده عليه من ذكر القيامة، وقيل: الجواب يوم ترجف الراجفة تتبعها الرادفة على تقدير حذف لام التأكيد، وقيل: هو «إن في ذلك لعبرة لمن يخشى» وهذا بعيد لبعده عن القسم، ولأنه إشارة إلى قصة فرعون لا لمعنى القسم. يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ قيل: الراجفة النفخة الأولى في الصور، والرادفة النفخة الثانية: لأنها تتبعها ولذلك سماها رادفة من قولك: ردفت الشيء إذا تبعته، وفي

[سورة النازعات (79) : الآيات 8 إلى 14]

الحديث أن بينهما أربعين عاما، وقيل: الراجفة: الموت والرادفة: القيامة، وقيل: الراجفة الأرض، من قوله تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ [المزمل: 14] والرادفة السماء لأنها تنشق يومئذ. والعامل في يوم ترجف محذوف وهو الجواب المقدر تقديره: لتبعثن يوم ترجف الراجفة وإن جعلنا يوم ترجف الجواب فالعامل في يوم معنى قوله قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ وقوله: تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ في موضع الحال، ويحتمل أن يكون العامل فيه تتبعها قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ أي شديدة الاضطراب، والوجيف والوجيب بمعنى واحد، وارتفع قلوب بالابتداء وواجفة خبره، وقال الزمخشري: واجفة صفة، والخبر أبصارها خاشعة أَبْصارُها خاشِعَةٌ كناية عن الذل والخوف، وإضافة الأبصار إلى القلوب على تجوز والتقدير: قلوب أصحابها. يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ أَإِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً هذا حكاية قول الكفار في الدنيا، ومعناه على الجملة إنكار البعث، فالهمزة في قوله «أإنا لمردودون» للإنكار. ولذلك اتفق العلماء على قراءته بالهمزتين، إلا أن منهم من سهّل الثانية ومنهم من خففها. واختلفوا في إذا كنا عظاما نخرة فمنهم من قرأه بهمزة واحدة لأنه ليس بموضع استفهام ولا إنكار، ومنهم من قرأه بهمزتين تأكيدا للإنكار المتقدم، ثم اختلفوا في معنى الحافرة على ثلاثة أقوال: أحدها أنها الحالة الأولى. يقال: رجع فلان في حافرته إذا رجع إلى حالته الأولى. فالمعنى أإنا لمردودون إلى الحياة بعد الموت والآخر أن الحافرة الأرض بمعنى محفورة فالمعنى أإنا لمردودون إلى وجه الأرض بعد الدفن في القبور والثالث أن الحافرة النار والعظام النخرة البالية المتعفنة وقرأ [حمزة والكسائي وأبو بكر] ناخرة بألف [والباقون] بحذف الألف وهما بمعنى واحد إلا أن حذف الألف أبلغ لأن فعل أبلغ من فاعل وقيل: معناه العظام المجوفة التي تمر بها الريح فيسمع لها نخير، والعامل في إذا كنا محذوف تقديره إذا كنا عظاما نبعث، ويحتمل أن يكون العامل فيه مردودون في الحافرة ولكن إنما يجوز ذلك على قراءة إذا كنا بهمزة واحدة على الخبر، ولا يجوز على قراءته بهمزتين. لأن همزة الاستفهام لا يعمل ما قبلها فيما بعدها قالُوا تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسِرَةٌ الكرة الرجعة والخاسرة منسوبة إلى الخسران كقوله: عيشة راضية، أي ذات رضى أو معناه خاسر أصحابها ومعنى هذا الكلام أنهم قالوا: إن كان البعث حقا فكرّتنا خاسرة، لأنا ندخل النار. فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ يعني النفخة في الصور للقيام من القبور. وهذا من كلام الله تعالى ردّا على الذين أنكروا البعث كأنه يقول: لا تظنوا أنه صعب على الله [بل] هو عليه يسير، فإنما ينفخ نفخة واحدة في الصور فيقوم الناس من قبورهم فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ إذا هنا فجائية والساهرة وجه الأرض، والباء ظرفية والمعنى: إذا نفخ في الصور حصلوا بالأرض أسرع شيء.

[سورة النازعات (79) : الآيات 15 إلى 31]

هَلْ أَتاكَ توقيف [سؤال] وتنبيه وليس المراد به مجرد الاستفهام طُوىً ذكر في طه: 12 اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ تفسير للنداء هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى «1» أن تتطهر من الكفر والذنوب والعيوب والرذائل، وقال بعضهم: تزكى تسلم وقيل: تقول لا إله إلا الله والأول أعم الْآيَةَ الْكُبْرى قلب العصا حية، وإخراج اليد بيضاء، وجعلهما واحدة لأن الثانية تتبع الأولى، ويحتمل أن يريد الأولى وحدها ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعى الإدبار كناية عن الإعراض عن الإيمان، ويسعى عبارة عن جده في الكفر، وفي إبطال أمر موسى عليه السلام وقيل: هو حقيقة. أي قام من مجلسه يفر من مجالسة موسى أو يهرب من العصا لما صارت ثعبانا فَحَشَرَ أي جمع جنوده وأهل مملكته فَنادى أي نادى قومه وقال لهم ما قال، ويحتمل أنه ناداهم بنفسه، أو أمر من يناديهم، والأول أظهر. وروى أنه قام فيهم خطيبا فقال ما قال فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى النكال مصدر بمعنى التنكيل، والعامل فيه أخذه الله لأنه بمعناه وقيل: العامل محذوف، والآخرة هي: دار الآخرة والأولى: الدنيا فالمعنى نكال الآخرة بالنار ونكال الأولى بالغرق. وقيل: الآخرة قوله: أنا ربكم الأعلى والأولى قوله: ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي [القصص: 38] وقيل: بالعكس فالمعنى أخذه الله وعاقبه على كلمة الآخرة وكلمة الأولى. أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ هذا توقيف [سؤال] قصد به الاستدلال على البعث فإن الذي خلق السماء قادر على خلق الأجساد بعد فنائها رَفَعَ سَمْكَها السمك: غلظ السماء وهو الارتفاع الذي بين سطح السماء الأسفل الذي يلينا وسطحها الأعلى الذي يلي ما فوقها. ومعنى رفعه أنه جعله مسيرة خمسمائة عام وقيل: السّمك السقف فَسَوَّاها أي أتقن خلقتها وقيل: جعلها مستوية ليس فيها مرتفع ولا منخفض وَأَغْطَشَ لَيْلَها أي جعله مظلما يقال: غطش الليل إذا أظلم. وأغطشه الله وَأَخْرَجَ ضُحاها أي أظهر ضوء الشمس في وقت الضحى، وأضاف الضحى والليل إلى السماء من حيث أنهما ظاهران منها وفيها وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها أي بسطها واستدل بها من قال: إن الأرض بسيطة غير كروية وقد ذكرنا في فصلت [11] الجمع بين هذا وبين قوله ثم استوى إلى السماء أَخْرَجَ مِنْها ماءَها ومرعاها نسب الماء والمرعى إلى الأرض، لأنهما يخرجان منها فإن قيل: لم قال

_ (1) . تزكّى: قرأ نافع وابن كثير: تزّكّى بالتشديد وقرأ الباقون: تزكّى.

[سورة النازعات (79) : الآيات 32 إلى 46]

أخرج بغير حرف العطف؟ فالجواب أن هذه الجملة في موضع الحال وتفسير لما قبلها قاله الزمخشري وَالْجِبالَ أَرْساها أي أثبتها ونصب الجبال بفعل مضمر يدل عليه الظاهر وكذلك الأرض مَتاعاً لَكُمْ تقديره: فعل ذلك كله تمتيعا لكم منه وَلِأَنْعامِكُمْ لأن بني آدم والأنعام ينتفعون بما ذكر. الطَّامَّةُ هي القيامة وقيل: النفخة الثانية واشتقاقها من قولك: طمّ الأمر إذا علا وغلب وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرى أي أظهرت لكل من يرى، فهي لا تخفى على أحد مَقامَ رَبِّهِ ذكر في سورة الرحمن [46] وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى أي ردها عن شهواتها وأغراضها الفاسدة قال بعض الحكماء: إذا أردت الصواب فانظر هواك وخالفه. وقال سهل التستري: لا يسلم من الهوى إلا الأنبياء وبعض الصديقين أَيَّانَ مُرْساها ذكر في الأعراف: 187 فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها أي من ذكر زمانها فالمعنى لست في شيء من ذكر ذلك قالت عائشة رضي الله عنها كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل عن الساعة كثيرا فلما نزلت هذه الآية انتهى «1» إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها أي منتهى علمها لا يعلم متى تكون إلا هو وحده إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها أي: إنما بعثت لتنذر بها، وليس عليك الإخبار بوقتها، وخص الإنذار بمن يخشاها لأنه هو الذي ينفعه الإنذار لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها أخبر أنهم إذا رأوا الساعة ظنوا أنهم لم يلبثوا في الدنيا أو في القبور إلا عشية يوم أو ضحى يوم، وأضاف الضحى كذلك إلى العشية لما بينهما من الملابسة إذ هما في يوم واحد.

_ (1) . رواه الإمام الطبري في تفسيره للآية.

سورة عبس

سورة عبس مكية وآياتها 42 نزلت بعد النجم بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (سورة عبس) سبب نزول صدر هذه السورة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان حريصا على إسلام قريش، وكان يدعو أشرافهم إلى الله تعالى ليسلموا فيسلم بإسلامهم غيرهم، فبينما هو مع رجل من عظمائهم قيل: هو الوليد بن المغيرة وقيل: عتبة بن ربيعة وقيل: أمية بن خلف، وقال ابن عباس: كانوا جماعة إذ أقبل عبد الله بن أم مكتوم الأعمى فقال: يا رسول الله علمني مما علمك الله، وكرر ذلك وهو لا يعلم عنه بتشاغله بالقوم، فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم قطع الأعمى كلامه، فعبس وأعرض عنه. وذهب الرجل الذي كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. فنزلت الآية فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رأى عبد الله بن أم مكتوم بعد ذلك يقول: مرحبا بمن عاتبني فيه ربي، ويبسط له رداءه، وقد استخلفه على المدينة مرتين عَبَسَ وَتَوَلَّى أي عبس في وجه الأعمى وأعرض عنه، قال ابن عطية: في مخاطبته بلفظ الغائب مبالغة في العتب لأن في ذلك بعض الإعراض، وقال الزمخشري: في الإخبار بالغيبة زيادة في الإنكار، وقال غيرهما، هو إكرام للنبي صلى الله عليه وسلم وتنزيه له عن المخاطبة بالعتاب وهذا أحسن أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى في موضع مفعول من أجله، وهو منصوب بتولى أو عبس. وذكر ابن أم مكتوم بلفظ الأعمى ليدل أن عماه هو الذي أوجب احتقاره، وفي هذا دليل على أن ذكر هذه العاهات جائز إذا كان لمنفعة، أو يشهد صاحبها ومنه قول المحدثين: سليمان الأعمش، وعبد الرحمن الأعرج وغير ذلك وَما يُدْرِيكَ أي أيّ شيء يطلعك على حال هذا الأعمى لَعَلَّهُ يَزَّكَّى أي يتطهر وينتفع في دينه بما يسمع منك «1» . أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى «2» أي تتعرّض للغنى رجاء أن يسلم وَما عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى أي لا حرج عليك أن لا يتزكى هذا الغني وَأَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى إشارة إلى عبد الله بن أم مكتوم، ومعنى يسعى يسرع في مشيه من حرصه في طلب الخير وَهُوَ يَخْشى الله أو يخاف

_ (1) . في الآية التالية: أو يذكر فتنفعه الذكرى: قرأ عاصم بفتح العين والباقون: بالضم: فتنفعه. (2) . قوله: تصدى: قرأها نافع وابن كثير: تصّدّى بالتشديد والباقون بالتخفيف.

[سورة عبس (80) : الآيات 10 إلى 20]

الكفار وإذايتهم له على اتباعك، وقيل: جاء وليس معه من يقوده، فكان يخشى أن يقع وهذا ضعيف فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى أي تشتغل عنه بغيره من قولك: لهيت عن الشيء إذا تركته، وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تأدّب بما أدبه الله في هذه السورة فلم يعرض بعدها عن فقير ولا تعرّض لغني، وكذلك اتبعه فضلاء العلماء، فكان الفقراء في مجلس سفيان الثوري كالأمراء، وكان الأغنياء يتمنون أن يكونوا فقراء. كَلَّا ردع عن معاودة ما وقع العتاب فيه إِنَّها تَذْكِرَةٌ فيه وجهان، أحدهما: أن هذا الكلام المتقدّم تذكرة أو موعظة للنبي صلى الله عليه وسلم، والآخر أن القرآن تذكرة لجميع الناس، فلا ينبغي أن يؤثر فيه أحد على أحد، وهذا أرجح لأنه يناسبه: فمن شاء ذكره، وما بعده، وأنث الضمير في قوله: إنها تذكرة على معنى القصة أو الموعظة أو السورة أو القراءة، وذكّرها في قوله: فمن شاء ذكره على معنى الوعظ أو الذكرى والقرآن فِي صُحُفٍ صفة لتذكرة أي ثابتة في صحف، وهي الصحف المنسوخة من اللوح المحفوظ وقيل: هي مصاحف المسلمين مَرْفُوعَةٍ إن كانت الصحف المصاحف فمعناه مرفوعة المقدار، وإن كانت صحف الملائكة فمعناه كذلك، أو مرفوعة في السماء ومطهرة أي منزهة عن أيدي الشياطين بِأَيْدِي سَفَرَةٍ هي الملائكة، والسفرة جمع سافر وهو الكاتب لأنهم يكتبون القرآن، وقيل: لأنهم سفراء بين الله وبين عبيده، وقيل: يعني القرّاء من الناس. والأول أرجح. وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة «1» أي أنه يعمل مثل عملهم في كتابة القرآن وتلاوته، أو له من الأجر على القرآن مثل أجورهم. قُتِلَ الْإِنْسانُ دعاء عليه على ما جرت به عادة العرب من الدعاء بهذا اللفظ، ومعناه تقبيح حاله، وأنه ممن يستحق أن يقال له ذلك، وقيل: معناه لعن وهذا بعيد ما أَكْفَرَهُ تعجيب من شدّة كفره، مع أنه كان يجب عليه خلاف ذلك مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ توقيف [سؤال] وتقرير ثم أجاب عنه بقوله مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ يعني المني ومقصد الكلام تحقير الإنسان ومعناه أنه يجب عليه أن يعظم الرب الذي خلقه فَقَدَّرَهُ أي هيأه لما يصلح له ومنه: خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً الفرقان: 2] ، وقيل: معناه جعله على مقدار معلوم في إعطائه وأجله ورزقه وغير ذلك ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ نصب السبيل بفعل مضمر فسره يسره، وفي معناه ثلاثة أقوال أحدها: يسر سبيل خروجه من بطن أمه والآخر أنه سبيل الخير والشر لقوله: إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً [الإنسان: 3] ، الثالث سبيل النظر السديد المؤدي إلى الإيمان، والأول أرجح لعطفه على قوله: من نطفة خلقه فقدره

_ (1) . الحديث رواه أحمد عن عائشة في ج 6 ص 239.

[سورة عبس (80) : الآيات 21 إلى 42]

وهو قول ابن عباس ثُمَّ أَماتَهُ فَأَقْبَرَهُ أي جعله ذا قبر يقال قبرت الميت إذا دفنته، وأقبرته إذا أمرت أن يدفن ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ أي بعثه من قبره يقال: نشر الميت إذا قام، وأنشره الله والإشارة إذا شاء ليوم القيامة، أي الوقت الذي يقدر أن ينشره فيه. كَلَّا ردع للإنسان عما هو فيه لَمَّا يَقْضِ ما أَمَرَهُ أي لم يقض الإنسان على تطاول عمره ما أمره الله، قال بعضهم: لا يقضي أحد أبدا جميع ما افترض الله عليه إذ لا بدّ للعبد من تفريط فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ أمر بالاعتبار في الطعام كيف خلقه الله بقدرته ويسره برحمته، فيجب على العبد طاعته وشكره ويقبح معصيته والكفر به، وقيل: فلينظر إلى طعامه إذا صار رجيعا، فينظر حقارة الدنيا وخساسة نفسه، والأول أشهر، وأظهر في معنى الآية على أن القول الثاني صحيح وانظر كيف فسره بقوله أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا «1» وما بعده ليعدّد النعم ويظهر القدرة، وقرئ إنا صببنا الماء بفتح الهمزة على البدل من الطعام ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ يعني يخرج البنات منها حَبًّا يعني القمح والشعير وسائر الحبوب وَقَضْباً قيل: هي الفصفصة، وقيل: هي علف البهائم واختار ابن عطية أنها البقول وشبهها مما يؤكل رطبا غُلْباً أي غليظة ناعمة وَأَبًّا الأبّ المرعى عند ابن عباس والجمهور، وقيل: التبن وقد توقف في تفسيره أبو بكر وعمر رضي الله عنهما. الصَّاخَّةُ القيامة وهي مشتقة من قولك: صخ الأذن إذا أصمها بشدة صياحه، فكأنه إشارة إلى النفخة في الصور، أو إلى شدة الأمر حتى يصخ من يسمعه لصعوبته وقيل: هي من قولك: أصاخ للحديث إذا استمعه، والأول هو الموافق للاشتقاق يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ الآية ذكر فرار الإنسان من أحبابه، ورتبهم على ترتيبهم في الحنو والشفقة فبدأ بالأقل وختم بالأكثر، لأن الإنسان أشد شفقة على بنيه من كل من تقدم ذكره وإنما يفر منهم لاشتغاله بنفسه وقيل: إن فراره منهم لئلا يطالبوه بالتبعات والأول أرجح وأظهر، لقوله لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ أي هو مشغول بشأنه من الحساب والثواب والعقاب، حتى لا يسعه ذكر غيره، وانظر قول الأنبياء عليهم السلام، يومئذ نفسي نفسي وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ أي مضيئة من السرور، وهو من قولك: أسفر الصبح إذا أضاء عَلَيْها غَبَرَةٌ أي غبار، والقترة أيضا الغبار. قال ابن عطية: الغبرة من العبوس والكرب، كما يقتر وجه المهموم والمريض، والقترة هي غبار الأرض، وقال الزمخشري: الغبرة: غبار يعلوها، والقترة سواد فيعظم قبحها باجتماع الغبار والسواد.

_ (1) . قرأ عاصم وحمزة والكسائي: أنا صببنا بفتح الهمزة والباقون بكسرها.

سورة التكوير

سورة التكوير مكية وآياتها 29 نزلت بعد المسد بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (سورة التكوير) ذكر الله في هذه السورة أهوال القيامة، وما يعتري الموجودات حينئذ من التغيير إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ قال ابن عباس: ذهب ضوءها وأظلمت وقيل: رمى بها وقيل: اضمحلت وأصله من تكوير العمامة لأنها إذا لفت زال انبساطها وصغر جرمها وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ أي تساقطت من مواضعها، وقيل: تغيرت والأول أرجح لأنه موافق لقوله وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ وروي أن الشمس والنجوم تطرح في جهنم ليراها من عبدها، كما قال إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ [الأنبياء: 98] وَإِذَا الْجِبالُ سُيِّرَتْ أي حملت وبعد ذلك تفتتت فتصير هباء ثم تتلاشى وَإِذَا الْعِشارُ عُطِّلَتْ العشار جمع عشراء وهي الناقة الحامل التي مر لحملها عشرة أشهر، وهي أنفس ما عند العرب وأعزها فلا تعطل إلا من شدة الهول، وتعطيلها هو تركها سائبة أي ترك حلبها وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ أي جمعت وفي صفة حشرها ثلاثة أقوال: أحدها أنها تحشر أي تبعث يوم القيامة، ليقتص لبعضها من بعض ثم تكون ترابا. والآخر أنها تحشر بموتها دفعة واحدة عند هول القيامة قاله ابن عباس وقال: إنها لا تبعث وأنه لا يحضر القيامة إلا الإنس والجن والثالث أنها تجمع في أول أهوال القيامة وتفر «1» في الأرض فذلك حشرها. وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ «2» فيه ثلاثة أقوال: أحدها ملئت وفجر بعضها إلى بعض حتى تعود بحرا واحدا والآخر ملئت نيرانا لتعذيب أهل النار والثالث فرغت من مائها ويبست وأصله من سجرت التنور إذا ملأتها فالقول الأول والثاني أليق بالأصل. والأول والثالث موافق لقوله فجرت وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ فيه ثلاثة أقوال: أحدها أن التزويج بمعنى

_ (1) . كذا في الأصل ولعل الصواب: تقر أو تفرّق والله أعلم. (2) . قرأ ابن كثير وأبو عمرو: سجرت بدون تشديد والباقون بالتشديد.

[سورة التكوير (81) : الآيات 8 إلى 18]

التنويع لأن الأزواج هي الأنواع، فالمعنى جعل الكافر مع الكافر والمؤمن مع المؤمن والثاني زوجت نفوس المؤمنين بزوجاتهم من الحور العين والثالث زوجت الأرواح والأجساد أي ردت إليها عند البعث والأول هو الأرجح، لأنه روي عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن عمر بن الخطاب وابن عباس وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ الموؤدة هي البنت التي كان بعض العرب يدفنها حية من كراهته لها، ومن غيرته عليها فتسأل يوم القيامة بأي ذنب قتلت على وجه التوبيخ لقاتلها، وقرأ ابن عباس وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ بضم القاف وسكون اللام وضم التاء واستدل ابن عباس بهذه الآية على أن أولاد المشركين في الجنة لأن الله ينتصر لهم ممن ظلمهم وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ «1» هي صحف الأعمال تنشر ليقرأ كل أحد كتابه، وقبل: هي الصحف التي تتطاير بالإيمان والشمائل بالجزاء وَإِذَا السَّماءُ كُشِطَتْ الكشط هو التقشير كما يكشط جلدة الشاة حين تسلخ، وكشط السماء هو طيها كطي السجل قاله ابن عطية وقيل: معناه كشفت وهذا أليق بالكشط وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ «2» أي أوقدت وأحميت. وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ أي قربت عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ هذا جواب إذا المكررة في المواضع قبل هذا، ومعناه علمت كل نفس ما أحضرت من عمل، فلفظ النفس مفرد يراد به الجنس والعموم وقال ابن عطية: إنما أفردها ليبين حقارتها وذلتها وقال الزمخشري: هذا من عكس كلامهم الذي يقصد به الإفراط فيما يعكس عنه رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا [الحجر: 2] ومعناه التكثير، وكذلك هنا معناه أعم الجموع ما أَحْضَرَتْ عبارة عن الحسنات والسيئات فَلا أُقْسِمُ ذكرت نظائره بِالْخُنَّسِ الْجَوارِ الْكُنَّسِ يعني الدراري السبعة وهي الشمس والقمر وزحل وعطارد والمريخ والمشتري والزهرة وذلك أن هذه الكواكب تخنس في جريها أي تتقهقر، فيكون النجم في البرج ثم يكرّ راجعا وهي جواري في الفلك، وهي تنكنس في أبراجها أي تستتر وهو مشتق من قولك: كنس الوحش إذا دخل كناسه وهو موضعه وقيل: يعني الدراري الخمسة لأنها تستتر بضوء الشمس وقيل: يعني النجوم كلها، لأنها تخنس في جريها وتنكنس بالنهار أي تستر، وتختفي بضوء الشمس. وقيل: يعني بقر الوحش، فالخنس على هذا من خنس الأنف والكنس من سكناها في كناسها وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ يقال عسعس إذا كان غير مستحكم الظلام فقيل: ذلك في أوله وقيل: في آخره وهذا أرجح، لأن آخر الليل أفضل ولأنه أعقبه بقوله وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ أي استطار واتسع

_ (1) . نشرت قرأها نافع وابن عامر وعاصم بالتخفيف والباقون نشّرت بالتشديد. (2) . سعّرت قرأها نافع وابن عامر وعاصم بالتشديد والباقون سعرت بالتخفيف.

[سورة التكوير (81) : الآيات 19 إلى 29]

ضوؤه إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ الضمير للقرآن والرسول الكريم جبريل وقيل: محمد صلى الله عليه وآله وسلم قال السهيلي: لا يجوز أن يقال إنه محمد عليه السلام لأن الآية نزلت في الرد على الذين قالوا إن محمدا قال القرآن فكيف يخبر الله أنه قوله، وإنما أراد جبريل. وأضاف القرآن إليه لأنه جاء به، وهو في الحقيقة قول الله تعالى وهذا الذي قال السهيلي لا يلزم، فإنه قد يضاف إلى محمد صلى الله عليه وسلم، لأنه تلقاه عن جبريل عليه السلام، وجاء به إلى الناس، ومع ذلك فالأظهر أنه جبريل وصفه بقوله: ذي قوة وقد وصف جبريل بهذا لقوله شديد القوى وذو مرة عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ يتعلق بذي قوة، وقيل: بمكين، وهذا أظهر والمكين الذي له مكانة أي جاه وتقريب مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ هذا الظرف إشارة إلى الظرف المذكور قبله. وهو عند ذي العرش أي مطاع في ملائكة ذي العرش وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ هو محمد صلى الله عليه وسلم باتفاق وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ ضمير الفاعل لمحمد صلى الله عليه وسلم، وضمير المفعول لجبريل عليه السلام، وهذه الرؤية له بغار حراء على كرسي بين السماء والأرض. وقيل: الرؤية التي رآه عند سدرة المنتهى في الإسراء، ووصف هذا الأفق بالمبين لأنه روي أنه كان في المشرق من حيث تطلع الشمس، وأيضا فكل أفق فهو مبين وَما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ الضمير للنبي صلى الله عليه وسلم. ومن قرأ بالضاد فمعناه بخيل أي لا يبخل بأداء ما ألقى إليه من الغيب، وهو الوحي، ومن قرأ بالظاء «1» فمعناه متهم أي لا يتهم على الوحي، بل هو أمين عليه. ورجح بعضهم هذه القراءة بأن الكفار لم ينسبوا محمدا صلى الله عليه وسلم إلى البخل بالوحي بل اتهموه فنفى عنه ذلك وَما هُوَ بِقَوْلِ شَيْطانٍ رَجِيمٍ الضمير للقرآن فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ خطاب لكفار قريش أي ليس لكم زوال عن هذه الحقائق. وقد تقدم تفسير بقية السورة في نظائره فيما تقدم.

_ (1) . بظنين: هي قراءة ابن كثير وأبو عمرو والكسائي والباقون بالضاد: بضنين.

سورة الانفطار

سورة الانفطار مكية وآياتها 19 نزلت بعد النازعات بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (سورة الإنفطار) إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ أي انشقت وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ أي سقطت من مواضعها وَإِذَا الْبِحارُ فُجِّرَتْ أي فرغت وقيل: فجر بعضها إلى بعض فاختلط وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ أي نبشت على الموتى الذين فيها، وقال الزمخشري: أصله من البعث والبحث فضمت إليها الراء والمعنى بحثت وأخرج موتاها عَلِمَتْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ هذا هو الجواب ومعناه: علمت كل نفس جميع أعمالها، وقيل ما قدمت في حياتها وما أخرت مما تركته بعد موتها من سنّتها أو وصيّة أوصت بها، وأفردت النفس والمراد به العموم حسبما ذكرنا في التكوير. يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ خطاب لجنس بني آدم ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ هذا توبيخ وعتاب معناه: أي شيء غرّك بربك حتى كفرت به أو عصيته، أو غفلت عنه فدخل في العتاب الكفار وعصاة المؤمنين، ومن يغفل عن الله في بعض الأحيان من الصالحين. وروي أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قرأ ما غرّك بربك الكريم فقال: غرّه جهله وقال عمر: غرّه جهله وحمقه. وقرأ إنه كان ظلوما جهولا، وقيل: غرّه الشيطان المسلط عليه. وقيل: غرّه ستر الله عليه وقيل: غرّه طمعه في عفو الله عنه. ولا تعارض بين هذه الأقوال لأن كل واحد منهما مما يغرّ الإنسان، إلا أن بعضها يغرّ قوما وبعضها يغر قوما آخرين فإن قيل: ما مناسبة وصفه بالكريم هنا للتوبيخ على الغرور؟ فالجواب أن الكريم ينبغي أن يعبد ويطاع شكرا لإحسانه ومقابلة لكرمه، ومن لم يفعل ذلك فقد كفر النعمة وأضاع الشكر الواجب فَعَدَلَكَ «1» بالتشديد والتخفيف أي عدل أعضاءك وجعلها متوازية فلم يجعل إحدى اليدين أطول من الأخرى، ولا إحدى العينين أكبر من الأخرى ولا إحداهما كحلاء

_ (1) . قرأ عاصم وحمزة والكسائي بالتخفيف والباقون بالتشديد. [.....]

[سورة الانفطار (82) : الآيات 8 إلى 19]

والأخرى زرقاء ولا بعض الأعضاء أبيض وبعضها أسود وشبه ذلك من الموازنة فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ المجرور يتعلق بركبك وما زائدة، والمعنى ركبك في أي صورة شاء من الحسن والقبح، والطول والقصر، والذكورة والأنوثة، وغير ذلك من اختلاف الصور، ويحتمل أن يتعلق المجرور بمحذوف تقديره: ركبك حاصلا في أي صورة وقيل: يتعلق بعدلك على أن يكون بمعنى صرفك إلى أي صورة شاء هذا بعيد، ولا يمكن إلا مع قراءة عدلك بالتخفيف. كَلَّا ردع عن الغرور المذكور قبل، والتكذيب المذكور بعد بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ هذا خطاب للكفار والدين هنا يحتمل أن يكون بمعنى الشريعة أو الحساب أو الجزاء وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ يعني الملائكة الذين يكتبون أعمال بني آدم يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ يعلمون الأعمال لمشاهدتهم لها، وأما ما لا يرى ولا يسمع من الخواطر والنيات والذكر بالقلب فقيل: إن الله ينفرد بعلم ذلك، وقيل إن الملك يجد لها ريحا يدركها به إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ في هذه الآية وفيما بعدها من أدوات البيان المطابقة والترصيع وَما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ فيه قولان: أحدهما أن معناه لا يخرجون منها إذا دخلوها والآخر لا يغيبون عنها في البرزخ قبل دخولها لأنهم يعرضون عليها غدوا وعشيا وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ تعظيم له وتهويل، وكرّره للتأكيد والمعنى أنه من شدته بحيث لا يدري أحد مقدار هوله وعظمته يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً أي لا يقدر أحد على منفعة أحد وقرأ [ابن كثير وأبو عمرو] يوم بالرفع على البدل من يوم الدين، أو على إضمار مبتدأ، أو بالنصب على الظرفية بإضمار فعل تقديره فعل يجازون يوم الدين أو النصب على المفعولية بإضمار فعل تقديره اذكر، ويجوز أن يفتح لإضافته إلى غير متمكن وهو في موضع رفع.

سورة المطففين

سورة المطففين مكية وآياتها 36 نزلت بعد العنكبوت وهي آخر سورة نزلت بمكة بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (سورة المطففين) وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ التطفيف في اللغة هو البخس والنقص وفسره بذلك الزمخشري واختاره ابن عطية وقيل: هو تجاوز الحد في زيادة أو نقصان واختاره ابن الفرس وهو الأظهر لأن المراد به هنا بخس حقوق الناس في المكيال والميزان، بأن يزيد الإنسان على حقه أو ينقص من حق غيره، وسبب نزول السورة أنه كان بالمدينة رجل يقال له أبو جهينة له مكيالان يأخذ بالأوفى ويعطى بالأنقص، فالسورة على هذا مدنية وقيل مكية لذكر أساطير الأولين وقيل: نزل بعضها بمكة. ونزل أمر التطفيف بالمدينة إذ كانوا أشد الناس فسادا في هذا المعنى فأصلحهم الله بهذه السورة الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ معنى اكتالوا على الناس قبضوا منهم بالكيل فعلى بمعنى من وإنما أبدلت منها لما تضمن الكلام من معنى التحامل عليهم، ويجوز أن يتعلق على الناس بيستوفون وقدم المفعول لإفادة التخصيص وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ معنى يخسرون ينقصون حقوق الناس وهو من الخسارة، يقال: خسر الرجل وأخسره غيره إذا جعله يخسر، وكالوهم معناه: كالوا لهم أو وزنوهم معناه وزنوا لهم، ثم حذف حرف الجرّ فانتصب المفعول لأن هذين الفعلين يتعدى كل واحد منهما تارة بنفسه وتارة بحرف الجرّ يقال: كلتك وكلت لك ووزنتك ووزنت لك بمعنى واحد. وحذف المفعول الثاني، وهو المكيل والموزون، والواو التي هي ضمير الفاعل للمطففين والهاء الذي هي ضمير المفعول للناس. فالمعنى إذا كالوا أو وزنوا لهم طعاما أو غيره مما يكال أو يوزن يخسرونهم حقوقهم، وقيل: إن هم في كالوهم أو وزنوهم تأكيد للضمير الفاعل وروي عن حمزة أنه كان يقف على كالوا ووزنوا ثم يبتدئ هم ليبين هذا المعنى وهو ضعيف من وجهين، أحدهما: أنه لم يثبت في المصحف ألف بعد الواو في كالوا ووزنوا فدلّ ذلك على أن هم ضمير المفعول. والآخر أن المعنى على هذا أن المطففين إذا تولوا الكيل أو الوزن نقصوا، وليس ذلك بمقصود لأن الكلام واقع في الفعل لا في المباشر، ألا ترى أنّ اكتالوا على الناس معناه: قبضوا منهم

[سورة المطففين (83) : الآيات 4 إلى 15]

وكالوهم أو وزنوهم معناه: دفعوا لهم. فقابل القبض بالدفع. وأما على هذا الوجه الضعيف فهو خروج عن المقصود، قال ابن عطية: ظاهر الآية أن الكيل والوزن على البائعين وليس ذلك بالجلي. قال: صدر الآية في المشترين، فهم الذين يستوفون أو يشاحّون ويطلبون الزيادة. وقوله: وإذا كالوهم أو وزنوهم في البائعين فهم الذين يخسرون المشتري. أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ يعني يوم القيامة، وهذا تهديد للمطففين وإنكار لفعلهم، وكان عبد الله بن عمر إذا مر بالبائع يقول له: اتق الله وأوف الكيل، فإن المطففين يوقفون يوم القيامة لعظمة الرحمن يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ الظرف منصوب بقوله: مبعوثون وقيل: بفعل مضمر أو بدل من يوم عظيم، وقيام الناس يوم القيامة على حسب اختلافهم، فمنهم من يقوم خمسين ألف سنة وأقل من ذلك حتى أن المؤمن يقوم على قدر الصلاة مكتوبة كَلَّا ردع عن التطفيف أو افتتاح كلام إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ كتاب الفجار هو ما يكتب من أعمالهم، والفجار هنا يحتمل أن يريد به الكفار أو المطففين وإن كانوا مسلمين، والأول أظهر لقوله بعد هذا: ويل يومئذ للمكذبين. وسجين اسم علم منقول من صفة على وزن فعيل للمبالغة، وقد عظم أمره بقوله: وَما أَدْراكَ ما سِجِّينٌ، ثم فسره بأنه كِتابٌ مَرْقُومٌ أي مسطور بين الكتابين وهو كتاب جامع يكتب فيه أعمال الشياطين والكفار، والفجار وهو مشتق من السجن بمعنى الحبس، لأنه سبب الحبس والتضييق، في جهنم ولأنه في مكان الهوان والعذاب كالسجن، فقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه في الأرض السفلى، وروي عنه أنه في بئر هناك، وحكى كعب عن التوراة أنه في شجرة سوداء هنالك، وقال ابن عطية: يحتمل أن يكون معنى الآية أن عدد الفجار في سجين أي كتبوا هنالك في الأزل أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ قد ذكر بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ «1» أي غطى على قلوبهم ما كسبوا من الذنوب، فطمس بصائرهم فصاروا لا يعرفون الرشد من الغي وفي الحديث «2» : أن العبد إذا أذنب ذنبا صارت نكتة سوداء في قلبه فإذا زاد ذنب آخر زاد السواد فلا يزال كذلك حتى يتغطى وهو الرين لَمَحْجُوبُونَ حجب

_ (1) . بل ران: قرأها حفص بإظهار اللام وقرأ الباقون بالإدغام، كما أنّ الألف في ران قرأها بالإمالة حمزة والكسائي وأبو بكر وقرأها الباقون بغير إمالة. (2) . الحديث مشهور وقد رواه الإمام الطبري بعدة ألفاظ قريبة بسنده إلى أبي هريرة لدى تفسيره للآية. وذكره المناوي وعزاه لأحمد والترمذي والنسائي وابن ماجة وغيرهم عن أبي هريرة بأسانيد صحيحة.

[سورة المطففين (83) : الآيات 16 إلى 28]

الكفار عن الله، على أن المؤمنين لا يحجبون وقد استدل بها مالك والشافعي على صحة رؤية المؤمن لله في الآخرة، وتأولها المعتزلة أن معناها محجوبون عن رحمته «1» إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ عليّون اسم علم للكتاب الذي تكتب فيه الحسنات، وهذا جمع منقول من صفة علي، على وزن فعيل للمبالغة وقد عظمه بقوله: وَما أَدْراكَ ما عِلِّيُّونَ ثم فسره بقوله: كِتابٌ مَرْقُومٌ وهو مشتق من العلوّ لأنه سبب في ارتفاع الدرجات في الجنة، أو لأنه مرفوع في مكان علي، فقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه تحت العرش، وقال ابن عباس: هو الجنة وارتفع كتاب مرقوم في الموضعين على أنه خبر مبتدأ مضمر تقديره هو كتاب، وقال ابن عطية: كتاب مرقوم خبر إن والظرف ملغى وهذا تكلف يفسد به المعنى، وقد روى في الأثر ما روي في الآية وهو أن الملائكة تصعد بصحيفة فيها عمل العبد فإن رضيه الله قال اجعلوه في عليين، وإن لم يرضه قال اجعلوه في سجين يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ يعني الملائكة المقربين (الْأَرائِكِ) قد ذكر (يَنْظُرُونَ) روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ينظرون إلى أعدائهم في النار وقيل: ينظرون إلى الجنة وما أعطاهم الله فيها نَضْرَةَ النَّعِيمِ أي بهجته ورونقه، كما يرى في وجوه أهل الرفاهية العافية والخطاب في تعرف للنبي صلى الله عليه وآله وسلم أو لكل مخاطب من غير تعيين. يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ الرحيق الخمر الصافية، والمختوم فسره الله بأن ختامه مسك، وقرئ ختامه بألف بعد التاء، وخاتمه بألف بعد الخاء وبفتح التاء وكسرها وفي معناه ثلاثة أقوال: أحدها أنه من الختم على الشيء، بمعنى جعل الطابع عليه فالمعنى أنه ختم على فم الإناء الذي هو فيه بالمسك، كما يختم على أفواه آنية الدنيا بالطين إذا قصد حفظها، وصيانتها الثاني أنه من ختم الشيء أي تمامه فمعناه: خاتم شربه مسك أي يجد الشارب عند آخر شربه رائحة المسك ولذته الثالث أن معناه مزاجه مسك أي مزج الشراب بالمسك، وهذا خارج عن اشتقاق اللفظ وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ التنافس في الشيء هو الرغبة فيه، والمغالاة في طلبه والتزاحم عليه وَمِزاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ تسنيم اسم لعين في الجنة، يشرب منها المقربون صرفا، ويمزج منه الرحيق الذي يشرب منه الأبرار، فدل ذلك على أن درجة المقربين فوق درجة الأبرار، فالمقربون هم السابقون والأبرار هم أصحاب اليمين عَيْناً منصوب على المدح بفعل مضمر، أو على الحال من تسنيم يَشْرَبُ بِهَا بمعنى يشربها فالباء زائدة ويحتمل أن يكون بمعنى يشرب منها أو كقولك شربت الماء بالعسل.

_ (1) . قول المعتزلة صادق بالنسبة إليهم، فهم محجوبون عن رحمة الله لأنهم حكموا عقولهم في النصوص.

[سورة المطففين (83) : الآيات 29 إلى 36]

إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ نزلت هذه الآية في صناديد قريش، كأبي جهل وغيره مر بهم عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه وجماعة من المؤمنين، فضحكوا منهم واستخفوا بهم وَإِذا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغامَزُونَ أي يغمز بعضهم إلى بعض ويشير بعينيه، والضمير في مروا يحتمل أن يكون للمؤمنين أو للكفار، والضمير في يتغامزون للكفار لا غير فاكهين «1» من الفكاهة وهي اللهو، أي يتفكرون بذكر المؤمنين، والاستخفاف بهم قاله الزمخشري. ويحتمل أن يريد يتفكهون بنعيم الدنيا وَإِذا رَأَوْهُمْ قالُوا إِنَّ هؤُلاءِ لَضالُّونَ أي إذا رأى الكفار المؤمنين نسبوهم إلى الضلال، وقيل: إذا رأى المؤمنون الكفار نسبوهم إلى الضلال والأول أظهر وأشهر وَما أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حافِظِينَ أي ما أرسل الكفار حافظين على المؤمنين، يحفظون أعمالهم ويشهدون برشدهم أو ضلالهم، وكأنه قال كلامهم بالمؤمنين فضول منهم فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ يعني باليوم يوم القيامة إذ قد تقدم ذكره، فيضحك المؤمنون فيه من الكفار، كما ضحك الكفار منهم في الدنيا هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ ما كانُوا يَفْعَلُونَ معنى ثوب جوزي يقال: ثوبه وأثابه إذا جازاه. وهذه الجملة يحتمل أن تكون متصلة بما قبلها في موضع مفعول ينظرون، فتوصل مع ما قبلها أو تكون توقيفا [سؤالا] فيوقف قبلها ويكون معمول ينظرون محذوفا حسبما ذكرنا في ينظرون الذي قبل هذا وهذا أرجح لاتفاق الموضعين.

_ (1) . قرأ حفص وحده: فكهين بدون ألف، والمعنى واحد.

سورة الانشقاق

سورة الانشقاق مكية وآياتها 25 نزلت بعد الانفطار بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (سورة الانشقاق) إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ اختلف في هذا الانشقاق هل هو تشققها بالغمام أو انفتاحها أبوابا، وجواب إذا محذوف ليكون أبلغ في التهويل، إذ يقدّر السامع أقصى ما يتصوره، وحذف للعلم به، اكتفاء بما في سورة التكوير والانفطار من الجواب. وقيل: الجواب ما دل عليه فملاقيه: أي إذا السماء انشقت لقي الإنسان ربه، وقيل: الجواب أذنت على زيادة الواو وهذا ضعيف وَأَذِنَتْ لِرَبِّها معنى أذنت في اللغة: استمعت، وهو عبارة عن طاعتها لربها، وأنها انقادت لله حين أراد انشقاقها، وكذلك طاعة الأرض لما أراد مدّها وإلقاء ما فيها وَحُقَّتْ أي حق لها أن تسمع وتطيع لربها، أو حق لها أن تنشق من أهوال القيامة، وهذه الكلمة من قولهم: هو حقيق بكذا، أو محقوق به. أي: عليه أن يفعله فالمعنى: يحق على السماء أن تسمع وتطيع لربها، أو يحق عليها أن تتشقق، ويحتمل أن يكون أصله حققت بفتح الحاء وضم القاف على معنى التعجب، ثم أدغمت القاف في القاف التي بعدها ونقلت حركتها إلى الحاء وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ أي زال ما عليها من الجبال حتى صارت مستوية وَأَلْقَتْ ما فِيها وَتَخَلَّتْ أي ألقت ما في جوفها من الموتى للحشر، وقيل: ألقت ما فيها من الكنوز. وهذا ضعيف لأن ذلك يكون وقت خروج الدجال قبل القيامة، والمقصود ذكر يوم القيامة، وتخلت أي بقيت خالية مما كان فيها. يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ خطاب للجنس إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ الكدح في اللغة هو: الجد والاجتهاد والسرعة، فالمعنى أنك في غاية الاجتهاد في السير إلى ربك، لأن الزمان يطير، وأنت في كل لحظة تقطع حظا من عمرك القصير، فكأنك سائر مسرع إلى الموت، ثم تلاقي ربك، وقيل: المعنى إنك ذو جد فيما تعمل من خير أو شر، ثم تلقى ربك فيجازيك به والأول أظهر، لأن كادح تعدى بإلى لما تضمن معنى السير، ولو كان بمعنى العمل لقال: لربك فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ ذكر في الحاقة فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً

يحتمل أن يكون اليسير بمعنى قليل، أو بمعنى هيّن سهل، وفي الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من نوقش الحساب عذّب. فقالت عائشة ألم يقل الله فسوف يحاسب حسابا يسيرا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما ذلك العرض وأما من نوقش الحساب فيهلك «1» . وفي الحديث أيضا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله يدني العبد يوم القيامة حتى يضع كنفه عليه فيقول: فعلت كذا وكذا ويعدد عليه ذنوبه ثم يقول سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم «2» ، وروي أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال: «من حاسب نفسه في الدنيا هون الله عليه حسابه يوم القيامة» «3» وَيَنْقَلِبُ إِلى أَهْلِهِ مَسْرُوراً أي يرجع إلى أهله في الجنة مسرورا بما أعطاه الله، والأهل: زوجاته في الجنة من نساء الدنيا أو من الحور العين، ويحتمل أن يريد قرابته من المؤمنين، وبذلك فسره الزمخشري. وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ يعني: الكافر. وروي أن هاتين الآيتين نزلتا في أبي سلمة بن عبد الأسد، وكان من فضلاء المؤمنين وفي أخيه أسود، وكان من عتاة الكافرين، ولفظها أعم من ذلك فإن قيل: كيف قال في الكافر هنا أن يؤتى كتابه وراء ظهره وقال في الحاقة بشماله؟ فالجواب من وجهين أحدهما: أن يديه تكونان مغلولتين إلى عنقه، وتجعل شماله وراء ظهره فيأخذ بها كتابه، وقيل: تدخل يده اليسرى في صدره وتخرج من ظهره فيأخذ بها كتابه يَدْعُوا ثُبُوراً أي يصيح بالويل والثبور «4» إِنَّهُ كانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُوراً أي كان في الدنيا مسرورا مع أهله، متنعما غافلا عن الآخرة، وهذا في مقابلة ما حكي عن المؤمن أنه ينقلب إلى أهله مسرورا في الجنة، وهو ضد ما حكي عن المؤمنين في الجنة من قولهم: إنا كنا قبل في أهلنا مشفقين إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ أي لا يرجع إلى الله، والمعنى أنه يكذب بالبعث بَلى أي يحور ويبعث فَلا أُقْسِمُ ذكر في نظائره بِالشَّفَقِ هي الحمرة التي تبقى بعد غروب الشمس، وقال أبو حنيفة: هو البياض، وقيل: هو النهار كله. وهذا ضعيف والأول هو المعروف عند الفقهاء وعند أهل اللغة وَاللَّيْلِ وَما وَسَقَ أي جمع وضم، ومنه الوسق «5» ، وذلك أن الليل يضم الأشياء ويسترها

_ (1) . الحديث رواه أحمد عن عائشة ج 6 ص 48. (2) . رواه أحمد عن ابن عمر ج 2 ص 57. (3) . لم أعثر عليه ومعناه صحيح. (4) . الآية: ويصلى سعيرا هكذا قرأها أبو عمرو وعاصم وحمزة وقرأها الباقون: ويصلّى بالتشديد. (5) . مكيال يساوي 60 صاعا والصاع: 3 أمداد. والوسق يساوي تقريبا أكثر بقليل من 120 كيلو غرام.

[سورة الانشقاق (84) : الآيات 18 إلى 25]

بظلامه وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ أي إذا كمل ليلة أربعة عشر، ووزن اتسق افتعل وهو مشتق من الوسق، فكأنه امتلأ نورا. وفي الآية من أدوات البيان لزوم ما لا يلزم، لالتزام السين قبل القاف في وسق واتسق. لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ الطبق في اللغة له معنيان: أحدهما ما طابق غيره. يقال: هذا طبق لهذا إذا طابقه والآخر جمع طبقة فعلى الأول يكون المعنى لتركبن حالا بعد حال كل واحدة منها مطابقة للأخرى، وعلى الثاني يكون المعنى لتركبن أحوالا بعد أحوال هي طبقات بعضها فوق بعض، ثم اختلف في تفسير هذه الأحوال، وفي قراءة تركبن فأما من قرأ بضم الباء «1» فهو خطاب لجنس الإنسان، وفي تفسير الأحوال على هذا ثلاثة أقوال أحدها أنها شدائد الموت ثم البعث ثم الحساب ثم الجزاء والآخر أنها كون الإنسان نطفة ثم علقة إلى أن يخرج إلى الدنيا ثم إلى أن يهرم ثم يموت والثالث لتركبن سنن من كان قبلكم. وأما من قرأ تركبنّ بفتح الباء فهو خطاب للإنسان على المعاني الثلاثة التي ذكرنا، وقيل: هي خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، ثم اختلف القائلون بهذا على ثلاثة أقوال أحدها: لتركبن مكابدة الكفار حالا بعد حال، والآخر: لتركبن فتح البلاد شيئا بعد شيء والثالث لتركبن السموات في الإسراء [سماء] بعد سماء وقوله: عن طبق في موضع الصفة لطبقا أو في موضع حال من الضمير في تركبن قاله الزمخشري. فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ الضمير لكفار قريش، والمعنى أي شيء يمنعهم من الإيمان وَإِذا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ هذا موضع سجدة عند الشافعي وغيره لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم سجد فيها وليست عند مالك من عزائم السجدات الَّذِينَ كَفَرُوا يعني المذكورين ووضع الظاهر موضع الضمير ليصفهم بالكفر وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُوعُونَ أي بما يجمعون في صدورهم من الكفر والتكذيب أو بما يجمعون في صحائفهم، يقال أوعيت المال وغيره إذا جمعته فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ وضع البشارة في موضع النذارة تهكما بهم إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا يعني من قضى له بالإيمان من هؤلاء الكفار، فالاستثناء على هذا متصل، وإلى هذا أشار ابن عطية وقال الزمخشري هو منقطع أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ قد ذكر.

_ (1) . وهم معظم القراء ما عدا ابن كثير وحمزة والكسائي فإنهم قرءوها بفتح الباء.

سورة البروج

سورة البروج مكية وآياتها 22 نزلت بعد الشمس بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (سورة البروج) وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ البروج هي المنازل المعروفة وهي اثنا عشر، تقطعها الشمس في السنة، وقيل: هي النجوم العظام، لأنها تتبرج أي تظهر وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ هو يوم القيامة باتفاق، وقد ذكر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وَشاهِدٍ وَمَشْهُودٍ يحتمل الشاهد والمشهود أن يكون من الشهادة على الأمر، أو يكون من معنى الحضور، وحذف المعمول وتقديره: مشهود عليه أو مشهود به أو مشهود فيه. وقد اضطرب الناس في تفسير الشاهد والمشهود اضطرابا عظيما، ويتلخص من أقوالهم في الشاهد ستة عشر قولا يقابلها في المشهود اثنان وثلاثون قولا، الأول: أن الشاهد هو الله تعالى لقوله وكفى بالله شهيدا والمشهود على هذا يحتمل ثلاثة أوجه، أحدها أن يكون الخلق بمعنى أنه يشهد عليهم والآخر أن تكون الأعمال بمعنى أنه يشهد بها والثالث أن يكون يوم القيامة، بمعنى أنه يشهد فيه أي يحضر للحساب والجزاء، أو تقع فيه الشهادة على الناس، القول الثاني: أن الشاهد محمد صلى الله عليه وآله وسلم لقوله: وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً [الحج: 78] والمشهود على هذا يحتمل أن يكون أمته لأنه يشهد عليهم أو أعمالهم، لأنه يشهد بها أو يوم القيامة لأنه يشهد فيه، أي يحضر أو تقع فيه الشهادة على الأمة، القول الثالث: أن الشاهد أمة محمد صلى الله عليه وسلم لقوله: لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ [البقرة: 143] والمشهود على هذا سائر الأمم لأنهم يشهدون عليهم أو أعمالهم أو يوم القيامة، القول الرابع أن الشاهد هو عيسى عليه السلام والمشهود أمته لقوله: وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ [المائدة: 117] أو أعمالهم، أو يوم القيامة. الخامس أن الشاهد جميع الأنبياء، والمشهود أممهم لأن كل نبيّ يشهد على أمته، أو يشهد القول بأعمالهم أو يوم القيامة لأنه يشهد فيه، القول السادس أن الشاهد الملائكة الحفظة والمشهود على هذا الناس لأن الملائكة يشهدون عليهم أو الأعمال لأن الملائكة يشهدون بها أو يوم القيامة، أو صلاة الصبح لقوله: إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً [الإسراء: 78]

[سورة البروج (85) : آية 4]

القول السابع أن الشاهد جميع الناس، لأنهم يشهدون يوم القيامة أي يحضرونها، والمشهود يوم القيامة لقوله وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ [هود: 103] والقول الثامن أن الشاهد الجوارح والمشهود عليه أصحابها، لقوله: يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ [النور: 24] أو الأعمال لأن الجوارح تشهد بها يوم القيامة لأن الشهادة تقع فيه، القول التاسع أن الشاهد الله والملائكة وأولوا العلم لقوله: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ [آل عمران: 18] والمشهود به الوحدانية، القول العاشر: الشاهد جميع المخلوقات والمشهود به وجود خالقها وإثبات صفاته من الحياة والقدرة وغير ذلك، القول الحادي عشر أن الشاهد النجم لما ورد في الحديث: لا صلاة بعد العصر حتى يطلع الشاهد وهو النجم «1» والمشهود على هذا الليل والنهار لأن النجم يشهد بانقضاء النهار ودخول الليل القول الثاني عشر أن الشاهد الحجر الأسود والمشهود الناس الذين يحجون. القول الثالث عشر روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الشاهد يوم الجمعة والمشهود يوم عرفة وذلك أن يوم الجمعة يشهد بالأعمال ويوم عرفة يشهده جمع عظيم من الناس «2» ، القول الرابع عشر أن الشاهد يوم عرفة والمشهود يوم النحر قاله علي بن أبي طالب. القول الخامس عشر أن الشاهد يوم التروية والمشهود يوم عرفة. القول السادس عشر أن الشاهد يوم الاثنين والمشهود يوم الجمعة. قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ الكلام هنا في ثلاثة فصول: الأول في جواب القسم وفيه أربعة أقوال أحدها أنه قوله «إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ» والثاني أنه «إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ» وهذان القولان ضعيفان لبعد القسم من الجواب، وثالثها أنه «قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ» تقديره: لقد قتل ورابعها أنه محذوف يدل عليه قتل أصحاب الأخدود تقديره: لقد قتل هؤلاء الكفار كما قتل أصحاب الأخدود، وذلك أن الكفار من قريش كانوا يعذبون من أسلم من قومهم ليرجعوا عن الإسلام، فذكر الله قصة أصحاب الأخدود وعيدا للكفار وتأنيسا للمسلمين المعذبين، الفصل الثاني في تفسير لفظها، فأما قتل فاختلف هل هو دعاء أو خبر؟ واختلف هل هو بمعنى القتل حقيقة أو بمعنى اللعن؟ وأما الأخدود فهو الشق في الأرض كالخندق وشبهه، وأما أصحاب الأخدود فيحتمل أن يريد بهم الكفار الذين كانوا يحرقون المؤمنين في الأخدود، أو يريد المؤمنين الذين حرقوا فيه، فيكون القتل حقيقة خبر، أو الأول أظهر. الفصل الثالث في قصة أصحاب الأخدود وفيها أربعة أقوال: الأول ما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث طويل معناه: أن ملكا كافرا أسلم أهل بلده، فأمر

_ (1) . الحديث رواه أحمد ج 6 ص 397، عن أبي بصرة الغفاري. (2) . رواه الطبري في تفسيره للآية بسنده إلى أبي هريرة وعلي بن أبي طالب وابن عباس.

[سورة البروج (85) : الآيات 5 إلى 10]

بالأخدود فخدّ في أفواه السكك وأضرم فيها النيران فقال: من لم يرجع عن دينه فألقوه فيها ففعلوا، حتى جاءت امرأة ومعها صبي لها فتقاعست أن تقع فيها فقال لها الغلام: يا أماه اصبري فإنك على الحق. الثاني أن ملكا زنى بأخته ثم أراد أن يحلل للناس نكاح الأخوات فأطاعه قوم ومنهم أخذ المجوس ذلك، وعصاه قوم فحفر لهم الأخدود فأحرقهم فيه بالنار القول الثالث أن نبي أصحاب الأخدود كان حبشيا، وأن الحبشة بقية أصحاب الأخدود. القول الرابع أن أصحاب الأخدود ذو نواس المذكور في قصة عبد الله بن التامر التي وقعت في السير «ويحتمل أن يكون ذو نواس الملك الذي ذكره النبي صلى الله عليه وسلم فيتفق هذا القول مع الأول فإن ذا نواس حفر أخدودا فأوقد فيه نيرانا وألقى فيها كل من وحد الله تعالى واتبع العبد الصالح عبد الله بن التامر. النَّارِ ذاتِ الْوَقُودِ النار بدل من الأخدود، وهو بدل اشتمال، والوقود ما توقد به النار، والقصد وصف النار بالشدة والعظم إِذْ هُمْ عَلَيْها قُعُودٌ الضمير للكفار الذين كانوا يحرقون المؤمنين في الأخدود، وهم أصحاب الأخدود على الأظهر. والعامل في إذ قوله: قتل فروي أن النار أحرقت من المؤمنين عشرين ألفا، وقيل: سبعين ألفا فقتل على هذا بمعنى لعن أي لعنوا حين قعدوا على النار لتحريق المؤمنين، وروي أن الله بعث على المؤمنين ريحا فقبضت أرواحهم وخرجت النار فأحرقت الكفار الذين كانوا عليها، فقتل على هذا بمعنى القتل الحقيقي أي قتلتهم النار وقيل: الضمير في إذ هم للمؤمنين، والأول أشهر وأظهر لقوله: وَهُمْ عَلى ما يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ يحتمل أن يكون بمعنى الشهادة أي: يشهد بعضهم لبعض عند الملك بأنه فعل ما أمره الملك من التحريق، أو يشهدون بذلك على أنفسهم يوم القيامة، أو يكون بمعنى الحضور أي كانوا حاضرين على ذلك الفعل وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ أي ما أنكر الكفار على المؤمنين إلا أنهم آمنوا بالله، وهذا لا ينبغي أن ينكر. فإن قيل: لم قال أن يؤمنوا بلفظ المضارع ولم يقل آمنوا بلفظ الماضي لأن القصة قد وقعت؟ فالجواب أن التعذيب إنما كان على دوامهم على الإيمان، ولو كفروا في المستقبل لم يعذبوهم، فلذلك ذكره بلفظ المستقبل فكأنه قال: إلا أن يدوموا على الإيمان. إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ إن كانت هذه الآية في أصحاب الأخدود فالفتنة هنا بمعنى الإحراق، وإن كانت في كفار قريش فالفتنة بمعنى المحنة، والتعذيب وهذا أظهر لقوله: ثم لم يتوبوا لأن أصحاب الأخدود لم يتوبوا بل ماتوا على كفرهم. وأما قريش فمنهم من أسلم وتاب، وفي الآية دليل على أن الكافر إذا أسلم يغفر له ما فعل في

[سورة البروج (85) : الآيات 11 إلى 22]

حال كفره لقوله صلى الله عليه وسلم الإسلام يجبّ ما قبله «1» وَلَهُمْ عَذابُ الْحَرِيقِ يحتمل أن يكون في الآخرة، فيكون تأكيدا لعذاب جهنم، أو نوعا من العذاب زيادة إلى عذاب جهنم. ويحتمل أن يريد في الدنيا، وذلك على رواية أن الكفار أصحاب الأخدود أحرقتهم النار إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ البطش الأخذ بقوة وسرعة إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ أي يبدئ الخلق بالنشأة الأولى، ويعيدهم بالنشأة الآخرة للبعث وقيل: يبدئ البطش ويعيده أي يبطش بهم في الدنيا والآخرة والأول أظهر وأرجح لقوله: إِنَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ [يونس: 4] وقد ذكرنا الودود في [مقدمة] اللغات ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ أضاف العرش إلى الله وخصه بالذكر لأن العرش أعظم المخلوقات، والمجيد من المجد وهو الشرف ورفعة القدر، وقرئ المجيد بالرفع صفة لذو العرش وقرأ حمزة والكسائي بالخفض صفة للعرش هَلْ أَتاكَ توقيف [سؤال] يراد به التنبيه وتعظيم الأمر، والمراد بذكر الجنود تهديد الكفار وتأنيس النبي صلى الله عليه وسلم وَاللَّهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ تهديد لهم معناه لا يفوتونه بل يصيبهم عذابه إذا شاء فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ يعني اللوح المحفوظ الذي في السماء وقرئ محفوظ بالخفض صفة للوح وقرأ نافع محفوظ بالرفع صفة للقرآن، أي حفظه الله من التبديل والتغيير، أو حفظه المؤمنون في صدورهم.

_ (1) . الحديث سبق تخريجه وهو في قصة إسلام عمرو بن العاص راجع سيرة ابن هشام.

سورة الطارق

سورة الطارق مكية وآياتها 17 نزلت بعد البلد بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (سورة الطارق) وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ هذه السماء التي أقسم الله بها هي المعروفة. وقيل: أراد المطر لأن العرب قد تسميه سماء، وهذا بعيد والطارق في اللغة ما يطرق أي يجيء ليلا، وقد فسره الله هنا بأنه النجم الثاقب وهو يطلع ليلا ومعنى الثاقب: المضيء أو المرتفع فقيل: أراد جنس النجوم وقيل: الثريا لأنه الذي تطلق عليه العرب النجم وقيل: زحل إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ هذا جواب القسم ومعناه عند الجمهور: أن كل نفس من بني آدم عليها حافظ يكتب أعمالها، يعني: الملائكة الحفظة وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم في تفسير هذه الآية: أن لكل نفس حفظة من الله يذبون عنها كما يذب عن العسل، ولو وكل المرء إلى نفسه طرفة عين لاختطفته الآفات والشياطين» «1» وإن صح هذا الحديث فهو المعوّل عليه. وقرئ لما عليها بتخفيف الميم، وعلى هذا تكون إن مخففة من الثقيلة واللام للتأكيد وما زائدة وقرئ لمّا بالتشديد «2» وعلى هذا تكون إن نافية ولما بمعنى الإيجاب بعد النفي. فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ حذف ألف ما لأنها استفهامية وجوابها خلق من ماء دافق، وسمي المني ماء دافقا من الدفق، بمعنى الدفع فقيل: معناه مدفوق وصاحبه هو الدافق في الحقيقة قال سيبويه: هو على النسب أي ذو دفق، وقال ابن عطية: يصح أن يكون الماء دافقا لأن بعضه يدفع بعضا، ومقصود الآية إثبات الحشر، فأمر الإنسان أن ينظر أصل خلقته ليعلم أن الذي خلقه من ماء دافق قادر على أنه يعيده، ووجه اتصال هذا الكلام بما قبله أنه لما أخبر أن كل نفس عليها حافظ يحفظ أعمالها، أعقبه بالتنبيه على الحشر حيث تجازى كل نفس بأعمالها يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ الضمير في يخرج للماء وقال ابن عطية: يحتمل أن يكون للإنسان، وهذا بعيد جدا والترائب: عظام الصدر واحدها: تريبة وقيل: هي الأطراف كاليدين والرجلين، وقيل: هي عصارة القلب، ومنها

_ (1) . لم أعثر عليه. [.....] (2) . قرأ لمّا بالتشديد ابن عامر وعاصم وحمزة والباقون بدون تشديد.

[سورة الطارق (86) : الآيات 8 إلى 17]

يكون الولد، وقيل: هي الأضلاع التي أسفل الصلب، والأول هو الصحيح المعروف في اللغة، ولذلك قال ابن عباس: هي موضع القلادة ما بين ثديي المرأة، ويعني صلب الرجل وترائبه وصلب المرأة وترائبها، وقيل: أراد صلب الرجل وترائب المرأة إِنَّهُ عَلى رَجْعِهِ لَقادِرٌ الضمير في إنه لله تعالى وفي رجعه للإنسان، والمعنى: أن الله قادر على رجع الإنسان حيا بعد موته، والمراد إثبات البعث. يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ يعني: يوم القيامة، والسرائر جمع سريرة وهي ما أسرّ العبد في قلبه من العقائد والنيات، وما أخفى من الأعمال وبلاؤها هو تعرّفها والاطلاع عليها، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أن السرائر الإيمان والصلاة والزكاة والغسل من الجنابة وهذه معظمها. فلذلك خصّها بالذكر، والعامل في يوم قوله: رجعه أي يرجعه يوم تبلى السرائر، واعترض بالفصل بينهما. وأجيب بقوة المصدر في العمل، وقيل: العامل قادر واعترض بتخصيص القدرة بذلك اليوم، وهذا لا يلزم لأن القدرة وإن كانت مطلقة فقد أخبر الله أن البعث إنما يقع في ذلك اليوم. وقال من احترز من الاعتراضين في القولين المتقدمين: العامل فعل مضمر من المعنى تقديره: يرجعه يوم تبلى السرائر، وهذا كله على المعنى الصحيح في رجعه، وأما على الأقوال الأخر فالعامل في يوم مضمر تقديره: اذكر فَما لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا ناصِرٍ الضمير للإنسان، ولما كان دفع المكاره في الدنيا إما بقوة الإنسان أو بنصرة غيره له أخبره الله أنه يعدمها يوم القيامة وَالسَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ المراد بالرجع عند الجمهور المطر وسماه رجعا بالمصدر، لأنه يرجع كل عام أو لأنه يرجع إلى الأرض، وقيل: الرجع السحاب الذي فيه المطر، وقيل: هو مصدر رجوع الشمس والكواكب من منزلة إلى منزلة وَالْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ يعني ما تصدع عنه الأرض من النبات، وقيل: يعني ما في الأرض من الشقاق والخنادق وشبهها إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ الضمير للقرآن، لأن سياق الكلام يقتضيه، والفصل معناه الذي فصل بين الحق والباطل كما قيل له: فرقان. والهزل: اللهو يعني أنه جدّ كله إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً الضمير لكفار قريش، وكيدهم هو ما دبروه في شأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من الإضرار به وإبطال أمره وَأَكِيدُ كَيْداً هذا تسمية للعقوبة باسم الذنب، للمشاكلة بين الفعلين فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أي لا تستعجل عليهم بالعقوبة لهم أو بالدعاء عليهم، وهذا منسوخ بالسيف أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً أي إمهالا يسيرا قليلا يعني إلى قتلهم يوم بدر، أو إلى الدار الآخرة، وجعله يسيرا، لأن كل آت قريب، ولفظ رويدا هذا صفة لمصدر محذوف، وقد تقع بمعنى الأمر بالتساهل كقولك: رويدا يا فلان، وكرّر الأمر في قوله أمهلهم وخالف بينه وبين لفظ مهل لزيادة التسكين والتصبير قاله الزمخشري.

سورة الأعلى

سورة الأعلى مكية وآياتها 19 نزلت بعد التكوير بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (سورة الأعلى جل جلاله) سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى التسبيح في اللغة التنزيه وذكر الاسم هنا يحتمل وجهين أحدهما: أن يكون المراد المسمى ويكون الإسم صلة كالزائد، ومعنى الكلام سبح اسم ربك أي نزهه عما لا يليق به، وقد يتخرج ذلك على قول من قال: إن الإسم هو المسمى، والآخر أن يكون الإسم مقصودا بالذكر، ويحتمل المعنى على هذا أربعة أوجه، الأول: تنزيه أسماء الله تعالى عن المعاني الباطلة كالتشبيه والتعطيل، الثاني: تنزيه أسماء الله عن أن يسمى بها صنم أو وثن: الثالث: تنزيه أسماء الله عن أن تدرك في حال الغفلة دون خشوع. الرابع أن المراد قول سبحان الله، ولما كان التسبيح باللسان لا بدّ فيه من ذكر الإسم أوقع التسبيح على الإسم، وهذا القول هو الصحيح، ويؤيده ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا قرأ هذه الآية قال سبحان ربي الأعلى وأنها لما نزلت قال: اجعلوها في سجودكم. فدل ذلك على أن المراد هو التسبيح باللسان مع موافقة القلب، ولا بدّ في التسبيح باللسان من ذكر اسم الله تعالى فلذلك قال: سبح اسم ربك الأعلى مع أن التسبيح في الحقيقة إنما هو لله تعالى لا لاسمه، وإنما ذكر الإسم لأنه هو الذي يوصل به إلى التسبيح باللسان. وعلى هذا يكون موفقا في المعنى لقوله فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ [الواقعة: 74] لأن معناه نزّه الله بذكر اسمه ويؤيد هذا ما روي عن ابن عباس أن معنى سبح: صل باسم ربك أي صل واذكر في الصلاة اسم ربك، والأعلى يحتمل أن يكون صفة للرب أو للاسم والأول أظهر. الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى حذف مفعول خلق وسوّى لقصد الإجمال الذي يفيد العموم والمراد خلق كل شيء فسوّاه، أي أتقن خلقته وانظر ما ذكرنا في قوله: فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ [الانفطار: 7] وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى قدّر بالتشديد يحتمل أن يكون من القدر والقضاء، أو من التقدير، والموازنة بين الأشياء، وقرأ الكسائي بالتخفيف فيحتمل أن يكون من القدرة أو التقدير، وحذف المفعول ليفيد العموم. فإن كان من التقدير فالمعنى: قدّر لكل حيوان ما يصلحه فهداه إليه وعرّفه وجه الانتفاع به، وقيل: هدى الناس للخير والشر والبهائم

[سورة الأعلى (87) : الآيات 4 إلى 9]

للمراتع، وهذه الأقوال أمثلة والأول أعم وأرجح، فإن هداية الإنسان وسائر الحيوانات إلى مصالحها باب واسع فيه عجائب وغرائب، وقال الفراء: المعنى هدى وأضلّ واكتفى بالواحدة لدلالتها على الأخرى وهذا بعيد وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى فَجَعَلَهُ غُثاءً أَحْوى المرعى هو النبات الذي ترعاه البهائم، والغثاء هو النبات اليابس المحتطم، وأحوى معناه أسود وهو صفة لغثاء. والمعنى أن الله أخرج المرعى أخضر فجعله بعد خضرته غثاء أسود، لأن الغثاء إذا قدم تعفن واسودّ، وقيل: إن أحوى حال من المرعى، ومعناه: الأخضر الذي يضرب إلى السواد وتقديره: الذي أخرج المرعى أحوى فجعله غثاء، وفي هذا القول تكلف. سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى هذا خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم وعده الله أن يقرئه القرآن فلا ينساه، وفي ذلك معجزة له عليه الصلاة والسلام لأنه كان أميا لا يكتب، وكان مع ذلك لا ينسى ما أقرأه جبريل عليه السلام من القرآن، وقيل: معنى الآية كقوله: لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ [القيامة: 16] الآية: فإنه عليه الصلاة والسلام كان يحرك به لسانه إذا أقرأه جبريل، خوفا أن ينساه فضمن الله له أن لا ينساه، وقيل: فلا تنسى نهي عن النسيان، وقد علم الله أن ترك النسيان ليس في قدرة البشر، فالمراد الأمر بتعاهده حتى لا ينساه. وهذا بعيد لإثبات الألف في تنسى إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ فيه وجهان: أحدهما أن معناه لا تنسى إلا ما شاء الله أن تنساه كقوله: أو ننسها البقرة: 106 والآخر: أنه لا ينسى شيئا ولكن قال: إلا ما شاء الله تعظيما لله بإسناد الأمر إليه كقوله في الأنعام: 128 خالِدِينَ فِيها إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ على بعض الأقوال وعبر الزمخشري: عن هذا بأنه من استعمال التقليل في معنى النفي، والأول أظهر فإن النسيان جائز على النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيما أراد الله أن يرفعه من القرآن، أو فيما قضى الله أن ينساه ثم يذكره، ومن هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم حين سمع قراءة عباد بن بشير رحمه الله: لقد أذكرني كذا وكذا آية كنت قد نسّيتها وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى عطف على سنقرئك ومعناه نوفقك للأمور المرضية التي توجب لك السعادة، وقيل: معناه للشريعة اليسرى من قوله عليه الصلاة والسلام: دين الله يسر «1» أي سهل لا حرج فيه. فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى المراد بهذا الشرط توبيخ الكفار الذين لا تنفعهم الذكرى، واستبعاد تأثير الذكرى في قلوبهم كقولك: قد أوصيتك لو سمعت، وقيل: المعنى: ذكر إن نفعت الذكرى وإن لم تنفع. واقتصر على أحد القسمين لدلالة الآخر عليه، وهذا بعيد

_ (1) . قال المناوي: رواه البخاري بلفظ: إن الدين يسر.

[سورة الأعلى (87) : الآيات 10 إلى 19]

وليس عليه الرونق الذي على الأول سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشى أي من يخاف الله يَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى يعني الكافر وقيل: نزلت في الوليد بن المغيرة وعتبة بن ربيعة، والضمير المفعول للذكرى النَّارَ الْكُبْرى هي نار جهنم وسماها كبرى بالنظر إلى نار الدنيا، وقيل: سماها كبرى بالنظر إلى غيرها من نار جهنم، فإنها تتفاضل، وبعضها أكبر من بعض وكلا القولين صحيح. إلا أن الأول أظهر. ويؤيده قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ناركم هذه التي توقدون جزءا من سبعين جزءا من نار جهنم «1» ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى أي لا يموت فيستريح، ولا يحيا حياة هنيئة، وعطف هذه الجملة بثم لأن هذه الحالة أشد من صلي النار فكأنها بعده في الشدة. قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى يحتمل أن يكون بمعنى الطهارة من الشرك والمعاصي، أو بمعنى الطهارة للصلاة أو بمعنى أداء الزكاة وعلى هذا قال جماعة: إنها يوم الفطر والمعنى أدّى زكاة الفطر وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ في طريق المصلى إلى أن يخرج الإمام وصلى صلاة العيد، وقد روي هذا عن النبي صلى الله عليه وسلم وقيل المراد أدى زكاة ماله وصلى الصلوات الخمس «2» إِنَّ هذا الإشارة إلى ما ذكر من التزهيد في الدنيا والترغيب في الآخرة، أو إلى ما تضمنته السورة أو إلى القرآن بجملته، والمعنى أنه ثابت في كتب الأنبياء المتقدمين كما ثبت في هذا الكتاب.

_ (1) . رواه الشيخان والترمذي عن أبي هريرة. (2) . الآية: بل تؤثرون الحياة الدنيا: قرأ أبو عمرو: بل يؤثرون. بالياء.

سورة الغاشية

سورة الغاشية مكية وآياتها 26 نزلت بعد الذاريات بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (سورة الغاشية) هَلْ أَتاكَ توقيف [سؤال] يراد به التنبيه والتفخيم للأمر، قيل: هل بمعنى قد وهذا ضعيف الْغاشِيَةِ هي القيامة لأنها تغشى جميع الخلق، وقيل: هي النار من قوله: وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ [ابراهيم: 50] وهذا ضعيف لأنه ذكر بعد ذلك قسمين أهل الشقاوة وأهل السعادة خاشِعَةٌ أي ذليلة عامِلَةٌ ناصِبَةٌ هو من النصب بمعنى التعب، وفي المراد بهم ثلاثة أقوال: أحدهما أنهم الكفار ويحتمل على هذا أن يكون عملهم ونصبهم في الدنيا لأنهم كانوا يعملون أعمال السوء ويتعبون فيها، أو يكون في الآخرة فيعملون فيها عملا يتعبون فيه من جر السلاسل والأغلال وشبه ذلك ويكون زيادة في عذابهم: الثاني: أنها في الرهبان الذين يجتهدون في العبادة ولا تقبل منهم، لأنهم على غير الإسلام وبهذا تأولها عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وبكى رحمة لراهب نصراني رآه مجتهدا. فعاملة ناصبة على هذا في الدنيا وناصبة إشارة إلى اجتهادهم في العمل، أو إلى أنه لا ينفعهم فليس لهم منه إلا النصب. الثالث أنها في القدرية. وقد روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر القدرية فبكى وقال إن فيهم المجتهد «1» . تُسْقى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ أي شديدة الحر، ومنه حميم آن، [الرحمن: 44] ووزن آنية هنا فاعلة بخلاف آنية من فضة فإن وزنه أفعلة لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ في الضريع أربعة أقوال: أحدهما أنه شوك يقال له الشبرق وهو سم قاتل وهذا أرجح لأقوال لأن أرباب اللغة ذكروه ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: الضريع شوك في النار. الثاني: أنه الزقوم لقوله: إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعامُ الْأَثِيمِ. [الدخان: 43] الثالث: أنه نبات أخضر منتن ينبت في البحر وهذا ضعيف، الرابع أنه واد في جهنم وهذا ضعيف لأن ما يجري في الوادي ليس بطعام إنما هو شراب، ولله در من قال: الضريع طعام أهل النار فإنه أعم وأسلم من عهدة التعيين. واشتقاقه عند بعضهم من المضارعة، بمعنى المشابهة لأنه يشبه الطعام الطيب وليس به،

_ (1) . في الآية بعدها: تصلى نارا حامية. قرأ أبو عمرو وأبو بكر: تصلى. لتتوازن مع: تسقى التي بعدها.

[سورة الغاشية (88) : الآيات 7 إلى 26]

وقيل: هو بمعنى مضرع للبدن أي مضعف وقيل: إن العرب لا تعرف هذا اللفظ، فإن قيل: كيف قال هنا: ليس لهم طعام إلا من ضريع وقال في الحاقة: ولا طعام إلا من غسلين؟ فالجواب أن الضريع لقوم والغسلين لقوم، أو يكون أحدهما في حال والآخر في حال لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ هذه الجملة صفة لضريع، ولطعام نفي عنه منفعة الطعام وهي التسمين وإزالة الجوع. وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ أي متنعمة في الجنة أو يظهر عليها نضرة النعيم لِسَعْيِها راضِيَةٌ أي راضية في الآخرة لأجل سعيها وهو عملها في الدنيا فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ يحتمل أن يكون من علو المكان أو من علو المقدار أو الوجهين لا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً «1» هو من لغو الكلام ومعناه الفحش وما يكره، فيحتمل أن يريد كلمة لاغية أو جماعة لاغية فِيها عَيْنٌ جارِيَةٌ يحتمل أن يريد جنس العيون أو واحدة شرّفها بالتعيين وَأَكْوابٌ مَوْضُوعَةٌ قد ذكرنا أكواب ومعنى موضوعة: حاضرة، معدة بشرابها وفي قوله: مرفوعة وموضوعة مطابقة وَنَمارِقُ جمع نمرقة وهي الوسادة وَزَرابِيُّ هي بسط فاخرة [السجّاد في اصطلاح اليوم] وقيل: هي الطنافس واحدها زربية مَبْثُوثَةٌ أي متفرقة، وذلك عبارة عن كثرتها وقيل: مبسوطة أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ حض على النظر في خلقتها لما فيها من العجائب في قوتها، وانقيادها مع ذلك لكل ضعيف، وصبرها على العطش، وكثرة المنافع التي فيها من الركوب والحمل عليها، وأكل لحومها وشرب ألبانها، وأبوالها وغير ذلك. وقيل: أراد بالإبل السحاب وهذا بعيد وإنما حمل قائله عليه مناسبتها للسماء والأرض والجبال. والصحيح أن المراد الحيوان المعروف، وإنما ذكره لما فيه من العجائب، ولاعتناء العرب به إذ كانت معايشهم في الغالب منه، وهو أكثر المواشي في بلادهم لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ أي قاهر متسلط وهذا من المنسوخ بالسيف إِلَّا مَنْ تَوَلَّى استثناء منقطع معناه لكن من تولى وَكَفَرَ فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ وقيل هو استثناء من مفعول فذكر، والمعنى ذكر كل أحد إلا من تولى حتى يئست منه فهو على هذا متصل، وقيل: هو استثناء من قوله: لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ أي لا تسلط إلا على من تولى وكفر، وهو على هذا متصل ولا نسخ فيه إذ لا موادعة فيه وهذا بعيد، لأن السورة مكية والموادعة بمكة ثابتة إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ أي رجوعهم والآية تهديد.

_ (1) . الآية قوله: لا تسمع فيها لاغية: قرأها أهل الشام والكوفة هكذا وقرأها نافع: لا تسمع بضم التاء وقرأها ابن كثير وأبو عمر: لا يسمع بالياء.

سورة الفجر

سورة الفجر مكية وآياتها 30 نزلت بعد الليل بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (سورة الفجر) وَالْفَجْرِ أقسم الله تعالى بالفجر وهو الطالع كل يوم كما أقسم بالصبح، وقيل: أراد صلاة الفجر وقيل: أراد النهار كله، وقيل: فجر يوم الجمعة وقيل: فجر يوم النحر، وقيل: فجر ذي الحجة ولا دليل على هذه التخصيصات وقيل: أراد انفجار العيون من الحجارة وهذا هذا بعيد والأول أظهر وأشهر وَلَيالٍ عَشْرٍ هي عشر ذي الحجة عند الجمهور وقيل العشر الأول من المحرم وفيها عاشوراء وقيل: العشر الأواخر من رمضان، وقيل العشر الأول منه وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الشفع يوم النحر والوتر يوم عرفة، وروي عنه عليه الصلاة والسلام أنها الصلوات منها شفع ووتر «1» وقيل: الشفع التنفل بالصلاة مثنى مثنى والوتر الركعة الواحدة المعروفة وقيل: الشفع العالم والوتر الله لأنه واحد وقيل: الشفع آدم وحواء والوتر الله تعالى، وقيل الشفع الصفا والمروة والوتر البيت الحرام، وقيل: الشفع أبواب الجنة لأنها ثمانية والوتر أبواب النار لأنها سبعة، وقيل الشفع قران الحج والوتر إفراده، وقيل المراد الأعداد منها شفع ووتر فهذه عشرة أقوال، وقرئ الوتر بفتح الواو وكسرها وهما لغتان «2» وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ «3» أي إذا يذهب فهو كقوله: وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ [المدثر: 33] وقيل أراد يسري فيه فهو على هذا كقولهم: ليله قائم والمراد على هذا ليلة جمع لأنها التي يسري فيها والأول أشهر وأظهر هَلْ فِي ذلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ هذا توقيف [سؤال] يراد به تعظيم الأشياء التي أقسم بها. والحجر هنا هو: العقل. كأنه يقول: إن هذا لقسم عظيم عند ذوي العقول. وجواب القسم محذوف وهو ليأخذنّ الله

_ (1) . الحديث رواه الإمام الطبري في تفسيره لهذه الآية بسنده إلى عمران بن الحصين. (2) . قرأ حمزة والكسائي: والوتر: بكسر الواو والباقون بفتحها. (3) . يسر: قرأها أهل الكوفة والشام بدون ياء وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بالياء في الوصل وابن كثير في الوقف والوصل.

[سورة الفجر (89) : الآيات 7 إلى 15]

الكفار ويدل على ذلك ما ذكره بعده من أخذ عاد وثمود وفرعون إِرَمَ هي قبيلة عاد سميت باسم أحد أجدادها، كما يقال: هاشم لبني هاشم، وإعرابه بدل من عاد أو عطف بيان وفائدته أن المراد عادا الأولى، فإن عادا الثانية لا يسمون بهذا الإسم. وقيل: إرم اسم مدينتهم فهو على حذف مضاف تقديره: بعاد عاد إرم، ويدل على هذا قراءة ابن الزبير بعاد إرم على الإضافة من تنوين عاد وامتنع إرم من الصرف على القولين للتعريف والتأنيث ذاتِ الْعِمادِ من قال إرم قبيلة قال: العماد أعمدة بنيانهم أو أعمدة بيوتهم من الشعر لأنهم كانوا أهل عمود وقال ابن عباس: ذلك كناية عن طول أبدانهم ومن قال إرم مدينة فالعماد الحجارة التي بنيت بها وقيل القصور والأبراج الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ صفة للقبيلة لأنهم كانوا أعظم الناس أجساما يقال: كان طول الرجل منهم أربعمائة ذراع [كذا] أو صفة للمدينة وهذا أظهر لقوله في البلاد ولأنها كانت أحسن مدائن الدنيا، وروي أنها بناها شداد بن عاد في ثلاثمائة عام، وكان عمره تسعمائة عام وجعل قصورها من الذهب والفضة، وأساطينها من الزبرجد والياقوت وفيها أنواع الشجر والأنهار الجارية، وروي أنه سمع ذكر الجنة فأراد أن يعمل مثلها فلما أتمها وسار إليها بأهل مملكته أهلكهم الله بصيحة، وكانت هذه المدينة باليمن. وروي أن بعض المسلمين مر بها في خلافة معاوية، وقيل: هي دمشق وقيل: الإسكندرية وهذا ضعيف جابُوا الصَّخْرَ بِالْوادِ «1» أي نقبوه ونحتوا فيه بيوتا والوادي ما بين الجبلين، وإن لم يكن فيها ماء، وقيل: أراد وادي القرى وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتادِ ذكر في سورة داود (ص) الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ صفة لعاد وثمود وفرعون ويجوز أن يكون منصوبا على الذم أو خبر ابتداء مضمر فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ استعارة السوط للعذاب لأنه يقتضي من التكرار ما لا يقتضيه السيف وغيره. قاله ابن عطية، وقال الزمخشري: ذكر السوط إشارة إلى عذاب الدنيا، إذ هو أهون من عذاب الآخرة، كما أن السوط أهون من القتل إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ عبارة عن أنه تعالى حاضر بعلمه في كل مكان، وكل زمان ورقيب على كل إنسان، وأنه لا يفوته أحد من الجبابرة والكفار، وفي ذلك تهديد لكفار قريش وغيرهم، والمرصاد المكان الذي يترقب فيه الرصد فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ الابتلاء هو الاختبار واختبار الله لعبده لتقوم الحجة على العبد بما يبدو منه، وقد كان الله عالما بذلك قبل كونه، والإنسان هنا جنس وقيل: نزلت في عتبة بن ربيعة وهي مع ذلك على

_ (1) . الواد: قرأ ابن كثير وورش: بالوادي بإثبات الياء في الوصل وابن كثير في الوقف أيضا والباقون بدون ياء مطلقا.

[سورة الفجر (89) : الآيات 16 إلى 17]

العموم، فيمن كان على هذه الصفة وذكر الله في هذه الآية ابتلاءه للإنسان بالخير، ثم ذكر بعده ابتلاءه بالشر كما قال في [الأنبياء: 35] وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ وأنكر عليه قوله حين الخير: ربي أكرمني وقوله حين الشر: ربي أهانني ويتعلق بالآية سؤالان: السؤال الأول: لم أنكر الله على الإنسان قوله ربي أكرمني وربي أهانني «1» والجواب من وجهين: أحدهما: أن الإنسان يقول: ربي أكرمني على وجه الفخر بذلك والكبر، لا على وجه الشكر ويقول: ربي أهانني على وجه التشكي من الله وقلة الصبر والتسليم لقضاء الله، فأنكر عليه ما يقتضيه كلامه من ذلك، فإن الواجب عليه أن يشكر على الخير ويصبر على الشر. والآخر: أن الإنسان اعتبر الدنيا فجعل بسط الرزق فيها كرامة، وتضييقه إهانة وليس الأمر كذلك فإن الله قد يبسط الرزق لأعدائه، ويضيقه على أوليائه فأنكر الله عليه اعتبار الدنيا والغفلة عن الآخرة، وهذا الإنكار من هذا الوجه على المؤمن. وأما الكافر فإنما اعتبر الدنيا لأنه لا يصدق بالآخرة، ويرى أن الدنيا هي الغاية فأنكر عليه ما يقتضيه كلامه من ذلك. السؤال الثاني: إن قيل: قد قال الله فأكرمه فأثبت إكرامه، فكيف أنكر عليه قوله ربي أكرمني؟ فالجواب من ثلاثة أوجه: الأول أنه لم ينكر عليه ذكره للإكرام، وإنما أنكر عليه ما يدل عليه كلامه من الفخر وقلة الشكر، أو من اعتبار الدنيا دون الآخرة حسبما ذكرنا في معنى الإنكار. الثاني أنه أنكر عليه قوله: ربي أكرمني إذا اعتقد أن إكرام الله له باستحقاقه الإكرام، على وجه التفضل والإنعام كقول قارون: إنما أوتيته على علم عندي [القصص: 78] الثالث أن الإنكار إنما هو لقوله: ربي أهانني لا لقوله ربي أكرمني فإن قوله ربي أكرمني اعتراف بنعمة الله، وقوله: ربي أهانني شكاية من فعل الله فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ أي ضيقه وقرئ بتشديد الدال «2» وتخفيفها بمعنى واحد وفي التشديد مبالغة وقيل معنى التشديد جعله على قدر معلوم. كَلَّا زجر عما أنكر من قول الإنسان بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ «3» هذا ذمّ لما ذكر من الأعمال القبيحة ومعنى هذا الإضراب ببل، كأنه أنكر على الإنسان ما تقدم ثم قال بل تفعلون ما هو شر من ذلك وهو ألا تكرموا اليتيم وما ذكر بعده، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أحب البيوت إلى الله بيت فيه يتيم مكرم «4» ولا تحضون على طعام المسكين» الحض على

_ (1) . قوله: أكرمن، وأهانن: قرأ نافع والبزي عن ابن كثير بإثبات الياء وصلا: أكرمني وأهانني وابن كثير في الوقف أيضا. (2) . قرأ ابن عامر وحده بالتشديد: فقدّر. (3) . قرأ ابن عامر وحده بالتشديد: فقدّر. (4) . الحديث: أورده في التيسير بلفظ: خير بيت في المسلمين بيت فيه يتيم يحسن إليه. وعزاه للبخاري في الأدب المفرد عن عمر بسند ضعيف. [.....] (5) . الكلمات: تكرمون، تحاضون، تأكلون، تحبون: قرأها أبو عمرو: يكرمون يحضّون، يأكلون، يحبون وقوله: تحاضّون قرأها عاصم وحمزة والكسائي: تحاضّون بالألف. وقرأ الباقون: تحضّون.

الأمر هو الترغيب فيه، ومن لا يحض غيره على أمر فلا يفعله هو، كأنه ذم لترك طعام المسكين، والطعام هنا بمعنى الإطعام، وقيل: هو على حذف مضاف تقديره: لا تحضون على بذل طعام المسكين، وقرئ تحاضون بفتح الحاء وألف بعدها بمعنى لا يحض بعضكم بعضا وَتَأْكُلُونَ التُّراثَ أَكْلًا لَمًّا «1» التراث هو ما يورث عن الميت من المال، والتاء فيه بدل من الواو، واللم: الجمع واللف، والتقدير: أكلا ذا لمّ وهو أن يأخذ في الميراث نصيبه ونصيب غيره، لأن العرب كانوا لا يعطون من الميراث أنثى ولا صغيرا بل ينفرد به الرجال وَتُحِبُّونَ الْمالَ حُبًّا جَمًّا «2» أي شديدا كثيرا وهذا ذم للحرص على المال وشدة الرغبة فيه. دُكَّتِ الْأَرْضُ أي سوّيت جبالها دَكًّا دَكًّا أي دكا بعد دكّ كما تقول: تعلمت العلم بابا بابا وَجاءَ رَبُّكَ تأويله عند المتأولين: جاء أمره وسلطانه وقال المنذر بن سعيد: معناه ظهوره للخلق هنالك. وهذه الآية وأمثالها من المشكلات التي يجب الإيمان بها من غير تكييف ولا تمثيل وَالْمَلَكُ هو اسم فإنه روي أن الملائكة كلهم يكونون صفوفا حول الأرض صَفًّا صَفًّا أي صفا بعد صف قد أحدقوا بالجن والإنس وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم: يؤتي يومئذ بجهنم معها سبعون ألف زمام مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها «3» يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ يومئذ بدل من إذا دكت ويتذكر هو العامل وهو جواب إذا دكت، والمعنى: أن الإنسان يتذكر يوم القيامة أعماله في الدنيا، ويندم على تفريطه وعصيانه، والإنسان هنا جنس، وقيل: يعني عتبة بن ربيعة، وقيل: أمية بن خلف وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى هذا على حذف تقديره أنى له الانتفاع بالذكرى كما تقول ندم حين لم تنفعه الندامة يَقُولُ يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي فيه وجهان: أحدهما أنه يريد الحياة في الآخرة فالمعنى: يا ليتني قدّمت عملا صالحا للآخرة، والآخر أنه يريد الحياة الدنيا فالمعنى: يا ليتني قدمت عملا صالحا وقت حياتي، فاللام على هذا كقوله كتبت لعشر من الشهر فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ من قرأ بكسر الذال من يعذب، والثاء من يوثق فالضمير في عذابه ووثاقه لله تعالى والمعنى: أن الله

_ (1) . الكلمات: تكرمون، تحاضون، تأكلون، تحبون: قرأها أبو عمرو: يكرمون يحضّون، يأكلون، يحبون وقوله: تحاضّون قرأها عاصم وحمزة والكسائي: تحاضّون بالألف. وقرأ الباقون: تحضّون. (2) . الكلمات: تكرمون، تحاضون، تأكلون، تحبون: قرأها أبو عمرو: يكرمون يحضّون، يأكلون، يحبون وقوله: تحاضّون قرأها عاصم وحمزة والكسائي: تحاضّون بالألف. وقرأ الباقون: تحضّون. (3) . هذا الحديث رواه المنذري موقوفا على ابن عباس وعزاه لتفسير آدم بن أبي إياس ورواه مسلم والترمذي عن ابن مسعود بلفظ قريب.

[سورة الفجر (89) : الآيات 26 إلى 30]

يتولى عذاب الكفار ولا يكله إلى أحد، ومن قرأ بالفتح فالضمير للإنسان أي لا يعذّب أحد مثل عذابه، ولا يوثق أحد مثل وثاقه، وهذه قراءة الكسائي وروي أن أبا عمرو رجع إليها وهي قراءة حسنة، وقد رويت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ أي الموقنة يقينا قد اطمأنت به بحيث لا يتطرق إليها شك في الإيمان، وقيل: المطمئنة التي لا تخاف حينئذ. ويؤيد هذا قراءة أبيّ بن كعب يا أيتها النفس الآمنة المطمئنة ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ هذا الخطاب والنداء يكون عند الموت، وقيل: عند البعث وقيل: عند انصراف الناس إلى الجنة أو النار، والأول أرجح، لما روي أن أبا بكر سأل عن ذلك رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم فقال له: يا أبا بكر إن الملك سيقولها لك عند موتك راضِيَةً معناه راضية بما أعطاها، أو راضية عن الله، ومعنى المرضية مرضية عند الله، أو أرضاها الله بما أعطاها فَادْخُلِي فِي عِبادِي أي أدخلي في جملة عبادي الصالحين. وقرئ فادخلي في عبدي بالتوحيد [الإفراد] معناه ادخلي في جسده وهو خطاب للنفس، ونزلت هذه الآية في حمزة. وقيل: في خبيب بن عدي الذي صلبه الكفار بمكة، ولفظها يعم كل نفس مطمئنة.

سورة البلد

سورة البلد مكية وآياتها 20 نزلت بعد ق بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (سورة البلد) لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ أراد مكة باتفاق، وأقسم بها تشريفا لها ولا زائدة وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ هذه جملة اعتراض بين القسم وما بعده وفي معناها ثلاثة أقوال: أحدها أن المعنى أنت حالّ بهذا البلد أي ساكن، لأن السورة نزلت والنبي صلى الله عليه وآله وسلم بمكة، والآخر أن معنى حلّ تستحل حرمتك ويؤذيك الكفار مع أن مكة لا يحل فيها قتل صيد ولا بشر ولا قطع شجر، وعلى هذا قيل: لا أقسم يعني لا أقسم بهذا البلد وأنت تلحقك فيه إذاية. الثالث أن معنى حل حلال يجوز لك في هذا البلد ما شئت من قتالك الكفار وغير ذلك مما لا يجوز لغيرك، وهذا هو الأظهر لقوله صلى الله عليه وسلم: إن هذا البلد حرام حرّمه الله يوم خلق السموات والأرض، لم يحل لأحد قبلي ولا يحل لأحد بعدي، وإنما أحل لي ساعة من نهار «1» يعني يوم فتح مكة، وفي ذلك اليوم أمر عليه الصلاة والسلام بقتل ابن خطل وهو متعلق بأستار الكعبة، فإن قيل: إن السورة مكية وفتح مكة كان عام ثمانية من الهجرة؟ فالجواب أن هذا وعد بفتح مكة كما تقول لمن تعده بالكرامة: أنت مكرم يعني فيما يستقبل وقيل: إن السورة على هذا مدنية نزلت يوم الفتح، وهذا ضعيف وَوالِدٍ وَما وَلَدَ فيه خمسة أقوال: أحدها: أنه أراد آدم وجميع ولده، الثاني نوح وولده، الثالث إبراهيم وولده، الرابع سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام وولده، الخامس جنس كل والد ومولود وإنما قال: وما ولد ولم يقل ومن ولد: إشارة إلى تعظيم المولود كقوله: وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ [آل عمران: 36] قاله الزمخشري لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ أي يكابد المشقات من هموم الدنيا والآخرة قال بعضهم: لا يكابد أحد من المخلوقات ما يكابد ابن آدم، وأصل الكبد من قولك كبد الرجل فهو أكبد إذا وجعت كبده وقيل: معنى في كبد واقفا منتصب القامة. وهذا ضعيف. والإنسان على هذين القولين جنس، وقيل:

_ (1) . رواه أحمد عن ابن عباس ج 1 ص 315.

[سورة البلد (90) : الآيات 5 إلى 12]

الإنسان آدم عليه السلام، ومعنى في كبد على هذا في السماء وهذا ضعيف والأول هو الصحيح. أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ فيه قولان: أحدهما أن معناه أيظن أن لن يقدر أحد على بعثه وجزائه، والآخر: أيظن أن لن يقدر أحد أن يغلبه، فعلى الأول: نزلت في جنس الإنسان الكافر، وعلى الثاني: نزلت في رجل معين وهو أبو الأشد رجل من قريش، كان شديد القوة، وقيل: عمرو بن عبد ودّ وهو الذي اقتحم الخندق بالمدينة وقتله علي بن أبي طالب يَقُولُ أَهْلَكْتُ مالًا لُبَداً أي كثيرا، وقرئ لبدا بضم اللام وكسرها، وهو جمع لبدة بالضم والكسر بمعنى الكثرة: ونزلت الآية عند قوم في الوليد بن المغيرة، فإنه أنفق مالا في إفساد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وقيل: في الحرث بن عامر بن نوفل وكان قد أسلم وأنفق في الصدقات والكفارات، فقال لقد أهلكت مالي منذ تبعت محمدا أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ يحتمل أن يكون هذا تكذيبا له في قوله: أهلكت مالا لبدا أو إشارة إلى أنه أنفقه رياء. وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ أي طريقي الخير والشر فهو كقوله: إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً [الإنسان: 3] ، ليس الهدى هنا بمعنى الإرشاد وقيل: يعني ثديي الأم فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ الاقتحام الدخول بشدّة ومشقة، والعقبة عبارة عن الأعمال، الصالحة المذكورة بعد، وجعلها عقبة استعارة من عقبة الجبل لأنها تصعب ويشق صعودها على النفوس، وقيل: هو جبل في جهنم له عقبة لا يجاوزها إلا من عمل هذه الأعمال ولا هنا تخصيص بمعنى هلا وقيل: هي دعاء، وقيل: هي نافية واعترض هذا القول بأن لا النافية إذا دخلت على الفعل الماضي لزم تكرارها، وأجاب الزمخشري بأنها مكررة في المعنى، والتقدير فلا اقتحم العقبة ولا فك رقبة ولا أطعم مسكينا وقال الزجاج قوله: ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يدل على التكرار لأن التقدير فلا اقتحم العقبة ولا آمن وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ تعظيم للعقبة ثم فسرها بفك الرقبة وهو إعتاقها بالإطعام وقرئ فك رقبة بضم الكاف وخفض الرقبة، وهو على هذا تفسير للعقبة وبفتح الكاف ونصب الرقبة وهو تفسير لاقتحم وفك الرقبة: هو عتقها، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أعتق رقبة مؤمنة أعتق الله بكل عضو منها عضوا منه من النار «1» وقال أعرابي لرسول الله صلى الله عليه وسلم: دلني على عمل أنجو به فقال: فك الرقبة وأعتق النسمة فقال الأعرابي: أليس هذا واحدا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا إعتاق النسمة أن تنفرد بعتقها وفك الرقبة أن تعين في ثمنها، وأما فك أسارى المسلمين من أيدي

_ (1) . الحديث متفق عليه من حديث أبي هريرة عن التيسير للمناوي.

[سورة البلد (90) : الآيات 13 إلى 20]

الكافرين فإنه أعظم أجرا من العتق لأنه واجب، ولو استغرقت فيه أموال المسلمين ولكنه لا يجري في الكفارات عن عتق رقبة أَوْ إِطْعامٌ من قرأ فك بالرفع قرأ إطعام بالعطف مصدر على مصدر ومن قرأ فك بالفتح قرأ أطعم بفتح الهمزة والميم فعطف فعلا على فعل فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ أي مجاعة يقال سغب الرجل إذا جاع يَتِيماً ذا مَقْرَبَةٍ أي ذا قرابة ففيه أجر إطعام اليتيم وصلة الرحم أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ أي ذا حاجة، يقال ترب الرجل إذا افتقر، وهو مأخوذ من الصدقة بالتراب وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه الذي مأواه المزابل. ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا ثم هنا للتراخي في الرتبة لا في الزمان، وفيها إشارة إلى أن الإيمان أعلى من العتق والإطعام، ولا يصح أن يكون للترتيب في الزمان لأنه لا يلزم أن يكون الإيمان بعد العتق. والإطعام ولا يقبل عمل إلا من مؤمن وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ أي وصّى بعضهم بعضا بالصبر على قضاء الله، وكأن هذا إشارة إلى صبر المسلمين بمكة على إذاية الكفار وَتَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ أي وصى بعضهم بعضا برحمة المساكين وغيرهم، وقيل: الرحمة كل ما يؤدي إلى رحمة الله الْمَيْمَنَةِ جهة اليمين والْمَشْأَمَةِ جهة الشمال، وروي أن الميمنة عن يمين العرش ويحتمل أن يكونا من اليمن والشؤم نارٌ مُؤْصَدَةٌ أي مطبقة مغلقة يقال: أوصدت الباب إذا أغلقته وفيه لغتان الهمزة وترك الهمزة [يعني: مؤصده وبها قرأ أبو عمرو وحمزة وحفص وقرأ الباقون: موصدة] .

سورة الشمس

سورة الشمس مكية وآياتها 15 نزلت بعد القدر بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (سورة والشمس) وَالشَّمْسِ وَضُحاها الضحى ارتفاع الضوء وكماله، والضحاء بالفتح والمد بعد ذلك إلى الزوال وقيل: الضحى النهار كله، والأول هو المعروف في اللغة وَالْقَمَرِ إِذا تَلاها أي تبعها وفي اتباعه لها ثلاثة أقوال: أحدها أنه يتبعها في كثرة الضوء، لأنه أضوء الكواكب بعد الشمس «1» ، ولا سيما ليلة البدر والآخر أنه يتبعها في طلوعه لأنه يطلع بعد غروبها، وذلك في النصف الأول من الشهر والضمير الفاعل للنهار، لأن الشمس تنجلي بالنهار فكأنه هو الذي جلّاها وقيل: الضمير الفاعل لله وقيل: الضمير المفعول للظلمة أو الأرض أو الدنيا، وهذا كله بعيد لأنه لم يتقدم ما يعود الضمير عليه وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشاها أي يغطيها وضمير المفعول للشمس وضمير الفاعل لليل على الأصح وَالسَّماءِ وَما بَناها قيل: إن ما في قوله وما بناها وما طحاها وما سوّاها موصولة بمعنى من والمراد الله تعالى وقيل: إنها مصدرية كأنه قال: والسماء وبنيانها، وضعف الزمخشري ذلك بقوله: فألهمها فإن المراد الله باتفاق، وهذا القول يؤدي إلى فساد النظم، وضعّف بعضهم كونها موصولة بتقديم ذكر المخلوقات على الخالق فإن قيل: لم عدل عن من إلى قوله ما في قول من جعلها موصولة؟ فالجواب أنه فعل ذلك لإرادة الوصفية كأنه قال والقادر الذي بناها طَحاها أي مدها وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها تسوية النفس إكمال عقلها وفهمها، فإن قيل: لم نكّر النفس؟ فالجواب من وجهين: أحدهما أنه أراد الجنس كقوله عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ التكوير: [14] والآخر أنه أراد نفس آدم والأول هو المختار فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها أي عرّفها طريق الفجور والتقوى، وجعل لها قوة يصح معها اكتساب أحد الأمرين، ويحتمل أن تكون الواو بمعنى أو، كقوله: إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً

_ (1) . القمر تابع للأرض وليس كوكبا. وقوة نوره بسبب قربه من الأرض.

[سورة الشمس (91) : الآيات 10 إلى 15]

قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها هذا جواب القسم عند الجمهور، وقال الزمخشري: الجواب محذوف تقديره: ليدمدمنّ الله على أهل مكة لتكذيبهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم، كما دمدم على قوم ثمود لتكذيبهم صالحا عليه الصلاة والسلام، قال: وأما قد أفلح فكلام تابع لقوله فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها على سبيل الاستطراد، وهذا بعيد، والفاعل بزكاها ضمير يعود على من، والمعنى: قد أفلح من زكى نفسه أي طهّرها من الذنوب والعيوب، وقيل: الفاعل ضمير الله تعالى، والأول أظهر، وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها أي حقرها بالكفر والمعاصي، وأصله دسس بمعنى: أخفى فكأنه أخفى نفسه لما حقرها وأبدل من السين الأخيرة حرف علة كقولهم: قصّيت أظفاري وأصله قصصت بِطَغْواها هو مصدر بمعنى الطغيان قلبت فيه الياء واوا على لغة من يقول: طغيت والباء الخافضة كقولك كتبت بالقلم أو سببية، والمعنى بسبب طغيانها وقال ابن عباس معناها ثمود بعذابها ويؤيده قوله: فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ [الحاقة: 5] إِذِ انْبَعَثَ أَشْقاها العامل في إذ كذبت أو طغواها ومعنى انبعث: خرج لعقر الناقة بسرعة ونشاط، وأشقاها: هو الذي عقر الناقة وهو أحيمر ثمود واسمه قدار بن سالف، ويحتمل أن يكون أشقاها واقعا على جماعة، لأن أفعل التي للتفضيل إذا أضفته يستوي فيه الواحد والجمع والأول أظهر وأشهر. فَقالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ يعني صالحا عليه السلام ناقَةَ اللَّهِ وَسُقْياها منصوب بفعل مضمر تقديره احفظوا ناقة الله، أو احذروا ناقة الله وسقياها، شربها من الماء فَعَقَرُوها نسب العقر إلى جماعة لأنهم اتفقوا عليه وباشره واحد منهم فَدَمْدَمَ عبارة عن إنزال العذاب بهم وفيه تهويل بِذَنْبِهِمْ أي بسبب ذنبهم وهو التكذيب أو عقر الناقة فَسَوَّاها قال ابن عطية معناه فسوّى القبيلة في الهلاك لم يفلت أحد منهم وقال الزمخشري: الضمير للدمدمة أي سواها بينهم وَلا يَخافُ عُقْباها ضمير الفاعل لله تعالى والضمير في عقباها للدمدمة والتسوية وهو الهلاك: أي لا يخاف عاقبة إهلاكهم، ولا درك [مسؤولية] عليه في ذلك كما يخاف الملوك من عاقبة أعمالهم، وفي ذلك احتقار لهم وقيل: إن ضمير الفاعل لصالح وهذا بعيد وقرأ أشقاها فلا يخاف بالفاء وبالواو وقيل: في القراءة بالواو الفاعل أشقاها. والجملة في موضع الحال أي انبعث ولم يخف عقبى فعلته وهذا بعيد.

سورة الليل

سورة الليل مكية وآياتها 21 نزلت بعد الأعلى بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (سورة الليل) وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى أي يغطي وحذف المفعول وهو الشمس لقوله: وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشاها أو النهار لقوله: يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ [الأعراف: 53] أو كل شيء يستره الليل وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى أي ظهر وتبين والنهار من طلوع الشمس واليوم من طلوع الفجر وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى ما بمعنى من والمراد بها الله تعالى وعدل عن من لقصد الوصف كأنه قال: والقادر الذي خلق الذكر والأنثى وقيل: هي مصدرية وروى ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ والذكر والأنثى إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى هذا جواب القسم ومعناه إن عملكم مختلف فمنه حسنات ومنه سيئات، وشتى جمع شتيت فَأَمَّا مَنْ أَعْطى أي أعطى ماله في الزكاة والصدقة وشبه ذلك، أو أعطى حقوق الله من طاعته في جميع الأشياء واتقى الله وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى أي بالخصلة الحسنة وهي الإسلام، ولذلك عبّر عنها بعضهم بأنها لا إله إلا الله، أو بالمثوبة الحسنى وهي الجنة، وقيل: يعني الأجر والثواب على الإطلاق وقيل: يعني الخلف على المنفق فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى أي نهيئه للطريقة اليسرى، وهي فعل الخيرات وترك السيئات وضد ذلك تيسيره للعسرى ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: «اعملوا فكل ميسر لما خلق له» «1» أي يهيؤه الله لما قدر له ويسهل عليه فعل الخير أو الشر وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى أي بخل بماله أو بطاعة الله على الإطلاق فيحتمل الوجهين لأنه في مقابلة أعطى كما أن استغنى في مقابلة اتقى، وكذلك كذب بالحسنى في مقابلة صدق بالحسنى، ونيسره للعسرى في مقابلة نيسره لليسرى، ومعنى استغنى: استغنى عن الله فلم يطعه واستغنى بالدنيا عن الآخرة، ونزلت آية المدح في أبي بكر الصديق، لأنه أنفق ماله في مرضات الله، وكان يشتري من أسلم من العبيد فيعتقهم، وقيل نزلت في أبي الدحداح وهذا ضعيف،

_ (1) . رواه أحمد ج 1 ص 157 عن عدد من الصحابة منهم علي وجابر وابن مسعود وذو اللحية الكلابي.

[سورة الليل (92) : الآيات 9 إلى 21]

لأنها مكية وإنما أسلم أبو الدحداح بالمدينة، وقيل إن آية الذم نزلت في أبي سفيان بن حرب، وهذا ضعيف لقوله: فسنيسره للعسرى وقد أسلم أبو سفيان بعد ذلك وَما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ إِذا تَرَدَّى هذا نفي، أو استفهام بمعنى الإنكار. واختلف في معنى تردّى على أربعة أقوال: الأول تردّى أي هلك، فهو مشتق من الردى وهو الموت، أو تردّى أي سقط في القبر، أو سقط في جهنم، أو تردى بأكفانه من الرداء إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى أي بيان الخير والشر، وليس المراد الإرشاد عند الأشعرية خلافا للمعتزلة فَأَنْذَرْتُكُمْ ناراً تَلَظَّى خطاب من الله أو من النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم على تقدير: قل لا يَصْلاها إِلَّا الْأَشْقَى استدل المرجئة بهذه الآية على أن النار لا يدخلها إلا الكفار لقوله: الذي كذب وتولى. وتأولها الناس بثلاثة أوجه أحدها أن المعنى لا يصلاها صلي خلود إلا الأشقى، والآخر أنه أراد نارا مخصوصة الثالث. أنه أراد بالأشقى كافرا معينا وهو أبو جهل وأمية بن خلف، وقابل به الأتقى وهو أبو بكر الصديق فخرج الكلام مخرج المدح والذم على الخصوص، لا مخرج الإخبار على العموم يَتَزَكَّى من أداء الزكاة أو من الزكاة، أي يصير زكيا عند الله، أو يتطهر من ذنوبه، وهذا الفعل بدل من يؤتى ماله أو حال من الضمير وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى أي لا يفعل الخير جزاء على نعمة أنعم بها عليه أحد فيما تقدم، بل يفعله ابتداء خالصا لوجه الله، وقيل: المعنى لا يقصد جزاء من أحد في المستقبل على ما يفعل، والأول أظهر ويؤيده ما روي أن سبب الآية أن أبا بكر الصديق لما أعتق بلالا قالت قريش: كان لبلال عنده يد متقدمة فنفى الله قولهم إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ استثناء منقطع وَلَسَوْفَ يَرْضى وعد بأن يرضيه في الآخرة.

سورة الضحى

سورة الضحى مكية وآياتها 11 نزلت بعد الفجر بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (سورة والضحى) وَالضُّحى ذكر في الشمس وضحاها وَاللَّيْلِ إِذا سَجى فيه أربعة أقوال: إذا أقبل، وإذا أدبر، وإذا أظلم، وإذا سكن أي استقر واستوى، أو سكن فيه الناس والأصوات ومنه: ليلة ساجية إذا كانت ساكنة الريح، وطرف ساج أو ساكن غير مضطرب النظر. وهذا أقرب في الاشتقاق وهو اختيار ابن عطية ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى بتشديد الدال من الوداع وقرئ بتخفيفها بمعنى: ما تركك والوداع مبالغة في الترك وَما قَلى أي ما أبغضك، وحذف ضمير المفعول من قلى وآوى وهدى وأغنى اختصارا، لظهور المعنى ولموافقة رؤوس الآي. وسبب الآية أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم أبطأ عليه الوحي، فقالت قريش: إن محمدا ودعه ربه وقلاه فنزلت الآية: تكذيبا لهم وقيل: رمي عليه الصلاة والسلام بحجر في إصبعه فدميت فمكث ليلتين أو ثلاثا لا يقوم: فقالت امرأة: ما أرى شيطان محمد إلا قد تركه فنزلت الآية: وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى أي الدار الآخرة خير لك من الدنيا، قال ابن عطية: ويحتمل أن يريد بالآخرة حاله بعد نزول هذه السورة، ويريد بالأولى حاله نزولها، وهذا بعيد والأول أظهر وأشهر. وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لما نزلت إذا لا أرضى أن يبقى واحد من أمتي في النار، قال بعضهم: هذه أرجى آية في القرآن، وقال ابن عباس: رضاه أن الله وعده بألف قصر في الجنة بما يحتاج إليه من النعم والخدم وقيل: رضاه في الدنيا بفتح مكة وغيره والصحيح أنه وعد يعمّ كل ما أعطاه الله في الآخرة، وكل ما أعطاه في الدنيا من النصر والفتوح وكثرة المسلمين وغير ذلك أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى عدد الله نعمه عليه فيما مضى من عمره، ليقيس عليه ما يستقبل فتطيب نفسه، ويقوي رجاؤه ووجد في هذه المواضع تتعدى إلى مفعولين وهي بمعنى علم فالمعنى ألم تكن يتيما فآواك. وذلك أن والده عليه السلام توفي وتركه في بطن أمه، ثم ماتت أمه وهو ابن خمسة أعوام، وقيل: ثمانية فكفله جدّه عبد المطلب، ثم مات وتركه ابن اثني عشر عاما فكفله عمه أبو طالب، وقيل لجعفر الصادق: لم نشأ النبي صلى الله عليه وسلم يتيما فقال: لئلا يكون عليه حق لمخلوق.

[سورة الضحى (93) : الآيات 7 إلى 11]

وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى فيه ستة أقوال: أحدها: وجدك ضالا عن معرفة الشريعة فهداك إليها، فالضلال عبارة عن التوقيف [السؤال] في أمر الدين حتى جاءه الحق من عند الله، فهو كقوله: ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ [الشورى: 52] وهذا هو الأظهر وهو الذي اختاره ابن عطية وغيره ومعناه أنه لم يكون يعرف تفصيل الشريعة وفروعها حتى بعثه الله، ولكنه ما كفر بالله ولا أشرك به لأنه كان معصوما من ذلك قبل النبوة وبعدها. والثاني وجدك في قوم ضلّال، فكأنك واحد منهم، وإن لم تكن تعبد ما يعبدون، وهذا قريب من الأول. والثالث وجدك ضالا عن الهجرة فهداك إليها، وهذا ضعيف، لأن السورة نزلت قبل الهجرة. الرابع وجدك خامل الذكر لا تعرف، فهدى الناس إليك وهداهم بك، وهذا بعيد عن المعنى المقصود. الخامس أنه من الضلال عن الطريق، وذلك أنه صلى الله عليه وآله وسلم ضلّ في بعض شعب مكة، وهو صغير فردّه الله إلى جده، وقيل: بل ضلّ من مرضعته حليمة فرده الله إليها، وقيل: بل ضل في طريق الشام حين خرج إليها مع أبي طالب. السادس أنه بمعنى الضلال من المحبة أي وجدك محبا لله فهداك إليه ومنه قول إخوة يوسف لأبيهم، تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ [95] أي محبتك ليوسف، وبهذا كان يقول شيخنا الأستاذ أبو جعفر بن الزبير وَوَجَدَكَ عائِلًا فَأَغْنى العائل: الفقير يقال: عال الرجل فهو عائل إذا كان محتاجا، وأعال فهو معيل إذا كثر عياله وهذا الفقر والغنى هو في المال، وغناؤه صلى الله عليه وآله وسلم هو أن أعطاه الله الكفاف، وقيل: هو رضاه بما أعطاه الله، وقيل: المعنى وجدك فقيرا إليه فأغناك به فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ أي لا تغلبه على ماله وحقه لأجل ضعفه أو لا تقهره بالمنع من مصالحه ووجوه القهر كثيرة والنهي يعمّ جميعها وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ النهر هو الانتهار والزجر، والنهي عنه أمر بالقول الحسن والدعاء للسائل كما قال تعالى: فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُوراً ويحتمل السائل أن يريد به سائل الطعام والمال، وهذا هو الأظهر والسائل عن العلم والدين. وفي قوله تقهر وتنهر لزوم مالا يلزم من التزام الهاء قبل الراء. وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ قيل: معناه بثّ القرآن وبلغ الرسالة والصحيح أنه عموم جميع النعم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «التحدث بالنعم شكر» «1» ولذلك كان بعض السلف يقول، لقد أعطاني الله كذا ولقد صليت البارحة كذا وهذا إنما يجوز إذا كان على وجه الشكر أو ليقتدى به، فأما على وجه الفخر والرياء فلا يجوز، وانظر كيف ذكر الله في هذه السورة ثلاث نعم، ثم ذكر في مقابلتها ثلاث وصايا فقابل قوله: أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً بقوله: فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ، وقابل قوله: وَوَجَدَكَ ضَالًّا بقوله، أَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ، على قول من قال إنه السائل عن العلم وقابله بقوله: وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ على القول الآخر، وقابل: قوله: وَوَجَدَكَ عائِلًا فَأَغْنى بقوله: وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ على القول الأظهر، وقابله: وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ على القول الآخر.

_ (1) . رواه أحمد عن النعمان بن بشير ج 4 ص 278، 375.

سورة الشرح

سورة الشرح مكية وآياتها 8 نزلت بعد الضحى بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (سورة ألم نشرح) أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ هذا لصدره توقيف معناه إثبات شرح صدره صلى الله عليه وسلم وتعديد ما ذكر بعده من النعم، وشرح صدره صلى الله عليه وسلم هو اتساعه لتحصيل العلم، وتنويره بالحكمة والمعرفة، وقيل هو شق جبريل لصدره في صغره، أو في وقت الإسراء حين أخرج قلبه وغسله وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ فيه ثلاثة أقوال: الأول قول الجمهور أن الوزر الذنوب. ووضعها هو غفرانها فهو كقوله: لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ [الفتح: 2] ، وهذا على قول من جوّز صغائر الذنوب على الأنبياء، أو على أن ذنوبه كانت قبل النبوّة الثاني أن الوزر هو أثقال النبوة وتكاليفها، ووضعها على هذا هو إعانته عليها، وتمهيد عذره بعد ما بلغ الرسالة الثالث أن الوزر هو تحيره قبل النبوة، إذ كان يرى أن قومه على ضلال، ولم يأته من الله أمر واضح فوضعه على هذا هو بالنبوّة والهدى للشريعة الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ عبارة عن ثقل الوزر المذكور وشدته عليه، قال الحارث المحاسبي: إنما وصفت ذنوب الأنبياء بالثقل، وهي صغائر مغفورة لهم لهمّهم بها وتحسرهم عليها، فهي ثقيلة عندهم لشدة خوفهم من الله، وهي خفيفة عند الله، وهذا كما جاء في الأثر: إن المؤمن يرى ذنوبه كالجبل يقع عليه، والمنافق يرى ذنوبه تطير كالذبابة فوق أنفه «1» . واشتقاق أنقض ظهرك من نقض البنيان وغيره، أو من النقيض وهو الصوت فكأنه يسمع لظهره نقيض كنقيض ما يحمل عليه شيء ثقيل. وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ أي نوّهنا باسمك وجعلناه شهيرا في المشارق والمغارب، وقيل: معناه اقتران ذكره بذكر الله في الأذان والخطبة والتشهد. وفي مواضع من القرآن، وقد روي في هذا حديث أن الله قال له إذا ذكرت ذكرت معي «2» . فإن قيل: لم قال لك

_ (1) . رواه أحمد عن ابن مسعود ج 1، ص 383. (2) . رواه الإمام الطبري بسنده إلى أبي سعيد الخدري وقال في التفسير رواه ابن حبان وأبي يعلى والطبراني كلهم عن أبي سعيد الخدري.

[سورة الشرح (94) : الآيات 5 إلى 8]

ذكرك ولك صدرك مع أن المعنى مستقل دون ذلك؟ فالجواب أن قوله: لك يدل على الاعتناء به والاهتمام بأمره فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً هذا وعد لما يسّر بعد العسر، وإنما ذكره بلفظ مع التي تقتضي المقاربة ليدل على قرب اليسر من العسر فإن قيل: ما وجه ارتباط هذا مع ما قبله؟ فالجواب أنه صلى الله عليه وسلم كان بمكة هو وأصحابه في عسر من إذاية الكفار ومن ضيق الحال ووعده الله باليسر، وقد تقدم تعديد النعم تسلية وتأنيسا، لتطيب نفسه ويقوى رجاؤه كأنه يقول: إن الذي أنعم عليك بهذه النعم سينصرك ويظهرك ويبدّل لك هذا العسر بيسر قريب، ولذلك كرر إن مع العسر يسرا مبالغة وقال صلى الله عليه وسلم: لن يغلب عسر يسرين وقد روي ذلك عن عمر وابن مسعود «1» وتأويله أن العسر المذكور في هذه السورة واحد، لأن الألف واللام للعهد كقولك: جاءني رجل فأكرمت الرجل. واليسر اثنان لتنكيره وقيل: إن اليسر الأول في الدنيا والثاني في الآخرة فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ هو من النصب بمعنى التعب، والمعنى إذا فرغت من أمر فاجتهد في آخر ثم اختلف في تعيين الأمرين فقيل: إذا فرغت من الفرائض فانصب في النوافل وقيل: إذا فرغت من الصلاة فانصب في الدعاء. وقيل: إذا فرغت من شغل دنياك فانصب في عبادة ربك وَإِلى رَبِّكَ فَارْغَبْ قدم الجار والمجرور ليدل على الحصر أي لا ترغب إلا إلى ربك وحده.

_ (1) . رواه الطبري أيضا في تفسيره موقوفا على الحسن البصري وموصولا إلى ابن مسعود.

سورة التين

سورة التين مكية وآياتها 8 نزلت بعد البروج بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (سورة التين) وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ فيها قولان: الأول أنه التين الذين يؤكل والزيتون الذي يعصر أقسم الله بهما لفضيلتهما على سائر الثمار. روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أكل مع أصحابه تينا فقال: لو قلت إن فاكهة نزلت من الجنة لقلت هذه: لأن فاكهة الجنة بلا عجم فكلوه فإنه يقطع البواسير وينفع من النقرس. وقال صلى الله عليه وسلم: نعم السواك الزيتون فإنه من الشجرة المباركة هي سواكي وسواك الأنبياء من قبلي «1» . القول الثاني أنهما موضعان ثم اختلف فيهما فقيل هي سواكي وسواك الأنبياء من قبلي «2» . القول الثاني أنهما موضعان ثم اختلف فيهما فقيل هما جبلان بالشام أحدهما بدمشق ينبت فيه التين والآخر بإيلياء ينبت فيه الزيتون فكأنه قال ومنابت التين والزيتون وقيل التين مسجد دمشق والزيتون مسجد بيت المقدس، وقيل التين مسجد نوح والزيتون مسجد ابراهيم، والأظهر أنهما الموضعان من الشام وهما اللذان كان فيهما مولد عيسى ومسكنه، وذلك أن الله ذكر بعد هذا الطور الذي كلم عليه موسى والبلد الذي بعث منه محمد صلى الله عليه وسلم فتكون الآية نظير ما في التوراة: «أن الله تعالى جاء من طور سيناء وطلع من ساعد وهو موضع عيسى وظهر من جبال باران» وهي مكة وأقسم الله بهذه المواضع التي ذكر في التوراة لشرفها بالأنبياء المذكورين وَطُورِ سِينِينَ هو الجبل الذي كلم الله عليه موسى هو بالشام، وأضافه الله إلى سينين ومعنى سينين مبارك فهو من إضافة الموصوف إلى الصفة، وقيل: معناه ذو الشجر واحدها سينه، قاله الأخفش وقال الزمخشري: ويجوز أن يعرب إعراب الجمع المذكر بالواو والياء وأن يلزم الياء وتحريك النون بحركات الإعراب وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ هو مكة باتفاق والأمين من الأمانة أو من الأمن لقوله: اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً [البقرة: 126] . لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ فيه قولان: أحدهما أن أحسن التقويم هو

_ (1) . هذان الحديثان لم أعثر عليهما وإنما في الزيتون ورد قوله: كلوا الزيت وادّهنوا به فإنه ينبت من شجرة مباركة. رواه أحمد عن أبي أسيد الساعدي ج 3 ص 497. (2) . هذان الحديثان لم أعثر عليهما وإنما في الزيتون ورد قوله: كلوا الزيت وادّهنوا به فإنه ينبت من شجرة مباركة. رواه أحمد عن أبي أسيد الساعدي ج 3 ص 497. [.....]

[سورة التين (95) : الآيات 5 إلى 8]

حسن الصورة وكمال العقل والشباب والقوة وأسفل سافلين الضعف والهرم والخرف فهو كقوله تعالى: وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ [يس: 68] وقوله ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً [الروم: 54] وقوله إلا الذين آمنوا بعد هذا غير متصل بما قبله، والاستثناء على هذا القول منقطع بمعنى لكن لأنه خارج عن معنى الكلام الأول. والآخر أن حسن التقويم: الفطرة على الإيمان وأسفل سافلين الكفر أو تشويه الصورة في النار، والاستثناء على هذا متصل، لأن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لم يردوا أسفل سافلين غَيْرُ مَمْنُونٍ قد ذكر فَما يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ فيه قولان: أحدهما: أنه خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والدين شريعته، والمعنى المعنى أي شيء يكذبك بالدين بعد هذه الدلائل التي تشهد بصحة نبوّتك؟ والآخر أنه خطاب للإنسان الكافر، والدين على هذا الشريعة أو الجزاء الأخروي ومعنى يكذبك على هذا يجعلك كاذبا، لأن من أنكر الحق فهو كاذب والمعنى أي شيء يجعلك كاذبا بسبب كفرك بالدين بعد أن علمت أن الله خلقك في أحسن تقويم، ثم ردّك أسفل سافلين، ولا شك أنه يقدر على بعثك كما قدر على هذا، فلأي شيء تكذب بالبعث والجزاء؟ أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ؟ تقرير ووعيد للكفار بأن يحكم عليهم بما يستحقون وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قرأها قال: بلى وأنا على ذلك من الشاهدين.

سورة العلق

سورة العلق مكية وآياتها 19 وهي أول ما نزل من القرآن بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (سورة العلق) نزل صدرها بغار حراء، وهو أول ما نزل من القرآن حسبما ورد عن عائشة في الحديث الذي ذكرناه في أول الكتاب اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ فيه وجهان: أحدهما أن معناه اقرأ القرآن مفتتحا باسم ربك، أو متبركا باسم ربك وموضع باسم ربك نصب على الحال ولذا كان تقديره: مفتتحا، فيحتمل أن يريد ابتداء القراءة بقول: بسم الله الرحمن الرحيم أو يريد الابتداء باسم الله مطلقا والوجه الثاني أن معناه اقرأ هذا اللفظ وهو باسم ربك الذي خلق فيكون باسم ربك مفعولا وهو المقروء الَّذِي خَلَقَ حذف المفعول لقصد العموم كأنه قال: الذي خلق كل شيء، ثم خصص خلقة الإنسان لما فيه من العجائب والعبر، ويحتمل أنه أراد الذي خلق الإنسان كما قال «الرَّحْمنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ خَلَقَ الْإِنْسانَ» ثم فسره بقوله خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ والعلق جمع علقة، وهي النطفة من الدم والمراد بالإنسان هنا جنس بني آدم، ولذلك جمع العلق لما أراد الجماعة بخلاف قوله فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ [الحج: 5] لأنه أراد كل واحد على حدته، ولم يدخل آدم في الإنسان هنا لأنه لم يخلق من علقة وإنما خلق من طين اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ كرر الأمر بالقراءة تأكيدا والواو للحال والمقصود تأنيس النبي صلى الله عليه وسلم كأنه يقول: افعل ما أمرت به فإن ربك كريم. وصيغة أفعل للمبالغة الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ هذا تفسير للأكرم فدل على أن نعمة التعليم أكبر نعمة، وخص من التعليمات الكتابة بالقلم لما فيها من تخليد العلوم ومصالح الدين والدنيا، وقرأ ابن الزبير: علم الخط بالقلم عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ يحتمل أن يريد بهذا التعليم الكتابة، لأن الإنسان لم يكن يعلمها في أول أمره أو يريد التعليم لكل شيء على الإطلاق، وقيل: إن الإنسان هنا سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، والأظهر أنه جنس الإنسان على العموم. كَلَّا إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى نزل هذا وما بعده إلى آخر السورة في أبي جهل بعد نزول صدرها بمدة، وذلك أنه كان يطغى بكثرة ماله ويبالغ في عداوة النبي صلى الله عليه وعلى

[سورة العلق (96) : الآيات 7 إلى 14]

آله وسلم، وكلا هنا يحتمل أن تكون زجرا لأبي جهل أو بمعنى حقا أو استفتاحا أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى في موضع المفعول من أجله، أي يطغى من أجل غناه. والرؤية هنا بمعنى العلم، بدليل إعمال الفعل في الضمير. ولا يكون ذلك إلا في أفعال القلوب، والمعنى رأى نفسه استغنى واستغنى هو المفعول الثاني إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى هذا تهديد لأبي جهل وأمثاله أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى عَبْداً إِذا صَلَّى اتفق المفسرون أن العبد الذي صلى هو سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وأن الذي نهاه أبو جهل لعنه الله وسبب الآية أن أبا جهل جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي في المسجد الحرام فهم بأن يصل إليه ويمنعه من الصلاة، وروي أنه قال: لئن رأيته يصلي، لأطأنّ عنقه فجاءه وهو يصلي ثم انصرف عنه مرعوبا فقيل له ما هذا؟ فقال لقد اعترض بيني وبينه خندق من نار وهول وأجنحة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو دنا مني لاختطفته الملائكة عضوا عضوا. أَرَأَيْتَ إِنْ كانَ عَلَى الْهُدى أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوى أرأيت في الموضوع الذي قبله والذي بعده بمعنى: أخبرني فكأنه سؤال يفتقر إلى جواب وفيها معنى التعجيب والتوقيف والخطاب فيها يحتمل أن يكون للنبي صلى الله عليه وسلم، أو لكل مخاطب من غير تعيين، وهي تتعدى إلى مفعولين وجاءت بعدها إن الشرطية في موضعين وهما قوله: إِنْ كانَ عَلَى الْهُدى وقوله: إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى فيحتاج إلى كلام في مفعولي أرأيت في المواضع الثلاثة، وفي جواب الشرطين وفي الضمائر المتصلة بهذه الأفعال، وهي إن كان على الهدى، وأمر بالتقوى وكذب وتولى، على من تعود هذه الضمائر؟ فقال الزمخشري: إن قوله الذي ينهى هو المفعول الأول لقوله: أرأيت الأولى وأن الجملة الشرطية بعد ذلك في موضع المفعول الثاني، وكررت أرأيت بعد ذلك للتأكيد فهي زائدة لا تحتاج إلى مفعول وإن قوله: ألم يعلم بأن الله يرى هو جواب قوله إن كذب وتولى فهو في المعنى جواب للشرطين معا، وأن الضمير في قوله: إن كان على الهدى أو أمر بالتقوى للذي نهى عن الصلاة وهو أبو جهل، وكذلك الضمير في قوله إن كذب وتولى وتقدير الكلام على هذا: أخبرني عن الذي ينهى عبدا إذا صلى، إن كان هذا الناهي على الهدى أو كذب وتولى؟ ألم يعلم بأن الله يرى جميع أحواله من هداه وضلاله وتكذيبه ونهيه عن الصلاة وغير ذلك؟ فمقصود الآية تهديد له وزجر وإعلام بأن الله يراه. وخالفه ابن عطية في الضمائر فقال: إن الضمير في قوله: إن كان على الهدى أو أمر بالتقوى للعبد الذي صلى، وأن الضمير في قوله: إن كذب وتولى للذي نهى عن الصلاة، وخالفه أيضا في جعله أرأيت الثانية مكررة للتأكيد وقال: إنها في المواضع الثلاثة توقيف [سؤال] وأن جوابه في المواضع الثلاثة قوله: أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرى فإنه

[سورة العلق (96) : الآيات 15 إلى 19]

يصلح مع كل مع واحد منها، ولكنه جاء في آخر الكلام اختصارا. وخالفهما أيضا الغزنوي في الجواب فقال: إن جواب قوله: إن كان على الهدى محذوف فقال: إن تقديره إن كان على الهدى أو أمر بالتقوى أليس هو على الحق واتباعه واجب، والضمير على هذا يعود على العبد الذي صلى وفاقا لابن عطية لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ أوعد أبا جهل إن لم ينته عن كفره وطغيانه أن يؤخذ بناصيته فيلقى في النار، والناصية مقدم الرأس فهو كقوله: فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَالْأَقْدامِ [الرحمن: 41] والسفع هنا الجذب والقبض على الشيء، وقيل: هو الإحراق من قولك سفعته النار وأكد لنسفعن باللام والنون الخفيفة، وكتبت في المصحف بالألف مراعاة للوقف، ويظهر لي أن هذا الوعيد نفذ عليه يوم بدر حين قتل وأخذ بناصيته فجرّ إلى القليب ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ أبدل ناصية من الناصية، ووصفها بالكذب والخطيئة تجوزا، والكاذب الخاطئ في الحقيقة صاحبها، والخاطئ الذي يفعل الذنب متعمدا، والمخطئ الذي يفعله بغير قصد فَلْيَدْعُ نادِيَهُ النادي والنّدي المجلس الذي يجتمع فيه الناس، وكان أبو جهل قد قال: أيتوعدني محمد فو الله ما بالوادي أعظم ناديا مني فنزلت الآية تهديدا وتعجيزا له، والمعنى: فليدع أهل ناديه لنصرته إن قدروا على ذلك، ثم أوعده بأن يدعو له زبانية جهنم، وهم الملائكة الموكلون بالعذاب، الزبانية في اللغة الشرط واحدهم زبنية: وقيل: زبني وفي الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لو دعا ناديه لأخذته الزبانية عيانا وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ أي تقرب إلى الله بالسجود كما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد «1» فاجتهدوا في الدعاء وهذا موضع سجدة عند الشافعي وليست عند مالك من عزائم السجود

_ (1) . الحديث رواه مسلم وأبو داود والنسائي وأحمد عن أبي هريرة.

سورة القدر

سورة القدر مكية وآياتها 5 نزلت بعد عبس بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (سورة القدر) اختلف الناس في ليلة القدر على ستة عشر قولا وهي أنها ليلة إحدى وعشرين من رمضان، وليلة ثلاث وعشرين، وليلة خمس وعشرين، وليلة سبع وعشرين، وليلة تسع وعشرين، فهذه خمسة أقوال في ليالي الأوتار من العشر الأواخر من رمضان، على قول من ابتدأ عدّتها من أول العشر. وقد ابتدأ بعضهم عدتها من آخر الشهر، فجعل ليالي الأوتار ليلة ثلاثين، لأنها الأولى وليلة ثمان وعشرين لأنها الثانية، وليلة ستة وعشرين لأنها الخامسة، وليلة أربع وعشرين، لأنها السابعة وليلة اثنين وعشرين لأنها التاسعة فهذه خمسة أقوال أخر. فتلك عشرة أقوال والقول الحادي عشر أنها تدور في العشر الأواخر، ولا تثبت في ليلة واحدة منه. الثاني عشر أنها مخفية في رمضان كله وهذا ضعيف لقوله صلى الله عليه وسلم: التمسوها في العشر الأواخر «1» . الثالث عشر: أنها مخفية في العام كله. الرابع عشر أنها ليلة النصف من شعبان وهذان القولان باطلان لأن الله تعالى قال: إنا أنزلناه في ليلة القدر وقال شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن، فدل ذلك على أن ليلة القدر في رمضان. القول الخامس عشر أنها رفعت بعد النبي صلى الله عليه وسلم وهذا ضعيف. القول السادس عشر أنها ليلة سبعة عشر من رمضان لأن وقعة بدر كانت صبيحة هذه الليلة. وأرجح الأقوال أنها ليلة إحدى وعشرين من رمضان أو ليلة ثلاث وعشرين أو ليلة سبع وعشرين فقد جاءت في هذه الليالي الثلاث أحاديث صحيحة خرجها مسلم وغيره والأشهر أنها ليلة سبع وعشرين إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ الضمير في أنزلناه للقرآن، دل على ذلك سياق الكلام، وفي ذلك تعظيم للقرآن من ثلاثة أوجه: أحدها أنه ذكر ضميره دون اسمه الظاهر دلالة على شهرته والاستغناء عن تسميته، الثاني أنه اختار لإنزاله أفضل الأوقات والثالث أن الله أسند إنزاله إلى نفسه وفي كيفية إنزاله في ليلة القدر قولان: أحدهما أنه ابتدأ إنزاله فيها والآخر أنه أنزل القرآن فيها جملة واحدة إلى السماء ثم نزل به جبريل إلى الأرض بطول عشرين سنة وقيل: المعنى أنزلناه في شأن ليلة القدر وذكرها وهذا ضعيف

_ (1) . رواه أحمد عن جابر بن سمرة ج 5 ص 86.

[سورة القدر (97) : الآيات 2 إلى 5]

وسميت ليلة القدر من تقدير الأمور فيها أو من القدر بمعنى الشرف، ويترجح الأول بقوله فيها يفرق كل أمر حكيم وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ هذا تعظيم لها، قال بعضهم: كل ما قال فيه ما أدراك فقد علمه النبي صلى الله عليه وسلم وما قال فيه ما يدريك فإنه لا يعلمه لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ معناه أن من قامها كتب الله له أجر العبادة في ألف شهر، قال بعضهم يعني في ألف شهر ليس فيها ليلة القدر وفي الحديث الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه «1» وسبب الآية أن رسول الله تعالى عليه وسلم ذكر رجلا ممن تقدم عبد الله ألف شهر، فعجب المسلمون من ذلك ورأوا أن أعمارهم تنقص عن ذلك، فأعطاهم الله ليلة القدر وجعلها خيرا من العبادة في تلك المدة الطويلة. وروي أن الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما عوتب حين بايع معاوية فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رأى في المنام بني أمية ينزون على منبره نزو القردة، وأعلمه أنهم يملكون أمر الناس ألف شهر، فاهتم لذلك، فأعطاه الله ليلة القدر وهي خير من ملك بني أمية ألف شهر، ثم كشف الغيب أنه كان من بيعة الحسن لمعاوية إلى قتل مروان الجعدي آخر ملوك بني أمية بالمشرق ألف شهر تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ الروح هنا جبريل عليه السلام، وقيل: صنف من الملائكة لا تراهم الملائكة إلا تلك الليلة وتنزّلهم هو إلى الأرض، وقيل: إلى السماء الدنيا وهو تعظيم لليلة القدر ورحمة للمؤمنين القائمين فيها مِنْ كُلِّ أَمْرٍ هذا متعلق بما قبله، والمعنى أن الملائكة ينزلون ليلة القدر من أجل كل أمر، يقضي الله في ذلك العام. فإنه روي أن الله يعلم الملائكة بكل ما يكون في ذلك العام من الآجال والأرزاق وغير ذلك، ليمتثلوا ذلك في العام كله، وقيل: على هذا المعنى أن من بمعنى الباء أي ينزلون بكل أمر وهذا ضعيف وقيل: إن المجرور يتعلق بعده والمعنى أنها سلام من كل أمر أي سلامة من الآفات، قال مجاهد: لا يصيب أحد فيها داء. والأظهر أن الكلام تمّ عند قوله: من كل أمر. ثم ابتدأ قوله: سلام هي واختلف في معنى سلام فقيل إنه من السلامة وقيل: إنه من التحية، لأن الملائكة يسلمون على المؤمنين القائمين فيها، وكذلك اختلف في إعرابه فقيل: سلام هي مبتدأ وخبر وهذا يصح سواء جعلناه متصلا مع ما قبله أو منقطعا عنه، وقيل: سلام. خبر مبتدأ مضمر تقديره: أمرها سلام أو: القول فيها سلام. وهي مبتدأ خبره حتى مطلع «2» الفجر أي هي دائمة إلي طلوع الفجر، ويختلف الوقف باختلاف الإعراب وقال ابن عباس: إن قوله هي إشارة إلى أنها ليلة سبع وعشرين، لأن هذه الكلمة هي السابعة والعشرين من كلمات السورة.

_ (1) . رواه أحمد ج 2 ص 408 عن أبي هريرة وهو في الصحيحين أيضا. (2) . قرأ الكسائي: مطلع بكسر اللام والباقون بفتحها.

سورة البينة

سورة البيّنة مدنية وآياتها 8 نزلت بعد الطلاق بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (سورة لم يكن) ذكر الله الكفار ثم قسمهم إلى صنفين أهل الكتاب والمشركين، وذكر أن جميعهم لم يكونوا منفكين حتى تأتيهم البينة، وتقوم عليهم الحجة ببعث رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومعنى منفكين: منفصلين، ثم اختلف في هذا الانفصال على أربعة أقوال: أحدها أن المعنى لم يكونوا منفصلين عن كفرهم حتى تأتيهم البينة لتقوم عليهم الحجة. الثاني لم يكونوا منفصلين عن معرفة نبوة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم حتى بعثه الله. الثالث اختاره ابن عطية وهو لم يكونوا منفصلين عن نظر الله وقدرته، حتى يبعث الله إليهم رسولا يقيم عليهم الحجة الرابع وهو الأظهر عندي أن المعنى لم يكونوا لينفصلوا من الدنيا حتى بعث الله لهم سيدنا محمدا صلى الله عليه وسلم فقامت عليهم الحجة، لأنهم لو انفصلت الدنيا دون بعثه: لَقالُوا رَبَّنا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولًا [طه: 134] فلما بعثه الله لم يبق لهم عذر ولا حجة، فمنفكين على هذا كقولك: لا تبرح أو لا تزول حتى يكون كذا وكذا رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يعني سيدنا محمدا صلى الله عليه وسلم، وإعرابه بدل من البينة أو خبر ابتداء مضمر يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً يعني القرآن في صحفه فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ أي قيمة بالحق مستقيمة بالمعاني، ووزن قيّمة فيعلة وفيه مبالغة قال ابن عطية: هذا على حذف مضاف تقديره: فيها أحكام كتب ولا يحتاج هذا إلى الحذف لأن الكتب بمعنى المكتوبات. وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ أي ما اختلفوا في نبوة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم إلا من بعد ما علموا أنه حق، ويحتمل أن يريد تفرقهم في دينهم كقوله: وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ [فصلت: 45] وإنما خص الذين أوتوا الكتاب بالذكر هنا بعد ذكرهم مع غيرهم في أول السورة لأنهم كانوا يعلمون صحة نبوّة سيدنا محمد صلى الله عليه تعالى وآله وسلم، بما يجدون في كتبهم من ذكره وَما أُمِرُوا الآية: هنا معناها: ما أمروا في التوراة والإنجيل إلا بعبادة الله، ولكنهم حرّفوا أو بدّلوا، ويحتمل أن يكون المعنى ما أمروا في القرآن إلا بعبادة الله، فلأيّ شيء ينكرونه ويكفرون به مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ استدل المالكية بهذا على وجوب النية في الوضوء، وهو بعيد لأن الإخلاص هنا يراد

[سورة البينة (98) : الآيات 6 إلى 8]

به التوحيد وترك الشرك أو ترك الرياء، وذلك أن الإخلاص مطلوب في التوحيد وفي الأعمال، وهذا الإخلاص في التوحيد من الشرك الجليّ، وهذا الإخلاص في الأعمال من الشرك الخفيّ، وهو الرياء. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الرياء الشرك الأصغر وقال صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه إنه تعالى يقول «أنا أغنى الأغنياء عن الشرك فمن عمل عملا أشرك فيه غيري تركته وشريكه» «1» . واعلم أن الأعمال ثلاثة أنواع: مأمورات ومنهيات ومباحات فأما المأمورات فالإخلاص فيها عبارة عن خلوص النية لوجه الله، بحيث لا يشوبها بنية أخرى، فإن كانت كذلك فالعمل خالص مقبول، وإن كانت النية لغير وجه الله، من طلب منفعة دنيوية، أو مدح أو غير ذلك فالعمل رياء محض مردود، وإن كانت النية مشتركة ففي ذلك تفصيل فيه نظر واحتمال. وأما المنهيات فإن تركها دون نية خرج عن عهدتها، ولم يكن له أجر في تركها وإن تركها بنية وجه الله حصل له الخروج عن عهدتها مع الأجر، وأما المباحات كالأكل والنوم والجماع وشبه ذلك فإن فعلها بغير نية لم يكن فيها أجر، وإن فعلها بنية وجه الله فله فيها أجر، فإن كل مباح يمكن أن يصير قربة إذا قصد به وجه الله مثل أن يقصد بالأكل القوة على العبادة ويقصد بالجماع التعفف عن الحرام حُنَفاءَ جمع حنيف وقد ذكر وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ تقديره: الملة القيمة، أو الجماعة القيمة وقد فسرنا القيمة ومعناها أن الذي أمروا به من عبادة الله والإخلاص له وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة هو دين الإسلام فلأيّ شيء لا يدخلون فيه؟ الْبَرِيَّةِ الخلق لأن الله برأهم وأوجدهم بعد العدم. وقرأ [نافع وابن عامر البريئة] بالهمز وهو الأصل و [الباقون] بالياء وهو تخفيف من المهموز، وهو أكثر استعمالا عند العرب. رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ اختلف هل هذا في الدنيا أو في الآخرة؟ فرضاهم عن الله في الدنيا هو الرضا بقضائه والرضا بدينه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد رسولا «2» ، ورضاهم عنه في الآخرة: هو رضاهم بما أعطاهم الله فيها، أو رضا الله عنهم لما ورد في الحديث أن الله يقول: يا أهل الجنة هل تريدون شيئا أزيدكم فيقولون يا ربنا وأي شيء نريد وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدا من العالمين فيقول عندي أفضل من ذلك وهو رضواني فلا أسخط عليكم أبدا «3» ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ أي لمن خافه وهذا دليل على فضل الخوف قال رسول الله صلى الله عليه وسلم خوف الله رأس كل حكمة «4» .

_ (1) . رواه مسلم عن أبي هريرة الاتحافات السنية للمناوي رقم 59. (2) . رواه أحمد عن العباس ج 1 ص 208. (3) . رواه المنذري وعزاه للشيخين والترمذي عن أبي سعيد الخدري. (4) . ذكره المناوي في التيسير بمعناه: رأس الحكمة مخافة الله وعزاه للحكيم في نوادره وابن لال في مكارم الأخلاق عن ابن مسعود.

سورة الزلزلة

سورة الزلزلة مدنية وآياتها 8 نزلت بعد النساء بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (سورة الزلزلة) إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ أي حركت واهتزت زِلْزالَها مصدر وإنما أضيف إليها تهويلا كأنه يقول الزلزلة التي تليق بها على عظم جرمها وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها يعني الموتى الذين في جوفها، وذلك عند النفخة الثانية في الصور. وقيل: هي الكنوز وهذا ضعيف لأن إخراجها للكنوز وقت الدجال وَقالَ الْإِنْسانُ ما لَها أي يتعجب من شأنها فيحتمل أن يريد جنس الإنسان أو الكافر خاصة لأنه الذي يرى حينئذ ما لا يظن يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها هذه عبارة عما يحدث فيها من الأهوال فهو مجاز وحديث بلسان الحال وقيل: هو شهادتها على الناس بما عملوا على ظهرها فهو حقيقة، وتحدّث يتعدّى إلى مفعولين حذف المفعول منهما، والتقدير تحدث الخلق أخبارها، وانتزع بعض المحدثين من قوله تحدّث أخبارها أن قول المحدّث حدثنا وأخبرنا سواء، وهذه الجملة هي جواب إذا زلزلت وتحدث هو العامل في إذا. ويومئذ بدل من إذا ويجوز أن يكون العامل في إذا مضمر وتحدث عامل في يومئذ بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها الباء سببية متعلقة بتحدث أي تحدث بسبب أن الله أوحى لها، ويحتمل أن يكون بأن الله أوحى لها بدلا من إخبارها وهذا كما تقول: حدثت كذا وحدثت بكذا والمعنى على هذا تحدث بحديث الوحي لها، وهذا الوحي يحتمل أن يكون إلهاما أو كلاما بواسطة الملائكة ولها بمعنى إليها، وقيل: معناها أوحى إلى الملائكة من أجلها وهذا بعيد. يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتاتاً مختلفين في أحوالهم، وواحد الأشتات شتيت وصدر الناس: هو انصرافهم من موضع وردهم فقيل: الورد هو الدفن في القبور والصدر: هو القيام للبعث. وقيل الورد القيام للحشر، والصدر الانصراف إلى الجنة أو النار. وهذا أظهر. وفيه يعظم التفاوت بين أحوال الناس فيظهر كونهم أشتاتا فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ «1» المثقال هو الوزن والذرة هي النملة الصغيرة، والرؤية هنا ليست برؤية بصر

_ (1) . يره: قرأها أحد الرواة وهو يحيى بن آدم بسكون الهاء: يره والباقون بإشباع الضمة: يرهو.

وإنما هي عبارة عن الجزاء. وذكر الله مثقال الذرة تنبيها على ما هو أكثر منه من طريق الأولى، كأنه قال: من يعمل قليلا أو كثيرا وهذه الآية هي في المؤمنين، لأن الكافر لا يجازى في الآخرة على حسناته، إذ لم تقبل منه. واستدل أهل السنة بهذه الآية: أنه لا يخلد مؤمن في النار لأنه إذا خلد لم ير ثوابا على إيمانه وعلى ما عمل من الحسنات، وروي عن عائشة أنها تصدقت بحبة عنب فقيل لها في ذلك فقالت: كم فيها من مثقال ذرة، وسمع رجلا هذه الآية عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: حسبي الله لا أبالي أن أسمع غيرها وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ «1» هذا على عمومه في حق الكافر، وأما المؤمنون فلا يجازون بذنوبهم إلا بستة شروط: وهي أن تكون ذنوبهم كبائر، وأن يموتوا قبل التوبة منها وأن لا تكون لهم حسنات أرجح في الميزان منها، وأن لا يشفع فيهم وأن لا يكون ممن استحق المغفرة بعمل كأهل بدر، وأن لا يعفو الله عنهم فإن المؤمن العاصي في مشيئة الله إن شاء عذّبه وإن شاء غفر له.

_ (1) . يره: قرأها أحد الرواة وهو يحيى بن آدم بسكون الهاء: يره والباقون بإشباع الضمة: يرهو.

سورة العاديات

سورة العاديات مكية وآياتها 11 نزلت بعد العصر بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (سورة العاديات) اختلف في العاديات والموريات والمغيرات هل يراد بها الخيل أو الإبل؟ وعلى القول بأنها الخيل اختلف هل يعني خيل المجاهدين أو الخيل على الإطلاق؟ وعلى القول بأنها الإبل اختلف هل يعني إبل غزوة بدر أو إبل المجاهدين مطلقا، أو إبل الحجاج أو الإبل على الإطلاق؟ ومعنى العاديات التي تعدو في مشيها، والضبح هو تصويت جهير عند العدو الشديد، ليس بصهال. وهو مصدر منصوب على تقدير: يضبحن ضبحا أو هو مصدر في موضع الحال تقديره: العاديات في حال ضبحها، والموريات من قولك أوريت النار إذا أوقدتها، والقدح هو صك الحجارة فيخرج منها شعلة نار. وذلك عند ضرب الأرض لأرجل الخيل أو الإبل، وإعراب قدحا كإعراب صبحا، والمغيرات من قولك: أغارت الخيل إذا خرجت للإغارة على الأعداء، وصبحا ظرف زمان لأن عادة أهل الغارة في الأكثر أن يخرجوا في الصباح فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً هذه الجملة معطوفة على العاديات وما بعده لأنه في تقدير التي تعدو، والنقع: الغبار والضمير المجرور للوقت المذكور وهو الصبح، فالباء ظرفية أو لكان الذي يقتضيه المعنى، فالباء أيضا ظرفية أو للعدو، وهو المصدر الذي يقتضيه العاديات. فالباء سببية ومعنى أثرن حركن والضمير الفاعل للإبل أو للخيل أي حركن الغبار عند مشيهن فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً معنى وسطن توسطن، وجمعا اختلف هل المراد به جمع من الناس أو المزدلفة «1» لأن اسمها جمع والضمير المجرور للوقت أو للمكان أو للعدو أو للنقع. إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ هذا جواب القسم والكنود الكفور للنعمة فالتقدير: إن

_ (1) . هكذا وقد ذكرها الطبري أيضا وهي مكان معروف بين عرفات ومنى حيث ينفر إليها الحجاج ليلة النحر.

[سورة العاديات (100) : الآيات 7 إلى 11]

الإنسان لنعمة ربه لكفور، والإنسان جنس، وقيل: الكنود العاصي، وقال بعض الصوفية: الكنود هو الذي يعبد الله على عوض [بمقابل] وَإِنَّهُ عَلى ذلِكَ لَشَهِيدٌ الضمير للإنسان أي هو شاهد على نفسه بكنوده، وقيل: هو لله تعالى على معنى التهديد: والأول أرجح لأن الضمير الذي بعده الإنسان باتفاق، فيجري الكلام على نسق واحد وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ الخير هنا المال، كقوله: إِنْ تَرَكَ خَيْراً [البقرة: 180] والمعنى أن الإنسان شديد الحب للمال، فهو ذم لحبه والحرص عليه، وقيل: الشديد: البخيل، والمعنى على هذا أنه بخيل من أجل حب المال، والأول أظهر إِذا بُعْثِرَ ما فِي الْقُبُورِ أي بحث عند ذلك عبارة عن البعث وَحُصِّلَ ما فِي الصُّدُورِ أي جمع ما في الصحف وأظهر محصلا أو ميز خيره من شره إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ الضمير في ربهم وبهم يعود على الإنسان، لأنه يراد به الجنس وفي هذه الجملة وجهان: أحدهما أن هذه الجملة معمول أفلا يعلم فكان الأصل أن تفتح إن، ولكنها كسرت من أجل اللام التي في خبرها الثاني أن تكون هذه الجملة مستأنفة ويكون معمول أفلا يعلم محذوفا ويكون الفاعل ضميرا يعود على الإنسان والتقدير: أفلا يعلم الإنسان حاله وما يكون منه إذا بعثر ما في القبور؟ وهذا هو الذي قاله ابن عطية ويحتمل عندي أن يكون فاعل أفلا يعلم ضميرا يعود على الله، والمفعول محذوف والتقدير: أفلا يعلم الله أعمال الإنسان إذا بعثر ما في القبور، ثم استأنف قوله إن ربهم بهم يومئذ لخبير على وجه التأكيد، أو البيان للمعنى المتقدم، والعامل في إذا بعثر على هذا الوجه هو أفلا يعلم والعمل فيه على مقتضى قول ابن عطية هو المفعول المحذوف، وإذا هنا ظرفية بمعنى حين ووقت وليست بشرطية، والعامل في يومئذ خبير، وإنما خص ذلك بيوم القيامة لأنه يوم الجزاء بقصد التهديد، مع أن الله خبير على الإطلاق.

سورة القارعة

سورة القارعة مكية وآياتها 11 نزلت بعد قريش بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (سورة القارعة) الْقارِعَةُ من أسماء القيامة لأنها تقرع القلوب بهولها، وقيل: هي النفخة في الصور لأنها تقرع الأسماع مَا الْقارِعَةُ مبتدأ وخبر في موضع خبر القارعة، والمراد به تعظيم شأنها، كذلك وَما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ العامل في الظرف محذوف دل عليه القارعة تقديره، تقرع في يوم، والفراش هو الطير الصغير الذي يشبه البعوض، ويدور حول المصباح. والمبثوث هو المنتشر المفترق. شبّه الله الخلق يوم القيامة به في كثرتهم وانتشارهم وذلتهم، ويحتمل أنه شبههم به لتساقطهم في جهنم. كما يتساقط الفراش في المصباح. قال بعض العلماء: الناس في أول قيامهم من القبور كالفراش المبثوث، لأنهم يجيئون ويذهبون على غير نظام، ثم يدعوهم الداعي فيتوجهون إلى ناحية المحشر فيكونون حينئذ كالجراد المنتشر. لأن الجراد يقصد إلى جهة واحدة، وقيل: الفراش هنا الجراد الصغير وهو ضعيف وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ العهن هو الصوف، وقيل: الصوف الأحمر وقيل: الصوف الملون ألوانا، شبّه الله الجبال يوم القيامة به، لأنها تنسف فتصير لينة، وعلى القول بأنه الملون يكون التشبيه أيضا من طريق اختلاف ألوان الجبال لأن منها بيضاء وحمراء وسوداء. مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ هو جمع ميزان أو جمع موزون، وميزان الأعمال يوم القيامة له لسان وكفتان عند الجمهور، وقال قوم: هو عبارة عن العدل فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ معناه ذات رضا عند سيبويه: وثقل الموازين بكثرة الحسنات وخفتها بقلتها، ولا يخف ميزان مؤمن خفة موبقة لأن الإيمان يوزن فيه فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ فيه ثلاثة أقوال: أحدهما أن الهاوية جهنم سميت بذلك لأن الناس يهوون فيها أي يسقطون، وأمه معناه مأواه كقولك: المدينة أم فلان أي مسكنه على التشبيه بالأمّ الوالدة لأنها مأوى الولد ومرجعه. الثاني أن الأم هي الوالدة،

[سورة القارعة (101) : الآيات 10 إلى 11]

وهاوية ساقطة وذلك عبارة عن هلاكه كقولك: أمه ثكلى إذا هلك: الثالث أن المعنى أم رأسه هاوية في جهنم. أي ساقطة فيها، لأنه يطرح فيها منكوسا، وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لرجل: لا أمّ لك فقال: يا رسول الله تدعوني إلى الهدى وتقول لي لا أمّ لك؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنما أردت لا نار لك، قال الله تعالى: فأمه هاوية وهذا يؤيد القول الأول وَما أَدْراكَ ما هِيَهْ الهاء للسكت والضمير لجهنم على القول بأنها الهاوية، وهو للفعلة والخصلة التي يراد بها العذاب على القول الثاني والثالث، والمقصود تعظيمها ثم فسرها بقوله نارٌ حامِيَةٌ.

سورة التكاثر

سورة التكاثر مكية وآياتها 8 نزلت بعد الكوثر بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (سورة التكاثر) أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ هذا خبر يراد به الوعظ والتوبيخ، ومعنى ألهاكم شغلكم والتكاثر المباهاة بكثرة المال والأولاد، وأن يقول هؤلاء: نحن أكثر ويقول هؤلاء: نحن أكثر، ولما قرأها النبي صلى الله عليه وسلم قال: يقول ابن آدم مالي مالي وليس لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت أو لبست فأبليت أو تصدقت فأمضيت «1» حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ فيه ثلاثة أقوال: أحدهما أن معناه حتى متم فأراد بزيارة المقابر الدفن فيها. الثاني أن معناه حتى ذكرتم الموتى الذين في المقابر، فعبّر بزيارتها عن التفاخر بمن فيها لأن بعض العرب تفاخر بآبائها الموتى. فالمعنى أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ حتى بلغتم فيه إلى ذكر الموتى: الثالث أن معناها زيارة المقابر حقيقة لتعظيم أهلها والتفاخر بهم فيقال: هذا قبر فلان ليشهر ذكره ويعظم قدره كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ زجر وتهديد، ثم كرره للتأكد وعطفه بثم إشارة إلى أن الثاني أعظم من الأول، وقيل: الأول تهديد للكفار والثاني: تهديد للمؤمنين وحذف معمول تعلمون وتقديره ما يحل بكم، أو تعلمون أن القرآن حق، أو تعلمون أنكم كنتم على خطأ في اشتغالكم بالدنيا، وإنما حذفه لقصد التهويل فيقدر السامع أعظم ما يخطر بباله. لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ جواب لو محذوف تقديره لو تعلمون لازدجرتم واستعددتم للآخرة، فينبغي الوقف على اليقين ومعمول لو تعملون محذوف أيضا وعلم اليقين مصدر ومعنى علم اليقين: العلم الذي لا يشك فيه. قال بعضهم: هو من إضافة الشيء إلى نفسه كقولك: دار الآخرة وقال الزمخشري: معناه علم الأمور التي تتيقنونها بالمشاهدة لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ «2» هذا جواب قسم محذوف، وهو تفسير لمفعول لو تعلمون تقديره: لو تعلمون

_ (1) . الحديث ذكره المنذري وعزاه لمسلم عن أبي هريرة ص 101 ج 4 المنيرية. (2) . قرأ الكسائي وابن عامر: لترونّ الجحيم بضم التاء والباقون بفتح التاء.

[سورة التكاثر (102) : الآيات 7 إلى 8]

عاقبة أمركم ثم فسرها بأنها رؤية الجحيم، والتفسير بعد الإبهام يدل على التهويل والتعظيم. والخطاب لجميع الناس فهو كقوله: [وإن منكم إلا واردها] [مريم: 71] وقيل: للكفار خاصة، فالرؤية على هذا يراد بها الدخول فيها ثُمَّ لَتَرَوُنَّها عَيْنَ الْيَقِينِ هذا تأكيد للرؤية المتقدمة وعطفه بثم للتهويل والتفخيم، والعين هنا من قولك: عين الشيء نفسه وذاته، أي لترونها الرؤية التي هي نفس اليقين ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ هذا إخبار بالسؤال في الآخرة عن نعيم الدنيا، فقيل: النعيم الأمن والصحة، وقيل: الطعام والشراب، وهذه أمثلة، والصواب العموم في كل ما يتلذذ به قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بيت يكنّك [يؤويك] وخرقة تواريك وكسرة تشدّ قلبك وما سوى ذلك فهو نعيم، وقال صلى الله عليه وسلم كل نعيم فمسؤول عنه إلا نعيم في سبيل الله، وأكل صلى الله عليه وسلم يوما مع أصحابه رطبا وشربوا عليه ماء فقال لهم هذا من النعيم الذي تسئلون عنه «1» .

_ (1) . الحديثان مشهوران وقد رواهما الطبري في تفسيره بألفاظ مقاربة. [.....]

سورة العصر

سورة العصر مكية وآياتها 3 نزلت بعد الشرح بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (سورة العصر) وَالْعَصْرِ فيه ثلاثة أقوال: الأول أنه صلاة العصر أقسم الله بها لفضلها، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الذي تفوته صلاة العصر كأنما وتر أهله وماله «1» : الثاني أنه العشيّ أقسم به كما أقسم بالضحى، ويؤيد هذا قول أبيّ بن كعب: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن العصر فقال: أقسم ربكم بآخر النهار: الثالث أنه الزمان إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ الإنسان جنس ولذلك استثنى منه الذين آمنوا فهو استثناء متصل وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ أي وصى بعضهم بعضا بالحق وبالصبر، فالحق هو الإسلام وما يتضمنه، وفيه إشارة إلى كذب الكفار، وفي الصبر إشارة إلى صبر المؤمنين على إذاية الكفار لهم بمكة.

_ (1) . الحديث رواه أحمد عن ابن عمر ج 2 ص 13 والشافعي في الأم.

سورة الهمزة

سورة الهمزة مكية وآياتها 9 نزلت بعد القيامة بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (سورة الهمزة) وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ هو على الجملة الذي يعيب الناس ويأكل أعراضهم، واشتقاقه من الهمز واللمز، وصيغة فعلة للمبالغة، واختلف في الفرق بين الكلمتين فقيل: الهمز في الحضور، واللمز في الغيبة وقيل: بالعكس. وقيل: الهمز باليد والعين، واللمز باللسان، وقيل: هما سواء. ونزلت السورة في الأخنس بن شريق لأنه كان كثير الوقيعة في الناس وقيل: في أمية بن خلف، وقيل في الوليد بن المغيرة. ولفظها مع ذلك على العموم في كل من اتصف بهذه الصفات «1» وَعَدَّدَهُ أي أحصاه وحافظ على عدده أن لا ينقص فمنعه من الخيرات، وقيل: معناه استعدّه وادّخره عدّة لحوادث الدهر يَحْسَبُ أَنَّ مالَهُ أَخْلَدَهُ أي يظن لفرط جهله واغتراره أن ماله يخلده في الدنيا، وقيل: يظن أن ماله يوصله إلى دار الخلد كَلَّا رد عليه فيما ظنه لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ هذا جواب قسم محذوف والحطمة هي جهنم، وإنما سميت حطمة لأنها تحطم ما يلقى فيها، وتلتهبه وقد عظّمها بقوله: وما أدراك ثم فسّرها بأنها نارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ أي: تبلغ القلوب بإحراقها قال ابن عطية: يحتمل أن يكون المعنى أنها تطلع على ما في القلوب من العقائد والنيّات باطلاع الله إياها مُؤْصَدَةٌ مغلقة فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ العمد جمع عمود وهو عند سيبويه اسم جمع وقرأ [حمزة والكسائي وأبو بكر] في عمد بضمتين، والعمود هو: المستطيل من حديد أو خشب [أو حجر] والممددة الطويلة، وفي المعنى قولان: أحدهما أن أبواب جهنم أغلقت عليهم، ثم مدت على أبوابها عمد تشديدا في الإغلاق والثقاف كما تثقف أبواب البيوت بالعمد، وهو على هذا متعلق بمؤصدة، والآخر أنهم موثوقون مغلولون في العمد، فالمجرور على هذا في موضع خبر مبتدأ مضمر تقديره: هم موثوقون في عمد.

_ (1) . قوله تعالى: الَّذِي جَمَعَ مالًا وَعَدَّدَهُ قرأ ابن عامر وحمزة والكسائي: جمع مالا بالتشديد والباقون بالتخفيف.

سورة الفيل

سورة الفيل مكية وآياتها 5 نزلت بعد الكافرون بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (سورة الفيل) نزلت هذه السورة منبهة على العبرة في قصة الفيل، التي وقعت في عام مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنها تدل على كرامة الله للكعبة، وإنعامه على قريش بدفع العدو عنهم، فكان يجب عليهم أن يعبدوه ولا يشركوا به، وفيها مع ذلك عجائب من قدرة الله وشدة عقابه، وقد ذكرت القصة في كتب السير وغيرها واختصارها: أن أبرهة ملك الحبشة بنى بيتا باليمن، وأراد أن يحج الناس إليه كما يحجون إلى الكعبة فذهب أعرابي وأحدث في البيت [قضى حاجته] فغضب أبرهة وحلف أن يهدم الكعبة، فاحتفل في جموعه وركب الفيل وقصد مكة. فلما وصل قريبا منها فرّ أهلها إلى الجبال وأسلموا له الكعبة، وأخذ لعبد المطلب مائتي بعير. فكلّمه فيها فقال له: كيف تكلمني في الإبل ولا تكلمني في الكعبة، وقد جئت لهدمها وهي شرفك وشرف قومك؟ فقال له: أنا رب الإبل وإن للبيت ربا سيمنعه فبرك الفيل بذي الغميس، ولم يتوجه إلى مكة فكانوا إذا وجهوه إلى غيرها هرول، وإذا وجهوه إليها توقف ولو بضعوه بالحديد، فبينما هم كذلك أرسل الله عليهم طيورا سودا وقيل: خضرا عند كل طائر ثلاثة أحجار في منقاره ورجليه، فرمتهم الطيور بالحجارة، فكان الحجر يقتل من وقع عليه ووقع في سائرهم الجدري والأسقام. وانصرفوا فماتوا في الطريق متفرقين في المراحل وتقطع أبرهة أنملة أنملة. أَلَمْ تَرَ كَيْفَ معناه: ألم تعلم وكيف في موضع نصب بفعل ربك لا بألم تر والجملة معمول ألم تر في تضليل أي إبطال وتخسير أَبابِيلَ معناها جماعات شيئا بعد شيء قال الزمخشري واحدها أبالة وقال جمهور الناس هو جمع لا واحد له من لفظه بِحِجارَةٍ روي أن كل حجر منها كان فوق العدسة ودون الحمصة. قال ابن عباس: إنه أدرك عند أم هانئ نحو قفتين من هذه الحجارة، وأنها كانت مخططة بحمرة وروي أنه كان على كل حجر اسم من يقع عليه مكتوبا سِجِّيلٍ قد ذكر كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ العصف ورق الزرع وتبنه والمراد أنهم صاروا رميما، وفي تشبيههم به ثلاثة أوجه الأول أنه شبههم بالتبن إذا أكلته الدواب ثم راثته فجمع التلف والخسة، ولكن الله كنّى عن هذا على حسب آدب القرآن. الثاني أنه أراد ورق الزرع إذا أكلته الدود. الثالث أنه أراد كعصف مأكول زرعه وبقي هو لا شيء.

سورة قريش

سورة قريش مكية وآياتها 4 نزلت بعد التين بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (سورة قريش) لِإِيلافِ قُرَيْشٍ إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ قريش هم حيّ من عرب الحجاز الذين هم من ذرية معد بن عدنان، إلا أنه لا يقال قريشيّ إلا لمن كان من ذرية النضر بن كنانة، وهم ينقسمون إلى أفخاذ وبيوت نحو بني هاشم، وبني أمية، وبني مخزوم، وغيرهم وإنما سميت القبيلة قريشا لتقرشهم، والتقرّش التكسب وكانوا تجارا، وعن معاوية أنه سأل ابن عباس لم سميت قريش قريشا؟ قال: لدابة في البحر تأكل ولا تؤكل، وتعلو ولا تعلى [القرش] ، وكانوا ساكنين بمكة، وكان لهم رحلتان في كل عام للتجارة رحلة في الشتاء إلى اليمن، ورحلة في الصيف إلى الشام، وقيل: كانت الرحلتان جميعا إلى الشام، وقيل: كانوا يرحلون في الصيف إلى الطائف حيث الماء والظل، فيقيمون بها ويرحلون في الشتاء إلى مكة لسكناهم بها، والإيلاف مصدر من قولك آلفت المكان إذا ألفته وقيل: هو منقول منه بالهمزة يقال ألف الرجل الشيء، وألفه إياه غيره فالمعنى على القول الأول أن قريشا ألفوا رحلة الشتاء والصيف، وعلى الثاني أن الله ألفهم الرحلتين واختلف في تعلق قوله لايلاف قريش على ثلاثة أقوال: أحدهما أنه يتعلق بقوله فليعبدوا والمعنى فليعبدوا الله من أجل إيلافهم الرحلتين فإن ذلك نعمة من الله عليهم: الثاني أنه يتعلق بمحذوف تقديره: أعجبوا لإيلاف قريش: الثالث أنه يتعلق بسورة الفيل، والمعنى أن الله أهلك أصحاب الفيل لإيلاف قريش، فهو يتعلق بقوله: فجعلهم أو بما قبله من الأفعال. ويؤيد هذا أن السورتين في مصحف أبيّ بن كعب سورة واحدة لا فصل بينهما، وقد قرأهما عمر في ركعة واحدة من المغرب، وذكر الله الإيلاف مطلقا ثم أبدل منه الإيلاف المقيّد بالرحلتين تعظيما للأمر، ونصب رحلة لأنه مفعول بإيلافهم وقال: رحلة وأراد رحلتين فهو كقول الشاعر: كلوا في بعض بطنكم تعفّوا. ْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ هذا إقامة حجة عليهم بملاطفة واستدعاء لهم وتذكير بالنعم، والبيت هو المسجد الحرام الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ يحتمل أن يريد إطعامهم

بسبب الرحلتين، فقد روي أنهم كانوا قبل ذلك في شدة وضيق حال حتى أكلوا الجيف ويحتمل أن يريد إطعامهم على الإطلاق، فقد كان أهل مكة ساكنين بواد غير ذي زرع، ولكن الله أطعمهم مما يجلب إليهم من البلاد، بدعوة أبيهم إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وهو قوله: وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ [البقرة: 126] وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ يحتمل أن يريد: آمنهم من خوف أصحاب الفيل، ويحتمل أن يريد آمنهم في بلدهم بدعوة إبراهيم في قوله رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً [البقرة: 126] وقد فسرناه في موضعه، أو يعني آمنهم في أسفارهم لأنهم كانوا في رحلتهم آمنين، لا يتعرض لهم أحد بسوء، وكان غيرهم من الناس تؤخذ أموالهم وأنفسهم: وقيل: آمنهم من الجذام فلا يرى بمكة [أحد] مجذوما قال الزمخشري: التنكير في جوع وخوف لشدتهما.

سورة الماعون

سورة الماعون مكية ثلاث الآيات الأول، مدنية الباقي: وآياتها 7 نزلت بعد التكاثر بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (سورة الماعون) أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ قيل: إن هذا نزل في أبي جهل وأبي سفيان بن حرب، وقيل: هو مطلق والدين هنا الملة أو الجزاء فَذلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ أي يدفعه بعنف، وهذا الدفع يحتمل أن يكون عن إطعامه، والإحسان إليه أو عن ماله وحقوقه، وهذا أشدّ والذي لا يحض على طعام المسكين لا يطعمه من باب أولى. وهذه الجملة هي جواب أرأيت لأن معناها: أخبرني فكأنه سؤال وجواب والمعنى: انظر الذي كذب بالدين، تجد فيه هذه الأخلاق القبيحة، والأعمال السيئة، وإنما ذلك لأن الدين يحمل صاحبه على فعل الحسنات. وترك السيئات فمقصود الكلام ذمّ الكفار وأحوالهم فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ قيل: إن هذا نزل في عبد الله بن أبيّ بن سلول المنافق، والسورة على هذا نصفها مكي ونصفها مدني قاله أبو زيد السهيلي. وذلك أن ذكر أبي جهل وغيره من الكفار أكثر ما جاء في السور المكية، وذكر السهو عن الصلاة والرياء فيها، إنما هو من صفة الذين كانوا بالمدينة، لا سيما على قول من قال: أنها في عبد الله بن أبيّ، وقيل: إنها مكية كلها وهو الأشهر، ونزل آخرها على هذا في رجل أسلم بمكة ولم يكن صحيح الإيمان، وقيل: مدنية، والسهو عن الصلاة هو تركها أو تأخيرها تهاونا بها. وقد سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الذين هم عن صلاتهم ساهون، قال: الذين يؤخرونها عن وقتها وقال عطاء بن يسار: الحمد لله الذي قال عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ ولم يقل في صلاتهم الَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ هو من الرياء أي صلاتهم رياء للناس لا لله وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ وصف لهم بالبخل وقلة المنفعة للناس. وفي الماعون أربعة أقوال: الأول أنه الزكاة، والثاني أنه المال بلغة قريش. الثالث أنه الماء، الرابع أنه ما يتعاطاه الناس بينهم كالآنية والفأس والدلو والمقص، وسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما الشيء الذي لا يحل منعه؟ فقال الماء والنار والملح وزاد في بعض الطرق الإبرة والخميرة.

سورة الكوثر

سورة الكوثر مكية وآياتها 3 نزلت بعد العاديات بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (سورة الكوثر) إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ هذا خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والكوثر بثاء مبالغة من الكثرة وفي تفسيره سبعة أقوال: الأول حوض النبي صلى الله عليه وسلم: الثاني أنه الخير الكثير الذي أعطاه الله [له] في الدنيا والآخرة. قاله ابن عباس وتبعه سعيد بن جبير، فإن قيل: إن النهر الذي في الجنة من الخير الذي أعطاه الله فالمعنى أنه على العموم. الثالث أن الكوثر القرآن. الرابع أنه كثرة الأصحاب والأتباع. الخامس أنه التوحيد. السادس أنه الشفاعة، السابع أنه نور وضعه الله في قلبه، ولا شك أن الله أعطاه هذه الأشياء كلها، ولكن الصحيح أن المراد بالكوثر الحوض لما ورد في الحديث الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أتدرون ما الكوثر هو نهر أعطانيه الله وهو الحوض آنيته عدد نجوم السماء «1» . فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ فيه خمسة أقوال: الأول أنه أمره بالصلاة على الإطلاق وبنحر الهدي والضحايا، الثاني أنه صلى الله عليه وسلم كان يضحي قبل صلاة العيد فأمره أن يصلي ثم ينحر، فالمقصود على هذا تأخير نحر الأضاحي عن الصلاة الثالث أن الكفار يصلون مكاء وتصدية وينحرون للأصنام فقال الله لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم: صل لربك وحده وانحر له أي لوجهه لا لغيره، فهو على هذا أمر بالتوحيد والإخلاص. الرابع أن معنى انحر ضع يدك اليمنى على اليسرى عند صدرك في الصلاة فهو على هذا من النحر وهو الصدر. الخامس أن معناه ارفع يديك عند نحرك في افتتاح الصلاة إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ الشانئ هو المبغض، وهو الشنآن بمعنى العداوة، ونزلت هذه الآية في العاصي بن وائل، وقيل: في أبي جهل على وجه الرد عليه إذ قال: إن محمدا أبتر أي لا ولد له ذكر، فإذا مات استرحنا منه وانقطع أمره بموته، فأخبر الله أن هذا الكافر هو الأبتر وإن كان له أولاد لأنه مبتور من رحمة الله أي مقطوع عنها، ولأنه لا يذكر إذا ذكر إلا باللعنة بخلاف النبي صلى الله عليه وسلم فإن ذكره خالد إلى آخر الدهر، مرفوع على المنابر والصوامع مقرون بذكر الله والمؤمنون من زمانه إلى يوم القيامة أتباعه فهو كوالدهم.

_ (1) . روى المنذري الحديث وعزاه للترمذي عن أنس ج 4 ص 255، المنيرية.

سورة الكافرون

سورة الكافرون مكية وآياتها 6 نزلت بعد الماعون بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (سورة الكافرون) سبب هذه السورة أن قوما من قريش منهم الوليد بن المغيرة وأمية بن خلف والعاصي بن وائل وأبو جهل ونظراؤهم قالوا: يا محمد اتبع ديننا ونتبع دينك، أعبد آلهتنا سنة ونعبد إلهك سنة فقال: معاذ الله أن نشرك بالله شيئا، ونزلت السورة في معنى البراءة من آلهتهم ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من قرأها فقد برىء من الشرك لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ هذا إخبار أنه لا يعبد أصنامهم، فإن قيل لم كرر هذا المعنى بقوله: ولا أنا عابد ما عبدتم؟ فالجواب من وجهين أحدهما قاله الزمخشري وهو أن قوله: لا أعبد ما تعبدون يريد في الزمان المستقبل وقوله: ولا أنا عابد ما عبدتم يريد به فيما مضى، أي ما كنت قط عابدا ما عبدتم فيما سلف، فكيف تطلبون ذلك مني الآن. الثاني قاله ابن عطية: وهو أن قوله: لا أعبد ما تعبدون لما كان يحتمل أن يراد به زمان الحال خاصة قال: ولا أنا عابد ما عبدتم أي: أبدا ما عشت. لأن لا النافية إذا دخلت على الفعل المضارع خلصته للاستقبال فقوله: لا أعبد لا يحتمل أن يراد به الحال. ويحتمل عندي أن يكون قوله: لا أعبد ما تعبدون يراد به في المستقبل، على حسب ما تقتضيه لا من الاستقبال، ويكون قوله ولا أنا عابد ما عبدتم يريد به في الحال، فيحصل من المجموع نفي عبادته الأصنام في الحال والاستقبال. ومعنى الحال في قوله ولا أنا عابد ما عبدتم ثم أظهر من معنى المضي الذي قاله الزمخشري، ومن معنى الاستقبال فإن قولك: ما زيد بقائم بنفي الجملة الاسمية يقتضي الحال. وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ هذا إخبار أن هؤلاء الكفار لا يعبدون الله، كما قيل لنوح: أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ [هود: 36] إلا أن هذا في حق قوم مخصوصين ماتوا على الكفر، وقد روي أن هؤلاء الجماعة المذكورين هم أبو جهل والوليد بن المغيرة والعاصي بن وائل والأسود بن المطلب وأمية بن خلف وأبيّ بن خلف وأبن الحجاج وكلهم ماتوا كفارا، فإن قيل: لم قال ما أعبد بما دون من التي هي موضوعة لمن يعقل؟ فالجواب من ثلاثة أوجه: أحدهما أن ذلك لمناسبة قوله: لا أعبد ما تعبدون فإن هذا

[سورة الكافرون (109) : الآيات 4 إلى 6]

واقع على الأصنام التي لا تعقل ثم جعل ما أعبد على طريقته لتناسب اللفظ. الثاني أنه أراد الصفة كأنه قال: لا أعبد الباطل ولا تعبدون الحق قاله الزمخشري. الثالث أن ما مصدرية والتقدير: لا أعبد عبادتكم ولا تعبدون عبادتي وهذا ضعيف، فإن قيل لم كرّر هذا المعنى واللفظ فقال بعد ذلك: ولا أنتم عابدون ما أعبد مرة أخرى؟ فالجواب من وجهين: أحدهما قول الزمخشري: وهو أن الأوّل في المستقبل والثاني فيما مضى والآخر قاله ابن عطية وهو أن الأول في الحال والثاني في الاستقبال فهو حتم عليهم أن لا يؤمنوا أبدا لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ أي لكم شرككم ولي توحيدي وهذه براءة منهم، وفيها مسالمة منسوخة بالسيف.

سورة النصر

سورة النصر نزلت بمنى في حجة الوداع فتعد مدنية وهي آخر ما نزل من سور القرآن وآياتها 3 نزلت بعد التوبة بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (سورة النصر) سأل عمر بن الخطاب جماعة من الصحابة رضي الله عنهم عن معنى هذه السورة فقالوا: إن الله أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتسبيح والاستغفار عند النصر والفتح، وذلك على ظاهر لفظها فقال لابن عباس بمحضرهم: يا عبد الله ما تقول أنت؟ قال هو أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلمه الله بقربه إذا رأى النصر والفتح، فقال عمر: ما أعلم منها إلا ما علمت. وقد قال بهذا المعنى ابن مسعود وغيره، ويؤيده قول عائشة إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما فتح مكة وأسلم جعل يكثر أن يقول سبحانك اللهم ويؤيده قول عائشة إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما فتح مكة وأسلم جعل يكثر أن يقول سبحانك اللهم وبحمدك اللهم إني أستغفرك يتأول القرآن، أي هذه السورة وقال لها مرة ما أراه إلا حضور أجلي. وقال ابن عمر: نزلت هذه السورة بمنى أيام التشريق في حجة الوداع. وعاش رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدها ثمانين يوما أو نحوها، وقال ابن مسعود: هذه السورة تسمى سورة التوديع. إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ يعني بالفتح فتح مكة والطائف وغيرهما من البلاد التي فتحها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال ابن عباس: إن النصر صلح الحديبية والفتح فتح مكة وقيل: النصر إسلام أهل اليمن، والإخبار بذلك كله قبل وقوعه إخباره بغيب، فهو من أعلام النبوّة وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْواجاً أي جماعات، وذلك أنه أسلم بعد فتح مكة بشر كثير، فقد روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان معه في فتح مكة عشرة آلاف، وكان معه في غزوة تبوك سبعون ألفا وقال أبو عمر بن عبد البر: لم يمت رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي العرب رجل كافر «1» . وقد قيل: إن عدد المسلمين عند موته مائة ألف وأربعة عشر ألفا بل أكثر فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ قد ذكر التسبيح والاستغفار ومعنى بحمد ربك فيما تقدم، فإن قيل: لم أمره الله بالتسبيح والحمد والاستغفار عند رؤية النصر والفتح، وعند اقتراب أجله؟ فالجواب أنه أمر بالتسبيح والحمد ليكون شكرا على النصر والفتح وظهور الإسلام وأمره بذلك وبالاستغفار عند اقتراب أجله ليكون ذلك زادا للآخرة وعدة للقاء الله.

_ (1) . هذا الكلام فيه نظر لوجود مسيلمة الكذاب على الأقل.

سورة المسد

سورة المسد مكية وآياتها 5 نزلت بعد الفاتحة بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (سورة أبي لهب) سببها أنه لما نزل قوله تعالى وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ [الشعراء: 214] صعد رسول الله صلى الله عليه وسلم على الصفا فنادى بأعلى صوته: يا صباحاه فاجتمعت إليه قريش فقال لهم: إني نذير لكم بين يدي عذاب شديد ثم أنذرهم عموما وخصوصا فقال له أبو لهب: تبا لك لهذا جمعتنا» فنزلت السورة. تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ معنى تبت خسرت والتباب هو: الخسران، وأبو لهب هو عبد العزى بن عبد المطلب بن هاشم وهو عمّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان من أشد الناس عداوة له فإن قيل: لم ذكره الله بكنيته دون اسمه؟ فالجواب من ثلاثة أوجه أحدها أن كنيته كانت أغلب عليه من اسمه كأبي بكر وغيره ويقال: أنه كني بأبي لهب لتلهب وجهه جمالا: الثاني أنه لما كان اسمه عبد العزى عدل عنه إلى الكنية: الثالث أنه لما كان من أهل النار واللهب، كنّاه أبا لهب «2» وليناسب ذلك قوله: سيصلى نارا ذات لهب. ما أَغْنى عَنْهُ مالُهُ وَما كَسَبَ يحتمل أن تكون ما نافية أو استفهامية يراد بها النفي، وماله هو رأس ماله وما كسب الربح. أو ماله ما ورث وما كسب هو ما اكتسبه لنفسه، وقيل: ماله جميع ماله وما كسب سَيَصْلى ناراً ذاتَ لَهَبٍ هذا حتم عليه بدخول النار ومات بعد ذلك كافرا وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ اسم امرأته أم جميل بنت حرب بن أمية وهي أخت أبي سفيان، وفي وصفها بحمالة الحطب أربعة أقوال أحدها أنها تحمل حطبا وشوكا فتلقيه في طريق النبي صلى الله عليه وسلم لتؤذيه. الثاني أن ذلك عبارة عن مشيها بالنميمة يقال: فلان يحمل الحطب بين الناس أي: يوقد بينهم نار العداوة بالنمائم. الثالث أنه عبارة عن سعيها بالمضرة على المسلمين يقال: فلان يحطب على فلان إذا قصد الإضرار به: الرابع

_ (1) . الحديث مشهور وقد رواه الطبري في تفسيره بسنده إلى ابن عباس. (2) . لهب. قرأ ابن كثير: لهب بسكون الهاء. حمّالة الحطب: قرأها عاصم بالفتح والباقون: حمالة بالرفع.

[سورة المسد (111) : آية 5]

أنه عبارة عن ذنوبها وسوء أعمالها فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ الجيد: العنق والمسد الليف، وقيل: الحبل المفتول، وفي المراد به ثلاثة أقوال: الأول أنه إخبار عن حملها الحطب في الدنيا على القول الأول، وفي ذلك تحقير لها وإظهار لخساسة حالها. والآخر أنه حالها في جهنم يكون كذلك أي يكون في عنقها حبل. الثالث أنها كانت لها قلادة فاخرة، فقالت لأنفقنها على عداوة محمد، فأخبر عن قلادتها بحبل المسد على جهة التفاؤل، والذم لها بتبرجها ويحتمل قوله: وامرأته وما بعده وجوها من الإعراب يختلف الوقف باختلافها وهي: أن يكون امرأته مبتدأ وحمالة الحطب خبره، أو يكون حمالة الحطب نعت والخبر: في جيدها حبل من مسد أو يكون امرأته معطوفا على الضمير في يصلى وحمالة الحطب نعت، أو خبر ابتداء مضمر.

سورة الإخلاص

سورة الإخلاص مكية وآياتها 4 نزلت بعد الناس بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (سورة الإخلاص) سبب نزول هذه السورة أن اليهود دخلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا يا محمد صف لنا ربك وانسبه فإنه وصف نفسه في التوراة ونسبها، فارتعد رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى خرّ مغشيا عليه ونزل عليه جبريل بهذه السورة، وقيل: إن المشركين قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أنسب لنا ربك فنزلت. وعلى الرواية الأولى تكون السورة مدنية، لأن سؤال اليهود بالمدينة وعلى الرواية الثانية تكون مكية. واختلف في معنى قوله صلى الله عليه وسلم: قل هو الله أحد تعدل ثلث القرآن «1» . فقيل: إن ذلك في الثواب، أي لمن قرأها من الأجر مثل أجر من قرأ ثلث القرآن، وقيل: إن ذلك فيما تضمنته من المعاني والعلوم وذلك أن علوم القرآن ثلاثة توحيد وأحكام وقصص، وقد اشتملت هذه السورة على التوحيد فهي ثلث القرآن بهذا الإعتبار، وهذا أظهر وعليه حمل ابن عطية الحديث. ويؤيده أن في بعض روايات الحديث إن الله جزأ القرآن ثلاثة أجزاء، فجعل قل هو الله أحد جزءا من أجزاء القرآن وأخرج النسائي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع رجلا يقرؤها فقال: أما هذا فقد غفر له، وفي رواية أنه قال وجبت له الجنة، وأخرج مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث رجلا على سرية فكان يقرأ لأصحابه في الصلاة قل هو الله أحد فلما رجعوا ذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: سلوه لأي شيء يصنع ذلك؟ فسألوه فقال: لأنها صفة الرحمن فأنا أحب أن أقرأها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبروه أن الله يحبه وفي رواية خرجّها الترمذي أنه صلى الله عليه وسلم قال للرجل: حبك إياها أدخلك الجنة. وخرّج الترمذي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من قرأ قل هو الله أحد مائة مرة كل يوم غفرت له ذنوب خمسين سنة إلا أن يكون عليه دين قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ الضمير هنا عند البصريين ضمير الأمر والشأن والذي يراد به التعظيم والتفخيم، وإعرابه مبتدأ وخبره الجملة

_ (1) . رواه مسلم عن أبي هريرة عن رياض الصالحين للنووي.

[سورة الإخلاص (112) : الآيات 2 إلى 3]

التي بعده وهي المفسرة له، والله مبتدأ وأحد خبره وقيل: الله هو الخبر وأحد بدل منه وقيل: الله بدل وأحد هو الخبر. وأحد له معنيان أحدهما أن يكون من أسماء النفي التي لا تقع إلا في غير الواجب كقولك: ما جاءني أحد وليس هذا موضع هذا المعنى وإنما موضعه قوله: ولم يكن له كفوا أحد والآخر أن يكون بمعنى واحد وأصله وحد بواو ثم أبدل من الواو همزة وهذا هو المراد هنا. واعلم أن وصف الله تعالى بالواحد له ثلاثة معان كلها صحيحة في حق الله تعالى. الأول أنه واحد لا ثاني معه فهو نفي للعدد. والثاني أنه واحد لا نظير ولا شريك له كما تقول: فلان واحد عصره أي لا نظير له والثالث أنه واحد لا ينقسم ولا يتبعض، والأظهر أن المراد في السورة نفي الشريك لقصد الرد على المشركين ومنه قوله تعالى: وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ [البقرة: 163] قال الزمخشري أحد وصف بالوحدانية ونفي الشركاء قلت: وقد أقام الله في القرآن براهين قاطعة على وحدانيته وذلك في القرآن كثير جدا أوضحها أربعة براهين: الأول قوله أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ [النحل: 17] لأنه إذا ثبت أن الله تعالى خالق لجميع الموجودات لم يمكن أن يكون واحد منها شريكا له، والثاني قوله لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا [الأنبياء: 22] والثالث قوله قُلْ لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَما يَقُولُونَ إِذاً لَابْتَغَوْا إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا والرابع قوله: وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ [المؤمنون: 91] وقد فسرنا هذه الآيات في مواضعها وتكلمنا على حقيقة التوحيد في قوله وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ [البقرة: 163] اللَّهُ الصَّمَدُ في معنى الصمد ثلاثة أقوال: أحدها أن الصمد الذي يصمد إليه في الأمور أي يلجأ إليه والآخر أنه لا يأكل ولا يشرب فهو كقوله: وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ والثالث أنه الذي لا جوف له، والأول هو المراد هنا على الأظهر، ورجحه ابن عطية بأن الله موجد الموجودات وبه قوامها، فهي مفتقرة إليه أي تصمد إليه إذ لا تقوم بأنفسها. ورجّحه شيخنا الأستاذ أبو جعفر بن الزبير! لورود معناه في القرآن حيثما ورد نفي الولد عن الله تعالى كقوله في مريم «وقالوا اتخذ الله ولدا» ثم أعقبه بقوله إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً [مريم: 93] وقوله بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ [البقرة: 117] وقوله: وَقالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [البقرة: 116] وكذلك هنا ذكره مع قوله لم يلد فيكون برهانا على نفي الولد، قال الزمخشري: صمد فعل بمعنى مفعول لأنه مصمود إليه في الحوائج لَمْ يَلِدْ. هذا ردّ على كل من جعل لله ولدا فمنهم النصارى في قولهم: «عيسى ابن الله» واليهود في قولهم: «عزير ابن الله» والعرب في قولهم: «الملائكة بنات الله» وقد أقام الله البراهين في القرآن على نفي الولد، وأوضحها أربعة أقوال: الأول، أن الولد لا بد أن يكون من جنس والده. والله تعالى ليس له جنس فلا

[سورة الإخلاص (112) : آية 4]

يمكن أن يكون له ولد وإليه الإشارة بقوله تعالى: مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ [المائدة: 75] فوصفهما بصفة الحدوث لينفي عنهما صفة القدم فتبطل مقالة الكفار والثاني: أن الوالد إنما يتخذ ولدا للحاجة إليه، والله لا يفتقر إلى شيء فلا يتخذ ولدا وإلى هذا أشار بقوله: قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ [يونس: 68] الثالث: أن جميع الخلق عباد الله والعبودية تنافي النبوة وإلى هذا أشار بقوله تعالى إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً [مريم: 93] الرابع أنه لا يكون له ولد إلا لمن له زوجة، والله تعالى لم يتخذ زوجة فلا يكون له ولد وإلى هذا الإشارة بقوله تعالى: أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ [الأنعام: 101] وَلَمْ يُولَدْ هذا رد على الذين قالوا: أنسب لنا ربك، وذلك أن كل مولود محدث، والله تعالى هو الأول الذي لا افتتاح لوجوده، القديم الذي كان ولم يكن معه شيء غيره، فلا يمكن أن يكون مولودا تعالى عن ذلك وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ الكفؤ هو النظير والمماثل قال الزمخشري يجوز أن يكون من الكفاءة في النكاح، فيكون نفيا للصاحبة وهذا بعيد والأول هو الصحيح ومعناه أن الله ليس له نظير ولا شبيه ولا مثيل، ويجوز في كفوءا ضم الفاء وإسكانها مع ضم الكاف، وقد قرئ بالوجهين ويجوز أيضا كسر الكاف وإسكان الفاء، ويجوز كسر الكاف وفتح الفاء والمدّ ويجوز فيه الهمزة والتسهيل «1» وانتصب كفوا على أنه خبر كان، وأحد اسمها قال ابن عطية: ويجوز أن يكون كفوا حالها لكونه كان صفة للنكرة فقدم عليها، فإن قيل: لم قدّم المجرور وهو له على اسم كان وخبرها، وشأن الظرف إذا وقع غير خبر أن يؤخر؟ فالجواب من وجهين: أحدهما أنه قدم للاعتناء به والتعظيم، لأنه ضمير الله تعالى وشأن العرب تقديم ما هو أهم وأولى. والآخر أن هذا المجرور به يتم معنى الخبر وتكمل فائدته، فإنه ليس المقصود نفي الكفؤ مطلقا إنما المقصود نفي الكفؤ عن الله تعالى، فلذلك اعتنى بهذا المجرور الذي يحرز هذا المعنى، فقدم. فإن قيل: إن قوله: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ يقتضي نفي الولد والكفؤ فلم نص على ذلك بعده؟ فالجواب أن هذا من التجريد، وهو تخصيص الشيء بالذكر بعد دخوله في عموم ما تقدم، كقوله تعالى: وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ [البقرة: 98] ويفعل ذلك لوجهين يصح كل واحد منهما هنا أحدهما الاعتناء، ولا شك أن نفي الولد والكفؤ عن الله ينبغي الاعتناء به للرد على من قال خلاف ذلك من الكفار. والآخر الإيضاح والبيان، فإن دخول الشيء في ضمن العموم ليس كالنص عليه فنص على هذا بيانا. وإيضاحا للمعنى ومبالغة في الرد على الكفار، وتأكيدا لإقامة الحجة عليهم.

_ (1) . قرأ حفص بالتسهيل: كفوا وقرأ الباقون بالهمزة: كفؤا وحمزة بسكون الفاء كفؤا.

سورة الفلق

سورة الفلق مكية وآياتها 5 نزلت بعد الفيل بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (سورة الفلق) قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ تقدم معنى أعوذ في التعوذ ومعنى رب في اللغات والفاتحة، وفي الفلق ثلاثة أقوال: الأول أنه الصبح ومنه فالق الإصباح قال الزمخشري: هو فعل بمعنى مفعول، الثاني: أنه كل ما يفلقه الله كفلق الأرض عن النبات والجبال عن العيون: والسحاب عن المطر والأرحام عن الأولاد والحب والنوى وغير ذلك، الثالث: أنه جب في جهنم، وقد روي هذا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ هذا عموم في جميع المخلوقات وشرهم على أنواع كثيرة، أعاذنا الله منها وما هنا موصولة أو موصوفة أو مصدرية وَمِنْ شَرِّ غاسِقٍ إِذا وَقَبَ فيه سبعة أقوال، الأول: أنه الليل إذا أظلم ومنه قوله تعالى: «إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ» وهذا قول الأكثرين، وذلك ظلمة الليل ينتشر عندها أهل الشر من الإنس والجن، ولذلك قال في المثل: الليل أخفى للويل. الثاني: أنه القمر. خرّج النسائي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى القمر فقال: يا عائشة استعيذي بالله من شر هذا، فإنه الغاسق إذا وقب ووقوبه هذا كسوفه، لأن وقب في كلام العرب يكون بمعنى الظلمة والسواد وبمعنى الدخول فالمعنى إذا دخل في الكسوف أو إذا أظلم به. الثالث: أنه الشمس إذا غربت والوقوب على هذا المعنى الظلمة أو الدخول. الرابع: أن الغاسق النهار إذا دخل في الليل، وهذا قريب من الذي قبله، الخامس: أن الغاسق سقوط الثريا وكانت الأسقام والطاعون تهيج عنده، وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: النجم هو الغاسق فيحتمل أن يريد الثريا السادس قال الزمخشري: يجوز أن يراد بالغاسق الأسود من الحيات ووقبه ضربه الرابع أنه إبليس حكى ذلك السهيلي وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ النفث شبه النفخ دون تفل وريق قاله ابن عطية وقال الزمخشري: هو النفخ مع ريق وهذا النفث ضرب من السحر وهو: أن ينفث على عقد تعقد في خيط أو نحوه على اسم مسحور فيضره ذلك وحكى ابن عطية: أنه حدثه ثقة أنه رأى عند بعض الناس بصحراء المغرب خيطا أحمر قد عقدت فيه عقد على فصلان وهي أولاد الإبل فمنعها بذلك من رضاع أمهاتها، فكان إذا حل عقدة جرى ذلك الفصيل

إلى أمه فرضع في الحين قال الزمخشري: إن في الاستعاذة من النفاثات ثلاثة أوجه: أحدها أن يستعاذ من مثل عملهن وهو السحر ومن ائتمن في ذلك والثاني أن يستعاذ من خداعهن للناس وفتنتهن. والثالث أن يستعاذ مما يصيب من الشر عند نفثهن. والنفاثات بناء مبالغة والموصوف محذوف تقديره: النساء النفاثات، والجماعة النفاثات، أو النفوس النفاثات والأول أصح لأنه روي أنه إشارة إلى بنات لبيد بن الأعصم اليهودي، وكنّ ساحرات سحرن هن وأبوهنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعقدن له إحدى عشر عقدة، فأنزل الله المعوذتين إحدى عشر آية بعدد العقد وشفى الله رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، فإن قيل: لم عرّف النفاثات بالألف واللام ونكر ما قبله وهو غاسق وما بعده وهو حاسد مع أن الجميع مستعاذ منه؟ فالجواب أنه عرف النفاثات ليفيد العموم لأنه كل نفاثة شريرة بخلاف الغاسق والحاسد فإن شرهما في بعض دون البعض مِنْ شَرِّ حاسِدٍ إِذا حَسَدَ الحسد خلق مذموم طبعا وشرعا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب «1» وقال بعض العلماء: الحسد أول معصية عصي الله بها في السماء والأرض أما في السماء فحسد إبليس لآدم وأما في الأرض فقتل قابيل لأخيه هابيل بسبب الحسد، ثم إن الحسد على درجات الأولى أن يحب الإنسان زوال النعمة عن أخيه المسلم وإن كانت لا تنتقل إليه بل يكره إنعام الله على غيره ويتألم به الثانية أن يحب زوال تلك النعمة لرغبته فيها رجاء انتقالها إليه. الثالثة أن يتمنى لنفسه مثل تلك النعمة من غير أن يحب زوالها عن غيره وهذا جائز وليس بحسد وإنما هو غبطة. والحاسد يضر نفسه ثلاث مضرات: أحدها اكتساب الذنوب لأن الحسد حرام الثانية سوء الأدب مع الله تعالى، فإن حقيقة الحسد كراهية إنعام الله على عبده واعتراض على الله في فعله الثالثة تألم قلبه من كثرة همه وغمه، فنرغب إلى الله أن يجعلنا محسودين لا حاسدين، فإن المحسود في نعمة والحاسد في كرب ونقمة، ولله در القائل: وإني لأرحم حسّادي لفرط ما ... ضمّت صدورهم من الأوغار نظروا صنيع الله بي فعيونهم ... في جنة وقلوبهم في نار وقال آخر: إن يحسدوني فإني غير لائمهم ... قبلي من الناس أهل الفضل قد حسدوا فدام لي ولهم ما بي وما بهم ... ومات أكثرنا غيظا بما يجد ثم إن الحسود لا تزال عداوته ولا تنفع مداراته وهو ظالم يشاكي كأنه مظلوم، ولقد صدق القائل:

_ (1) . رواه ابن ماجة عن أنس في كتاب الزهد باب 22 ورقمه 4210 ج 2 وفيه راو ضعيف.

كل العداوة قد ترجى إزالتها ... إلا عداوة من عاداك من حسد وقال حكيم الشعراء: وأظلم خلق الله من بات حاسدا ... لمن بات في نعمائه يتقلب قال ابن عطية قال بعض الحذاق هذه السورة خمس آيات وهي مراد الناس بقولهم للحاسد الذي يخاف منه العين: الخمسة على عينك، فإن قيل: إذا وقب، وإذا حسد فقيد بإذا التي تقتضي تخصيص بعض الأوقات؟ فالجواب أن شر الحاسد ومضرته إنما تقع إذا أمضى حسده، فحينئذ يضر بقوله أو بفعله أو بإصابته بالعين، فإن عين الحسود قاتلة. وأما إذا لم يمض حسده ولم يتصرف بمقتضاه فشره ضعيف ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ثلاث لا ينجو منهن أحد: الحسد والظن والطيرة، فمخرجه من الحسد أن لا يبقى ومخرجه من الظن أن لا يحقق ومخرجه من الطيرة ألا يرجع «1» ، فلهذا خصه بقوله إذا وقب، فإن قيل إن قوله من شر ما خلق عموم يدخل تحته كل ما ذكر بعده فلأي شيء ذكر ما بعده؟ فالجواب أن هذا من التجريد للاعتناء بالمذكور بعد العموم، ولقد تأكد ما ذكر في هذه السورة بعد العموم بسبب السحر الذي سحر اليهود رسول الله صلى الله عليه وسلم وشدة حسدهم له.

_ (1) . قال في التيسير: رواه الطبراني بإسناد ضعيف ومرسلا عن الحسن البصري.

سورة الناس

سورة الناس مكية وآياتها 6 نزلت بعد الفلق بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (سورة الناس) قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ إن قيل لم أضاف الرب إلى الناس خاصة وهو رب كل شيء؟ فالجواب أن الاستعاذة وقعت من شر الموسوس في صدور الناس، فخصهم بالذكر لأنهم المعوذين بهذا التعويذ والمقصودون هنا دون غيرهم مَلِكِ النَّاسِ إِلهِ النَّاسِ هذا عطف بيان، فإن قيل: لم قدم وصفه تعالى برب ثم بملك ثم بإله؟ فالجواب أن هذا على الترتيب في الارتقاء إلى الأعلى وذلك أن الرب قد يطلق على كثير من الناس، فيقال فلان رب الدار، وشبه ذلك فبدأ به لاشتراك معناه، وأما الملك فلا يوصف به إلا أحد من الناس، وهم الملوك ولا شك أنهم أعلى من سائر الناس، فلذلك جاء به بعد الرب، وأما الإله فهو أعلى من الملك ولذلك لا يدعي الملوك أنهم آلهة فإنما الإله واحد لا شريك له ولا نظير فلذلك ختم به فإن قيل: لم أظهر المضاف إليه وهو الناس في المرة الثانية والثالثة فهلا أضمره في المرتين لتقديم ذكره في قوله برب الناس أو هلا اكتفى بإظهاره في المرة الثانية؟ فالجواب أنه لما كان عطف بيان حسن فيه البيان وهو الإظهار دون الإضمار، وقصد أيضا الاعتناء بالمكرر ذكره كقول الشاعر لا أرى الموت يسبق الموت شيء ... يبغص الموت ذا الغنى والفقير الْوَسْواسِ وهو مشتق من الوسوسة وهي الكلام الخفي، فيحتمل أن يكون الوسواس بمعنى الموسوس فكأنه اسم فاعل وهذا يظهر من قول ابن عطية: الوسواس من اسماء الشيطان، ويحتمل أن يكون مصدرا وصف به الموسوس على وجه المبالغة، كعدّل وصوّم أو على حذف مضاف تقديره ذي الوسواس وقال الزمخشري: إنما المصدر وسواس بالكفر الْخَنَّاسِ معناه الراجع على عقبه المستمر أحيانا وذلك متمكن في الشيطان فإنه يوسوس فإذا ذكر العبد الله وتعوذ به منه تباعد عنه، ثم رجع إليه عند الغفلة عن الذكر، وهو يخنس في تباعده ثم في رجوعه بعد ذلك الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ وسوسة

[سورة الناس (114) : آية 6]

الشيطان في صدر الإنسان بأنواع كثيرة منها: إفساد الإيمان والتشكيك في العقائد فإن لم يقدر على ذلك أمره بالمعاصي، فإن لم يقدر على ذلك ثبّطه عن الطاعات، فإن لم يقدر على ذلك أدخل عليه الرياء في الطاعات ليحبطها، فإن سلم من ذلك أدخل عليه العجب بنفسه، واستكثار عمله، ومن ذلك أنه يوقد في القلب نار الحسد، والحقد، والغضب، حتى يقود الإنسان إلى شر الأعمال وأقبح الأحوال وعلاج وسوسته بثلاثة أشياء واحدها الإكثار من ذكر الله وثانيها الإكثار من الاستعاذة بالله منه ومن أنفع شيء في ذلك قراءة هذه السورة وثالثها مخالفته والعزم على عصيانه فإن قيل: لم قال في الصدور الناس ولم يقل: في قلوب الناس؟ فالجواب أن ذلك إشارة إلى عدم تمكن الوسوسة، وأنها غير حالّة في القلب بل هي محوّمة في صدور حول القلب مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ هذا بيان لجنس الوسواس وأنه يكون من الجن، ومن الناس، ثم إن الموسوس من الإنس يحتمل أن يريد من يوسوس بخدعه وأقواله الخبيثة، فإنه الشيطان كما قال تعالى شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ [الأنعام: 112] أو يريد به نفس الإنسان إذ تأمره بالسوء، فإنها أمّارة بالسوء والأول أظهر، وقيل: من الناس معطوف على الوسواس كأنه قال: أعوذ من شر الوسواس من الجنة ومن شر الناس، وليس الناس على هذا ممن يوسوس. والأول أظهر وأشهر. فإن قيل: لم ختم القرآن بالمعوذتين وما الحكمة في ذلك؟ فالجواب من ثلاثة أوجه: الأول قال شيخنا الأستاذ أبو جعفر بن الزبير لما كان القرآن من أعظم النعم على عباده، والنعم مظنة الحسد فختم بما يطفئ الحسد من الاستعاذة بالله. الثاني يظهر لي أن المعوذتين ختم بهما لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فيهما: أنزلت عليّ آيات لم ير مثلهن قط كما قال في فاتحة الكتاب: لم ينزل في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الفرقان مثلها فافتتح القرآن بسورة لم ينزل مثلها واختتم بسورتين لم ير مثلهما ليجمع حسن الافتتاح والاختتام، ألا ترى أن الخطب والرسائل والقصائد وغير ذلك من أنواع الكلام إنما ينظر فيها إلى حسن افتتاحها واختتامها. الوجه الثالث يظهر لي أيضا أنه لما أمر القارئ أن يفتتح قراءته بالتعوذ من الشيطان الرجيم، ختم القرآن بالمعوذتين ليحصل الاستعاذة بالله عند أول القراءة وعند آخر ما يقرأ من القراءة، فتكون الاستعاذة قد اشتملت على طرفي الابتداء والانتهاء، وليكون القارئ محفوظا بحفظ الله الذي استعاذ به من أول أمره إلى آخره وبالله التوفيق لا رب غيره. تم بفضل الله كتاب التسهيل لعلوم التنزيل للإمام محمد بن أحمد بن جزي رحمه الله وأجزل مثوبته راجيا من الله حسن الختام لكل من قرأه وانتفع به ودعا لمصححه وناشره وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

فهرس المحتويات

فهرس المحتويات سورة طه مكية وآياتها خمس وثلاثون ومائة 5 سورة الأنبياء مكية وآياتها اثنتا عشرة ومائة 18 سورة الحج مدنية وآياتها ثمان وسبعون 32 سورة المؤمنون مكية وآياتها ثماني عشرة ومائة 48 سورة النور مدنية وآياتها أربع وستون 59 سورة الفرقان مكية وآياتها سبع وسبعون 78 سورة الشعراء مكية وآياتها سبع وعشرون ومائتان 88 سورة النمل مكية وآياتها ثلاث وتسعون 98 سورة القصص مكية وآياتها ثمان وثمانون 109 سورة العنكبوت مكية وآياتها تسع وستون 122 سورة الروم مكية وآياتها ستون 130 سورة لقمان مكية وآياتها أربع وثلاثون 137 سورة السجدة مكية وآياتها ثلاثون 141 سورة الأحزاب مدنية وآياتها ثلاث وسبعون 145 سورة سبأ مكية وآياتها أربع وخمسون 160 سورة فاطر مكية وآياتها خمس وأربعون 171 سورة يس مكية وآياتها ثلاث وثمانون 179 سورة الصافات مكية وآياتها ثنتان وثمانون ومائة 188 سورة ص مكية وآياتها ثمان وثمانون 201 سورة الزمر مكية وآياتها خمس وسبعون 215 سورة غافر مكية وآياتها خمس وثمانون 227 سورة فصلت مكية وآياتها أربع وخمسون 237 سورة الشورى مكية وآياتها ثلاث وخمسون 244 سورة الزخرف مكية وآياتها تسع وثمانون 254

سورة الدخان مكية وآياتها تسع وخمسون 266 سورة الجاثية مكية وآياتها سبع وثلاثون 270 سورة الأحقاف مكية وآياتها خمس وثلاثون 274 سورة محمد مدنية وآياتها ثمان وثلاثون 280 سورة الفتح مدنية وآياتها تسع وعشرون 286 سورة الحجرات مدنية وآياتها ثماني عشرة 294 سورة ق مكية وآياتها خمس وأربعون 300 سورة الذاريات مكية وآياتها ستون 306 سورة الطور مكية وآياتها تسع وأربعون 311 سورة النجم مكية وآياتها ثنتان وستون 316 سورة القمر مكية وآياتها خمس وخمسون 322 سورة الرحمن مدنية وآياتها ثمان وسبعون 327 سورة الواقعة مكية وآياتها ست وتسعون 333 سورة الحديد مدنية وآياتها تسع وعشرون 343 سورة المجادلة مدنية وآياتها ثنتان وعشرون 351 سورة الحشر مدنية وآياتها أربع وعشرون 357 سورة الممتحنة مدنية وآياتها ثلاث عشرة 364 سورة الصف مدنية وآياتها أربع عشرة 370 سورة الجمعة مدنية وآياتها إحدى عشرة 373 سورة المنافقون مدنية وآياتها إحدى عشرة 377 سورة التغابن مدنية وآياتها ثماني عشرة 380 سورة الطلاق مدنية وآياتها اثنتا عشرة 383 سورة التحريم مدنية وآياتها اثنتا عشرة 389 سورة الملك مكية وآياتها ثلاثون 394 سورة القلم مكية وآياتها ثنتان وخمسون 398 سورة الحاقة مكية وآياتها ثنتان وخمسون 404 سورة المعارج مكية وآياتها أربع وأربعون 409 سورة نوح مكية وآياتها ثمان وعشرون 413 سورة الجن مكية وآياتها ثمان وعشرون 417 سورة المزمل مكية وآياتها عشرون 422 سورة المدثر مكية وآياتها ست وخمسون 427 سورة القيامة مكية وآياتها أربعون 444

سورة الإنسان مدنية وآياتها إحدى وثلاثون 436 سورة المرسلات مكية وآياتها خمسون 441 سورة النبأ مكية وآياتها أربعون 444 سورة النازعات مكية وآياتها ست وأربعون 448 سورة عبس مكية وآياتها ثنتان وأربعون 452 سورة التكوير مكية وآياتها تسع وعشرون 455 سورة الانفطار مكية وآياتها تسع عشرة 458 سورة المطففين مكية وآياتها ست وثلاثون 460 سورة الانشقاق مكية وآياتها خمس وعشرون 464 سورة البروج مكية وآياتها ثنتان وعشرون 467 سورة الطارق مكية وآياتها سبع عشرة 471 سورة الأعلى مكية وآياتها تسع عشرة 473 سورة الغاشية مكية وآياتها ست وعشرون 476 سورة الفجر مكية وآياتها ثلاثون 478 سورة البلد مكية وآياتها عشرون 483 سورة الشمس مكية وآياتها خمس عشرة 486 سورة الليل مكية وآياتها إحدى وعشرون 488 سورة والضحى مكية وآياتها إحدى عشرة 490 سورة الشرح مكية وآياتها ثمان 492 سورة التين مكية وآياتها ثمان 494 سورة العلق مكية وآياتها تسع عشرة 496 سورة القدر مكية وآياتها خمس 499 سورة البينة مدنية وآياتها ثمان 501 سورة الزلزلة مدنية وآياتها ثمان 503 سورة العاديات مكية وآياتها إحدى عشرة 505 سورة القارعة مكية وآياتها إحدى عشرة 507 سورة التكاثر مكية وآياتها ثمان 509 سورة العصر مكية وآياتها ثلاث 511 سورة الهمزة مكية وآياتها تسع 512 سورة الفيل مكية وآياتها خمس 513 سورة قريش مكية وآياتها أربع 514 سورة الماعون مكية وآياتها سبع 516

سورة الكوثر مكية وآياتها ثلاث 517 سورة الكافرون مكية وآياتها ست 518 سورة النصر مدنية وآياتها ثلاث 520 سورة المسد مكية وآياتها خمس 521 سورة الإخلاص مكية وآياتها أربع 523 سورة الفلق مكية وآياتها خمس 526 سورة الناس مكية وآياتها ست 529

§1/1